كتاب : الهوامل والشوامل
المؤلف : التوحيدي
بسم الله الرحمن الرحيم
المسألة الأولى وهي لغوية قلت أعزك الله: ما الفرق بين العجلة والسرعة؟ وهل يجب أن يكون بين كل لفظتين - إذا تواقعتا على معنى، وتعاورتا غرضاً - فرق، لأنك تقول: سر فلان وفرج، وأشر فلان ومرح، وبعد فلان ونزح، وهزل فلان ومزح، وحجب فلان وصد، ومنع فلان ورد، وأعطى فلان وناول، ورام فلان وحاول، وعالج فلان وزاول، وذهب فلان ومضى، وحكم فلان وقضى، وجاء فلان وأتى، واقترب فلان ودنا، وتكلم فلان ونطق، وأصاب فلان وصدق، وجلس فلان وقعد، ونأى فلان وبعد، وحضر فلان وشهد، ورغب عن كذا وزهد.
وهل يشتمل السرور والحبور، والبهجة والغبطة، والفكه، والجذل والفرح، والإرتياح، والبجح على معنى واحد أو على معان مختلفة؟ وخذ على هذا؛ فإن بابه طويل، وحبله مثنى وشكله كثير.
فإن كان بين كل نظيرين من ذلك يفصل معنى من معنى ويفر مراداً من مراد، ويبين غرضاً من غرض، فلم لا يشترك في معرفته، كما اشترك في معرفة أصله؟.
وعلى هذا فما الفرق بين الغرض والمعنى والمراد، وها هو ذا وقد تقدم آنفاً؟.
وما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت، وألبس الفرق بين نطق وتكلم، وبين سكت وصمت؟.
الجواب: قال أبو علي أحمد بن محمد مسكويه: لما كنا نحتاج في الجواب عن هذه المسألة إلى ذكر السبب الذي من أجله احتيج إلى الكلام المصطلح عليه، والحاجة الباعثة على وضع الأسماء الدالة بالتواطؤ، والعلة الداعية إلى تأليف الحروف التي تصير أسماء وأفعالاً وحروفاً بالإتفاق والاصطلاح، والأقسام التي تعرض لنا بموجب حكم العقل - قدمنا بيان ذلك أمام الجواب؛ ليكون توطئة له، وليسهل علينا هذا المطلب، ويبين عن نفسه، ويعين على ما اعتاض منه، فأقول: إن السبب الذي احتيج من أجله إلى الكلام هو أن الإنسان الواحد لما كان غير مكتف بنفسه في حياته، ولا بالغ حاجاته في تتمة بقائه مدته المعلومة، وزمانه المقدر المقسوم - احتاج إلى استدعاء ضروراته في مادة بقائه من غيره، ووجب بشريطة العدل أن يعطى غيره عوض ما استدعاه منه، بالمعاونة التي من أجلها قال الحكماء: إن الإنسان مدنى بالطبع.
وهذه المعاونات والضرورات المقتسمة بين الناس، التي بها يصح بقاؤهم، وتتم حياتهم، وتحسن معايشهم، هي أشخاص وأعيان من أمور مختلفة، وأحوال غير متفقة، وهي كثيرة غير متناهية، وربما كانت حاضرة فصحت الإشارة إليها، وربما كانت غائبة فلم تكف الإشارة فيها، فلم يكن بد من أن يفزع إلى حركات بأصوات دالة على هذه المعاني بالاصطلاح، ليستدعيها بعض الناس من بعض، وليعاون بعضهم بعضاً، فيتم لهم البقاء الإنساني، وتكمل فيهم الحياة البشرية.
وكان الباري - جل وعز - بلطيف حكمته، وسابق علمه وقدرته، قد أعد للإنسان آلة هي أكثر الأعضاء حركة، وأوسعها قدرة على التصرف، ووضعها في طريق الصوت وضعاً موافقاً لتقطيع ما لا يخرج منه مع النفس، ملائماً لسائر الأخر المعينة في تمام الكلام - كانت هذه الآلة أجدر الأعضاء باستعمال أنواع الحركات المظهرة لأجناس الأصوات الدالة على المعاني التي ذكرناها وقد بلغت عدة هذه الأصوات المفردة المقطعة بهذه الحركات المسماة حروفاً - ثمانية وعشرين حرفاً في اللغة العربية.
ثم ركبت كلها ثنائياً وثلاثياً ورباعياً، وجميعها متناهية محصاة؛ لأن أصولها وبسائطها محصورة معدودة، فالمركبات منها أيضاً محصورة معدودة.
ولما كانت قسمة العقل توجب في هذه الكلم إذا نظر إليها بحسب دلالتها على المعاني أن تكون على أحوال خمس لا أقل منها ولا أكثر وجدت منقسمة إليها لا غير، وهي: أن يتفق اللفظ والمعنى معاً، أو يختلفا معاً، أو تتفق الألفاظ وتختلف المعاني، أو تختلف الألفاظ وتتفق المعاني، أو تتركب اللفظة فيتفق بعض حروفها وبعض المعنى وتختلف في الباقي.
وهذه الألفاظ الخمسة هي التي عدها الحكيم في أول كتبه المنطقية، وتكلم عليها المفسرين وسموها المتفقة، والمتباينة، والمتواطئة، والمترادفة، والمشتقة، وهي مشروحة هناك، ولكن السبب الذي من أجله احتيج إلى وضع الكلام يقتضى قسماً واحداً منها، وهو أن تختلف الألفاظ بحسب اختلاف المعاني، وهي المسماة المتباينة، فأما الأقسام الباقية فإن ضرورات دعت إليها، وحاجات بعثت عليها ولم تقع بالقصد الأول، وسنشرح ذلك بعون الله وتوفيقه.
وقد تقدم البيان أن المعاني والأحوال التي تتصور للنفس كثيرة جداً، وأنها بلا نهاية.
فأما الحروف الموضوعة الدالة بالتواطؤ، والمركبات منها، فمتناهية محصورة محصاة بالعدد.
ومن الأحكام البينة والقضايا الواضحة ببدائه العقول، أن الكثير إذا قسم على القليل اشتركت عدة منها في واحدة لا محالة، فمن ههنا حدث الاتفاق في الإسم، وهو أن توجد لفظة واحدة دالة على معان كثيرة، كلفظة العين الدالة على العين التي يبصر بها، وعلى عين الماء، وعين الركبة، وعين الميزان، والمطر الذي لا يقلع أياماً، وأشباهه من الأسماء كثيرة جداً ولم يقع هذا الفعل المؤدي إلى الإلباس والإشكال، وإلى الغلط والخطأ في الأعمال والإعتقادات باختيار، بل باضطرار طبيعي كما بينا وأوضحنا.
وعرض بعد ذلك أن أصحاب صناعة البلاغة، وصناعة الشعر والسجع، وأصحاب البلاغة والخطابة هم الذين يحتاجون إلى الإقناعات العامية في مواقف الإصلاح بين العشائر مرة، والحض على الحروب مرة، والكف عنها مرة، وفي المقامات الأخر التي يحتاج فيها إلى الإطالة والإسهاب، وترديد المعنى الواحد على مسامع الحاضرين؛ ليتمكن من النفوس، وينطبع في الأفهام - لم يستحسنوا إعادة اللفظة الواحدة مراراً كثيرة، ولا سيما الشاعر؛ فإنه مع ذلك دائم الحاجة إلى لفظ يضعه مكان لفظ دال على معناه بعينه؛ ليصحح به وزن شعره، ويعدل به أقسام كلامه.
فاحتيج لأجل ذلك إلى أسماء كثيرة دالة على معنى واحد.
وهذا العارض الذي عرض للألفاظ المترادفة كأنه مناصب للقصد الأول في وضع الكلام، مخالف له، وقد دعت الحاجة إليه كما تراه، ولولا حاجة الخطباء والشعراء، وأصحاب السجع والموازنة إليه لكان لغواً باطلاً.
ولما كانت المسألة متعلقة بهذين القسمين من الكلام اقتصرنا على شرحهما، وعولنا - بمن نشط للوقوف على الأقسام الأخر - على الكتب المصنفة فيها لأهل المنطق؛ لأنها مستقصاة هناك.
وإذ قد فرغنا من التوطئة التي رمناها أمام المسألة، فإنا نأخذ في الجواب عنها فنقول: إن من الألفاظ ما توجد متباينة، وهي التي تختلف باختلاف المعنى، وإليها كان القصد الأول بوضع اللغة.
ومنها ما توجد متفقة، وهي التي تتفق فيها ألفاظ واحدة بعينها ومعانيها مختلفة.
ومنها ما توجد مترادفة، وهي التي تختلف ألفاظها ومعانيها واحدة.
وهذان القسمان حدثا بالضرورة كما بينا.
وربما وجدت ألفاظ مختلفة دالة على معان متقاربة، وإن كانت أشخاص تلك المعاني مختلفة، وربما دلت على أحوال مختلفة ولكنها مع اختلافها هي لشخص واحد، فلأجل ذلك يستعملها الخطيب والشاعر مكان المترادفة، لموضع المناسبة والشركة القريبة بينها، وإن كانت متباينة بالحقيقة، ومثال ذلك ما يوجد من أسماء الداهية، فإنها على كثرتها نعوت مختلفة، ولكنها لما كانت لشيء واحد استعملت كأنها معنى واحد.
وكذلك أسماء الخمر، والسيف، وأشباهها.
وأنت إذا أنعمت النظر، واستقصيت الروية وجدت هذه الأشياء مختلفة المعاني، ولكنها لما كانت أوصافاً لموصوف واحد أجريت مجرى الأسماء الدالة على معنى واحد، وذلك عند اتساع الناس في الكلام، وعند حاجتهم إلى التسمح وترك التكلف والتجوز في كثير من الحقائق.
ولولا علمي بثقافة فطنتك، وإحاطة معرفتك، وسرعة تطلعك بفهمك على ما أومأت إليه لتكلفت لك الفرق بين معاني ألفاظ الخمر والشراب والشمول والراح والقهوة، وسائر أسمائها، وبين معاني ألفاظ السيف والصمصام والحسام وباقي ألقابه ونعوته، وكذلك في أسماء الدواهي ونعوتها، ولكني رأيت تجشم ذلك فضلاً وإطالة عليك بما لا فائدة لك فيه.
فينبغي لنا إذا وجدنا ألفاظاً مختلفة ومعانيها متفقة أو متقاربة أن ننظر فيها، فإن نبهنا على موضع خلاف في المعاني حملنا تلك الألفاظ على مقتضى اللغة وموجب الحكمة في وضع الكلام، فنجعلها من الألفاظ المتباينة التي اختلفت باختلاف المعاني.
وهي السبيل الواضحة، والطريقة الصحيحة التي يسقط معها سؤال السائل وشك المتشكك.
فإن لم يقع لنا موضع الخلاف في المعاني ولم يدلنا عليه النظر حملناه على الأصل الآخر، وصرفناه إلى القسم الذي بيناه وشرحناه من الضرورة الداعية في الشعر والخطابة إلى إستعمال الألفاظ الكثيرة الدالة على معنى واحد.
فلما وجدت المسائل التي صدرت في هذه الرسالة قد مثل فيها بألفاظ بعينها - تكلفت الكلام فيها ليستعان بها على نظائرها، فإنها عند التصفح كثيرة واسعة جداً، والله الموفق.
أما الفرق بين العجلة والسرعة، فإن العجلة على الأكثر تستعمل في الحركات الجسمانية التي تتوالى، وأكثر ما تجيء في موضع الذم، فإنك تقول للرجل: عجلت علي وعجل فلان على فلان فيعلم منه أنه ذم، وأنت لا تفهم هذا المعنى من أسرع فلان.
وأيضاً فإنك لا تستعمل الأمر من العجلة إلا لأصحاب المهن الدنية، ولا تقوله إلا لمن هو دونك.
فأما السرعة، فإنها من الألفاظ المحمودة، وأكثر ما تجيء في الحركات غير الجسمانية، وذاك أنك تقول فلان سريع الهاجس، وسريع الأخذ للعلم، وقد أسرع في الأمر وأسرع في الجواب، " بسم الله الرحمن الرحيم " والله سريع الحساب صدق الله العظيم " وفرس فلان أسرع من الريح وأسرع من البرق، ويقال في الطرف سريع، وفي القضاء سريع، والفلك سريع الحركة، ولا يستعمل بدل هذه الألفاظ عجل، ولا تنصرف لفظة العجلة في شيء من هذه المواضع.
وهذا فرق واضح، ولكن الإتساع في الكلام، وتقارب المعنيين يحمل الناس على وضع إحدى الكلمتين مكان الأخرى.
وأما قولهم سر فلان وفرح، وأشر ومرح، فإن الفرق بين السرور والفرح وبين الأشر والمرح ظاهر، فإن الأشر والمرح لا يستعملان إلا في الذم والعيب، وأما السرور والفرح فليسا من ألفاظ الذم.
ووضوح الفرق ههنا أظهر وأبين من أن يحتاج فيه إلى تكلف شرح وبيان.
فأما السرور والفرح، وإن كانا متقاربين في المعنى فإن أحدهما وهو السرور لا يستعمل إلا إذا كان فاعله بك غيرك.
وأما الفرح فهو حال تحدث بك غير فاعل، وتصريف الفعل منهما يدل على صحة ما ذكرناه، وذلك أنك تقول: سررت وسر فلان، ولا يستعمل فيه إلا لفظ فعل الذي هو وإن لم يسم فاعله فهو فعل غيرك.
فأما قولك: فرحت وفرح فلان فليس تقتضي اللفظة فاعلاً آخر.
وأما بعد فلان ونزح، فبينهما أيضاً فرق، وذلك أن البعد في المسافات على أنواع، وإن كان يجمعها هذا الاسم، فإن الأخذ في الطول والعرض والعمق مختلف الجهات وإن كان الجنس واحداً، فلما اختلفت الجهات، وكانت كل واحدة منها خلاف الأخرى - وجب أن تختلف الألفاظ الدالة عليها، فلفظة البعد وإن كان كالجنس مستعملة في كل واحدة من الجهات، فإنه يختص بالأخذ طولاً.
وأما لفظة نزح فإنه يختص بالأخذ عمقاً، فأصله في البئر وما جرى مجراها من العمق، ثم حملهم الإتساع في الكلام - وأن العمق أيضاً بعد ما - على أن أجروه مجرى الطول.
وأما هزل فلان ومزح، فبينهما فرق، وذلك أن الهزل هو ضد الجد، وهو مذموم.
فأما المزح فليس بمذموم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ولم يكن يهزل.
ويقال: فلان حسن الفكاهة مزاح، يوصف به ويمدح، فإذا هزل عيب وذم.
فأما قولهم: حجب فلان وصد، فإن الحجاب معنى سابق، وكأنه سبب للصدود، ولما كان الصدود هو الإعراض بالوجه - وإنما يقع هذا الفعل بعد الحجاب منه - صار قريباً فاستعمل مكانه، وبين المعنيين تفاوت.
فأما الألفاظ الأخر التي ذكرت بعد فإن المتأمل لها يعرف الفرق بينهما، بأدنى تأمل، ولذلك تركت الكلام فيها؛ إذ كان أعطى، أصله من عطا يعطو، وإنما عدى بالهمزة، كما تقول قام فلان وأقامه غيره.
وأما ناول فهو فاعل من النول، وحاول فعل من الحول.
وهذه الأشياء من الظهور بحيث يستغني عن الكلام فيها.
وأما قولهم جلس فلان وقعد، فإن الهيئة وإن كانت واحدة، فإن الجلوس لما كان بعقب تكاء واستلقاء، والقعود لما كان بعقب قيام وانتصاب - أحبوا أن يفرقوا بين الهيئتين الواقعتين بعقب أحوال مختلفة.
والدليل على أنهم خالفوا بين هاتين اللفظتين لأجل الأحوال المختلفة قبلهما أنك تقول: كان فلان متكئاً فاستوى جالساً، ولا تقول استوى قاعداً.
ولست أقول: إن هذا الحكم واجب في كل لفظتين مختلفتين إذا دلتا على معنى، ولا هو حتم عليك ولا ضربة لا زب لك، بل قد قدمنا أما هذه المسألة ما جعلنا لك فيه فسحة تامة، ورخصة واسعة: إذا لم تجد الفرق واضحاً بيناً أن تذهب بهما إلى الاتفاق في الاسم الذي هو أحد أقسام الألفاظ التي عددناها.
ثم قلت في آخر المسألة: ما الفرق بين المعنى والمراد والغرض؟ وبينهما فروق بينة، وذلك أن المعنى أمر قائم بنفسه مستقل بذاته، وإنما يعرض له بعد أن يصير مراداً، وقد يكون معنى ولا يكون مراداً.
فأما الغرض فأصله المقصود بالسهم، ولكنه لما كان منصوباً لك تقصده بالحركة والإرادة صار كالغرض للسهم، فاستعملت هذه اللفظة ههنا على التشبيه.
وأما قولك في خاتمة المسألة: ما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت، وألبس الفرق بين سكت وصمت؟ فما أعجبه من مطالبة، وأغربه من مسألة! كيف لا يكون الفرق بين المتضادين اللذين هما في الطرفين والحاشيتين، وأحدهما في غاية البعد عن الآخر - أوضح من الشيئين المتقاربين اللذين ليس بينهما إلا بعد وأمد قريب يخفى على الناظر إلا بعد حده النظر واستقصاء التأمل؟ على أن الفرق بين صمت وسكت أيضاً غير ملتبس؛ لأن السكوت لا يكون إلا من متكلم، ولا يقع إلا من ناطق.
وأما الصمت فليس يقع إلا عن نطق لا محالة؛ لأنه يقال: جاء فلان بما صاء وصمت، يعني به ضروب المال الحي منه والجماد.
ولا يقال في المال: صامت إلا لما كان غير ذي حياة ولا نطق ولا صوت، كالذهب والفضة، وما جرى مجراها من الجمادات.
وأما المال الذي هو ماشية وحيوان فلا يقال له: صامت، ولا يقال للصامت من المال ساكت؛ لأن السكوت إنما يكون عن كلام أو صوت.
وقد يقال في الثوب إذا أخلق: سكت الثوب، وإنما ذلك على التشبيه، كأنهم لما وجدوه جديداً يصوت ويقعقع شبهوه بالمتكلم، ثم لما أمسك عند الإخلاق شبهوه بالساكت، وهذا من ملح الكلام وطرف المجاز.
مسألة خلقية لم تحاث الناس على كتمان الأسرار
وتبالغوا في أخذ العهد به وحرجوا من الإفشاء، وتناهوا في التواصي بالطي ولم تنكتم مع هذه المقامات؟ وكيف فشت وبرزت من الحجب المضروبة حتى نثرت في المجالس، وخلدت في بطون الصحف، وأوعيت الآذان، ورويت على الزمان؟ ومن أين كان فشوها مع الإحتياط في طيها؟ نعم ومع الخوف العارض في نشرها، والندم الواقع من ذكرها، والمنافع الفائتة، والعواقب المخوفة، والأسباب المتلفة؟ الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تبين في المباحث الفلسفية أن للنفس قوتين إحداهما معطية، والأخرى آخذه.
فهي بالقوة الآخذة تستثيب المعارف، وتشتاق إلى تعرف الأخبار، وبها يوجد الصبيان أول نشوئهم محبين لسماع الخرافات، فإذا تكهلوا أحبوا معرفة الحقائق.
وهذه القوة هي انفعال وشوق إلى الكمال الذي يخص النفس.
وهي بالقوة المعطية تفيض على غيرها ما عندها من المعارف، وتفيده العلوم الحاصلة لها، وهذه القوة ليست انفعالاً بل فاعلة.
وهاتان القوتان موجودتان للنفس بالذات لا بالعرض.
فكل إنسان يحرص بإحدى قوتيه على الفعل، وهو الإعلام، وبالأخرى على الانفعال، وهو الاستعلام.
ولما كان ذلك كذلك لم يمكن أن ينفعل المنفعل، ولا يفعل الفاعل، ولا أن يفعل الفاعل، ولا ينفعل المنفعل؛ لأنهما جميعاً للنفس بالذات.
فقد ظهر السبب الداعي إلى إخراج السر، وهو أن النفس لما كانت واحدة واشتاقت بإحدى قوتيها إلى الاستعلام، واشتاقت بالأخرى إلى الأعلام - لم ينكتم سر بتة.
وهذا هو تدبير إلهي عجيب، ومن أجله نقلت الأخبار القديمة، وحفظت قصص الأمم، وعني المتقدمون بتدوين ذلك وحرص المتأخرون على نقله وقراءته.
ولذلك ضرب الحكماء فيه المثل، وحزموا عليه القول، وقطعوا به الحكم وقالوا: لا ينكتم سر، وإنما يتقدم ظهوره أو يتأخر.
وتقول العامة: أي شيء ينكتم؟ ثم تقول في الجواب: ما لا يكون.
فحقيق على صاحب السر أن يستودعه إلا القادر على نفسه، والقاهر لنزواتها عند حركاتها وشهواتها، بل المجاهد لها، المعتاد عند الجهاد غلبها وقهرها.
وإنما يتم للإنسان ذلك بخاصة قوة العقل الذي هو أفضل موهبة الله تعالى، وأكبر نعمة له على العبد، وبه فضل الإنسان على سائر الحيوان.
ولولا هذا الجوهر الكريم الذي هو مسيطر على النفس ومشرف عليها، لكان الإنسان كسائر الحيوانات غير الناطقة في ظهور قوى النفس منه مرسلة من غير رقبة، ومهملة بغير رعية، ولكنه بهذا الجوهر النفيس في جهاد للنفس عظيم.
ومعنى قولي هذا أن الإنسان دائماً في جهاد النفس بقوة عقله؛ لأنه محتاج إلى ردعها به، وإلى ضبطها ومنعها من شهواتها الردية حتى لا يصيب منها إلا بمقدار ما يطلقه العقل ويحده لها، وما يرسمه ويبيحه إياها.
ومن لم يقم بهذا الجهاد مدة عمره فليس ممن له حظ في الإنسانية، بل هو خليع كالبهيمة المهملة التي لا رقيب عليها من العقل.
وإذا انحط الإنسان عن رتبته العالية إلى رتبة ما هو أدنى منه، فقد خسر نفسه ورضى لها بأخسر المنازل، هذا مع كفره نعمة الله، ورده الموهبة التي لا أجل منها، وكراهيته جوار بارئه، ونفوره من قربه.
وقد شرح الحكماء هذا المعنى واستقصوه، وعلموا الناس جهاد النفس في كتب الأخلاق، فمن اشتاق إلى معرفة ذلك فليأخذ من هناك.
فانفعالات النفس وأفعالها بحسب قوتها كثيرة، وهي الشهوات الموجودة في الناس، وليس يخلو منها البشر، ولكنها فيهم بالأكثر والأقل، فمجاهدة العقلاء لها مختلفة، والجهال هم المسترسلون فيها غير المجاهدين لها.
وإخراج السر من جملة هذه الشهوات، وهو متعلق بالإخبار والإعطاء، إذا كان لحفظ السر هذا الموقع من المجاهدة للنفس لأنها تحرص في إظهاره على أمر ذاتي لها، وإنما يقمعها العقل ويمنعها - فأخلق به أن يكون صعباً شديداً، جارياً مجرى غيره من شهوات النفس التي يقع الجهاد فيها.
وربما وجدت إحدى هاتين القوتين في بعض الناس أقوى والأخرى أضعف، فإن من الناس من يحرص على الحديث، ومنهم من يحرص على الاستماع، ومنهم الضنين بالعلم، ومنهم السمح به، ومنهم الحريص على التعلم والاستفادة، ومنهم الكسلان عنه وعلى هذا يوجد بعضهم أحرص على إخراج السر، وبعضهم أثبت وأحسن تماسكاً.
وكان لنا صديق صاحب السلطان قريب المنزلة منه، فكان يقول لصاحبه: إذا كان لك سر تحب كتمانه، وتكره إذاعته فلا تطلعني عليه، ولا تجعلني موضعه، ولا تبلني بحفظه؛ فإنه أجد له في صدري وخزاً كوخز الأشافي، ونخس الأسنة.
وسمعته يقول: اطلعت على سر للوزير، فجعل لي على كتمانه وطية مالاً وألطافاً، حملت إلي في الوقت، فعزمت على الوفاء له، وحدثت نفسي به، ووطنتها عليه، فبت بليلة السليم، وأصبحت وقيذاً، فلم أجد حيلة لما أجد من الكرب غير أني ذهبت إلى ناحية من الدار خالية فيها دولاب خراب، فنحين من كان حولي ثم قلت: أيها الدولاب، من الأمر والقصة كذا وكذا.
وأنا والله أجد من الراحة ما يجده المثقل بالحمل إذا خفف عنه، وكأنني فرغته من وعاء ضيق إلى أوسع منه، ثم لم ألبث أن عادت الصورة في ثقله، وجثومه على قلبي إلى أن كفيته بظهوره من جهة غيري.
وهذا الذي قد نثره الرجل قد نظمه الآخر، فقال:
ولا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي
فإن قليل العقل من بات ليلة ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب.
يروي: وإن غبين الرأى.
وقد سبق المثل المضروب بالملك الذي كأن أذنه أذن حمار، فإن صاحب ذلك المثل أراد أن يبالغ في الوصاة، بحفظ السر، فأخبر أن الشجر والمدر غير مأمون على السر، وأنه ينم به فكيف الحيوان؟ وهذا ما تقول العامة: للحيطان آذان.
وأما قول الشاعر:
وإخوان صدق لست مطلع بعضهم ... على سر بعض غير أني جماعها
يظلون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها.
وقول الآخر: وأكتم السر فيه ضربة العنق.
فكلام لا يصح، ودعوى لا تثبت، فاسمعه سماعاً، وإياك والإغترار به.
مسألة مركبة من أسرار طبيعية وحروف لغوية
وهي: لم ثار اسم من الأسماء أخف عند السماع من اسم حتى إنك لتجد الطرب يعترى سامع ذاك؟ أنا رأيت بعض من كان يهوى البحتري ويخف لحديثه، ويتعصب لقريضه يقول: ما أحسن تشبيب البحتري بعلوة، وما أحسن اختياره علوة، ولا يجد هذا في سلمي وهند وفرتنا ودعد.
وهذا عارض موجود في الأسماء والكنى والشمائل والحلى، والصور والبني، والأخلاق والخلق، والبلدان والأزمان، والمذاهب والمقالات، والطرائق والعادات.
وإذا بحثت عن هذا الباب فصله بالبحث عما ثقل على النفس والسمع والطبع من هذه الأشياء، فإنه إن كان قبولها لعلة فمجها لعلة، وإن كان وصالها لسبب فصدودها لسبب.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الاسم مركب من الحروف، والحروف عددها ثمانية وعشرون، وتركيبه يكون ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وخماسياً.
والأولى في جواب هذه المسألة أن نتكلم في الحروف المفردة التي هي بسائط الأسماء، ثم بعد ذلك في الأسماء المركبة منها، ليبين موضع استحلاء السامع للحروف المفردة، ثم لمزج هذه الحروف وتركيبها، ثم لوضع اللفظة إلى جانب اللفظة حتى تصير منها خطبة أو بيت شعر أو غير ذلك من أقسام الكلام، فإن مثل ذلك العقود والسموط المؤلفة من خرزات مختلفة في القد واللون والجوهر والخرط.
وقد علم أن للعقد المنظوم من النفس ثلاثة مواضع: أحدها مفردات تلك الخرز واختيار أجناسها وجواهرها.
والثاني موقع النظم الذي يجعل للحبة إلى جانب الحبة قبولاً آخر، وموضعاً من النفس ثانياً.
والثالث وضع كل واحد من هذه العقود في خاص موضعه من النحر والرأس والزند والصدر.
وإذا كان هذا المثال صحيحاً، وكانت الحروف الأصلية كالخرز، وهي مختلفة اختلافاً طبيعياً لا صنع فيها للبشر، ولا يظهر فيها أثر للصناعة ولا ريبة للحذق والمهارة - كان القسمان الباقيان من النظم والتركيب هما موضع الصناعة، وفيهما يظهر أثر الإنسان بالحذق وجوده البصر والثقافة.
وبيان ذلك: أن الحروف الثمانية والعشرين يطلع كل واحد منها من مطلع غير مطلع الآخر، وذلك من أقصى الرئة إلى أدنى الفم، على ما قسمه أصحاب اللغة وبينه الخليل وغيره، وعلى خلاف بينهم في مخارجها ومواضعها، وموضعنا هذا لا يليق بشرح هذا الكلام؛ فإنه يعوقنا عن قصدنا وبغيتنا.
ونقول: إن الصوت إنما يتم بآلة هي الرئة وقصبتها لأنها مستطرق الهواء، والصوت إنما هو اقتراع في الهواء، ولما لم يكن للهواء طريق في الإنسان إلا من الرئة وقصبتها، والمدخل إليها من الفم، ولا مخرج له إلا من هذه الجهة - جعل اىقتراع - الذي هو الصوت - في هذه المسافة حسب، فبعض الأصوات أقرب إلى الرئة وأبعد من الشفة، وبعضها أقرب إلى الشفة وأبعد من الرئة، والوسائط بين هذين الموضعين كثيرة.
فالنفس وهو الهواء إذا خرج من الرئة إلى أن يبلغ الشفة له مسافة بين أقصى الحلقوم وبين منتهى الفم، والإنسان مقتدر على تقطيع هذا الهواء بالاقتراعات المختلفة غي طول هذه المسافة، فيخرق هذا الهواء مرة في أقصى الحلق، ومرة في أدناه، ومرة في غار الفم، إلى أن يصير لها ثمانية وعشرين موضعاً.
ومثال ذلك مثل مزمار فيه ثقب متى أطلق الإنسان فيه النفس وخرق موضعاً بإصبع إصبع اختلفت الأصوات في السمع بحسب قربه وبعده.
ولا يكون المسموع من الاقتراع الذي يحدث عند الثقب الأخير المسموع من الاقتراع الذي يحدث عند الثقب الأول.
وكذلك سائر الاقتراعات التي بين هذين الثقبين مختلفة المواقع من السمع، لا يشبه واحد الآخر، فيقال لبعضها: حاد، ولبعضها: حلو، ولبعضها: جهير، ولبعضها: لين.
وكل واحد من هذه الأصوات له أثر في النفس وموقع منها، ومشاكلة لها.
وليس للسائل أن يكلفنا بحسب هذا البحث الذي نحن فيه، أن نتكلم في سبب قبول النفس بعض الأصوات أكثر من بعض؛ لأن هذا النظر والبحث يتعلق بصناعة الموسيقى ومبانيها، ومعرفة أقدار النغم المختلفة بالنسب التي هي نسبة المساواة، ونسبة الضعف، ونسبة الضعف والنصف، وأشباهها.
وهذه النسب بعضها أقرب إلى قبول النفس من بعض، حتى قال بعض الأوائل: إن النفس مركبة من عدد تأليفي.
فلما كانت قصبة الرئة كقصبة المزمار، وتقطيع الحروف فيها كخرق الصوت بالمزمار في موضع بعد موضع، وكانت الأصوات في المزمار مختلفة القبول عند النفس - كانت الحروف كذلك أيضاً لا فرق بينها وبينها بوجه ولا سبب.
فقد بان أن الحروف أنفسها مفردة لها مواقع من النفس مختلفة، فبعضها أوقع عندها من بعض.
وإذا كانت بهذه الصفة وهي مفردات وبسائط كان تركيبها أيضاً مختلفاً في قبول النفس، سوى أن للتركيب والتأليف تعلقاً بالصناعة كما ضربنا به المثل في نظم الخرز ونظم الأصوات في الموسيقى؛ لأن الموسيقار ليس يعمل أكثر من تأليف هذه الأصوات بعضها إلى بعض على النسب الموافقة للنفس.
فمؤلف الحروف يجب أن يؤلفها أيضاً ويمزجها مزجاً موافقاً من الثنائي والثلاثي وغيرهما، إذا أحب أن يكون لها قبول من النفس.
فقد تبين إلى هذا الموضع سبب خلاف هذه الحروف مفردة، ثم مركبة، وأنه بحسب هذا البيان يجب أن يكون بعض الأسماء أحسن من بعض، وأعذب في السمع، وأقرب إلى قبول النفس، وبعضها أبعد في هذه الأشياء.
وبقي الاعتبار الثالث الذي هو نظم الكلم بعضه إلى بعض، ووضعه في خواص مواضعه؛ ليصدق المثال الذي ضربناه في الخرز والعقود، ثم وضع كل عقد حيث يليق به.
وههنا تظهر صناعة الخطابة والبلاغة والشعر، وذلك أنه إذا اختار المختار الحروف المؤلفة بالأسماء حتى لا يكون فيها مستكره ولا مستنكر، ووضعها من النظم في مواضعها، ثم نظمها نظماً آخر - أعني وضع الكلمة إلى جنب الكلمة - موافقاً للمعنى غير قلق في المكان، ولا نافر عن السمع - فقد استتمت له الصناعة إما شعراً وإما خطبة وإما غيرهما من أقسام الكلام.
ومتى دخل عليه الخلل في أحد هذه المواضع الثلاثة اختلت صناعته، وأبت النفس قبول ما نظمه من الكلام بحسب ذلك.
فقد لخصنا وشرحنا هذه المسألة تلخيصاً وشرحاً كافياً إن شاء الله.
فأما سؤالك في آخر مسألتك أن أصل هذا البحث بالبحث عما ثقل على النفس والسمع والطبع فقد فعلت ذلك، فظهر في أثناء كلامي، وذلك أنه إذا بان سبب أحد الضدين بان سبب الضد الآخر.
والأصوات المستكرهة التي ليس لها قبول في النفس كثيرة، ولا عناية للناس بها فتؤلف، وإنما تجدها مفردة بالاتفاق كصرير الباب، وصوت الصفر إذا جرده الصفار، وما أشبههما، فإن النفس تتغير من هذه فتقشعر، وربما قام له شعر البدن، حدث بالنفس منه دوار حتى ينكر الإنسان حاله.
وهو معروف بين.
مسألة اختيارية لم تواصى الناس في جميع اللغات والنحل
وسائر العادات والملل بالزهد في الدنيا والتقلل منها والرضا بما زجا به الوقت، وتيسر مع الحال، هذا مع شدة الحرص والطلب، وإفراط الشره والكلب، وركوب البر والبحر بسبب ربح قليل، ونائل نزر، حتى إنك لا تجد على أديمها إلا متلفتاً إلى فانيها حزيناً، أو هائماً على حاضرها مفتوناً، أو متمنياً لها في المستقبل معنى، وحتى لو تصفحت الناس لم تجد إلا منحسراً عليها، أو متحيراً فيها، أو مسكراً منها.
وأشرفهم عقلاً أعظمهم خبلاً، وأشدهم فيها إزهاداً أشدهم بها انعقاداً، وأكثرهم في بعضها دعوى أكثرهم في حبها بلوى.
وهات السبب في ذلك والعلة، وعلى ذكر السبب والعلة فما السبب والعلة؟ وما الواصل بينهما إن كان واصل؟ وهل ينوب أحدهما عن الآخر؟ وإن كانت هناك نيابة أفهي في كل مكان وزمان؟ أو في مكان دون مكان، وزمان دون زمان؟.
وعلى ذكر المكان والزمان، ما الزمان وما المكان؟ وما وجه التباس أحدهما بالآخر؟ وما نسبة أحدهما بالآخر؟ وهل الوقت والزمان واحد؟ والدهر والحين واحد؟ وإن كان كذا فكيف يكون شيئآن شيئاً؟ وإن جاز أن يكون شيئآن شيئاً واحداً هل يجوز أن يكون شيء واحد شيئين اثنين؟ هذا - أيدك الله - فن ينشف الريق، ويضرع الخد ويجيش النفس، ويقيىء المبطان.
ويفضح المدعى، ويبعث على الإعتراف بالتقصير والعجز، ويدل على توحيد من هو محيط بهذه الغوامض والحقائق، ويبعث على عبادة من هو عالم بهذه السرائر والدقائق، وينهي عن التحكم والتهانف، ويأمر بالتناصف والتواصف، ويبين أن العلم بحر، وفائت الناس منه أكثر من مدركه، ومجهوله أضعاف معلومة، وظنه أكثر من يقينه، والخافي عليه أكثر من البادي، وما يتوهمه فوق ما يتحققه، والله تعالى يقول: " بسم الرحمن الرحيم " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " صدق الله العظيم " .
فلو استمر المعلوم بالنفي لما علم شيء، ولولا الإيضاح بالإستثناء لما بقي شيء، لكنه جل وهز نفى بلا على ما يقتضيه التوحيد، وبقي بإلا ما يكون حلية ومصلحة للعبيد.
ثم أتبعت المسألة من تنقص الإنسان وذمه وتوبيخه ما أستغنى عن أثباته.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رجمه الله: هذه المسألة موشحة بعدة مسائل طبعية، وقد جعلتها مسألة واحدة، ولعل التي صيرتها أذناباً هي أشبه بأن تكون رؤوساً.
وقد عرض لك فيها عارض من العجب، وسانح من التيه، فخطرت خطران الفحل ومشيت العرضنة، ومررت في خيلائك، ومضيت على غلوائك حتى أشفقت أن تعثر في فضل خطابك، فلو تركت هذا الغرض للمتكلم على مسائلك، ووفرت هذا المرض على المجيب لك؟.
ارفق بنا يا ابا حيان - رفق الله - وأرخ من خناقنا، وأسغنا ريقنا، ودعنا وما نعرفه في أنفسنا من النقص فإنه عظيم، وما بلينا به من الشكوك فإنه كثير، ولا تبكتنا بجهل ما علمناه، وفوت ما أدركناه، فتبعثنا على تعظيم أنفسنا، وتمنعنا من طلب ما فاتنا، فإنك - والله - تأثم في أمرنا، وتقبح فينا، أسأل الله أن لا يؤاخذك ولا يطالبك ولا يعاقبك؛ فإنك بعرض جميع ذلك إلا أن يعفو ويغفر، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
أما أولى المسائل فالجواب عنها: أن الإنسان لما كان مركباً من نفس وجسد، واسم الإنسانية واقع على هذين الشيئين معاً.
وأشرف جزأي الإنسان النفس التي هي معدن كل فضيلة، وبها وبعينها يرى الحق والباطل في الاعتقاد، والخير والشر في الأفعال، والحسن والقبيح في الأخلاق، والصدق والكذب في الأقاويل.
وأما جزؤه الآخر الذي هو الجسم وخواصه وتوابعه فهو أرذل جزأيه وأخسهما؛ وذلك أنه مركب من طبائع مختلفة متعادية، ووجوده في الكون دائماً لا لبث له طرفة عين، بل هو متبدل سيال؛ ولهذا سمى عالمه العالم السوفسطائي.
وهذه مباحث محققة مشروحة في مواضعها، وإنما ذكرنا بها لحاجتنا في جواب المسألة إليها.
فإذا كان الإنسان مركباً من هذين الجزأين، وممزوجاً من هاتين القوتين، وكان أشرف جزأيه ما ذكرناه - وهو النفس التي ليس وجودها في كون، ولا هي متركبة من أجزاء متعادية متضادة، بل هي جوهر بسيط بالإضافة إلى الجسم، وهي قوة إلهية غنية بذاتها - وجب أن يكون شغل الإنسان بهذا الجزء أفضل من شغله بالجزء الآخر؛ لأن هذا باق وذاك فان، وهذا جوهر واحد، وذاك جواهر متضادة، وهذا له وجود سرمدي، وذاك لا وجود له إلا في الكون الذي لا ثبات له.
وفي عدنا فضائل النفس، ونقائص الجسم خروج عن غرض هذه المسألة.
والذي يكفي في الجواب عن هذه المسألة بعد تقرير هذه الأصول والإقرار بها، أن الإنسان إذا أحس بهذه الفضائل التي في نفسه، والرذائل التي في جسمه - وجب عليه أن يستكثر من الفضائل ليرتقي بها إلى درجات الإلهيين، ويقل العناية بما يعوق عنها.
ولما كان الشغل بالحواس وخصائص الجسم عائقاً عن هذه الفضائل والعلوم الخاصة بالإنسان، استقبح أهل كل ملة الإنهماك فيه، وصرف الهمة والبال إليه، وأمروا بأخذ قوته الذي لا بد له منه في مادة الحياة، وصرف باقي الزمان بالهمة إلى تلك الفضائل التي هي السعادة.
وهذا المعنى يلوح للناظر، ويبين له بياناً جلياً، إذا نظر إلى فوق ما بين الإنسان وسائر الحيوانات، لأنه إنما فضلها بخاصة النفس لا بخواص الجسد؛ لأن خواص الجسد للحيوانات أتم وأغزر - وقد علم أن الإنسان أفضل منها - وأعنى بخواص الجسد، الأيد والبطش والقدرة على الأكل والشراب والجماع وما أشبه ذلك، فإذا تمامية الإنسان وفضيلته إنما هي بهذه المزية التي وجدت له دون غيره، فالمستريد منها أحق باسم الإنسانية، وأولى بصفة الفضيلة؛ ولهذا يقال: فلان كثير الإنسانية، وهو من أبلغ ما يمدح به.
ومن أحب الاطلاع على تلك الأصول، والاستكثار منها وبلوغ غاية اليقين فيها فليأخذه من مظانه.
فأما حرص الناس - مع شعورهم بهذه الفضيلة - وكلبهم على الدنيا بركوب البر والبحر لأجل الملاذ الخسيسة؛ فلأن الجزء الذي فينا معاشر البشر من الجسم الطبيعي أقوى من الجزء الآخر.
وعرض لنا من تجاذب هاتين القوتين ما يعرض لكل مركب من قوى مختلفة، فيكون الأقوى أبداً أظهر أثراً؛ فلأجل ذلك انجذبنا إلى هذا الجزء مع علمنا بفضيلة الجزء الآخر.
ونحن وإن علمنا أن هذا كما حكيناه، وتيقنا هذا المذهب تيقناً لا ريب فيه، فإنا في جهاد دائم، فربما غلب علينا هذا الجزء، وربما ملنا إلى الجزء الآخر بحسب العناية، وسأضرب في ذلك مثلاً من العيان والحس، وهو أن المريض والناقة والخارج عن مزاج الاعتدال قد تيقن أنه بالحمية وترك الشهوات يعود إلى الصحة والاعتدال الطبيعي، وهو مع ذلك لا يمتنع من كثير من شهواته، لشدة مجاذبتها له، وغلبتها على صحيح عقله، وثاقب فكره، ونصيحة طبيبه، حتى إذا فرغ من مواقعه تلك الشهوة وأحس بالألم، ندم ندامة يظن معها ألا يعاود أبداً، ثم لا يلبث أن تهيج به شهوة أخرى أو هي بعينها، وهو في ذلك يعظ نفسه، ويديم تذكيرها الألم، ويشوقها إلى الصحة، ولا ينفعه وعظ ولا تذكير، للعلة التي ذكرناها قبل من شدة مجاذبة الشهوة الحاضرة، حتى ينال شهوته ثانياً، ثم هذه حال مستمرة به ما دام مريضاً.
وكذلك هو أيضاً في حالة الصحة، يتناول من الشهوات ما يعلم أنه يخرج عن مزاج الاعتدال، ولا يأمن هجوم الأمراض عليه، فيحمله سوء التحفظ وشدة مجاذبة الطبيعة إلى مخالفة التمييز، ومشاركة البهائم.
فإذا رأيت هذا المثل صحيحاً، ووجدته من نفسك ضرورة، اطلعت على ما قدمناه، وفهمته فهماً بيناً، وعذرت من زهدك في الدنيا وإن خالفك إليها ومن نصحك بتركها وإن أخذ هو بها واستكثر منها.
فأما ما اعترض في المسألة من ذكر السبب والعلة، والمسألة عن الفرق بينهما، فإن السبب هو الأمر الداعي إلى الفعل، ولأجله يفعل الفاعل.
فإما العلة فهي الفاعلة بعينها؛ ولذلك صار السبب أشد اختصاصاً بالأشياء العرضية، وصارت العلة أشد اختصاصاً بالأمور الجوهرية.
والحكماء قد أطلقوا لفظ العلة على الباري تقدس اسمه، وعلى العقل، والنفس، والطبيعة، حتى قالوا: العلة الأولى، والعلة الثانية والثالثة والرابعة، وقالوا أيضاً: العلة القريبة والعلة البعيدة، في أشياء تتبينها من كتبهم.
وعلى أن هذه المسألة - بجهة من الجهات - تنحل إلى المسألة الأولى وتعود إليها؛ لأنها يجوز أن توجد في المتباينة اسماؤها بضرب من الاعتبار، وفي المترادفة أسماؤها بضرب آخر من الاعتبار، وقد مر هذا الكلام مستقصى فلا وجه لإعادته.
وأما الزمان والمكان، فإن الكلام فيهما كثير، قد خاض فيه الأوائل، وجادل فيه أصحاب الكلام الإسلاميون، وهو أظهر من أن ينشف الريق، ويضرع فيه الخد،ولا سيما وقد أحكم القول فيه الحكيم، وناقص أصحاب الآراء فيهما، وبين فساد المذاهب القديمة، وذكر رأى نفسه ورأى أستاذه في كتاب السماع الطبيعي وكل شيء وجد لهذا الحكيم فيه كلام فقد شفى وكفى، وقد فسر كلامه فضلاء أصحابه المفسرين، ونقل إلى العربية، وهو موجود.
وأنا أذكر نص المذاهب لما تقتضيه مسألتك في عرض المسألة الأولى، وأترك الاحتجاج لأنه مسطور، وإذا دللت على موضعه فقرىء منه كان أولى من نقله إلى هذا المكان نسخاً.
أما الزمان فهو مدة تعدها حركات الفلك.
وأما المكان فهو السطح الذي يجوز المحوي والحاوي.
وأما الفرق الذي سألته بين الوقت والزمان، والدهر والحين، فإن الوقت قدر من الزمان مفروض مميز من جملته، مشار إليه بعينه.
وكذلك الحين هو مدة أطول من الوقت وأفسح وأبعد، وإنما تقترن أبداً هاتان اللفظتان بما يميزهما ويفصلهما من جملة الزمان الذي هو كل لهما، فيقال: وقت كذا وحين كذا، فينسب إلى حال أو شخص أو ما أشبه ذلك.
فإذا أريد بهما الإبهام لا الإفهام قيل: كان كذا أو يكون كذا في حين أو وقت، فيعلم السامع أن المتكلم لم يؤثر تعيين الوقت والحين، وهما لا محالة معينان محصلان.
فأما الدهر فليس من الزمان ولا الحين ولا الوقت في شيء، ولكنه أخص بالأشياء التي ليست في زمان ولا مقدرة بحركات الفلك؛ لأنها أعلى رتبة من الأمور الطبيعية.
فأقول: نسبة الزمان إلى الأمور الطبيعية كنسبة الدهر إلى الأمور غير الطبيعية، أعنى ما هو فوق الطبيعية.
وهذا القدر من الكلام كاف في الإيماء إلى ما سألت عنه، وإن أحببت التوسع فيه فعليك بالمواضع التي أرشدناك إليها من كلام الحكيم ومفسري كتبه؛ فإنه مستقصى هناك.
وهذه المواضع - أبقاك الله - إذا نظر فيها الإنسان وعرفها حق معرفتها، تنبه على حكمة بارئها، ومبدئها، وصارت أسباباً محكمة، ودواعي قوية إلى التوحيد.
وليس معرفتنا بها، وإحاطتنا بعلمها إلا من نعمة الله علينا، وإفاضته الخير بها علينا، وهي مما شاء أن نحيط به من علمه، ولم يكن علمنا بالزمان والمكان والوقت والآن إلا كسائر ما علمناه الله.
ووراء هذه المواضع سرائر ودقائق لا يبلغها العقل الإنساني، ولم يطمع في إدراكها أحد قط، وهناك يحسن الاعتراف بالضعف البشري، والعجز الإنساني، وسائر ما تكلم فيه أو حيان، ورمى الإنسان به من الذلة والقلة فيقعى حينئذ على أسته، ويستحي من الفسولة والذل عند الحاجة إلى خالق الخلق، وبارىء الكل.
فأما هذه المواضع التي تكلمنا فيها فهي مواضع الشكر له، والتحدث بنعمته والتعجب من حكمته، والاستدلال بها على جوده وقدرته وفيضه بالخير على بريته.
ومسألته الزيادة منها، والحرص على نيل أمثالها بالنظر والفحص، وإدامة الرغبة إلى واهبها ومنيلها بإفاضة أشباهها وأشكالها، مما هو موضوع للبشر وميسر لهم، وهم مندوبون له مبعوثون عليه؛ بل أقول إنه مأخوذ على الإنسان الكامل بالعقل ألا يقعد عن السعي والطلب لتكميل نفسه بالمعارف، ولا يني ولا يفتر مدة عمره عن الازدياد من العلوم التي بها يصير من حزب الله الغالبين، وأوليائه الفائزين الآمنين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فأما القوم الذين يفنون أعمارهم في قنية الذهب والفضة ويجعلون سعيهم كله مصروفاً إلى الأمور الزائلة الفانية من اللذات الجسمانية والشهوات البدنية - فهم الذين قد بعدوا من الله، وصاروا من حزب الشيطان، فوقعوا في الأحزان الطويلة، والخوف الدائم، والخسوان المبين!!! إذ كانوا أبداً من مطلوبهم على إحدى حالتين: إما أسف على فائت ونزاع إليه، أو لهف على مفقود وحزن عليه؛ لأن الأمور التي يطلبونها لا ثبات لها، ولا نهاية لأشخاصها، ولا وجود بالحقيقة لها، وإنما هي في الكون والإستحالة والتنقل بالطبع.
نسأل الله الواحد الذي نخلص إليه رغباتنا، ونرفع أيدي نفوسنا له، ونسجد بهممنا وعقولنا - أن يفيض علينا الخير المطلوب منه الذي نشتاق إليه لذاته لا لغيره، وأن ينير عقولنا لندرك بها حقيقة وحدانيته، وعجائب مبروءآته، ويفضى بنا إلى السعادة القصوى التي خلقنا لها من أقصر الطرق، وأهدى السبل، صراط الله المستقيم؛ فإنه أهل ذلك ووليه، والقادر عليه.
مسألة اختيارية لم طلبت الدنيا بالعلم والعلم ينهى عن ذلك ؟
ولم لم يطلب العلم بالدنيا والعلم يأمر بذلك؟ وقد يقول من ضعفت غريزته، وساء أدبه، جرؤ مقدمه: قد رأينا من ترك طلب الدنيا بالعلم، ورأينا من طلب العلم بالدنيا.
فليعلم أن المسألة ما وضعت هناك، ولا فرضت كذاك، ولو سدد هذا المعترض فكره عرف الفحوى، ولحق المرمى، ولم يعارض بادراً بشائع، ولم يناقض نادراً بذائع.
الجواب: أما طلب الدنيا فضروري للإنسان لما ذكرناه؛ فإن وجوده بأحد جزأيه طبيعي، ولا بد من إقامة هذا الجزء بمادته؛ لأنه سيال دائم التحلل، ولا بد من تعويض ما يتحلل منه.
ولم ينه العلم عن هذا المقدار فقد، وإنما نهى عن الزيادة على قدر الحاجة؛ إذ كانت الزيادة مذمومة من جهات: أحدها أنها تؤدي إلى تفاوت الجسم الذي سعينا لحفظ اعتداله.
والثاني أنها تعوقنا عما هو أخص بنا من حيث نحن ناس، أعنى الجزء الآخر الذي هو فضيلة.
فمن طلب بالعلم من الدنيا قدر الحاجة في حفظ الصحة على الجسد فهو مصيب تابع لما يرسمه العقل، ويأمر به العلم.
ومن طلب أكثر من ذلك فهو مفرط مسرف.
وموضع الاعتدال من الطلب هو الصعب، وهو الذي ينبغي أن يلقى فيه أهل الحكمة والعلم، وتقرأ له كتب الأخلاق؛ ليعرف الاعتدال فيلزم، ويعرف الإفراط فيحذر.
ولا بد مه هذه الجملة التي ذكرناها - وإن دللنا فيها على المواضع التي يرجع إليها - من أدنى كشف وبيان فنقول: إن الناس لما اختلفنظرهم بحسب جزئهم: فناظر إلى الطبيعة، وناظر إلى العقل، وناظر فيهما معاً - اختلفت مقاصدهم، وصارت أفعالهم تلقاء نظرهم.
وقد علم أن الناظر في أحد جزأيه دون الآخر مخطىء لأنه مركب منهما معاً، والناظر فيهما مصيب إذا قسط لكل واحد منهما قسطاً من نظره، وجعل له نصيباً من سعيه، على قدر استحقاق كل واحد منهما، ويحسب رتبته من الشرف والضعة.
أما الناظرون بحسب الجزء الطبيعي فإنهم انحطوا في جانب الطبيعة، وانصرفوا بجميع قوتهم إليها، وجعلوا غايتهم القصوى عندها؛ ولذلك جعلوا العقل آلة في تحصيل أسبابها وحاجاتهم، فاستعبدوا أشرف جزأيهم لأخسهما كمن يستخدم الملك عبده.
وأما الناظرون بحسب الجزء العقلي فإنهم أغفلوا النظر في أحد جزأيهم الذي هو طبيعي لهم، ونظروا نظراً إلهياً فطمعوا - وهم ناس مركبون - أن ينفردوا بفضيلة العقل غير مشوب بنقص الطبيعة، فاضطروا لأجل ذلك إلى إهمال الجسد وهو مقرون بهم، والضرورة تدعو إلى مقيماته من المصالح، أو إلى إزاحة علته في حاجاته وهي كثيرة، فظلموا أنفسهم، وظلموا أبناء جنسهم.
أما ظلمهم لأنفسهم فتركوا النظر لأحد قسميهم الذي به قوامهم حتى التمسوا مصالحها بتعب آخرين، فظلموهم بترك المعاونة إياهم، والعدل بأمر بمعونة من يسترفد معونته، والتعب لمن يأخذ ثمرة تعبه.
وبهذه المعاونة تتم المدينة، ويصلح معاش الإنسان الذي هو مدني بالطبع وهؤلاء هم الذين تسموا بالزهاد، وهم طبقات، وفي الفلاسفة منهم قوم، وفي أهل الأديان والمذاهب والأهواء منهم طوائف، وفي شريعتنا الإسلام منهم قوم وسموا أنفسهم بالصوفية، وقال منهم قوم بتحريم المكاسب.
وإذ قد بينا غلط الناظر في أحد جزأيه دون الآخر فلنذكر المذهب الصحيح الذي هو الناظر في الجزأين معاً، وإعطاء كل واحد منهما قسطه طبيعية وعقلاً فنقول: إن الإنسان كما ذكرناه هو مركب من هاتين القوتين، لا قوام له إلا بهما فيجب أن يكون سعيه نحو الطبيعي منهما، والعقلي معاً.
أما السعي الطبيعي فغاية الإنسان فيه حفظ الصحة على بدنه والاعتدال على مزاج طبائعه؛ لتصدر الأفعال عنه تامة غير ناقصة وذلك بالتماس المآكل والمشارب والنوم واليقظة والحركة والسكون، والاعتدال في جميع ذلك، إلى سائر ما يتضل بها من الملبس والمسكن الدافعين أذى القر والحر، والأشياء الضرورية للبدن، ولا يلتمس غاية سواها، أعني التلذذ والاستكثار من قدر الحاجة لطلب المباهاة، واتباع النهمة والحرص وغيرهما من الأمراض التي توهم أن غاية الإنسان هي تلك.
وأما سعيه العقلي فغايته فيه أيضاً حفظ الصحة على النفس لأنها ذات قوى.
ولها أمراض بتزيد هذه القوى بعضها بعض، وحفظ الاعتدال هو طبها، والاستكثار من معلوماتها هو قوتها، وسبب بقائها السرمدي، وسعادتها الأزلية.
وفي شرح كل واحد من هذه الفضائل طول، وهذا القدر من الإيماء كاف.
فليكن الإنسان ساعياً نحو هذين الجزأين بما يصلح كل واحد منهما، وليحفظ على نفسه الاعتدال فيهما من غير إفراط ولا تفريط؛ فإنه حينئذ كامل فاضل، لا يجد عليه أحد مطعناً إلا سفيه لا يكترث له أو جاهل لا يعبأ به، وبالله التوفيق.
مسألة طبيعية ما السبب في اشتياق الإنسان إلى ما مضى من عمره حتى إنه ليحن حنين الإبل، ويبكي بكاء المتململ، ويطول فكره بتخيله ما سلف؟ وبهذا المعنى هتف الشاعر فقال:
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه حين يزول
وقال الآخر:
رب يوم بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه.
وقال الآخر:
وأرجو غدا فإذا ما أتى ... بكيت على أمسه الذاهب.
هذا العارض يعترى إن كان الماضي من الزمان في ضيق وحاجة، وكرب وشدة، وما ذاك كذاك إلا لسر للنفس الإنسان غير شاعر به، ولا واجد له إلا إذا طال فحصه، وزال نقصه، واشتد في طلب تشميره، واتصل في اقتباس الحكمة رواحه وبكوره، وكانت الكلمة الحسناء أشرف عنده من الجارية العذراء، والمعنى المقوم أحب إليه من المال المكوم، وعلى قدر عنايته يحظى بشرف الدارين، ويتحلى بزينة المحلين.
الجواب: قال أبو مسكويه - رحمه الله - ليس يشتاق إلى الشباب والصبا إلا أحد رجلين: إما فاقد شهواته ولذاته التي سورتها وحدتها وقت الشباب.
وإما فاقد صحته في السمع والبصر، أو بعض أعضائه التي قوتها ووفورها زمن الصبا وحين الحداثة.
والمعنى الأول أكثر ما يتشوق، فإن المكتهل والمجتمع ومن بلغ الأشد الذي لا ينكر شيئاً من حواسه - يتشوق إلى الصبا، والشيخ لا يعدم من نفسه ورأيه وعقله شيئاً مما كان يجده في شبابه، واللهم إلا أن يهرم ويلحقه الخرف، فحينئذ لا يذكر بشيء من التشوق، ولا يوصف به، ولا يحتج برأيه.
وههنا سبب ثالث يشوق إلى الصبا وهو أن الأمل حينئذ في البقاء قوي، وكأن الإنسان ينتظر أمامه حياة طويلة فكلما مضى منها زمان تيقن أنه من أمده المضروب، وعمره المقسوم، فاشتاق إلى أن يستأنف به، طمعاً في البقاء السرمدي الذي لا سبيل للجسد الفاني إليه.
إلا المعنى الأول هو الذي ذهب إليه الشعراء فأكثروا فيه، وقد صرحوا به وذكروه في أشعارهم.
والمتشوق إلى شهواته صورته عند الحكماء صورة من أعتق فاشتاق إلى الرق، أو صورة من أفلت من سباع ضارية كانت مقرونة به فاشتاق إلى معاودتها.
وذلك أن الشاب تهيم به قوى الطبيعة عنده الشهوة وعند الغضب حتى تغمر عقله فلا يستشير لبه، ولا يكاد يظهر أثر العقل عليه إلا ضعيفاً.
وقد بينا فيما تقدم من المسائل أن فضيلة الإنسان وشرفه في الجزء الألهي منه، وإن كان الجزء الآخر ضرورياً له.
فقد بان أن السن التي تضعف فيها قوى الطبيعة حتى يقتدر عليها العقل فيزمها، ويجرها ذليلة طائعة غير متأبية ولا هائجة - أفضل الأسنان، والرجل الفاضل الصالح لا يشتاق من أشرف أسنانه إلى أخسها.
والدليل البين على أن الأمر على ما حكيناه - أن الشاب العفيف الضابط لنفسه، القوى على قمع شهواته مسرور بسيرته، وإن كان في جهد عظيم، ومحكوم له بالفضل، مشهود له به عند جميع أهل العقل، وأنه إذا كبر وأسن لم يشتق إلى الشباب؛ لأن ضبطه لنفسه، وقمعه لشهواته أيسر عليه وأهون.
ومن كان فلسفي الطريق، شريعي المذهب لم تعرض له هذه العوارض - أعنى التلهف على نيل اللذات، والأسف على ما يفوته منها، والندم على ما ترك وقصر فيها - بل يعلم أن تلك انفعالات خسيسة تقتضي أفعالاً دنيئة، وأن الحكماء - رضى الله عنهم - قد بينوا رذائلها، وسطروا الكتب في ذمها، وأن الأنبياء - صلوات الله عليهم - قد نهوا عنها، وحذروا منها، وكتب الله - تعالى وتقدس - ناطقة بجميع ذلك، مصدقة له.
فأي شوق يحدث للفاضل إلى النقص، وللعالم إلى الجهل، وللصحيح إلى المرض؟ وإنما تلك أعراض تعرض للجهال الذين غايتهم الانهماك في الطبيعة والحواس، وطلب ملاذها الكاذبة، لا التماس الصحة، ولا بلوغ السعادة، ولا تكميل الفضيلة الإنسانية، ولا معتبر بهؤلاء ولا التفات إلى أقوالهم وأفعالهم.
مسألة خلقية لم اقترن العجب بالعالم والعلم يوجب خلاف ذلك من التواضع والرقة، وتحقير النفس، والزراية عليها بالعجز؟ الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله - أما العالم المستحق لهذه السمة فليس يلحقه العجب، ولا يبلي بهذه الآفة وكيف يبلي بها وهو يعرف سببها، وأنها مرض سببه مكاذبة النفس؟ وذلك أن حقيقة العجب هي ظن الإنسان بنفسه من الفضل ما ليس فيه، وظنه هذا كذب، ثم يستشعره حتى يصدق به، فتكون صورته صورة من يرى رجلاً في الحرب شجاعاً يحمل على الأبطال، ويظهر فضيلة شجاعته فيكفي العدو، ويفنى القرن، وهذا الرأي عنه بمعزل، ناكص على عقبيه، ناء بجانبه، وهو ذاك يدعي تلك الشجاعة لنفسه، فهو يكذبها في الدعوى، ثم يصير مصدقاً بها، وهذا من أعجب آفات النفس وأكاذيبها؛ لأجل أن الكذب فيه مركب، فقد يكذب الإنسان غيره ليصدقه الغير فيموه نفسه عليه، فأما أن يموه نفسه بالكذب، ثم يصدق فيه نفسه فهو موضع العجب والعجب.
ولأجل هذا التركيب الذي عرض في الكذب صار أشنع وأقبح من الكذب نفسه البسيط المعروف.
وإذا كان العالم الفاضل لا تقترن به آفة الكذب البسيط لمعرفته بقبحه لا سيما إذا استغنى عنه - فهو من الآفة المركبة أبعد.
فلذلك قلت: إن العالم لا يعجب، فقد صارت هذه المسألة مردودة غير مقبولة.
فأما ما يعرض من العجب لمن يظن أنه عالم فليس من المسألة في شيء.
مسألة ما سبب الحياء من القبيح مرة ؟
وما سبب التبجح به مرة ؟
وما الحياء أولاً؛ فإن في تحديده ما يقرب من البغية، ويسهل درك الحق؟ وما ضمير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحياء شعبة من الإيمان.
فقد قال بعض العلماء: كيف يكون الحياء - وهو من آثار الطبيعة - شعبة من الإيمان والإيمان فعل؟ يدلك آمن يؤمن إيماناً، وهناك تقول حيى الرجل واستحيي، فيصير من باب الانفعال، أى المطاوعة.
وهل يحمد الحياء في كل موضع أم هو موقوف على شأن دون شأن، ومقبول في حال دون حال؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الحياء الذي أحببت أن نبدأ به فحقيقته انحصار نفس مخافة فعل قبيح يصدر عنها.
وهو خلق مرضى في الأحداث؛ فإنه يدل على أن نفسه قد شعرت بالشيء القبيح، وأشفقت من مواقعته، وكرهت ظهوره منه، فعرض لنفسه هذا العارض.
وإحساس النفس بالأفعال القبيحة، ونفورها عنها دليل على كرم جوهرها ومطمع في استصلاحها جداً.
قال صاحب الكتاب في تدبير المنزل: ليس يوجد في الصبي فراسة أصح ، ولا دليل أصدق لمن آثر أن يعرف نجابته وفلاحه وقبوله الأدب - من الحياء.
وذلك لما ذكرناه من علة الحياء، وبيناه من أمره.
فأما المشايخ فلا يجب أن يعرض لهم هذا العارض؛ لأنه لا ينبغي لهم أن يحذروا وقوع فعل قبيح منهم؛ لما سبق من علمهم ودربتهم، ومعرفتهم بمواضع القبيح والحسن، ولأن نفوسهم يجب أن تكون قد تهذبت وأمنت وقوع شيء قبيح منهم؛ فلذلك لا ينبغي أن يعرض لهم الحياء.
وقد بين الحكيم هذا في كتاب الأخلاق.
فقد ذكرنا الحياء ما هو وأنه انفعال، وأنه يحسن بالأحداث خاصة، وذكر سبب حسنه فيهم.
فأما المسألة عن سبب التبجح بالقبيح فمسألة غير لازمة؛ لأن هذا العارض سببه الجهل بالقبيح، وليس يعرض إلا للجهال من الناس، والدليل على ذلك أنهم إذا عرفوا القبيح أنه قبيح اعتذروا منه، وتركوا التبجح به.
وإنما يتبجح حين لا يعلم وجه قبحه، وهو في تلك الحالإذا تبجح به خرج له وجهاً مموهاً في الحسن، فيصير تبجحه بالحسن الذي خرجه أوموه به، فإذا تيقن أنه قبيح، أو ليس يتموه وجه الحسن فيه - عدل عنه، واستحيى منه، وترك التبجح به.
فأما قولة عليه السلام: الحياء شعبة من الإيمان فكلام في غاية الحسن والصحة والصدق، وكيف لا يكون شعبة منه وإنما الإيمان التصديق بالله عز وجل، والمصدق به مصدق بصفاته وأفعاله التي هي من الحسن في غاية لا يجوز أن يكون فيها وفي درجتها شيء من المستحسنات؛ لأنها هي سبب حسن كل حسن وهي التي تفيض بالحسن على غيرها؛ إذ كانت معدنه ومبدأه، وإنما نالت الأشياء كلها الحسن والجمال والبهاء منها وبها.
وكذلك جميع أوامر الله - تعالى - وشرائعه، وموجبات العقل الذي هو رسوله الأول، ووكيله - عند جميع خلقه - الأقدم.
ومن عرف الحسن عرف ضده لا محالة، ومن عرف ضده حذره وأشفق منه، فعرض له الحياء الذي حررناه ولخصناه.
وصديقك أبو عثمان يقول: الحياء لباس سابغ، وحجاب واق، وستر من المساوىء.
أخو العفاف، وحليف الدين، ومصاحب بالتصنع، ورقيب من العصمة، وعين كالئة، يذود عن الفساد، وينهى عن الفحشاء والأدناس.
وإنما حكيت لك ألفاظه لشغفك به، وحسن قبولك كل ما يشير إليه، ويدل عليه.
مسألة طبيعية ما سبب من يدعى العلم وهو يعلم أنه لا علم عنده؟ وما الذي يحمله على الدعوى، ويدينه من المكابرة، ويحوجه إلى السفه والمهاترة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب ذلك محبة الإنسان نفسه، وشعوره بموضع الفضيلة، فهو لأجل المحبة يدعى لها ما ليس لها؛ لأن صورة النفس التي بها تحسن، وعليها تحصل ومن أجلها تسعد - هي العلوم والمعارف، وإذا عريت منها أو من جلها حصلت له من المقابح ووجوه الشقاء بحسب ما يفوتها من ذلك.
ومن شأن المحبة أن تغطي المساوىء، وتظهر المحاسن إن كانت موجودة، وتدعيها إن كانت معدومة، فإن كان هذا من فعل المحبة معلوماً، وكانت النفس محبوبة لا محالة، عرض لصاحبها عارض المحبة، فلم ينكر ادعاء الإنسان لها المعارف التي هي فضائلها ومحاسنها وإن لم يكن عندها شيء من ذلك؟.
مسألة طبيعية ما سبب فرح الإنسان بخبر ينسب إليه وهو فيه؟ وما سبب سروره بجميل يذكر به وليس فيه؟.
الجواب: عن هذه المسألة هو الجواب عن المسألة التي قبلها؛ لأن الخير المختص بالنفس هو العلوم الصحيحة، والأفعال الصادرة بحسبها عنها.
فإذا اعترف الإنسان بأن نفسه فاضلة خيره، وجب أن يسر لمحبوبه وقد شهد له بالجمال والحسن؛ فلذلك يسر إن ذكر بجميل ليس فيه للعلة التي ذكرناها في المسألة الأولى.
مسألة اختيارية لم قبح الثناء في الوجه حتى تواطئوا على تزييفه ؟
ولم حسن في المغيب حتى تمنى ذلك بكل معنى، ألأن الثناء في الوجه أشبه الملق والخديعة؟ وفي المغيب أشبه الإخلاص والتكرمة أم لغير ذلك؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لما كان الثناء في الوجه على الأكثر إعارة شهادة بفضائل النفس، وخديعة الإنسان بهذه الشهادة، حتى صار ذلك - لاغتراره وتركه كثيراً من الاجتهاد في تحصيل الفضائل، وغرض فاعل ذلك احتراز مودة صاحبه إلى نفسه بإظهار مودته له، ومحبته إياه - صار كالمكر والحيلة فذم وعيب.
فأما في المغيب فإنما حسن لأن قصد المثنى في الأكثر الاعتراف بفضائل غيره، والصدق عنه فيها.
وفي ذلك تنبيه على مكان الفضل، وبعث للموصوف والمستمع على الازدياد والإتمام، وحض على أسبابه وعلله.
وربما كان القصد خلاف ذلك، أعني أن يكون غرض المثنى في المغيب مخادعة المثنى عليه، والطمع في أن يبلغه ذلك عنه فيتنفق عليه، ويستميله، ويستجر به منافعه وهو حينئذ شبيه بالحالة الأولى في المكر، ومستقبح.
وربما قصد الأول في الثناء والمدح في الوجه الصدق لا الملق، فيصير مستحسناً إلا بقدر ما يظن أن الممدوح يغتر به فيقصر في الاجتهاد.
فقد تبين أن الثناء يحسن بحسب قصد المثنى وأغراضه، وبحسب صدقه فيه وكذبه، وعلى قدر استصلاحه للمثنى عليه أو استفساده، ولكن الأمر محمول على الغائب في الظن والعادة فيه.
ولما كان الأمر على الأكثر كما ذكرناه، وعلى ما حكيناه - قبح في البوه، وحسن في المغيب، وإن جاز أن يقع بالضد فيحسن في الوجه ويقبح في المغيب.
مسألة طبيعية لم أحب الإنسان أن يعرف ما جرى
من ذكره بعد قيامه من مجلسه حتى إنه ليحن إلى أن يقف على ما يؤبن به بعد وفاته، ويحب أن يطلع على حقيقة ما يكون ويقال؟ وكيف لم يتصنع لفعل ما يحب أن يكون منسوباً إليه مزيناً به؟ هذا ومحبته لذلك طبيعة لو رام زواله عنها لما أطاق ذاك، وإن كابر طباعه، وأراد خداعه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تقدم لنا في بعض هذه الأجوبة التي مضت أن للنفس قوتين: إحداهما هي التي بها يشتاق الإنسان إلى المعارف واستثباتها، ولما كانت هذه المعرفة عامة له في سائر الأشياء كانت بما يخصه في نفسه التي هي محبوبته ومعشوقته - أولى.
فالإنسان يشتاق إلى هذه المعرفة بالطبع الأول، والقوة التي هي ذاتية للنفس، ثم يتزيد هذا التشوق، ويشتعل ويقوى؛ لأجل اختصاصه بمعرفة أحوال نفسه المحبوبة.
فأما تصنعه لفعل ما يحب أن يكون منسوباً إليه فإنه ليس يتركه إلا أن يعترضه عارض آخر من شهوة عاجلة تقاومه، فهي أغلب وأشد مجاذبة له كما ضربنا به المثل فيما تقدم من علم المريض بحفظ الصحة، وحاجته إليها، ثم إيثاره عليها نيل شهوة دنية عاجلة، وإن فاتته الصحة المؤثرة في العاقبه.
ولولا هذه الشهوات الدنية المعترضة على السعادات المؤثرة - ما تميز الفاضل من الناقص، ولا مدح العفيف، وذم النهم - ، وكنا حينئذ لا ننتفع بالآداب والمواعظ، وكان لا يحسن منا التعب والرياضة فيما على الطبيعة فيه كلفه ومشقة.
وهذا بين كاف في جواب المسألة.
مسألة اختيارية قال لم حمق الشاب إذا تشايخ وأخذ نفسه بالزماته والمتانة، وآثر الجد واقشعر من الهزل، ونبا عن الخنا، وسدد طرفه في مشيه، وجمع عطفه في قعوده، وشقق في لفظه، وحدق في لحظه؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: السبب في ذلك أن الشاب إذا تشايخ فإنما يظهر أن لا حركة لطبيعته نحو الشهوات، وهذه القوة والطبيعة هي في الشباب على غاية التمام والتزايد؛ لأنها في حال النشوء، ولا تزال متزيدة إلى أن تبلغ غايتها، وتقف، ثم تنتقص على رسم سائر قوى الطبيعة، فإذا ادعى الشاب مرتبة الشيخ التي قد انحطت فيها هذه القوة علم أنه كاذب فاستقبح منه الكذب والرياء في غير موضعه، ومن غير حاجة إليه.
والكذب إذا كان صراحاً وغير خفي، وكان صاحبه يأتيه من حاجة إليه ازداد مقت الناس له، واستبدل به على رداءة جوهر النفس.
فإن اتفق لهذا الشاب أن يكون صادقاً، أعني أن تكون طبيعته ناقصة، وشهوته خامدة - استدل على نقصان طبائعه، وبرىء من عيب الكذب، إلا أن يكون مرحوماً لأجل نقص بعض طبائعه عما فطر عليه الناس، ويصير بالجملة غير مذموم، ولا معيب إذا كان صادقاً.
وأما إن كان صادقاً في ضبط نفسه مع حداثة سنه، والتهاب شهواته، ومنازعة قواه إلى ارتكاب اللذات، فإن مثل هذا الإنسان لا يلبث أن يشتهر أمره، ويعظم ذكره، ويصير إماماً معصوماً، أو نبياً مبعوثاً، أو ولياً مستخلصاً.
وليس يخفى على الناس المتصفحين حركات الصادق من حركات الكاذب، وأفعال المتصنع من أفعال المطبوع.
على أن هذا الشاب الصادق الذي استثنينا به إنما يوجد في القرانات الكبيرة والأزمنة المتفاوتة، والأكثر هو ما قدمنا الكلام فيه، فلذلك سبق الناس إليه بالحكم عليه.
فأما المسألة التالية لهذه وهي قولك: وعلى هذا لم سخف شيخ تفتى وحرك منكبيه، وحضر مجالس اللهو، وطلب سماع الغناء، وآثر الخلاعة، وأحب المجون؟ وما المجون والخلاعة حسب ما جرى ذكرها؟.
فإن الجواب عنها شبيه الأولى؛ لأنها عكسها وذلك أن الشيخ إذا ادعى تزيد قوى طبيعته في حال الشيخوخة لم يخل من كذب يمقت عليه - لا سيما وكذبه إنما هو في ادعاء شرور ونقصانات كان ينبغي له، ولو كانت موجودة له، أن بجحدها - أو صدق يوبخ عليه إذا لم يقهر هذه القوة الغالبة عليه في الزمان الطويل الذي مد له فيه، ويتنبه في مثله على الفضائل، ويتمكن فيه من رياضة النفس، واستكمال التأديب، فحاله أقبح من حال الشاب الذي سبق الكلام فيه؛ ولذلك هو أمقت وأقبح صورة عند ذوي العقول.
فأما المجون فهو المسارعة إلى فعل ما تستدعيه النفس الشهوانية من غير مشاورة للعقل، ولا مراقبة للناس.
وأما الخلاعة فاشتقاقه من خلع العذار الذي يضبط به العقل أفعاله.
ولفظة العقل شبيهة بذلك؛ لأنه من العقال.
وكذلك الحجر.
مسألة خلقية لم خص اللئيم بالحلم ؟
وخص الجواد بالحدة ؟
وهل يجتمع الحلم والجود، وهل تقترن الحدة واللؤم؟ وما حكمهما في الأغلب، فإن الثابت على وجه غير المتقلب إلى وجه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أظنك أردت بالبخيل اللئيم؟ وبينهما فروق.
وقد تكلمت على مرادك لأن باقي الكلام يدل عليه.
فلعمري إن ذلك في الأكثر كذلك وإن كان قد ينعكس الأمر فيوجد حليم جواد، وبخيل حديد، إلا أن الأولى أن يكون الجواد حديداً، وذلك أن البخيل هو الذي يمنع الحق من مستحقيه على ما ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي، وكما ينبغي، فإذا منه البخيل الحق على الوجوه التي ذكرت صار ظالماً، وإذا أحس بهذه الرذيلة من نفسه وجب أن يصبر على المتظلمين وهم الذامون؛ لأنه من البين أن البخيل إذا ذمه الذام فإنما يذكره مواقع ظلمه، وإخراج الحق الذي عليه على غير الوجوه التي تنبغي.
وإذا كان الذام صادقاً والبخيل يعرف صدقه بما يجده من نفسه، فيجب أن يحلم لا محالة؛ لموافقته الصدق، ولأن النفس بالطبع تسكن عند الصدق، وتستخذي له، فالأشبه بالنظام الطبيعي أن يكون البخيل حلما لما ذكرناه وربما عرض ضد ذلك، وهو إذا كان البخيل جاهلاً بالحقوق التي تجب عليه على الشرائط التي ذكرناها، فإذا جهل ذلك لم يعرف صدق من يصدقه عنه، ولا ظلمه وإنصافه، وفيعرف قبح أفعاله، فتعرض له رذيلتان: إحداهما منع الحق،والأخرى الجهل بموضع الحق، فربما عرض للجاهل الحدة والنزق، والعدول عن الحلم، لما ذكرناه، وأخبرنا السبب فيه.
فأما قولك: لم خص الجواد بالحدة فمسألة غير مقبولة؛ لأن الجواد ليس يختص بالحدة؛ وذلك أن حقيقة الجود هو بذل ما ينبغي فيالوقت الذي ينبغي على ما ينبغي، ومن كانت له هذه الفضيلة لم ينسب إلى الحدة؛ لأن الحديد لا يميز هذه المواضع، فهو يتجاوز حد الجواد، وإذا تجاوزه سمى مسرفاً ومبذراً، ولم يستحق اسم المدح بالجود.
ولكن لما كانت لغة العرب وعادتها مشهورة في وضع الجود موضع السرف والتبذير حتى إذا كان الإنسان في غاية منهما كان عندهم أشد استحقاقاً لاسم الجود - خفي عليهم موضع الفضيلة، ومكان المدح، وصارت الحدة المقترنة بالمبذر والمسرف على حسب موضوعهم محمودة؛ لأنها لا تمكن من الروية، فيبادر صاحبها إلى وضع الشيء في غير موضعه فيسمى مسرفاً عند الحكاء.
وقد تبين في كتب الأخلاق أن الجود الذي هو فضيلة وسط بين طرفين مذمومين: أحدهما تقصير، والآخر غلو.
فأما جانب التقصير من الجود فهو الذي يسمى البخل، وهو مذموم، وأما الجانب الذي يلي الغلو فهو الذي يسمى السرف.
والواجب على من أحب استقصاء ذلك أن يقرأه من كتب الأخلاق فإنها تستغرق شرحه.
مسألة طبيعية واختيارية لم كان الإنسان محتاجاً إلى أن يتعلم العلم؟
ولا يحتاج إلى أن يتعلم الجهل، ألأنه في الأصل يوجد جاهلاً؟ فما علة ذلك؟ فبإثارة علته يتم الدليل على صحته.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تبين في المباحث الفلسفية أن العلم هو إدراك النفس صور الموجودات على حقائقها، ولما قال بعض الأوائل: إن النفس مكان للصورة استحسنه أفلاطون، وصوب قائله؛ لأن النفس إذا اشتاقت إلى العلم الذي هو غايتها نقلت صورة المعلوم إلى ذاتها حتى تكون الصورة التي تحصلها مطابقة لصورة المنقول منه، لا يفضل عليها، ولا ينقص منها، وهو حينئذ علم محض.
وإن كانت الصورة المنقولة إلى النفس غير مطابقة للمنقول فليس بعلم.
وهذه الصورة كلما كثرت عند النفس قويت على استثبات غيرها والنفس في هذا المعنى كالمناصب للجسد؛ وذلك أن الجسد إذا حصلت فيه صورة ضعف عن قبول صورة غيرها، إلا بأن تنمحي الصورة الأولى منه، أو تتركب الصورة الأولى والثانية الواردة فتختلط الصورتان ولا تحصلان ولا إحداهما على التمام، وليست النفس كذلك.
ولما كانت نفس الإنسان هيولانية مشتاقة إلى الكلام الموضوع لها بأن يتصور بصورة الموجودات كلها، أعني الأمور الكلية دون الجزئية، وكانت قوية على ذلك، وكانت صورة الموجودات فيها غير مضيفة بعضها مكان بعض، بل هي بالضد من الأجسام في أنها كلما استثبتت صورة في ذاتها قويت على استثبات أخرى، وخلصت الصور كلها بعضها من بعض وذلك بلا نهاية - كان الإنسان محتاجاً إلى تعلم العلم أي إلى استثبات صور الموجودات، وتحصيلها عنده.
فأما الجهل فاسم لعدم هذه الصور والمعلومات، ونحن في اقتناء هذه الصور محتاجون إلى تكلف واحتمال مشقة وتعب إلى أن تحصل لنا.
فأما عدمها فليس مما يتكلف ويتجشم، بل النفس عادمة لذلك.
ومثل ذلك من المحسوس صورة لوح لا كتابة فيه، وإثبات الكتابة، وصور الحروف يكون بتكلف، فأما تركه بحاله فلا كلفه فيه، إلا على مذهب من يرى صور الأشياء موجودة للنفس بالذات، وإنما عرض لها النسيان، وان العلم تذكر وإزالة لآفة النسيان عن النفس.
ولو كان الأمر كذلك لكان جواب المسألة بحسب هذا المذهب بيناً في أن التعب بإزالة آفة واجب، وتركه مأووفاً لا تعب فيه.
ولكن هذا المذهب غير مرغوب فيه، والشغل به في هذا الموضع فضل؛ لأنه ليس من المسألة في شيء، وإن كان الكلام قد جر إليه، ولكنا ندل على موضعه فليؤخذ من هناك، وهو كتب النفس.
فقد تبين أن العلم تصور النفس بصورة المعلوم، والتصور تفعل من الصورة.
والجهل هو عدم الصورة، فكيف يستعمل التفعل من الصورة في عدم الصورة؟ هذا محال.
مسألة طبيعية لم شارك المعجب من نفسه المتعجب منه ؟
مثال ذلك: شاعر يفلق في قافية فيتعجب منه السامع حسب ما اقتضى بديعه، فالشاعر لم يتعجب أيضاً؛ وهو المتعجب منه؟ وهذا نجده في النظم والنثر، والجواب والكتاب والحساب والصناعة.
وعلى ذكر التعجب ما التعجب؟ وعلى ماذا يدل؟ فقد قال ناس فيه كلاماً: قل لبعض الحكماء:ما أعجب الأشياء؟ قال:السماء بكوا كبها.
وقال آخر: أعجب الأشياء النار.
وقال الآخر: أعجب الأشياء لسان الناطق.
وقال الآخر: أعجب الأشياء العقل اللاحق.
وقال الآخر: الشمس.
قال أرسسططاليس: أعجب الأشياء ما لم يعرف سببه.
وقال الآخر: بل أعجب الأشياء الجهل بعلة الشيء.
فعلى قياد ما قال أولئك كل شيء عجب.
وعلى ما وضع ما قال هذا الحكيم كل مجهول سببه، فهو عجب، كان ذلك من الحقير، أو من النفيس.
وقال آخر: أعجب الأشياء الرزق؛ فإن مناطه بعيد، وغوره عميق، والعقل مع شرفه فيه جيران، والعاقل مع اجتهاده سكران.
وقال آخر: لا عجب.
وصدق.
فما هذا التفاوت والتباين، وليس في الحق اختلاف، ولا في الباطل ائتلاف؟ وعلى ذكر الحق والباطل، ما الحق والباطل؟ وينتظم في هذا الفصل.
قال بعض الأولين: أعجب الأشياء إكداء الوافر، ومنال العاجز.
وقال آخر من الصوفية: - وشاهدته وناظرته واستفدت منه - أعجب الأشياء بعيد لا يجحد، وقريب لا يشهد، وهو الحق الأحد.
وعلى ذكر الله تعالى، بم يحيط العلم من المشار إليه باختلاف الإشارات والعبارات؟ أهو شيء يلتصق بالاعتقاد؟ أم هو مطلق لفظ بالاصطلاح؟ أم هو إيماء إلى صفة من الصفات مه الجهل بالموصوف؟ أم هو غير منسوب إلى شيء بعرفان؟ فإن كان منعوتاً بنعت، فقد حصره الناعت بالنعت.
وإن كان غير منعوت، فقد استباحه الجهل، وزاحمه المعدوم.
ولا بد من الإثبات إذا إستحال النفي، وإذا وقف الإثبات والنفى على المثبت النافي، فقد سبق إذن كل إثبات ونفى.
فإن كان سابقاً كل هذه الألفاظ، وجميع هذه الأغراض، فما نصيب العارف؟ وما بغية ما ظفر به الموحد؟ هيهات! هيهات! اشتد الغلط، ورجع كل إلى الشطط، وفات الله الفهم والفاهم، والوهم والواهم، وبقي مع الخلق علم مختلف فيه، وجهل مصطلح عليه، وأمر قد تبرم به، ونهى قد ضجر منه: وحاجة فاضحة، وحجة داحضة؛ وقول مزوق، ولفظ منمق، وعاجل معشق، وآجل معوق، وظاهر ملفق، وباطن ممزق.
إلى الله الشكوى من غلبات الهوى، وسطوات البلوى؛ إنه رحيم ودود.
الجواب: قال أبو مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة التي ذنب فيها صاحبها بمسائل أعظم منها، وأبعد غورا، وأشد اعتياصاً، وأصابه فيها ما كان أصابه قبل في مسألة تقدمها، فظهر لي في عذره أنه داء يعتريه، ومرض يلحقه، وليس من طغيان القلم، ولا سلاطة الهذر، ولا أشر الاقتدار في شيء، كما أنه ليس من جنس ما يستخف المتكهن عند الكهانة، ولا من نمط ما يعترى المتواجد من الصوفية، وما أحسبه إلا من قبيل المس والخبل والطائف من الشيطان الذي يتعوذ بالله منه، فلقد أطلق في سجاعته القافية بما تسد له الآذان، وتصرف عنه الأبصار والأذهان.
ولولا أنه اشتكى إلى الله تعالى في آخرها من سطوات البلوى فاعترف بالآفة، واستحق الرأفة، لكان لي في مداواته، شغل عن تسطير جواباته.
إفهم - عافاك الله - أن أثار النفس وأفعالها كلها بديعة عند الحس وأصحابه، ولذلك تجد أكثر الناس متعجبين من النفس نفسها، ومتحيرين فيها، ظانين بها ضروب الظنون، وليس يخلون مع كثرة تفننهم في هذه الظنون من أن يجعلوها جسماً على عاداتهم في الحس، وتصورهم في المحسوسات، ثم يجدون أفعال هذه النفس وآثارها غير مشبهة شيئاً من آثار الجسم وأفعاله، فيزداد تعجبهم، ولو أنهم حصلوا مائية النفس لكان تعجبهم من آثارها أقل؛ إذ كانت هي غير جسم، ولو صح لهم أنها جسم لم يكن بديعاً عندهم أن تكون آثارها غير جسمانية.
ولما كان الشاعر المفلق، والناظر في المسألة العويصة مكن الحساب وغيره من الصناعات - إنما يستدعي نظراً نفسانياً، ووجوداً عقلياً، ويحرك نفسه حركة غير مكانية؛ ليظفر بمطلوب غير جسماني، ثم وجد هذه الحركة من النفس مفضية بالإدمان والإمعان إلى وجود المطلوب - عجب هو أولاً من هذه الحركة التي يجدها من نفسه ضرورة، وليست مكانية على عادة الجسم في حركة الجسم، ثم من وجوده المطلوب بعقب هذه الحركة.
عرض له هذا العارض من التعجب ولم يكن السامع أولى بهذا التعجب منه؛ لأنهما قد اشتركا في الجهل بالنفس، وبآثارهما وأفعالهما، وكل واحد منهما حقيق بالتعجب.
فأما العارف بالنفس وجوهرها، العالم أنها ليست بجسم، وأن آثارها وأفعالها لا يجب أن تكون جسمانية - فإنه لا يعترض له هذا العارضفي نفسه، وكذلك صورة مستمعة إذا كان عالماً كعلمه.
فأما التعجب نفسه الذي سأل عنه السائل في عرض مسألته الأولى فإنه حيرة تعرض الإنسان عند جهل السبب، فكلما كانت المعرفة بأسباب الموجودات أقل كانت المجهولات أكثر، والتعجب بحسبها أشد، وبالضد إذا كانت المعرفة بأسباب الموجودات أكثر، كانت المجهولات أقل، والتعجب بحسبها أقل؛ ولذلك قال قوم: كل شيء عجب.
وقال قوم: لا عجب من شيء.
فإن كانت الطائفة الأولى اعترفوا بالجهل العام، وزعموا أنهم يجهلون أسباب الأمور، فالطائفة الثانية ادعت لنفسها مزية عظيمة؛ لأنهم زعموا أنهم يعرفون أسباب الأمور.
فأما قولك - أعزك الله - عندما عددت أقوال المتكلمين في التعجب - ما هذا التفاوت والتباين وليس في الحق اختلاف، ولا في الباطل ائتلاف؟ فالجواب: أن التعجب ليس بشيء له طبيعة، ولا وجود له من خارج وإنما هو كما ذكرنا النفس عند جهلها السبب، ولما كان ما يجهله زيد قد يعلمه عمرو، ولم ينكر تفاوتهما في العجب؛ لأن كل واحد منهما متعجب مما يجهل سببه، ومجهول هذا هو بعينه معلوم هذا.
وإنما كانت تكون المسألة عويصة وبديعة لو كان لأمر ما وجود من خارج ثم اختلف فيه قوم فضلاء يعتد بآرائهم، ويذكر تباينهم، وقال قوم منهم: هو حق، وقال آخرون: هو باطل.
على أن مثل هذا قد وقع في مسألة الخلاف، وفي الزمان والمكان والعدم وأشباهها من المسائل، فقال قوم: هي جواهر لا أجسام لها، وقال قوم: هي أعراض، وقال آخرون: ليست أجساماً ولا جواهر ولا أعراضاً.
واحتج كل قوم بحجج قوية.
إلا أن جميع هذه المذاهب تحررت في زمان الحكيم، واستقر قرارها، ووضح مشكلها، وبان صحيحها من سقيمها.
وليس من شأننا الإطالة في هذه المسائل، فنذكرها ونحكيها.
فإن أحببت معرفتها فقف عليها من مظانها، وجرد لها مسائل لنفرد لها زماناً ونظراً، إن شاء الله.
وأما سؤالك في آخر هذه المسألة: بم يحيط على الخلق من المشار إليه بقولنا الله باختلاف الإشارات والعبارات؟ مع سائر ما ذكرت، فغير معترف بشيء منه، ولا يقول أحد إنه يحيط علمه بشيء من هذا، ولا يلصق به كما ذكرت، ولا يعترف أيضاً بهذه النعوت فيه.
والكلام في هذا الموضوع لا يمكن استقصاؤه؛ إذ كان جميع سعى الحكماء بالفلسفة إنما ينتهى إلى هذا، وإياه قصد بالنظر كله، وليس يمكن أن يتكلم فيه إلا بعد جميع المقدمات التي قدمت له ومهدت لأجله، أعنى الرياضيات والطبيعيات، ثم ما بعد الطبيعة من علم النفس والعقل، ثم بعد معرفة جميع هذه الجواهر الشريفة يمكن أن يعلم أنها محتاجة ناقصة متكثرة مضطرة إلى سبب أولى، وموجد قديم، ومبدع ليس كهي في ذات ولا صفة فيكون هذا الجهل أشرف من كل علم سبقه، وهو من الصعوبة والغموض بحيث تراه.
ولو كان إلى معرفة هذا الموضع طريق غير ما ذكرناه لسلكه القدماء وأهل الحرص على إشاعة الحكمة وإذاعتها، فإنهم - رضى الله عنهم - ما أسفوا ولا بخلوا، ولكن لم يجدوا إلى هذا المطلوب إلا طريقاً واحداً فسلكوه وسهلوه بغاية جهدهم، ودلوا عليه، وأرشدوا عليه، وهو غاية سعادة البشر، فمن اشتاق إليه فليتكلف الصبر على سلوك الطريق إليه صعباً كان أو سهلاً، وطويلاً كان أم قصيراً، على عادة المشتاق فإنه يسلك السبيل إلى الظفر بمحبوبه كيف كانت، غير مفكر في الوعورة والبعد.
ومن لم يعط الصبر على هذا السلوك فليقنع برخص الألفاظ والصفات المطلقة له في الشرائع الصادقة المعتادة، وليصدق الحكماء والأنبياء والمقتدين بهم، وليحسن الظن، فليس يجد غير هذين الطريقين.
والله ولى المعونة والتوفيق.
مسألة اختيارية لم اشتد الأنس واستحكم والتحمت الزلفة، وطال العهد - سقط التقرب، وسمج الثناء؟ ومن أجله قيل: إذا قدم الإخاء سقط الثناء.
وهذا عيانة مشهود، وخبره موجود.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الثناء في الوجه وغير الوجه إنما هو إعطاء المثنى عليه حقوقه من أوصافه الجميلة، والاعتراف بها له، وإعلامه أن المثنى قد شعر بها، وأوجبها له، وسلمها إليه؛ ليصير ذلك له قربة ووسيلة، ولتحدث بينهما المودة والمشاكلة، وليستجلب الود، وتستحكم المعرفة.
فإذا حصلت هذه الأمور في نفس كل واحد منهما، وعلم المثنى عليه أن المثنى قد أنصفه، وسلم إليه حقه، واعترف له بفضله، ولم يبخسه ماله، وحدثت المودة والمحبة التي هي نتيجة الإنصاف، وثمرة العدل، وقدمت هذه الحال، وأتى عليها الزمان - سمج تكلف إظهار ذلك ثانياً؛ لذهاب الغرض الأول، وحصول الثمرة المطلوبة بالسعى الأول.
وتكلف مثل هذا عبث وسفه، مع ما فيه من إيهام ضعف اليقين الثناء الأول، وأنه احتاج إلى تطرية وتجديد شهادة؛ لأن الشهادة الأولى كانت زوراً، وظناً مرجماً.
وهذا توهين لعقد المودة التي شهد لها في المسألة بشدة الأسر، واستحكام الأصل، ووثاقة السبب.
مسألة طبيعية لما صار الأعمى يجد فائته من البصر
في شيء آخر ؟
كمن نجده من العميان من يكون ندى الحلق، طيب الصوت، غزير العلم، سريع الحفظ، كثير الباه، طويل التمتع، قليل الهم.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن للنفس خمسة مشاعر تستقي منها العلوم إلى ذاتها، وكأنها في المثل منافذ وأبواب لها إلى الأمور الخارجة عنها.
أو مثل أصحاب أخبار يردون إليها أخبار خمس نواح.
وهي متقسمة القوة إلى هذه الأشياء الخمسة.
ومثالها أيضاً في ذلك مثال عين ماء ينقسم ما ينبع منها إلى خمسة أنهار في خمسة أوجه مختلفة.
أو مثال شجرة لها خمس شعب، وقوتها منقسمة إليها.
وقد علم أن هذه العين متى سد مجرى ماء أحد أنهارها توفر على أحد الأنهار الأربعة الباقية أو انقسم فيها بالسواء، أو على الأقل والأكثر منها، وليس يغور ذلك القسط من ماء النهر المسدود، ولا يغيض، ولا يضيع.
وكذلك الشجرة إذا قطعت شعبة من شعبها صار الغذاء الذي كان ينصرف إليها من أصول الشجرة وعروقها - متوفراً على شعبها الأربع الباقية؛ حتى تبين في ساقها وورقها وأغصانها، وفي زهرها وحبها وثمرها، وقدعرف الفلاحون ذلك، وأصحاب الكروم، فإنهم يقضبون من الشجر الشعب والأغصان التي تستمد الغذاء الكثير من الأصول؛ ليتوفر على الباقي فيصير ثمراً ينتفعون به.
وكذلك صنيعتهم في الأشجار التي لا تثمر إذا أحبوا أن تغلظ ساق واحدة منها، وتستوى في الانتصاب ويسرع نموها كأشجار السرو والعرعر والدلب وأشباهها مما يحتاج إلى خشبه بالقطع والنحت والنجر، فإنهم يتأملون أي الأغصان أولى بأن ينبت مستوياً غير مضطرب، وأيها أحق بالأصل الذي يمده بالغذاء فيبقونه، ويحذفون الباقي فينشأ ذلك الغصن في أسرع زمان وأقصر مدة؛ لأنصراف جميع الغذاء إليه.
وإذا كان هذا ظاهراً من فعل الطبيعة، فكذلك حال الأعمى في أن إحدى قوى نفسه التي كانت تنصرف إلى مراعاة حس من حواسه لما قطعت عن مجراها توفرت النفس بها إما على جهة واحدة، أو جهات موزعة، فتبينت الزيادة، وظهرت إما في الذهن والذكاء أو الفكر، أو الحفظ، أو غيرها من قوى النفس.
وهذا يبين لك أيضاً باعتبار الحيوانات الأخر؛ فإن منها ما هو في أصل الخلقة وبالطبع مضرور في أحد حواسه، أو فاقد له جملة، وهو في الباقيات منها أذكى من غيره جداً كالحال في الخلد؛ فإنه لما فقد آلة البصر كان أذكى شيء سمعاً، وكالحال في النحل، فإنه لما ضعف بصره كان أدهى من المبصرات شماً.
وأنت تعرف ضعف بصر النحل والنمل والجراد والزنانير وما أشبهها من الحيوانات التي لا تطرف ولم تخلق لها جفون، وعلى أبصارها غشاء صلب حجري يدفع عنها الآفات - بما يعرض لها في البيوت التي لها جامات الزجاج؛ فإن أحدها يظن أن الجام كوة نافذة إلى الهواء فلا يزال يصدمه إرادة للخروج إلى أن يهلك.
فأما صدق شمه فهو ظاهر بما يقصده من المشمومات عن المسافة البعيدة جداً.
فأما تمتع الأعمى بالباه، وقلة الهم، فإن سببه أيضاً فقد النفس إحدى آلاتها التي كانت تقتطعه عن هذه الأشياء بمراعاتها، فإذا انصرفت إلى الفكر في شيء آخر قوى فعلها فيه.
ولما كانت الاهتمامات بالمبصرات كثيرة، ودواعي النفس إلى اقتنائها شديدة كالملبوسات وأصنافها، والمفروشات وأنواعها، والمتنزهات وألوانها، وبالجملة جميع المدركات بالبصر - ثم فقدته، انقطعت عن أكثر الأشياء التي هي هموم الإنسان، وأسبابه في الفكر، واستخراج الحيل في تحصيلها وقت الطمع فيها، وأسفه على فوتها إذا فاتته، فتقل هموم الأعمى لأجل ذلك.
مسألة طبيعية واختيارية لم قال الناس لا خير في الشركة ؟
وهذا نجده ظاهر الصحة؛ لأنا ما رأينا ملكاً ثبت، ولا أمراتم، ولا عقداً صح بشركة، وحتى قال الله - عز ذكره - " بسم الله الرحمن الرحيم " لو كان آلهة إلا الله لفسدتا " صدق الله العظيم " وصار هذا المعنى أشرف دليل في توحيد الله - جل ثناؤه - ونفى كل ما عداه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما صارت الشركة بهذه الصفة لأن كل من استغنى بنفسه، وكفته قوته في تناول حاجته لم يستعن فيها بغيره، فإذا عجز واحتاج إلى معاونة غيره اعترف بالنقص، واستمد قوة غيره في تمام مطلوبه.
ولما كان العجز مذموماً، والنقص معيباً كانت الشركة التي سببها العجز والنقص معيبة مذمومة؛ لأنه يستدل بها على نقص المتشاركين جميعاً وعجزهما.
على أن الشركة للإنسان ليست مذمومة في جميع أحواله، بل إنما تذم في الأشياء التي قد يستقل بها غيره، وينفرد باحتمالها سواه، كالكتابة وما أشبهها من الصناعات التي لها أجزاء كثيرة، وقد يجمعها إنسان واحد فيستقل بها، وينفرد بالصناعة أجمعها، فإذا نقص فيها آخر واحتاج إلى الإستعانة بغيره ظهر نقصه، وبان عجزه، ودخل في صناعته خلل.
أو كاحتمال مائة رطل من الثقل، فإن الإنسان الواحد يكمل له، ويستقل به، فإذا احتاج إلى غيره في احتماله دل على نقصه وعجزه وخوره.
ثم يعرض في الأمر المشترك فيه من النقص والتفاوت لأجل القوى المختلفة، والهمم المتباينة، والأغراض المتضادة التي قد تعاورته - ما لا يعرض في غيره من الأمور التي ينفرد بها ذو القوة الواحدة، وتخلص فيها همة واحدة، ويختصها غرض واحد؛ فإن مثل هذا ينتظم ويتسق، ويظهر فيه فضل بين على الأول.
فأما الأمور التي لا يكمل الإنسان الواحد لها، ولا يستقل بها أحد، فإن الشركة واجبة فيها، كاحتمال حجر الرحى، ومد السفن الكبار وغيرها من الصناعات التي تتم بالجماعات الكثيرة، وبالشركة والمعاونة؛ فإن هذه الأشياء وإن كانت الشركة فيها واجبة؛ لعجز البشر، وكان الذم ساقطاً، ومصروفاً عن أصحابها بما وضح من عذرهم فيها - فإن المعلوم من أحوالها أنها لو ارتفعت بقوة واحدة، وتمت بمدبر واحد كانت لا محالة أحسن انتظاماً، وأقل اضطراباً وفساداً، وأولى بالصلاح وحسن المرجوع.
فالشركة بالإطلاق دالة على عجز الشريكين، وعائدة بعد على الأمر المشترك فيه بالخلل والفساد عما يتم بالتفرد، وإن كان البشر معذورين في بعضها وغير معذورين في بعض.
وأما الملك البشري فإنه لما كان من الأمور التي تنتظم بتدبير واحد، وأمر واحد - وإن اشتركت فيه الجماعة فإنهم يصدرون عن رأي واحد، ويصيرون كآلات للملك، فتتآحد الكثرة، ويظهر النظام الحسن - كان الاستبداد والتفرد به أفضل لا محالة، كما مثلناه فيما تقدم.
فإذا اختلفت الجماعة التي تتعاون فيه، ولم تصدر عن رأي واحد ظهر فيه من الخلل والوهن والتفاوت ما يظهر في غيره باختلاف الهمم، وانتشار الكثرة المؤدي إلى فساد النظام المتآحد، ثم يكون فساد أعم وأظهر ضرراً بحسب غنائه وعائدته وعظم محله وجلالة موضعه.
وقد أبان الله - تعالى - جميع ذلك بأخصر لفظ وأوجز كلام وأظهر معنى، وأوضح دلالة في قوله عز من قائل " بسم الرحمن الرحيم " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " صدق الله العظيم " سبحانه وجل ثناؤه ولا إله غيره.
مسألة اختيارية لم فزع الناس إلى الوسائط في الأمور
مع ما قالوه في المسألة الأولى من فساد الشركة والشركاء ؟
حتى إن جماهير الأمور ومعاظم الأحوال، في الشريعة والسياسة، لا تتم ولا تنتظم إلا بوسيط يلحم ويسدي، ويرتق ويفتق، ويحسن ويجمل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لما كانت ضرورات الناس داعية إلى شركة الأحوال التي قدمنا ذكرها في المسألة الأولى، وكان كل إنسان يحب نفسه، ويحب لها المنفعة، ويحرص على الاستئثار بها دون صاحبه - ظهر الفساد، وحدث التظالم الذي ذكرته في المسألة المقدمة، ولم يثق أحد المشاركين في الأمر بصاحبه؛ لأنه ذو نصيب فيه، ومحبة للمنفعة العائدة منه لنفسه، وكان للهوى تطرق إليه، وتسلق عليه فاحتاجا إلى واسطة تكون حاله في ذلك الأمر برية من حالهما؛ ليعتدل حكمه، ويصح رأيه، ويعطى كل واحد قسطه ونصيبه من غير حيف ولا هوى.
وليس يجب إذا كانت الشركة مذمومة أن يخلو منها الإنسان؛ لأنه يضطر بالضعف البشري إليها كما ضربنا له المثل من الحمل الثقيل، أو كثرة أجزاء الشيء المنظور فيه.
فإن تركت الشركة في مثل هذه الأمور، وأهملت المعاونة، فات ذلك الأمر دفعة، وفي فوته فوت منافع عظام، فكان تحصيله على ما يقع فيه من الخلل أولى من تركه رأساً.
وأكثر أمور البشر لا يتم إلا بالمعاونة والتشارك؛ لعجزهم عن التفرد، ونقصهم عن الكمال، وظهور أثر الخلق والإبداع فيهم، فلما كان المتشاركون في الأمر أكثر عددا، والآراء أشد اختلافاً، والأهواء أغمض مدخلاً - كانت الحاجات إلى الوسائط أصدق، والضرورة إليهم أشد.
والسياسة من هذه الأمور، أعني التي تكثر فيها الأهواء، ويحتاج فيها إلى الإشتراك والتعاون فيحتاج فيه إلى من يصدق رأيه، ويسلم من الهوى والعصبية، فإن أمكن أن يكون الوسيط خلوا من ذلك الأمر كان أجدر بالحكم العدل، والرأى الصائب، وإن لم يكن ذلك اجتهد أن يكون حظه في الأمر أقل من حظ المختصمين، أو يكون أكثر ضبطاً للنفس، وأقمع للهوى، وأكثر رياضة من غيره، وكل ذلك ليسلم من داعي الهوى، والميل معه، والانصباب إليه؛ لتتفق الكلمة، ويحدث العدل الذي هو سبب التآحد وزوال الكثرة.
مسألة طبيعية خلقية لم طال لسان الإنسان في حاجة غيره إذا عنى به، وقصر لسانه في حاجته مع عنايته بنفسه؟ وما السر في هذا؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: بنية الإنسان وتركيبه ومبدأ خلقه وقه على أنه ملك، فكل إنسان له أن يكون ملكاً بما أعد له من القوى المساعدة عليه، ولا ينبغي لأحد أن يقصر عن أحد في هذا المعنى إلا لآفة أو نقص في البنية.
ولما عرض للواحد بعد الواحد أن يسأل غيره، مع أن موضوعه موضوع الآخر، ولم يكن بأن يحتاج إلى صاحبه أولى من أن يحتاج صاحبه إليه - وجب أن تحدث له عزة نفس تمنعه من التذلل.
ولهذه العلة وجب التمدن، وحدث الاجتماع والتعاون، وحسن بين الناس التعامل، وأن يدفع الإنسان إلى صاحبه حاجته إذا كانت عنده؛ ليستدعي مثلها منه، فيجدها أيضاً عنده.
فالسائل إذا لم يكن معوضاً ولا معاملاً، والتمس الرفد من غيره من غير مقابلة عليه، ولا وعد من نفسه بمثله - كان كالظالم، وأيسر ما فيه أنه قد حط نفسه عن رتبة خلق عليها، وندب إليها فقصر لسانه، واحتقر نفسه.
فأما إذا تكلم في حاجة غيره لم يعرض له هذا العارض، فكأنه إنما يحيل بهذا النقص على من تكلم عنه فانطلق لسانه، ولم تذل نفسه.
مسألة طبيعية خلقية ما سبب الصيت الذي يتفق لبعضهم بعد موته، وأنه يعيش خاملاً، ويشتهر ميتاً كمعروف الكرخي؟ الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: معظم السبب في ذلك الحسد الذي يعتري أكثر الناس، لا سيما إذا كان المحسود قريب المنزلة من الحاسد، أو كان في درجته من النسب أو الولاية والبلدية أو ما أشبهها؛ فإن هذه النسب إذا تقاربت بين الناس فاشتركوا فيها، ثم انفرد واحد منهم بفضيلة نافسه الباقون فيها، وحسدوه إياها حتى يحملهم الأمر على أن يجحدوه آخر الأمر؛ ولذلك قيل: أزهد الناس في عالم جيرانه؛ لأن الجوار وكثرة الاختلاط سبب جامع لهم يتساوون فيه؛ فإذا انفرد أحدهم بفضيلة لحق الباقين ما ذكرته.
وربما كان سبب زهدهم فيه غير هذا، ولكن الأغلب ما ذكرته.
فأما البعيد الأجنبي فإنه لما لم يجمعه وإياه سبب خف عليه تسليم الفضل له، وقل عارض الحسد فيه؛ لأجل ذلك إذا مات المحسود، وانقطع السبب الذي بينه وبين الحساد أنشئوا يفضلونه، ويسلمون له ما منعوه إياه في حياته.
مسألة خلقية ما الحسد الذي يعترى الفاضل العاقل من نظيره في الفضل، مع علمه بشناعة الحسد، وبقبح اسمه، واجتماع الأولين والآخرين على ذمه؟ وإن كان هذا العارض لا فكاك لصاحبه منه لأنه داخل عليه، فما وجه ذمه والإنحاء عليه؟ وإن كان مما لا يدخل عليه ولكنه ينشئه في نفسه، ويضيق صدره باجتلابه، فما هذا الإختيار؟ وهل يكون من هذا وصفه في درجة الكلمة أو قريباً من العقلاء؟ وقد قيل لأرسططاليس: ما بال الحسود أطول الناس غماً؟ قال: لأنه يغتم كما يغتم الناس، ثم ينفرد بالهم على ما ينال الناس من الخير.
الجواب: قال أبو على مسكويه - رحمه الله: الحسد أمر مذموم، ومرض للنفس قبيح، وقد غلط فيه الناس حتى سموا غيره باسمه مما ليس يجرى مجراه.
وهذا بعينه هو الذي غلط السائل حتى قال: ما الحسد الذي يعترى الفاضل؟ لأن من يكون فاضلاً لا يكون حسداً.
وسنتكلم على الحسد ما هو؛ لتعرف مائيته فيعرف قبحه، ويوضع في موضعه، ولا يخلط بغيره، فنقول: إن الحسد هو غم يلحق الإنسان بسبب خير نال مستحقه، ثم يتبع هذا الانفعال الرىء أفعال أخر رديئة، فمنها أن يتمنى زوال ذلك الخير عن المستحق، ويتبع هذا التمنى أن يسعى فيه بضروب الفساد فيتأدى إلى شرور كثيرة.
فمن عرض له عارض الحسد الذي حددناه فهو شرير، والشرير لا يكون فاضلاً.
ولكن لما كان هذا الغم قد يعرض الإنسان على وجوه أخر غير مذمومة غلط فيه الناس فسموه باسم الحسد، ومثال ذلك أن الفاضل قد يغتم بالخير إذا ناله غير مستحقه، لأنه يؤثر أن تقع الأشياء مواقعها، ولأن الخير إذا حصل عند الشرير استعمله في الشر إن كان مما يستعمل، أو لم ينتفع به بتة.
وربما اغتنم الفاضل لنفسه إذا لم يصب من الخير ما أصابه غيره إذا كان مستحقاً مثله.
وإنما لما اسم هذا حسداً لأن غمه لم يكن بالخير الذي أصاب غيره، بل لأنه حرم مثله.
وإذا آثر لنفسه ما يجده لغيره لم يكن قبيحاً، بل يجب لكل أحد إذا رأى خيراً عند غيره أن يتمناه أيضاً لنفسه، لأن هذا الغم لا يتبعه أن يتمنى زوال الخير عن مستحقه.
وقد فرقت العرب هذين: فسموا أحدهما حاسداً، والآخر غابطاً.
ونحن نؤدب أولادنا بأن ندلهم على الأدباء ونندبهم على فضائلهم، فإن ذا الطبع الجيد منهم يتمنى لنفسه مثل حال الفاضل، ويسلك سبيله، ويجتهد في أن يحصل له ما حصل للفاضل، وبهذه الطريقة ينتفع أكثر الأحداث.
وأما ذو الطبع الردىء فإنه يغتم بما حصل لغيره من الأدب والفضل، ولا يسعى في تحصيل مثله لنفسه، ولكنه يجتهد في إزالته عن غيره، أو منعه منه، أو يججده إياه، أو يعيبه به فهو حينئذ حاسد شرير!!! فأما قولك إن هذا العارض لا فكاك لصاحبه منه لأنه داخل عليه إلى آخر الفصل فإني أقول: إن الانفعالات - أعني ما لا يكن نحو الاستكمال - كلها مذمومة؛ لأنها من قبيل الهيولى، ولذلك لو أمكن الإنسان ألا ينفعل بتة لكان أفضل له، ولكن لما لم يكن إلى ذلك سبيل وجب عليه أن يزيل كل ما أمكن إزالته من الانفعالات؛ ليتم ويكمل، وذلك بالأخلاق والآداب المرضية، ويحصل له ذلك بسياسة الوالدين أولاً، ثم بسياسة السلطان، ثم بسياسة الناموس والآداب الموضوعة لذلك؛ فإن الإنسان يستفيد بهذه الأشياء صوراً وأحوالاً، ثم تصير قنية وملكة، وهي المسماة فضائل وآداباً.
مسألة طبيعية خلقية ما سبب الجزع من الموت ؟
وما الاسترسال إلى الموت؟ وإن كان المعنى الأول أكثر فإن الثاني أبين وأظهر.
وأي المعنيين أجل: الجزع منه أم الاسترسال إليه؟ فإن الكلام في هذه الفصول كثير الريع جم الفوائد.
الجواب: قال أبو على مسكويه - رحمه الله: الجزع من الموت على ضروب، وكذلك الاسترسال إليه.
وبعضه محمود، وبعضه مذموم؛ وذلك أن من الحياة ما هو جيد محبوب، ومنها ما هو ردىء مكروه، فيجب من ذلك أن يكون ضدها الذي هو الموت بحسبه: منه ما هو حيال الحياة الجيدة المحبوبة، فهو ردىء مكروه، ومنه ما هو حيال الحياة الرديئة المكروهة، فهو جيد محبوب.
ولا بد من تبيين هذه الأقسام ليبين سبب الجزع والاسترسال، وأيهما أعلى، فأقول: إن الحياة المقترنة بالآفات العظيمة، والمهن الهائلة، والآلام الشديدة: مثل أن يسبي الرجل وأهله وولده ويملكهم قوم أشرار حتى يرى في أهله وولده ما لا طاقة له به، ويسام في نفسه وجسمه ما لا صبر عليه، ويقع في الأمراض الشديدة التي لا برء منها، ويضطر إلى فعل قبيح بأصدقائه وبوالديه، فهذا كله ردىء مكروه، وليس أحد يختار العيش فيه، ولا يؤثر الحياة معه، فضده إذا جيد محبوب؛ لأن الموت أمام هذه المحن في مجاهدة عدو يسوم هذا السوم - موت مختار جيد.
فيجب بحسب هذا النظر أن نقول: إن تلك الحياة المكروهة يستحب فيها الموت الذي هي ضده، فالاسترسال إلى هذا الموت جيد، وسببه ظاهر.
وكذلك إذا عكست الحال، فإن الحياة المحبوبة والعيش المضبوط، التي معها صحة البدن، واعتدال المزاج، ووجود الكفاية من الوجوه الجميلة، والتمكن بهذه الأشياء من السعي نحو السعادة القصوى، وتحصيل الصورة المكملة للإنسان مع مساعدة الإخوان الفضلاء، وقرة العين بالأولاد النجباء، والعز بالعشيرة وأهل بيت الصالحين - كله محبوب مؤثر جيد.
ومقابله إذن الذي هو الموت ردىء مكروه؛ لأن الموت ينقطع به استكمال السعادة وإتمام الفضيلة، ويفوته أمراً عظيماً كان معرضاً له.
فالجزع من هذا الموت واجب، وسببه بين.
وهذا ضرب من النظر، وباب من الاعتبار.
وضرب آخر وهو أن البقاء بنفسه أمر مختار؛ لأنه وجود متصل، والوجود كريم شريف.
وضده العدم رذل خسيس، والرغبة في الشيء الكريم واجبة، كما أن الزهد في الشيء الخسيس واجب.
وإذا كانت حياة ما منقطعة لا محالة، ثم كان ذلك يفضي إلى حياة أخرى أبدية، ووجود سرمدي - صار هذا الموت غير مكروه إلا بقدر ما يكره من الدواء المر إذا أدى إلى الصحة، فإن العلاج المؤلم والدواء الكريه مختاران إذا أديا إلى صحة طويلة، وسلامة متصلة.
فإن لم يكونا مختارين بالذات فهما مختاران بالعرض.
فالإنسان المستبصر الذي يرى أن أخراه أفضل من دنياه، وآجله خير له من عاجله - يسترسل إلى الموت استرساله إلى الدواء الكريه، والعلاج المؤلم؛ ليفضي به إلى خير دائم، وإن كان هذا الأختيار بالعرض لا بالذات، وربما ظن ذلك ظناً فحسن أيضاً منه الاسترسال إليه بحسب قوة ظنه وما وقع إقناعه به، كما يحسن في الدواء إذا قوى ظنه بمعرفة واصفه له.
فأما من خلا من هذا الاعتقاد والظن القوي فهو يجزع من الموت؛ لأنه عدم ما، والعدم مهروب منه، وهذا سبب صحيح وعلة ظاهرة.
وهذا ضرب آخر من الاسترسال إلى الموت، والجزع منه، وهو أن من قوى ظنه واستحكمت بصيرته في عاقبته ومعاده ولكنه لم يقدم ما يعتقد أنه يسعد به، ولم يتأهب بأهبته، ولا استعد له عدة، فهو يكره الموت، ويجزع منه، ولا يسترسل إليه.
وبالضد من راى أنه مستعد لعدته، آخذ أهبته، فهو حريص عليه، مسترسل إليه.
وأنت ترى ذلك في أصحاب الأهواء المختلفة، والديانات المتضادة، كالهند في تسرعهم إلى إحراق نفوسهم، وإقدامهم على ضروب المثل والقتل في أبدانهم، وكالخوارج في حرصهم على الموت، وبذلهم نفوسهم في مواقفهم المشهورة، وحروبهم المأثورة، وأن الرجل إذا طعن قنع فرسه ليسبح في الرمح، وينتهي إلى طاعنه، ثم قرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم " وعجلت إليك رب لترضى " صدق الله العظيم " ؛ ولذلك اتخذ أصحاب السلطان في صدور رماحهم حاجزاً لئلا يسبح فيها المطعون فيصل إلى الطاعن.
والصابرون على أنواع العذاب، وضروب المثل والقتل من أهل الأهواء - أكثر من أن يحصوا.
وإنما ذكرنا سبب الجزع من الموت، والاسترسال إلى الموت، وأيهما يحسن، وفي أي موضع، وعلى أي حال.
مسألة طبيعية لم كانت النجابة في النحاف أكثر ؟
ولم كانت الفسولة في السمان أكثر ؟
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة كأنها عن الحال الأغلب، والوجود الأكثر.
والسبب فيه أنه لما كانت الحرارة الغريزية سبب الحياة، وسبب الفضائل التابعة للحياة، أعنى الذكاء والحركة والشجاعة وما أشبهها - كانت الأبدان التي حظها منها أكثر - أفضل.
والحكم الصحيح في هذا أن الأبدان المعتدلة في النحافة والسمن، والطول والقصر، وسائر الكيفيات الأخر - أفضل الأبدان.
ولما كانت مسألتك مخصوصة بالنحافة والسمن خصصنا الجواب أيضاً، فنقول: إن الحرارة إذا قاومت أخلاط البدن فأذابت فضول الرطوبات منه، ونفت البرد الغالب عليه هو ضده - كان ذلك سبباً للحركة واليقظة، وسبباً للإقدام والنجدة.
ويتبع هذه الأشياء سائر الفضائل اللازمة لها، وذكو الحرارة التي في القلب، وهي أول هذه الفضائل كلها.
وإذا غلبت الرطوبات عليها أطفأتها وغمرتها، وحالت بينها وبين أفعالها، وعاقتها عنها، فكان ذلك سبباً للفسولة ولواحقها من الكسل والبلادة والجبن وسائر الرذائل التي تتبعها.
والنحافة والسمن، وإن كانا جميعاً قد خرجا عن الإعتدال، فأحدهما وهو النحافة خروجه عن الاعتدال بإفراط الحرارة التي هي سبب الفضائل، وهي أولى بها من اطرف الأخر الذي ضدها، اعني السمن الذي هو خروج عن الاعتدال إلى جانب البرد وعدم الحرارة المؤدي إلى بطلانها وزوالها.
وقد تبين في كتاب الأخلاق أن أطراف الفضائل كلها مذمومة، ولكن بعضها أقرب إلى المدح.
وإن كان البعد من الوسط فيهما واحداً كان الاعتدال الممدوح بالجود والسخاء له طرفان، أحدهما البخل، والآخر التبذير، وهما جميعاً مذمومان، وخارجان من الاعتدال، إلا أن أحد الطرفين، وهو التبذير أشبه بالجود من الطرف الآخر؛ لأن أحد الطرفين بالإمعان يتأدى إلى بطلان الشيء الممدوح وعدمه، والآخر يتأدى إلى الزيادة فيه بالإفراط.
ولعمري إنهما في فقد الاعتدال سواء ولكن أحدهما أشبه به من الآخر.
وهذا هو موضع لا يدفع ولا ينكر.
مسألة طبيعية لم كان القصير أخبث، والطويل أهوج؟.
الجواب: قال أبو على مسكويه - رحمه الله: هذا أيضاً طرفان لموضع الفضيلة، وذلك أن الاعتدال من الطول والقصر هو المحمود، ولكن الطول بالتفاوت في الخلق أقرب إلى الذم، وذلك لبعد الأعضاء الرئيسية بعضها من بعض، لا سيما العضوان اللذان هما أظهر الأعضاء رياسة، أعني القلب والدماغ، فإن هذين يجب أن يكون بينهما مسافة معتدلة؛ لتتمكن الحرارة التي في القلب من تعديل برودة الدماغ، وحفظ اعتداله، وبقاء الروح النفساني الذي يتهذب في بطون الدماغ، وتتمكن أيضاً برودة الدماغ من تعديل حرارة القلب، وحفظ اعتداله عليه.
وهذا الاعتدال إذا بعد أحد العضوين من الآخر تفاوت واضطرب نظامه، وفسد التركيب، وفسدت الأفعال الصادرة عن الإنسان، ونقصت فضائله.
وليس يعرض في قرب التفاوت ما يعرض في بعد أحدهما من الآخر.
مسألة خلقية لم صار بعض الناس إذا سئل عن عمره نقص في الخبر، وآخر يزيد على عمره في الخبر؟.
الجواب: قال أبو علي بن مسكويه - رحمه الله: غلاض الرجلين أعني الناقص من مدة عمره، والزائد فيها - غرض واحد وإن اختلفا في الخبر.
وربما فعل الرجل الواحد ذلك بحسب زمانين مختلفين، أو بحسب حالين في زمان واحد.
وهو من رذائل الأخلاق؛ لأنه يوهم بالكذب فضيلة لنفسه ليست فيها.
وسبب هذا الفعل محبة النفس، وذاك أن الإنسان يحب أن يعتقد فيه من الفضل أكثر مما هو، ويحب أن يعذر في نقص إن وجد فيه.
وهو إذا كان حدثاً وظهرت منه فضيلة أو نقيصة نقص من زمان عمره، ليعلم غيره أن الفضيلة حصلت له في زمان قصير، وأن ذلك لم يكن ليتم له إلا بعناية كثيرة، وحرض شديد، ونفس كريمة، وانصراف عن الشهوات الغالبة على أقرانه، وترك اللعب الذي هو يستولى على لداته، وكلما كان الزمان أقصر كان إلى الفضيلة أقرب، وكان التعجب منه أكثر.
وإن كانت منه نقيصه عذر في فعله بقلة الحنكة والدربة،وانتظر فلاحه ورجى تلافيه وإنابته.
وإن الإنسان مرشح طول عمره لاقتناء الفضائل، والاستكثار من المعارف، ويجب أن يكون أبداً بحال من الفضل يستكثر في مثل سنه أن يبلغ إليها، أو يعجب من كثرة تدربه بالزمان القصير في الأمور التي يحتاج فيها إلى الزمان الطويل.
وأيضاً فإن المكتهل، وذا السن الكثير التجربة ممن صحب الزمان، ولقى الرجال، وتصرف في العلوم - مهيب في النفوس، جليل في الصدور، موقر في المجالس، مستشار في النوائب، مرجوع إليه في الرأي.
وهذه حال مرغوب فيها، فإذا بلغ الإنسان من السن ما يحتمل أن يدعي فيه هذه الدعوى أو يشبه نفسه بأصحاب هذه المراتب - زاد في عمره؛ لتسلم له هذه المرتبة فتعتقد فيه.
فكل واحد من الرجلين، أو الرجل الواحد في الزمانين أو الحالتين، غايته في التكذب بما ينقص من عمره التمويه بالفضل، وادعاء رتبة ليست له.
وهذا شر ظاهر فمتعاطيه شرير، وأفاضل الناس لا يعتريهم هذا الشر؛ لأنهم لا يتدنسون بالكذب، ولا يتكثرون بالباطل.
مسألة طبيعية لم صار الإنسان يحب شهراً بعينه، ويوماً بعينه؟
ومن أن يتولد للإنسان صورة يوم الجمعة على خلاف صورة يوم الخميس؟ وقيل للروذكي - وكان أكمه، وهو الذي ولد اعمى - كيف اللون عندك؟ قال: مثل الجمل.
الجواب: قال أبو على مسكويه - رحمه الله: أما محبة الإنسان شهراً بعينه فلأجل ما يتفق له فيه من شعادة ما، بحصول مأمول، أو ظفر بمطلوب، أو انتظار مرجو في وقت بعينه، أو سرور بعقب غم، أو راحة بعد تعب، وربما استمر ذلك به، وتكرر عليه مدة من عمره في وقت بعينه، فأنس به وألفه وأحبه لما يتفق له فيه، ولذلك أحب صبيان المسلمين يوم الجمعة، وألفوه بعد ذلك طول عمرهم، وكرهوا يوم السبت؛ لأن يوم الجمعة مفروض لهم فيه الراحة، مرخص لهم اللعب، ويتلوه يوم السبت الذي هو يوم تعبهم وعودهم إلى ما يكرهون من فقد اللعب.
فأما صبيان اليهود فإنما يعرض لهم ذلك في يوم السبت وما يليه، وصبيان النصارى في يوم الأحد وما يليه، وكذلك أيام الأعياد التي أطلق للناس فيها الراحة والزينة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم " أيام أكل وشرب وبعال " .
وهذه الأيام مختلفة في أصحاب الملل.
وكل قوم يحبون الأيام التي هي أعيادهم التي أطلق لهم فيها الزينة والمتعة والراحة.
وأما من تساوت به الأحوال من الأمم التي ليست تحت شرع، ولا لهم نظام في سيرتهم وأحوالهم، كالزنج وأواخر الترك وأشباههم، فليس يلحقهم هذا المعنى، وليس يحبون يوماً بعينه، ولا شهراً، ولا وقتاً مخصوصاً.
فأما تولد صورة يوم الجمعة على خلاف صورة يوم الخميس فإنه على ما أقول: إن الزمان الأظهر الأعم الأشهر هو ما تحدثه دورة واحدة من الفلك الأقصى، أعني الذي يدبر جميع الأفلاك ويحركها بحركة نفسه إلى غير جهة حركاتها، وذلك من المشرق إلى المغرب، من مفروضه إلى أن يعود إليها، وهو في أربع وعشرين ساعة.
وإنما صار هذا الزمان أظهر للناس لما يظهر فيه من صباح يعرض، ومساء بيوم وليلة، وسببهما ظهور الشمس في بعض هذه المدة فوق الأرض، وغيبتها في بعض تحت الأرض.
وتكرر هذه الأدوار هي الأيام والليالي.
وفي كل دور منها للناس أفعال وحركات ومواليد ومعاملات ليست في الدورة الأخرى.
ويتعلق بأفعالهم هذه أحكام وأقضية في مدد معلومة، وآجال مفروضة، في مدة مضروبة، يحتاجون فيها إلى نسبتها إلى دورة بعد دورة من الفلك الأقصى التي هي سبب لكون اليوم والليلة؛ لتصح معاملاتهم، وتصدق قضاياهم، وتتعين آجالهم المضروبة في أعمالهم ومعاملاتهم.
وههنا زمان آخر تحدثه دورة أخرى تختص بها الشمس في سيرها.
وذلك أن تبتدىء الشمس من نقطة مفروضة، وتعود إليها بعينها بحركة نفسها دون تحريك المحرك الأول.
وهذه الدورة هي من المغرب إلى المشرق بخلاف تلك.
وتتم الدورة الواحدة من هذه الحركة التي تخص الشمس، في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم على التقريب.
وهذا هو زمان أيضاً، ولكنه منسوب إلى حركة الشمس نفسها، ويسمى: سنة.
وههنا زمان آخر قد تعارفه الناس أيضاً، واشتهر بينهم، وظهوره وإن لم يكن كظهور الشمس فهو تال له، وهو ما يكون ويحدث بدورة واحدة من حركة القمر التي تخصه دون تحريك المحرك الأول.
وتتم الدورة الواحدة بهذه الحركة التي تخص القمر، وهي أيضاً من المغرب إلى المشرق، في ثمانية وعشرين يوماً، ويسمى شهراً.
فهذه الأزمنة الثلاثة لما كانت ظاهرة مكشوفة تراها العيون؛ لأجل تعلقها بالشمس والقمر اللذين هما أنور الكواكب وأبينها وأكبرها في الظاهر - تعارفها الناس، وتعاملوا عليها، وحدثت صورة لكل دورة بحسب ما يقسطه الناس في أعمالهم، وبحسب ما يفشو فيها ويحدث من الأعمار والمواليد وبحسب نسبة حركاتهم إليها بمبدأ ومنتهى.
وإذا نظر الإنسان إلى هذه الأدوار في أنفسها خالية من حركات الناس وأفعالهم، ولم ينسب إليها حركة أخرى، وفعلاً آخر - لم يكن بينها فرق بتة إلا بالتكرر الذي لا بد فيه من العدد بالأول والثاني والثالث، وإلى حيث انتهى الإحصاء.
فإن نظر فيها بحسب الأحوال، ونسب إليها أفعالاً وآثاراً، ونظمها بالحساب - حدثت صور مختلفة بحسب اختلاف الأمور الواقعة فيها، المنسوبة إليها.
فأما الأكمه الذي ذكرته في المسألة، فإن الفاقد حاسة من حواسه لا يتصور شيئاً من محسوساته؛ لأن التصور في النفس من كل محسوس إنما يقع بعد الإحساس به.
وذلك أن هذه القوى من قوى النفس التي تأخذ العلوم من الحواس، إنما ترقيها إلى قوة التخيل عن الحس، فحينئذ تثبت صورة المحسوس في القوة المتخيلة، وإن زالت صورة الحس وغابت.
فأما إذا فقد الحس فكيف يترقى المحسوس إلى قوة التخيل؟ فبحق صار الأكمه لا يتخيل شيئاً من الألوان ولا يتصوره.
وكذلك إن فقد فاقد حس الشم والسمع من مبدأ ولادته، لم يتخيل شيئاً من محسوساتهما لما قدمناه.
وحدثني بعض أهل التحصيل من المتفلسفين أنه سأل رجلاً أكمه: كيف يتصور البياض؟ فقال: حلو.
فكأنه لما لم يجد صورة البياض في تخيله ردها إلى حاسة أخرى هو واجد لمحسوسها، فسماها بها، وظنها إياها.
مسألة في حد الظلم ما معنى قول الشاعر: -
والظلم في خلق النفوس فإن تجد ... ذا عفه فلعلة لا يظلم.
وما حد الظلم أولاً؟ فإن المتكلمين ينفكون في هذه المواضيع كثيراً، ولا ينصفون شيئاً، وكأنهم في الغضب والخصام.
وسمعت فلاناً في وزارته يقول: أنا أتلذذ بالظلم، فما هو هذا؟ ومن أين منشؤه أعني الظلم؟ أهو من فعل الإنسان، أم هو من آثار الطبيعة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الظلم انحراف العدل.
ولما احتيج في فهمه إلى فهم العدل، أفردنا له كلاماً ستقف عليه ملخصاً مشروحاً.
وهو في معنى الجور الذي هو مصدر جار يجور، إلا أن الجور يستعمل في الطريق وغيره إذا عدل فيه عن السمت، والظلم أخص بمقابلة العدل الذي يكون في المعاملات، فالعدل من الاعتدال، وهو التقسيط بالسوية، وهذه السوية من المساواة بين الأشياء الكثيرة، والمساواة هي التي توجد الكثرة، وتعطيها الوجود، وتحفظ عليها النظام.
وبالعدل والمساواة تشيع المحبة بين الناس، وتأتلف نياتهم، وتعمر مدنهم، وتتم معاملتهم، وتقوم سننهم.
ولشرح هذا الكلام، وتحقيق مائية القول في العدل وذكر أقسامه وخصائصه - بسط كثير لم آمن طوله عليك، وخروجي فيه عن الشريطة التي اشترطتها في أول الرسالة من الإيجاز، ولذلك أفردت فيه رسالة ستأتيك مقترنة بهذه المسألة، على ما يشفيك بمعونة الله.
ولو أصبنا فيه كلاماً مستوفى لحكيم مشهور، أو كتاباً مؤلفاً مشروحاً - لأرشدنا إليه على عادتنا، واحلنا عليه كرسمنا، ولكنا لم نعرف فيه إلا رسالة لجالينوس مستخرجة من كلام أفلاطون، وليست كفاية في هذا المعنى، وإنما هي حض على العدل، وتبيين لفضله، وأنه أمر مؤثر محبوب لنفسه.
وإذا عرفت العدل من تلك الرسالة، عرفت منه ما عدل عنه، ولم يقصد سمته.
وكما أن إصابة السهم من الغرض إنما هو نقطة منه، فأما الخطأ والعدول عنها فكثير بلا نهاية - فكذلك العدل لما كان كالنقطة بين الأمور تقسمها بالسوية، كانت جهات العدول عنها كثيرة بلا نهاية.
وعلى حسب القرب والبعد يكون ظهور القبح، وشناعة الظلم.
فأما قول الشاعر: والظلم في خلق النفوس فمعنى شعري لا يحتمل من النقد إلا قدر ما يليق بصناعة الشعر.
ولو حملنا معاني الشعر على تصحيح الفلسفة، وتنقيح المنطق لقل سيمه، وانتهك حريمه، وكنا مع ذلك ظالمين له بأكثر مما ظلم الشاعر النفوس التي زعم أن الظلم في خلقها.
على أنا لو ذهبنا نحتج له، ونخرج تأويله لوجدنا مذهباً، وأصبنا مسلكاً ولكن هذه الأجوبة مبينة على تحقيقات مغالطة الشعراء، ومذاهبهم، وعاداتهم في صناعتهم.
ثم أقول: إن الظلم الذي ذكرنا حقيقته يجري مجرى غيره من سائر الأفعال، فإن صدر عن هيئة نفسانية من غير فكر ولا روية سمى خلقاً، وكان صاحبه ظلوماً.
وهذه سبيل غيره من الأفعال المنسوبة إلى الخلق؛ لأنها صادرة عن هيئات وملكات من غير روية.
فأما إذا ظهر الفعل بعد فكر وروية فليس عن خلق، مذموماً كان أو معلوماً، وإذا لم يكن عن خلق فكيف يكون عن خلق.
وإنما يستمر الفاعل على فعل ما بروية منه فتحدث من تلك الروية الدائمة هيئة تصدر عنها الأفعال من بعد بلا روية، فتسمى تلك الهيئة خلقاً.
فأما الشيء الصادر عن هذه الهيئة، فإنه إن كان عملاً باقي الهيئة والأثر، سمى صناعة، واشتق من ذلك العمل اسم يدل على الملكة التي صدر عنها كالنجار، والحداد، والصائغ، والكاتب؛ فإن هذه الأعمال إذا صدرت من أصحابها بلا روية، سموا بهذه الأشياء، ووصفوا بهذه الصفات.
فأما إن تكلف إنسان استعمال آلة النجارة، والحدادة، والكتابة، والصياغة، فأظهر فعلاً يسيراً بروية وفكر، فعلى سبيل حكاية وتكلف، فإن أحداً لا يسمى هذا نجاراً، ولا كاتباً؛ ولذلك لم يسم من عمل بيتاً وبيتين شاعراً، ولا من خاط بسلك أو سلكين خياطاً.
والصناعة كلها تجري هذا المجرى؛ فهذه الأعمال كما نراها، والأفعال أيضاً التي لا تبقي آثارها - جارية هذا المجرى.
وعلى هذه السبيل جرت أمور الأخلاق والأفعال الصادرة عنها؛ لأن الأخلاق هيئات للنفوس تصدر عنها أفعالها بلا روية ولا فكر.
فأما الوزير الذي سمعته يقول: أنا أتلذذ بالظلم، فإن الإختيارات المذمومة كلها إذا صار منها هيئات وملكات صارت شروراً، وسمي أصحابها: أشراراً.
وليس يختص الظلم في استحقاق اسم الشر، وخروجه عن الوسائط التي هي فضائل النفس - بشيء دون أمثاله ونظائره.
وفقد هذه الوسائط هو شرور ورذائل تلحق النفوس، كالشره والبخل والجبن، سوى أن الظلم اختص بالمعاملة، وترك به طلب الاعتذار والمساواة.
وهذه النسبة العادلة، والمساواة في المعاملة - قد بينها أرسططاليس في كتاب الأخلاق، وأن المعاملة هي نسبة بين البائع والمشتري، والمبيع والمشتري، وأن نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع على التكافؤ، وفي النسبة والتبديل فيها، وعلى ما هو مشروح مبين في غيره من الكتب.
فأما قولهم: لا يزال الناس بخبر ما تفاوتوا، فإذا تساووا هلكوا، فإنهم لم يذهبوا فيه إلى التفاوت في العدل الذي يساوي بينهم في التعايش، وإنما ذهبوا فيه إلى الأمور التي يتم بها التمدن والاجتماع.
والتفاوت بالآحاد ههنا هو النظام للكل.
وقيل: إن الإنسان مدني بالطبع، فإذا تساوى الناس في الاستغناء هلكت المدنية، وبطل الاجتماع.
وقد تبين أن اختلاف الناس في الأعمال، وانفراد كل واحد منهم بعمل هو الذي يحدث نظام الكل، ويتم المدنية، ومثال ذلك الكتابة التي كليتها تتم باختلاف الحروف في هيئاتها وأشكالها وأوضاع بعضها عند بعض، فإن هذا الاختلاف هو الذي يقوم ذات الكتابة التي هي كلية، ولو استوت الحروف لبطلت الكتابة.
مسألة زجرية ولغوية لم صار الرجل إذا لبس كل شيء جديد قيل له: خذ معك بعض ما لا يشاكل ما عليك ليكون وقاية لك؟ ألم تكن المشاكلة مطلوبة في كل موضع؟ وعلى ذكر المشاكلة، وما المشاكلة، والموافقة، والمضارعة والمماثلة، والمعادلة، والمناسبة؟ وإذا وضح الكلام في هذه الألفاظ وضح الحق أيضاً في المخالفة، والمباينة، والمنافرة، والمنابذة.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذا فعل عامي يذهب إلى صرف العين.
وعند القوم أن الشيء إذا كمل من جهاته أسرعت العين إليه بالإصابة، فإذا كان منه شيء منتقص، أو ظاهر فيه عيب، شغلت العين به عن الإصابة.
وكان ينبغي ألا تختلط هذه المسائل هذا الاختلاط، فإني أرى المسألة الشريفة الصعبة إلى جانب الأخرى التي لا نسبة بينهما قلة وسهولة.
وليس للمجيب أن يقترح السؤال، وينظم الشكوك؛ ولأجل هذا اضطرت إلى الكلام في جميعها على حسب مراتبها.
ولم أقل ذلك إبطالاً للعين وأفعالها، ولا زراية على الأصول التي بنت العامة عليها، ولكن المسألة توجهت عن فعل عامي، وإن كان له أصل بعيد، ورجع إلى أول، وأسند إلى حقيقة.
فأما المسألة عن المشاكلة والموافقة، فإن الشكل المثل، وهي مفاعلة منه، ولا فرق بينها وبين المماثلة على ما ذكره اللغويون.
وأنا أظن المثل أعم من الشكل؛ لأن شكل مثل، وليس كل مثل شكلاً.
فأما الموافقة فمن الوفق في المسألة التالية لهذه المسألة، ونحن نشرحه هناك مع ذكر البخت والجد.
فأما المضارعة فهي المشابهة، وهي مفاعلة من الضرع، ومنه أصله واشتقاقه.
فأما المعادلة والمناسبة فقد مر ذكرها مستقصى في مسألة العدل.
والعدل لما كان يماثل عدله بالموازنة صار قريب المعنى منه، والمعادلة هي مفاعلة منه.
وقلت في آخر المسألة: إنه إذا وضحت لك هذه الألفاظ وضح بها ما بعدها.
فلذلك أمسكت عنها.
مسألة خلقية لم اشتدت عداوة ذوي الأرحام والقربى حتى لم يكن لها دواء؛ لشدة الحسد، وفرط الضغائن، وحتى زالت بها نعم، وبادت نفوس، وانتهى إلى الجلاء والهلاك؟.
وهل كان الجوار وما يتعوذ بالله منه في شكل هذه العداوة أم لا؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تقدم في مسألة حد الحسد، وفي المعاني القريبة التي يغلط الناس فيها، وفي ذكر أسمائها، ما فيه غنى عن إعادته في جواب هذه المسألة؛ لأنا ذكرنا هناك أن الاثنين أو الجماعة من الناس إذا اشتركوا في أمر، وجمعهم سبب فتساووا فيه مع تساويهم في الإنسانية ثم تفرد من بينهم واحد بفضيلة - حسده نظيره، أو غبطه.
وذوو الأرحام هم جماعة يشتركون في نسب واحد، ولا يرى أحدهم للآخر فضلاً، فإن انفرد واحد منهم بأمر نافسه الآخر.
وأيضاً فإن موضوع الشركة في النسب هو المؤازرة والمعاونة والتساوي في الأحوال.
وهذه حال منتظرة يتوقعها كل واحد من الآخر، فإذا أخلف الظن كان أشد احتمالاً، وأصعب علاجاً، وصار بمنزلة الدين المجحود، والحق المغموط، فإذا اقتضى ثقل، وإذا ثقل تنوكر، وإذا تنوكر ثارت قوة الغضب بالجميع والغضب يزرع الحقد، ويبعث على الشرور.
وينضاف إلى هذا شدة العناية والتفقد للأحوال، وهذا لا يكون مع البعداء، ولا يمكن فيهم، فتكثر وجوه المطالبات بالحقوق وادعاؤها وإن لم تكن، وتثور أسباب الغضب، والغضب يرى أكثر مما تريه الحال نفسها، ويطلب كل واحد من صاحبه، وينتظر مثل ما يطلبه صاحبه وينتظره، وينتهي من العدد وكثرة الوجوه إلى حيث يتعذر دواؤه، ويقع الإياس منه.
والجوار أيضاً سبب قوى؛ لأنه شركة ما تبعث على تفقد الأحوال وتلقح الحسد، وجميع الأحوال التي ذكرناها في ذوي الأرحام، إلا أن هناك عطفاً مرجواً، وإبقاء معلوماً لا يوجد مثلهما في الجوار، فالشر إذا ثار منه صرف، والحسد فيه محض، لا مزاج للخير فيه، ولا داعي إلى البقيا معه.
مسألة طبيعية لم غضب الإنسان من شر ينسب إليه وهو فيه ؟
وما سبب غضبه من شر ينسب إليه وليس هو فيه؟ والصدق في الأول من باب المحبوب المحمود، والكذب في الثاني من باب المذموم المكروه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب ذلك محبة النفس، وقد تقدم شرحه.
والإنسان إذا ذكر بشر هو فيه كره أن يفطن له، وإن فطن له أن يجبه أو يغتاب به؛ لأنه يعرف قبح الشر، ويحب لنفسه التي هي حبيبته أن تكون بريئة من كل عيب، بعيدة من كل ذنب وذم، فإذا رميت بشر لحقه غم أولاً، ثم محبة الانتقام ممن غمه.
والغضب حقيقته حركة النفس للانتقام، وهذه الحركة تثير دم القلب حتى يغلي؛ ولذلك يحد الغضب بأنه غليان دم القلب شهوة الانتقام.
فأما غضب الإنسان من شر ينسب إليه وليس هو فيه فبالواجب؛ لأنه قصد بالظلم ليغم.
وفائدة الغضب، وسبب وجوده في الإنسان هو أن ينتصر به من الظالم، أو يمنعه ويضعه عن نفسه؛ فإذا علم الإنسان أن قاصداً يقصده بالظلم أحب الانتقام منه وتحركت نفسه لذلك، فحدث الغضب.
فقد استبان من الصدق والكذب جميعاً في هذه المسألة، سبب هيج الغضب، ومائيته أيضاً.
مسألة نفسانية ما علة حضور المذكور عند مقطع ذكره وهو لا يتوقع فيه؟ هذا كثير معهود، وإن لم يكن من باب المعتاد المألوف، ولو كان من ذلك لسقط التعجب، وزال الإكبار، ووقع الإشتراك.
ومن هذا الضرب رؤية الإنسان بالالتفات من لم يكن يظن أنه يراه.
وكذلك تشبيهك بعض من يلحقه طرفك بمعهود لك، حتى إذا حدقت نحوه لم يكن ذاك، ثم إنك لا تلبث حتى تصادف المشبه به.
وهل هذا كله بالاتفاق؟ وإن كان بالاتفاق فما الاتفاق؟ وهل الاتفاق هو الوفاق؟ وما الوفاق؟ حتى يكون البيان عنه بياناً عن الأول، أو مطلعاً عليه، أو مقرباً إليه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس علامة بالذات؛ دراكه للأمور بلا زمان؛ وذاك أنها فوق الطبيعة، والزمان إنما هو تابع للحركة الطبيعية، وكأنه إشارة إلى امتدادها؛ ولذلك اشتق اسم المدة منه؛ لأن المدة فعلة، والامتداد افتعال، وأصلهما واحد من المد.
ولما كانت النفس فوق الطبيعة، وكانت أفعالها فوق الحركة، أعني في غير زمان؛ فإذن ملاحظتها الأمور ليست بسبب الماضي ولا الحاضر، ولا المستقبل، بل الأمر عندها في السواء، فمتى لم تعقها عوائق الهيولى والهيوليات، وحجب الحس والمحسوسات - أدركت الأمور،وتجلت لها بلا زمان، وربما ظهر هذا الأمر منها في بعض المزاجات أكثر حتى يرتفع إلى حد التكهن والإنذار بالأمور المستقبلة.
وهذا الإنذار ربما كان في زمان بعيد، فكلما كان أبعد، والمدة أطول، كان أبدع عند الناس وأغرب، ثم لا يزال يقرب الزمان، ويقصر فيه، حتى يتلو وقت الإنذار بلا كبير فاصلة.
وهذه الحال تعرض لمن يذكر الإنسان فيحصر المذكور عند مقطع ذكره، ولم يكن سبباً لحضوره، بل كان الأمر بالضد؛ فإن قرب حضوره أشعر النفس حتى أنذرت به.
وكذلك الحال في الرؤية بالالتفات؛ فإن قرب الملتفت إليه هو الذي حرك النفس حتى استعملت آلة الالتفاف.
واستقصاء هذا غير لائق بشرطنا في ترك الإطالة، ولولا ذلك لذكرنا أموراً بديعة من هذا الجنس، وفي هذا القدر كفاية وبلاغ فيما سألت عنه.
فأما مسألتك عن الاتفاق، وهل هو الوفاق؟ وما الوفاق؟ فقد وعدنا بالكلام فيه في مسألة تجيء بعد هذه.
ولعمري إن الاتفاق هو الوفاق؛ لأنه افتعال منه، والأصل واحد، والاشتقاق دال عليه.
وسنحبر عنه إخباراً كافياً عند ذكر البخت والجد، إن شاء الله.
مسألة تشتمل على نيف وعشرين مسألة طبيعية ولغوية
وفيها الكلام في البخت والاتفاق ما الخصائص الفارقة بين حقائق المعاني في ألفاظ دائرة بين أهل العقل والدين، وهي أسماء طابقت أغراضها لكنها خفية الأصول جلية المعاني وهي: ما القوة، والقدرة، والاستطاعة، والطاقة؛ فهي القوة بالمحمول عليها، والشجاعة، والنجدة، والبطولة، والمعونة، والتوفيق، واللطف، والمصلحة، والتمكن، والخذلان، والنصرة، والولاية، والملك، والملك، والرزق، والدولة، والجد، والحظ.
ولم أذكر البخت؛ فإنه ليس من كلام العرب، ومعناه قد التبس ببعض هذه الأِشياء، وكذلك المبخوت.
فأما المجدود، والمحدود، والمحظوظ، والحظى، والجدى، فكل ذلك مراد به معنى، ومرمى به غاية، ولكن البيان عنها عزيز، والتحقيق فيها شديد.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: وجدت في هذه المسائل مع اختلافها ما يتقارب، وما يتباعد في المعاني، فألفت الشكل إلى شكله، ولم أراع تأليفها ونظمها.
أما القوة فاسم مشترك يقال على القوة التي هي في مقابلة الفعل.
وهذا اسم خاص يستعمله الحكماء حسب، ولا يعرفه الجمهور، ومعناه أنه الشيء الممكن أن يظهر فيصير موجوداً بالفعل، فيقال: الجرو مبصر بالقوة، والإنسان كاتب بالقوة، وإن لم يكن في الوقت كذلك.
ويقال على القوة التي يشار بها إلى معان موجودة للنفس كقوة الإبصار، والإدراك، والفكر، والتمييز، والغضب، وما أشبهها.
ويقال على المعنى الذي في الحديد وأشباهه من الصلابة والامتناع على التثنى والكسر.
ويقال أيضاً على البطش والجلد الذي يختص الحيوان، وأظنك إياها عنيت بالمسألة؛ لأنها ذكرت مع الطاقة والقدرة.
وقد أصبت حداً يعم أكثر هذه الأسماء، ويخص مسألتك، وهو أن القوة حال لذي القوة تظهر عند ما هي قوة عليه.
فأما شرح هذا الحد بحسب ما يختص الحيوان، فهو اعتدال في الأعصاب بين الرطوبة واليبوسة، وذلك أن العصب إذا أفرط في الرطوبة استرخى عند العمل، فسمى مستعمله ضعيفاً، وإذا أفرط في اليبوسة انبتر وانقطع، أو خشى عليه ذلك، وألم عند العمل؛ فكان مستعمله أيضاً ضعيفاً.
وليس يطلق اسم القوة إلا بالإضافة، وعلى حسب موضوع ذي القوة، فقد يقال: رجل قوى، وجمل ضعيف، كما يقال: نملة قوية، وفيل ضعيف.
فأما الطاقة فهي وفاء القوة بالمحمول عليها، وهي مستعملة في الحيوان، وفي قوته خاصة، وفي الأثقال الجسمانية.
وقد تستعمل أيضاً في الأثقال النفسانية تشبيهاً واستعارة، فيقال: فلان يطيق حمل مائة منا أى قوته وفاء بهذا الثقل إذا حمله، ويقال: فلان يطيق الكلام، ولا يطيق النظر، ولا الغم والسرور.
فإن استعمل في غير الحيوان فعلى المجاز البعيد.
فأما القدرة فهي تمكن من إظهار هذه القوة عند الإرادة ولذلك تختص بالحيوان، ولا تستعمل في غيره ألبته لما حددناه به.
وأما الاستطاعة فهي استفعال من الطاعة، أي استدعاؤها، هذا بحسب الاشتقاق، ودليل اللغة.
فأما على الحقيقة فهي كلمة مستعارة؛ وذلك أنك لا تستدعي طاعة شيء لك إلا وأنت تستحقها منه بالقدرة عليه.
وتلخيص هذا الكلام أنك إذا قلت: استطعت كذا، وأنا أستطيع الأمر، أي إذا استدعيت طاعته أجابني.
وهي توول إلى معنى القدرة وإن كانت أقدم منها بالذات، وكان بينهما فرق من هذا الوجه؛ لأن النفس هي التي تستدعي طاعة الشيء بالقدرة عليه، وتحكم بإجابته لها.
وهذه المعاني مضمنة لفظة الاستطاعة، واشتقاق الاسم دال عليه، فتأمله تجده واضحاً إن شاء الله.
فأما الشجاعة فهي استعمال قوة العصب بقدر ما ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي، وفيما ينبغي، وعلى الحال التي تنبغي.
وهي خلق يصدر عنه هذا الفعل على ما يحده العقل، وهي حال واسطة بين طرفين مذمومين: أحدهما زيادة بالإفراطن والأخرى زيادة بالتفريط.
فأما من جانب الزيادة فأن تستعمل بأكثر مما ينبغي في سائر شرائطها فتسمى تهوراً.
وأما من جانب النقصان فأن تستعمل بأقل مما ينبغي في سائر شرائطها، فتسمى جنباً.
والشجاعة لفظة مدح كالجود والعفة، وما جرى مجراهما.
وأول ما يظهر منها أثرها في الإنسان نفسه إذا قمعت شهواته، فاستعمل منها قدر ما يحده العقل بسائر شرائطها ثم يظهر أثرها في غيره إذا قصده آخر بضيم أو ظلم، فإنه يدفعه عن نفسه بالشروط المذكورة من غير إفراط ولا تفريط.
وأما النجدة، فهي في معنى الشجاعة، أعني أنها لفظة مدح، وتؤدي عن معناها، إلا أنها بحسب اللغة مأخوذة من الارتفاع، والرجل النجد كأنه المرتفع عن الضيم، الذي علا عن مرتبة من يستذل ويمتهن، كالنجد من الأرض الذي هو ضد الغور.
وأما البطولة - وإن كانت في معنى الشجاعة - فإنها مختصة بما يظهر في الغير، ولا تستعمل في قهر الإنسان شهوات نفسه، وهي تابعة للفروسة، كما يقال فارس بطل.
وأخلق بالبطولة أن تكون عائدة إلى معنى البطلان؛ لأن صاحبها - أبداً - متعرض لذلك من الفرسان، لا سيما والعرب لا تميز بين الشجاعة الممدوحة، وبين الزيادة فيها المذمومة، بل عندها أن الإفراط هو الشجاعة.
فأما ما سميناه نحن شجاعة - فهو بالإضافة إلى ما سمته بها - جبن، كما فعلوا ذلك في السخاء والجود، فإنهم استعملوا هذا المذهب بعينه.
وأقول: إن الشجاعة ربما أدت إلى بطلان الحياة، وكان الموت حينئذ خيراً جيداً ممدوحاً لما وقع بحسب الشجاعة، أعني على ما حده العقل، وكما ينبغي، وعلى سائر الشروط؛ لأنه لو قصر صاحبها، أعني الشجاعة، لكان مذموماً جباناً كما بينا وأوضحنا، وكما تقدم من شرحنا معنى الموت الجيد، والحياة الرديئة، فيما تقدم.
فأما المعونة، فهي إمداد القوة بقوة أخرى من جنسها خارجة عنها.
والخذلان ترك هذا الإمداد مع التمكن منه.
فإذا كانت المعونة من البشر، كانت نافعة مرة، وضارة مرة؛ لجهلهم بعواقب الأمور، ولكن اسم المعونة اسم المدح؛ لأن المعمول عليه بين الناس هو النية والقصد في الوقت، لا عواقب الأمور.
فأما إن كانت من الله - تعالى - فليست إلا نافعة غير ضارة؛ لعلمه بالعواقب، ولأن الله - تعالى - لا يفعل إلا الخير والنافع، وهو متعال عن الشر، منزه عنه، جل ذكره، وتقدس اسمه، وعلا علواً كبيراً عما يقول الظالمون.
وإذا تبين ما العونة، وكيف تقع من البشر ومن البارى - تعالى - فقد تبين ضدها الذي يسمى الخذلان، فلا معنى لإطالة الكلام فيه.
فأما اللطف والمصلحة فلفظتان مختصتان بأصحاب الكلام، وإن كانتا أيضاً معروفتين عند الجمهور، ومعناهما عند القوم معروف.
وأنت - أبقاك الله - ريان شبعان من كلامهم ومعانيهم وأغراضهم، غير محتاج أن نتكلف لك إيضاح شيء منها.
زادك الله، وامتع بالنعمة فيك.
وأما التمكين فهو تفعيل من الإمكان، والإمكان في الشيء هو جواز إظهار ما في قوته إلى الفعل، وطبيعته بين الواجب والممتنع.
وذلك أنك إذا تصورت طبيعة الواجب كان طرفاً، وبإزائه في الطرف الآخر - أعني ما هو في غاية البعد منه - طبيعة الممتنع، وبينهما طبيعة الممكن.
ولأجل هذا صار للممكن غرض كبير، ولم يكن للواجب، لا للممتنع غرض؛ لأن بين الطرفين مسافة تحتمل الانقسام الكثير، فأما الطرف فلا مسافة له، والمسافة التي بين هذين الطرفين - أعنى الواجب والممتنع - إذا لحظت وسطها على الصحة، فهو أحق شيء وأولاه بطبيعة الممكن.
وكلما قربت هذه النقطة التي كانت وسطاً إلى أحد الطرفين كان ممكناً بشرط وتقييد، فقيل: ممكن قريب من الواجب، وممكن بعيد منه.
وكذلك يقال في الممكن القريب من الممتنع، والبعيد منه.
فأما إذا كان في الوسط فهو ممكن على الإطلاق، وحينئذ ليس هو بالواجب أولى منه بالممتنع، لا هو بأن يظهر من قوته إلى الفعل أولى من أن يبقى بحاله في القوة.
فالتمكين هو مصدر مكن تمكيناً كما تقول: كرم تكريماً، وكلم تكليماً، والإمكان مصدر أمكن إمكاناً كما تقول: أكرم إكراماً.
والممكن مفعل منه كما تقول مكرم.
وأما الاسم الذي منه اشتق هذا الفعل فلم يستعمل في اللغة، ولا جاء منه ذلك؛ لأن الشيء لا فعل له إلا الفعل المتعدي بالهمزة، فإذا قلت في الشيء: هو ممكن، فكأنك قلت: إن هذا الشيء الذي في القوة - ولم يستعمل له اسم، وهو في التقدير، وتقديره الممكن - قد أعطاك ذاته، وجعل من نفسه بحيث تخرجه إلى الفعل بالإرادة.
والإمكان مصدر أمكن الشيء من ذاته.
فأما التمكين فهو فعل شيء آخر بك، إذا جعلك من هذا الشيء بحيث تخرجه إلى الفعل بالإرادة، وهو مصدر مكن، وهذا التشديد يجىء في مثل هذا الوضع من اللغة إذا أريد به تكرير الفعل وتأكيده، كما تقول: ضرب وضرب، وشد وشدد.
وقد يجيىء التمكين بمعنى آخر، وهو أن يكون تفعيلاً مشتقاً من المكان، كما تقول: مكنت الحجر في موضعه إذا وافيته حقه من مد المكان ليلزمه، ولا يضطرب.
ومنه تمكن الفارس من السرج، وتمكن الإنسان من مجلسه.
وتمكن الإنسان من الأمير من هذا على التشبيه والاستعارة.
وبين هذا المعنى والمعنى الأول بون بعيد كما تراه.
وأما الرزق فهو وصول حاجات الحي إليه بما هو حي.
وههنا أشياء توصل إلى هذه الحاجات، وهي عوض منها، ونائبة عنها، أعني ما يتعامل عليه، فجعلت كأنها هي، وسميت أيضاً أرزاقاً لما أدت إليها، والأصل الأول، قال الله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً " صدق الله العظيم " .
ولما كانت أسباب الوصول إلى الحاجات كثيرة: فمنها قريب، ومنها بعيد، ومنها طبيعي، ومنها غير طبيعي.
وغير طبيعي منها اتفاق ومنا غير اتفاق، وغلط الناس ضروباً من الغلط: منها أنهم راموا أن يجعلوا الأسباب الكثيرة سبباً واحداً، ومنها أنهم راموا في الأسباب البعيدة القرب، فلما خفى عنهم ذلك ولم يجدوه حيث طلبوه - لحقتهم الحيرة، وبقدر جهلهم بالسبب عرض لهم التعجب من الأمر.
فأما الدولة فمن قولك دال الشيء بين القوم، وتداولوه بينهم إذا اعتوروه بالمعاطاة، قال الله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " صدق الله العظيم " ، أي ليتعاوره الكل ولا يخص قوماً دون قوم.
وهي لفظة مختصة بالأمور الدنيوية المحبوبة لا سيما الغلبة.
وأسبابها أيضاً كثيرة: فمنها بعيد، ومنها قريب، ومنها طبيعي، ومنها غير طبيعي، وغير الطبيعي منقسم إلى الإرادي والإتفاقي.
وكل واحد من هذه الأقسام أيضاً ينقسم وتبعد علله وتقرب وتختلط، ويتركب ضروب التراكيب، فإذا فقد الجمهور وجود سببه عرض لهم فيه من الحيرة والتعجب ما عرض في الرزق.
فأما التوفيق والاتفاق، والموافقة والوفاق، فقد مر ذكرنا كل واحد منها منفرداً، وفي مسائل متفرقة، ووعدنا الكلام عليها في هذا الباب مع ذكر البخت والجد، لأنها أشكال وقرائب.
وهذه الألفاظ الأربعة التي عددناها متقاربة المعاني، وهي مشتقة من الوفق، وهي من ألفاظ الإضافة؛ لأنها لا تقع إلا بين شيئين، أو بين الأشياء.
ويقال هذا وفق هذا، أى لفقه وطبقة وملائمه، ويستعمل في كل متلائمين من جسمين وخلقين وغيرهما.
وفي المثل: وافق شن طبقة، وافقه فاعتنقه، فقولك وافق فاعل من الوفق.
وهذا الوزن يجىء في كلام العرب لما كان بين اثنين، وكان كل واحد منهما وافق الآخر، وهو موافق، كما قيل: ضارب صاحبه فهو مضارب.
والاتفاق افتعال من الوفق.
وهذا الوزن يجىء فيما لم يكن فاعله خارجاً منه.
كما يقال: اقترب واعتلق واضطرب، والأصل في اتفق اوتفق.
وكل هذا مشتق من الوفق.
وهذا الوزن لا يجىء فيما لم يكن فاعله إلا الذي ذكرناه.
فإذا اجتمع شيئان أو أشياء على ملاءمة بينهما بسبب إرادي مجهول، وكان منهما موافقة لإرادة إنسان ما - كان اتفاقاً له، ولا بد أن يكون فيه قسط من الإرادة، ونصيب من القصد والاختيار، فإن لم يكن للإرادة فيه نصيب، وإنما وقع بسبب طبيعي مجهول، وكان فيه أمر نافع لإنسان - كان بختاً له.
ولما كانت الأمور بعضها يتم بأسباب طبيعية، وبعضها بأسباب إرادية، وبعضها يتركب، فيكون تمامه بأسباب طبيعية وأسباب إرادية، وكل واحد منهما يتم منه أمر واحد محبوب أو مكروه، وإن اختلفت أسبابه بحسب إنسان إنسان ونحو غرض غرض - خولف بين أمسائها؛ ليدل بها على اختلاف أسبابها.
وما كان من الأمور له سبب طبيعي بعيد أو قريب إلا أنه مجهول، ثم عرض أن يكون نافعاً لإنسان من غير إرادة، ولا قصد - سمي بختاً.
وما كان من الأمور له سبب إرادي بعيد أو قريب إلا أنه مجهول، ثم عرض له أن يكون نافعاً لإنسان، موافقاً لغرض له وإرادة - سمي اتفاقاً.
ولا يشتق للإنسان اسم من هذين إلا بعد أن يتكرر له أمر، أعني أنه إنما يسمى مبخوتاً إذا عرض له مرات كثيرة أن تحدث أفعال طبيعية لأسباب لها مجهولة، فتتم بها أغراض مطلوبة محبوبة.
وأيضاً فإنما يسمى موفقاً إذا عرض له مرات كثيرة أن تقع أفعال إرادية لأسباب لها مجهولة، فتتم بها أغراض جميلة محبوبة.
وأنا أكشف هذين المعنيين بمثالين ليضح أمرهما وينكشف.
على أني رأيتك تستعفي أن تفهم معنى البخت، لأنك لم تجده في كلام العرب، كأنك خطرت على نفسك أن تفهم حقيقة إلا أن تكون في لفظ عربي، فإن عدمت لغة العرب رغبت عن العلوم، لكنا - أيدك الله - لا نترك البحث عن المعاني في أي لغة كانت، وبأي عبارة حصلت، فأقول: أما مثال البخت فأن يسقط حجر من مكان عال، فيصيب رجلاً في عضو له تنفجر منه عروق، ويخرج منه الدم، فإن كان الرجل محتاجاً قبل ذلك إلى إخراج الدم صار سقوط الحجر الذي فجر العرق، وأخرج الدم سبباً لصحته، ومنع المرض عنه، فهذا بخت جيد.
فإن كان عرض للرجل أشياء كثيرة تشبه هذا فهو مبخوت.
وإن كان خروج الدم غير نافع للرجل، ولا كان به حاجة قبل ذلك إلى إخراجه، بل تعجل بسقوط الحجر الألم، وبخروج الدم سقوط القوة، والوقوع في مرض كان غير مستعد له، فهو بخت ردىء.
وأما المثال في الاتفاق فإن يخرج إنسان من منزله بإرادة وقصد إلا أنهما كانا منه نحو التماس الحاجة، فلقي في طريقه ذلك صديقاً كان يهوى لقاءه، أو غريماً كان يطلبه فلا يجده، فهذا اتفاق جيد، فإن عرض للرجل مثال لهذا كثير فهو موفق.
وإن كان لقاؤه أيضاً وافق عدوا كان يهرب منه، أو غريماً كان متوارياً عنه، فهو اتفاق ردىء، والرجل إذا دام عليه مثل هذا غير موفق.
ولما كانت أسباب الحركات الإرادية إنما تكون من خواطر وعوارض للنفس ليست بإرادة، إذ لو كانت عن إرادة لوجب من ذلك وجود إرادات لا نهاية لها، وهذا محال - كانت هذه الخواطر والعوارض التي هي آثار وأفعال منسوبة إلى فاعل، وقد قلنا إن فاعلها غير الإنسان، فهي إذن فعل غيره لا محالة، فإن كانت مؤدية إلى خيرات ومنافع كانت منسوبة إلى الله - تعالى - وهو التوفيق، تفعيل من الوفق، وهذا التوفيق ربما فعله الله - تعالى - بالعبد من غير مسألة، وربما كان بعد مسألة وتضرع، إلا أن الناس كافة يرغبون إلى الله - تعالى - فيها، ويسألونه إياها دائماً في كل زمان، فإذا سنحت هذه العوارض والخواطر للنفس فزعت إلى حركات يتم بها وبغيرها أمر واحد مختار لإنسان ما نحو غرض جيد له - كان توفيقاً وكان الرجل موفقاً.
فأما الجد فكأنه اسم شامل لهذين المعنيين جميعاً؛ لأن الإنسان إن وفق وبخت فهو مجدود، وإن انفرد أيضاً بأحدهما فهو مجدود أيضاً.
وأما الحظ فهو القسم والنصيب.
ولما كان لكل إنسان نصيب من السعادة، وقسط من الخير مقسوم له من الفلك بحسب مولده - كان ما يصيبه من ذلك منسوباً إلى الحظ.
فأما المحدود فهو الممنوع، واشتقاقه من الحد وهو المنع، ويقال للبواب حداد من هذا، وكأن المحدود ممنوع مما يصيب غيره من الخير.
والحظى والجدى منسوبان إلى الجد والحظ، كما يقال تميمى وبكرى.
فأما النصر فهو المعونة إلا أنه فيما أدى إلى الغلبة والقهر، وقد قلنا ما المعونة فيما سلف.
وأما الولاية فاسم مشترك، وتصرفه بحسب تصرف اسم المولي، أعني أنه يكون من فوق، ويكون من أسفل، إلا أن الحقيقة فيهما أنهما حال توجب اختصاصاً وتحققاً يدعو الأعلى إلى الحنو والشفقة، والأسفل إلى النصيحة والطاعة.
وإذا أخذ هذا الاسم بحسب الشريعة وأنه لفظ شرعي حد بقدر ذلك المعنى المشار إليه، وإن كان الأصل ما ذكرناه.
فأما ملك الشيء فهو التفرد بنفاذ الحكم فيه.
وهذا قد يكون بالطبيعة، والشريعة، وبالاصطلاح: أما بالطبيعة فملك الإنسان لأعضائه وآلاته الطبيعية، وحركاته التي يصرفها على إرادته.
وأما بالشريعة فمثل ملك الرق بالسبي لمن خالف أصول الشرع.
وأما بالاصطلاح فمثل المفاوضات التي تقع بين المتعاملين.
فأما الملك إلا أنه أكثر عموماً، وأظهر استيلاء، وهو مع قهر.
ونفوذ الأمر فيه على طريق عموم المصلحة بالشفقة؛ فإذا كان بحسب الشرع، والقيام بقوانينه، وإنفاذ أحكامه، وحمل الناس عليه طوعاً وكرهاً، ورغبة ورهبة، ونظراً لهم كافة بلا هوى ولا عصبية - فهو الملك الحقيقي الذي يستحق هذا الاسم، ويستوجبه بحسب معناه.
وإن لم يكن بحسب الشرع وشروطه التي ذكرناها فهو غالبة، والرجل متغلب، ولا يجب أن يسمى ملكاً، ولا صناعته ملكية، ولا نفوذ أمره بحسب الملك.
وقد استبان من هذا الكلام حقيقة الملك، والفرق بينه وبين المتغلب، وإن كان شرح ذلك يضيق عن هذا المكان لكن الإشارة إليه كفاية بالغه.
؟؟؟
مسألة ما معنى قول الناس هذا من الله
وهذا بالله، وهذا إلى الله، وهذا على الله، وهذا من تدبير الله، وهذا تدبير الله، وهذا بإرادة الله، وهذا بعلم الله؟ وحكاية طويلة في إثر هذه المسألة عن شيخ هذه المسألة عن شيخ فاضل مقرظ، وجوابات له.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الناس ومقصدهم بهذه الحروف من المعاني، فلا يمكن أن يعتذر له؛ لكثرة وجوه مقاصدهم، واختلاف آرائهم ومذاهبهم.
وليس من العدل تكليفنا ذلك، ولو ذهبنا نعدد آراء الناس لطال، فكيف الاعتذار لهم، وتأويل أقوالهم.
وأنا أضمن بالجملة أن أعرفك وجه الصواب عندي في هذه المسائل، وما أذهب إليه، وأجتهد لك في إيضاحه على غاية الاختصار والإيماء، كما شرطته في الرسالة التي صدرت بها، فأقول: إن جميع ما يطلق على الله - تعالى ذكره - من هذه المعاني، وما ينسب إليه من الأفعال والأسماء والصفات، إنما هو على المجاز والتسمح، وليس يطابق شيء من حقائق ما تتعارفه بيننا بهذه الألفاظ - شيئاً مما هناك.
وأول ذلك أن لفظة من في هذه المسائل تستعمل في اللغة وبحسب ما قاله النحويون لابتداء الغاية، ولفظة إلى لانتهاء الغاية، والباء للاستعانة، وكذلك سائر الحروف لها معان مبينة عندهم.
ولست أطلق شيئاً من هذه الحقائق في الله - عز وجل - إلا مجازاً، فإني لا أقول إن لفعله ابتداء ولا نهاية، ولا له استعانة بشيء، فنطلق عليه الباء، أعني أن يقال هذا تدبير الله، ولا تدبير هناك، ولا حاجة به إلى هذا الفعل ولا غيره، وكذلك أقول في سائر الأفعال المنسوبة إليه، وكذلك أقول في الأسماء والصفات التي أطلقت، ورخص فيها صاحب الشريعة، وإنما أتبع فيها الأثر، وامتثل باستعمالها الأمر، وإلا فمن ذا الذي يطلق حقيقة الرحمن الرحيم وغيرهما من الأوصاف على الباري المتعالي عن الانفعالات، وإنما الرحمة انفعالاً للنفس تصدر بحسبها أفعال محمودة بيننا، وليس هناك شيء من هذه المعاني والحقائق، ولكن لما كان الإنسان قدير الجهد والوسع، وليس عليه ما لا يفي به ولا يطيقه - أطلق أكرم الأسماء التي هي ممدوحة شريفة بيننا على الله - تعالى - كمثل السميع العليم، والجبار العزيز وأشباهها.
وأنا أعتقد أن الشرع خاصة أطلق لنا هذه الأسماء والصفات، ولو خلينا ورأينا لما أقدمنا على شيء منها أصلاً برخصة ولا سبب.
فإذا سمعنا بشيء من هذه الأسماء والأفعال والحروف منسوبة إلى الله تعالى - نظرنا فيه: فإن كان مطلقاً في الشريعة أطلقناه، ثم تأملنا مراد قائله، فإن كان خيراً وحكمة وعدلاً تركناه ورأيه، وإن لم يكن كذلك، ولائقاً بإضافة إليه أبطلناه، وزيفناه، وكذبنا قائله، ونزهنا بارئنا الواحد المنزه المتعالي عن هذه الأوصاف الباطلة.
ثم إني وجدتك - أيدك الله - تحكي في هذه المسألة جوابات عن شيخ فاضل تثني عليه، وتسكن إلى قوله، وتقنع بأجوبته، فرأيت أن أقنع أبا أيضاً لك بها، وذلك أنك ذكرت في آخر المسألة ما هذه حكايته: طال هذا الفصل عن هذا الشيخ في معان متفرقة، تجمع فوائد غريبة، بألفاظ مختارة، وتأليفات مستحسنة، ولو أمكن أن يتلو كل ما تقدم مثل هذا لكان في ذلك للعين قرة، للروح راحة، ولكن الوقت مانع من المفروض الموظف فضلاً عن غيره، وأنا إلى إتمام الرسالة أحوج مني إلى غيره.
مسألة ما الإلف الذي يجده الإنسان لمكان يكثر القعود فيه، ولشخص يتقدم الأنس به؟ وهذا تراه في الرجل يألف حماماً، بل بيتاً من الحمام، ومسجداً، بل سارية في المسجد.
ولقد سمعت بعض الصوفية يقول: حالفتني حمى الربع أربعين سنة، ثم أنها فارقتني فاستوحشتها.
ولم أعرف لاستيحاشي معنى إلا الإلف الذي عجنت الطينة به وطويت الفطرة عليه، وضبغت الروح به.
الجواب: الإلف هو تكرر الصورة الواحدة على النفس، أو على الطبيعة مراراً كثيرة.
فأما النفس فإنما تتكرر عليها صور الإشياء إما من الحس، وإما العقل.
فأما ما يأتيها من الحس فإنها تخزنه في شيبه بالخزانة لها، أعنى موضع الذكر، وتكون الصورة كالغريبة حينئذ، فإذا تكرر مرات شيء واحد، وصورة واحدة زالت الغربة، وحدث الأنس، وصارت الصورة، والقابل لها كالشيء الواحد، فإذا أعادت النفس النظر في الخزانة التي ضربناها مثلاً - وجدت الصورة الثانية فعرفتها بعد أنس، وهو الإلف.
وهذا الإلف يحدث عن كل محسوس بالنظر وغيره من الآلات.
فأما ما تأخذه من العقل فإنها تركب منه قياسات، وتنتج منها صوراً تكون أيضاً غريبة، ثم بعد التكرر تنطبع فيقع لها الأنس إلا أنه في هذا الموضع لا يسمى إلفا ولكن علماً وملكة؛ ولهذا يحتاج في العلوم إلى كثرة الدرس؛ لأنه في أول الأمر يحصل منه الشيء يسمى حالاً، وهو كالرسم، ثم بعد ذلك بالتكرر يصير قنية وملكة، ويحدث الاتحاد الذي ذكرناه.
فأما الطبيعة فلأنها أبداً مقتفية أثر النفس، ومتشبهة بها، إذ كانت كالظل للنفس الحادث منها، فهي تجرى مجراها في الأشياء الطبيعية؛ ولذلك إذا عود الإنسان طبعه شيئاً حدثت منه صورة كالطبيعة؛ ولهذا قيل: العادة طبع ثان.
وإذا تصحفت الأمور التي تعتاد فتصير طبيعة وجدتها كثيرة واضحة أبين وأظهر من الإلف الذي في النفس، كمن يعود نفسه الفصد، والبول، والبراز، وغيرها في أوقات بعينها، وكذلك الهضم في الأكل والشرب، وسائر ما تنسب أفعالها إلى الطبيعة.
مسألة طبية لم صار الصرع من بين الأمراض صعب العلاج ؟
وبسبب ذلك نرى الطبيب كاليائس من برئه، ويقال: إنه فيمن طغن في السن وأخذ بدنه في الخلوقة أصعب، وفي الصبي اللين العود، الرطب الطين، السريع الحيلولة أقرب مراراً، وأسهل برءاً.
الجواب: قال أبو علي مسكوبه - رحمه الله: الصرع هو تشنج يحدث في الأعصاب، ومبدأ العصب الدماغ؛ لأنه من هناك ينبت في جميع البدن، وسبب هذا التشنج بخار غليظ يكون من بلغم لزج، وكيموس غليظ يسد منافذ الروح التي في بطون الدماغ؛ ولأن البخار - وإن كان غليظاً - فهو سريع التحلل، تكون الإفاقة سريعة بحسب تحلله.
وهذا الانسداد ربما كان من الدماغ نفسه، وربما كان باشتراك المعدة من بخار غليظ يرتفع إليه منها، وهو الأكثر، وربما كان باشتراك عضو آخر.
والعليل يحس قبيل وقت النوبة إذا كان من عضو غير المعدة كأن شيئاً ينشأ من هناك، وينجذب إلى فوق، فيربط الطبيب ذلك الموضع، ويلف عليه عصائب قوية، ليمنع البخار من الصعود إلى الدماغ.
ولما كان الصبي ضعيف الدماغ رطبه كان سريعاً إلى قبول البخارات، وحرارته في النشوء معمورة بكثرة الرطوبات، وليس البخار بشيء أكثر رطوبة كثيرة تضعف الحرارة عن تحليلها وإحالتها؛ فلذلك كثرت البخارات في رأسه، فحدثت منه السدد التي ذكرناها.
والطبيب الماهر لا يعالج الصبي بشيء من أدوية الصرع، بل يتركه، ويداوي الموضع بإصلاح الغذاء؛ فإن الطبيعة إذا قويت، وجف فضول الرطوبات عن جميع البدن، وذكت الحرارة - زال الصرع لنفسه لزوال السبب، أعني البخار الكثير، ولصلابة جوهر الدماغ، وقلة قبوله الآفات التي كان سببها رطوبته وضعفه، وإنما غاية الطبيب إصلاح اللبن للمرضعة بالغذاء الذي يعدله حسب.
فأما الطاعن في السن، فإن أمره بالضد؛ لأن ضعف آلاته كلها يكون من قبل الانحطاط، وضعف القوى والأعضاء، وليس ينتظر بها أن تتزيد في القوة بل هي في كل يوم إلى النقصان والضعف، فإذا قبل دماغه بخاراً غليظاً من نفسه أو من عضو آخر صار مغيضاً له، وازداد في كل نوبة قبولاً.
والحرارة التي هي سبب تخلخل البخارات أيضاً تضعف عن التحليل؛ فلذلك يقع اليأس منه.
ومن شأن المادة التي تنصرف إلى موضع البدن، إذا عاودته مراراً، أن تتسع لها المجارى، وتلزمها الطبيعة بالعادة التي ذكرناها في المسألة المتقدمة.
فالآلة تزداد ضعفاً، والمادة تزداد انصباباً، والبخار يزداد كثرة للرطوبة الغريبة التي تحدث في أبدان المستعدين لها واستحالتها بلغماً في معدتهم، والحرارة تزداد ضعفاً على التحليل.
ولا يكاد يقبل البرء لأجل ذلك.
مسألة ما سبب محبة الناس لمن قل رزؤه حتى إنهم ليهيئون الطعام الشهي له، بالغرم الثقيل، ويحملونه إليه في الجون على الرءوس، ويضعونه بين يديه.
وكلما ازداد ذلك الزاهد تمنعاً ازداد هؤلاء لجاجة، فإن مات اتخذوا قبره مصلى، وقالوا: كان كثير الصوم، قليل الرزء.
وإذا عرض لهم من يأكل الكثير، ويتذرع في اللقم مقتوه ونبدوه، وكرهوا قربه واستسرفوا أدبه؟ ولعلة ما هجر الناس زيارة مقابر الملوك والخلفاء، ولهجوا بزيارة قبور أصحاب البت والخلقان، وأهل الضعف والمسكنة.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ذلك لأن الإنسان بنفسه النامية يناسب النبات، وبنفسه المتحركة بالإرادة يناسب البهائم، وبنفسه الناطقة يناسب الملائكة، فهو إنما فضل وشرف بهذه الأخيرة.
والاغتذاء من خاصة النبات، وإن كان يعم الحيوان أيضاً لأجل ما فيه من القوة النامية.
فأما النفس الناطقة فلا حاجة بها إلى الأكل والشرب.
ولما كانت الملائكة أشرف من الأنس؛ لاستعانها بذاتها عن الغذاء وبقاء خروجها جوهرها - كان الإنسان المناسب لها بنفسه أكثر وأشرف من الإنسان الذي يناسب النبات، والبهائم نسبة أكثر.
وكما أن الإنسان يستخف بالنبات والبهيمة، ويستخدمها، ويعظم الملائكة، ويسبحها، فكذلك من الواجب في كل شيء كان مناسباً لتلك، أن يكون مهاناً مستخفاً به، وكلما كان مناسباً لهذا أن يكون معظماً مشرفاً.
وهذا أبين من أن يبسط فيه قول، ويتكلف له جواب، ولكنا لم نحب الإخلال بالمسألة رأساً؛ فلذلك علقنا فيه هذا القدر.
مسألة لم صار بعض الناس يولع بالتبذير
مع علمه بسوء عاقبته ؟
وآخر يولع بالتقتير مع علمه بقبح القالة فيه؟ وما الفرق بين الرزق والملك؟ فقد قال لي شيخ من الفلاسفة - وقد سمعنى أشكو الحال - يا هذا، أنت قليل الملك كثير الرزق، وكم من كثير الملك قليل الرزق، أحمد الله عز وجل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تقدم لنا في هذه المسائل كلام في السبب الذي يختار الناس له فعل ما تقبح عاقبته مع علمهم بذلك، وضربنا فيه المثل بالمريض الذي يعلم أن تناول الغذاء الضار يبطل صحته؛ فإن الغذاء إنما احتيج إليه للصحة، فيختار للشهوة الحاضرة أخذ الغذاء الضار بسوء ملكته، وضبطه لنفسه، وانقياده للنفس البهيمية، وعصيانه للنفس الناطقة.
ولا وجه لإعادته.
وكذلك قد بينا مائية الرزق، والفرق بين الملك والرزق، وإذا قرأته مما تقدم جواباً لهذه المسألة.
مسألة خلقية لم يكن الناس لهجاً بطي ما يأتيه
وكتمان ما يفعله، ويكره أن يطلع على شيء من أمره؟ وآخر يظهر ما يكون منه، ويتشنع به، ويدل الناس على قليلة وكثيرة.
وما معنى قول النبي - عليه السلام - " استعينوا على أموركم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود " .
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد مضى أيضاً جواب هذه المسألة فيما تقدم، وقلنا: إن للنفس قوتين تشتاق بإحداهما إلى الأخذ، وبالأحرى إلى الأعطاء.
وكما يعرض للنفس في الأموال الشح والسماحة، كذلك يعرض لها في المعلومات، فمرة تسمح، ومرة تضن، وربما كان للإنسان شحيحاً بعلمه، سمحاً بماله، وبالضد.
وقد تقدم جميع ذلك مستقصى حيث تكلمنا على السر فيما مضى.
مسألة إرادية لم سمج مدح الإنسان لنفسه وحسن مدح غيره له؟ وما الذي يحب الممدوح من المادح؟ وما سبب ذلك؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: المدح تزكية للنفس، وشهادة لها بالفضائل، ولما كان الإنسان يحب نفسه رأى محاسنها، وخفى عليه مقابحها، بل رأى لها من الحسن ما ليس فيها؛ فقبح منه الشهادة بما لا يقبل منه، ولا يرى له.
فأما غيره فلأجل غربته منه، وخلوه من آفة العشق صارت شهادته مقبولة، ومدحه مسموعاً.
وربما كان هذا الغير يجري في محبة الممدوح مجرى الوالد، والأخ، والصديق الذي محله منه قريب من محل نفسه، فعرضت له تلك الآفة بعينها، أو قريب منها، فقبح ثناؤه ومدحه، ولم يقبل منه، وإن كان دون قبح الأول، أعني مادح نفسه؛ لأن أحداً لا يبلغ في محبته غيره درجة محبته نفسه.
فأما ما يجده الممدوح من المادح فهو حلاوة الإنصاف، وتأدية الحق، وسماع الكلام الطيب في المحبوب الموافق للإرادة.
مسألة إرادية وخلقية ولغوية ما سبب ذم الناس البخل مع غلبة البخل عليهم؟ وما سبب مدحهم الجود مع قلة ذلك فيهم؟
وهل الجود والبخل طبيعيان أو مكسوبان؟ وهل بين البخيل، واللئيم، والشحيح، والمنوع، والنذل، والوتح، والمسيك، والجعد، والكز - فروق؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما سبب ذم الناس البخل فلأن البخل منه الحق من يستحقه على الشروط التي تقدم ذكرها، وهو في نفسه أمر مستقبح عند العقل، وليس يمنع من استقباحه غلبته عليهم، وهو خلق مذموم، ومرض للنفس مكروه، وكما لا يمنعهم ذم أمراض البدن وإن كانت موجودة لهم، كذلك لا يمنع ذم أمراض النفس وإن كانت غالبة عليهم، على أن الإنسان في أكثر الأمر يذم هذا العارض للنفس من البخل ولا يعترف أنه موجود فيه إلا إذا كان منصفاً من نفسه، عارفاً بما لها وما عليها، فقد سمعت جماعة من الأصدقاء يذمون أنفسهم بأمور ويشكون أنهم في جهد من مداواتها، وحرص على إزالتها، وان العادة السيئة قد أفسدت عليهم كثيراً من أخلاقهم.
وأما سبب مدحهم الجود فلأن الجود في نفسه أمر حسن محبوب، وقد مر حده فيما مضى، وهو في النفس كالصحة في البدن، فالناس يؤثرونه، ويمدحونه وجد لهم أم لم يوجد.
وأما قولك: هل الجود والبخل طبيعيان أم مكسوبان؟ فإن الأخلاق بأجمعها ليست طبيعية، ولو كانت كذلك لما عالجناها، ولا أمرنا بإصلاحها، ولا طمعنا في نقلها وإزالتها إذا كانت قبيحة، ولكانت بمنزلة الحرارة والإضاءة في النار، وبمنزلة الثقل والارجحنان في الأرض، فإن أحداً لا يروم معالجة هذه الطبائع، ولا إزالتها ونقلها، ولكنا نقول: إنها - وإن لم تكن طبيعية - فإنها بسوء العادة، أو بحسنها تصير قريبة من الطبيعة في صعوبة العلاج وإزالة الصورة من النفس.
ولسنا نسميها خلقاً إلا بعد أن تصير هيئة للنفس يصدر أبداً عنها فعل واحد بلا روية، فأما قبل ذلك فلا تسمى خلقاً، ولا يقال: فلا بخيل، ولا جواد إلا إذا كان ذلك دأبه.
فأما الطفل والناشىء فقد يكون مستعداً بمزاج خاص له نحو قبول بعينه لكنه بؤدب ويعود الأفعال الجميلة؛ لتصير صورة لنفسه، وهيئة لها يصدر عنها - أبداً - ذلك الفعل المحمود، كما يكون مستعداً لقبول مرض بعينه فيعالج بالأغذية والأدوية إلى أن ينقل من ذلك الاستعداد إلى ضده بتبديل المزاج إلى أن يصح، ولا يقبل ذلك المرض.
وأما قولك: هل بين الألفاظ التي عددتها فروق، فلعمري أن بينها فروقاً: أما البخيل واللئيم، فقد فرقنا بينهما فيما تقدم من أن اللؤم أعم من البخل؛ لأن كل لئيم بخيل، وليس كل بخيل لئيماً، واللؤم لا يختص بالمال والأعراض حسب، بل يكون في النسب والهمة، والبخل خاص بالأخذ والإعطاء.
وأما المسيك، والمنوع فاشتقاقهما يدل على معناهما.
وأما المجعد والكز، فلفظتان مستعارتان مأخوذتان من الجمادات.
وأما النذل والوتح، فاسما مبالغه في الذم، وكل واحد أبلغ من الآخر، والنذالة أبلغ من القلة والوتاحة، وفي مثل للعامة: فلان مقدد العرس وذكره بعينه أرسططاليس.
ودلني على ان تلك اللغة وافقت هذه اللغة في هذا المثل، أو أخذه قوم عن قوم.
وهذا قد تجاوز البخل الذي هو منع الحق أهله على الشروط وانحط إلى غاية في معاملة نفسه أكثر من غاية البخيل في معاملة غيره.
مسألة إرادية وخلقية وعلى ذم الناس البخل ومدحهم الجود ما سبب اجتماعهم على استشناع الغدر، واستحسان الوفاء، مع غلبة الغدر وقلة الوفاء؟ وهل هما عرضان في أهل الجوهر، ام مصطلح عليهما في العادة؟ الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب استحسان الناس الوفاء حسنه في العقل، وذلك أن الناس لما كانوا مدنيين بالطبع اضطروا إلى أمور يتعاقدون على لزومها؛ لتصير بالمعاونة أسباباً لتمام أغراض أخر.
وقد تكون هذه الأمور في الدين السيرة وفي المودة والمعاملة، وفي الملك والغلبة، وبالجملة في كل ما يحتاج فيه إلى التمدن، وما يتم بالمعاونات فتقدم لها أسباب تعقد بينهم حالاً يراعونها أبداً في تمام ذلك الأمر، فإذا ثبت عليها قوم، ولزموها تمت أغراضهم، وإذا زالوا عنها، وخاس بعضهم ببعض فيها انتقضت عليهم الأغراض، وانتقضت عن بلوغ التمامات.
وبحسب الأمر المقصود بالتمام يكون حسن الوفاء وقبح الغدر، فإن كان الأمر شريفاً كريماً عام النفع استشنع الغدر فيه، واستحسن الوفاء، وبالضد.
مسألة في مبادىء العادات
ما مبدأ العادات المختلفة من هذه الأمم المتباعدة
فإن العادة مشتقة من عاد يعود، واعتاد يعتاد، فكيف فزع الناس إلى أوائلها، وجروا عليها؟ وما هذا الباعث الذي رتب كل قوم في الزي، وفي الحيلة، وفي العبارة، والحركة، على حدود لا يتعدونها، وأقطار لا يتخطونها؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لعمري إن العادة من عاد يعود، فأما السؤال عن مبادىء العادات، وكيف نزع الناس إلى أوائلها؟ وما كانت تلك الأوائل؟ ومن شبق إليها ورتبها لكل قوم في الزى؟ فأمر لا أضمن لك الوفاء فيه، ولو ضمنه ضامن لي لما رغبت فيه، ولا عددته علماً، ولا كان فيه طائل.
مسألة طبيعية لم لم يرجع الإنسان، بعدما شاخ وخرف وكهلاً، ثم شاباً غريراً، ثم غلاماً صبياً، ثم طفلاً كما نشأ؟ وعلام يدل هذا النظم؟ وإلى أي شيء يشير هذا الحكم؟.
الجواب: قال أو علي مسكويه - رحمه الله: ليست الشيخوخة والهرم نهاية نشوء الإنسان، ولا غاية الحركة الطبيعية، أعنى النامية، فتروم - أيدك الله - أن يعود الشيخ في مسالكها إلى المبدأ الذي تحرك منه، بل ينبغي أن تعلم أن غاية النشوء والحركة إنما هي عند منتهى الشباب ثم حينئذ يقف، وذلك زمان التكهل، ثم ينحط، وذلك زمان الشيخوخة؛ وذلك أن الحرارة الغريزية التي في الإجسام المركبة من الطبائع الأربع ما دامت في زيادة قوتها فهي تنشىء الجسم الذي هي فيه بأن تجتذب إليه الرطوبات الملائمة بدل ما يتحلل منها فتكون غذاء له، ثم تبقى بقية جذبها فضل القوة - فاضلة عن قدر الغذاء الذي عوض من المتحلل، فزادتها في مساحة الجسم، ومددت بها أقطاره، فإذا تناهت القوة وقفت فلم تزد في الأقطار شيئاً، بل غايتها حينئذ أن تحفظ على ذلك الجسم أقطاره ومقداره، بأن تغذية أعني أن تجتذب من الرطوبات مقدار ما يسري في الجسم عوضاً عما تحلل بلا زيادة تنصرف إلى التزييد والتمديد.
ثم إن الحرارة تضعف قليلاً، وتأخذ في النقصان بعد أن تقف وقفة في زمان التكهل، فيبتدىء البدن في النقص، ويصير الإنسان إلى الانحطاط عن تلك الحركة الأولى، فلا يزال الغذاء ينقص عن مقدار الحاجة، فلا يفي ما يعتاض من الرطوبة بما تحلل منها، فهو كذلك إلى أن يهرم، ويبلغ إلى الإنحلال الذي هو مقابل التركيب الذي بدأ منه، وهو الموت الصحيح الطبيعي.
وهذه سبيل كل حركة قهرية في أنها تبتدىء بتزيد، ثم تنتهي إلى غاية، ثم تقف وقفة، ثم تنحط.
ولما كان مزاج الإنسان وكل مركب من الطبائع المتضادة إنما كان بجامع جمعها، وقاهر قهرها حتى ألفها مع تضادها ونفور بعضها من بعض - صارت حركتها قهرية، ومن شأن الحركة القهرية ما ذكرت من أمرها إذا لم يتبعها القاهر أبداً، بقهر بعد قهر.
فوجب في حركة النشوء ما وجب في كل حركة من جنسها، ولم يعد الشيخ كهلاً، ثم شاباً، ثم طفلاً؛ لأن الحركة لم تقع على هذا النظام، ولا الشيخوخة هي غاية الحركة، بل هي غاية الضعف، ونظير الطفولة.
ووسط زمان الإنسان الذي بين الطفولة والشيخوخة هو غايته، ثم العود في الانحطاط والحركة يكون على سبيل ما بدأ.
مسألة إرادية ما الذي يجده الإنسان في تشبيه الشيء بالشيء حتى يخطر ذلك المعنى على قلبه، ويلهج بذكره في قوافيه ونثره؟ ولم إذا لم يكن التشبيه واقعاً، والمعنى فيه بارعاً - أورث الصدود، ومنه الاستحسان؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الذي يجده الإنسان من ذلك هو السرور بصدق التخيل، وحسن انتزاع الصور من المواد حتى تأحدت الصورة بعد أن كثرتها المادة.
وذلك أن تشبيه الخوخة بالحمصة هو انتزاع الشكل الذي وجدفي مادتيهما وملاحظتهما شيئاً واحداً، وإن اختلفت به المواد في الكبر والصغر، والرطوبة واليبوسة، واللون، والمذاق، وغيرها من الأعراض.
والتفطن لذلك، وتجريد الصور من المواد، ورد بعضها إلى بعض من خاص فعل النفس، فالشرور به سرور نفساني، فلذلك يلهج به كما يلهج بما يظفر إذا كان طبيعياً، بل هذا أشرف وأفضل.
مسألة في الرؤيا ما السبب في صحة بعض الرؤيا
وفساد بعضها ؟
ولم لم تصح الرؤى كلها، أو لم لم تفسد كلها؟ وعلام يدل ترجحها بين هذين الطرفين، فلعل في ذلك سراً يظهر بالامتحان.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد صح وثبت من المباحث الفلسفية أن النفس أعلى من الزمان، وأن أفعالها غير متعلقة بشيء من الزمان، ولا محتاجة إليه؛ إذ الزمان تابع للحركة، والحركة خاصة بالطبيعة، وإذا كان ذلك كذلك، فالأشياء كلها حاضرة في النفس سواء الماضي والمستقبل منها، فهي تراها بعين واحدة، والنوم إنما هو تعطيل النفس بعض آلاتها إجماماً لها - أعني بالآلات الحواس - وهي إذا عطلت هذه الحواس بقيت لها أفعال أخر ذاتية خاصة بها من الحركة التي تسمى رؤية وجولاناً نفسانياً.
وهذه الحركة التي لها في ذاتها تكون لها بحسب حالين: إما إلهياً وهو نظرها في أفقها الأعلى، وإما طبيعياً وهو نظرها في أفقها الأدنى.
وكما أنها إذا كانت مستيقظة ترى بحاسة العين الشيء مرة رؤية جلية، ومرة رؤية خفية بحسب القوة الباصرة من الحدة والكلال، وبحسب الشيء المنظور إليه في اعتدال المسافة، وبحسب الأشياء الحائلة بينها وبينه من الرقة والكثافة.
وهذه أحوال لا يستوي فيها النظر، بل ربما نظر الناظر بحسب واحدة من هذه العوارض إلى حيوان فظنه جماداً، وربما ظنه سبعاً وهو إنسان، وبما ظنه زيداً وهو عمرو، فإذا زالت تلك الموانع، وارتفعت العوائق أبصرها بصراً تاماً - كذلك حالها إذ كانت نائمة أي غير مستعملة آلة الحس إنما ترى من الشيء ما يحصل من الرسم الأول - أعني الجنس العالي الشامل الأشياء التي هو عام لها - ثم لا يزال يتخلص لها بصورة بعد صورة، حتى تراه صريحاً بيناً، فإن اتفق أن ترى من الشيء رسمه احتيج فيما تراه إلى تأويل وعبارة، وإن رأته مكشوفاً مصرحاً كانت الرؤيا غير محتاجة إلى التفسير، بل يكون الشيء بعينه الذي رأته في النوم هو الذي ستراه في اليقظة.
وهذا هو القسم الذي لها بحسب نظرها السريع الشريف الذي من أفقها الأعلى، وبه تكون الإنذارات والرؤيا الصادقة التي هي جزء من النبوة.
فأما القسم الآخر الذي لها بحسب نظرها الأدون من أفقها الأسفل، فإنها تتصفح الأشياء المخزونة عندها من الصور الحسية التي إنما استقتها من المبصرات والمسموعات بالحواس وهي منثورة لا نظام لها، ولا فيها إنذار بشيء، وربما ركبت هذه الصور تركيباً عبثياً كما يفعله الساهي أو العابث من أفعال لا يقصد بها غرضاً كالولع بالأطراف، وبما يليها من الأشياء ولا فائدة له فيها.
وهذه الرؤى لا تتأول، وإنما هي الأضغاث التي سمعت بها.
مسألة ما الرؤيا فقد جل الخطب فيها وهي جزء من أجزاء النبوة، وما الذي يرى وما يرى؟ وما الذي يرى ما يرى؟ النفس أم الطبيعة أم الإنسان؟ وأكره أن أرقى إلى البحث عن النفس، وتحقيق شأنها، وما قال الأولون والآخرون فيها.
وإذا كان هذا معجزاً، وعن الطاقة بارزاً، فما ظنك بالبحث عن العقل، وأفقه أعلى، وعالمه أشرف، وآثاره ألأطف، وميزانه أشد اتصالاً، وبرهانه أبعد مجالاً، وشعاعه أقوى سلطاناً، وفوائده أكثر عياناً.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس ترى عند غيبة المرئيات ما تراه من حضورها، وذلك بحصول صورها في الحاس المشترك.
وهذه حال يجدها الإنسان من نفسه ضرورة لا يمكنه أن يدفعني عنها، وإلا فمن أين لنا صورة بغداد وخراسان والبلاد التي شاهدناها مرة، ثم منازلنا بها وصور أصدقائنا فيها، وجميع ما نتذكره منذ الصبي لولا حصول هذه الصورة في الحاس المشترك؟ سيما وقد تبين بياناً لا ريب فيه أن البصر وسائر الحواس إنما هي انفعالات من المحسوسات، واستحالات إليها، وهذه الاستحالة لا تثبت بعد زوال المحسوس المخيل، فلولا هذا الحاس المشترك العام الذي تثبت فيه صور المحسوسات ولا تزول، لكنا إذا أبصرنا شيئاً أو سمعناه ثم زال عن بصرنا وسمعنا زالت عنا صورته ألبتة حتى لا يمكننا أن نعرف صورته إلا إذا وقعت أبصارنا وأسماعنا عليه ثانياً، ولكنا أيضاً مع أبصارنا له ثانياً وثالثاً لا نعلم أنه الأول، وكذلك المسموعات.
ولولا أننا نستثبت صورة المحسوسات أولاً أولاً في هذه القوة - أعني الحاس العام المشترك - لكنا لا نستفيد بالقراءة، ورؤية الرقص، والحركات كلها التي تنتهي مع آنات الزمان شيئاً ألبتة؛ لأن البصر مستحيل بقراءة الحرف بعد الحرف، وبالحركة بعد الحركة، فلا تثبت الحالة الأولى من استحالتها، ولو ثبت الأولى لما حصلت الثانية، لكن الأمر بالضد في وجودنا هذه الصور بعد مفارقتها كأنها نصب عيوننا، تراها النفس.
وهذه الرؤية التي تسمى تذكراً في اليقظة هي بعينها تسمى في النوم رؤيا ولكن هناك حال أخرى زائدة على حال اليقظة؛ لأن قوى النفس عند تعطيل الحواس تتوفر على الرؤية فترى أيضاً الأشياء الآتية في الزمان المشتقبل: إما رؤية جلية، وإما رؤية خفيفة كالرسم.
واشتقاق هذه الألفاظ يذلك - أيها الشيخ اللغوي أيدك الله - أن المعنى فيها واحد؛ لأن الرؤية، والروية، والرؤيا - وإن اختلفت بالحركات - فهي متفقة بالحروف، وكذلك إذا قلت: رأى فلان، وارتأى وروى، فهذه صورة الأسماء المشتقة، وأنت تعرف أحكامها لدربتك بها.
وكذلك الحال في أبصر، واستبصر، وفي البصر، والبصيرة.
فأما لفظة النظر فإنها استعملت بعينها في الأمرين جميعاً من غير زيادة ولا نقصان، فقيل لما كان بالحس: نظر، ولما كان بالعقل: نظر، من غير تغيير لحركة ولا تبديل لحرف.
فقد تبين ما الرؤيا، وما الذي يرى، وما الذي يرى: أما الرؤيا ملاحظة النفس صور الأشياء مجردة من موادها عند النوم.
وأما الذي يرى فالنفس بالآلة التي وصفناها.
وأما الذي يرى فالصورة المجردة.
وقد مر في المسألة المتقدمة كيف يكون بعض المنام صادقاً، وبعضه كاذباً، وبعضه إنذاراً، وبعضه أحلاماً، وبعضه أضغاثاً، ولكن بغاية الإيجاز؛ لأنا لو شرحنا هذه المواضع لاحتجنا إلى تصنيف عدة كتب نقرر فيها الأصول، ونلخص بعدها الحروف، ولكن الشرط سبق بغير هذا، وسرعة فهمك أمتع الله بك - وقبولك لما يشار به - يقتضي ما رأيناه، ووأيناه.
مسألة إرادية وخلقية ما السبب في تصافي شخصين
لا تشابه بينهما في الصورة، ولا تشاكل عندهما في الخلقة ولا تجاوز بينهما في الدار، كواحد من فرغانة وآخر من تاهرت، وهذا طويل قويم، وهذا قصير دميم، وهذا شخت عجف وهذا علج جلف، وهذا أزب أشعر، وهذا أمعر أزعر وهذا أعيا باقل، وهذا أبلغ من سحبان وائل، وهذا أجود من السحاب إذا سح بودق بعد برق، وهذا أيخل من كلب على عرق، إذا ظفر بعرق وبينهما من الخلاف والاختلاف ما يعجب الناظر إليهما، والفاحص عن أمرهما.
وعلى ذكر الخلاف والاختلاف، ما الخلاف والاختلاف؟ وما الإلف والائتلاف؟ نعم، ثم لا تراهما إلا متمازجين في الأخذ والإعطاء، والصدق والوفاء، والعقد والولاء، والنقص والنماء، بغير نحلة عامة، ولا مقالة ضامة، ولا حال جامعة، ولا طبيعة مضارعة.
ثم هذا التصافي ليس يختص ذكراً وذكراً دون ذكر وأنثى، ودون أنثى وأنثى.
وإذا تنفس الاعتبار أدى إلى طرق مختلفة: منها أن التصافي قد يمتد، وقد ينقطع، ففيما يمتد ما يبلغ آخر الدهر، وفيما ينقطع ما لا يثبت إلا شهراً، أو أقل من شهر.
ومن أعجب ما ينبع منه العداوة، والشحناء، والحسد، والبغضاء، حتى كأن ذلك التصافي كان عين التنافي، وحتى يفضي إلى عظائم الأمور، وإلى غرائب الشرور، وإلى ما يفتي التالد والطارف، ويأتي على البقية المرجوة.
وربما سرت العداوة في الأولاد كأنها بعض الإرث، وربما زادت على ما كانت بين الآباء.
وهذا باب عسر، وللتعجب فيه مجال وموقع، والعلل فيه مخبوءة.
وقلما تصيب في زمانك هذا ذهناً يولع بالبحث عن غامضه، ويلهج بالمسألة عن مشكله.
وليتهم إذ زهدوا في هذه الحكم لم يقذفوا الخائضين فيها، والمنقبين عنها بالتهم!!!.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب الصداقات بين الناس ينقسم أولاً إلى قسمين عاليين، وهما أسباب الذاتي، والعرضي.
ثم ينقسم كل واحد منهما إلى أقسام، وبحسب أقسام المودات تنقسم أيضاً أسباب العداوات.
وإذا عرف أحد المتقابلين عرف مقابله الآخر، لأن أقسامه كأقسامه.
أما السبب الذاتي من أسباب التصافي فهو السبب الذي لا يستحيل، ويبقي ببقاء الشخصين، وهو نسبة بين الجوهرين، إما من المزاج الخاص العناصر، وإما من النفس والطبيعة.
فأما المزاج فقد يوجد بين الإنسانين، وبين الهيمتين؛ فإن تشاكل الأمزجة يؤلف ويجذب أحد المتشاكلين بها إلى الآخر من غير قصد ولا روية ولا اختيار، كما تجد ذلك في كثير من أنواع البهائم والطير والحشرات.
وكذلك تجد بين الأمزجة المتباعدة عداوات ومنافرات من غير قصد ولا روية ولا اختيار، وإذا تصفحت ذلك وجدته أكثر من أن يحصى.
وإن ارتقيت من الأمزجة إلى البسائط من الأمور وجدت هذا مستمراً أيضاً فيها - أعني المشاكلة والمحبة والمنافرة والعداوة - فإن بين الماء والنار من المنافرة والمعاداة، وهرب كل واحد منهما من صاحبه ليبعد عنه، ثم ميل كل واحد منهما إلى جنسه، وطلبه لشكله ليتصل به - أمر لا خفاء به على أحد.
فإن انضاف إلى ذلك مزاج مناسب بتأليف موافق ظهر السبب وقوى، كما يوجد حجر المغناطيس والحديد، وبين حجري الخل، أعني محب الخل، وباغض الخل.
وفي الحيوان من هذا المعنى شيء كثير بين لا يحتاج إلى تعديده، وإطالة الجواب بذكره.
وإذا كان اتفاق الجسمين يوجب المودة بالجوهر وبالمزاج الخاص، فكم بالحرى أن يوجبها اتفاق النفسين إذا كان بينهما مناسبة ومشاكلة.
وأما الأسباب العرضية فهي كثيرة، وبعضها أقوى من بعض: فأحد أسباب المودة العرضية العادة والإلف.
والثاني الأمر النافع أو المظنون به النفع.
والثالث اللذة، والرابع الأمل، والخامس الصناعات والأغراض، والسادس المذاهب والآراء، والسابع العصبيات.
ثم طول مكث أحد هذه الأسباب وقصره علة طول المودات وقصرها.
ومثال النافع مودات الأتباع أو الخدم وأربابهم، وأصحاب الشركة والتجارات، وطلاب الأرباح والمكاسب.
ومثال اللذيذ مودة الرجل والمرأة، على أن هناك أيضاً مودة النافع، ومودة الآمل، فهو لذلك قوى وثيق، ومودة المتعاشقين المتعاشرين على المأكول والمشروب والمركوب، وما أشبه ذلك.
وأما مثال الرجاء والأمل فكثير، ولعل مودة الوالدين للولد فيها شيء من هذا الضرب؛ لأنه متى زال الأمل، وقوي اليأس انتفيا من الولد، وزالت المودة، وحدث البغض.
فأما مودة الولد فالنفع لا غير، ثم يصير مع ذلك أيضاً إلفاً.
ولست أقول إن الأسباب كلها مودة الوالدين ما ذكرته؛ فإن هناك أسباباً أخر طبيعية، ولكن فيها شيء كثير من المعنى.
ومثال الصناعات والأغراض كثير ظاهر لا يحتاج إلى ذكره مع ظهور.
ومثال النحل والعصبيات كذلك أيضاً في البيان والظهور.
وهذه الأقسام محصورة تحت قوى النفس البهيمة والغضبية والناطقة.
فما كان منها عن نسبة ومشاكله بين النفس النامية والبهيمة كان منه أسباب المودة للذيذ أو النافع.
وما كان منها بسبب مشاكلة بين النفس الغضبية كان منه أسباب المودة للغلبة كالاجتماع للصيد والحرب، وسائر العصبيات التي تكون فيها قوة الغضب.
وما كان منها عن نسبة ومشاكلة في النفس الناظقة كان منه المودة التي للدين والآراء.
وهذه تتركب وتنفرد، فكلما تركبت، وكثرت الأسباب قويت المودة، وكلما تفردت ضعفت المودة، ويكون زمان المكث بحسب ذلك أيضاً.
وأقوى الأٍسباب المفردة العرضية ما كان عن النفس الناطقة، ويتلوه ما كان عن النفس الغضبية.
وأنت تستقرىء ذلك وتتبينه لئلا يطول الجواب فيخرج عن الشرط الأول من تحري الإيجاز.
وجميعها يزول بزوال أسبابها، وليس منها شيء ثابت لا يزول إلا الجوهري الذاتي إما نفساً وإما طبيعة.
مسألة ما العلم؟ وما حده وطبيعته؟
فقد رأيت أصحابه يتناهبون الكلام فيه، حتى قال قوم: هو معرفة الشيء على ما هو به.
وقال آخرون: هو اعتقاد الشيء على ما هو به.
وقال قائلون: هو إثبات الشيء على ما هو به.
فقيل لصاحب القول الأول: لو كان حد العلم معرفة الشيء على ما هو به لكان حد المعرفة على الشيء على ما هو به، والحاجة إلى تحديد المعرفة كالحاجة إلى حد العلم.
وهذا جواب فيه سهو وإيهام.
وقيل لصاحب القول الثاني: إن كان حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به فبين أن كون الشيء على ما هو به سبق الاعتقاد، ثم اعتقد، والاعتقاد سبق كون الشيء على ما هو به؛ فإن ما هو به هو المبحوث عنه، ومن أجله وضع العيار، ولزم الاعتبار.
فقال المجيب مواصلاً لكلامه الأول: هو اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس، وثلج الصدر.
فقيل له: إن الاعتقاد افتعال من العقد، يقال: عقد واعتقد، والكلام عقد، والتاء عرض لغرض ليس من سوس الكلمة؛ فإذن هو فعل مضاف إلى العاقد الذي له عقد، والمعتقد الذي له اعتقاد، والمسألة لم تقع عن فعل، وإنما وقعت عن العلم الذي له قوام بنفسه، وانفصال من العالم، ألا ترى أن له اتصالاً به، فهب أنك تحده باعتقاد الإنسان الشيء ما دام متصلاً به، فما حقيقته من قبل ولما يتصل به؟ وهذا جواب المعتزلة، ولهم التشقيق والتمطيط، والدعوى، والإعراب، والعصبية والتشيع.
وقيل لصاحب هذا الجواب: لو كان العلم اعتقاد الشيء على ما هو به لكان الله معتقداً للشيء على ما هو به؛ لأنه عالم.
فقال: إن الله - تعالى ذكره - لا علم له؛ لأنه عالم بذاته، كما هو قادر بذاته حي بذاته.
فقيل له: إنك لم تمانع في هذه الحاشية فلا تتوار عن السهم، إن كان حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به فحد العلم أنه معتقد للشيء على ما هو به.
وسيؤنف النظر: هل له علم أم ليس له علم؟ فراغ هكذا وهكذا.
وقيل لصاحب القول الثالث: إثبات الشيء عبارة مقصورة على إضافة فعل إلى الفاعل، والفعل هو الإثبات، والفاعل هو المثبت، وباب العلم، والجهل، والفطنة، والعقل، والنهي، والدرك - ليس من الأفعال المحضة، وإن كانت مضارعة لها كمضارعة طال، ومات، ونشأ، وشاخ، واستعر، وباخ.
وهذا البحث متوجه إلى صاحب القول الرابع، أعني في قوله: حد العلم إدراك الشيء على ما هو به.
وينبغي أن تعلم أن الغرض في حد الشيء هو تحصيل ذاته معراة من كل شائبة، خالصة من كل مقذية بلفظ مقصور عليها، وعبارة مصوغة لها، وما دامت عين الشيء ثابتة في النفس، ماثلة بين يدي العقل فلا بد للمنطق من أن يلحق منها الحقيقة، أو يدرك أخص الخاصة.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الأجوبة المحكية، والاعتراضات عليها، فأنا معرض عن جميعها؛ إذ كان هؤلاء القوم الذين حكي عنهم ما حكى لا يعرفون صناعة التحديد، وهي صناعة تحتاج إلى علم واسع بالمنطق، ودربة - مع ذلك - كثيرة.
وغاية ما عند هؤلاء القوم في التحديد إبدال اسم كان اسم، بل ربما كان اسم الشيء أوضح من الحد الذي يضعونه له.
وهذه سبيلهم في جميع ما يتكلفونه إلا ما كان مأخوذاً من المتقدمين، ومنقولاً عنهم نقلاً صحيحاً كحد الجسم والعرض وما أشبههما.
فأما ما تكلفوه من الحدود فهو بالهذيان أشبه.
وأقول إن الحد مأخوذ من جنس الشيء المحدود القريب منه، وفصوله، الذاتية المقمومة له، المميزة إياه عن غيره.
فكل ما لم يوجد له جنس، ولا فصول مقومه فإنما يرسم.
والرسم يكون من الخواص اللازمة التي أشبه بالفصول الذاتية، فلذلك ما نحد العلم بأنه إدراك صور الموجودات بما هي موجودات.
ولما كانت الصور على ضربين: منها في هيولى ومادة، ومنها مجردة خالية من المواد - صار إدراك النفس أيضاً على ضربين: أحدهما بالحواس وهو إدراكها لما كان في مادة.
والآخر بغير الحواس، بل العين الباطنة الروحانية التي تقدم الكلام فيها في بعض المسائل المتقدمة.
فاسم العلم خاص بإدراك الصور التي في غير مادة.
واسم المعرفة خاص بإدراك الصور ذوات المواد.
ثم يستعمل هذا مكان هذا الاتساع في اللغة.
ووجدتك دق اعترضت على أجوبة من لم ترتض جوابه باعتراضات يجوز أن تظن أنها لازمة لجوابنا هذا؛ فلذلك احتجت إلى الكلام عليها، فأقول: إن من شأن الحد أن ينعكس على المحدود، وذاك أن الاسم والحد جميعاً دالان على شيء واحد، لا فرق بينهما إلا في أن الاسم يدل دلالة مجملة، والحد يدل دلالة مفصلة، مثال ذلك أن تقول في حد الجسم: إنه الطويل العريض العميق، أو تقول: هو ذو الأبعاد الثلاثة، ثم ينعكس ذلك: إن الطويل العريض العميق هو الجسم، أو ذو الأبعاد الثلاثة هو الجسم.
وكذلك تقول في سائر الحدود الصحيحة؛ ولهذا تقول في العلم: إنه إدراك صور الموجودات، وتقول أيضاً: إدراك صور الموجودات هو العلم، فلا يكون بينهما فرق إلا أن العلم يدل دلالة إجمال، وحده يدل دلالة تفصيل على ما قدمناه ذكره وبيانه.
وإذا بان أن العلم إدراك وتصور فقد بان أنهما انفعال، لأن الصور إنما تكون موجودة: إما مجردة عقلية، وإما مادية حسية، وإذا أدركتها النفس فإنما تنقلها إلى ذاتها نقلاً لتنطبع تلك الصور فيها، وإذا انطبعت فيها تصورت بها.
وهذا مستمر في المحسوس والمعقول.
وإذا بان هذا، فقد بان أنه من باب المضاف؛ لأن الإدراك أثر يقع بالمنفعل من الفاعل، وكذلك التصور.
والأشياء التي من باب المضاف لا سبيل إلى وجودها منفردة، ولا إلى تحصيل ذواتها معراة من كل شائبة كما طالبت خصمك به؛ لأنها لا عين لها ثابتة في النفس مائلة بين يدي العقل إلا من حيث هي مضافة؛ فالمعلوم إذن يتقدم العلم تقدماً ذاتياً، وكذلك المحسوس يتقدم الحاس بالذات.
والفرق بين التقدم الذاتي، والتقدم العرضي والزماني بين في غير هذا الموضع وإن كانا معاً بالزمان، ثم تنتزع النفس صورها وتستثبتها في ذاتها.
فأما ما ألزمته في خاصتك في الله - تعالى عن صفات المخلوقين - فقد عرفت مما تقدم من المسائل أنا لا نقول فيه - تقدس ذكره - إنه عالم بالحقيقة التي نقولها في العالم منا، ولا نطلق شيئاً من صفاته بالمعاني التي نطلقها في غيره بوجه من الوجوه، وإنما نتبع الشريعة، ونتمثل ما تأمر به، ونسميه بأحب الأسماء، ونصفه بأعظم الصفات التي نتعارفها نحن معاشر البشر؛ لأنه لا سبيل لنا إلى غير ما نعرفه فيما بيننا، ولا طريق لنا إلا ما يستحقه - عز وجل - ذاته؛ لأنا لا نعلم بالحقيقة منه شيئاً إلا الإنية المحض، حسب.
ثم جميع ما يشار إليه بعقل أو حس فهو مخلوق له.
وإذا كان الأمر كذلك، ووجدنا الشريعة قد رخصت في أسام وصفات ممدوحة عظيمة بين البشر - ائتمرنا للشرع فأطلقناها من غير أن نرجع بها إلى الحقائق المعروفة من اللغة، والمعاني المحصلة بها.
وهذا موضع قد أومأت إليه فيما سلف، وأعلمتك وجه الصعوبة فيه.
والله الموفق والمعين، ولا قوة إلا به.
مسألة لم إذا أبصر الإنسان صورة حسنة أو سمع نغمة رخيمة قال: والله ما رأيت هذا قط، ولا سمعت مثل هذا قط، ولا سمعت مثل هذا قط، وقد علم أنه سمع أطيب من ذاك، وأبصر أحسن من ذاك؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه: رحمه الله: أما بحسب الفقه أو مقتضى اللغة فهو غير حانث ولا مخطىء؛ لأن شيئاً لا يماثل شيئاً بالإطلاق، ولا يقال في شيء: هذا مثل هذا إلا بتقييد، فيكون مثله في جوهره، أو كميته، أو كيفيته، أو غير ذلك من سائر المقولات، وقد يماثله في اثنتين منها وأكثر، فأما في جميعها فمحال.
فهذا وجه صحة قول الإنسان: والله ما رأيت مثله.
فأما من جهة أخرى - وهي جهة طبيعية - فإنك تعلم أن الحس سيال بسيلان محسوسه، فإذا استثبت صورة، ثم زالت عنه، وحضرت أخرى شغلته وثبتت بدل الأخرى، فلا يحصر الحس إلا ما قد أثر فيه دون ما قد زال، وإنما حصلت الأولى في الذكر، وفي قوة أخرى، وربما لم يجتمعا، أو لم يحضر الذكر، فيكون قول الإنسان على حسب الحاضر، وحضور الذكر أو غيبته.
مسألة ما سبب استحسان الصورة الحسنة ؟
وما هذا الولوع الظاهر، والنظر، والعشق الواقع من القلب، والصبابة المتيمة للنفس، والفكر الطارد للنوم، والخيال الماثل للإنسان؟ أهذه كلها من آثار الطبيعة؟ أم هي من عوارض النفس؟ أم هي من دواعي العقل؟ أم من سهام الروح؟ أم هي خالية من العلل جارية على الهذر! وهل يجوز أن يوجد مثل هذه الأمور الغالبة، والأحوال المؤثرة على وجه العبث، وطريق البطل؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما سبب الاستحسان لصورة الإنسان فكمال في الأعضاء، وتناسب بين الأجزاء مقبول عند النفس.
وهذا الجواب غرضك من المسألة التي هي متوجهة نحو الصورة الإنسانية المعشوقة دون غيرها.
وأقول: إن الطبيعة مقتفية أفعال النفس وآثارها، فهي تعطي الهيولى والأشياء الهيولانية صوراً بحسب قبولها، وعلى قدر استعدادها، وتحكي في ذلك فعل النفس فيها - أعني في الطبيعة - ولكنها هي بسيطة، فتقبل من النفس صوراً شريفة تامة، فإذا أرادت أن تنقش الهيولى بتلك الصور أعجزت الأمور الهيولانية عن قبولها تامة وافية؛ لقلة استعدادها، وعدمها القوة الممسكة الضابطة ما تعطاه من الصور التامة.
وهذا العجز في الهيولى ربما كان كثيراً، وربما كان يسيراً، وبحسب قوتها على قبول الصور يكون حسن موقع ما يحصل فيها من النفس؛ فإذا المادة الموافقة للصورة تقبل النقش تاماً صحيحاً مشاكلاً لما قبلتها الطبيعة من النفس.
والمادة التي ليست بموافقة تكون على الضد.
والمثال في ذلك أن الطبيعة إنما تعمل من المادة عند تجبيل الناس في الرحم الفطس في الأنف، والزرقة في العينين، والصهوبة في الشعر، وبحسب قبول الهيولى الموضوعة لها، لا لأنها تقصد الصور الناقصة، بل تقصد - أبداً - الأفضل، ولكن المادة الرطبة تأتي إلا قبول ما يلائمها، وذلك أن الدعج في العين، والشمم في الأنف صور تحتاج إلى اعتدال المادة بين الرطوبة السيالة، واليبوسة الصلبة، ولا يمكن إظهارها في المادة الرطبة، كما لا يمكن صياغة خاتم من شمع ذائب.
وربما كانت المادة حاجزة من طريق الكمية دون كيفية فلا تتم الخلقة على أفضل الهيئات.
وكذلك الحال في شعر الرأس، وأهدب العين والحاجب، فإنها لا تنتقش على ما ينبغي إذا كانت ناقصة المادة، أو غير معتدلة في الكيفيات فتعمل الطبيعة منها ما يمكن ويتأتى، فتجىء الصورة غير مقبولة عند النفس؛ لأنها لا تطابق ما عندها من الكمال.
فأما وأنت تتأمل ذلك من طين الختم فإنه إذا كان ناقص الكمية غير مقدار الخاتم، أو يابساً، أو رطباً أو خشناً - نقصت صورة الخاتم، ولم يقبل النقش على التمام والكمال.
فأما المثال في المادة الموافقة فهو بالضد من هذا المثال؛ فلذلك تقبل ما تعطيها الطبيعة على التمام، وتنتقش نقشاً صحيحاً مناسباً مشاكلاً لما في النفس، فإذا رأتها النفس سرتها؛ لأنها موافقة لما عندها مطابقة لما أعطتها الطبيعة.
فكما أن الصناعة تقتفي الطبيعة، فإذا صنع الصانع تمثالاً في مادة موافقة فقبلت منه الصورة الطبيعية تامة صحيحة: فرح الصانع، وسر وأعجب، وافتخر؛ لصدق أثره، وخروج ما في قوته إلى الفعل موافقاً لما في نفسه، ولما عند الطبيعة - فكذلك حال الطبيعة مع النفس؛ لأن نسبة الصناعة إلى الطبيعة في اقتفائها إياها كنسبة الطبيعة إلى النفس في اقتفائها إياها.
ثم إن شاء من شأن النفس إذا رأت صورة حسنة متناسبة الأعضاء في الهيئات والمقادير والألوان وسائر الأحوال، مقبولة عندها، موافقة لما أعطتها الطبيعة - اشتاقت إلى الاتحاد بها، فنزعتها من المادة، واستثبتها في ذاتها، وصارت إياها، كما تفعل في المعقولات.
وهذا الفعل لها بالذات، له تتحرك، وإليه تشتاق، وبه تكمل، إلا أنها تشرف بالمعقولات، ولا تشرف بالمحسوسات.
فإذا فعلت النفس ذلك، واشتاقت إلى الطبيعيات والأجسام الطبيعة - رامت الطبيعة في الأجساد من الاتحاد ما رامته النفس في الصور المجردة، فلا يكون لها سبيل إليه؛ لأن الجسد لا يتصل بالجسد على سبيل الاتحاد، بل على طريق المماسة، فتحصل حينئذ على الشوق إلى المماسة التي هي اتحاد جسماني بحسب استطاعتها.
وهذا من النفس غلط كبير وخطأ عظيم، لأنها تنتكس من الحال الأشرف إلى الحال الأدون، وتتصور بصورة طبيعية منها أخذت، وبها ابتديت، وتفوتها الصور الشريفة العقلية التي ترتقي بها إلى الرتبة العليا، والسعادة العظمى.
وهذا الذي ذكرته هو الأمر الذاتي الكلي الجاري على وتيرة طبيعية تحصرها الصناعة، وتضبطها القوانين.
فأما الاستحسان العرضي والجزئي - أعني ما يستحسنه شخص ما بحسب مزاج ما - فهو أيضاً لأجل نسبة ما، ولكنه يصير شخصياً، والأمور الشخصية لا نهاية لها فلذلك لا تنحصر تحت صناعة، ولا لها قانون.
والذي ينبغي أن يعلم منها أن كل مزاج متباعد من الاعتدال تكون له مناسبات نحو أمور خاصة به، ويخالفه المزاج الذي هو منه في الطرف الآخر من الاعتدال حتى يستقبح هذا ما يستحسن هذا، وبالضد، وكذلك ما تقيده العادات والاستشعارات، وهو موجود في استلذاذ المأكول والمشروب؛ فإن الأمزجة البعيدة من الاعتدال تناسب طعوماً غريبة، وتستلذ منها طرائف وعجائب.
والاستقراء يفيدك كل عجيبة وطريفة من هذا النحو في الروائح والسماع وجميع الحواس.
مسألة لم صار الحصيف المتمكن، واللبيب المبرز يشاور
فيأتي بالفلق والداهية حتى يدع الشعر مشقوقا والغيث مرهوقاً، فإذا انفرد بشأنه، وانتصر وتعقب غاية منافعة عاد كسراب بقيعة، لا يحلى ولا يمر حتى يفتضح عند من كان يثني الخنصر عليه بنكره ودهائه، ويشير إلى صواب رأيه؟ ما الذي أصابه ونزل به؟ وما الذي بدله وتحيف عليه؟ وما هذا الأمر الذي وسمه بما وسمه، وأداه إلى ما أداه؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب ذلك شيئان: أحدهما محبة الإنسان ذاته، وتخوفه على نفسه من خطإ ينسب إليه، أو غلط يقع منه، فتعرض له الدهشة والحيرة.
والآخر ميله إلى الهوى، والهوى عدو العقل، والخطأ - أبداً - مع الهوى، فإذا حضر الهوى غاب العقل، وحيث يغيب العقل يغيب الخير كله؛ فالإنسان - أبداً - أسير في يد الهوى، والهوى يريه ما يقبح جميلاً، والخطأ صواباً.
ولإحساس الرجل المميز الفاضل بذلك منه لا يأمن أن يكون رأيه لنفسه من قبل ما يريه الهوى دون العقل، فيضطرب فكره، ولا يصح رأيه لنفسه.
فأما إذا رأى لغيره فهو سليم من الحالين جميعاً؛ فلذلك يأتي بالرأى الصحيح السليم كالقدح لغيره.
وربما كان له هوى في غيره أيضاً، فيعرض له من الخطأ مثل ما عرض له في نفسه.
وهذا يدلك على صحة ما ذكرناه من السبب في خطئه على نفسه، وسداده في أمر غيره.
وإذا احترز العاقل لنفسه أيضاً، وتجنب الهوى - صح رأيه لنفسه، وقل خطؤه إلا بمقدار ما جبل عليه المرء من محبة نفسه، واشتباه الهوى في بعض المواضع اللطيفة بالرأى الصحيح؛ فإنه حينئذ يغلط غلطاً يعذر فيه، ويسلم من تبعته.
مسألة لم يشمئز الإنسان من جرح قد فغز فوه حتى إنه لينفر من النظر إليه، والدنو منه، وينفي خيال ذلك عن نفسه ويتعلل بغيره، وكلما اشتد نفوره منه اشتد ولوعه به؟ ما هذا أيضاً فإنه باب آخر في طي التعجب مما تقدم؟ وفي المسألة: أن المعالج يباشر ذاك بعينه نظراً، وبيده علاجاً، وبلسانه حديثاً أترى ذاك من المعالج إنما هو لضراوته وعادته وطول مباشرته وملاحظته؟ أم لمكسبه وحاجته وعياله ونفقته؟ فإن كان للضراوة والعادة فما خبره في ابتداء هذه الضروة والعادة؟ وإن كان لحرفته فكيف عاند طباعه معاندة وجاهد نفسه مجاهدة؟ وهل يستوى للإنسان أن يعتاد ما ليس في طبعه ولا في عادته، ثم يستمر ذلك عليه، ويكون كمن ولد فيه، وعمر به؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تبين في المباحث الفلسفية أن النفس بالحقيقة واحدة، وإنما تكثرت بالأشخاص، وإذا كان ذلك كذلك فالإنسان إذا رأى بغيره أمراً خارجاً عن الطبيعية من جرح، أو تفاوت في الخلق، أو من نقص في الصورة - عرض له من ذلك ما يعرض له في ذاته، وكأنه ينظر إلى نفسه وجسمه؛ لأن النفس هناك هي بعينها النفس ههنا، فبحق ما يعرض هذا العارض.
فأما ولوعه به، وحضوره في ذكر أبداً، فإنما ذلك لأجل أن النفس إذا قبلت صورة نزعتها من مادتها، واستثبتتها في ذاتها، وقيدت عليها قوة الذكر.
وليس تجري النفس مجرى المرآة التي إذا قابلها الشيء قبلت صورته ما دام ذلك الشيء قبالتها، فإذا زال زالت صورته عنها، ولا كناظر العين في قبول الصور أيضاً؛ وذلك أن هذه أجسام طبيعية تقبل صورة الأجرام قبولاً عرضياً فأما النفوس فإنها تقبل الصور بنوع أشرف وأعلى، ثم تستثبت تلك الصورة وإن زال حاملها عن محاذاة العين.
وقد مر في هذه المسائل طرف من هذا المعنى، وبين هناك كيف تقبل النفس بقوتها المتخيلة صورة الشيء سريعاً، وكيف تبقى بعد ذلك هذه الصورة في قوتها الذكرية حتى تراها مناماً ويقظة؛ فإنا متى شئنا أحضرنا صور آبائنا وأجدادنا ومدننا حتى كأننا نراهم، وإن كانوا غائبين أو منقرضين.
فأما لم ذلك، وكيف استقصاء الكلام فيه فموجود في مظانه.
وأما المعالج لما سألت عنه، المعتاد به بالضراوة؛ فإنما كان ذلك لأجل تكرر الصورة، وأن ذلك الفعل صار كالخلق له.
وقد بينا فيما تقدم أن الصور إذا تكررت على النفس حصل منها شيء ثابت كالجوهري لها، وقلنا إنه لولا هذه الحال لما أدبنا الأحداث، ولا دعونا الصبيان في أول نشوئهم العادات الجميلة؛ فإن الأفعال إذا اتصلت ودامت ألفتها النف سواء كانت حسنة أو قبيحة.
فإذا استمر الإنسان عليها صارت ملكة له وقنية، فعسر زوالها.
مسألة ما العلة في حب العاجلة ؟
ألا ترى الله - تعالى - يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " كلا بل تحبون العاجلة " صدق الله العظيم " ، والشاعر يقول:
والنفس مولعة بحب العاجل.
ومن أجل هذا المعنى ثارت الفتن واستحالت الأحوال وحارت العقول، واحتيج إلى الأنبياء، والسياسة، والمقامع، والمواعظ، فإذا كان حب العاجلة طباعاً، ومبذوراً في الطينة، ومصوغاً في الصيغة، فكيف يستطاع نفيه ومزايلته؟ وكيف يرد التكليف بخلاف ما في الطبيعة؟ أليست الشريعة مقوية للطبيعة؟ أليس الدين قوام السياسة؟ أليس التألة قضية العقل؟ أليس المعاد نظير المعاش؟ فكيف الكلام في هذا الشق؟ وكيف يطرد العتب على من أحب ما حببت إليه، وقصرت همته عليه، كما خلق ذكراً أو أنثى، أو طويلاً أو قصيراً، أو ضريراً، أو بصيراً، أو جلفاً، أو شهماً؟ فإن سقط اللوم في إحدى الحاشيتين سقط في التي تليها، وإن لزم في إحداهما لزم في أخرهما.
وهذا نظر ينسل إلى الجبر والاختيار، وهما فنان يحتاجان إلى تحديد نظر، وتجديد اعتبار.
والحال المقسمة للبال من قضاء الوطر، وبلوغ الغاية فقي النظر.
الجواب: قال أوب علي مسكويه - رحمه الله: العاجلة إنما يومأ بها إلى الحواس وتوابعها من اللذات في المآكل والمشارب، والاستفراغات، والاستراحات.
والتي تختص بهذه الأشياء من الحواس هي النفس البهيمية.
ثم ينبغي أن تعلم أن هذه النفس هي معنا من أول النشوء، ومع الولادة، فقد ألفناها إلفاً قوياً مع الزمان المتصل الطويل، فلذلك كانت قوتها أظهر، وغلبتها أشد، وصار الحكم لها.
وإنما نظرنا النفس المميزة بقوة العقل من بعد، فيظهر أثرها قليلاً قليلاً إلى أن يقوى في وقت التكهل والاجتماع، وبلوغ الأشد، فنحن نحتاج لذلك إلى مقاومة تلك النفس، والاستعداد لها، وكسر حدتها، وإيهان قوتها بكلفة شديدة، وصبر طويل بحسب قوتها، واستيلائها علينا، وإلفنا إياها، ونحتاج أيضاً إلى تقوية النفس الناطقة بامتثال أمرها، وتثميرها، وتنفيذ عزائمها؛ فلأجل هذا صعب علينا قبول أمر هذه، وسهل قبول أمر تلك.
فأما قولك: كيف يرد التكليف بخلاف ما في الطبيعة؟ فإنا نقول: إن طبيعة النفس البهيمية الانقياد للنفس الناطقة، والوقوف عند أمرها.
ولولا أن ذلك في جلبتها وسوسها، وهو قبول التأديب، وأن تصدر أفعالها الخاصة بها بحسب ما يأمرها به العقل - لكان - لعمري - تكليفاً بخلاف ما في الطبع، ولكن أحداً لا يروم إبطال هذه القوة رأساً، بل يطالبها بأن تقبل ترتيب الأفعال على ما يرسمه العقل، وهي مطبوعة على قبول هذا الأدب كما قلنا.
وليس يجري هذا مجرى ما ضرب به المثل من الطول والقصر وغيرهما؛ لأن هذا شيء لا صنع فيه للأدب؛ وإنما هو أثر يقبل الهيولى من المعطي بحسب موضوعه، ولا يمكن خلافه بوجه ولا سبب.
وتفسير ذلك أن الرطوبة التي في المادة تقبل من الحرارة امتداداً وانجذاباً إلى العلو الذي هو حركة الحرارة، فيحدث الطول بحسب المادة، وبقدر الرطوبة المنفعلة، والحرارة الفاعلة.
ولا يمكن أن يكون إلا على ما يظهر بالفعل.
فقد بان الفرق بين هذين النوعين اللذين رمت الجمع بينهما، وظهر السبب في حب العاجلة، وحسن ما أدب الله - تعالى - به الناس بالدين والآداب، وخرج الجواب عن المسألة في إيجاز وإيضاح.
مسألة ترى ما السبب في قتل الإنسان نفسه عند إخفاق يتوالى عليه، وفقر يحوج إليه، وحال تتمنع على حوله وطوقه، وباب ينسد دون مطلبه ومأربه، وعشق يضيق ذرعاً به، ويبعل في معالجته؟.
وما الذي يرجو بما يأتي؟ وإلى أي شيء ينحو فيما يقصد وينوي؟ وما الذي ينتصب أمامه، ويستهلك حصافته، ويذهله عن روح مألوفة، ونفس معشوقة، وحياة عزيزة؟ وما الذي يوهمه من العدم حتى يسلبه من قبضة الوجدان، ويسلمه إلى صرف الحدثان؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الإنسان مركب من ثلاث قوى نفسانية، وهو كالواقف بينها تجذبه هذه مرة، وهذه مرة.
وبحسب قوة إحداها على الأخرى، يميل بفعله، فربما غلبت عليه القوة الغضبية، فإذا انصبغ بها، وما بفعله إليها ظهرت قوته كلها كأنها غضب، وخفيت القوى الأخرى حتى كأنها لم توجد له، وكذلك إذا هاجت به القوة الشهوية خفيت آثار القوى الأخر.
وأحصف ما يكون الإنسان، وأحسنه حالاً إذا غلبت عليه القوة الناطقة؛ فإن هذه القوة هي المميزة العاقلة التي ترتب القوى الأخرى حتى تظهر أفعالها بحسب ما تحده وترسمه.
والإنسان حينئذ نازل بالمنزلة الكريمة بحيث هيأه الله تعالى، وكما أراده.
فإذا كان الأمر كذلك فغير منكر أن يهيج بالإنسان بعض تلك القوى منه عند التواء أمر عليه، أو انسداد باب دون مطلب له، فيظهر منه فعل لا توجبه روية، ولا يقتضيه تمييز؛ لخلفاء أثر القوة الناطقة، واستيلاء القوة الأخرى.
وأنت تجد ذلك عياناً عند الأحوال المختلفة بك؛ فإنك تجد نفسك في أوقات على أحوال مؤثرة لها، قاصدة إليها، غير مصغية إلى نصيح، ولا قابلة أمر سديد، حتى إذا أفقت من تلك السكرة التي غلبت عليك في تلك الحال - عجبت من الأفعال التي ظهرت منك، وأنكرت نفسك فيها، وكأن غيرك كان الذي آثرها، وقصد إليها، فلا تزال كذلك حتى تهيج بك تلك القوة الأولى مرة أخرى، فلا يمنعك ما جربته من نفسك، ووعظتها به - أن تقع في مثله.
وسبب ذلك التركيب من القوى المختلفة النفسانية.
وليس يمكن الإنسان أن يخلص بقوة واحدة، ويصدر أفعال الباقية بحسب التي هي أفضل وأشرف إلا بعد معالجة شديدة، وتقويم كثير، وإدمان طويل؛ فإن العادة إذا استمرت، والعزيمة إذا أنفذت في زمان متصل طويل - حصل منها خلق، فكان الحكم له، وصار هو الغالب؛ ولذلك نأمر الأحداث بالسيرة الجميلة، ونؤاخذهم بالآداب التي تسنها الشرائع، وتأمر بها الحكمة.
واستقصاء هذا الكلام، وذكر علله لا تقتضيه المسألة، ولا يفي به المكان.
فإن شك فيما قلنا شاك، وظن أن الإنسان المركب من القوى الثلاثة يجب أن يكون لا زماً لأمر واحد متركب من تلك القوى كما نجد الحال في سائر المعجونات والمركبات من الطبيعة، فليعلم أن مثاله ليس بصحيح؛ لأن قوى الإنسان النفسانية، لها من ذاتها حركات تزيد وتنقص، وأحوال - أيضاً - تهيجاً.
وليست كذلك قوى الطبيعيات، فلتنعم النظر في ذلك تجده كما أومأنا إليه وذكرناه.
مسألة سألت بعض مشايخنا بمدينة السلام عن رجل اجتاز بطرف الجسر، وقد اكتنفه الجلاوزة لا يسوقونه إلى السجن ، فأبصر موسى وميضة في طرف دكان مزين، فاختطفها كالبرق، وأمرها على حلقومه، فإذا هو يخور في دمائه، قد فارق الروح وودع الحياة.
فقلت: من قتل الإنسان؟ فإذا قلنا: قتل نفسه، فالقاتل هو المقتول، أم القاتل غير المقتول؛ فإن كان أحدهما غير الآخر، فكيف تواصلا مع هذا الانفصال؟ وإن كان هذا ذاك، فكيف تفاصلا مع هذا الاتصال؟ وإنما شيعت المسألة الأولى بهذا السؤال لأنه ناح نحوها، وقاف أثرها.
الجواب: قال أبو على مسكويه - رحمه الله: كأن هذه المسألة مبينة على أن الإنسان شيء واحد لا كثرة فيه، والشبهة فيها من هذا الوجه تقوى، فإذا بان أن للإنسان قوى كثيرة وهو مركب منها، وأنه يميل في وقت ما نحو قوة، وفي وقت آخر نحو غيرها، وأن أفعاله - أيضاً - بحسب ميله إلى إحدى القوى، وغلبتها عليه، كما بيناه في المسألة التي قبل هذه - زال هذا الشك.
فأما قوله: كيف تواصلا مع هذا الانفصال؟ فأقول: إن السبب في ذلك أن الباري تعالى لما علم أن هذا المركب من نفس وجسد يحتاج إلى أشياء تقيمه من غذاء وغيره، وأنه لا قوام لحياته إلا بمادة، وكان لا يصل إلى تلك المادة إلا بحركة وسعي، وكانت العائقات والمانعات عنها كثيرة - أعطاه قوة يصل بها إلى حاجاته، ويدفع بها أضدادها عن نفسه؛ ليتم له البقاء.
ومن شأن هذه القوة أن تهيج وتثور في أوقات بأكثر مما ينبغي، وفي أوقات تقصر عما ينبغي.
وهاتان الحالتان لها رذيلتان: أما الأولى فيتبعها التهور، وأما الثانية فيتبعها الجبن.
وللإنسان - بقوة التمييز والعقل - أن يستعمل هذه القوة على ما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، وعلى الشيء الذي ينبغي.
فإذا حصل في هذه الرتبة فهو شجاع وممدوح، وكما أراده الله تعالى منه على خلقه له.
وقد بقي في المسألة موضع شك، وهو أن يقول قائل: إن كان قاتل نفسه إنما ظهر منه هذا الفعل بحسب القوة الغضبية فهو شجاع، والشجاع محمود، ونحن نعلم أن هذا الفاعل بنفسه هذا الفعل مذموم، فكيف حاله؟ وأين موضع الشجاعة الممدوح؟ فنقول: لعمري إن هذا الفعل من أثر القوة الغضبية، ولكنه بحسب رذيلتها، وتقصيرها عما ينبغي، لا بحسب الزيادة، ولا بحسب الاعتدال الذي سميناه شجاعة؛ وذلك أن المرء الذي يخاف أمراً فيه من فقر أو شدة، ولا يرحب ذرعاً به، ولا يستقبله بعزيمة قوية، ومنه تامة - جبان ضعيف، فيحمله هذا الجبن على أن يقول: أستريح من تحمل هذه المشقة التي ترد علي.
وهذا هو النكول والضعف المسمى جبناً.
وقد ذكرنا أن قوة الغضب ربما كلت، ونقصت عما ينبغي، فتكون رذيلة ومنقصة، ولا تسمى شجاعة، ولا يكون صاحبها محموداً ولا ممدوحاً.
مسألة كيف صار يخلص في وقت معتاد النفاق ؟
ويتيقن من اشتمل بالريب، ويستيقظ من هو راقد، ويتنصح من هو غاش؟ وكيف صار - أيضاً - ينافق من نشأ على الإخلاص، ويريب من ألف النزاهة؟ وعلى هذا كيف يكون يخون من استمر على الأمانة ستين عاماً ويتحرج من عتق في الخيانة ستين عاماً؟ ما هذه العوارض المختلفة، والعادات المستطرقة؟ وكذلك نجد الكذاب يصدق أحياناً لغير أرب مجتلب، والصادق يكذب لغير معنى محدد، ثم لا يتفق أن يصدق ذلك في نافع، أو يكذب هذا في دافع.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة أيضاً قريبة من المسألتين المتقدمتين، والجواب عنها قريب من الجواب عنهما.
وذلك ان النفاق والنصح، وسائر ما ذكره في هذه المسألة هو من آثار النفس الناطقة.
ومن البين أن هذه النفس لها أيضاً مرض وصحة؛ فصحتها اعتدالها في قواها الباقية، ومرضها خروجها عن الاعتدال.
وهي إن خرجت عن اعتدالها في وقت فغير منكر لها أن تعود إليه في وقت آخر، وكما أن الصدق، والنصيحة، وصحة الروية، وتقسيط الأعمال بحسب الأحوال هو صحتها واعتدالها، فأضداد هذه مرضها وخروجها عن الاعتدال.
ولكن ليس نسلم أنها تصدق ثم تكذب لغير سبب، ولا لدفع مضرة، بل يظن - أبداً - أن فعلها صواب لأمر تراه، فربما كان ذلك الظن غلطاً وخطأ، فأما أن تفعل ذلك لغير أرب، وفير قصد إلى ما تراه خطأ فمحال.
مسألة ما معنى قول بعض العلماء إن الله عم الخلق بالصنع ولم يعمهم بالاصطناع؟ وما مبسوط هذا المعنى؟ وكيف وجه تحصيله؟ وهل ترك الله - تعالى - فيه صلاح الخلق فلم يجد به ابتداء من غير طلب؟ كيف يكون هذا وقد بدأ بالنعم قبل الاستحقاق، وخلق الخلق من غير حاجة إلى الخلق؟ فإن قيل: أبلى بالحاجة ثم منع من غير بخل، قيل: فلن ينبغي أن يجحد إحسانه فيما ظهر لحيرة تقع فيما يظن، ولعل في غيب ما منع ما قد يقع، ولكنه مجهول، وهو بتدبيره ملىء، وعلى موجب الحكمة ماض بغير مدافعة، ولا اعتراض.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما قول من قال: إن الله - تعالى - عم بالصنع خلقه، ولم يعمهم بالاصطناع فكلام قد ذهب به مذهب البلاغة، ومعناه صحيح لولا التكلف الذي تجشمه صاحبه.
وهذا المعنى في قول المسيح - عليه السلام - أظهر، وذاك أنه روى لنا، ونقل من لغته إلى لعتنا أنه قال: " لا تهمتوا ولا تقولوا ما نأكل، وما نشرب، وما نلبس؟ فإن قدر الحاجة قد عم به جميع الخلق، وإنما يلتمسون الفضول فيها، واعلموا أن ليس كل من دعا إلى الله يرى وجه الله، بل من أكمل رضوانه بالعمل الصالح " .
فهذا قول المسيح - عليه السلام - على ما نقل وروى.
فأما تفسير هذا الكلام، وهو تبيين الكلام الأول الذي سألت عن معناه، فإن الصنع البين الظاهر لجميع الخلق هو إعطاؤهم الحياة، ثم إزاحة العلة فيما هو ضروري في بقائها، وذلك أن بقاءها بالحرارة الغريزية، وبقاء الحرارة الغريزية بالترويح يخرج من معدنها الذي هي متعلقة به - الدخان الذي يحدث عن الحرارة والرطوبة الدهنية، وتبديل الهواء اليابس بذلك الدخان بهواء آخر رطب سليم موافق لمادة تلك الحرارة، وذلك بمنفاخ دائم العمل في شبيه بكير الحدادين وهو الرئة، وآلة النفس في جميع ماله قلب ومعدن لهذه الحرارة وما يجرى مجراها في الحيوانات الأخرى التي لا قلب لها، ولا حاجة بها إلى الترويح عن الحرارة الملتهبة في المادة الرطبة الدهنية، ثم إزاحة العلة في نفس الهواء الذي هو مادة تلك الحرارة، ثم في الرطوبة التي لولاها لفني مقدار ما في الجسم منها مع اغتذاء الحرارة بها، أعني الماء.
وهذه هي الأشياء الضرورية في الحياة التي لو فقد منها واحد طرفة عين لبطلت الحياة.
وقد أزيحت العلة فيها إزاحة بينة كثيرة ظاهرة وعم بها جميع الحيوان.
فأما الأشياء التي تتبع هذه مما هي ضرورية في طول بقاء الحي، وفي حسن حاله من العروق الضوارب وغير الضوارب، وآلات الغذاء، والقوى الجاذبة والمغيرة، والمحيلة الممسكة والدافعة، وارئيسة من هذه القوى، والخادمة لها، وقيام الرئيسة - أبداً - بسياسة الخوادم واستخدامها، وقيام الخوادم منها بالطاعة والخدمة الدائمة - فأمر قد تبين في صناعة الطب، وظهر ظهوراً لا يحتاج معه إلى استئناف قول.
ويبقى بعد ذلك تخير الحي لقوت دون قوت مما ليس بضروري في بقائه، فقد أعطى بحسب حاجته - أيضاً - قوة يطيق بها التخير والتوصل إلى قدر حاجته.
وهذا كله معموم به جميع الخلق، غير ممنوع من شيء منه.
فأما الاصطناع فهو القرب من الباري - جل اسمه - وليس يتم هذا إلا بسعي ورغبة وتوجه.
وقد دل - أيضاً - تقدس اسمه إلى ذلك، وبقي أن يتحرك العبد إلى هذه الحال؛ فإنه لا يمنع - أيضاً - من الاصطناع، بل الباب مفتوح، والحجاب مرفوع، وإنما المرء يحجب نفسه، ويمتنع من التوجه والرغبة، وقصد المنهاج والسبيل الذي دل عليه، ورغب فيه - بأن يتشاغل بفضول عيشه الذي هو مستغن عنه بما هو حي، وبالميل إلى لذات الحس التي تعوقه عن مطلبه وغايته ومنتهى سعادته.
وهذا بحسب الموضع كاف فيما سألت عنه، والله الموفق.
مسألة ما سر النفس الشريفة في إيثار النظافة
ومحبة الطهارة، وتتبع الوضاءة ؟
وعلى هذا فما وجه الخير في قوله صلى الله عليه وسلم " البذاذة من الإيمان " ؟ وقال بعض النساء: القشف من الشرف، والترف من السرف.
وسمعت صوفياً يقول: سر الصوفي إذا صفا لم يحتمل الجفا.
ومطلق هذا يقتضي قيداً، ولكن قال هذا وسكت.
وسمعت فيلسوفاً يقول: إذا صفا السر انتفى الشر.
وهذا وإن كان قولاً رشيقاً، فإن السبب فيه متوار، والدليل عنه متراخ.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ينبغي أن نتكلم أولاً في سبب النظافة والدنس حتى تبين معنى كل واحد منهما، ثم ننظر في نفور الإنسان عن الدنس، وميله إلى الطهارة فأقول: إن العناصر الأربعة إذا لم تمتزج ضروب الامتزاجات المتغايرة لم ينفر الإنسان منها، ولم يسمها دنساً، وإنما يقع النفور من بعض المزاجات.
وإذا نظرنا في المزاجات وجدنا هذه الأربعة إذا اختلطت ضرباً من الاختلاط على مناسبة ما كانت معتدلة، وحصل المزاج الإنساني، وهذا المزاج له غرض ما، فكل ما لم يخرج عنه فهو إنسان بالصورة والمزاج، وإن انحرف عن هذا المزاج، وخرج عنه - لم يكن إنساناً.
ولا بد أن يكون انحرافه وخروجه إلى واحد من هذه الأربعة أكثر، فإن كان مائلاً إلى جهة الحرارة، وباقي العناصر مقاربة للمزاج الإنساني، أو باقية بحالها - نظر في مقدار خروجه إلى جهة الحرارة، فإن كان كثير جداً كان سماً للإنسان قاتلاً له، وإن كان دون هذا كان ضاراً له بحسب خروجه عن اعتداله في الحرارة، وهذا لا يسمى دنساً، وكذلك إن خرج في جهة اليبوسة والبرد، فإن هذه إن أفرطت، وحصلت مضادة للمزاج المعتدل حتى تبطله - كانت سموماً، وإن لم تبطل ذلك المزاج فهي تضره وتغيره عن صورته، وسواء كان هذا الخارج عن الاعتدال الإنساني نباتاً أو حيواناً فإنه يعرض فيه ما ذكرناه.
فهذه حال مفردات العناصر إذا أفرطت مع اعتدال الباقيات.
فإما إذا خرج اثنان منها عن الاعتدال، فإن خروجهما أيضاً يكون على ضروب وأنحاء إلا أن الرطوبة - خاصة - إذا أفرطت في الزيادة، والحرارة إذا أفرطت في الزيادة - عرض من هذا المزاج حال تسمى عفونة وهي عجز الحرارة عن تحليل الرطوبة فيحصل مخالفاً للمزاج المعتدل من هذا الوجه فيتكرهه الإنسان، ويأباه سواء أكان ذلك في حيوان أو جماد.
وهذا النفور والتكره على ضروب بحسب خروج المزاج المقابل له عن الاعتدال، وسأضرب لذلك مثلاً، وهو أن مزاج الإنسان لما كان مقارباً لمزاج الفرس، وكانت بينهما مناسبة - حصل بينهما قبول من تلك الجهة، فإذا تباعد هذا المزاج حتى يكون منه الغبار والدود والجعل والذباب - نفر منه الإنسان وتكرهه، وذلك أن هذه الأنواع من الحيوانات مكونة من عفونات - كما وصفناه من زيادة الرطوبة، ونقصان الحرارة - فبعدت من مزاج الإنسان، وكذلك حال فضول البدن؟ وذلك أن الطبيعة إذا استولت على الغذاء فتناولت منه القدر الملائم، وميزته أيضاً وحصلته في أوعيته، وشبهته أولاً أولاً بالبدن؛ ونفت ما ليس بملائم، وميزته أيضاً، وحصلته في أوعية أخرى، وهي آلات النفض، فإن ذلك المميز الذي قد خرج عنه جميع ما فيه من الملاءمة - يحصل على غاية البعد من المشابهة، وتعرض له غلبة الرطوبة، ونقصان الحرارة، فيعفن، فينفر عنه الإنسان ويكرهه، ويحب الراحة منه.
وهذا سبيل ما يرشح من البدن من سائر الفضول، فإن جميعه ما نفاه الطبع وميزه، فهو لذلك غير ملائم، وما لم يكن ملائماً كان متكرهاً، ويسمى هذا النوع دنساً إلا أنه ما دام مستبطناً وغير بارز من البدن، فهو محتمل بالضرورة، فإذا برز عفناه - حينئذ - وتكرهناه، وتقررنا منه.
وهذه الأشياء هي التي تسمى دنساً وقذراً بالطبع.
وههنا أشياء أخر ينفر منها الإنسان بالعادة، ويألفها أيضاً بالعادة، وليس ما نحن فيه من هذه المسألة في شيء.
فأما قول النبي - عليه السلام - " البذاذة من الإيمان " ، فهو بعيد من هذا النمط الذي كنا في ذكره؛ فإن من كاد باذ الهيئة يكره الدنس، ويحب النظافة، وليس يخالفك في شيء مما تؤثره من معنى الطهارة، فإن خالفك فليس من حيث بذاذة الهيئة، لكن كما يخالفك غيره ممن ليس بباذ الهيئة.
وكذلك حال التقشف الذي حكيت فيه كلاماً ما عن بعض الصوفية؛ فإن تلك المعاني هي موضوعات أخر ليست مما كنا فيه، والكلام فيها يتصل بمعاني العفة والقناعة، والاقتصاد، وهي فضائل قد استقصى الكلام فيها في مواضع أخر.
فأما قول القائل: سر الصوفي إذا صفا لم يحتمل الجفا، وقول الآخر: إذا صفا السر انتفى الشر، فهو إيماء إلى مراتب النفس من المعارف، ومنازل اليقين.
ولعمري إن من حصل له مرتبة في القرب من بارئه - جل اسمه، وتعالى علواً كبيراً - فقد انتفى منه الشيء، ولم يحتمل الجفاء.
وشرح هذا الكلام وبسطه طويل، وقد لاح مما ذكرناه ما فيه كفاية وبلاغ.
مسألة الغناء أفضل أم الضرب ؟
والمغنى أفضل وأشرف أم الضارب؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الموسيقا فإنه علم، وقد يقترن به عمل، وعامله يسمى موسيقاراً.
فأما علمه فهو أحد التعاليم الأربعة التي لا بد لمن يتفلسف أن يأخذ بخط منه، وأما عمله فليس من التعاليم، ولكنه تأدية نغم وإيقاعات متناسبة من شأنها أن تحرك النفس - في آلة موافقة، وتلك الآلة إما أن تكون من البدن، أو خارجة عن البدن.
فإن كانت من البدن فهي أعضاء طبيعية أعدت لتكمل بها أمور أخر فاستعملت في غيرها.
وإن كانت خارجة من الطبيعة فهي آلات صناعية أعدت لتكمل بها تأدية النغم والإيقاع.
ومن شأن الآلات الطبيعية إذا هي استعملت في غير ما أعدت له - أن تضطرب، وتخرج عن أشكالها، فتتبذل وتتغير.
فإن كان غرض المتكلف ذلك فيها الوصول إلى خسائس الأمور ونقائصها كان قبيحاً مستهجناً.
وإن كان غرضه منها إظهار أثر العلم للحس، ليتبين النسب المؤلفة في النفس، وإظهار الحكمة في ذلك - كان جميلاً مستحسناً، وإن كان لا بد فيه من الخروج عن العادة والإلف عند قوم، لكن غرض أهل زماننا من العمل هو إثارة الشهوات القبيحة، وإعانة النفس البهيمية على النفس المميزة حتى تتناول لذاتها من غير ترتيب العقل، وترخيصه فيها.
وإذا كان قصده لذلك بآلات طبيعية فهو - لا محالة - يضم إليه كلاماً ملائماً له، يؤلف منه تلك النغم في ذلك الإيقاع.
فإن كان - أيضاً - منظوماً نظماً شعرياً غزلياً قد استعمل فيه خدع الشعر وتمويهاته - تركب تحريكه للنفس، وكثرت وجوهه، واشتدت الدواعي، وقويت على ما ينقض العفة، ويثير الشبق والشره؛ لأن الشعر وحده يفعل هذه الأفعال.
وهذه أسباب شرور العالم، وسبب الشر شر؛ فلذلك يعافه العقل، وتخطره الشريعة، وتمنع منه السياسة.
فإذا كانت الآلة خارجة من البدن فأحسنها ما قل استعمال الأعضاء فيه، وبقيت هيئة الإنسان ونصبته صحيحة، غير مضطربة، وكان مع ذلك أكثر طاعة في إبراز على التأليف، وأقدر على تمييز النغم، وأفصح على حقائق النغم المتشابهة لا إلى المتناسبة التي حصلها على الموسيقا.
ولسنا نعرف أكمل في هذه الأسباب من الآلة المسماة عوداً؛ لأن أوتارها الأربعة مركبة على الطبائع الأربع، ولدساتينها المشدودة نسب موافقة لما يراد من تمييز النغم فيها، وليس يمكن أن توجد نغمة في العالم إلا وهي محكية منها، ومؤادة بها.
فأما ما يحكى عن الأرغن الرومي فلم تسمعه إلا خبراً، ولم نره إلا مصوراً، وقد عمل فيه الكندي وغيره كلاماً ما لم يخرج به إلى الفعل من القوة، ولو عملت الآلة لا حتاجت من مهارة مستعملها ما يتعذر وجوده ويبعد.
وكما أن العود لما خرج إلى الفعل احتيج إلى ماهر يضربه ولم يكن ليغني فيه العلم دون العمل والحذق فيه، فكذلك هذه الآلة لو خرجت إلى الفعل؛ فلذلك توقفنا عن الحكم لها بالشرف، وقطعناه للعود.
مسألة ما علة افتتان بعض الناس في العلوم على سهولة من نفسه، وانقياد من هواه واستجابة من طبعه، وآخر لا يستقل بفن مع كد القلب، ودوام السهر، ومواصلة المجالس، وطول المدارسة؟.
ولعل الأول كان من المحاويح، والثاني من المياسير.
وقال بعض الناس: هذه مواهب.
وقال آخرون: هي أقسام.
وقال قائلون: هي طبائع مختلفة، وعروق نزاعة، ونفوس أباءة.
وقال آخرون: إنما هي تأثيرات علوية، ومقابلات سفلية، واقترانات فلكية.
وقال آخر: الله أعلم بخلقه وبفعله، ليس لنا إلا النظر والاعتبار، فإن أفضينا بنا إلى البيان فنعمة لا يقوم بشكرها إنس ولا جان، وإن أديا إلى اللبس فتسليم لا عار فيه على الإنسان.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس وإن كانت في ذاتها كريمة شريفة فإن أفعالها إنما تصدر بحسب آلتها، فكما أن النجار إذا فقد الفأس، واستعمل المثقب أو المنشار مكانه لم يصدر فعله الذي يتم بالفأس كاملاً، ولم تحصل له صور المنجور تاماً، ولم يكن ذلك لتقصير منه، بل لفقد الآلة - فكذلك حال النفس إذا ثارت إلى معرفة، ونهضت نحو علم، ثم لم تجد آلته، فإنها حينئذ بمنزلة النجار الذي ضربناه مثلاً، وذلك أن بعض العلوم يحتاج فيه إلى تخيل قوى، والتخيل إنما يكون باعتدال ما في مزاج بطن الدماغ المقدم.
وبعض العلوم يحتاج فيه إلى فكر صحيح، والفكر الصحيح إنما يتم باعتدال ما في مزاج بطن الدماغ الأوسط.
وبعض العلوم يحتاج فيه إلى حفظ صحيح جيد، والحفظ الجيد يحصل باعتدال ما في مزاج بطن الدماغ المؤخر.
وبعض هذه المزاجات يحتاج في اعتداله الخاص فيه إلى رطوبة ما، وبعضه يحتاج فيه إلى يبوسة ما، وكذلك الحال في الكيفيتين الأخريين.
ولما كانت هذه البطون متجاورة أدى بعضها إلى بعض كيفيتها؛ فإن رطوبة أحدها ترطب الآخر بالمجاورة وإن كان غير محتاج إلى الرطوبة في اعتداله الخاص به، فلذلك قل من يجتمع له الفضائل الثلاث من صدق التخيل، وصحة الفكر، وجودة الحفظ.
وإذا غلب أحد هذه كانت سهولة العلم الموافق لذلك المزاج على الإنسان بحسب ما ركب فيه، وأعطى القدرة عليه.
ومن فقد الاعتدال فيها كلها فقد الانتفاع بالعلوم أجمعها.
وربما حصلت الفضائل في التركيب من صحة المزاج، ثم أهمل صاحبها نفسه بمنزلة النجار الذي يجد الآلة ثم لا يستعملها كسلاً وميلاً إلى الراحة والهوينا، وشغلاً باللعب والعبث، فهذا هو المذموم المضيع حظه، الذي خسر نفسه، قال الله تعالى فيه " بسم الله الرجمن الرحيم " قل إن الخاسرين الذي خسروا أنفسهم " صدق الله العظيم " .
فأما من استعمل آلته بحسب طاقته، وحصل فضيلتها بنحو استطاعته فهو معذور.
وليس يكون ذلك بيسار ولا فقر، بل بحصول الآلة، ومواتاة المزاج وبقدر عناية الإنسان بعد ذلك.
فمن قال من الناس: إنها مواهب، أو أقسام، أو طبائع، أو تأثيرات علوية أو غير ذلك فهو صادق، وليس يكذب أحد في شيء مما حكيته؛ لأن كل واحد منهم يومىء إلى جهة صحيحة، وسبب ظاهر، وإن كانت جميع الجهات والأسباب مرتقية إلى سبب واحد لا سبب له، وإلى علة أولى هي علة الباقيات وإلى مبدع للجميع، خالق للكل - تعالى ذكره، وتقدس إسمه - ونحن نستمده التوفيق، ونسأله العصمة؛ ونستوزعه الشكر، ونفوض إليه أمورنا وهو حسبنا ومولانا، وعليه توكلنا، ونعم المولى، ونعم النصير.
مسألة ما الفراسة؟ وماذا يراد بها؟
وهل هي صحيحة، أم هي تصح في بعض الأوقات دون بعض؟ أو لشخص دون شخص؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الفراسة صناعة تتصيد الأخلاق والأفعال التي بحسب الأخلاق، من الأمزجة والهيئات الطبيعية، والحركات التي تتبعها.
وهي صناعة صحيحة، قوية الأصول، وثيقة المقدمات، ويحتاج صاحبها ومتعاطيها أن يتدرب في ثلاثة أصول لها حتى يحكمها، ثم يحكم بها، فإنه حينئذ لا يخطىء ولا يغلط.
والأصول الثلاثة هي هذه: أما أحدها، فالطبائع الأربع أنفسها.
والثاني، الأمزجة وما يتبعها ويقتضيها.
والثالث، الهيئات والأشكال والحركات التابعة للأخلاق.
ونحن نشرحها على مذهبنا في الإيجاز والإيماء إلى النكت، والدلالة بعد ذلك على مظانها.
فأما قولك: فما الذي يراد بها؟ فإن المراد من هذه الصناعة تقدمة المعرفة بأخلاق الناس ليلابسهم على بصيرة.
والفراسة قد تكون في الخيل والكلاب وسائر الحيوانات التي ينتفع بها الناس، وقد تكون في الجمادات أيضاً كفراسة السيوف والسحاب وغيرهما، إلا أن العناية التامة إنما وقعت بفراسة الإنسان خاصة لكثرة الانتفاع به مما سنذكره بمشيئة الله.
وأما قولك: هل تصح أبداً، أم في وقت دون وقت، ولشخص دون شخص؟ فإني أقول: إنها تصح أبداً في كل وقت، ولكل أحد، ولكن على الشريطة التي ذكرناها من إحكام الأصول التي وعدنا بذكرها مجملة، والدلالة على مواضعها مفصلة.
وإنما قلنا إنها تصح أبداً ودائماً، لأن مقوماتها ودلائلها ثابتة غير منقلبة، وليست كأشكال الفلك التي تتبدل وتتغير، بل شكل الإنسان، وهيئاته، ومزاجه، والحركات اللازمة له عن هذه الأشياء ثابتة باقية ما دام حياً، فالمستدل بها أيضاً يتصفحها فيجدها بحال واحدة.
ونعود إلى ذكر الأصول الثلاثة فنقول: أما الاستدلال بالطبائع أنفسها فهو أن الحرارة التي تكون في قلب الإنسان - وهي سبب الحياة - من شأنها إن زادت على الاعتدال أن تزيد في النفس؛ لحاجة القلب إلى الترويح بالرئة، وأن توسع التجويف الذي تكون فيه بالحركة الزائدة، وأن يكون لها دخان فاضل على القدر المعتدل بحسب زيادتها، وبقدر الرطوبة الدهنية التي تجاورها.
فيعرض من هذه الأحوال التي ذكرتها أن يكون الإنسان الذي حرارة قلبه بهذه الصفة عظيم النفس، واسع الصدر، جهير الصوت، كثير الشعر في نواحي الصدر والأكتاف إذا لم يمنع منه مانع، كما يعرض لمن يكون جلده مستحصفاً، ومسام جلده مسدودة أو ضيقة.
فمن وجد هذه الصفات فحكم بأن الموجب لها حرارة غالبة فهو صادق، إلا أنه لا ينبغي أن يتسرع إلى حكم آخر حتى في الأصلين الباقيين، ليثق كل الثقة، وذلك أن الحرارة يتبعها الغضب والشجاعة، وسرعة الحركة، ولكن على شروط، وهي أن للدماغ مشاركة في أفعال الإنسان، وتعديل حرارة القلب إذا كان بارداً رطباً، فينبغي أن ينظر فيه، فإن كان صاحب هذا المزاج صغير الرأس بالإضافة إلى صدره فاحكم عليه بما قلناه.
فإن أضاف المستدل إلى هذه الدلالة الدلالتين الأخريين من الأصلين الباقيين لا أشك في صحة حكمه، وصدق قياسه.
وأنا الاستدلال بالأصل الثاني وهو المزاج، فقد علمنا أن لكل مزاج خلقاً ملائماً، وشكلاً موافقاً، وذلك الخلق يتبعه خلق النفس؛ فإن الطبيعة تعمل - أبداً - من كل مزاج خلقاً خاصاً؛ فلذلك لا تعمل من نطفة الحمار إلا حماراً، ومن النواة إلا النخلة، ومن البرة إلا براً.
وكذلك أيضاً - أبداً - تعمل من المزاج المخصوص بالأسد خلقة الأسد، ومن مزاج الأرنب خلقة الأرنب، وأن ذلك الخلق يتبعه خلق خاص - أبداً - بموجب الطبيعة؛ وذلك أن الأسد لما كان مزاج قلبه حاراً تتبعه الجرأة، ولأنه مستعد لأن يلتهب قلبه - صار يسرع إليه الغضب، ولأن مزاجه موافق لخلقه أعدت له الطبيعة آلة الفرس والنهس، وأزاحت علته في الأعضاء التي يستعملها بحسب هذا المزاج، وأعطته الأيد والبطش.
ولما كان مزاج الأرنب مقابلاً لهذا المزاج صار خواراً جباناً ضعيفاً قليل المنة فأعدت الطبيعة له آلة الهرب، فهو لذلك خفيف جيد العدو، لا يصدر عنه شيء من أفعال الشجاعة والإقدام، فكل أسد شجاع مقدام، وكل أرنب جبان فرار، حتى لو تحدث إنسان أن أرنباً أقدم على سبع وولى السبع عنه لكان موضع ضحك.
فإذا وجد صاحب الفراسة في مخايل الإنسان وخلقه مشابهة لأحد هذين الحيوانين فحكم له بقريب من ذلك المزاج والخلق الصادر عنه فهو غير بعيد من الحق لا سيما إن أضاف إليه الأصلين الباقيين.
وهذا المثالان اللذان ذكرناهما يستمر القياس عليهما على مزاج خاص بحيوان أعني أنه يتبع كل مزاج خلق كالروغان للثعلب والخداع، والجبن للأرنب والختل، وكالملق للسنور والأنس، وكالسرق للعقعق والدفن.
وإنما صار الإنسان وحده لا يظهر منه الخلق الطبيعي ظهوراً تاماً كظهوره من هذه الحيوانات لأنه مميز، ذو روية، فهو يستر على نفسه مذموم الأخلاق بتعاطي ضده، وتكلف فعل المحمود، وإظهار ما ليس في طبعه، ولا في جبلته فيحتاج حينئذ إلى أن يستدل على خلقه الطبيعي بأحد شيئين: إما بطول الصحبة، وتفقد الأحوال وإما بالاستدلال الذي نحن في ذكره، والاستعانة بصناعة الفراسة على ما يسيره من أخلاقه الطبيعية.
فإن كان مزاجه وخلقه مناسباً لخلق الأرنب حكم بخلقه، وإن كان مناسباً للأسد حكم عليه بخلقه مع سائر دلائله الأخر.
فأما الاستدلال بالأصل الأخر، وهو الهيئات والأشكال والحركات فهو أن كل حال من حالات النفس من غضب ورضا، وسرور وحزن، وغير ذلك هيئات وحركات وأشكالاً تتبع تلك الحال أبداً، وظهورها يكون في العين والوجه أكثر، وأصحاب الفراسة يعتمدون العين خاصة، ويزعمون أنها باب القلب، فيتصيدون من شكلها ولونها وأحوال أخر لها كثيرة يضيق موضعنا عن ذكرها - أكثر الأخلاق والشيم، وتحسن إصابتهم، ويصدق حكمهم لا سيما إن أضافوا إليه الأصلين الباقيين؛ وذلك أن عين المسرور مثلاص، وعين الحزين ظاهرتا الهيئة والحركة، فإذا وجد الإنسان وهو بالخلقة والطبيعة على أحد هاتين الحالتين من هيئة عينه وحركتها حكم عليه بذلك الطبع، وكذلك من ظهر في وجهه في حال سكوته قطوب، وغضون في الجبهة وعبوس - حكم عليه بهذا الطبع، وأنه سيىء الخلق.
فهذه هي الأصول الثلاثة التي اعتمدها أصحاب الفراسة وهي قوية طبيعية كما تراها.
وقد عمل فيها أفليمون كتاباً.
ويقال إنه أول من سبق إلى هذا العلم ممن انتهى إلينا أثره، وعرفنا خبره، ثم تبعه جماعة صنفوا فيه كتباً، وهي مشهورة فمن أحب الاتساع في هذا العلم فليأخذه من مظانه.
وههنا نوع آخر من الاستدلال - وإن لم يكن طبيعياً فهو قريب منه - وهو العادات؛ فإن المثل قد سبق بأن العادة طبيعة ثانية، وقد علمنا أن من نشأ بمدينة، وفي أمة، وطالت صحبته لطائفه - تشبهبهم، وأخذ طريقتهم، كمن يصحب الجند، وأصحاب الملاهي، أو سائر طبقات الناس، حتى يظن بمن صحب البهائم طويلاً أنه يحدث فيه شيء من أخلاقها.
وأنت تبين ذلك في الجمالين والرعاة الذين يسكنون البر، وتقل مخالطتهم للناس، وفي القوم الذين يعاملون النساء والصبيان، كيف ينحطون إلى أخلقهم، ويتشبهون بهم.
فهذه جملة من القول في الفراسة.
وينبغي أن تحذر الحكم بدليل واحد، وتتوخى جميع الدلائل من الأصول الثلاثة؛ لتكون بمنزلة شهود عدول لا يتداخلك الشك في صدقهم، فيكون حكمك صادقاً، وفراستك صحيحة، وذلك بحسب دربتك بالصناعة بعد معرفتك بالأصول.
وما أكثر الانتفاع بهذا العلم وأحضره؛ فإني أرى في الجولان الذي يتفق لي في الأرض، وكثرة الأسفار أن أرى ضروباً من الناس، وأخالط أخياف الأمم، وأشاهد عجائب الأخلاق فأستعمل الفراسة، فيعظم نفعها، وتتعجل فائدتها.
والفراسة ربما تخطىء في الفيلسوف التام الحكمة ووجه ذلك أنه ربما كان ذا مزاج فاسد، وخلق - بالطبع - مشاكل له، فيصلحه، ويهذبه بطول المعاناة، وتعاهد نفسه بدوام السيرة الحميدة، ولزوم السجايا الرضية، كما يحكي عن أفليمون، وهو أول من سبق إلى هذا العلم، فإنه حمل إلى أبقراطيس وهو متنكر فدخل إليه وهو لا يعرفه، فلما تأمله حكم عليه: زان، فهم أصحابه بالوثوب عليه، فنهاهم أبقراطيس وقال: قد صدق الرجل بحسب صناعته، ولكني بالقهر أمنع نفسي من إظهار سجيتها.
مسألة ما سر قولهم الإنسان حريص على ما منع ؟
ولم صار هذا هكذا؟ وكيف يسرع الملل مما بذل، ويضاعف الولوع بطلب ما بخل به؟ هلا كان الحرص في مقابلة ما وجد، والزهد في مقابلة ما منع؟ ولهذا ما صار الرخيص مرغوبا عنه، والغالي مرغوباً فيه، ولهذا إذا ركب الأمير لا يحرص على رؤيته كما يحرص على رؤية الخليفة إذا برز.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس غنية بذاتها، مكتفية بنفسها، غير محتاجة إلى شيء خارج عنها.
وإنما عرض لها الحاجة والفقر إلى ما هو خارج منها لمقارنتها الهيولى، وذلك أن أمر الهيولى بالضد من أمر النفس في الفقر والحاجة، والإنسان لما كان مركباً منها عرض له التشوف إلى تحصيل المعارف والقنيات.
أما العارف والعلوم فهو يحصلها في شبيه بالخزانة له، يرجع إليه متى شاء، ويستخرج منه ما أراد، أعني القوة الذاكرة التي تستودع الأمور التي تستفاد من خارج، أعني من العلماء والكتب، أو التي تستثار بالفكر والروية من داخل .
وأما القنيات والمحسوسات فإنه منها ما يروم من تلك التي تقدم ذكرها فلذلك يغلط فيها، ويخطىء في الاستكثار منها إلى أن يتنبه بالحكمة على ما ينبغي أن يقتني من العلوم والمحسوسات فيقصد نحو القصد من الأمرين جميعاً، ويقف عنده.
وإنما حرص على ما منع لأنه إنما يطلب ما ليس عنده، ولا هو موجود له في خزانته فيتحرك لاقتنائه وتحصيله بحسب ميله إلى أحد الأمرين، أعني المعقول أو المحسوس، فإذا حصله سكن من هذه الجهة، وعلم أنه قد ادخره، ومتى رجع إليه وجده، إن كان مما يبقى بالذات، وتشوف إلى جهة أخرى، ولا يزال كذلك إلى أن يعلم أن الجزئيات لا نهاية لها، وما ما لا نهاية له فلا طمع في تحصيله، ولا فائدة في النزاع إليه، ولا وجه لطلبه، سواء كان في المعلوم أو في المحسوس.
وإنما ينبغي أن يقصد من المعلومات إلى الأنواع والذوات الدائمة السرمدية الموجودة أبداً بحالة واحدة، ويكون ذلك برد الأشخاص التي بلا نهاية إلى الوحدة التي يمكن أن تتأحد بها النفس، ومن المحسوسات المقتناة إلى ضرورات البدن ومقيماته دون الاستكثار منها؛ فإن استيعاب جميعها غير ممكن لأنها أمور لا نهاية لها.
فإذن كل ما فضل عن الحاجة، وقدر الكفاية فهو مادة الأحزان والهموم والأمراض، وضروب المكاره.
والغلط في هذا الباب كثير، وسبب ذلك طمع الإنسان في الغنى من معدن الفقر؛ لأن الفقر هو الحاجة، والغنى هو الاستقلال، اعني ألا يحتاج بتة؛ ولذلك قيل أنه الله - تعالى - غني؛ لأنه غير محتاج بتة.
فأما من كثرت قنياته فإنه ستكثر حاجاته بحسب كثرة قنياته وعلى قدر منازعته إلى الاستكثار تكثر وجوه فقره، وقد تبين ذلك في شرائع الأنبياء، وأخلاق الحكماء.
فأما الشيء الرخيص الموجود كثيراً فإنما رغب عنه لأنه معلوم أنه إذ التمس وجد، وأما الغالي فإنما يقدر عليه في الأحيان ويصيبه الواحد بعد الواحد، فكل إنسان يتمنى أن يكون ذلك الواحد؛ ليحصل له ما لم يحصل لغيره، وذلك من الإنسان على السبيل الذي شرحناه من أمره.
مسألة ما سبب نظر الإنسان في العواقب ؟
وما مثاره منها؟ وما آثاره فيها؟ وما الذي يحلى به إذا استقصى؟ وما الذي يتخوفه إذا جنح إلى الهويني؟ أو ما مراد الأولين في قولهم: المحتفل ملقي، والمسترسل موقى؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما نظر الإنسان في العواقب فيكون لأمرين.
أحدهما لتطلعه إلى الأمور الكائنة، وشوقه إلى الوقوف على الأمر الكائن قبل حدوثه، لما تقدم فيه من الكلام في المسألة الأولى.
والآخر لأخذ الأهبة له إن كان مما ينفع فيه ذلك؛ ولهذا المعنى اشتاق الإنسان إلى الفأل والزجر إذا عدم جميع وجوه الاستدلال من أشكال الفلك، إلى الفأل والزجر إذا عدم جميع وجوه الاستدلال من أشكال الفلك، وحركات النجوم، وربما عدل إلى المتكهن، وصدق بكثير من الظنون الباطلة.
وأما قول المتقدمين: المحتفل ملقي، والمسترسل موقي فهو على ظاهره كالمناقض للحكم الأول؛ ولذلك أن الإشارة في هذا المثل هو إلى أن المحتفل إنما يتوقى ما لا بد أن يصيبه، فهو يجتهد أن يخرج من حكم القضاء أعني موجبات الأقدار بتوسط حركات الفلك، فيصير اجتهاده في الخروج منه سبباً لحصوله فيه، ووقوعه عليه.
وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله:
وإذا حذرت من الأمور مقدراً ... وهربت منه فنحوه تتوجه
فأما المسترسل إلى ذلك، الراضي به فإنه موقى مما هو غير مقضي، ولا هو بمصيب له وإن لم يتوقه، كما قال الشاعر فيمن كان بغير هذه الصفة:
حذراً أموراً لا تكون وخائف ... ما ليس منجيه من الأقدار.
ويتصل بهذا الباب شرح ما يجب أن يتوقى، وما يجب ألا يتوقي، أعني بذلك ما يغني فيه الفكر والروية، وما لا يغني فيه.
وإذا مر ما يقتضيه من الكلام استقصيته إن شاء الله.
مسألة ما يصيب الإنسان من قرينه في خيره وشره ؟
وكيف صار يؤثر الشرير في الخير أسرع مما يؤثر الخير في الشرير؟ وما فائدة النفس في المقارنة؟.
ولما كانت النفس التي فينا هيولانية صار الشر لها طباعاً، والخير تكلفاً وتعلما، فاحتجنا - معاشر البشر - أن نتعب بالخير حتى تستفيده ونقتنيه، ثم ليس يكفينا تحصيل صورته حتى نألفه، ونتعوده، ونكرر زماناً طويلاً الحالة التي حصلت لنا منه على أنفسنا؛ لتصير ملكة وسحية بعد أن كانت حالاً.
فأما الشر فلسنا نحتاج إلى تعب به، وتحصيله، بل يكفي فيه أن نخلى النفس وسومها، ونتركها على طبيعتها، فإنها تخلو من الخير، والخلو من الخير هو الشر؛ لأنه قد تبين في المباحث الفلسفية أنه ليس الشر بشيء له عين قائمة، بل هو عدم الخير؛ ولذلك قيل: الهيولى معدن الشر وينبوعه لأجل خلوها من جميع الصور، فالشر الأول البسيط هو عدم، ثم يتركب، وسبب تركبه الأعدام التي هي مقترنة بالهيولى.
وشرح هذا الكلام طويل، إلا أن الذي يحصل لك من جواب المسألة فيه أن النفس تتشبه بالنفس المقارنة لها، وتقتدي بها، والشر أسرع إليها من الخير؛ وهو أن النفس التي فينا هي هيولانية، وأعني بهذا القول أنها قابلة للصور من العقل، فالمعقولات إنما تصير معقولات لنا إذا ثبتت صورها في النفس، ولذلك قال أفلاطون: إن النفس مكان للصور.
واستحسن ارسططاليس هذا التشبيه من أفلاطون؛ لأن استعارة حسنة، وإيماء فصيح إلى المعنى الذي أراده.
فيجب - على هذا الأصل - أن نتوقى مجالسه الأشرار، ومخالطتهم، ومقارنتهم، ونقبل قول الشاعر:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينة ... فإن القرين بالمقارن مقتد
وينبغي أن نأخذ الأحداث والصبيان به أشد الأخذ فقد مر في مسألة ما يحقق هذا المعنى، ويؤكده، وينبه عليه.
مسألة ما وجه تسخيف من أطال ذيله وسحبه وكبر عمامته، وحشا زيقه قطناً وعرض جيبه تعريضاً، ومشى متبهسناً، وتكلم متشادقاً؟ ولم شنع هذا ونظيره؟ وما الذي سمج هذا وأمثاله؟ ولم لم يترك كل إنسان على رأيه واختياره، وشهوته وإيثاره؟ وهل أطبق العقلاء المميزون، والفضلاء المبرزون على كراهة هذه الأمور إلا لسر خاف، وخبيئة موجودة؟ فما ذلك السر؟ وما تلك الخبيئة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ينكر مما ذكرته كله التكلف، وذاك أن من خالف عادات الناس في زيهم، ومذاهبهم، وتفرد من بينهم بما يباينهم، ثم احتمل مؤونة ما يتجشمه، فليس ذلك منه إلا لغرض مخالف لأغراضهم، وقصد لغير ما يقصدونه: فإن كان غايته من هذه الأشياء أن يشهر نفسه، وينبه على موضعه فليس يعدو أن يوهم بها أمراً لا حقيقة له، ويطلب حالاً لا يستحقها؛ لأنه لو كان يستحقها لظهرت منه، وعرفت له من غير تكلف ولا تجشم لهذه المؤن الغليظة، فإذن هو كاذب فعلاً، ومزور باطلاً وما تعاطي ذلك إلا ليغر سليماً، ويخدع مسترسلاً.
وهذا مذهب المحتال الذي يتحرز منه، ويتباعد عنه.
هذا إلى ما يجمعه من بديهة المخالفة، والمخالفة سبب الاستيحاش، وعلة النفور، وأصل المعاداة.
وإنما حرص الناس وأهل الفضل، وحرص لهم الأنبياء عليهم السلام بما وضعوه لهم من السنن والشرائع؛ لتحدث بينهم الموافقة والمناسبة التي هي سبب المحبات، وأصل المودات؛ ليتشاركوا في الخيرات، ولتحصل لهم صورة التأحد الذي هو سبب كل فضيلة، ولأجله تم الاجتماع في المدنية الذي هو سبب حسن الحال في العيش والاستمتاع بالحياة والخيرات المطلوبة في الدنيا.
مسألة ما ملتمس النفس في هذا العالم؟ وهل لها ملتمس وبغية؟
وإن وسمت بهذه المعاني خرجت من أن تكون علية الدرجة، خطيرة القدر؛ لأن هذا عنوان الحاجة، وبدء العجز.
ولولا أن يتسع النطاق لسألت: ما نسبتها إلى الإنسان؟ وهل لها به قوام، أو له بها قوام؟ وإن كان هذا فعلى أي وجه هو؟ وأوسع من هذا الفضاء حديث الإنسان؛ فإن الإنسان قد أشكل عليه الإنسان.
ثم حكيت حكايات ليس لها غناء في المسألة، فلنشتغل بالجواب.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لولا لفظة الالتماس توهم غير المعنى الصحيح في حال النفس، وظهور آثارها في هذا العالم لأطلقتها، ورخصت فيها لك كما أطلقها قوم، ولكني رأيت أبا بكر محمد بن زكريا الطبيب وغيره ممن كان في طبقته قد تورطوا في مذهب بعيد من الحق، سببه هذه اللفظة وما أشبهها مما أطلقته الحكماء على سبيل الاتساع في الكلام، بل لأجل الضرورة العارضة للألفاظ عند ضيقها عن المعاني الغامضة التي أطلقوا عليها.
ولكني سأشير لك إلى ما ينبغي أن تعتقده في هذا الباب وهو أن الطبائع إذا امتزجت ضروب الامتزاجات بضروب حركات الفلك حدثت منها ضروب الصور والأشكال التي تعملها الطبيعة، وتقبل من آثار النفس بوساطة الطبيعة ضروب الآثار؛ لأن النفس تظهر آثارهما في كل مزاج بحسب قبوله، وتستعمل كل آلة طبيعية بحسب ملاءمتها في كل ما يمكن أن تستعمل فيه، وتنهيه إلى أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه من الفضيلة.
وهذا الفعل من النفس لا لغرض أكثر من ظهور الحكمة، وذاك أن ظهور الحكمة من الحكيم لا يكون لغرض آخر فوق الحكمة؛ لأن أجل الأفعال ما لم يرد الشيء آخر، بل ذاته، وكل فعل أريد لغاية أخرى، ولشيء آخر فذلك الشيء أجل من ذلك الفعل.
ولا يمكن أن يكون ذلك ماراً بلا نهاية، فالغاية الأخيرة، والفعل الأفضل ما لم يفعل لشيء آخر، بل هو بعينه الغاية والغرض الأقصى، ولذلك ينبغي ألا يكون قصد المتفلسف بفلسفته شيئاً آخر غير الفلسفة، ولا يجب أن يكون قصد فاعل الجميل شيئاً آخر غير الجميل، أعني أنه لا يجب أن يقصد به نيل منفعة، ولا طلب ذكر، ولا بلوغ رئاسة، ولا شيئاً من الأشياء غير ذات الجميل لأنه جميل.
وقد أشار الحكيم إلى أن النفس تكمل في هذا العالم بقبولها صور المعقولات لتصير عقلاً بالفعل بعد أن كانت بالقوة، فإذا عقلت العقل صارت هي هو؛ إذ من شأن المعقول والعاقل أن يكونا شيئاً واحداً لا فرق بينهما.
فأما حديث الإنسان الذي شكوت طوله، وحكيت من الكلام المتردد الذي لم يفدك طائلاً، فالذي ينبغي أن تعتمد عليه هو أن هذه اللفظة موضوعة على الشيء المركب من نفس ناطقة وجسم طبيعي؛ لأن كل مركب من بسيطين أو أكثر يحتاج إلى اسم مفرد يعبر عن معنى التركيب، ويدل عليه كما فعل ذلك بالصورة التي تجتمع مع مادة الفضة فسمى خاتماً، وكما تجتمع صورة السرير مع مادة الخشب فيصير اسمه سريراً، وعلى هذا أيضاً يفعل إذا اجتمع جسمان طبيعيان أو أجسام طبيعية فتركب منها شيء آخر فإنه يسمى باسم مفرد، كما يفعل بالخل إذا تركب مع العسل أو السكر فيسمى سكنجبناً، وكما تسمى أنواع الأدوية والمعجونات من الأخلاط الكثيرة، وأنواع الأغذية والأشربة المركبة ينفرد كل واحد منها باسم خاص، وكذلك يفعل بالمادة التي تستحيل من صورة إلى صورة كعصير العنب الذي يسمى عصيراً مرة، وخمراً مرة، وخلا مرة بحسب تبدل الصورة على الموضوع الواحد.
فالإنسان هو النفس الناطقة إذا استعملت الآلات الجسمية التي تسمى بدناً لتصدر عنها الأفعال بحسب التمييز.
مسألة حكيت - أيدك الله - حكايات بين سائل ومتكلم ولم تتوجه إلى مطلوب ينبغي أن نبحث عنه؛ لأن المسألة من باب الأسماء والصفات، وقد تكلمنا عليه فيما مضى كلاماً مستقصى لا وجه لإعادته، فينبغي أن تعود إلى ما مضى، وتطلبه؛ لتجده كافياً بمعونة الله.
مسألة ما سبب استشعار الخوف بلا مخيف ؟
وما وجه تجلد الخائف والمصاب كراهة أن يوقف منه على فسولة طبعه، أو قلة مكانته، أو سوء جزعه، هذا مع تخاذل أعضائه، وندائه على ما به، واستحالة أعراضه، ووجيب قلبه، وظهور علامات ما إذا أراد طيه ظهر على أسرة وجهه، وألحاظ عينيه، وألفاظ لسانه، واضطراب شمائله؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب ذلك توقع مكروه حادث، فإن كان السبب صحيحاً قوياً، والدليل واضحاً جلياً كان الخوف في موضعه.
وإن لم يكن كذلك، وكان من سوء ظن، وفساد فكر فهو مرض أو مزاج فاسد من الأصل.
ثم بحسب ذلك المكروه يحسن الصبر، ويحمد احتمال الأذى العارض منه وتظهر من الإنسان أمارات الشجاعة أو الجبن.
وأثبت الناس جناناً وجأشاً، وأحسنهم بصيرة وروية لا بد أن يضطرب عند نزول المكروه الحادث به، الطارىء عليه، لا سيما إن كان هائلاً؛ فإن أرسططاليس يقول: من لم يجزع من هيج البحر وهو راكبه، ومن الأشياء الهائلة التي فوق طاقة الإنسان فهو مجنون.
وكثير من المكاره يجري هذا المجرى ويقاربه، والجزع لا حق بالمرء على حسبه ومقداره: فإن كان المكروه والمتوقع مما يطيق الإنسان دفعه أو تخفيفه فذهب عليه أمره، واستولى عليه الجزع، ولم يتماسك له - فهو جبان جزوع مذموم من هذه الجهة.
ودواؤه التدرب باحتمال الشدائد وملاقاتها، والتصبر عليها، وتوطين النفس لها قبل حدوثها؛ لئلا ترد عليه وهو غافل عنها، غير مستعد لها.
وإذا كانت الشجاعة فضيلة، وكانت ضدها نقيصة ورذيلة؛ فمن لا يحب أن يستر نقيصته، ويظهر فضيلته، مع ما تقدم من قولنا فيما سبق.
إن كل إنسان يعشق ذاته، ويحب نفسه؟.
مسألة ما سبب غضب الإنسان وضجره إذا كان مثلاً يفتح قفلاً فيتعسر عليه حتى يجن، ويعض على القفل، ويكفر، وهذا عارض فاش في الناس؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذا العارض وشبهه من أقبح ما يرض للإنسان، وهو غير معذور، إن لم يصلحه بالخلق الحسن المحمود؛ وذلك أن الغضب إنما يثور به دم القلب لمحبة الانتقام، وهذا الانتقام إذا لم يكن كما ينبغي، وعلى من ينبغي، وعلى مقدار ما ينبغي فهو مذموم، فكيف به إذا كان على الصورة التي حكيتها.
فأما سؤالك عن سبب الغضب فقد ذكرته وأجبت عنه، وإذا أثار في غير وضعه فواجب على الإنسان الناطق المميز أن يسكنه، ولا يستعجله، ولا يجري فيه على منهاج البهيمة، وسنة السبع؛ فإن من أعانة بالفكرة، وألهبه بسلطان الروية حتى يحتدم ويتوقد فإنه سيعسر بعد ذلك تلافيه وتسكينه، والإنسان مذموم به إذا وسوم الطبيعة، ولم يظهر فيه أثر التمييز، ومكان العقل.
وجالينوس قد ذكر في كتاب الأخلاق حديث القفل بعينه، وتعجب من جهل من يفعل ذلك، أو يرفس الحمار ويلكم البغل، فإن هذا الفعل يدل على أن الإنسانية يسيره في صاحبه جداً، والبهيمية غالبة عليه، أعني سوء التمييز وقلة استعمال الفكر.
وليس هذا وحده يعرض لحشو الناس وعامتهم، بل الشهوة والشبق وسائر عوارض النفس البهيمية والغضبية إذا هاج بهم، وابتدأ في حركته الطبيعية لم يستعملوا فيه ما وهبه الله - تعالى - لهم، وفضلهم به، وجعلهم له أناسي، اعني أثر العقل بحسن الروية، وصحة التمييز، والله المستعان، ولا قوة إلا به.
مسألة لم صار من كان صغير الرأس خفيف الدماغ ؟
ولم يكن كل من كان عظيم الرأس رزين الدماغ ؟
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: يحتاج الدماغ إلى اعتدال في الكيفية والكمية، فإن حصل له احدهما لم يغن عن الآخر، فإن كان جوهره جيداً في الكيفية، وكانت كميته ناقصة فهو - لا محالة - ردىء، وإن كانت كميته كثيرة فليس هو - لا محالة - رديئاً، فقد يكون كثيراً وجيد الجوهر إلا أنه يجب أن يكون مناسباً لحرارة القلب؛ ليحصل بين برد هذا ورطوبته، وحرارة ذلك ويبوسته - الاعتدال المحبوب المحمود.
ومتى حصل على الخروج من هذا الاعتدال تبعه من الرداءة قسطه ونصيبه، إلا أن التفاضل بين أنواع الخروج من الاعتدال كثير، ولأن يكون جيداً وكثيراً زائداً على قدر الحاجة خير من ان يكون جيداً وناقصاً عن قدر الحاجة، فإن جمع رداءة الكيفية والكمية كان صاحبه معتوهاً مخبلاً بحسب ذلك.
مسألة لم اعتقد الناس في الكوسج أنه خبيث وداهية
وكذلك في القصير ؟
ولم يعتقدوا العقل والحصافة فيمن كان طويل اللحية، كثيف الشعر، مديد القامة، جميل الإمة ولم رأوا خفة العارضين من السعادة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة من باب الفراسة.
والممدوح المحمود من كل أمر يتبع مزاجاً ما هو الاعتدال.
فأما الطرفان اللذان يكتنفان الاعتدال - أعني الزيادة والنقصان - فهما مذمومان مكروهان.
فإن كان وفور اللحية وطولها وعظمها وذهابها في جميع جهات الوجه دليل السلامة والغفلة؛ فبالواجب صار الطرف الذي يقابله من الخفة والنزرة والقلة دليل الخبث والدهاء.
وهما جميعاً طرفان خارجان عن الاعتدال المحمود.
وأحسب أن للاختيار السيء مدخلاً: وذلك أن الرجل إذا كان وافر إضاعة اللحية فهو قادر على أن يخفف منها بأيسر مئونة حتى يحصل على القدر المعتدل، والهيئة المحمودة، فتركه إياها على الحال المذمومة مع تعبه بها، وإصلاحها دائماً، أو تركه إياها حتى تسمج وتضطرب دليل على سوء اختيار، ورداءة تمييز.
فأما عدم اللحية فليس يقدر صاحبه على حيلة فيها فهو معذور.
مسألة لم سهل الموت على المعذب مع علمه أن العدم لا حياة معه، وليس بموجود فيه، وأن الأذى - وإن اشتد - فإنه مقرون بالحياة العزيزة؟ هذا وقد علم أيضاً أن الموجود أشرف من المعدوم، وانه لا شرف للمعدوم، فما الذي يسهل عليه العدم؟ وما الشيء المنتصب لقلبه؟ وهل هذا الاختيار منه بعقل أو فساد مزاج؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة - وإن كان الغرض فيها صحيحاً فالكلام فيها مضطرب غير مسلم المقدمات، وذلك أن الإنسان إذا مات فليس يعدم رأساً، بل إنما تبطل عنه أعراض، وتعدم عنه كيفيات، فأما جواهره، فإنها غير معدومة، ولا يجوز على الجوهر العدم بتة؛ لما تبين في أصول الفلسفة من أن الجوهر لا ضد له، ومن أشياء أخر ليس هذا موضعها.
فالجوهر لا يقبل العدم من حيث جوهر، وأجزاء الإنسان إذا مات تنحل إلى أصولها - أعني العناصر الأربعة، وذلك بأن يستحيل إليها.
فأما ذوات الجواهر فهي باقية أبداً.
وأما جوهره الذي هو النفس الناطقة فقد تبين أنه أحق بالجوهرية من عناصره الأربعة، فهو إذن دائم البقاء أيضاً.
ولما لم تكن مسألتك متوجهة إلى هذا المعنى، وإنما وقع الغلط في أخذ مقدمات غير صحيحة، وإرسال الكلام فيها على غير تحرز - وجب أن ننبه على موضع الغلط، ثم نعدل إلى جواب الغرض من المسألة فنقول: إن الحياة ليست بعزيزة إلا إذا كانت جيدة، وأعني بالحياة الجيدة ما سلمت من الآفات والمكاره، وصدرت بها الأفعال تامة جيدة، ولم يلحق الإنسان فيها ما يكرهه من الذل السديد، والضيم العظيم، والمصائب في الأهل والولد.
وذلك أن الإنسان لو خير بين هذه الحياة الرديئة، وبين الموت الجيد، أعني أن يقتل في الجهاد الذي يذب به عن حريمه، ويمتنع به عن المذلة والمكاره التي وصفناها؛ لوجب بحكم العقل والشريعة أن يختار الموت والقتل في مجاهدة من يسومه ذلك.
وهذه مسألة قد سبقت لها نظيرة، وتكلمنا عليها بجواب مقنع، وهو قولك: ما سبب الجزع من الموت؟ وما سبب الاسترسال إلى الموت؛ فليرجع إليه فإنه كاف.
مسألة لم ذم الإنسان ما لم ينله، وهجن ما لم يحزه ؟
وعلى ذلك عادى الناس ما جهلوا حتى صار هذا من الحكم اليتيمة: وقد عادى الناس ما جهلوا كما قيل فلم عادوه؟ ولم لم يحبوه ويطلبوه ويفقهوه حتى تزول العداوة، ويحصل الشرف، ويكمل الجمال، ويحق القول بالثناء، ويصدق الخبر عن الحق؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذا من قبيح ما يعترى الناس من الأخلاق، وهو جار مجرى الحسد، وذاهب في طريقه.
وصاحب المثل الذي يقول: المرء عدو ما جهل، إنما أخرجه مخرج الذم والعيب كما قيل: الناس شجرة بغي وحسد.
والسبب في محبة النفس أولاً، ثم الغلط في تحصيل ما يزينها.
وذلك أنه إذا أحب الإنسان نفسه أحب صورتها، والعلم صورة النفس، ويعرض من محبة صورة نفسه أن يبغض ما ليس له بصورة، فمتى حصل له علم أحبه، وإذا لم يحصل له أبغضه.
ويذهب عليه التماس ما جهله بالمطلب - وإن كان فيه مشقة - أولى به؛ ليصير - أيضاً - صورة أخرى له جميلة.
ولعل المانع له من ذلك كراهة التذلل لمن يتعلم منه بعد حصول العز له في نوع آخر، وبين طائفة أخرى.
فأما قولك؛ فلم لم يحبوه حتى يطلبوه ويفقهوه؟ فهو الواجب الذي ينبغي أن يفعل، وعليه حض صاحب المثل بالتنبيه على العيب ليتجنب بإتيان الفضيلة.
وسمعت بعض أهل العلم يحكي عن قاض جليل المحل، عالى المرتبة أنه هم بتعلم الهندسة على كبر السن.
قال: فقلت له: ما الذي يحملك على ذلك وهو يقدح في مرتبتك، ويطلق ألسن السفهاء عليك، وأنت لا تصل إلى كبير حظ منه مع علو السن، وحاجة هذا العلم إلى زمان طويل، وذكاء لا يوجد إلا مع الحداثة واستقبال العمر؟ فقال: ويحك! أحسست من نفسي بغضاً لهذا العلم، وعداوة لأهله فأحببت أن أتعاطاه لأحبه، ولئلا أبغض علماً فأعادي اهله.
وهذا هو الانقياد للحق، وتجرع مرارته حرصاً على حلاوة ثمرته، ورياضة للنفس على ما تكرهه فيما هو أزين لها، وأعود عليها، وحملها على ما يصلحها ويهذبها.
مسألة لم كان الإنسان إذا أراد أن يتخذ عدة أعداء في ساعة واحدة قدر على ذلك، وإذا قصد اتخاذ صديق ومصافاة خذن واحد لم يستطع إلا بزمان واجتهاد وطاعة وغرم؟ وكذلك كل صلاح مأمول، ونظام مطلوب في جميع الأمور، ألا ترى أن الفتق أسهل من الخياطة، والهدم أيسر من البناء، والقتل أخف من التربية والأحياء؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: جواب مسألتك هذه منها.
وما أشبهها بحكاية سمعتها عن الأصمعي، وذاك أنه بلغني أن قارئاً قرأ عليه: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا فقال: يا أبا سعيد: ما الألمعى؟ فقال: الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا.
فأنا قائل في هذه المسألة أيضاً: إنما صار الإنسان قادراً على اتخاذ الأعداء بسرعة، وغير قادر على اتخاذ الأصدقاء إلا في زمان طويل، وبغرامة كثيرة - لأن هذا فتق، وذاك رتق، وهذا هدم، وذاك بناء.
وسق باقي كلامك فإنه جوابك.
مسألة ما الذي حرك الزديق والدهري على الخير وإيثار الجميل، وأداء الأمانة، ومواصلة البر، ورحمة المبتلي، ومعونة الصريخ، ومغثة الملتجيء إليه، والشاكي بين يديه؟ هذا وهو لا يرجو ثواباً، ولا ينتظر مآباً، ولا يخاف حساباً.
أترى الباعث على هذه الأخلاق الشريفة، والخصال المحمودة رغبته في الشكر، وتبرؤه من القرف، وخوفه من السيف؟ قد يفعل هذه في الأوقات لا يظن به التوقى، ولا اجتلاب الشكر، ما ذاك إلا لخفية في النفس، وسر مع العقل.
وهل في هذه الأمور ما يشير إلى توحيد الله تبارك وتعالى؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: للإنسان - بما هو إنسان - أفعال وهمم وسجايا وشيم قبل ورود الشرع، وله بداية في رأيه، وأوائل في عقله لا يحتاج فيها إلى الشرع؛ بل إنما تأتيه الشريعة بتأكيد ما عنده، والتنبيه عليه، فتثير ما هو كامن فيه، وموجود في فطرته، قد أخذه الله - تعالى - وسطره فيه من مبدأ الخلق، فكل من له غريزة من العقل، ونصيب من الإنسانية ففيه حركة إلى الفضائل، وشوق إلى المحاسن لا لشيء آخر أكثر من الفضائل والمحاسن التي يقتضيها العقل، وتوجبها الإنسانية، وإن اقترن بذلك في بعض الأوقات محبة الشكر، وطلب السمعة، والتماس أمور أخر.
ولولا أن محبة الشكر وما يتبعه - أيضاً - جميل وفضيلة لما رغب فيه، ولولا أن الخالق - تعالى - واحد لما تساوت هذه الحال بالناس، ولا استجاب أحد لمن دعا إليها، وحض عليها إذا لم يجد في نفسه شاهداً لها، ومصدقاً بها.
ولعمري إذا هذا أوضح دليل على توحيد الله، تعالى ذكره، وتقدس اسمه.
مسألة ما الذي قام في نفس بعض الناس حتى صار ضحكة ؟
أعني يضحك ويسخر منه ويعبث بقفاه، وهو في ذاك صابر محتسب، وربما خلا من النائل، وربما نزر النائل.
فكيف هون عليه الأمر القبيح؟ ولعله من بيت ظاهر الشرف، منيف المحل.
وبمثل هذا المعنى يصير آخر مخنثاً مغنياً لعاباً إلى آخر ما اقتصه من حديث الرجل الذي نشأ على طريق مذمومة، وهو من بيت كبير.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: مر لنا في مسألة الفراسة أن لكل مزاج خلقاً يتبعه، والنفس تصدر أفعالها بحسب تلك الطبيعة والمزاج، وأن الإنسان متى استرسل للطبيعة، وانقاد لهواه، ولم يستعمل القوة الموهوبة له في رفع ذلك، وتأديبه نفسه بها - كان في مسلاخ بهيمة!!!.
وهذا الخلق الذي ذكرته في هذه المسألة أحد الأخلاق التابعة لمزاج خارج عن الاعتدال التي من ترك الإنسان وسوم الطبيعة فيها جمحت فيه إلى أقبح مذهب وأسوأ طريقة.
وحق على من بلى بها أن يجتهد في مداواتها، ويجتهد له فيها.
فقد تقدم قولنا في هذا الباب إنه ممكن، ولولا إمكانه لما حسن التقويم والتأديب عليه، ولا الحمد والذم فيه، ولا الزجر والدعاء إليه، ولا السياسة من الآباء والملوك، وقوام المدن به.
ومتى لم يستجب إنسان لمعالجة هذه الأدواء كانت معالجته بالعقوبات المفروضة واجبة فيه.
وما أشبه الأمراض النفسانية بالأمراض الجسمانية، فكما أن مرض الجسم متى لم يعالجه صاحبه بالاختيار والإيثار، وجب أن يعالج بالقهر والقسر، فكذلك مرض النفس إلى أن ينتهي إلى حال يقع معها اليأس من الصلاح، فحينئذ ينبغي أن يراح من نفسه، ويستراح منه، وتطهر الأرض منه على حسب ما تحكم فيه الشريعة أو السياسة الفاضلة.
مسألة ما السبب في محبة الإنسان الرئاسة ؟
ومن أين ورث هذا الخلق ؟
وأي شيء رمزت الطبيعة به؟ ولم أفرط بعضهم في طلبها، حتى تلقى الأسنة بنحره، وواجه المرهفات بصدره، وحتى هجر من أجلها الوساد، وودع بسببها الرقاد، وطوى المهامه والبلاد؟ وهل هذا الجنس من جنس من امتعض في ترتيب العنوان إذا كوتب أوكاتب؟ وما ذاك من جميع ما تقدم؟ فقد تشاح الناس في هذه المواضع وتباينوا وبلغوا المبالغ.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تبين أن في الناس ثلاث قوى، وهي: الناطقة، والبهيمية، والغضبية.
فهو بالناطقة منها يتحرك نحو الشهوات التي يتناول بها اللذات البدنية كلها.
ويظهر أثرها من الكبد.
وبالغضبية منها يتحرك إلى طلب الرئاسات، ويشتاق إلى أنواع الكرامات، وتعرض له الحمية والأنفة، ويلتمس العز والمراتب الجليلة العالية، ويظهر أثرها من القلب.
وإنما تقوى فيه واحدة من هذه القوى بحسب مزاج قوة هذه الأعضاء التي تسمى الرئيسية في البدن.
فربما خرج عن الاعتدال فيها إلى جانب الزيادة والإفراط، أو إلى ناحية النقصان والتفريط، فيجب عليه حينئذ أن يعد لها ويردها إلى الوسط - أعني الاعتدال الموضوع له - ولا يسترسل لها بترك التقويم والتأديب؛ فإن هذه القوى تهيج لما ذكرناه.
فإن تركت وسومها، وترك صاحبها إصلاحها وعلاجها بالأعقال واتباع الطبيعة - تفاقم أمرها، وغلبت حتى تجمح إلى حيث لا يطمع في علاجها ويؤيس من برئها.
وإنما يملك أمرها وتأديبها في مبدأ الأمر بالنفس التي هي رئيسة عليها كلها - أعني المميزة العاقلة، التي تسمى القوة الإلهية - فإن هذه القوة ينبغي أن تستولي، وتكون لها الرئاسة على الباقية.
فمحبة الإنسان للرئاسة أمر طبيعي له، ولكن يجب أن تكون مقومة؛ لتكون في موضعها، وكما ينبغي.
فإن زادت أو نقصت في إنسان لأجل مزاج أو عادة سيئة وجب عليه أن يعد لها بالتأديب؛ ليتحرك كما ينبغي، وعلى ما ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي.
وقد مضى من ذكر هذه القوى وآثارها في موضعه ما يجب أن يقتصر بها هنا على هذا المقدار.
ونقول: إنه كما يعرض لبعض الناس ان يلقى الأسنة بنحره، ويركب أهوال البر والبحر لنيل الشهوات بحسب حركة قوة النفس البهيمية فيه، وتركه قمعها - فكذلك يعرض لبعضهم في نهوض قوة النفس الغضبية فيهم إلى نيل الرئاسات والكرامات - أن يركب هذه الأهوال فيها.
ومدار الأمر على العقل الذي هو الرئيس عليها، وأن يجتهد الإنسان في تقوية هذه النفس؛ لتكون هي الغالبة، وتتعبد القواتان الباقيتان لها حتى تصدر عن أمره وتتحرك لما ترسمه، وتقف عندما يحده؛ فإن هذه القوة هي التي تسمى الإلهية، ولها قوة على رئاسة تلك الأخر، وهداية إلى علاجها وإصلاحها، واستقلال بالرئاسة التامة عليها، ولكنها - كما قال أفلاطون - في لين الذهب وتلك في قوة الحديد وللإنسان الاجتهاد والميل إلى تذليل هذه لتلك، فإنها ستذل وتنقاد.
والله المعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
مسألة ما السبب في تشريف من سلف له أي أو جد منظور إليه، مكثور عليه في فعال ممجد، وشجاعة وسياسة، دون تشريف من كان له ابن كذلك؟ أعني كيف يسري الشرف من المتقدم في المتأخر، ولا يسري من المتأخر في المتقدم؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الأب علة الولد، وعرفه يسري فيه؛ لأنه معلوله، ولأنه مكون من مزاجه وبزره، فهو من أجل ذلك كجزء منه، أو كنسخة له، فغير مستنكر أن يظهر أثر العلة فيه، أو ينتظر منه نزوع العرق إليه.
فأما عكس هذه القضية، وهو أن يصير المعلول سبباً للعلة حتى يرجع مقلوباً فشيء يأباه العقل، وترده البديهة، ويسير التأمل يكفي في جواب هذه المسألة.
مسألة ولم إذا كان أبو الإنسان مذكوراً بما أسلفنا نعته
وبغيره من الدين والورع - وجب أن يكون ولده، وولد ولده يسحبون الذيل، ويختالون في العطاف، ويزدرون الناس، ويرون من أنفسهم أنهم قد خولوا الملك، ويعتقدون أن خدمتك لهم فريضة، ونجاتك بهم متعلقة؟ ما هذه الفتنة والآفة؟ وما أصلها؟ وهل كان في سالف الدهر، وفيما مضى من الزمان من الأمم المعروفة هذا الفن؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد ذكرنا في جواب المسألة الأولى ما ينبه على جواب هذه التالية؛ فإن المعلول إنما يشرف بشرف علته، فإن كان ذلك الشرف ديناً وعلته الهيئة حصل للعرق الساري من الافتخار به ما لا يحصل لغيره، ولكن إلى حد مفروض، ومقدار معلوم، فأما الغلو فيه إلى أن يعتقد أنهم كما حكيت عنهم فهو كسائر الإفراطات التي عددناها فيما تقدم.
وأما قولك: هل كان في سالف الدهر شيء من هذا الفن؟ فلعمري لقد كان ذلك في كل أمة، وكل زمان.
ولم تزل النجابة على الأكثر سارية في الأولاد، ومتوقعة في العروق حتى إن الملك يبقى في البيت الواحد زماناً طويلاً لا يرتضى الناس إلا بهم، ولا ينقادون إلا لهم.
وذلك في جميع الأمم من الفرس والروم والهند وسائر أجناس الناس.
وكذلك العرق اللئيم، والأصل الفاسد يهجي به الأولاد، وينتظر منهم إليه فيذمون به، وتتجنب ناحيتهم له.
كتاب : الهوامل والشوامل
المؤلف : التوحيدي
ولكن مسألتك مضمنة ذكر الدين وله حكم آخر كما قد علمت من علو
الرتبة، وشرف المنزلة، وإن لم تكن النبوة نفسها سارية في العرق، ولا هي
متوقعة فيما يتبع النبوة من التعظيم والتشريف، ونجوع الناس لها بالطبع،
والتماس أهل بيتها مرتبة الإمامة والتمليك - أمر خارج عن حكم العادة، ولا
سيما إن كان هناك شريطة الفضيلة موجودة والاستقلال حاضراً، فإن العدول
حينئذ عمن كان بهذه الصفة ظلم وتعد.
والسلام.
مسألة هل يجوز أن تكون الحكمة في تساوي الناس من جهة ارتفاع الشرف دون
تباينهم؟.
فإنه إن كانت الحكمة في ذلك لزم أن يكون ما عليه الناس إما عن قهر لا فكاك
لهم منه، أو جهل لا حجة عليهم به.
ولست اعني التساوي في الحال وفي الكفاية، وفي الفقر والحاجة؛ لأن ذاك قد
شهدت له الحكمة بالصواب؛ لأنه تابع لسوس العالم، وجار مع العقل.
وإنما عنيت تساوي الناس من جهة السبب؛ فإن التطاول والتسلط والازدراء قد
فشا بهذا النسب.
والحكمة تأبى وضع ما يكون فساداً أو ذريعة إلى فساد؛ ولهذا قال النبي صلى
الله عليه وسلم: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد
على من سواهم " .
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما يشرف الإنسان نفسه، وبما
يظهر فيه من آثار الحكمة.
وما أحسن قول الإمام على عليه السلام: قيمة كل امرىء ما يحسن.
وإنما حكينا ما تقدم من شريان النجابة في العرق لأجل أن الطمع يقوى فيمن
كانت له سابقة في فضيلة ان تظهر فيه ايضاً، ولا سيما إن كانت علته قريبة
منه.
وكيف يتساوى الناس في ارتفاع الشرف؟ ولو تساووا فيه لما كان شرف ولا
ارتفاع، وإلا فعلى ماذا يرتفع ويشرف، والمنازل متساوية؟ ولكن الناس
يتساوون في الإنسانية التي تعمهم، وفي أشياء تتبع الإنسانية من الأحكام
والأوضاع، ويتفاوتون في أمور أخر يزيد بها بعضهم على بعض.
مسألة ما التطير والفأل؟ ولم أولع كثير من الناس بهما؟.
وكيف نفى عن الشريعة أحدهما ورخص الآخر؟ وهل لهما أصل يرجع إليه، ويوقف
لديه؟ أو هما جاريان مرة بالهاجس والاستشعار، ومرة بالاتفاق والاضطرار؟
والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فاش في هذا المعنى، وليس طريقه محدثاً
للعلم، ولا منته مجيلاً للرأى؛ إذ يقول: لا عدوى ولا طيرة.
وقد قيل في مكان آخر: كان يحب الفأل الحسن.
وزعم الرواة أنه حين نزل المدينة عند أبي أيوب الأنصاري سمعه يقول لغلامين
له: يا سالم، يا يسار.
فقال لأبي بكر: سلمت لنا الدار في يسر.
فكيف هذا؟ وما طريقه؟ وهل يطرد ذلك في تطايره أم يقف؟ ثم حكيت الحكاية عن
ابن اسماعيل في قصة الزعفراني.
وحكيت أيضاً عن ابن الرومي قوله: الفأل لسان الزمان، وعنوان الحدثان.
وقلت: ما أكثر ما يقع ما لا يتوقع؛ مما لم يتقدم فيه قول ولا إرجاف حتى
إذا قارن ذلك شيء صار العجب العجاب، والشيء المستطرف.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الإنسان متطلع إلى الوقوف على
كائنات الأمور ومستقبلاتها ومغيباتها كما وصفنا من حاله فيما تقدم، فهو
بالطبع يتشوفها، ويروم معرفتها، على قدر استطاعته، وبحسب طاقته، فربما
أمكنه التوصل إلى بعضها بطبيعة موافقة، في رأى صائب، وحدس صادق، وتكهن في
الأمور لا يكاد يخطىء فيها، فهو من أعلى درجة في هذا الباب، وأوثق سبب
فيه، فربما تعدد في بعضها ذلك فيروم التوصل إليه بدلائل النجوم، وحركات
الأشخاص العلوية وتأثيرها في العالم السفلي، ويصدق حكمه أو يكذب بحسب قوته
في أخذ الدلائل ومزجها بعد ذلك.
ولهذه الصناعة أصول كثيرة جداً، وفروع بحسب الأصول.
وخطأ المخطىء ليس من ضعف أصول الصناعة، ولكن من ضعف الناظر فيها، أو لأنه
يروم من الصناعة أكثر مما فيها، فيحمل عليها زيادة على الموضوع منها،
وربما فاتته هذه الأسباب ونظائرها من الدلائل الطبيعية.
وليس من شأن النفس أن تعمل عملاً بغير داع إليه، ولا سبب له فيصير كالعبث،
فإذا سنح له أمران، ولم يرجح أحدهما على الآخر طلب لنفسه حجة في ركوب
أحدهما دون الآخر، فيستريح حينئذ إلى الأسباب الضعيفة، ويتمحل العلل
البعيدة بقدر ما يترجح أحد الرأيين المتكافئين في نفسه على الآخر حتى يصل
إليه، ويأخذ به.
وسبيل الرجل الفاضل أن يكون حسن الظن، قويم الرجاء، جميل النية فيتفاءل
حينئذ.
والفأل قد يكون بأصوات بسيطة ليس فيها أثر النطق، ولكن أكثره
بالكلام المفهوم.
وقد يكون بصورة مقبولة، وأشكال مستحسنة، ولكن معظمه في خلق الإنسان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أبردتم إلى بريداً فاجعلوه حسن
الإسم، حسن الوجه " .
فأما أصحاب الطيره فلأنهم أضداد لأصحاب البيات الجميلة، والرجاء الحسن،
فطريقهم مكروهة، وتطيرهم من الأمور أكثر، وأنواع دلائلهم أغزر وأبسط وذلك
أنهم يأخذون بعضها من الخيلان في الناس، والدوائر في الخيل، وأصناف الخلق
الطبيعية.
وبعضها من الأمزجة المتنافرة، والخلق المكروهة كالبوم والهامة والعقرب
الفأر وما أشبهها.
وبعض من الأصوات المنكرة كنهيق الحمير وأصوات الحديد وما أشبهها.
وبعضها من الأسماء والألقاب إذا اشتقوا لها ما يوافقها في بعض الحروف أو
في كلها كاسم الغراب من الغربة والبان من البين، والنوى - نوى التمر - من
البعد.
وبعضها من العاهات، كالأعور من اليمين، والمقعد من الرجل.
وبعضها من الحركات والجهات كالسانج والبارح والمعوج والمائل.
وجميع ذلك؛ لضعف النفس والنحيزة، واستيلاء اليأس والقنوط عليها.
وهذه الاستشعارات تزيدها سوء الحال؟ فلذلك نهى عنها.
وكانت العرب خاصة من بين الأمم أحرص على هذه الطريقة، وألزم لها، على أن
شاعرهم يقول، وقد أحسن:
تخبر طيره فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير
أقام كأن لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
بلى، شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير.
مسألة ما السبب في كراهة بعضهم إذا قيل له يا شيخ
على التوقير والإحلال وهو لا يكون شيخاً؟ وآخر يتمنى أن يقال له ذلك، وهو شاب طرير؟ بل أنت تجد ذلك في شيخ على الحقيقة يكره ذلك، إلا أن هذا علته ظاهرة، ولكن الشأن في شاب يشيخ تعظيماً فيكره، وشاب لا يشيخ فيتكلف.وفقد الشباب موجع، ووجه الشيب مفظع.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما يختلف الناس في ذلك باختلاف نظرهم لأنفسهم، وبحسب ملاحظتهم أغراض مخاطبيهم.
وذلك انه ربما أحب الإنسان ان تظهر فضيلته في ابتداء زمانه، واستقبال عمره فإذا قيل له: يا شيخ ظن أنه قد سلب تلك الفضيلة، وألحق بمن حصل تلك الفضيلة في الزمان الطويل، والتجربة الكثيرة.
وربما كره ذلك أيضاً لأرب له في الشباب، وميل إلى اللعب والهوى اللذين يستقبحان من الشيخ، فإذا قيل له: يا شيخ رأى هذا اللقب كالمانع له والزاجر، وأن مخاطبة ينتظر منه ما ينتظر من المشايخ، ولا يعذره على ركوب ما يهم به ويعزم عليه.
وربما نظر الإنسان إلى مرتبة حصلت له من الوقار الذي لا يحصل إلا من المشايخ وهو في سن الشباب فيسر بالإكرام، وسرعة بلوغه مبلغ المحنكين وأهل الدربة.
فبحسب اختلاف النظر تختلف وجوه الرضا بهذا الوصف، والسخط له.
مسألة ما علة الإنسان في سلوته إذا كانت محنته عامة له ولغيره
؟وما علة جزعه واستكثاره وتحسره إذا خصته المساءة، ولم تعده المصيبة. وما سر النفس في ذلك؟ وهل هو محمود من الإنسان أن مكروه؟ وإذا نزا به هذا الخاطر فبم يعالجه، وإلى أي شيء يرده؟ ولم يتمنى بسبب محنته أن يشركه الناس؟ ولم يستريح إلى ذلك؟ وأصحابنا يروون مثلاً بالفارسية ترجمته: من احترق بيدره أراد ان يحترق بيدر غيره.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الجزع والأسف من عوارض النفس، وهي تجري مجرى سائر العوارض الأخر كالغضب والشهوة والغيرة والرحمة والقسوة وسائر الأخلاق التي يحمد الإنسان فيها إذا عرضت له كما ينبغي، وبسائر الشروط التي أحصيناها مراراً كثيرة، ويذم بها إذا عرضت بخلاف تلك الشرائط.
وإنما تهذب النفس بالأخلاق لتكون هذه العوارض التي تعرض له في مواضعها على ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، فالحزن الذي يعرض كما ينبغي هو ما كان في مصيبة لحقت الإنسان لذنب اجترحه، أو لعمل فرط فيه، أو كان له فيه سبب اختياري، أو لسوء اتفاق خصه دون غيره وهو يجهل سببه، فإن هذا الحزن وإن كان دون الأول فالإنسان معذور به.
فأما ما كان ضرورياً، أو واجباً فليس يحزن له عاقل؛ لأن غروب
الشمس مثلاً لما كان ضرورياً لم يحزن له أحد، وإن كان عائقاً عن منافع
كثيرة، وضارا بكل أحد، ومنع النظر والتصرف في منافع الدنيا، وكذلك هجوم
الشتاء والبرد، وورود الصيف بالحر لا يحزن له عاقل؛ بل يستعد له، ويأخذ
أهبته.
وأما الموت الطبيعي فليس يحزن له أحد؛ لأنه ضروري، وإنما يجزع الإنسان منه
إذا ورد في غير الوقت الذي كان ينتظره، أو بغير الحالة المحتسبة؛ ولذلك
يجزع الوالد على موت ولده؛ لأن الذي احتسبه أن يموت هو قبله.
فأما الولد فيقل جزعه على والده؛ لأن الأمر كما كان في حسابه إلا أنه تقدم
مثلاً بزمان يسير، أو كما ينبغي.
فأما ما يعرض للمسافر، ولراكب البحر أن يخص دون من يصحبه بمحنة في ماله أو
جسمه، فإنما حزنه لسوء الاتفاق ورداءة البخت فإن هذا النوع مجهول السبب؛
ولذلك يعذر فيه أدنى عذر.
وأما من يتمنى لغيره من السوء مثل ما يحصل له فهو شر في طبعه لا سيما إذا
لم يجد عليه شيئاً، ولم يعد له بطائل، وحينئذ يحسن توبيخه وتأديبه.
وقد أحسن الشاعر في قوله:
ليس تأسو كلوم غير كلمى ... ما بهم ما بهم وما بي ما بي.
مسألة ما الفضيلة السارية في الأجناس المختلفة
كالعرب، والروم، والفرس، والهند؟ وزعمت أنك حذقت الترك لأن أبا عثمان لا يعتد بهم إلى ما يتصل به من كلامك مما لم أحكه، إذ كانت المسألة هي في قدر ما خرج من حكايتي.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لما كانت هذه المسألة متوجهة إلى خصائص الأمم، والتعجب واقعاً مما تفرد به قوم دون قوم - أقبلت على البحث عن ذلك، وتركت تهذيب ألفاظ المسألة.
وهذه سبيلي في سائر المسائل، لأن صاحبها يسلك مسلك الخطابة، ولا يذهب مذهب أهل المنطق في تحقيق المسألة، وتوفيتها حظها على طرقهم، فأقول وبالله التوفيق: قد تقدم فيما مضى من كلامنا أن النفس تستعمل الآلات البدنية، فتصدر أفعالها بحسب أمزجتها، وحكينا عن جالينوس مذهبه، ودللنا على الموضع الذي يستخرج منه ذلك، وضربنا له مثلاً من الحرارة الغريزية وغيرها إذا كانت حاضرة كيف تستعملها النفس الناطقة حتى تكون كما ينبغي، وعلى من ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي، وأن الرياضة وحسن التقدير والترتيب ولزوم ذلك حتى يصير سجية وملكة - هي الفضيلة والخلق المحمود.
فإذا كان هذا الأصل محفوظاً فما أيسر الجواب عن مسألتك هذه! وذاك أن لكل أمة مزاجاً هو الغالب عليهم، وإن كان يوجد في النادر وفي الفرط ما هو مخالف لذلك المزاج، وذلك لأجل التربة والهواء والأغذية والمزاج التابع لذلك، ولما كرهته أنت أيضاً من آثار الفلك والكواكب؛ فإن ذلك العالم هو المؤثر في هذا العالم بالجملة.
أما أولاً فبتمييز العناصر بعضها بعض ثم بمزجها على الأقل والأكثر، ثم بإعطائها الصور والأشكال.
وليس لاستعفائك من الحق وجه، ولا لإعفائك إياك منه طريق، فالتزمه؛ فإن واجب.
ولولا أن مسألتك وقعت عن غير هذا المعنى لاشتغلت به، ولكن هذا أصل له، فلا بد في ذكر الفرع من ذكر الأصل.
وإذا كان هذا على هذا فحيث يعتدل مزاج ما من الأمزجة الشريفة أعني في الأعضاء الشريفة وهي: القلب، والكبد، والدماغ - وأضيف إلى ذلك ما ذكرناه من أخلاق فاضلة - أعني ترتيب الأفعال الغامرة، وبحسب المزاج، وتهذيبها ولزومها يتكرر الفعل، وإدمان العادة - فهناك تحصيل الفضيلة الصادرة عنها.
وسواء أكان ذلك في أمة، أو شخص، أو كان ذلك عن ابتداء أخلاق شريفة، أو تأديب شيئاً فشيئاً بعد أن يكون المزاج مسعداً، والبغية قابلة، والعادة مستمرة، فإن الفضيلة حاصلة غير زائلة.
مسألة ما علة كثرة غم من كان أعقل، وقلة غم من كل أجهل
؟وهذا باب موجود في واحد واحد، ثم تجده في الجنس والجنس، كالسودان والحمران؛ فإنك تجد السودان أطرب وأجهل، والحمران أعقل وأكثر فكراً وأشد اهتماماً.
هذا، ويقال، إن الفرح من الدم.
والحمران أكثر دماً، وأعدل مزاجاً، وأوجد لأسباب الفرح وآلات الطرب، وأقدر على الدنيا بكل وجه.
وأنت ترى - أيضاً - هذا العارض في رفيقين خليطين: أحدهما مهموم بالطبع، وآخر متفكه بالطبع.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الغم يعرض من جهتين مختلفتين: إحداهما جهة الفكر، والأخرى جهة المزاج.
فأما الفكر فإنه يعرض منه الغم إذا كان المرء ينتظر به مكروهاً.
وأما المزاج فهو أن ينحرف مزاج الدم إلى السواد أو الاحتراق فيتكدر به
الروح الذي سببه بخارالدم في مجاري الشرايين.
وبحسب صفاء ذلك الدم يكون صفاء بخاره، وانبساطه، وسرعة حركته، وجريانه في
ذلك التجويف.
وإذا كان سبب الغم معلوماً، فمقابله الذي هو سبب الفرح والسرور معلوم
أيضاً.
فالعاقل - لأجل جولان فكره - يكثر انتظاره مكاره الدنيا، ومن لا يكثر
فكره، ولا ينتظر مكروهاً، فلا سبب له يغمه.
وأما المزاج الذي ذكرناه، فقد أحكمه جالينوس وأصحابه وسائر الأطباء ممن
تقدمه أو تأخر عنه.
وهذا المزاج ليس يخلوا أن يكون طارئاً، أو حادثاً، أو طبيعياً في أصل
الخلقة؛ فإن كان حادثاً فهو مرض، وينبغي أن يعالج بما تعالج به أصناف
المالخوليا وأنواع الأمراض السوداوية التي سببها فساد الدم بالاحتراق،
وانحرافه إلى السوداء.
وإن كان أصلياً وخلقة فلا علاج له؛ لأنه ليس بمرض كأجيال من الناس وأمم
أمزجتهم كذلك.
فأما ما حكيته عن السودان، فإن الزنوج خاصة لهم الفرح والنشاط، وسببه
أعتدال دم القلب فيهم، وليس ظننت أن أمزجتهم تابعة لسواد ألوانهم وذلك أن
سبب سواد ألوانهم هو قرب الشمس منهم، وممرها في حضيض فلكها على سمت
رءوسهم، فهي تحرق جلودهم وشعورهم، فيعرض فيها - أعني في شعورهم - التفلفل
الذي هو بالحقيقة تشيط الشعر؛ ولأجل أن الحرارة تستولي على ظاهرهم فهي
تجذب الحرارة الغريزية من باطنهم إليها؛ لأن الحرارة تميل إلى جهة
الحرارة، فلا تكثر الحرارة الغريزية في قلوبهم لأجل ذلك.
وإذا لك تكن الحرارة الغريزية في القلب قوية، لم يعرض للدم الذي هناك
احتراق، بل هو إلى الصفاء والرقة أقرب.
ودماء الزنوج رقيقة أبداً صافية؛ ولذلك تقل الشجاعة أيضاً فيهم.
فأما الحمران فأكثرهم في ناحية الشمال، والبلدان الباردة التي تبعد الشمس
عنهم، وتقوى الحرارة الغريزية في قلوبهم، ولاشتمال البرد على ظاهرهم تبقى
جلودهم بيضاء وشعورهم سباطاً، وتعود حرارتهم إلى داخل أبدانهم هرباً من
البرد الذي في هوائهم لبعد الشمس عنهم، فهم لذلك أشجع، وأقوى حرارة قلوب.
ودماؤهم لأجل ذلك إلى الكدورة والسواد والخروج عن الاعتدال.
وأهل الاعتدال الذي يبعدون عن الشمال وعن الجنوب، ويسكنون الإقليم الأوسط
هم أسلم من هذه الآفاق، وأصح أمزجة، وأقرب إلى الاعتدال.
مسألة حدثني عن مسألة هي ملكة المسائل
والجواب عنها أمير الأجوبة، وهي الشجا في الحلق، والقذى في العين، والغصة في الصدر، والوقر على الظهر، والسل في الجسم، والحسرة في النفس؛ وهذا كله لعظم مادهم منها، وابتلى الناس به فيها، وهي حرمان الفاضل وإدراك الناقص؛ ولهذا المعنى خلع ابن الراوندي ربقة الدين، وقال أبو سعيد الحصيري بالشك، وألحد فلان في الإسلام، وارتاب فلان في الحكمة.وحين نظر أبو عيسى الوراق إلى خادم قد خرج من دار الخليفة بجنائب تقاد بين يديه، وبجماعة تركض حواليه، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: أوحدك بلغات وألسنة، وأدعو إليك بحجج وأدلة، وأنصر دينك بكل شاهد وبينه، ثم أمشي هكذا عارياً جائعاً نائعاً، ومثل هذا الأسود يتقلب في الخز والوشي، والخدم والحشم، والحاشية والغاشية.
ويقال هذا الإنسان هو ابن الراوندي، ومن كان؛ فإن الحديث في هذا الباب، والإسناد فيه عال، والبحث عن هذا السر واجب؛ فإنه باب إلى روح القلب، وسلامة الصدر، وصحة العقل، ورضا الرب، ولو لم يكن فيه إلا التفويض والصبر حسبما يوجبه الدليل لكان كافياً.
والمنجمون يقولون: إن الثامن من مقابلة الثاني.
فكأن المناظر والمقابل يدلان على العداوة.
وحدثنا شيخ عن ابن مجاهد أنه قال: الفضل معدود من الرزق، كما أن الخفض معدود في جملة الحرمان.
وقال لي شيخ مرة: اعلم أن القسمة عدل، والقاسم منصف؛ لأنه بإزاء ما أعطاك من الأدب والفضل واللسان والعقل أعطى صاحبك المال والجاه والكفاية واليسار، فانظر إلى النعمة كيف انقسمت بينكما، ثم انظر إلى البلاء كيف انقسم عليكما أيضاً: أبلاك مع الفضل بالحاجة، وأبلاه مع الغنى بالجهالة.
فهل العدل إلا في هذه العبرة، والحق إلا بهذه الفكرة.
ولعمري إن هذا المقدار لا يصير عليه الدهري ولا التناسخي، ولا
الثنوي، ولكن على كل حال فيه تبصرة من العمى.
ولو قد أفردنا الجواب عن مسائل هذه الرسالة للمعترض والمتشكك في ذلك مشبع
ومروى.
والله المعين على ما قد اشتمل الضمير عليه، وانعقدت النية به.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة كما حكيت ووصفت من
صعوبتها على أكثر الناس، والتباس وجه الحكمة فيها على أصناف أهل النظر حتى
صار الكلام فيها مشبهاً بقائم الشطرنج الذي يتنازعه الخصمان إلى أن
يقطعهما الكلال والسآمة فيطرحونها قائمة، ثم يعودون فيها مجلساً بعد آخر،
فتكون صورتهم فيها وافقة بحالها.
وكنت أحب أن أفرد فيها مقالة تشتمل على جملة مستقصاة تشفي وتكفي عند ما
سألني بعض الإخوان ذلك؛ فإن أمثال هذه المسائل المتداولة بين الناس،
المشهورة بالشك والحيرة - ليس ينبغي أن يقنع فيها بأمثال هذه الأجوبة التي
سألت أنت فيها الإيجاز الشديد، وضمنت أنا فيها الإيماء إلى النكت، لا سيما
وأنا لا أعرف في معناها كلاماً مبسوطاً لأحد ممن تقدمني حتى إذا أومأت
بالمعنى إليه أحلت بالشرح عليه، ولكنني لما انتهيت إليها بالنظر لم يجز أن
أخليها من جواب متوسط بين الإسهاب والإيجاز.
وأنا مجتهد في بيانها، وإزالة ما لحق الناس من الحيرة فيها.
ومن عند الله استمد التوفيق وهو حسبي، فأقول: إن من الأصول التي لا منازعة
فيها، وهي مسلمة من ذوي العقول السليمة أن لكل موجود في العالم - طبيعي
كان أو صناعي - غاية وكمالاً وغرضاً خاصاً وجد من أجله وبسببه، اعني أنه
إنما أوجد ليتم به ذلك الغرض، وإن كان قد يتم به أشياء أخر دون ذلك الغرض
الأخير، والكمال الأخير، وقد يصلح لأمور ليست من الغرض الذي قصد به وأريد
له في شيء.
ومثال ذلك المطرقة فإنها إنما أعدت للصانع ليتم له بها مد الأجسام إلى
أقطارها، وبسطها إلى نواحيها، وهي - مع ذلك - تصلح لأن يشق بها، وتستعمل
في بعض ما تستعمل فيه الفأس، وكذلك أيضاً المقراض إنما أعد للخياط ليقطع
به الثوب، وهو مع ذلك - يصلح لأن يبري به القلم، ويستعمل مكان السكين،
وكذلك الحال في سائر الآلات الصناعية.
وهكذا صور الأمور الطبيعية؛ فإن الأسنان إنما أعدت مختلفات الأوضاع
والأشكال لاختلاف كمالاتها - أعني الأغراض التي تتم بها، والأفعال التي
وجدت من أجلها، فإن مقاديمها حادة بالهيئة التي تصلح للقطع كالحال في
السكين ومآخيرها عريضة بالهيئة التي تصلح للرض والطحن كالحال في الرحا.
وقد تتم بها أفعال أخر.
وكذلك الحال في اليد والرجل، فقد يتعاطى الناس أن يعملوا بكل واحدة منهما
غير ما خلقت له، وعملت من أجله على سبيل الحاجة إلى ذلك، أو على طريق
التغريب به، كمن يمشي على يده، ويبطش ويكتب برجله.
ولكن هذه الأفعال - وإن ساغ صدروها عن هذه الآلات، وتتم بها غير ما هو
كمالها وخص بها - فإن ذلك منها يكون على اضطراب ونقصان عن الآلات التي تتم
بها أعمالها الخاصة بها، المطلوبة منها، الموجودة من أجلها.
وإذا كان ذلك مستمراً في جميع الألات الصناعية، والأشخاص الطبيعية فكذلك
الحال في النواع كلها؛ فإنك إذا تأملت نوعاً منها وجدته مستعداً لكمالات
وأغراض خاصة بواحد واحد منها.
وهكذا يجري الأمر في أجناس هذه الأنواع؛ فإن الناطق وغير الناطق من
الحيوان ليس يجوز أن يكون غرضهما وكمالهما واحد - أعني لا يجوز بوجه ولا
سبب ألا يكون للإنسان الذي ميز بهذه الصورة، وأعطي التمييز والروية، وفضل
بالعقل الذي هو أجل موهوب له، وأفضل مخصوص به - غرض خاص، وكمال خلق لأجله،
ووجد بسببه.
وإذا كان هذا الأصل موطأ ومقراً به، وكان على غاية الصحة، وفي نهاية القوة
كما تراه، فهلم بنا نبحث بحثاً آخر عن هذه الآلات الصناعية، والأشخاص
الطبيعية، فإنا نجدها قد تشترك في أشياء، وتتباين في أشياء.
أعني أن المطرقة تشارك السكين والإبرة والمنشار وغيرها في الصورة
التي هي الحديدة، ثم تنفرد بخاص صورة لها تميزها من غيرها، والإنسان يشارك
النبات والبهائم في النمو والاعتلال، وفي الإلتذاذ بالمأكل والمشرب وسائر
راحات الجسد، ونفض الفضول عنه، ونريد ان نعلم هل هذا الاختصاص الذي لكل
واحد منها بغرضه الخاص به، وكماله المفروض له هو بما شارك به غيره، آو بما
باينه به؟ فتجده الصورة الخاصة به التي ميزته عن غيره، وصار بها هو ما هو.
أعني صورة الفأس التي بها هو فأس هي التي جعلت له خاصته وكماله وغرضه،
وكذلك الحال في الباقيات.
ثم نصير إلى الإنسان الذي شارك النبات والحيوان في موضوعاتها فنقول: إن
الإنسان من حيث هو حيوان قد شارك البهائم في غرض الحيوانية وكمالها، أعني
في نيل اللذات والشهوات، والتماس الراحات وطلب العوض مما يتحلل من بدنه،
إلا أن الحيوانية لما ما تكن صورته الخاصة به، المميزة له عن غيره لم تصدر
هذه الأشياء منه على أتم أحوالها؛ وذاك أنا نجد أكثر الحيوانات تزيد على
الإنسان في جميع ما عددناه، وتفضله فيها بالاقتدار على التزيد وبالمداومة
وبالاهتداء.
ولما كانت صورته الخاصة به التي ميزته عن غيره هو العقل وخصائصه من
التمييز والروية - وجب ان تكون إنسانيته في هذه الأشياء، فكل من كان حظه
من هذه الخصائص أكثر كان اكثر إنسانية، كما أن الأشياء التي عددناها كلما
كان منها حظه من صورته الخاصة به أكثر كان فضله في أشكاله أظهر.
ثم نعود إلى شرح مسألتك، ونبينها بحسب هذه الأصول التي قدمتها فأقول:
لعمري إنه لو كان غاية الإنسان، وغرضه الذي وجد بسببه، وكماله الذي أعد له
هو الاستكثار من القنية، والتمتع بالمآكل والمشارب، وسائر اللذات والراحات
- لوجب أن يستوفيها بصورته الخاصة به، ولوجب أن تكثر عنده، ويكون نصيب كل
إنسان منها على قدر قسطه من الإنسانية،حتى يكون الأفضل من الناس هو الأفضل
في هذه الأحوال من القنية والاستمتاع بها، ولكن لما كانت صورته الخاصة به
هي ذكرنا، علمنا أن القصد به، والغرض فيه، هو ما صدر عنه، وتم به، كحقائق
العلوم والمعارف، وإجالة الروية، وإعمال الفكرة فيها، ليصل بذلك إلى مرتبة
هي أجل من مرتبة البهائم، وسائر الموجودات في عالم الكون والفساد، كما أنه
في نفسه وبحسب صورته أفضل منها كلها.
وهذه المرتبة لا يصل إليها بغير الروبة، وبغير الإختيار الخاصيين بالعقل.
ولا يجوز أن يقال في معارضة ما قلناه: إن هذه الروية، وهذا الاختيار إنما
ينبغي أن يكونا في اللذات؛ لأنا قد بينا في هذا الموضع، وفي مواضع أخر
كثيرة، أن تلك الموجودة للحيوانات الخسيسة أو فر وأكثر بغير روية ولا عقل،
وإنما تشرف الروية، وتتبين ثمرة العقل إذا استعمل في أفضل الموجودات.
وأفضل الموجودات ما كان دائم البقاء داثر ولا متبدل، وغير محتاج ولا فقير
إلى شيء خارج عنه، بل هو الغني بذاته، الذي بجوده على جميع الموجودات،
ونزلها منازلها بقدر مراتبها، وعلى قدر قبولها، وبحسب استحقاقاتها.
فالروية والفكرة والاختيار إنما تكمل بها صور الإنسانية إذا استعملت في
الأمور الإلهية ليرتقي بها إلى منازل شريفة لا يمكن النطق بها، ولا إشارة
إليها إلا لمن وصل إليها، وعرف إلى ما يشار، وعلم لأي شيء عرض الإنسان من
الخيرات، ثم هو يطلب الإنتكاس في الخلق، والرجوع إلى مرتبة البهائم ومن هو
في عدادها ممن خسر نفسه، كما قال الله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم "
قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم " .
فهذا - لعمري - هو الخسران المبين الذي يتعوذ بالله منه دائماً.
ولقد أعجبني قول امرىء القيس مع لوثة أعرابيته، وعجمية ملكه، وشبابه
وذهابه في طرق الشعر التي كان متصنعاً به، وهائماً في واديه، منغمساً في
معانيه:
أرانا موضعين لحتم غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
فما هذا الإيضاع منا؟ وما هذا الحتم من الغيب؟ لقد أشار إلى معنى الطيف،
ودل من نفسه على ذكاء تام، وقريحة عجيبة، ألا تراه يقول: ونسحر بالطعام
وبالشراب أي المراد منا، والمقصود بنا غيرهما، وإنما نسحر بهذين.
فقد تبين أن الإنسان - إذا لم تكن غايته هذه الأشياء التي تسميها
العامة أرزاقاً، ولم يخلق لها، ولا هي مقصود بالذات - فليس ينبغي له أن
يلتمسها ، وأن يتعجب ممن اتفقت له، وإن كان يتشوقها ويحبها، فليس ذلك من
حيث هو إنسان عاقل، بل هو من حيث هو حيوان بهيمي.
وقد أزيحت علته في الأمور الضرورية التي يتم بها عيشة، ويصح منها سلوكه
إلى غايته.
ولم يظلم أحد في هذا، فتأمله تجده بيناً إن شاء الله.
مسألة ما الاتفاق،وما يتلوه من الكلام
؟هذه المسألة مكررة، وقد مضى الجواب عنها مستقصى على شريطة الإيجاز.
وبعدها مسألة التوفيق، وقد مرت أيضاً، فليرجع إلى الأجوبة المتقدمة عنهما.
مسألة لجواب أن تفرد مسألة الجبر والاختيار
فيقال: ما الجبر؟ وما الاختيار؟ وما نسبتهما إلى العالم؟ وكيف انتسابهما وانتمائهما؟.اعني كيف اختلافهما في ائتلاقهما؟ وذلك أنك تجدهما في العالم مضافين إلى اللذين يجمعون بين العقل والحس، كما تجدهما مضافين إلى اللذين ينفردون بالحس دون العقل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الإنسان تصدر عنه حركات وأفعال كثيرة لا يشبه بعضها بعضاً.
وذلك أنه يظهر منه فعل من حيث هو جسم طبيعي، فيناسب فيه الجماد.
ويظهر منه فعل آخر من حيث هو نام - مع أنه جسم طبيعي - فيناسب بذلك الفعل النبات.
ويظهر منه فعل آخر من حيث هو ذو نفس حساس، فيناسب بذلك الفعل البهائم.
ويظهر منه فعل آخر من حيث هو ناطق مميز فيناسب بذلك الفعل الملائكة؛ ولكل واحد من هذه الأفعال والحركات الصادرة عن الإنسان أنواع كثيرة وإليها دواع، ولها أسباب، وينظر أيضاً فيها من جهات مختلفة، وتعرض لها عوائق كثيرة، وموانع مختلفة، بعضها طبيعية، وبعضها اتفاقية، وبعضها قهرية.
ومتى لم يفصل الناظر في هذه المسألة هذه الأفعال بعضها من بعض، ولم ينظر في جهاتها كلها - اختلطت عليه هذه الوجوه، والتبس عليه وجه النظر فيها فعرضت له الحيرة، وكثرت عليه الشبه والشكوك.
ونحن نبين هذه الحركات، ونميزها، ثم نتكلم على حقيقة الجبر والاختيار، فإن الأمر حينئذ يسهل جداً، ويقرب فهمه، ولا يعتاص - بمشيئة الله تعالى - فأقول: إن الفعل - مع اختلاف أنواعه، وتباين جهاته - يحتاج في ظهروه إلى أربعة أشياء: أحدهما الفاعل الذي يظهر منه.
والثاني المادة التي تحصل فيها.
والثالث الغرض الذي ينساق إليه.
والرابع الصورة التي تقدم عند الفاعل، ويروم بالفعل اتخاذها في المادة وربما كانت الصورة هي الفعل بعينه.
فهذه الأشياء الأربعة هي ضرورية في وجود الفعل وظهوره، وقد يحتاج إلى الآلة والزمان والبينة الصحيحة، ولكن ليست بضرورية في كل فعل.
ولما كانت مسألتك عن الفعل الإنساني الذي يتعلق بالاختيار وجب أن تذكرها أيضاً.
ثم إن كل واحد من الأشياء التي هي ضرورية في وجود الفعل ينقسم قسمين: فمنه قريب، ومنه بعيد: أما الفاعل القريب فبمنزلة الأجير الذي ينقل آلات البناء في اتخاذ الدار.
والفاعل البعيد بمنزلة الذي يهندس الدار ويأمر بها، ويتقدم بجميع آلاتها.
وأما الهيولى القريبة فبمنزلة اللبن للحائط، والخشب للباب.
والهيولى البعيدة بمنزلة العناصر الأولى.
وأما الكمال القريب فبمنزلة السكنى في الدار.
والكمال البعيد بمنزلة حفظ المتاع، ودفع أذى الحر والبرد وما أشبه ذلك.
وأما أنواع الأفعال التي ذكرناها فإنما اختلفت بحسب أنواع القوى الفاعلة التي في الإنسان؛ وذلك أن لكل واحدة من القوى الشهوية، والقوى الغضبية والقوى الناطقة - خاص فعل لا يصدر إلا عنها.
وأما الأسباب الدواعي فبعضها الشوق والنزوع، وبعضها الفكر والروية، وقد تتركب هذه.
وأما العوائق التي ذكرناها فبعضها اتفاقية، وبعضها قهرية، وبعضها طبيعية.
فالاتفاقية بمنزلة من يخرج لزيارة صديقه، فيلقاه عدو لم يقصده، فيعوقه عن إتمام فعله، وكمن ينهض لحاجة فيعثر، أو يقع في بئر.
والقهرية بمنزلة من يشد يديه اللصوص ليعوقوه عن البطش بهما، أو كمن يقيده السلطان ليمنعه من السعي والهرب منه.
والطبيعية بمنزلة الفالج والسكتة وأما أشبههما.
وههنا نظر آخر في الفعل ينبغي أن نتذكره وهو أنا ربما نظرنا في
الفعل لا من حيث ذاته ولكن من حيث إضافته إلى غيره، مثال ذلك أنا قد ننظر
في فعل زيد من حيث هو طاعة لغيره أو معصية، ومن حيث يحبه عمرو ويكرهه
خالد، ومن جهة ما هو ضار لبكر ونافع لعبد الله.
وهذا النظر ليس يكون في ذات الفعل بل في إضافته إلى غيره.
وإذ قد نظرنا في الفعل، وأنواعه، وجهاته، وحاجته في ظهوره ووجوده إلى
الشرائط التي عددناها - فإنا ناظرون في الاختيار ما هو فنقول: إن الاختيار
اشتقاقه بحسب اللغة من الخير، وهو افتعال منه وإذا قيل: اختار الإنسان
شيئاً فكأنه افتعل من الخير أي فعل ما هو خير له: إما على الحقيقة، وإما
بحسب ظنه.
وإن لم يكن خيراً له بالحقيقة، فالفعل الإنساني يتعلق به من هذا الوجه،
وهو ما صدر عن فكر منه، وإجالة رأى فيه؛ ليقع منه ما هو خير له.
ومعلوم أن الإنسان لا يفكر، ولا يجيل رأيه في الشيء الواجب ولا في الشيء
الممتنع، وإنما يفكر ويجيل رأيه في الشيء الممكن، ومعنى قولنا الممكن هو
الشيء الذي ليس بمتنع، وإذا فرض وجوده لم يعرض عنه محال.
ولما كانت هذه الجهة من الفعل هي المتعلقة بالاختيار، وهي التي تخص بالفعل
الإنساني، وكانت محتاجة في تمام وجود الفعل إلى تلك الشرائط التي قدمناها،
كان النظر فيها - أعني في هذه الجهة - يعرض للغلط والوقوع في تلك الجهات
التي ليست متعلقة بالإنسان، ولا مبدؤها إليه.
وربما نظر بحسب جهة من جهات الفعل، وخلى النظر في الجهات الأخر، فيكون
حكمه على الفعل الإنساني بحسب تلك الجهة، وذلك بمنزلة من ينظر في الفعل من
جهة الهيولى المختصة به التي لا بد له في وجوده منها، ويتخلى عن الجهات
الأخر التي هي أيضاً ضرورية في وجوده، كالكاغد للكاتب فإنه إذا نظر في فعل
الكاتب من هذه الجهة.
أعني تعذر الكاغد عليه ظن أنه عاجز عن الكتابة من هذه الجهة، ممنوع عن
الفعل لأجلها، وهذه جهة لم تتعلق به من حيث هو كاتب ومختار للكتابة، وكذلك
إن عدم القلم والجارحة الصحيحة، أو واحداً من تلك الأشياء المشروط في وجود
كل فعل إنساني فحينئذ يبادر هذا الناظر بالحكم على الإنسان بالجبر، ويمنع
من الاختيار.
وكذلك تكون حال من ينظر في فعله من حيث هو مختار، فإنه إذا نظر في هذه
الجهة، وتخلى عن الجهات الأخر التي هي أيضاً ضرورية في وجوده، فإنه أيضاً
سيبادر إلى الحكم عليه بأنه فاعل متمكن، ويمنع من الجبر.
وهكذا حال كل شيء مركب عن بسيط فإن الناظر في ذلك المركب إذا نظر فيه بحسب
جزء من أجزائه الذي تركب منه، وترك أجزاؤه الباقية - تعرض له الشكوك
الكثيرة من أجزائه الباقية التي ترك النظر فيها.
والفعل الإنساني وإن كان اسمه واحداً، فوجوده معلق بأشياء كثيرة لا يتم
إلا بها، فمتى لحظ الناظر فيه شيئاً واحداً منها، وترك ملاحظة الباقيات
عرضت له الشكوك من تلك الأشياء التي أغفلها.
والمذهب الصحيح هو مذهب من نظر في واحد واحد منها، فنسب الفعل إلى الجميع،
وخص كل جهة بقسط من الفعل، ولم يجعل الفعل الإنساني اختياراً كله، ولا
تفويضاً كله؛ ولهذا قيل: دين الله بين الغلو والتقصير.
فإن من زعم أن الفعل الإنساني يكفي في وجوده أن يكون صاحبه متمكناً من
القوة الفاعلة بالاختيار فهو غال من حيث أهمل الأشياء الهيولانية،
والأسباب القهرية، والعوائق التي عددتها قبل.
وهذا يؤديه إلى التفويض.
وكذلك حال من زعم أن فعله يكفي في وجوده أن ترتفع هذه العوائق عنه، وتحصل
له الأشياء الهيولاينة فهو مقصر من حيث أهمل القوة الفاعلة بالاختيار وهذا
يؤديه إلى الجبر.
وإذا كان هذا على ما بيناه ولخصناه فقد ظهر المذهب الحق، وفيه جواب مسألتك
عن الجبر والاختيار.
ويعلم علماً واضحاً أن الإنسان إذا امتنع عليه فعله لنقصان بعض هذه
الأشياء التي هي ضرورية في ظهور فعله، أو عرضية فيه، أو قهرية، أو اتفاقية
فهو منسوب إلى تلك الجهة.
مثال ذلك أنه إن كان امتنع من الفعل لنقصان الهيولى، أو أحد الأربعة
الأشياء الضرورية فهو عاجز، وإن امتنع لعائق قهري أو اتفاقي فهو معذور من
تلك الجهة وبحسبها، وعلى مقدارها.
فأما من حضرته القوة الفاعلة بالاختيار، وارتفعت تلك الموانع
عنه، وأزيحت علله فيها كلها، ثم كان ذلك لفعل مما ينظر فيه على طريق
الإضافة أن يكون طاعة لمن تجب طاعته، آو معونة لمن تجب معونته، أو غير ذلك
من وجوه الإضافات الواجبة، ثم امتنع من الفعل فهو ملوم غير معذور؛ لأنه
قادر متمكن؛ ولأجل ذلك تلحقه الندامة من نفسه، والعقوبة من غيره، أو العيب
والذم.
وهذه الجهة التي تختص الإنسان من جهات الفعل المتعلقة بالفكر، وإجالة
الرأى المسمى بالاختيار - هي ثمرة العقل ونتيجته.
ولولا هذه الجهة لما كان لوجود العقل فائدة، بل يصير وجوده عبثاً ولغواً،
ونحن نتيقن أن العقل أجل الموجودات، وأشرف ما من الله - تعالى - به ووهبه
للإنسان، ونتيقن أيضاً أن أخس الموجودات، ما لا ثمرة له، ولا فائدة في
وجوده بمنزلة اللغو والعبث، فإذن أجل الموجودات على هذا الحكم هو أخس
الموجودات.
هذا خلف لا يمكن أن يكون.
فليس هذا الحكم بصادق، فنقيضه هو الصادق.
مسألة لم حن بعض الناس إلى السفر
من لدن طفوليته إلى كهولته، ومنذ صغره إلى كبره، حتى إنه يعق الوالدين، ويشق الخافقين صابراً على وعثاء السفر، وذل الغربة، ومهانة الخمول، وهو يسمع قول الشاعر:إن الغريب بحيث ما ... حطت ركائبه ذليل
ويد الغريب قصيرة ... ولسانه أبداً كليل
والناس ينصر بعضهم ... بعضاً وناصره قليل
وآخر ينشأ في حضن أمه، وعلى عانق ظئره، ولا ينزع به حنين إلى بلد، ولا يغلبه شوق إلى أحد، كأنه حجر جبله، أو حصاة جدوله؟ لعلك تقول: مواضع الكواكب، ودرجة الطالع، وشكل الفلك اقتضت له هذه الأحوال، وقصرته على هذه الأمور، فحينئذ تكون المسألة عليك في آثار هذه النجوم، وتوزيعها هذه الأسباب على ما هي عليه من ظاهر التسخير - أشد، وتكلف الجواب عنها آكد وأنكد.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن قوة النزاع إلى المحسوسات تنقسم بانقسام الحواس.
وكما ان بعض المزاج تقوى فيه حاسة البصر، وبعضه تقوى فيه حاسة السمع، فكذلك الحال في القوة النزاعية التي في تلك الحاسة؛ لأنها هي التي تشتاق إلى تكمل الحاسة، وتصييرها بالفعل بعد أن كانت بالقوة.
ومعنى هذا الكلام أن الحواس كلها هي حواس بالقوة إلى أن تدرك محسوساتها، فإذا أدركتها صارت حواس بالفعل.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فليس بعجب أن يكون هذا المعنى في بعض الحواس قوياً، ويضعف في بعض، فيكون بعض الناس يشتاق إلى السماع، وبعضهم إلى النظر، وبعضهم إلى المذوقات من المأكول والمشروب، وبعضهم إلى المشمومات وألوان الروائح، بعضهم إلى الملبوسات من الثياب وغيرها.
وربما اجتمع لواحد أن يشتاق إلى اثنين منها، أو ثلاثة، أو إليها كلها.
ولكل واحد من هذه المحسوسات أنواع كثيرة لا تحصى، ولأنواعها أشخاص بلا نهاية.
وهي على كثرتها وعددها الجم، وخروجها إلى حد ما لا نهاية له - ليست كمالات للإنسان من حيث هو إنسان، وإنما كماله الذي يتمم إنسانيته هو فيما يدركه بعقله.
أعني العلوم.
وأشرفها ما أدى إلى أشرف المعلومات.
وإنما صار البصر والسمع أشرف الحواس لأنهما أخص بالمعارف، وأقرب إلى الفهم والتمييز، وبهما تدرك أوائل المعارف، ومنها يرتقي إلى العلوم الخاصة بالنطق.
وإذا كانت الحالة على هذه الصورة في الشوق إلى ما يتمم وجود الحواس، ويخرجها إلى الفعل، وكان من الظاهر المتعارف أن بعض الناس يشتاق إلى نوع منها فيحتمل فيه كل مشقة وأذى حتى يبلغ أربه فيه - لم يكن بديعاً ولا عجباً أن يشتاق آخر إلى نوع آخر فيحتمل مثل ذلك فيه.
إلا أنا وجدنا اللغة في بعض هذه عنيت فوضعت له اسماً، وفي بعضها لم تغن فأهملته؛ وذلك أنا قد وجدنا لمن يشتاق إلى المأكول والمشروب إذا أفرطت قوته النزاعية إليهما حتى يعرض له ما ذكرت من الحرص عليهما، والتوصل إليهما ما يحتمل معه ضروب الكلف والمشاق - اسماً، وهو الشره والنهم.
ولم نجد لمن يعرض له ذلك في المشموع اسماً.
وأظن ذلك لأجل كثرة ما يوجد من ذلك الضرب، ولأن عيبه أفحش، وما يجلبه من الآثام والقبائح أكثر.
فقد ظهر السبب في تشوق بعض الناس إلى الغربة وجولان الأرض.
وهو أن قوته النزاهية التي تختص بالبصر تحب الاستكثار من
المبصرات وتحديدها، ويظن أن أشخاص المبصرات تستغرق، فهو يحتمل كثيراً من
المشاق في الوصول إلى أربه من إدراك هذا النوع.
وقد نجد من يحتمل أكثر من ذلك إذا تحرك بقوته النزاعية إلى سائر المحسوسات
الأخر، والاستكثار منها.
فتأمل الجميع، وأعد نظرك، وتصفح جزئياتها تجد الأمر فيها واحداً.
مسألة ما سبب رغبة الإنسان في العلم؟ ثم ما فائدة العلم؟
ما غائلة الجهل؟ ثم ما عائدة الجهل الذي قد وما سر العلم الذي قد طبع عليه
الخلق؟ فإن استشفاف هذه الفصول، واستكشاف هذه الأصول يثيران علماً وحكماً
جماً، وإن كان فيها - في البحث عنها، وبعض أوائلها وأواخرها - مشقة على
النفس، وثقل على الكاهل.
ولولا معونة الخالق من كان يقطع هذه التنائف الملس؟ ومن كان يسلك هذه
المهامه الخرس؟ ولكن الله - تعالى - ولى المخلصين، وناصر المطيعين، ومغيث
المستصرخين.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: مر لنا في عرض كلامنا على هذه
المسائل ما ينبه على جواب هذه المسألة.
ولكنه لا بد من إعادته شيء منه يزيد في كشف الشبهة، وإزالة الشك.
وهو أن العلم كمال الإنسان من حيث هو إنسان؛ لأنه إنما صار إنساناً بصورته
التي ميزته عن غيره.
أعني النبات والجماد والبهائم.
وهذه الصورة التي ميزته ليست في تخاطيطه وشكله ولونه.
والدليل على ذلك أنك تقول: فلان أكثر إنسانية من فلان، فلا تعني به أنه
أتم صورة بدن، لا أكمل يف الخلق التخطيطي، ولا في اللون، ولا في شيء آخر
غير قوته الناطقة التي يميز بها بين الخير والشر في الأمور، وبين الحسن
والقبيح في الأفعال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات؛ ولذلك قيل في حد
الإنسان: إنه حي ناطق مائت.
فميز بالنطق، أعني بالتمييز وبينه وبين غيره، دون تخطيطه وشكله، وسائر
أغراضه ولواحقه.
وإذا كان هذا المعنى من الإنسان هو ما صار به إنساناً، فكلما كثرت
إنسانيته كان أفضل في نوعه.
كما أن كل موجود في العالم إذا كأن فعله الصادر عنه بحسب صورته التي تخصه،
فإنه إذا كان فعله أجود كان أفضل وأشرف.
مثل ذلك الفرس والبازي من الحيوان، والقلم والفأس من الآلات، فإن كل واحد
من هذه إذا صدر عنه فعله الخاص بصورته كاملاً كان أشرف في نوعه ممن قصر
عنه، وكذلك الحال في النبات والجماد، فإن لكل واحد من أشخاص الموجودات خاص
صورة يصدر عنه فعله، وبحسب يشرف أو يخس إذا كان تاماً أو ناقصاً.
فأي فائدة أعظم مما يكمل وجودك، ويتمم نوعك، ويعطيك ذاتك حتى يميزك عن
الجماد والنبات والحيوانات التي ليست بناطقة، ويقربك من الملائكة والإله -
عز وجل، وتقدس وتعالى - وأي غائلة أدهى وأمر، وأكلم وأطم مما ينكسك في
الخلق، ويردك إلى أرذل وجودك، ويحطك عن شرف مقامك إلى خساسة مقامات ما هو
دونك؟ أظنك تذهب إلى أن العلم يجب ان يفيدك - لا محالة - جاهاً، أو
سلطاناً أو مالاً تتمكن به من شهوات ولذات.
فلعمري إن العلم قد يفعل ذلك، ولكن بالعرض لا بالذات؛ لأن غاية العلم،
والذي يسوق إليه، ويكمل به الإنسانليس هو غايات الحواس، ولا كمال البدن.
وإن كان قد يتم به ذلك في كثير من الأحوال.
ومتى استعملته في هذا النوع فإنه يكمل صورتك البهيمية والنباتية، وكأنه
استعمل في أرذل الأشياء، وهو معد لأن يستعمل في أشرفها.
مسألة ما سبب تصاغي البهائم والطير إلى اللحن الشجي
والجزم الندي؟ وما الواصل منه إلى الإنسان العاقل المحصل حتى يأتي على نفسه؟ وهذا جار في العادة، ومعروف عند المتعرفين للأمور.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد مر لنا في المسألة الثالثة من هذه المسائل كلام كثير في سبب قبول الإنسان بعض الأسماء وكراهية بعضها، وثقل بعض الحروف، وخفة بعضها، وما يلحق النفس من الأصوات المختلفة بالحدة والجهارة وغير ذلك، ونحن نزيد في هذا الموضع ما يليق بزيادتك في المسألة فنقول: إن النفس وإن كانت صورة فاعلة من حيث هي كمال لجسم طبيعي إلى ذي حياة بالقوة فإنها هيولانية منفعلة من حيث هي قابلة رسوم الأشياء وصورها.
ولذلك صار لها سببان: أحدهما إلى ما تفعل به، والآخر إلى ما كان ينفعل به.
فالنفس تقبل نسب الاقتراعات بعضها إلى بعض كما تقبل نفس الاقتراعات مفرد مركبة.
وذاك أن أفراد الأصوات ومجموعها غير نسب بعضها إلى بعض؛ لأن
النسبة هي إضافة ما، والنظر الإضافي غير النظر في ذوات الأدوات، وكذلك
تأثير هذا غير تأثير ذاك.
ولما كانت هذه النسب كثيرة مختلفة وجب فيها - ضرورة - ما يجب في الأشياء
المتكثرة.
أعني أن لها طرفين: أحدهما الزيادة، والآخر النقصان.
ولها من هذين الطرفين اعتدال.
فإن كانت الأطراف كثيرة فالاعتدالات أيضاً كثيرة.
والنفس تأبى الزيادة والنقصان، وتميل إلى الاعتدال، ولأن لها قوى تظهر
بحسب الأمزجة، فلتلك القوى المختلفة إضافات مختلفة إلى نسب مختلفة،
واعتدالات مختلفة.
وقد اجتهد أصحاب الموسيقا في تمثيل هذه النسب، وتحصيل هذه الاعتدالات بأن
جعلوا لها أمثلة في مقولة الكم من العدد، وإن كان بعضها بمقولة الكيف أحق؛
لأن الصناعة مؤلفة من هاتين المقولتين.
أعني الكم والكيف، ولكن الكم الذي هو العدد أقرب إلى الأفهام، ومثلوا ما
كان من الكيفية بالكمية، ثم لخصوا كل واحدة منهما تلخيصاً تجده مبيناً في
كتبهم.
وإذا قد قلنا ما الذي يصل إلى النفس من آثار الأصوات، وما المحبوب منه،
وما المكروه على طريق الإجمال من القول، فقد تبين أن الإفراط منه، والخروج
إلى إحدى الجهتين يؤثر بحسب ذلك.
وقد كان تبين في مواضع كثيرة أن النفس والبدن كل واحد منهما مشتبك ما يظهر
أثر أحدهما في الآخر؛ فإن الأحوال النفسية تغير مزاج البدن، ومزاج البدن
أيضاً يغير أحوال النفس، فإذا قوى أثر ما في النفس حتى يتفاوت به المزاج،
ويخرج عن اعتداله لم يقبل أثر النفس، وعرض منه الموت؛ لأن الموت ليس بأكثر
من ترك النفس استعمال الآلات البدنية.
وقد علمنا أن دم القلب الذي له اعتدال ما إذا انتشر في البدن، ورق بالسرور
أكثر مما ينبغي، أو عاد واجتمع إلى القلب بالغم أكثر مما ينبغي - عرض من
كل واحدة من الحالتين الموت، أو ما يقارب الموت بحسب قوة الأثر.
وما أكثر ما تؤثر الأجسام تأثيراً طبيعياً فيتأدى ذلك الأثر إلى النفس
فتعرض لها حركة ما، وتصير تلك سبباً لتأثير آخر في الجسم يكون به انتفاضه
وخروجه عن الاعتدال.
وإذا تأملت ذلك في الأشياء المغضبة والمحزنة إذا كانت قوية تبين لك ذلك.
فهذا كاف في هذا الموضع، وإن أحببت الإتساع فيه فعليك بكتب الموسيقا فإنها
تشفيك، إن شاء الله.
مسألة لم كلما شاب البدن شب الأمل
؟قال أبو عثمان النهدي: قد أتت علي مائة وثمانون سنة، وأنكرت كل شيء إلا الأمل، فإنه أحد ما كان.
ما سبب هذه الحال؟ وعلى ماذا يدل الرمز فيها؟ وما الأمل أولاً؟ وما الأمنية ثانياً؟ وما الرجاء ثالثاً؟ وهل تشتمل هذه على مصالح العالم؟ فإن كانت مشتملة فلم تواصى الناس بقصر الأمل، وقطع الأماني، وبصرف الرجاء إلا في الله - تبارك وتعالى - وإلى الله؟ فإنه ساتر العورة، وراحم العبرة، وقابل التوبة وغافر الخطيئة، وكل أمل في غيره باطل، وكل رجاء في سواه زائل؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة قد أخذ فيها فعل من أفعال النفس فقرن بفعل من أفعال الطبيعة التي بحسب البدن إلى الطبيعة والمزاج البدني، ثم وقعت المقايسة بينهما، وهما يتباينان لا يتشابهان، فلذلك عرض التعجب منها.
وذلك أن الأمل والرجاء والمنى من خصائص القوة الناطقة.
فأما الشيب والنقصانات التي تعرض للبدن، وعجز القوى التابعة للمزاج فهي أمور طبيعية في آلات تكل بالاستعمال، وتضعف على مر الزمان.
وأما أفعال النفس فإنها كلما تكررت وأديمت فإنها تقوى ويشتد أثرها فهي بالضد من حال البدن.
مثال ذلك ان النظر العقلي كلما استعمل قوى واحتد، وأدرك في الزمان القصير ما يدركه في الزمان الطويل، ولحق الأمر الذي كان خفياً عنه بسرعة.
والنظر الحسي كلما استعمل كل وضعف، ونقص أثره إلى أن يضمحل.
فأما الفرق بين الأمل والرجاء وبين الأمنية فظاهر؛ وذاك أن الأمل والرجاء يعلقان بالأمور الاختيارية، وبالأشياء التي لها هذا المعنى.
فأما الأمنية، فقد تتعلق بما لا اختيار له ولا روية؛ فإنه ليس يمنع مانع من تمنى المحال والأشياء التي لا تمييز فيها ولا لها.
والأمل أخص بالمختار.
والرجاء كأنه مشترك، وقد يرجو الإنسان المطر والخصب، وليس يأمل إلا من له قدرة وروية.
وأما المنى فهو - كما علمت - شائع في الكل، ذاهب كل مذهب، فقد
يتمنى الإنسان أن يطير، أو يصير كوكباً أو يصعد إلى الفلك فيشاهد أحواله.
وليس يرجو هذا ولا يأمله.
ثم قد يرجو المطر، وليس يأمل إلا منزل القطر، ومنشىء الغيث.
فهذه فروق واضحة.
فأما قولك؛ لم تواصى الناس بقصر الأمل، وقطع الأماني، وصرف الرجاء إلا في
الله تعالى؟ فأقول: لأن سائر الأشياء المأمولة والمرجوة والمتمناة منقطعة
المدد، متناهية العدد، ثم هي متلاشية في أنفسها، مضمحلة بائدة فاسدة، لا
يثبت شيء منها على حال لحظة واحدة، فلو وصل الواصل إليها، وبلغ نهمته منها
لأوشك ان يتلاشى ويضمحل ذلك الشيء في نفسه، أو يتلاشى ويضمحل الأمل فيه،
آو رجاؤه وتمنيه.
فأما ما اتصل من هذه بالله - تعالى ذكره - فهو أبدى غير منقطع ولا مضمحل،
بل الله - تعالى - دائم الفيض به، أبدى الجود منه.
تعالى اسمه وتقدس، ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ومعيننا وناصرنا وهادينا إلى
صراط مستقيم.
مسألة لم صارت غيرة المرأة على الرجل أشد
من غيرة الرجل على المرأة؟ هذا في الأكثر والأقل، وكيفما كان ففيه خبىء وهو المشدد على أحدهما، والمخفف عن الآخر.وقد أدت الغيرة جماعة إلى تلف النفوس، وإلى زوال النعم، وإلى الجلاء عن الأوطان.
ثم فلت في المسألة التالية لهذه: ما الغيرة أولاً؟ وما حقيقتها؟ وكيف أصلها وفصلها؟ وعلى ماذا يدل اشتقاقها؟ وهل هي محمودة أو مذمومة؟ وهل صاحبها ممدوح أم ملوم؟ فإن إثارة هذا أبلغ بك إلى الفوائد، وأجرى معك إلى الأمد، وبوقوفك عليها تعرف غيرها، وتتخطى إلى ما عداها.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الغيرة فهي خلق طبيعي عام للإنسان والبهائم.
وهو ممدوح إذا كان على شرائط الأخلاق.
أعني إذا وضع في خاص موضعه ولم يتجاوز به المقدار الذي يجب، ولم ينقص عنه على مثال ما ذكرناه فيما مضى من سائر الأخلاق كالغضب والشهوة.
فإن هذه أخلاق طبيعية وإنما يحمد منها ما لم يخرج عن الاعتدال، أو أصيب به موضعه الخاص به.
وحقيقة الغيرة هي منع الحريم، وحماية الحوزة؛ لأجل حفظ النسل والنسب فكل من كانت غيرته لأجل ذلك، ثم لم يتجاوز ما ينبغي حتى يحكم بالتهمة الباطلة، فيصدق بالظنون الكاذبة، ويبادر إلى العقوبة على ذلك، ولم ينقص عما ينبغي حتى يتغافل عن الدلائل الواضحة، ويترك الامتعاض من الرؤية والسماع إذا كان حقاً، وكان معتدل الخلق بين هذين الطرفين يغضب كما ينبغي، وعلى ما ينبغي - فهو محمود غير ملوم.
فأما من فرط أو أفرط في الغيرة فسبيله سبيل من تجاوز الاعتدال في سائر الأخلاق إلى الزيادة أو النقصان.
فقد بينا إن الزيادة والنقصان في كل خلق يهجم بصاحبه على ضروب من الشر، وأنواع من البلايا والمكاره، ويكون هلاكه على مقدار زيادته أو نقصانه منها ومن شرائطها المذكورة في الأخلاق.
فأما زيادة حظ الأنثى على الذكر من الغيرة، أو الذكر على الأنثى فليس بلازم طريقة واحدة، ولا جار على وتيرة واحدة.
بل ربما زاد ذكر على أنثاه في هذا المعنى، وربما زادت أنثى على ذكرها فيه، كما يعرض لهما ذلك في قوة الغضب وغيره من الأخلاق.
على أن الذكر أولى بالمحاماة، وأخص بهذا الخلق لأنه تستعمل فيه قوة الغضب والشجاعة، وهذا أولى بالذكر منه بالأنثى، وإن كانت الأنثى تشارك فيه الذكر.
وههنا خلة لا بأس بذكرها، والتنبيه عليها؛ فإن كثيراً من الناس يضل عن وجه الصواب فيها، وهي أن الغيرة إذا هاجت قوتها وكان سببها الشهوة، وجب الاستئثار، وأن يختص الإنسان بحال لا يشاركه فيها غيره، وكان هذا العارض له في غير حرمته، ولا من أجل حفظ نسبه وزرعه - فهو أمر قبيح.
وإن كانت على شرائطها التي ذكرت فهو أمر حسن جميل.
وأما سقوط هذه القوة دفعة فهجنة قبيحة، فقد نجد في بعض الحيوان من لا تعرض له الغيرة كالكلب والتيس، ويسب به الإنسان إذا ذكر به، وسمي باسمه.
ونجد أيضاً بعضها غيوراً محامياً كالكبش وغيره من فحول الحيوان فيمدح بذكره الإنسان إذا شبه به، وسمي باسمه.
فلست اعرف وجه السب بالتيس، والمدح بالكبش إلا لما يظهر من هذا الخلق في أحدهما دون الآخر.
فهذه حال الغيرة وحقيقتها، وما يجب أن يمدح منها أو يذم.
مسألة ما السبب في أن الذين يموتون وهم شبان أكثر
من الذين يموتون وهم شيوخ
؟الشاهد على ذلك أنك تجد الشيوخ أقل، ولولا ذلك لكانوا يكثرون؛ لأنهم كانوا يتجاوزون الشبيبة إلى الكهولة، والكهولة إلى الشيخوخة، فلما دب الحمام في ذوي الشباب أفناهم، وتخطى القليل منهم فبلغوا التشيخ، وهو قليل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الحياة تابعة لمزاج ما، خاص بإنسان إنسان.
وذلك المزاج له بمنزلة النقطة من الدائرة.
أعني أنه شيء واحد، والخروج عنه إلى النقط التي حواليه مما يقرب منه أو يبعد عنه بلا نهاية.
وذلك أن لكل إنسان، وبالجملة لكل حيوان - اعتدالاً خاصاً به بين الحرارة والرطوبة، والبرودة واليبوسة، فإذا انحرف عن ذلك الاعتدال إلى أحد الأطراف كان مرضه أو هلاكه.
ثم إن الأمور التي تخرجه إلى الأطراف كثيرة من الأغذية والأشربة والهواء الواصل إليه بالاشتتشاق وغيره، وحركاته الطبيعية وغير الطبيعية مما يخرجه عن هذا الاعتدال - كثيرة.
والآفات الأخرى التي تطرأ من خارج مما لا تحتسب كثيرة.
وإذا كانت الأسباب التي يخرج الإنسان بها عن الاعتدال كثيرة بلا نهاية والأسباب التي يثبت بها على الاعتدال الخاص به قليلة ويسيرة - لم يكن ما ذكرته عجباً، بل العجب لو اتفق ضده.
ولولا أن العناية الموكلة بحفظ الحيوان كله - والإنسان من بينه - شديدة، والوقاية له تامة بالغة - لكان لا يكون بين وجوده وعدمه كبير زمان.
فتأمل جميع ما ذكرته من الآفات الداخلة والخارجة عن بدن الإنسان، وحركاتها المختلفة، أعني منازعة النارية فيه إلى حركة العلو، ومنازعة المائية منه إلى حركة السفل، ثم حرص كل واحد منهما بطبيعته على إفناء الآخر وإحالته، ثم المجاهدة الواقعة في حفظ الاعتدال بينهما حتى لا تزيد قوة أحدهما على الآخر مع كثرة الشهوات والمنازعات إلى ما هو لا محالة زائد في أحدهما ناقص من الآخر - تجد الأمر محفوظاً بعناية شديدة إلى أكثر مما يمكن في مثله من الحفظ حتى يأتي شيء طبيعي لا سبيل إلى مقاومته.
ومثل ذلك سراج يحفظ بالفتيلة والدهن، والمواد تجيئه من خارج، أعني الدهن الكثير الذي هو سبب إطفائه والنار العظيمة التي هي كذلك، والرياح العاصفة التي لا طاقة له بها، ولا سبيل إلى حفظه معها، فإذا سلم من جميع ذلك مدة طويلة فلا بد من الفناء الطبيعي.
أعني أن الحرارة تستغرق - لا محالة - ما يغتذى به على طول الزمان، فيكون الفناء به ومن أجله.
فإن هذا مثل صحيح مطابق للممثل به.
وإذا تفقدت الحرارة الغريزية وحاجتها إلى ما تحفظ قواها بلا زيادة ولا نقصان، وإفنائها الرطوبة الأصلية مع المواد التي تأتيها من خارج، وقوتها على الإحالة وضعفها - طلعت على ما سألت عنه، وتبين لك ما ضربت به المثل.
مسألة ما السبب في طلب الإنسان فيما يسمعه ويقوله ويفعله ويرتئيه
ويروى فيه - الأمثال؟ وما فائدة المثل؟ وما غناؤه من مأتاه، وعلى ماذا قراره؟ فإن المثل والمثل والمماثلة والتمثيل كلاماً رائقاً، وغاية شريفة.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الأمثال إنما تضرب فيما لا تدركه الحواس مما تدركه.
والسبب في ذلك أنسنا بالحواس، وإلفنا لها منذ أول كونها، ولأنها مبادىء علومنا، ومنها نرتقي إلى غيرها.
فإذا أخبر الإنسان بما لم يدركه، أو حدث بما لم يشاهده، وكان غريباً عنده - طلب له مثالاً من الحس، فإذا أعطي ذلك أنس به، وسكن إليه لإلفه له.
وقد يعرض في المحسوسات أيضاً هذا العارض.
أعني أن إنساناً لو حدث عن النعامة أو الزرافة والفيل والتمساح لطلب أن يصور له ليقع عليه، ويحصل تحت حسه البصري، ولا يقنع فيما طريقه حس البصر بحس السمع حتى يرده إليه بعينه.
فهذا الأمر في الموهوبات فإن إنساناً لو كلف أن يتوهم حيواناً لم يشاهد مثله لسأل عن مثله، وكلف مخبره أن يصور له، مثل عنقاء مغرب، فإن هذا الحيوان، وإن لم يكن له وجود، فلا بد لمتوهمه أن يتوهمه بصورة مركبة من حيوانات قد شاهدها.
فأما المعقولات فلما كانت صورها ألطف من أن تقع تحت الحس، وأبعد من أن تمثل بمثال الحس إلا على جهة التقريب - صارت أخرى أن تكون غريبة غير مألوفة.
والنفس تسكن إلى مثل وإن لم يكن مثلاً؛ لتأنس به من وحشة الغربة.
فإذا ألفتها، وقويت على تأملها بعين عقلها من غير مثال سهل حينئذ عليها تأمل أمثالها.
والله الموفق لجميع الخيرات.
مسألة كيف قوى الوهم
على أن ينقش في نفس الإنسان أوحش صورة، وأمقت شكل، وأقبح تخطيط، ولم يقو على أن يصور أحسن صورة، وألطف شكل وأملح تخطيط؟ ألا ترى أن الإنسان كلما اعترض في وهمه أوحش شيء عرته شمأزيزة وعلته قشعريرة، ولحقه صدوف، ورهقه نفور؟ فلو قوى الوهم على تصوير أحسن الحسن تعلل به الإنسان عند فراغ باله وخلوته.فما هذا؟ وكيف هذا؟ ولا عجب فلهذا الإنسان من هذه النفس والعقل والطبيعة أمور تستنفد العجب، وتحير القلب.
جل من أودع هذا الوعاء هذه الطرائف، وعرضه لهذه الغايات، وزين ظاهره، وحسن باطنه، وصرفه بين امن وخوف، وعدل وحيف، وحجبه في أكثر ذلك عن لم وكيف.
الجواب: قال أبوعلي مسكويه - رحمه الله: إن الحسن هو صورة تابعة لاعتدال المزاج، وصحة مناسبات من الأعضاء بعضها إلى بعض في الشكل واللون وسائر الهيئات.
وهذه حال لا يتفق اجتماع جميع أجزائها على الصحة، ولذلك لا تقوى الطبيعة نفسها على اتخاذها في الهيولى على الكمال؛ لأن الأسباب لا تساعد عليها، أعني أنه لا يتفق في الهيولى والأشكال والصورة والمزاج أن تقبل الصورة الأخيرة على غاية الصحة.
فإذا كانت الطبيعة تعجز عن إيجاد هذا الاعتدال وهذه المناسبة الصحيحة التي يتبعها الحسن التام، فكم بالحرى يكون الوهم أعجز عنه؟ وإنما الوهم تابع للحس، والحس تابع للمزاج، والمزاج تابع أثر من آثار الطبيعة.
ومثال ذلك أن الأوتار الكثيرة إنما يطلب بها وبكثرة الدساتين عليها أن تخرج من بينهما نغمة مقبولة، وتلك النغمة إنما يتوصل إليها بجميع الآلة وأجزائها من الأوتار والدساتين بالقرعات المختلفة.
فالنغمة وإن كانت واحدة فإنها تتم بمساعدة جميع تلك الإجزاء.
فإن خان واحد منها خرجت النغمة كريهة: إما بعيدة من القبول وإما قريبة على قدر عجز الأسباب وقصور بعضها.
فكذلك الهيولى في حاجتها إلى مزاج ما بين اسطقصات وصور أخرى كثيرة تصير بجميعها مستعدة لقبول صور الحسن الذي هو اعتدال ما، ومناسبة ما صحيحة بين أمزجة وأعضاء في الهيئة الشكل واللون وغيرها من الأحوال التي مجموعها كلها هو الحسن.
والحسن وإن كان أمراً واحداً، وصورة واحد فهو مثل النغمة الواحدة المقبولة التي تحتاج إلى هيئات كثيرة، وصور مختلفة جمة؛ ليحصل من بينها هذا الاعتدال المقبول.
والوهم في خروجه عن الاعتدال سهل الحركة.
فأما في حفظه إياه، وتوصله إليه فإنه يحتاج إلى تعب شديد، وأخذ مقامات كثيرة، واستخراج اعتدال بينها.
وهكذا الحال في كل اعتدال؛ فإن حفظه والثبات عليه صعب.
فأما الخروج عنه فهو بأدنى حركة.
فإن اتفق أن يكون لذلك الاعتدال تمامات من خارج، ومعاونات من أمور مختلفة كانت الصعوبة في تحصيله أشد.
مسألة لم صار السرور إذا هجم تأثيره أشد، وربما قتل
؟وقد حكي الثقة من تأثيره أموراً.
ولقد خبرت والدة بعض الناس أن ابنها ولى إمرة فبرقت وانحرفت، وما زالت تنتقض حتى ماتت.
وقال لي ابن الخليل: الحيرة التي تلحق واجد الكنز هي من إفراط فرحه، وغلبة سروره؛ ولذلك ما يبين على شمائله وينم بحركاته، ويضيق عطنه عن كتمانه مابه، وسياسته.
ولا تكاد تجد هذا العارض في الغم والهم النازل الملم، وقل ما وجد من انشقت مرارته، وانتقضت بنيته، وانحلت معاقدة ومآسره بخبر ساءه وناءه، ومكروه غشيه وناله.
فإن كان فهو أيضاً قليل، وإن ساوى عارض السرور فذاك أعجب، والسر فيه أغرب.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد مر جواب هذه المسألة في عرض ما تكلمنا عليه في المسائل المتقدمة.
وقلنا: إن النفس تؤثر في المزاج المعتدل عن البدن، وكما أن المزاج يؤثر في النفس، وبينا جميع ذلك، وضربنا له الأمثال.
ولسنا نشك أن السرور يخمر منه الوجه، وأن الخوف يصفر منه.
وما ذاك إلا لانبساط الدم من ذاك في ظاهر البدن، وغوره من الآخر إلى قعر البدن.
والحرارة التي في القلب هي التي تفعل هذا، أعني أنها تنبسط فترق الدم تارة، وتنقبض فتغلظة أخرى.
ويتبع ذلك الحال السرور، ويتبع هذه الغم.
فإذا كان زائد المقدار في أي الطرفين كان - تبعه الخروج عن الاعتدال.
وبحسب الخروج عن الاعتدال يكون الموت الوحي، أو المرض الشديد.
مسألة ما السبب في أن إحساس الإنسان بألم يعتريه أشد
من إحساسه بعافية تكون فيه
؟حتى لو شكاً يوماً لأن أياماً، وهو يمر في لباس العافية فلا يجد لها وقعاً، وإنما يتبينه إذا مسه وجع، أو دهمه فزع؛ ولهذا قال الشاعر:
والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي انباك كيف نعيمها
ومما يحقق هذا أنك تجد شكوى المبتلى أكثر من شكر المعافي؛ وإنما لوجدان أحدهما مالاً يجده الآخر.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: السبب في ذلك أن العافية إنما هي حال ملائمة موافقة للحال الطبيعي من المزاج المعتدل الموضوع لذلك البدن.
والملائمة والموافقة لا يحس بهما، وإنما الحس يكون للشيء الذي لا موافقة فيه.
والسبب في ذلك أن الحس إنما أعطي الحيوان ليتحرز به من الآفات الطارئة عليه، وليكون ألمه بما يريد عليه مما لا يوافقه سبباً لتلافيه وتداركه قبل أن يتفاوت مزاجه، ويسرع هلاكه.
فأنشئت لذلك أعصاب من الدماغ، وفرقت في جميع البدن ونسجت بها الأعضاء التي تحتاج إلى إحساس، كما بين ذلك في التشريح، وفي منافع الأعضاء.
فكل موضع من البدن فيه عصب فهناك حس، وكل موضع خلا منه فلا حس فيه.
ولم يخل منه إلا ما لا حاجة به إلى حس.
وإنما وفرت الأعصاب على الأعضاء الشريفة لتصير أذكى حساً، ولتكون بما يرد عليها من الآفات أسرع إحساساً.
وكل ذلك ليبادر إلى إزالة ما يجده من الألم بالعلاج، ولا يغفل عنه بتوان ولا غيره.
ولو خلا الإنسان من الحس ومن الألم ومكانه لكان هلاكه وشيكاً من الآفات الكثيرة.
وأما الحال الملائمة فلا يحتاج إلى إحساس بها.
وهذه حال جميع الحواس الخمس في أحوالها الطبيعية، وانها لا تحس بما يلائمها، وإنما تحس بما لا يوافقها.
أقول: إن حس اللمس الذي هو مشترك بجميع البدن إنما يدرك ما زاد أو نقص عن اعتداله الموضوع له؛ فإن البدن له اعتدال من الحرارة مثلاً فإذا لاقاه من حرارة الهواء ما يلائمه ويوافقه لم يحس به أصلاً.
فإن خرج الهواء عن ذلك الاعتدال الذي للبدن إما إلى برد أو حر أحس به فبادر إلى تلافيه وإصلاحه.
وكذلك الحال في البرد والرطوبة واليبوسة.
فأما سائر الحواس فلكل واحد منها اعتدال خاص به لا يحس بما يلائمه وإنما يحس بما يضاده ويزيله عن اعتداله كالعين فإنها لا تحس بالهواء وبكل ما لا لون له ولا كيفية تزيلها عن اعتدالها.
وكذلك السمع وباقي الحواس.
وهذا باب مستقصى في مواضعه من كتب الحمسألة لم اشتد عشق الإنسان لهذا العالم حتى لصق به وآثره وكدح فيه مع ما يرى من صروفه وحوادثه ونكباته وغيره وزواله بأهله؟ ومن أين استفاد الإنسان هذا العرض؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: وكيف لا يشتد عشقه إلى للعالم وهو طبيعي وجزء له؟ إنما مبدؤه منه، ومنشؤه فيه، وتولده عنه؟ ألا تراه يبتدىء وهو نطفة فينشأ نشوء النبات، أعني أنه يستمد غذاءه بعروق موصولة برحم أمه، فيستقي المادة التي تقيمه كما تستقي عروق الشجر، فإذا تم وصار خلقاً آخر، وأنشأه الله - تعالى - حيوان أخرجه من هناك، فحينئذ يغتذى بفمه ويتنفس فيصير في مرتبة الحيوان غير الناطق، ولا يزال كذلك إلى أن يقبل صورة النطق أولاً فيصير إنساناً، ثم يتدرج في إنسانيته حتى ينتهي إلى غاية ما يؤهل له من المراتب فيها، وليس ينتهي إلى الرتبة الأخيرة التي هي غاية الإنسانية إلا الأفراد من الناس، والواحد بعد الواحد في الأزمنة الطوال، والفترات الكثيرة.
وعامة الخلق وجمهور الناس واقفون في منزلة قريبة من البهيمية، وغاية نطقهم وتمييزهم أن يرتبوا تلك البهيمية ترتيباً ما، فيه نظامك عقلي.
وأما أن يفارقوها، ويصيروا إلى الحد الذي طالبت به فلا، وإنما يصير إلى هناك الحكيم التام الحكمة، الذي يستوفي جميع أجزائها علماً وعملاً، أو نبي له تلك المنزلة بالإلهام والتوفيق، ثم لابد من المادة البشرية التي يأخذها من هذا العالم، وإن كان بلا عشق ولا لصوق شديد ولا إيثار.
وهذا المعنى واسع البحر، طويل الميدان، قد أكثر فيه الناس، وفيما أومأت إليه، وصرحت به كفاية.
والسلام.
مسألة لم قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا
؟وما في الحياة الحمقى من الفائدة على الدين والدنيا؟ وهل الذي قالوه حق؟.
الجواب: قال أبوعلي مسكويه - رحمه الله: قد تبين أن الإنسان مدني
بالطبع، وأنه لا يعيش متوحداً كما تعيش الطير والوحش؛ لأن تلك مكتفية بما
خلق لها من الرياش والهداية إلى مصالحها وأقواتها، والإنسان عار لا طاقة
له، ولا هداية إلى قوته ومصلحته إلا بالاحتماع والتعاون هو المدنية.
ثم إن المدينة لها حال تسمى بالأولى عمارة وبالإضافة إلى الأولى.
فأما حال عمارتها فإنما يتم بكثرة الأعوان، وانتشار العدل بينهم بقوة
السلطان الذي ينظم أحوالهم، ويحفظ مراتبهم، ويرفع الغوائل عنهم.
وأعني بكثرة الأعوان تعاون الأيدي والنيات بالأعمال الكثيرة التي بعضها
ضرورية في قوام العيش، وبعضها نافعة في حسن الحال في العيش، وبعضها نافعة
في تزيين العيش؛ فإن اجتماع هذه هي العمارة.
فأما إن فات المدنية واحدة من هذه الثلاث فإنها خراب.
وإن فاتها اثنتان - أعني حسن الحال والزينة جميعاً - فهي غاية في الخراب؛
وذلك أن الأشياء الضرورية في قوام العيش إنما يتبلغ بها الزهاد الذين لا
يعمرون الدنيا، وليسوا في عدد العمار.
وعمارة الدنيا التامة، وقوامها بثلاثة أشياء هي كالأجناس العالية، ثم
تنقسم إلى أنواع كثيرة.
وأحد الأشياء الثلاثة إثارة الأرض وفلاحتها بالزرع والغرس، والقيام عليها
بما يصلحها، ويستعد لما يراد منها، اعني الآلات المستخرجة من المعادن،
كالحجارة والحديد المستعملة في إثارة الحرث والطحن وإساحة الماء على وجه
الأرض من العيون والأنهار والقنى والدوالى وغير ذلك.
والثاني آلات الجند والأسلحة المستعملة لهم في ذب الأعداء عن أولئك الذي
وصفناهم ليتم لجماعتهم العيش، ويقام غرضهم فيما اجتمعوا له بالمعاونة.
وللجند أيضاً صناع وأصحاب حرف فهم يعدون لهم الخيل بالرياضة، والجنن
للوقاية، وسائر الأسلحة للدفع والذب.
والثالث الجلب والتجهيز الذي يتم بنقل ما يعز في أرض إلى أرض، وما يكون في
بحر إلى بر.
وهذه الأحوال الثلاث زين وجمال يزيد في حسن أحوالها.
ولها أصحاب يختصون بجزء جزء من أقسام الأحوال الثلاثة التي ذكرناها.
وينبغي أن تعلم أن العيش غير جودة العيش، وحسن الحال في العيش، لتعلم أن
العمارة متعلقة بجودة العيش وحسن حاله.
وقد عرف أن هذه الأمور لا تتم إلا بالمخاطرات الكثيرة، وركوب الأهوال،
واحتمال المشاق، والتعرض للمخاوف.
ولو تبلغ الناس بضروراتهم، وطرحوا فضول العيش، وعملوا بما يقتضيه مجرد
العقل لصاروا كلهم زهاداً، ولو كانوا كذلك لبطل هذا النظام الحسن والزين
الذي في العالم، وعاشوا عيشة قشفة كعيشة أهل القرى الضعيفة، القليلة
العدد، أو كعيشة سكان الخيم، وبيوت الشعر وأظلال القصب.
وهذه هي الحال التي تسمى خراب المدن.
فأما قولك: هل يسمى القوام بعمارة الدنيا حمقى؟ فأقول: إنه لا يجوز أن
يسميهم بذلك كل أحد، وذلك ان الذين وصفنا أحوالهم من سكان القرى وأطراف
الأرض، والذين لا يكملون لتحسين معايشهم هم اولى بهذا النبز من الذين
استخرجوا بعقولهم، وصفاء أذهانهم، ودقة نظرهم - هذه الصناعات الكثيرة
الجميلة، العائدة بمنافع الناس.
وإنما يسوغ ذلك لمن أطلع على جميع العلوم والمعارف، وميزها ونزلها منازلها
فترك ما ترك منها عن خبر وعلم، وآثر ما آثر منها على روية وبعد يقين فإن
الحكماء إنما تركوا النظر في عمارة الدنيا لأنها عائدة بعمارة الأبدان،
ولما اطلعوا على شرف النفس على البدن، ورأوا لها عالماً آخر، وجمالاً يليق
بذلك العالم، وصناعات وعلوماً ومسالك ركوبها أشق وأعسر من ركوب مخاطرات
الدنيا، ولزوم محجتها والدءوب فيها بالنظر والعمل أصعب وأكثر تعباً من
الدءوب والعمل في الدنيا - آثروا التبلغ، وتبلغوا بالقوت الضروري من
الدنيا على أنهم هم الذين عملوا لهؤلاء أصول الصناعات والمهن، وتركوهم
وإياها لما لم يكملوا لغيرها، ثم اشتغلوا وشغلوا من جالسهم بالأمر الأعلى
الأفضل.
مسألة ما السبب في قلق من تأبط سوأه
واحتضن ريبة، واستسر فاحشة؟ حتى قيل - من أجل ما يبدو على وجهه وشمائله - : كاد المريب يقول خذوني وما هذا العارض؟ ومن أين مثاره؟ وبأي شيء زواله؟.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة إنما تعترض الحيرة فيها لمن لا يعترف بالنفس وأن حركات البدن الاختيارية كلها إنما تكون بها ومنها.
فأما من علم أن النفس هي المدبرة لبدن الحي ولا سيما الإنسان
المختار الذي مدبره النفس المميزة العاقلة فلا أعرف لحيرته وجهاً.
وذاك ان النفس إذا عرفت شيئاً واستعملت ضد ما يليق بتلك المعرفة لحقها من
الاضطراب ما يلحق الطبيعة إذا كانت حركتها يمنة فحركت يسرة بقوة دون قوتها
أو مساوية لها.
فإن الاضطراب يظهر هناك مثل ما يظهر ههنا.
مسألة لم إذا كان الواعظ صادقاً نجع كلامه
ونفع وعظه، وسهل الاقتداء به وخفت الطاعة له، والأخذ بما قاله
؟ولم إذا كان بخلاف ذلك لم يؤثر كلامه وإن راق، ولا ينفع وعظه وإن بلغ؟ وما في انسلاخه من حقيقة ما يقول مع حقيقة القول، وصحة الدلالة وسطوع الحجة؟ وكيف صار فعله مشيداً لقوله، وخلافه موهناً لدلالته؟ ألست الحكمة قائمة في نفسها، مستقلة بصحتها؟ ولهذا قيل: الموعظة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لأن المواعظ إنما يأمر بما عنده أنه الأصوب، فإذا خالف نفسه أوهم غيره أنه كذب وغش، وإنما نهى عن الدنيا لتترك له، وتوفر عليه.
وظن من عجز عن رتبته، وسقط عن بلوغ درجته في النظر أنه إنما يقتدر على الوعظ بحسن اقتداره على التلبيس، وإظهار المموه في صورة الحق.
ولو اعتقد ما يظهر بلسانه لعمل بحسبه، فهذا وأشباهه يعرض في قلب المستمع لوعظ من لا يعمل بوعظه.
هذا.وربما كان أكثر من تراه من الواعظين هو بالحقيقة غير معتقد لما يظهره، وإنما غايته أن يشغل الناس عما في أيديهم، أو لتتم له رئاسة باجتماع الناس إليه، أو لأرب له من الدنيا.
فأي موقع لكلام مثل هذا إذا عرف الموعوظ غايته، وأشرف على نيته ومذهبه.
والأمر بالضد فيمن عمل واجتهد، وأخلص سره، ووافق عمله علمه، وقوله نيته فإنه يصير إماماً يقتدى به، ويوثق بكلامه، ويكثر اتباعه، والناظرون فيما ينظر فيه، والمصدقون بحكمه.
مسألة لم عظم ندم الإنسان على ما قصر فيه
من إكرام الفاضل وتعظيمه، واقتباس الحكمة منه بعد فقده
؟ولم كان يعرض له الزهد فيه مع التمكن منه، والانقطاع إليه، وقد كان في الوقت الأول أفرغ قلباً، وأوسع مذهباً؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه مسألة قد أجيب عنها فيما تقدم، ولا معنى لتكرير الكلام فيها.
مسألة لم اعتزت العرب والعجم في مواقف الحروب وأيام الهياج
؟والاعتزاء هو الانتساب إلى الآباء والآجداد، وإلى أيام مشهورة، وأفعال مذكورة؟.
وما الذي حرك أحدهم من هذه الأشياء حتى ثار وتقدم، وبارز وأقدم، وأخطر نفسه واقتحم، وربما سمع في ذلك الوقت بيتاً، أو تذكر مثلاً، أو رأى من دونه في البيت والمنصب، والعرق والمركب دون ما يقدر - يفعل فوق ما يفعل فتأتيه الأنفة فتقوده بأنفه إلى مباشرة حتفه؟ ما هذه الغرائب المبثوثة، والعجائب المدفونة في هذا الخلق عن هذا الخلق؟ جل من هذا بعلمه وبأمره ومن فعله، وهو الإله الذي انقادت له الأشياء طوعاً وكرهاً، وأشارت إليه تعريضاً وتصريحاً.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الغضب في الإنسان يكون بالقوة إلى أن يخرجه إلى الفعل أمر مغضب.
كذلك سائر قوى النفس.
وما يخرجه إلى الفعل ينقسم قسمين: إما من خارج، وإما من داخل.
فالذي يكون من خارج فهو مثل انتهاك الحرمة وشتم العرض وما أشبه ذلك.
والذي يكون من داخل فهو تذكر الذنوب والأحقاد وجميع الأحوال التي من شأنها قدح هذه القوة.
ومن شأن النفس إذا كانت ساكنة والتمر الإنسان فعلاً قوياً منها لم تستجب له الأعضاء عما يلتمس، فحينئذ يضطر إلى تحريك النفس وإثارتها.
وبحسب تلك الحركة من النفس تكون قوة ذلك الفعل.
وأنت تتبين ذلك من المسرور إذا أراد أن يظهر غضباً أو يفعل فعل الغضوب كيف تتخاذل أعضاؤه، ويظهر عليه أثر التكلف، فربما أضحك من نفسه وضحك هو أيضاً في أحوج ما كان إلى قوة الغضب، فيحتاج في تلك الحال إلى إثارة القوة الغضبية بتذكر أمر يهيج تلك القوة حتى يصدر فعله على ما ينبغي.
وهذه الحال تعرض في الحرب إذا لم يخص المحارب أمرها.
وأعني بذلك أن المحارب ربما حضر الحرب التي لا يخصه أمرها؛ بل لمساعدة غيره، أو لأجرة يأخذها، فإذا شهد الحرب لم تأخذه الحمية والأنفة فيحتاج حينئذ إلى الاعتزاء.
وهو تذكر لأحوال شجاعات ظهرت لأولين؛ ليكون ذلك قدحاً له، وإثارة
لشجاعته، وسبباً لحركة قوية من نفسه.
فإذا ثارت هذه القوة كان مثلها مثل النار التي تبتدىء ضعيفة وتقوى بمباشرة
الأفعال، وبالإمعان فيها حتى تصير تلك الأفعال لها بمنزلة المادة للنار
تتزيد بها إلى أن تلتهب وتستشيط، ويصير بمنزلة السكران في قلة الضبط
والتمييز.
وهي الحال التي يلتمسها المحارب من نفسه.
مسألة ما السبب في أن الناس يقولون هذا الهواء أطيب
من ذلك الهواء، وذلك الماء أعذب من ذلك الماء، وتربة بلد كذا وكذا أصلب من تربة كذا، وطين مكان كذا أنعم من طين مكان كذا، وأعفن وأسبخ؟ ثم لا يقولون في قياس هذا: بلد كذا ناره أجود وأحسن وأصفى، أو أشد حراً وإحراقاً وأعظم لهيباً؛ بل يصرفون هذه الصفات على اختلاف المواد كأنها في الحطب اليابس أبين سلطاناً، وفي القطن المنفوش أسرع نفوذاً؟.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الأركان الأربعة وإن اشتركت في ان بعضها يأخذ قوة بعض الأقل والأكثر حتى يكون بعضها أخلص في صورته ونوعه من بعض، فإن النار من بينها خاصة أقل قبولاً لقوة غيرها، وأعسر ممازجة؛ وذلك أن صورة النار غالبة على مادتها.
وبيان هذا أن الأرض تقبل من ممازجة الماء والهواء ما تستحيل به عن صورتها الخاصة بها حتى تصير منها الحمأة والملح وضروب الأشياء التي تختلف بها الترب.
وكذلك الماء يقبل من الأرض التي يجاوره، والهواء الذي يليه ضروب الطعوم والأراييح، والصفاء والكدر حتى يخرج من صورته الخاصة به خروجاً بيناً وهذه حال الهواء في قبول الآثار من الأرض والماء حتى يصير بعضه غليظاً، وبعضه رطباً، ويابساً، ومعتدلاً.
فتظهر في هذه الثلاثة آثار بعضها في بعض حتى تتبين للحس بياناً ظاهراً، وتنقص آثار بعضها عن بعض حتى يحكم كل إنسان بخروجه عن اعتداله، وخروجه عن اعتداله سبب الاستضرار البين في الأبدان.
فأما النار فإن صورتها الخاصة بها غالبة على مائيتها حتى لا تقبل من المزاج ما يظهر للحس منه نقصان أثر من الإحراق الذي هو فعلها، أو الضوء الذي هو خاصتها.
وعلى ان النار أيضاً قد تقبل من المزاج ومجاورة ما تليه أثراً ما ولكنه - بالإضافة إلى الآثار التي تقبلها أخواتها - يسير جداً.
مثال ذلك أن النار التي مادتها النفط الأسود، والكبريت الصرف، لونها بخلاف لون النار التي مادتها الزيت الصافي، ودهن البنفسج الخالص؛ لأن تلك حمراء وهذه بيضاء.
ولكن الفعل المطلوب من النار للجمهور غير ناقص، أعني الإحراق والضوء.
وأن نقص بحسب المواد فإن تلك الحال منها مشتركة في البلدان كلها لا تخص بعضها دون بعض.
وإذا حصل الناس أغراضهم من أفعال النار تبلغوا به إلى حاجاتهم ولم ينظروا في المواد التي تخص البلدان، لا سيما والمواد متفقة فيها، وليست هكذا أخوات النار.
مسألة لم فرح الإنسان بنيل مال وإصابة خير
من غير احتساب له وتوقع أكثر من فرحه بدرك ما طلب، ولحوق ما زوال
؟الأنه في أحد الطرفين ينبغي طلب شيء متخير أم لغير ذلك؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن جميع ما يصيب الإنسان مما يخص نفسه أو جسمه إذا وصل إليه بتدريج قل إحساسه به، وضعف ظهور أثره عليه.
وإذا وصل إليه بغتة وضربة كثر إحساسه به.
أما مثال ذلك في الجسم فإن الأمراض التي يخرج بها عن الاعتدال على تدريج فليس يشعر بها إلا شعوراً يسيراً، وربما لم يشعر بها ألبتة.
فإن خرج بها على غير تدريج تألم منها جداً كالحال في الدوي وأشباهه من الأمراض؛ فإن الإنسان يخرج عن الاعتدال بها إلى الطرف الأقصى الذي يليه الموت، فلا يحس بألمه لأنه على تدريج.
ولو خرج دون ذلك الخروج ضربة للحقه من الألم ما لا قوام له به.
وكذلك الحال في اللذات؛ لأن اللذة إنما هي عود الإنسان إلى اعتداله ضربة.
فاللذة والألم حالان يستويان في انهما يردان دفعة بلا تدريج، فيستويان في باب شدة الإحساس.
وهذه المسألة أحد الآثار التي ترد على الإنسان مرة بتدريج، ومرة بغير تدريج، فتصير حال الإنسان بما لم يحتسبه، ولم يتدرج بالمزاولة حال ما يصيبه ضربة واحدة مما ضربنا مثاله، فيكثر إحساسه به وظهور أثره عليه.
مسألة لم صار البنيان الكريم، والقصر المشيد
إذا لم يسكنه الناس تداعى عن قرب، وما هكذا هو إذا سكن واختلف إليه
؟لعلك تظن أن ذلك لأن السكان يرمون منه ما استرم، ويتلافون ما تداعى وتهدم، ويتعهدونه بالتطرية والكنس، فاعلم ان هذا ليس لذاك؛ لأنك تعلم انهم يؤثرون في المسكن بالمثنى والاستناد وأخذ القلاعة وسائر الحركات المختلفة ما إن لم يضعفه على رمهم ولمهم كان بإزائه ومقابله.
فقد بقيت العلة على هذا، وستسمعها في عرض الجواب عن جميع مسائل هذا الكتاب.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن معظم آفات البنيان يكون من تشعيث الأمطار، وانسداد مجاري المياه بما تحصله الرياح في وجه المآزيب ومسالك المياه التي ترد المياه إلى أصول الحيطان من خارج البناء وداخله، وبما يتثلم من وجوه البنيان الكريمة بالآفات التي تعرضها لحركات الهواء والأمطار والبرد والثلوج.
وربما كان سبب ذلك قصبة أو هشيم من تبن الطين الذي تطيره الأرواح إلى مسلك الماء فتعطف الماء إلى غير جهته، فيكون به خراب البنيان كله.
فأما ظهور الهوام في أصول الحيطان، والعناكب في سقوفه، وأخذها من الجميع ما يتبين أثره على الأيام فشيء ظاهر؛ وذلك أن هذا الضرب من الخراب قبيح الأثر جداً ينبو الطرف عنه، ويسمج به البناء الشريف.
وربما أغفل السكان بيتاً من عرض البناء إما بقصد وإما بغير قصد فإذا فتح عنه يوجد فيه من آثار الدبيب من الفأر والحيات وضروب الحشرات التي تتخذ لنفسها أكنة بالنقب والبناء، كالأرصنة والنمل وما تجمعه من أقواتها، ومن نسج العنكبوت وتراكم الغبرة على النقوش - ما يمنع من دخوله.
هذا إن سلم من الوكف وتطرق المياه وهدمها لما تسيل عليه من حائط وسقف، ورضه بما يثقله من طين السطوح، وتقصف جميع الخشب والسنادات والعمد.
وإذا كان فيها السكان منعوا هذه الأسباب العظيمة في الخراب، وكان ما يشعثونه بعد هذه الأشياء يسيراً بالإضافة إليها، فكان البناء إلى العمران أقرب، ومن الخراب أبعد.
مسألة لم صار الكريم الماجد النجد يلد اللئيم الساقط الوغد
؟وهذا يلد ذاك على تباين ما بينهما في أغراض النفس وأخلاقها مع قرب ما بينهما في أصولها وأعراقها.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن أخلاق النفس وإن كانت تابعة لمزاج البدن فإن التأديب والسياسة تصلح منها إصلاحاً كثيراً.
وربما كان مزاج الابن بعيداً من مزاج الأب وانضاف إلى ذلك سوء تأديب ورداءة سياسة، ويكفي أحدهما في الفساد فتختلف الشيمتان والمذهبان.
مسألة لم إذا كان الإنسان بعيداً عن وطنه
ومسقط رأسه وملهى عنه ومضطجع جنبه ومطرب نفسه ومعدن أنسه يكون أخمد شوقاً، وأقل قلقاً، وأطفأ نائرة وأسلى نفساً، وألهى فؤاداً، حتى إذا دنت الديار من الديار، وقوى الطمع في الجوار نفد الصبر، وذهب القرار، وحتى قال الشاعر
وأعظم ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار
وهل هذا معنى يعم أو يخص؟ وما علته؟ وهل له علة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذا المعنى موجود في الأشياء الطبيعية أيضاً، مستمر فيها؛ وذاك أنك لو أرسلت حجراً من موضع عال مركزه لكان يبتدىء بحركته، وكلما قرب من مركزه احتدت الحركة، وصارت أسرع إلى أن تصير عند قربه من الأرض على أحد ما تكون وأسرعه.
وكلما كان الموضع الذي يرسل منه الحجر أعلى كان هذا المعنى فيه أبين وأظهر.
وكذلك حكم النار والعناصر الباقية إذا أرسلت من غير أمكنتها الخاصة بها فإنها كلما قربت من مراكزها اشتدت حركتها ونزاعها.
ومثل هذه المواضع لا يسأل عنها بلم؛ لأنها أوائل طبيعية، وغايتنا فيها أن نعرفها، ونعلم أنها كذلك، وكذلك حال النفس في أنها إذا كانت بعيدة من مألفها كان نزاعها أيسر، فكلما دنت منه اشتد نزاعها وحركتها التي تسمى شوقاً.
وإنما قلت إن هذه المواضع لا يبحث عنها بلم، لأن لم إنما يبحث بها عن طلب علة ومبدأ.
وهذه مبادىء في أنفسها وليس علة أكثر من أن الأمور أنفسها كذلك، أى مبادئها هي أنفسها، ولم تكن كذلك لعلة أخرى، مثال ذلك: لو ان قائلاً قال: لم صارت العين تبصر بهذه الطبقات من العين؟ ولم صارت ترى الشيء بحسب الزاوية التي بينها وبين المبصر: إن كانت كبيرة فكبيرة وإن كانت صغيرة فصغيرة؟ أو سأل: لم صارت الأذن تحس باقتراع الهواء على هذا الشكل - لم يلزم الجواب عنه؛ لأن الأشياء الواضحة التي هي أوائل إنياتها هي لمياتها.
مسألة لم قيل الرأى نائم والهوى يقظان
؟ولذلك غلب الهوى الرأى؟.
يروى هذا عن حكيم العرب عامر بن الظرب.
أليس الرأى من حزب العقل وأوليائه؟ فكيف غلب مع علو مكانه، وشرف موضعه؟ وما معنى قول الآخر من الأوائل: العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع؟ ما سبب هذه الصداقة مع هذا العقوق؟ وما سبب تلك العداوة مع تلك المتابعة؟ وهل يرى هذا حقائق الأمور معكوسة منكوسة؛ فإن الظاهر خارج عن حكم الواجب، جار على غير النظام الراتب؟.
الجواب: قال ابو على مسكويه - رحمه الله: هذا كلام خرج في معرض فصاحة وخطابة.
فأما معناه فهو أن الهوى فينا قوى جداً، والرأى ضعيف، وسبب ذلك أنا - معشر الناس - طبيعيون وجزء الطبيعة فينا أغلب من جزء العقل؛ لأنا في عالم الطبيعة، والعقل غريب عندنا، ضعيف الأثر فينا؛ ولذلك نكل عند النظر في المعقولات، ولا نكل عند النظر في الطبيعيات ذلك الكلال.
والعقل وإن كان في نفسه شريفاً عالى الرتبة فإن أثره عندنا يسير.
والطبيعة وإن كانت ضعيفة بالإضافة إلى العقل، منحطة الرتبة - فإنها قوية فينا، لأنا في عالمها، ونحن أجزاء منها، ومركبون من عناصرها، وفينا قواها أجمع.
وهذا واضح غير محتاج إلى الإطناب في الشرح.
مسألة حضر أبو بشر متى صاحب شرح المنطق مجلسا
ًفقال له أبو هاشم المتكلم عائباً للمنطق: هل المنطق إلا في وزن مفعل من النطق؟ فحدثني: أأنصف أبو هاشم، وحز الحق؟ أم تشيع وقال ما لا يجوز ان يسمع منه؟ هذا مع محله، وشدة توقيه في مقالته، فإن البيان عن هذا القدر يأتي على كنائن العلم، ويوضح طرق الحكمة.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما من طريق الوزن، فقد صدق فيه أبو هاشم، وأما من طريق الازدراء والعيب - إن كان قصد ذلك - فقد ظلم؛ لأنه لا عيب على العلم إلا من جهة خطأ المخطىء فيه لا من جهة اسمه.
ولو كايله أبو بشر مكايلة، فقال له: وهل المتكلم إلا في وزن متفعل من الكلام، وتصفح سائر العلوم فقال فيها مثل هذا، وقال هل التفقه إلا نفعل من قولك فقهت الشيء؟ وهل النحو إلا مصدر قولك نحوت الشي أى قصدته - لكان هذا مستمراً، وما أكثر ما يسمى من العلم لما لا يستحقه رتبته، وما أكثر ما يسمى بما يحط من رتبته، فلا ذاك ينفع في ذلك العلم، ولا هذا يضر في هذا العلم.
وقد عرفت قوماً سموا أنفسهم المدركين؛ وسموا علومهم الإدراك الحقيقي، وهو في غاية البعد من حقائق الأمور، وقد سمى قوم أنفسهم المستحقين، وأهل الحق، وما أشبه ذلك، فكانوا فيه مدعين باطلاً.
وهذا لا يستحق أكثر من هذا القول.
مسألة رأيت رجلاً يسأل شيخاً من أهل الحكمة
فقال له: العرب تؤنث الشمس وتذكر القمر، فما العلة في ذلك؟ وأى معنى عنوا بهذا الإطباق؟ فإنه إن خلا من العلة جرى مجرى الاصطلاح على غير غرض مقصود.
فلم يورد ذلك الشيخ شيئاً، ولهذا لم أسمه؛ فإن في ذكره مع إظهار عجزه تعريضاً به، وتحقيراً لشأنه، وما يستحق بهذا اليسير ان يجحد ما يصيب فيه الصواب الكثير.
فقال السائل: فإن المنجمين يذكرون الشمس ويؤنثون القمر.
وهذا أيضاً من المنجمين اتفاق.
فأجاب ههنا وقال ما قالوه، ولم يعجز عن المسألة الأخرى لقصر باعه في الأدب، ولكن لم يحفظ فيها جواباً عن اهل العربية.
والمعنى فيه خاف ليس من شأن المتمسحين في العلم، بل من شأن المتبحرين فيه، الخائضين في غماره، البالغين إلى قراره، وهيهات ذلك العلم عميق البحر، عالى الفلك، وليس كل قلب وعاء لكل سانح، ولا كل إنسان ناطقاً بكل لفظ، ولا كل فاعل آتياً بكل عمل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما النحويون فلا
يعللون هذه الأمور، ويذكرون أن الشيء المذكر بالحقيقة ربما أنثته العرب،
والمؤنث بالحقيقة ربما ذكرته العرب، فمن ذلك أن الآلة من المرأة بعينها
التي هي سبب تأنيث كل ما يؤنث هي مذكر عند العرب، واما آلة الرجل، فلها
أسماء مؤنثة.
فأما العقاب والنار وكثير من الأسماء التي هي أولى الأشياء بالتذكير وهي
مؤنثة وأمثالها فكثير.
ولكن الشمس التي قصد السائل قصدها بعينها، فإني أظن السبب في تأنيث العرب
إياها أنهم كانوا يعتقدون في الكواكب الشريفة أنها بنات الله - تعالى الله
عن ذلك علواً كبيراً - وكل ما كان منها أشرف عندهم عبدوه.
وقد سموا الشمس خاصة باسم الآلهة؛ فإن اللاة اسم من اسمائها، فيجوز أن
يكونوا أنثوها لهذا الاسم، ولاعتقادهم أنها بنت من البنات، بل هي أعظمهن
عندهم.
مسألة هل يجوز لإنسان أن يعي العلوم كلها
على افتنانها وطرقها، واختلاف اللغات والعبارات عنها؟ فإن كان يجوز فهل يجب؟ وإن وجب فهل يوجد؟ وإن كان وجد فهل عرف؟ وإن كان جائزاً فما وجه جوازه، وإن كان يستحيل فما وجه استحالته فإن في الجواب بياناً عن خفيات العالم.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أحد الحدود التي حدت بها الفلسفة أنها علم الموجودات كلها بما هي موجودات.
ولكن ليس على الشرائط التي ذكرتها في مسألتك أعني قولك: على افتنانها وطرقها واختلاف اللغات بها، والعبارات عنها؛ فإن علماً واحداً من بين العلوم لا يجوز أن يحتوي على جميع هذه الشرائط فيه؛ لأن جزئيات العلوم بلا نهاية، وما لا نهاية له لا يخرج إلى الوجود.
ولكن المطلوب من كل علم هو الوقوف على كلياته التي تشمل على جميع أجزائه بالقوة.
مثال ذلك أن الطب إذا تعلمت أصوله وقوانينه التي بها يستخرج نوع المرض، ونوع العلاج فقد كفي فيه ذلك.
فأما أن يعرف منه جميع أجزاء الأمراض فذلك محال.
وكذلك تجد كتب جالينوس وغيره من الأطباء، فإنها تعلمك أصول الأمراض والعلاجات، فإذا باشرت الصناعة ورد عليك من أجزاء مرض واحد ما لا يمكنك إحصاؤه، ويبقى من أجزائه ما لا يمكن أحصاؤه أحداً بعدك.
وإذا كان الأمر على ذلك فالجواب عن مسألتك يكون مقيداً على ما ذكرته.
فأما اختلاف الطرق والعبارات فلا معنى لتعاطي معرفتها؛ فإن المقصود من العلوم هي ذواتها من أى طريق وصل إليها، وبأي لغة عبر عنها كان كافياً.
وأما قولك: هل يجب؟ فأقول: إنه واجب لأن التفلسف واجب من أجل أنه كمال الإنسانية، وبلوغ أقصى درجتها.
وكل شيء كان كمال فإن غايته البلوغ إلى ذلك الكمال.
ومن قصر من الناس عن بلوغ كماله مع حصول الأسباب وارتفاع الموانع عنه فهو غير معذور فيه.
وأما قولك: هل يوجد؟ فإنه موجود، لأن الفلسفة موجودة، وهي صناعة الصناعات، وما تب شيء من أجزائها كما رتبت هي نفسها؛ فإنه قد بدىء من أدنى درجة يبتدىء بها المتعلم إلى أقصى مرتبة يجوز أن يبلغها.
وهذا لجميعه أصول وشروح على غاية الأحكام، وهي معروفة موجودة غير ممنوع منها، ولا مضنون بها على من يطلبها، وفيه منة لتعلمها.
مسألة ما غضب الصارف على المصروف
؟هكذا تنشأ هذه المسألة، وصورتها أنك تولى إمرة بلد، أو قضاء مدينة فترد البلد وبه أمير قبلك؟ صرف بك فتعنف به، وتغضب عليه، وتكلح وجهك في وجهه، وهو ما أغضبك، ولا آذاك، وليس بينكما لقاء، ولا إساءة ولا إحسان.
ومن جنس هذا الغضب غضب الجلاد والسياف.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لما كان الصارف يستشعر من المصروف أنه يبغضه ويكرهه لا محالة، وفي الطباع أن يكره الإنسان من يكرهه، وببغض من يبغضه - عرض هذا العارض لكل صارف على كل مصروف.
وربما انضاف إلى ذلك أشياء أخر؛ منها أن المصروف ربما صرف عن خيانة أو جناية كثيرة يعرض في مثلها الغضب بالواجب.
وربما انضاف إلى ذلك أن يؤمر الصارف بالقبض على المصروف، وموافقته على جناياته، واستصفاء ماله.
وهذه أشياء تثير الغضب، وتزيد في مادته، لا سيما والمصروف يحتج لنفسه، ويدفع عنها كل ما نسب إليه من القبيح، ويدافع عن ماله بما أمكنه.
فأين يذهب الغضب عن هذا المكان؟ وهل هو إلا في حقيقة موضعه الخاص
به؟ فأما الجلاد والسياف فلهما وجه آخر من العذر، وهو أنهما إنما يأخذان
أجرة على صناعتهما، وإن لم يوفياها حقها خشيا اللائمة والاستخفاف، وليس
يمكنهما توفية صناعتهما حقوقهما إلا بإثارة الغضب.
هذا مع العلة الأولى التي ذكرتها في الصارف والمصروف.
مسألة لم كان اليتم في الناس من قبل الأدب
وفي سائر الحيوان من قبل الأم؟ فإن قلت: لأن الأم ههنا كافلة فإن الأمر في الناس كذلك، وفيه سر غير هذا ونظر فوقه.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الإنسان من حيث هو حيوان مشارك للبهائم في هذا المعنى، محتاج إلى ما يقيمه من الأقوات التي تحفظ عليه حيوانيته.
ومن حيث هو إنسان مشارك للفلك في هذا المعنى يحتاج إلى ما يبلغه هذه الدرجة بالتعليم والتأديب؛ لأن الأدب يجري من النفس مجرى القوت من البدن والذي يقوم بالحال الأولى وهي الأم، والذي يقوم له بالحال الثانية هو الأب.
ولما كانت الحالة الثانية أشرف أحواله، وهي التي بها يصير هو ما هو، اعني أن يصير إنساناً - وجب أن يكون يتمه من قبل أبيه.
ولما كان سائر الحيوانات كما حيوانيتها في القوت البدني وجب أن يكون يتمها من قبل الأم.
ولعل الإنسان قبل أن يبلغ حد التعلم من الأب، وفي حال حاجته إلى الرضاع إذا فقد أمه سمي يتيماً من قبل الأم ولم يمتنع إطلاق ذلك عليه.
مسألة قال المأمون إني لأعجب من أمري أدبر آفاق الأرض
وأعجز عن رقعة - يعني الشطرنج
وهذا معنى شائع في الناس، فما السبب فيه؟ فإنه إنما عجب من خفاء السبب.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الصناعات لا يكتفي فيها بالعلم المتقدم، والمعرفة السابقة بها حتى يضاف إلى ذلك العمل الدائم، والارتياض الكثير، وإلا لم يكن الإنسان ماهراً.
والصانع هو الماهر بصناعته.
ومثال ذلك الكتابة فإن العالم بأصولها وإن كان سابق العلم، غزير المعرفة إذا اخذ العلم ولم تكن له دربة انقطع فيها، ولم ينفعه جميع ما تقدم من علمه بها.
وكذلك حال الخياطة والبناء.
وبالجملة كل صناعة مهنية كقيادة الجيش، ولقاء الأقران في الحروب ليس تكفي فيها الشجاعة، ولا العلم بكيفيتها حتى يحصل فيها الارتياض والتدرب فحينئذ تصير صناعة.
ولما كان الشطرنج أحد الأشياء الجارية هذا المجرى من الصناعات لم يكتف فيه بالتدبير، ولا حسن التخيل، ولا جودة الرأى حتى تنضاف إلى ذلك مباشرة الأمر، والدربة فيه؛ فإن لكل ضربة يتغير بها شكل الشطرنج ضربة من الرسيل مقابلة لها إما على غاية الصواب، وإما بخلافه.
ويحتاج إلى ضبط جميع ذلك، وتخيل تلك الأشكال كلها ضربة بعد ضربة على وجوه تصاريفها، وليس ذلك إلا مع دربة ورياضة.
مسألة ما السبب في استيحاش الإنسان من نقل كنيته أو اسمه
؟فقد رأيت رجلاً غير كنيته لضرورة لحقته، وحال دعته، فكان يتنكر ويقلق، وكان يكنى أبا حفص فاكتنى أبا جعفر، وكان سببه في ذلك أنه قصد رجلاً يتشيع فكره أن يعرفه بأبي حفص.
وكيف صار بعض الناس يمقت الشيء لاسمه دون عينه، أو للقبه دون جوهره؟.
وما النفور الذي يسرع إلى النفس من النبز واللقب؟.
وما الشكون الذي يرد على النفس من النعت؟ وما هما إلا متقاربان في الظاهر، متدانيان في الوهم.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن المعاني تلزمها الأسماء، ويعتادها أهل اللغات على مر الأيام حتى تصير كأنها هي، وحتى يشك قوم فيزعمون أن الاسم هو المسمى، وحتى زعم قوم أفاضل أن الأسامى بالطباع تصير إلى مطابقة المعاني كأنهم يقولون إن الحروف التي تؤلف لمعنى القيام أو الجلوس، أو الكوكب أو الأرض لا يصلح لغيرها من الحروف أن تسمى به، لأن تلك بالطبع صارت له.
واضطر لأجل هذه الدعوى أن يشتغل كبار الفلاسفة في بمناقضتهم، ووضع الكتب في ذلك، فليس بعجب أن يألف إنسان اسم نفسه حتى إذا غير ظن أنه إنما يغير هو، وإذا دعى بغير اسمه فإنما دعى غيره، بل يرى كأنما بدل به نفسه.
ولقد سمعت بعض المحصلين يستشير طبيباً، ويخاف فيما يشكوه أنه قد أصابه الماليخوليا فقلت له: وما الذي أنكرت من نفسك؟.
قال: يخيل لي أن يميني قد تحول شمالاً، وشمالي يميناً، لست أشك في ذلك.
فلما امتد بي النظر في مساءلته وجدته كان قد تختم في يمينه مدة
للتقرب إلى بعض الرؤساء من أصدقائه، ثم لما فارقه لسفره اتفقت له إعادة
إلى التختم اليسار فعرض له من الإلف والعادة هذا العارض.
فأعتبر بذلك يسهل جواب مسألتك، وتعلم ما في العادة من المشاكلة لما في
الطبع.
فأما كراهة الناس الشيء لأسمه، أو للقبه ونبزه، فالجواب عنه قريب من
الجواب عن هذه المسألة، وذلك أن الأسماء والألقاب أيضاً تكره لكراهة ما
تدل عليه للعادة الأولى، فلو أنك نقلت اسم الفحم إلى الكافور فيما بينك
وبين آخر لكان متى ذكر الفحم تصور السواد، ولم يمنعه ما انتقل فيما بينه
وبينك إلى مسمى آخر أبيض طيب الرائحة، وذلك لأجل العادة، اللهم إلا أن
يكون تركيب الحروف تركيباً قبيحاً، والحروف أنفسها مستهجنة فإن الجواب عن
ذلك قد مر في صور هذه المسائل مستقصى.
مسألة قال أبو حيان لم صار صاحب الهم
ومن غلبة عليه الفكر في ملم يولع بمس لحيته وربما نكت الأرض بإصبعه، وعبث بالحصى؟.وقد يختلف الحال في ذلك حتى إنك لتجد واحداً يحب عند صدمة الهم، ولوعه الحزن جمعاً وناساً ومجلساً مزدحماً، يريغ بذلك تفريحاً، ويجد عنده خفا.
وآخر يفزع إلى الخلوة، ثم لا يقع إلا بمكان موحش، ونشر ضيق وطريق غامض.
وآخر يؤثر الخلوة ولكن الخلوة يحن إلى بستان حال وروض مزهر، ونهر جار.
ثم تختلف الحال بين هؤلاء حتى إنك لتجد واحداً عند غاشية ذلك الفكر أصفى طبعاً، وأذكى قلباً، وأحضر ذهناً، وحتى يقول القافية النادرة، ويضنف الرسالة الفاخرة، وحتى يحفظ علماً جماً، ويستقبل أيامه نصحاً، وآخر يذهل ويعله، ويزول عنه الرأى ويتحير حتى لوهدي ما اهتدى، ولو أمر لما فقه ولو نهى لما وبه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس لا تعطل الجوارح إلا عند النوم الأسباب ليس هذا موضع ذكرها.
والعقل يستهجن البطالة، ولا بد من تحريك الأعضاء في اليقظة إما بقصد وإدارة، وبصناعة ولأغراض مقصودة، وإما بعبث ولهو، وعند غفلة وسهو؛ ولأجل ذلك نهت الشريعة عن الغفلة، ونهى الأدب عن الكسل، وأمر الناس وسواس المدن بترك العطلة واشتغال الناس بضروب الأعمال.
ولقباحة العطلة، ونفور العقل عنها اشتغل الفراغ بلعب الشطرنج والنرد على سخافتهما، وأخذهما من العمر، وذهابهما بالزمان في غير طائل؛ فإن الجلوس بلا شغل ولا حركة بغير ضرورة أمر يأباه الناس كافة لما ذكرناه.
فصاحب الفكر والهم لا تتعطل جوارحه، وإنما ينبغي أن يتعود الإنسان بالتأديب حركات جميلة مثل القضيب الذي وضع الملوك، وقد ذكره ذلك أيضاً ونسب إلى النزق، وجعل في جنس الولع بالخاتم.
فأما مس اللحية وقلع الزئبر من الثوب فمعدود من المرض؛ لأنة حركة غير منتظمة، ولا جارية على سنة الأدب؛ بل هو عبث يدل على أن صاحبه قد احتمل حتى عزب عقله، وذهب تمييزه دفعة.
ولا ينبغي ذلك لمن له تمييز، وبه مسكة أن يفعله؛ بل ينبه عليه من نفسه ويتركه إن كان عادته.
فأما اختلاف الحال في الناس فيمن الاجتماع مع الناس أو يحب الخلوة وغير ذلك مما حكيته، وذكرت أقسامه فإن ذلك تابع للمزاج؛ وذاك أن صاحب السوداء والفكر السوداوي يحب الخلوة والتفرد، ويأنس بذلك.
وأما صاحب الفكر الدموي فإنه يحب الاجتماع والناس، وربما آثر النزهة والفرجة.
وأما ما حكيت عمن يصنع الشعر، ويصنف الرسالة، ويشغل نفسه بالعلوم فجميع ذلك إنما يكون بحسب عادة من يطرقه الفكر؛ فإن كان قبل ذلك ممن يرتاض ببعض هذه الأشياء، أو يكثر الفكر فيها فإنه بعد ورود العارض يلجأ إلى ما كان عليه، ويعود إلى عادته بنفس ثائرة مضطرة إلى الفكر فينفذ فيما كان فيه.
ولا بد أن يصير ذلك الفكر من جنس ما دهمه، أعني أنه يقول القافية ويصنف الرسالة في ذلك المعنى الذي طرأ عليه، لكن يستعين عليه بفكر كأن يتصرف في شعر آخر فيرده إلى الأهم الذي يقلقه ويحفزه فيجيء كلامه وشعره أحد وأصفى مما كان.
وأما الذي يذهل ويعله ويتحير فهو الذي لم يكن قبل ورود ذلك الشغل عليه ممن لا يرتاض بشعر ولا ترسل، ولا عادته أن يلجأ إلى فكره ويستعمله في استخراج الخبايا واللطائف، فإذا طرقه عارض يحتاج فيه إلى فكر لم يجده، وأصابه من الوله والدهش ما ذكرت.
مسألة ما بال أصحاب التوحيد
لا يخبرون عن الباري إلا بنفي الصفات؟.فقيل له: بين قولك، وابسط فيه إرادتك.
قال: إن الناس في ذكر صفات الله - تعالى - على طريقتين: فطائفة تقول: لا
صفات له كالسمع والعلم والبصر والحياة والقدرة، لكنه مع نفي هذه الصفات
موصوف بأنه سميع بصير حي قادر عالم.
وطائفة قالت: هذه أسماء لموصوف بصفات هي العلم، والقدرة، والحياة.
ولا بد من إطلاقها وتحقيقها.
ثم إن هاتين الطائفتين تطابقته على أنه عالم لا كالعالمين، وقادر لا
كالقادرين وسميع لا كالسامعين، ومتكلم لا كالمتكلمين.
ثم عادت القائلة بالصفات على أن له علماً لا كالعلوم، وانكأت على النفي في
جميع ذلك.
وكانت الطائفتان في ظاهر الرأى مثبتة نافية، معطية آخذه إلا أن يبين ما
يزيد على هذا.
هذا آخر المسألة.
والجواب عنها حرفان مع الإيجاز إن ساعد فهم، وتبسيط مع البيان إن احتيج
إليه في موضعه إن شاء.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما قولك: الجواب عنها حرفان مع
الإيجاز فهو قريب مما قلت، وذاك أن كل صفة وموصوف يقع عليه وهم، وينطلق به
لسان فهو جود من الله تعالى، وإبداع له، ومن منه امتن به على خلقه، وليس
يجوز أن يوصف الله - تعالى - بما هو مبدع ومخلوق له.
فهذا مع الإيجاز كاف.
ولا بد من أدنى بسط وبيان فنقول: إن البرهان قد قام على أن الباري الأول
الواحد هو - عز اسمه - متقدم الوجود على كل معقول ومحسوس، وأنه أول
بالحقيقة، أي ليس له شيء يتقدمه على سبيل علة ولا سبب ولا غيرهما.
وما ليس له علة تتقدمه فوجوده أبداً، وما وجوده أبداً فهو واجب الوجود،
وما كان كذلك فهو لم يزل، وما لم يزل فليس له علة، فليس بمتركب ولا متكثر؛
لأنه لو كان مركباً أو كان متركباً لكان قد تقدمه شيء أعني بسائطه أو
آحاده.
وقد قلنا إنه أول لم يتقدمه شيء فإذن ليس بمركب ولا متكثر.
والأوصاف التي يثبتها له من يثبتها ليس تخلو من أن تكون قديمة معه، أو
محدثة بعده.
ولو كانت قديمة معه، موجودة بوجوده لكان هناك كثرة، ولو كانت كثرة لكانت -
لا محالة - متركبة من آحاد.
ولو كانت الآحاد متقدمة، أو الوحدة - سيما التي تركبت منها الآحاد -
والكثرة متقدمة - لم يكن أولاً، وقد قلنا إنه أول.
ولو كانت أوصافه بعده لكان خالياً منها فيما لم يزل، وخلصت له الوحدة.
وإنما حدث له ما حدث عن سبب وعلة - تعالى الله وجل عما يقولون المبطلون -
وقد قلنا إنه لا سبب له ولا علة.
وأما أطلاقنا ما نطلقه عليه من الجود والقدرة وسائر الصفات فلأن العقل إذا
قسم الشيء إلى الإيجاب والسلب، أو إلى الحسن والقبيح، أو إلى الوجود
والعدم - وجب أن ينظر في كل طرفين فينسب الأفضل منهما إليه، إن كنا لا
محالة مشيرين إليه بوصف مثلاً، كأنا سمعنا بالقدرة والعجز وهما طرفان،
فوجدنا أحدهما مدحاً، والآخر ذماً، فوجب أن ننسب إليه ما هو مدح عندنا.
وكذلك نفعل في الجود وضده، والعلم وخلافه.
ومع ذلك فينبغي ألا نقيس على هذا القدر أيضاً إلا إذا كان معنا رخصة في
شريعة، أو إطلاق في كتاب منزل؛ لئلانبتدع له من عندنا ما لم تجربه سنة أو
فريضة، ونحذر كل الحذر من الإقدام على هذه الأمور.
ولأنا ضمنا ترك الإطالة في جميع أجوبة هذه المسائل فلنقتصر على هذا النبذ.
ومن أراد الإطالة والتوسع فيه فليقرأه من موضعه الخاص به من كتابنا الذي
سميناه الفوز أو من كتب غيرنا المصنفة في هذا المعنى إن شاء الله.
مسألة لم صار الإنسان في حفظ الصواب أنفذ
منه في حفظ الخطأ
؟شاهد هذا أنك لو سمت الغفل أن يتعلم الأدب، ويعتاد الصواب في اللفظ كان أخرى بذلك، وأجرأ عليه من قاض أو عدل أو أديب عالم تسوم واحداً منهم ان يتخلق بخلق بعض العامة، أو يقتدي بلفظه في خطابه وفساده؛ ولهذا تجد مائة ينشدونك لأبي تمام والبحتري ولا تجد ثلاثة ينشدونك للطرمي وأبي العبر.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الصواب شيء واحد، وله سمت يشير إليه بالعقل، وتقتضيه الفطرة السليمة من كل أحد.
فأما الانحراف عن ذلك السمت، والخطأ فيه وعنه فأمر لا نهاية له، فلذلك لا يمكن ضبطه.
وإن انحرف عنه منحرف فإنما يكون ذلك منه كما جاء واتفق لا بإشارة من فهم، ولا دليل من عقل.
وحفظ مثل هذا عسير جداً؛ إذ كان الحفظ إنما هو تذكر لصورة قيدها
العقل، وتلك الصورة هي مقتضى العقل، أو رسم من رسوم قوى العقل.
فالإنسان معان على هذا الرسم بالفطرة، ومعان على تذكره - أيضاً - بالفطرة.
فأما العدول عنه فهو كالعدول عن نقطة الدائرة التي تسمى مركزاً؛ فإن
النقطة في الدائرة - التي ليست مركزاً - هي كثيرة بلا نهاية، وإنما
المحدودة منها على نقطة واحدة، أعني التي بعدها من جميع محيط الدائرة
بالسواء.
مسألة لم صار العروضي ردىء الشعر
قليل الماء، والمطبوع على خلافه؟ ألم تبن العروض على الطبع؟ أليست هي ميزان الطبع؟ فما بالها تخون؟ وقد رأينا بعض من يتذوق وله طبع يخطي ويخرج من وزن إلى وزن، وما رأينا عروضياً له ذلك.فلم كان هذا - مع هذا الفضل - أنقص ممن هو أفضل منه؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن المطبوع من المولدين يلزم الواحد، ولا يخرج عنه مادام طبعه يطيع ذلك.
ولكن سمعنا للشعراء الجاهليين المتقدمين أوزاناً لا تقبلها طباعنا، ولا تحسن في ذوقنا، وهي عندهم مقبولة موزونة، يستمرون عليها كما يستمرون في غيرها، كقول المرقش:
لابنه عجلان بالطف رسوم ... لم يتعفين والعهد قديم
وهي قصيدة مختارة في المفضليات، ولها أخوات لا أحب تطويل الجواب بإيرادها - كانت مقبولة الوزن في طباع أولئك القوم، وهي نافرة عن طباعنا، نظنها مكسورة.
وكذلك قد يستعملون من الزخاف في الأوزان التي تستطيبها ما يكون عند المطبوعين منا مكسوراً، وهي صحيحة.
والسبب في جميع ذلك أن القوم كانوا يجبرون بنغمات يستعملونها مواضع من الشعر يستوى بها الوزن.
ولأننا نحن لا نعرف تلك النغمات إذا أنشدنا الشعر على السلامة لم يحسن في طباعنا، والدليل على ذلك أنا عرفنا في بعض الشعر تلك النغمة حسن عندنا، وطاب في ذوقنا كقول الشاعر:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يطل
فإن هذا الوزن إذا أنشد مفكك الأجزاء بالنغمة التي تخصه طاب في الذوق وإذا أنشد كما ينشد سائر الشعر لم يطب في كل ذوق.
وهذه سبيل الزحاف الذي يقع في في الشعر مما يطيب في ذوق العرب وينكسر في ذوقنا.
لولا أن الموسيقا مركوزة في الطباع، ووزن النغم ومقابلة بعضه بعضاً مجبولة عليه النفس لما تساعدت النفوس كلها على قبول حركات أخر بعينها.
وتلك الحركات المقبولة هي النسب التي يطلبها الموسيقي، ويبني عليها رأيه وأصله.
والعروضي إنما يتبع هذه الحركات والسكنات التي في كل بيت فيحصلها بالعدد، وبالأجزاء المتقابلة المتوازنة.
فإن نقص جزء من الأجزاء ساكن أو متحرك فإنما يجبره المنشد بالنغمة حتى يتلافاه.
فمتى ذهب عنه ذلك لم يستقم في ذوقه، ولم يساعد عليه طبعه.
فأما من نقص ذوقه في العروض فإنما ذلك للغلط الذي يقع له في بعض الزحافات التي يجيزها العروض، وله مذهب عند العرب، فيقع لصاحب الذوق الذي لا يعرف تلك النغمة التي تقوم بذلك الزحاف - أنه جائز في كل موضع فيغلط من ههنا، ويتهم أيضاً طبعه حتى يظن أن المنكسر من الشعر أيضاً هو في معنى المزاحف، وأنه كما لم يمتنع المزحوف من الجواز كذلك لا يمتنع هذا الآخر الذي يجري عنده مجراه.
وهذا غلط قد عرف وجهه ومذهب صاحبه فيه.
وأما واضع العروض فقد كان ذا علم بالوزن، وصاحب ذوق وطبع فاستخرج صناعة من الطباع الجيدة تستمر لمن ليست له طبيعة جيدة في الذوق؛ ليتمم بالصناعة تلك النقيصة.
وكذلك الحال في صناعة النحو والخطابة، وما يجري مجراها من الصنائع العلمية.
وليس يجري صاحب الصناعة، وإن كان ماهراً في صناعته - مجرى الطبع الجيد الفائق.
مسألة ما معنى قول بعض القدماء العالم أطول عمرا
ًمن الجاهل بكثير وإن كان أقصر عمراً عنه؟.
ما هذه الإشارة والدفنية؛ فإن ظاهرها مناقضة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تبين من مباحث الفلسفة أن الحياة على نوعين: أحدهما حياة بدنية وهي البهيمية التي تشاركنا فيها الحيوانات كلها.
وحياة نفسية، وهي الحياة الإنسانية التي تكون بتحصيل العلوم والمعارف.
وهذه هي الحياة التي تجتهد الأفاضل من الناس في تحصيلها.
فالواجب أن يظن بالجاهل الذي يحيا حياة بدنية أنه ليس بحي بتة، أعني أنه ليس بإنسان، ولا حيى حياته.
فأما العالم فالواجب أن يقال فيه: إنه هو الحي بالحقيقة كما أن غيره هو الميت.
مسألة لم صارت بلاغة اللسان أعسر من بلاغة القلم
؟وما القلم واللسان إلا آلتان، وما مستقاهما إلا واحد، فلم نرى عشرة يكتبون ويجيدون ويبلغون، وثلاثة منهم إذا نطقوا لا يجيدون ولا يبلغون؟ والذي يدلك على قلة بلاغة اللسان إكبار الناس البليغ باللسان أكثر من إكبارهم البليغ بالقلم.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ذلك لأن البلاغة التي تكون بالقلم تكون مع روية وزمان متسع للانتقاد والتخير والضرب والإلحاق وإجالة الروية لإبدال الكلمة بالكلمة.
ومن تبادل بالكلام متى لم يكن لفظه، ومعناه متوافيين عرض له التتعتع والتلجلج وتمضغ الكلام، وهذا هو العي المكروه المستعاذ منه.
فأما البليغ فهو حاضر الذهن، سريع حركة اللسان بالألفاظ التي لا يقتصر منها أن يبلغ ما في نفسه من المعنى حتى تتفرغ له قطعة من ذلك الزمان السريع إلى توشيح عبارته، وترتيبها باختيار الأعذب قالأعذب، وطلب المشاكلة والموازنة، والسجع، وكثير مما يحتاج في مثله إلى الزمان الكثير، والفكر الطويل.
مسألة على ماذا يدل انتصاب قامة الإنسان
من بين هذا الحيوان
؟فقد قال أبو زيد البلخي الفلسفي كلاماً سأحكيه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذا الرجل الفاضل الذي ذكرته إذا كان يوجد له كلام في هذا المعنى، فالأولى بنا أن نستعفيك الكلام فيه.
وإذا كنت غير معفينا، فالأولى أن نكتفي بالإيماء إلى المعنى دون الإطالة، فنقول: إن الحرارة إذا كانت مادتها لطيفة مواتية في الرطوبة والاستجابة إلى الامتداد فهي تمد الجسم الذي تعلقت به إلى جهتها - أعني العلو - مداً مستقيماً.
وإنما يعرض الانكباب والميل إلى جهة الأرض لشيئين: إما لضعف الحرارة، وإما لقلة استجابة المادة التي تعلقت بها.
وأنت تتبين ذلك وتتأمله في الأشجار التي بعضها ينشعب بشعب مر جحنة نحو الأرض.
وبعضها ممتدة على جهة الاستقامة إلى فوق.
وبعضها مركبة الحركة بحسب مقاومة المادة؛ لأن حركة الشيء المركب وما كان من الشجر والنبات ممتداً على وجه الأرض غير منتصب فهو لكثرة الأجزاء الأرضية فيه، ولضعف الحرارة عن مدة نحو العلو.
وما كان الشجر منتصباً وقد تشعبت منه نحو الأرض، ويميناً وشمالاً فلأن حركة النار والأرض قد تركبتا فحدث منهما هذا الشكل المركب بين الانتصاب والارجحنان.
وما كان الشجر ممتداً كالقضيب إلى فوق كالسرو وما أشبهه فلأن أجزاءه الأرضية والرطوبة المائية فيه لطيفة، والحرارة قوية فلم يمتنع من الحركة المستقيمة التي تحركها النار.
وإذا تأملت حق التأمل هذه الأمثلة لم يعسر عليك نقلها إلى الحيوان إن شاء الله.
مسألة لم صار اليقين إذا حدث وطرأ لا يثبت ولا يستقر
؟والشك إذا عرض أرسى وربض
؟يدلك على هذا أن الموقن بالشيء متى شككته نزا فؤاده، وقلق به؛ والشاك متى وقفت به وأرشدته، وأهديت الحكمة إليه لا يزداد إلا جموحاً، ولا ترى منه إلا عتواً ونفوراً.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أظن السائل عن اليقين لم يعرف حقيقته، وظن ان لفظة اليقين تدل على المعرفة المرسلة، أو على الإقناع اليسير.
وليس الأمر كذلك؛ فإن مرتبة اليقين أعلى مرتبة تكون في العلم، وليس يجوز أن يطرأ عليه شك بعد أن صار يقيناً.
ومثال ذلك أن من علم أن خمسة في خمسة خمسة وعشرون ليس يجوز أن يشك فيه في وقت.
وكذلك من علم أن زوايا المثلث مساوية لقائمتين ليس يجوز أن يشك فيه.
وهذه سبيل العلوم المتيقنة بالبراهين، وبالأوائل التي بها تعلم البراهين.
فأما ما دون اليقين فمراتبه كثيرة على ما بين في كتاب المنطق.
والشكوك تعترض كل مرتبة بحسب منزلتها من الإقناع.
وإذا كان الأمر كذلك فليس يرد قلب المتيقن - أبداً - شك ينزو منه فؤاده؛ بل قار وادع لا تحرك منه الشكوك بتة.
فأما ما ذكرته من أن الشاك إذا أرشد، وأهديت له الحكمة لا يزداد إلا جموحاً فإن ذلك يعترض لأحد شيئين: إما لأن المرشد لم يتأت للشاك، ولم يدرجه إلى الحكمة فحمله ما لا يضطلع به، وإما لأن الحكيم ربما نهى عن أشياء يميل إليها الطبع بالهوى.
وقد علمت بما بيناه فيما تقدم أن تقدم أن قوى الهوى أغلب وأقوى فينا من قوى العقل، فيصير حاله حال من يجدنه حبلان أحدهما ضعيف والآخر قوى - لا محالة - يستجيب للأقوى إلى أن تقوى عزيمته على الأيام فيضعف القوى، ويقوى الضعيف كما أشار به الحكماء، وشرعه الأنبياء.
مسألة لم صار الناس يضحكون من السخرة
والمضحك إذا لم يضحك - أكثر من ضحكهم منه إذا ضحك؟ وهذا عارض موجود في كل من ألهاك ولم يضحك.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن من شأن المضحك أن يتطلب أموراً معدولة عن جهاتها؛ ليستدعي بذلك تعجب السامع وضحكه.
وإذا لم يضحك هو إنما يدل من نفسه أنه متماسك، غير مكترث للسبب الذي من شأنه أن يعجب منه ويضحك، فيتضاد الحال بالتسامع حتى يقترن إلى السبب الأول السبب الثاني.
مسألة ما معنى قول العلماء على طبقاتهم النادر لا حكم له
هكذا تجد الفقيه والمتكلم، والنحوي، والفلسفي.فما سر هذا؟ وما علمه وعلته؟ ولم إذا ندر خلا من الحكم، وإذا شذ عرى من التعليل؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ليس الأمر على ما ظننته من أن جميع الطبقات من العلماء يستعملون هذه اللفظة.
وإنما يستعملها منهم من كانت طبقته في العلوم المأخوذة من التصفح والآراء المشهورة؛ فإن هذه أوائل عند قوم في علومهم.
وأعني بقولي أوائل أي أنهم يجعلونها مبادىء مسلمة بمنزلة الأشياء الضرورية من مبادىء الحس والعقل فإذا فعلوا ذلك لم يخل من أن يرد عليهم ما يخالف أصولهم فيجعلونه نادراً وشاذاً مثال ذلك: أنه تصفح رجل منهم يوماً في السنة كيوم السبت من كانون أنه يجىء فيه مطر، وبقي إلى ذلك سنين - حكم بأن هذا واجب لا بد منه.
فإن انتقض عليه ذلك زعم أنه شاذ نادر.
وكذلك من يتبرك بيوم في الشهر، ويتشاءم بآخر كما تفعله الفرس بأول يوم من شهرهم المسمى هرمز، وبآخر يوم المسمى بانيران فإنه لا يزال يحكم بأن هذا على الوتيرة، فإن انتقض قالوا هذا شاذ ونادر.
وكذلك حال من حكم بحكم مأخوذ من أوائل غير طبيعية، وغير ضرورية فإنه غير مستمر له استمرار العلوم المبرهنة المأخوذة الأوائل من الأمور الضرورية.
وأنت ترى ذلك عياناً ممن لا يعرف علل الأشياء ولا أسبابها من جمهور الناس؛ فإن أحدهم إذا رأى أمراً حدث عند حضور أمر آخر نسبه إليه من غير أن يبحث هل هو علته أم لا.
وذلك أنه إذا رأى حالاً تسره عند حضور زيد زعم أن سبب ذلك الحال زيد.
فإن اتفق حضور زيد مرة أخرى، واتفقت له حال أخرى سارة قوى ظنه، وزادت بصيرته، فإن اتفق ثالثة قطع الحكم.
وكذلك تكون الحال في أكثر أمور هذا الصنف من الناس.
لا جرم أنه متى انتقض الأمر زعموا أنه شاذ.
ولهذه الحال عرض كثير، وذلك أنه ربما مازج أسباباً صحيحة، كما يحكم في الشتاء أنه يجيء مطر يوم كذا لأنه كذلك اتفق في العام الماضي.
فلأن الوقت شتاء ربما اتفق ذلك مراراً كثيرة، ولكن ليس سبب المطر ذلك اليوم بل له أسباب أخر وإن اتفق فيه.
فأما الرجل الفلسفي فإنه إذا تشبه بغيره، أو أخذ مقدماته من مثل تلك المواضع عرض له - لا محالة - ما عرض لغيره.
ولذلك وجب أن تنزل الأمور منازلها فما كان منها ذا برهان لم يتغير، ولم ينتظر ورود ضد عليه، ولا شك فيه.
وإذا كان غير ذي برهان إلا أن له دليلاً مستمراً صحيحاً سكن إليه، وثق به.
فأما ما ينحط إلى الإقناعات الضعيفة فينبغي ألا يسكن إليه، ولا يوثق به، وانتظر أن ينقضه شيء طارىء عليه، ولم يمتنع من الشكوك والاعتراضات عليه.
مسألة قال بعض المتكلمين قد علمنا يقينا
ًأنه لا يجوز أن يتفق أن يمس أهل محلة لحاهم في ساعة واحدة، وفصل واحد، وحال واحدة.
وإن جاز هذا فهل يجوز في جميع من في العالم؟ وإن كان لا يجوز أن يتفق هذا فما علته؟ فإن المتكلم سكت عند الأولى حين ذكر اليقين والضرورة.
ولعمري إن الغشاء حق ولكن العلة باقية.
وسيمر بيان ذلك على حقيقته في الشوامل إن شاء الله.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الكلام على الواجب والممتنع والممكن قد استقصاه أصحاب المنطق، وبلغ صاحب المنطق فيه الغاية.
والذي يليق بهذا الموضع هو أن يقال: إن الواجب من الأمور هو الذي يصدق فيه الإيجاب ويكذب فيه السلب أبداً.
والممتنع ما يكذب فيه الإيجاب ويصدق فيه السلب أبداً.
والممكن ما يصدق فيه الإيجاب أحياناً ويكذب فيه أحياناً، ويكذب فيه السلب
أحياناً ويصدق أحياناً.
فإذا كانت طبائع هذه الأمور مختلفة فمسألتك هذه من طبيعة الممكن.
فإن جوز فيه أن يكون جميع الناس يفعلونه في حال واحدة ضير من طبيعة الواجب.
وهذا محال.
وأيضاً فإن أرسططاليس قد تبين أن المقدمات الشخصية في المادة الممكنة
والزمان المستقبل لا تصدق معاً، ولا تكذب معاً، ولا تقتسم الصدق والكذب
مثال ذلك زيد يستحم غداً، ليس يستحم زيد.
فإن هاتين المقدمتين ليس يجوز أن تصدقا معاً؛ لئلا يكون شيء واحد بعينه
موجوداً وغير موجود.
ولا يجوز أن تكذبا معا؛ لئلا يكون شيء واحد موجوداً وغير موجود ولا يمكننا
أن نقول إنهما تقتسمان الصدق والكذب؛ لئلا يرفع بذلك الممكن.
وهذا قول محير فلذلك ألطف أرسططاليس فيه النظر فقال: إن الشيء الممكن إنما
يصدق عليه الإيجاب أو السلب على غير تحصيل.
والشيء الواجب والممتنع يصدق عليهما الإيجاب والسلب على تحصيل.
أعني أنه إنما يقتسم الصدق والكذب المقدمات الممكنة بأن توجد على طبيعتها
الإمكانية.
فأما الضرورية فإنها تقتسم الصدق والكذب على أنها ضرورية.
وهذا كلام بين واضح لمن ارتاض بالمنطق أدنى رياضة.
ومن أحب أن يستقصيه فليعد إليه في مواضعه يجده شافياً.
مسألة سئل بعض العلماء بالنحو واللغة
فقيل له: أيستمر القياس في جميع ما يذهب إليه من الألفاظ؟ فقال: لا.فقال السائل: فينكسر القياس في جميع ذلك؟ فقال: لا.
فقيل له: فما السبب؟ فقال: لا أدري، ولكن القياس يفزع إليه في موضع، ويفزع منه في موضع.
وعرضت هذه المسألة على فيلسوف فأفاد جواباً سيطلع عليك مع إشكاله إن شاء الله.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما قياس النحو فليس مبيناً على أوائل ضرورية فلذلك لا يستمر وإنما أجاب هذا الرجل العالم بالنحو عن القياس الذي يخص صناعته، ولم يلزمه إلا ذلك.
فأما الفيلسوف فقياساته كلها مستمرة لا ينكسر منها شيء، لا سيما ضرب من القياس وهو المسمى برهاناً.
وقد تقدم - في المسألة المتقدمة إن النادر لا حكم له كلام يصلح أن يجاب به ههنا فلتعد إليه إن شاء الله.
مسألة سأل سائل هل خلق الله - تعالى - العالم لعلة أو لغير علة
؟فإن كان لعلة فما هي؟ وإن كان لغير علة فما الحجة؟
وهذه مسألة فيها شعب كثيرة، ولها أهداب طويلة، وليس الكلام فيها بالهين السهل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ليس يجوز أن يقال: إن الله خلق العالم لعلة؛ لما تقدم من قولنا إن العلة سابقة للمعلول بالطبع.
فإن كانت العلة أيضاً معلولة لزم أن تكون لها علة تتقدمها.
وهذا مار بغير نهاية، وما لا نهاية له يصح وجوده.
فإذن لا بد من أن يقال أحد شيئين: إما أن العلة لا علة لها، وإما أن العالم لا علة له غير ذات الباري - تعالى ذكره - فإن قيل: إن للعالم علة غير ذات الباري - تعالى - فإن تلك العلة لا علة لها.
فيجب من ذلك أن تكون العلة أزلية؛ لأنها واجبة الوجود.
وإذا كانت كذلك لزم فيها جميع ما سلم في ذات الباري - تعالى - ولو كان كذلك أولاً لم يزل.
وقد قلنا في الباري - تعالى - ذلك بالبراهين التي تأدت إلى القول به.
وليس يجوز ان يكون شيئان لهما هذا الوصف، أعني أن كل واحد منهما اول لم يزل.
وذلك أنه لا بد أن يتفقا في شيء صار كل واحد منهما أول وأن يختلفا في شيء به صار كل واحد منهما غيراً لصاحبه.
وذلك الشيء الذي اشتركا فيه، والذي تباينا به لا بد أن يكون فصلاً مقوماً، أو مقسماً، فيصير لهما جنس ونوع؛ لأن هذه حقيقة الجنس والنوع.
فالجنس متقدم على النوع بالطبع.
والنوع الذي يلزمه فصل مقوم ليس بأول؛ لأنه مركب من ذات وفصل مقوم.
والمركب متأخر عن بسيطه الذي تركب منه.
فهذه أحوال يناقض بعضها بعضا، ولا يصح معها أن يدعى في شيئين أن كل واحد منها اول لم يزل.
وشرح هذا المعنى وإن طال فهو عائد إلى هذا النبذ الذي يكتفي به ذو القريحة الجيدة، والذكاء التام.
مسألة لم يضيق الإنسان في الراحة إذا توالت عليه
وفي النعمة إذا حالفته
؟وبهذا الضيق يخرج إلى المرح والنزوان، وإلى البطر والطغيان، وإلى
التحكك بالشر والتمرس به حتى يقع في كل مهوى بعيد، وفي كل امر شديد.
ثم يعض على أنامله غيظاً على نفسه بسوء اختياره، وأسفاً على تركه محمود
الرأى، ومجانبته نصيحة الناصحين مع ما يجد من الألم في صدره من شماتة
الشامتين.
فما السر المنزى والمعنى الموثب؟ ولذلك قالت العرب في نوادر كلامها: نزت
به البطنة.
أي أطفاه الشبع، وأبطرته الكفاية، وأترفته النعمة حتى بطر وأشر، واضطرب
وانتشر.
ومن أجل ذلك قال بعض السلف الصالح: العافية ملك خفي لا يصبر عليها إلا ولى
ملهم، أو نبي مرسل.
هذا، والناس مع اختلافهم يحبون العافية، ويميلون إلى الراحة، ويعوذون من
الشر، ومما يورث منه، ويستعقب عنه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: السبب في ذلك ان الراحة إنما
تكون عن تعب تقدمها لا محالة.
وجميع اللذات يظهر فيها أنها راحات من آلام.
وإذا كانت الراحة إنما تكون عن تعب فهي إنما تستلذ وتستطاب ساعة يتخلص من
الشيء المتعب.
فإذا اتصلت الراحة، وذهب ألم التعب لم تكن الراحة موجودة؛ بل بطلت وبطل
معناها.
ومع بطلانها بطلان اللذة.
ومع بطلان اللذة غلط الإنسان في الشوق إلى اللذة التي يجهل حقيقتها.
أعني أنه يشتاق إلى معنى اللذة ويجهل أنها راحة من ألم.
فصار الإنسان كأنه يشتاق إلى تعب ليستريح بعقبه.
وهذا المعنى إذا لاح للعالم به وتبينه لم يشتق إلى اللذة بتة، وصار قصاراه
إذا آلمه الجوع أن يداويه بالدواء الذي يسمى الشبع لا أنه يقصده اللذة
نفسها بل يرى اللذة شيئاً تابعاً لغرضه لا أنها مقصودة الأول؛ ولذلك يزهد
العالم في الأشياء البدنية، أعني الدنيوية، وهي ما يتصل بالحواس وتسمى
لذيذة.
فأما الجاهل فلأنه يعترض له ما ذكرناه بالضرورة صار يقع فيه دائماً، فيحصل
في هموم وآلام وامراض لا نهاية لها.
وعاقبه جميع ذلك الندم والأسف.
مسألة لم صار بعض الأشياء تمامه أن يكون غضاً طرياً
ولا يستحسن ولا يستطاب إلا كذلك
؟وبعض الأشياء لا يختار ولا يستحسن إلا إذا كان عتيقاً قديماً، قد مر عليه الزمان؟ ولم لم تكن الأشياء كلها على وجه واحد عند الناس؟ وما السبب في انقسامها على هذين الوجهين، ففيه سر؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لما كانت كمالات الأشياء المختلفة، أعني ان بعضها تتم صورته التي هي كماله في زمان قصير، وبعضها تتم صورته في زمان طويل - كان انتظار الإنسان للكمال منها، وتفضيله إياها بحسبه.
ولما كان الشيء يبتدىء وينتهي إلى الكمال، ثم ينحط حتى يتلاشى ويعود إلى ما منه بدأ - كان أفضل أحواله وقت انتهائه إلى الكمال.
فأما حين صعوده إليه، أو انحطاطه عنه فحالان ناقصان، وإن كانت الأولى أفضل من الثانية.
ولما كانت هذه القضية مستمرة فيما كان في عالمنا هذا، أعني عالم الكون والفساد - وجب من ذلك أن تكون استطابة الناس، واستحسانهم لصورة الكمال في واحد واحد من الأشياء المختلفة أيضاً مختلفاً لأجل ما ذكرناه.
مسألة لم صار الإنسان إذا صام أو صلى زائداً عن الفرض
المشترك فيه حقر غيره، واشتط عليه، وارتفع على مجلسه، ووجد الخنزوانة في نفسه، وطارت النعرة في أنفه حتى كأنه صاحب الوحي، أو الواثق بالمغفرة، والمنفرد بالجنة.
وهو مع ذلك يعلم أن العمل معرض للآفات، وبها يحبط ثواب صاحبه؛ ولهذا قال الله - تعالى - " بسم الله الرحمن الرحيم " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً " صدق الله العظيم " .
ولما يعرض له من هذا العارض علة ستنكشف في جواب المسألة؟ وكان بعض أصحابنا يضحك بنادرة في هذا الفصل قال: أسلم يهودى غداة يوم فما أمشى حتى ضرب مؤذناً، وشتم آخر، وغضب على آخر.
فقيل له: ما هذا أيها الرجل؟ فقال: نحن معاشر القراء فينا حده!.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: كل من استشعر في نفسه فضيلة، وكان هناك نقصان من وجه آخر، وخشى أن تنكتم تلك الفضيلة، أو لا يعرفها غيره منه - عرض له عارض الكبر؛ لأن معنى الكبر هو هذا.
أي أن صاحبه يلتمس من غيره أن يذعن له بتلك الفضيلة، ويعرفها له.
فإذا لم يعرفها تحرك ضروب الحركة المضطربة؛ ولهذا صدق القائل: ما تكبر أحد إلا عن ذلة يجدها في نفسه.
وإنما السلامة من هذا العارض هو أن يلتمس الإنسان الفضيلة لنفسه،
لا لشيء آخر أكثر من أن يصير هو بنفسه فاضلاً، لأن يعرف ذلك منه، أو يكرم
لأجله.
فإن اتفق له أن يعرف فشيء موضوع في موضعه، وإن لم يعرف له ذلك لم يلتسمه
من غيره، ولم يكترث لجهل غيره به.
فقد علمنا أن التماس الكرامة ومحبتها رذيلة.
ولأجل محبة الكرامة تعرض قوم للمتالف، وعرض لقوم الصلف ولآخرين الهرب من
الناس، إلى غير ذلك من المكار.
والذي يجب على العاقل هو أن يلتمس الفضائل في نفسه ليصير بها على هيئة
كريمة ممدوحة في ذاته، أكرم أم لم يكرم، وعرف ذلك له أم لم يعرف.
ويجعل مثاله في ذلك الصحة؛ فإن الصحة؛ تطلب لذاتها، ويحرص المرء عليها
ليصير صحيحاً حسب، لا ليعتقد فيه ذلك، ولا ليكرم عليها.
وذلك إذا جعلت له صحة النفس بحصول الفضائل لا ينبغي أن يطلب من الناس أن
يكرموه لها، ولا أن يعتقدوا فيه ذلك.
ومتى خالف هذه الوصية وقع في ضروب من الجهالات التي أحدها الكبر، والحالة
التي وصفت.
مسألة حكى بعض أصحابنا أن الرشيد قال لإسحاق الموصلي
كيف حالك مع الفضل بن يحيى، وجعفر بن يحيى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أما جعفر فإني لا أصل إليه إلا على عسر، فإذا وصلت إليه قبلت يده، فلا يلتفت إلى بطرف، ولا ينعم لي بحرف.ثم أصير إلى منزلي فأجد صلته وبره وهداياه، وتحفه قد سبقتني، فأبقى حيران من شأنه.
واما الفضل فإني ما أغشى بابه إلا ويتلقاني، ويهش لي، ويخصني، ويسألني عن دقيق أمري وجليله، ويصحبني من بشره، وطلاقة وجهه وتهلله، ورقة نغمته - ما يغمرني ويعجزني عن الشكر، وأبقى خجلاً في أمره، وليس غير ذلك.
فقال الرشيد عند هذا الحديث: يا أبا إسحاق فأيهما عندك آثر؟ وفعل أيهما من نفسك أوقع؟ فقال: فعل الفضل.
هذا آخر الحكاية.
وموضع المسألة منها: ما السبب في تشريف إسحاق فعل الفضل دون فعل جعفر؟ والفضل مبذولة عرض لا بقاء له، ولا منفعة به.
ومبذول جعفر جوهر له بقاء، والحاجة إليه ماسة، والرغبات به منوطة، والآمال إليه مصروفة.
الدليل على ذلك أنك لا تجد طالباً في الدنيا لبشر رجل، ولا ضارباً في الأرض لبشاشة إنسان.
وأنت ترى البر والبحر مترعين بمنتجعي المال، وأبناء السؤال، وخدم الآمال عند الرجال.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الحكاية فأظنها مقلوبة.
وذلك أن الموصوف بالكبر هو الفضل، وهو صاحب الشرف في العطاء، وأما جعفر فهو الموصوف بالطلاقة والبشر.
إلا أن المتفق عليه أن إسحاق فضل صاحب الطلاقة - وإن كان في الأكثر خالياً من بره على صاحب البر والعطاء الجزيل؛ لما قرنه بالكبر والتيه.
والناس على تفاوت عظيم في الموضع الذي سألت عنه، وتعجبت منه.
وذلك أن منهم المحب للثروة واليسار، ومنهم المحب للكرامة والجاه.
فأما محب الثروة فقد يحب الجاه والكرامة ولكن ليكتسب بهما مالاً.
وأما محب الجاه والكرامة، فقد يحب المال والثروة ولكن ليكتسب جاهاً، وينال كرامة.
وكل طائفة من هاتين الطائفتين تزعم أنها هي الكيسة، وأن صاحبتها هي الغافلة البلهاء.
والصحيح من ذلك ان كل واحد منهما ينازع إلى أمر طبيعي وإن كان قد مال السرف بهما جميعاً إلى الإفراط؛ وذاك أن المال ينبغي أن يعتدل في طلبه، ويكتسب من وجهه، ثم ينفق في موضعه.
فمتى قصر في أحد هذه الوجوه صار شرها، وأورث ذلة، وكسب بخلاً وإثماً.
وأما الكرامة فينبغي أن تكون في الإنسان فضيلة يستحق بها أن يكرم، لا أن تطلب الكرامة بالعسف، أو بالكبر الذي ذممناه فيما تقدم من المسائل آنفاً.
فإذا كان الأمر على ما ذكرناه، وكانت الكرامة تابعة للفضيلة، فالكرامة أشرف من المال تتبعه اللذة.
وبالجملة فإن المال ليس بمطلوب لذاته بل هو آلة يوصل به إلى المآرب والأشجان الكثيرة.
وإنما يحب لأنه بإزاء جميع المطلوبات، أي به يتوصل إلى المحبوبات، فأما في نفسه فهو حجر لا فرق بينه وبين غيره إذا نزعت عنه هذه الخصلة الواحدة.
فأما الكرامة فقد تطلب لذاتها إذا كان الطالب لها من جهة الاستحقاق بالفضيلة وذلك لما تحصل عليه النفس من الالتذاذ الروحاني، والسرور النفساني.
وإن كانت من جهة النفس الغضبية فإن هذه النفس وإن كانت دون
الناطقة فإنها فوق النفس البهيمية التي تلتذ اللذات البدنية التي تشارك
فيها النبات والخسيس من الحيوانات.
فأما قولك: إنك تجد محبي المال أكثر من محبي الكرامة فكذا يجب أن يكون؛
لأن أكثر الناس هم الذين يشبهون البهائم وإنما يتميز القليل منهم بالفضائل.
فكما أن المتميزين بفضائل النفس الناطقة من القليل، فكذلك المتميزون
بفضائل النفس الغضبية أقل من الجمهور.
مسألة ما بال خاصة الملك، والدانين منه، والمقربين إليه
لا يجري من ذكر الملك على ألسنتهم مثل ما يجري على ألسنة الأباعد منه مثل البوابين، والشاكرية، الساسة؛ فإنك تجد هؤلاء على غاية التشيع بذكره، ونهاية الدعوى في الإشارة إليه، والتكذب عليه.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لسببين: أحدهما أن الأقربين إلى الملوك هم المؤدبون المستصلحون لخدمتهم.
وفي جملة الآداب التي أخذوا بها ترك ذكر الملك؛ فإن في ذكرهم إياه ابتذالاً له وانتهاكاً لهيبته، وهتكاً لحرمته.
فأما أولئك الطبقة فلسوء آدابهم لا يميزون، ولا يأبهون لما ذكرته فهم يجرون على طباع العامة اللائقة بهم في الافتخار بما لا أصل له، وادعاء ما لا حقيقة له، ولظنهم أنهم ينالون بذلك كرامة ومحلاً عند أمثالهم.
وأما السبب الآخر فخوف حاشية الملك من عقوبته؛ فإن الملك يعاقب على هذا الذنب، ويراه سياسة له؛ لئلا يتعدى ذاكروه إلى إفشاء سر، وإخراج حديث لا ينبغي إخراجه.
مسألة ما الشبهة التي عرضت لابن البصري
فيما تفرد به من مقالته حين زعم أن الله - تعالى - لم يزل ناظراً إلى الدنيا، رائياً لها، مدركاً لها وهي معدومة.فإن شغبه وشغب ناصريه وأصحابه قد كثر بين العلماء.
فما وجه باطله إن كان قد أبطل؟ وما وجه الحق إن كان قد حقق؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما شبهة صاحب هذه المقالة فمركبة؛ وذلك أنه لحظ إدارك الحي منا فوجده بنوعين: أحدهما عقلي، والآخر حسي.
والحسي منه وهمي ومنه بصري.
فأما الحسي البصري فإنما يدرك المبصر بآلة ذات طبقات ورطوبات وقصبة مجوفة ذاتية من بطن الدماغ، ويحتاج إلى جرم مستشف يكون بينه وبين المبصر، وإلى ضوء معتدل، ومسافة معتدلة، وألا يكون بينهما حاجز ولا مانع.
وأما الوهم فقد ذكرنا من أمره أنه يتبع الحس فلا يجوز أن يتوهم ما لا يدرك، أو يدرك له نظير.
وأما الإدراك العقلي فليس يحتاج إلى شيء من الحواس، بل للعقل نفسه قوة ذاتية بها يدرك الأشياء المعقولة.
والكلام على هذا الإدراك ألطف وأغمض من الكلام في الإدراك الحسي.
ولما اختلطت على صاحب المسألة هذه الإدراكات، وعلم أن الباري - جلت عظمته - عالم بالأمور الكائنة سمي هذا العلم إدراكاً، وظنه من جنس إدراكنا وعلومنا الوهمية فتركبت الشبهة له من الظنون الكاذبة.
وتحقيق هذه الإدراكات وتمييزها حتى يعلم ما يختص به الحي منا ذو العقل والحس، وكيف تكون إدراكاته للأمور الموجودة، وتنزيه الباري - جل اسمه - عن جميعها إذ كانت هذه كلها منا انفعالات، أعني العلوم والمعارف كلها، وأنه لا يجوز أن نعلم شيئاً محسوساً ولا معقولاً بغير انفعال، وأن الله تقدس وتعالى ذكره - ليس بمنفعل، وإنما يعلم الأشياء بنوع أعلى وأرفع مما نعلمه - أمر صعب يحتاج فيه إلى تقدمة علوم كثيرة.
وفيما ذكرناه كفاية في إيضاح وجه شبهة لهذا الرجل فيما ذهب إليه.
مسألة حدثني عن ولوع الشاعر بالطيف
وتشبيبه به، واستهتاره بذكره
وهكذا تجد أصناف الناس.وهذا معروف عند من عبثت به الصبابة، ولحقته الرقة، وألفت عينه حلية شخص ومحاسنه، وعلق فؤاده هواه وحبه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الطيف هو اسم لصورة المحبوب إذا حصلته النفس في قوتها المتخيلة حتى تكون تلك الصورة نصب عينه، وتجاه وهمه كلما خلا بنفسه.
وهذه حال تلحق كل من لهج بشيء؛ فإن صورته ترتسم في قوته هذه التي تسمى المتخيلة وتكون ببطن الدماغ المقدم.
فإذا تكررت هذه الصورة على المحبوب على هذه القوة انتقشت فيها ولزمها.
فإذا نام الإنسان أو استيقظ لم تخل من قيام تلك الصورة فيها، ويجد المشتاق في النوم خاصة إنسانه؛ لأن النوم يتخيل فيه أشياء مما في نفسه، فربما رأى في النوم أنه قد وصل إليه الوصول الذي يهواه؛ فيكون من ذلك الاحتلام، واستفراغ المادة التي تحركه إلى الشوق والاجتماع مع المحبوب، فيزول عنه أكثر ذلك العارض، ويصير سبباً لبرء تام فيما بعد.
مسألة ما السبب في ترفع الإنسان عن التنبيه على نفسه
بنشر فضله، وعرض حاله وإثبات اسمه، وإشاعة نعته؟ وليس بعذ هذا إلا إثبات الخمول.والخمول عدم ما، وهو إلى النقص ما هو؛ لأن الخامل مجهول، والمجهول نقيض المعدوم.
ولا تبارى في المعدوم، ولا تمارى في الموجود.
وكان منشأ هذه المسألة عن حال هذا وصفها: عرض بعض مشايخنا كتاباً له صنفه علينا، فلم نجده ذكر على ظهره: تأليف فلان، ولا تصنيفه، ولا ذكر اسمه من وجه الملك.
فقلنا له: ما هذا الرأى؟.
فقال: هو شيء يعجبني لسر فيه.
ثم أخرج لنا كتباً قد كتبها في الحداثة فيها اسمه، وقال: هذا أثر أيام النقص.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الفضل ينبه على نفسه، وليست حاجة إلى تنبيه الإنسان عليه من نفسه.
وذاك أن الفضائل التي هي بالحقيقة فضائل تشرق إشراق الشمس، ولا سبيل إلى إخفائها لو رام صاحبها ذلك.
وأما الشيء الذي يظن أنه فضيلة وليس كذلك فهو الذي يخفى.
فإذا تعاطى الإنسان مدح نفسه، وإظهار فضيلته بالدعوى تصفحت العقول دعواه فبان عواره، وظهر الموضع الذي يغلط فيه من نفسه.
فإن اتفق أن يكون صادقاً، وكانت فيه تلك الفضيلة فإنما يدل بتكلف إظهارها على أنه غير واثق بآراء الناس وتصفحهم، أو هو واثق ولكنه يتبجح عليهم ويفخر.
والناس لا يرضون شيئاً من هذه الأخلاق لدناءتها.
فأما الإنسان الكبير الهمة فإنه يستقل لنفسه ما يكون فيه من الفضائل؛ لسموه إلى ما هو أكثر منه، ولأن المرتبة التي تحصل للإنسان من الفضل وإن كانت عالية فهي نزر يسير بالإضافة إلى ما هو أكثر منه.
وهو متعرض لطباع الإنسان مبذول له، وإنما يمنعه العجز الموكل بطبيعة البشر عن استيعابه، وبلوغ أقصاه، أو يشغله عنه بنقائص تعوقه عن التماس الغاية القصوى من الفضائل البشرية.
مسألة سأل سائل عن النظم والنثر
وعن مرتبة كل واحد منهما، ومزية أحدهما، ونسبة هذا إلى هذا، وعن طبقات الناس فيهما؛ فقد قدم الأكثرون النظم على النثر، ولم يحتجوا فيه بظاهر القول، وأفادوا مع ذلك به، وجانبوا خفيات الحقيقة فيه، وقدم الأقلون النثر، وحاولوا الحجاج فيه.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النظم والنثر نوعان قسيمان تحت الكلام، والكلام جنس لهما.
وإنما تصح القسمة هكذا: الكلام ينقسم إلى المنظوم وغير المنظوم.
وغير المنظوم ينقسم إلى المسجوع.
ولا يزال ينقسم كذلك حتى ينتهي إلى آخر أنواعه.
ومثال ذلك مما جرت به عادتك أن تقول: الكلام بما هو جنس يجري مجرى قولك الحي.
فكما أن الحي ينقسم إلى الناطق وغير الناطق.
ثم إن غير الناطق ينقسم إلى الطائر وغير الطائر.
ولا تزال تقسمه حتى ينتهي إلى آخر أنواعه.
ولما كان الناطق والطائر يشتركان في الحي الذي هو جنس لهما، ثم ينفصل الناطق عن الطائر بفضل النطق - فكذلك النظم والنثر يشتركان في الكلام الذي هو جنس لهما، ثم ينفصل النظم عن النثر بفضل الوزن الذي به صار المنظوم منظوماً.
ولما كان الوزن حلية زائدة، وصورة فاضلة على النثر صار الشعر أفضل من النثر من جهة الوزن.
فإن اعتبرت المعاني مشتركة بين النظم والنثر.
وليس من هذه الجهة تميز أحدهما من الآخر، بل يكون كل واحد منهما صدقاً مرة، وكذباً مرة، وصحيحاً مرة، وسقيماً أخرى.
ومثال النظم من الكلام مثال اللحن من النظم، فكما أن اللحن يكتسي منه النظم صورة زائدة على ما كان له، كذلك صفة النظم الذي يكتسى منه الكلام صورة زائدة على ما كان له.
وقد أفصح أبو تمام عن هذا حين قال:
هي جوهر نثر فإن ألفته ... بالنظم صار قلائداً وعقوداً.
مسألة لم صار الحظر يثقل على الإنسان
؟وكذا الأمر إذا ورد أخذ بالمخنق، وسد الكظم
وقد علمت أن نظام العالم يقتضي الأمر والنهي، ولا يتمان إلا بآمر وناه، ومأمور ومنهي.وهذه أركان ودعائم.
ولكن ههنا مكتومة بالإشراف عليها يكمل الإنسان فيعرف الملتبس من
المتخلص.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الأمر الذي أومأت إليه والحظر
إنما يقعان في جنس الشهوات التي تجمح بالإنسان إلى القبائح، وبلزوم
الأعمال التي فيها مشقة وتؤدى إلى المصالح.
ولما كان الإنسان ميله بالطبع إلى تعجل الشهوات غير ناظر في أعقاب يومه،
وإلى الهويني والراحة في عاجل اليوم دون ما يكسب الراحة طول الدهر - ثقل
عليه حظر شهواته، والأمر الذي يرد عليه بالأعمال التي فيها مشقة.
وهذه حال لازمة للإنسان منذ الطفولة؛ فإن أثقل الأشياء عليه منع والديه
مأربه، وأخذهما إياه بلف الأعمال النافعة، ثم إذا كمل صار أثقل الناس عليه
طبيبه ومعالجه، ونصيحه في المشوره، وسلطانه الذي يأخذه بمنافعه ومصالحه.
وهذه حال الناس المنقادين لشهواتهم، المتبعين لأهوائهم.
وقد يقع فيهم الجيد الطبع، الصحيح الروية، القوى العزيمة فلا يأتي من
الأمور إلا أجملها، قامعاً لهواه، متحملاً ثقل مئونة ذلك؛ لما ينتظره من
حسن العاقبة وإحمادها.
ومثل هذا قليل، بل أقل من القليل، وليس إلى أمثاله يوجه الخطاب بالأمر
والنهى، ولا إياه خوف بالوعد والوعيد، وأنذر العذاب الأليم.
مسألة ما السبب في أن الخطيب على المنبر
وبين السماطين وفي يوم المحفل - يعتريه من الحصر والتتعتع والخجل في شيء
قد حفظه وأتقنه، ووثق بحسنه ونقائه؟ أتراه ما الذي يستشعر حتى يضل ذهنه، ويعصيه لسانه، ويتحير باله، ويملك عليه أمره.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن انصراف النفس بالفكر إلى جهة من الجهات يعوقه عن التصرف في غيرها من الجهات، ولذلك لا يقدر أحد أن يجمع بين الفكر في مسألة هندسية وأخرى نحوية أو شعرية.
بل لا يتمكن أحد من تدبير أمر دنيوي وآخر أخروي في حال واحدة.
ومن تعاطى ذلك فإنما يقطع لكل واحد جزءاً من الزمان وإن قل.
فأما أن يكون زمان هذا هو بعينه زمان هذا فلا.
وإنما عرض لنا هذا - معاشر الناس - لأجل التباسنا بالهيولى، واستعمال النفس للمادة والآلة.
والأمر في ذلك واضح بين مشاهد بالضرورة.
ولما كان الفكر يوم الحفل منصرفاً إلى ما ينصرف إليه من الناس عيب إن وجدوا، وتقصير إن حفظوا - اشتغل الإنسان بتخوف هذه الحال، وأخذ الحذر منها فكان هذا عائقاً عن الأفعال التي تخص هذا المكان.
وهذا الاضطراب من النفس هو الذي يجعل الآلات مضطربة حتى تحدث فيها حركات مختلفة على غير نظام، أعني التتعتع وما أشبهه، وذلك أن مستعمل الآلة إذا اضطرب تبعه اضطراب آلته لا محالة.
مسألة وما السبب في خجل النار إليه وحياء الواقف عليه
خاصة إذا كان منه بسبب، وضمهما نسب، ورجعا إلى حال جامعة، ومذهب مشترك وما الفاصل من المنظور إليه إلى الناظر؟ وما الواصل من المتكلم إلى السامع حتى يغضي طرفه حياله، ويسد أذنه.هذا شيء قد شاهدته؛ بل قد دفعت إليه.
وإنما التأمت المسألة بالحادثة لأن التعجب تمكن، والاستطراف ثبت إلى أن وقف على السبب الجالب، والأمر الغالب.
وعند ظهور العلة يثبت الحكم، وبانكشاف الغطاء ينقطع ولوع المستكشف.
فسبحان من له هذه اللطائف المطوية وهذه الخبيئات الملوية عن العقول الزكية، والأذهان الذكية.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ينبغي أن نعيد ذكر السبب في الحياء والخجل ذكراً مجملاً فنقول: إن الحياء هو انحصار يلحق الناس خوفاً من قبيح.
فإذا كان هذا هو الحياء فإن الإنسان إذا كان بسبب من المتكلم لحق نفسه من العارض قريب مما يلحق المتكلم؛ لأنه يخشي من وقوع أمر قبيح منه، أو كلام يعاب عليه مثل ما يخشاه المتكلم.
وقد كنا أومأنا فيما سبق إلى أن النفس واحدة وإنما تتكثر بالمواد.
ولولا ذلك لما كان لأحد سبيل إلى أن ينقل ما في نفسه إلى نفس غيره بالإفهام وفيما مر من ذلك فيما مضى كفاية؛ لأن ما يحتاج إليه ههنا هو أن يظهر أن القبيح الذي يختص بزيد يعم عمراً أيضاً من جهة وإن كان عمرو غريباً من زيد فكيف إذا ضمه وإياه سبب أو نسب.
وليس يحتاج أن ينفصل من المنظور إلى الناظر شيء؛ لأن أفعال النفس
وآثارها لا تكون على هذه الطريقة الحسية والجسمية، لا سيما واستشعار كل
واحد من المتكلم والسامع استشعار واحد في تخوف القبيح، والحذر من الزلل
والخطأ؛ فإن هذا الاستشعار يعرض منه الحياء والخجل كما قلنا.
ومتى غلب على ظن السامع أن المتكلم يسيء ويزيغ صار خوفه وحذره يقيناً أو
شبيهاً باليقين فعظم العارض له من الحياء حتى يلحقه ما ذكرت من الحركة
المضطربة.
وكذلك حال المتكلم إذا لم يثق بنفسه، أو لم تكن له عادة بالوقوف في ذلك
المقام، والكلام فيه، فإن حذره يشتد، وحياءه يكثر، وبزيادة الحياء يزداد
الاضطراب، ويمتنع القدر من الكلام الذي تسمح به النفس عند توفر قوتها،
واجتماع بالها، وسكون جأشها، وهدوء حركاتها.
المسألة ما علة كراهية النفس الحديث المعاد
؟وما سبب ثقل إعادة الحديث على المستعاد؟ وليس فيه في الحال الثانية إلا ما فيه في الحالة الأولى، فإن كان فارق بينهما فما هو؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس تأخذ من الأخبار المستطرفة والأحاديث الغريبة عندها شبيهاً بما يأخذه من أقواته، وما حصلته النفس من المعارف والعلوم، فإعادته عليها بمنزلة الغذاء من الجسم الذي اكتفى منه.
فإذا أعيد عليه غذاء هو الأول ثقل عليه، واستعفى منه.
فكذلك حال النفس في المعارف.
وينبغي أن تؤخذ هذه الأمثلة التي أوردتها عن الأجسام على ما ليس بالجسم أخذاً لطيفاً لا يحصل منه ظل في تلك الأمور الشريفة فيفسد على الإنسان تخيله، ويذهب وهمه منه مذهباً غير لائق بالمعنى المقصود.
وأرجو أن يكفي الناظر في المسائل ما حددته فإني إنما أجبت من له قدم في هذه العلوم، وتحرم بها.
وينبغي لمن لم تكن له هذه الرتبة ان يرتاض أولاً بهذه العلوم ارتياضاً جيداً، ثم ينظر في هذه الأجوبة إن شاء الله.
مسألة سألني سائل فقال هل يجوز أن ترد الشريعة من قبل الله
تعالى - بما يأباه العقل، ويخالفه ويكرهه، ولا يجيزه كذبح الحيوانات، وكإيجاب الدية على العاقلة.وقد جهزت المسألة إليك، ووجهت أملي في الجواب عنها نحوك.
وأنت المدخر لغريب العلم، ومكنون الحكمة.
فإن تفضلت بالجواب وإلا عرضت عليك ما قلت للسائل، ورويت ما دار بيني وبين المجادل، فإن كان سديداً عرفتنيه، وإن كان ضعيفاً نصحتني فيه.
فالعلم بعيد الساحل، عميق الغور، شديد الموج.
ولولا فضل الله العظيم على هذا الخلق الضعيف لما وقف على شيء، ولا نظر في شيء، لكنه لطيف بعباده، رءوف يبتدىء بالنعمة قبل المسألة، وبالخير قبل التعرض.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ليس يجوز أن ترد الشريعة من قبل الله - تعالى - بما يأباه العقل ويخالفه، ولكن الشاك في هذه المواضع لا يعرف شرائط العقل، وما يأباه.
فهو - أبداً - يخلطه بالعادات، ويظن أن تأبى الطباع من شيء هو مخالفة العقل.
وقد سمعت كثيراً من الناس يتشككون بهذه الشكوك، وحضرت خصوماتهم وجدالهم فلم يتعدوا ما ذكرته.
وينبغي أن نوطىء للجواب توطئة من كلام نبين فيه الفرق بين ما يأباه العقل وبين ما يأباه الطبع، ويتكرهه الإنسان بالعادة فنقول: إن العقل إذا أبى شيئاً فهو أبدى الإباء له، لا يجوز أن يتغير في وقت، ولا يصير بغير تلك الحال.
وهكذا جميع ما يستحسنه العقل أو يستقبحه.
وبالجملة فإن جميع قضايا العقل هي أبدية واجبة على حال واحدة أزلية، لا يجوز أن يتغير عن حاله.
وهذا أمر مسلم غير مدفوع، ولا مشكوك فيه.
فاما أمر الطبع والعادة فقد يتغير بتغير الأحوال والأسباب والزمان والعادات.
وأعني بقولي الطبع طبع الحيوان والإنسان، لا الطبيعة المطلقة الأولى.
وذاك أن اسم الطبيعة مشترك.
فقد بينا ما أردنا بالطبع.
وإذا كان ذلك بيناً من الأمثلة والأحوال المقر فإنا نعود فنقول: إذا ذبح الحيوان ليس من الأشياء التي يأباها العقل وينكرها؛ بل هو من القبيل الآخر، أعني من الأشياء التي يأباها بعض الطباع بالعادة.
ولو كان مما يأباه العقل لكان أبدياً لا يرضاه في وقت، ولا يأمره به، ولا يأنس له.
ونحن نشاهد من يأبى قتل الحيوان لأن عادته لم تجر به، ومتى جرت به عادته هان عليه، وسهل فعله، وجرى مجرى سائر الأفعال عند أصحابه.
وأنت ترى القصاب والجزار بل مشاهدي الحروب يهون عليهم ما يصعب
على غيرهم.
وأيضاً فإن الحيوان الذي يألم بمرض لا يعرف علاجه إذا أشفق عليه العاقل،
وكره مقاساته لما لا علاج له يأمر بذبحه؛ ليكون خلاصة في الموت الوحي.
أفترى العقل الذي أمر بذبحه يستحسن ما كان مستقبحاً له؟ أم تغير فعله
الأبدي بطارىء طرأ، وحادث حدث؟ مع اعترافنا بأن العقل ليس من شأنه ذلك؛
لأنه جوهر أبدي، وجوهره هو حكمه، ولذلك هو أبدي الحكم.
فإننا لا نظن بأن حكم العقل على العدد والهندسة وسائر البراهين الطبيعية
تغير عما كان عليه منذ عشرة آلاف سنة، أو يتغير إلى مثل هذا الزمان، أو
أكثر أو أقل، بل نثق بأنه أبداً كان ويكون على وتيرة واحدة.
فأما الأمور التي تستقبح مرة، وتستحسن أخرى، وتتأبى تارة، وتتقبل ثانية
فإنما لها أسباب أخر غير العقل المجرد.
فإن السياسات أبداً يعترض فيها ذلك، وأمراض الأبدان والأمور غير الأبدية
كلها - أبداً - معرضة للتغير، ويتغير الحكم بتغيرها؛ بل لا يجوز أن تبقى
لازمة بحال واحدة؛ لأنها أبداً في السيلان والدثور للزوم الحركة إياها.
والحركة نفسها هي تغير الأشياء المتحركة إذ كلها متغيرة.
وكذلك الزمان وما تعلق به هو يتغير بتغيره.
وما يعرض للإنسان من كراهية ذبح الحيوان إنما هو لمشاركته إياه في
الحيوانية، ويخطر بباله عند مكروه ينال البهيمة أن مثل ذلك المكروه سيناله
لمشاركته إياه في الحيوانية، فيحدث له من النفور عند هذا الخاطر ما يحدث
لكل حيوان إذا تصور مكروهاً، حتى إذا أنس بذلك الفعل زال عنه ذلك النفور،
وصار الذبح والتقصيب يجري عنه مجرى برى القلم، ونحت الخشب وكذلك حال من
شاهد الحروب - وأنس بها عند العراء المستوحش منها.
وههنا حال أخرى أبين مما ذكرته، وهي أن العقل قد حسن عند الإنسان إذا حصل
في مكروه غليظ من الأعداء كمن يرى في أهله وولده ما لا يطيق مشاهدته - أن
يبذل نفسه للقتل، ويجتاز الموت الجميل على الحياة القبيحة.
وهذه الرخصة من العقل مستمرة في كل حال يقبح بالإنسان ان يعيش فيها.
أعني أن يختار الموت عليها.
فالجواب إذن عن أمثال هذه المسائل أن يقال: إن العقل لا يستحسن ولا يستقبح
شيئاً منها إلا بقرائن وشرائط.
فأما هذا الفعل بعينه وحده فلا يتأباه ولا يتقبله، أعني لا يحكم فيه بحكم
أبدي أولى كأحكامه التي عرفناها وأحطنا بها.
وهكذا الحال في الأشياء التي تعرف بالخير والشر، فإن كثيراً من الجهال
يعتقد أن الأشياء كلها منقسمة إلى هذين.
وليس الأمر كذلك.
فإن اليسار والتمكن من الدنيا ليس بخير ولا شر حتى ينظر في ماذا يستعمله
صاحبه: فإن استعمل يساره وماله في الأشياء التي هي خير فإن يساره خير، وإن
استعمله في الشر فهو شر.
وكذلك كل شيء كان صالحاً للشيء ولضده فليس يطلق عليه أنه واحد منهما، بل
الأولى أن يقال: إنه يصلح لهما جميعاً كالآلات التي يصلح بها ويفسد فإن
الآلات لا توصف بأنها مصلحة ولا مفسدة، ولا تسمى أيضاً بالصلاح والفساد
إلا بعد أن تستعمل.
فهكذا يجب أن يقال في الأمور التي تستحسن أو تستقبح في أحوال، وبحسب عادات
إنها ليست حسنة عند العقل ولا قبيحة على الإطلاق حتى يتبين واضعها
ومستعملها وزمانها وأحوالها.
فإن القصاص إذا وقع عليه هذا الاسم حس لما فيه من حياة الناس، وإذا وقع
عليه اسم القتل بغير هذا الاعتبار صار قبيحاً لما فيه من تلف الحيوان.
وقد خرجت في هذه المسألة عن عادتي في هذا الكتاب من الاختصار والإيماء إلى
النكت لكثرة ما أسمعه من جهال المانوية ومن اغتر بأمثلتهم، وجنح إلى
أقاويلهم مصدقاً بالخديعة التي خلصوا بها إلى قلوب الأغمار من الناس حتى
عدلوا بهم عن الشرائع الصحيحة.
ولو أن واحداً منهم سئل عن القبيح والحس مطلقاً أو مقيداً لما عرفه إلا
على سبيل الاختلاط.
على انه لا يمتنع كل عاقل منهم إذا رأى حيواناً يضطرب ويطول ذماؤه في قروح
خارجه به، أو قولنج قد يئس من برئه، أو مهواه تردى فيها فتكسر منها - أن
يشير بذبحه وإن لم يتول ذلك بنفسه.
ولعل ضروباً من المكاره تلحق الحيوان إذا طال عمره ليست بدون ما ذكرناه
خلاصه منها بالموت الوحي لو فطن له.
وإنما لا يتولى الذبح بنفسه، ويشير على غيره به لأجل العادة والاستشعار
الذي لزمه.
ولو أن هذا العاقل منهم بلى بسلطان يعذبه عذاباً يريد به ان يأتي
على نفسه في زمان طويل ليذيقه العذاب، لبادر إلى الحكم بما يأباه قبل،
وتناول سم ساعة، أو سأل أن يراح من الحياة.
وكذلك لو فعل بولده، أو عترته، ما يكرهه لاختار الموت على رؤيته.
فكيف يكون المكروه مختاراً محبوباً والمستقبح مستحسناً من جهة العقل لولا
ما ذكرناه.
فقد ظهر الجواب عن هذه المسألة، وتبين أن كل ما كان قبيحاً في وقت دون وقت
لا يجوز ان ينسب إلى العقل المجرد، وإلى أحكامه الأولية الأزلية.
بل لا يقال فيه إنه قبيح ولا حسن على الإطلاق.
وإنما ينسب إلى الطباع والعادات، ثم يقال قبيح بحسب كيت وكيت، وحسن لكذا
وكذا مقيداً غير مطلق، ولا منسوب إلى العقل المجرد.
فأما الدية التي على العاقلة، فقد تكلم الناس في وجه السياسة بها.
ووجه حسنها بين لا سيما والمسألة المتقدمة قد أوضحتها، وبينت وجه الصواب
في أمثالها من الشبه.
مسألة قال أحمد بن عبد الوهاب في جواب أبي عثمان الجاحظ
عن التربيع والتدوير: لا يقدر أحد أن يكذب كذباً لا صدق فيه من جهة من الجهات، وهو يقدر أن يصدق صدقاً لا كذب فيه من جهة من الجهات.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن كان الصدق والكذب إنما يقعان في الخبر خاصة من بين أقسام الكلام.
والخبر الذي يسميه المنطقيون: القول الجازم، وهو الذي تقع فيه الفوائد.
وكانت أقسامه هي التي تكلم عليها أهل هذه الصناعة - فإن الخبر قد يكون كذباً محضاً كما يكون صدقاً محضاً.
وإن كان ذهب أحمد بن عبد الوهاب في الصدق والكذب إلى غير ما عرفه هؤلاء وتكلموا عليه فإني غير محصل له، ولا متكلم عليه.
مسألة ذكرت في هذه المسألة مسألة ذكرها أبو زيد البلخي حاكيا
ًومر أيضاً بجوابها راوياً
قال أبو زيد الفلسفي البلخي: قيل لبعض الحكماء ما معنى سكون النفس الفاضلة إلى الصدق، ونفورها عن الكذب؟ فقال: العلة في ذلك كيت وكيت.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما تسكن النفس الفاضلة إلى ما كان من الخبر مقبولاً، إما بوجوب مما اقتضاه دليل من برهان أو إقناع قوى، وما لم يكن كذلك فإن النفس - لا محالة - ترده وتأباه.
وأظن صاحب المسألة إنما أراد من هذه المسألة: كيف صارت النفس تسكن إلى الحق بالقول المرسل؟ فالجواب: أن النفس إنما تتحرك حركتها الخاصة بها - أعني إجالة الروية - طلباً للحق لتصيبه.
ولولا طلبها لما تحركت، ولولا حركتها هذه لما كانت حية تفيد الجسم أيضاً الحياة.
فالنفس بهذه الحركة الدائمة الذاتية حية.
بل الحياة هي هذه الحركة من النفس، وهي ذاتية لها كما قلنا.
وأنت تعرف ذلك قريباً من انك لا تقدر ان تعطلها من الروية والفكر لحظة واحدة؛ لأنها - أبداً - إما مروية جائلة في المحسوس، أو مروية جائلة في المعقول بلا فتور أبداً.
وكذلك هي دائمة الحركة.
وهذه الحركة إنما هي تلقاء أمر ما.
أعني به إصابة الحق فإذا أصابته سكنت من ذلك الوجه.
ولا تزال تتحرك حتى تصيب الحق من الوجوه التي تمكن إصابته منها.
فإذا أصابته سكنت؛ لأن غاية كل متحرك أن يسكن عند بلوغه الغاية التي تحرك إليها.
ولعلك تقف من هذا الإيماء على غور بعيداً جداً.
أعانك الله - تعالى - عليه بلطفه.
مسألة قال أحمد بن عبد الوهاب في معاياة الجاحظ
لم صار الحيوان يتولد في النبات، ولا يتولد النبات في الحيوان؟ أي قد تتولد الدودة في الشجرة، ولا تنبت شجرة في حيوان.فلم لم يجب؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الحيوان يحتاج في وجوده إلى وجود النبات، والنبات لا يحتاج في وجود إلى وجود الحيوان.
والسبب في ذلك أن الحيوان أكثر تركيباً من النبات؛ لأنه مركب منه ومن جواهر أخر، أعني النفس الحيوانية، ولذلك يكون الحيوان في أول تكونه نباتاً، ثم تحصل من بعد حركة الحيوان.
وحصول أثر النفس في الإنسان إنما يكون بعد أن تستتم في الرحم صورة النبات.
ويكون استمداده الغذاء به هناك بعروق متصلة برحم أمه شبيهة بعروق النبات، حتى إذا استكمل أيضاً صورة الحيوان، وحصلت له النفس الحيوانية تقطعت تلك العروق، وهو الطلق الذي يلحق الأم، ويحرك الولد للخروج.
فإذا خرج وتنفس في الهواء فتح فمه واغتذى به.
ولا يزال تكمل فيه صورة الحيوان إلى أن يقبل أثر النفس الناطقة،
ثم يكمل بها ويصير إنساناً بقدرة الله - تعالى - ولطف حكمته - جل اسمه -
فالنبات - كما ذكرنا - أبسط وأقدم وجوداً من الحيوان.
أعني أنه لا يحتاج في وجوده إلى وجود الحيوان.
فهو يكتفي بمادته من الأرض والهواء والماء والحرارة التي تأتيه من الشمس
حتى يتم ويحصل وجوده.
فأما الحيوان فلا يكتفي بتلك الأشياء حتى تنضاف إليها مادة أخرى تغذوه؛ إذ
كان لا يكتفي بالبسائط من الماء والأرض والهواء، ويحتاج إلى النبات حتى
يغذوه، ويكمل وجوده، ويحفظ عليه قوامه.
فإذا كان وجوده وقوامه بالنبات جاز أن يتولد فيه.
ولما كان وجود النبات يتم بغيره، ولا يحتاج إليه لم يتولد فيه.
ولو تولد النبات في الحيوان - مع أنه لا يغذوه ولا يحتاج إليه، والطبيعة
لا تفعل شيئاً باطلاً ولا لغواً - لأفسد الحيوان، وفسد هو في ذاته: أما
إفساده الحيوان، فلحاجته إلى ما يصرف فيه عروقه التي يمتص بها مادته التي
تحفظ عليه ذاته، وتعوضه مما يتحلل منه، ومتى ضروب عروقه في بدن الحيوان
تفرق اتصاله، وفي تفرق اتصال بدن الحي هلاكه.
وأما هلاكه في نفسه وفساده فلأنه لا يجد الماء البسيط، والأرض البسيطة،
والهواء الذي منه قوامه ومادته، فإن الحيوان لا توجد فيه هذه البسائط
بالفعل.
وهذا كاف في هذه المسألة.
مسألة ما سبب تساوي الناس في طلب الكيمياء
حتى إنك لتجد الغني في غناه، والمتوسط في توسطه، والفقير في فقره، على شيمة واحدة؟ وما هو أولاً؟ وهل له حقيقة؟ فقد طال خوض الخائضين فيه، وكثر كلام الناس عليه، واصطرع الحق والباطل، والخطأ والصواب، والإحالة فيه.فكأن الذي يثبته غير متحقق به، والذي يدفعه غير ساكن إلى دفعه وإبطاله.
هذا، وقد تمت من الناس به حيل على الناس.
ومتى وقفت على هذه المسألة وقفت من الحقائق على غيب شريف، ومعنى لطيف.
وهل ما يعزى إلى جابر بن حيان حق، ولم يسند لخالد بن يزيد أصل؟ وهل يسلم مثل هذا النوع في الموضوع المختلق، والمفتعل المخترق؟ وإذا اشتبه الأمر هذا الاشتباه كيف نخلص إلى ما يرفع الريب، ويؤيد اليقين؟ فقد رأيت ورأينا ناساً اختلفت بهم أحوال، وتقلبت عليهم أمور بتصديق هذا الباب وتكذيبه.
وأطرف ما رأى فيه حلاوة الحديث، وخلا به المتحدث بذكره، وميل النفوس إليه حتى إن المكذب ليفرغ له باله، ويصغي أذنه، ويخلي ذهنه من غير أن يحلى بطائل، أو يحظى بنائل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما سبب طلب الناس الكيمياء فظاهر بين، وهو أنهم حريصون على جميع المتع والشهوات المختلفة في المأكل والمشرب والمنكح والنزه التي تقتسم بين الحواس.
ومحبة الاستكثار والاستبداد، والنهم على الجمع والادخار شيء في الطبيعة.
وليس يوصل إلى جميع ذلك إلا بالذهب والفضة؛ لأنهما بإزاء جميع المآرب على اختلافها.
وكل إنسان يعلم أنه متى حصلهما أو واحداً منهما فقد حصل جميع المآرب على كثرتها متى هم بها وأرادها.
ومع ذلك فهو يعدها ذخراً لولده، ولأوقات شدته التي تلحقه من فجائع الدنيا ومحنها.
فبهذين الحجرين يتوصل إلى جميع ما ذكرناه، ويدفع جميع الشر والمحن أيضاً بهما.
فهذا سبب طلب الناس لهما، وحرصهم عليهما.
وليس يوصل إليهما إلا بالمخاطرات الكثيرة، وركوب الأهوال، وتجشم الأعمال الصعبة، وغير ذلك.
ثم هما معرضان للآفات والمتسلطين، وأهل العيث، وهما من هذه الجهة - إن صحت - أسهل شيء وأهونه.
فأما قوله: ما هو؟ وهل له حقيقة؟ فإن البحث المستقيم أن نبأ أولاً بهل هو، ثم بما هو.
وإذا بحثنا عن هل هو وجدنا الأمر فيه مشكلاً يحتاج فيه إلى أخذ مقدمات كثيرة طبيعية وصناعية.
وينبغي أن نورد شكوك الناس في تلك المقدمات، واحتياج من يروم حلها من مثبتي الصناعة فقد أكثروا في ذلك.
ثم نروم نحن النظر فيها.
وقد اختلفت المتقدمون من الفلاسفة في ذلك والمتأخرون.
وآخر من تكلم على بطلان الكيمياء، وإبطال دعاوي أصحابها يوسف بن إسحاق الكندي وكتابه مشهور في ذلك.
ورد عليه محمد بن زكريا الرزي وكتابه معروف.
ثم قد شاهدنا في أهل عصرنا جماعة يثبتون هذه الصناعة، والأكثرون يبطلونها.
فأما المتكلمون وطبقاتهم من أصناف الناس فمجمعون على إبطالها؛
لأنهم يزعمون أن في ذلك إبطال معجزات الأنبياء - صلوات الله عليهم - إذ
كان ما يدعونه قلب الأعيان، وهو لا يصح عندهم إلا على يد نبي حسب.
وإن الله - عز وجل - هو القادر على قلب الأعيان دون مخلوقية.
ولكل حجج، وسننظر فيها نظراً شافياً، ونورد أقاويل الجميع، ويكون بحثنا عن
ذلك بحث من قصده تعرف الحق دون الثمرة المرجوة من الكيمياء؛ فإن هذا هو
غاية من يتفلسف في نظره وبحثه، ولا نبالي بعد ذلك صح أم بطل؛ لئلا تدعونا
محبة صحته، ورجاؤنا إلى إثباته بخديعة النفس للهوى، أو نفيه على طريق
العصبية.
وفي هذا النظر طول لا يحتمله هذا الكتاب مع ما شرطنا فيه من الإيجاز، ولكن
سنفرد له مقالة كما فعلنا ذلك في مسألة العدل؛ لما طال الكلام فيها أدنى
طول.
وإذا فعلنا هذا في المقالة التي وعدنا بها نظرنا: فإن صحت لنا هليته
أتبعناها بالنظر في المائية، وإن بطل الأول بطل الثاني لا محالة.
مسألة قال أحمد بن عبد الوهاب في جواب التربيع والتدوير
لأبي عثمان الجاحظ: ما الفرق بين المستبهم والمستغلق
؟وهذا بين الجواب ولكني سقته ههنا لكيت وكيت.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: المستبهم من الأمور مرتبة زائدة على المستغلق، يدلك على ذلك الاشتقاق؛ فإن الاشتقاق ملائم للمعاني موافق لها، لأن صاحبه إنما يشتق لكل معنى من إسم وافق له لا محالة وإلا لم يكن لاشتقاقه معنى، ولا لتكلفة ذلك فائدة.
وليس يظن هذا بالميز منا فكيف بواضع اللغة.
ولما كان الغلق إنما يكون للباب، وما أغلق منه يرجى فتحه كذلك يكون حال ما شبه له، واشتق له اسم منه أو تصريف.
وأما المستبهم فلا يقال في الباب أبهمته إلا إذا تجاوزت حد الغلق إلى السد وما يجري مجراه، فالطمع فيه أقل.
فهذه حال المسائل والأمور المستغلقة المستبهمة تشبيهاً بالأبواب التي ذكرنا أحوالها.
مسألة حضرت مجلساً لبعض الرؤساء
فتدافع الحديث بأهله على جده وهزله، فتحدى بعضهم الحاضرين، وقال: والله ما أدري ما الذي سوغ للفقهاء أن يقول بعضهم في فرج واحد: هو حرام، ويقول الآخر فيه بعينه: هو حلال.
والفرج فرج، وكذلك المال مال.
نعم وكذلك في النفس وما بعدها: كلام: هذا يوجب قتل هذا، وصاحبه يمنع من قتله.
ويختلفون هذا الاختلاف الموحش، ويتحكمون التحكم القبيح، ويتبعون الهوى والشهوة، ويتسعون في طريق التأويل.
وليس هذا من فعل الدين والورع، ولا من أخلاق ذوى العقل والتحصيل.
هذا، وهم يزعمون أن الله - تعالى - قد بين الأحكام، ونصب الأعلام، وأفرد الخاص من العام، ولم يترك رطباً ولا يابساً إلا أودع كتابه، وضمن خطابه.
وهذه مسألة ليس يجب أن يكون مكانها في هذه الرسالة؛ لأنها ترد على الفقهاء، أو على المتكلمين الناصرين للدين.
لكني أحببت أن يكون في هذا الكتاب بعض ما يدل على أصول الشريعة.
وإن كان جل ما فيه منزوعاً من الطبيعة، ومأخوذاً من علية الفلاسفة، وأشياخ التجربة، وذوى الفضل من كل جنس ونحلة.
وعلى الله - تعالى - بلوغ الإرادة، والسلامة من طعن الحسدة.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما قول الفقهاء: إن الله - تعالى - بين الأحكام، ونصب الأعلام، ولم يترك رطباً ولا يابساً إلا في كتاب مبين - فكلام في غاية الصدق، ونهاية الصحة.
وكيف لا يكون كذلك وأنت لا تقدر أن تأتي بحكم لا أصل له من القرآن من تأويل يرجع إليه، أو نص ظاهر يقطع عليه، ثم لا يخلو مع ذلك من إنباء بغيب، وإخبار عما سلف من القرون، ومثل لما نوعد به، وإشارة إلى ما ننقلب إليه وتنبيه على ما نعمل به من سياسة دنيا ومصلحة آخرة.
فأما الذي سوغ للفقهاء أن يقولوا في شيء واحد إنه حلال وحرام فلأن ذلك الشيء ترك واجتهاد الناس فيه لمصلحة أخرى تتعلق على هذا الوجه بالناس، وذاك أن الاجتهاد لا يكون في الأحكام متساوياً، أعني أنه لا يؤدي إلى أمر واحد كما يكون ذلك في غير الأحكام من الأمور الواجبة.
وبيان هذا أن كل من اجتهد في إصابة الحق في أن الله - تعالى - واحد فطريقه واحد وهو - لا محالة - يجده إذا وفي النظر حقه، فإن عدل عن النظر الصحيح ضل وتاه، ولم يجد مطلوبه، واستحق الإرشاد أو العقوبة إن عاند.
وليس كذلك الإجتهاد في الأحكام؛ لأن بعض الأحكام يتغير بحسب
الزمان، وبحسب العادة، وعلى قدر مصالح الناس؛ لأن الأحكام موضوعة على
العدل الوضعي.
وربما كانت المصلحة اليوم في شيء وغداً في شيء آخر، وكانت لزيد مصلحة،
ولعمر مفسدة.
وعلى أن الاجتهاد الذي يجري مجرى التعبد واختيار الطاعة، أو لعموم المصلحة
في النظر والإجتهاد نفسه لا في الأمر المطلوب - ليس يضر فيه الخطأ بعد أن
يقع فيه الإجتهاد موقعه، مثال ذلك أن المراد من ضرب الكرة بالصولجان إنما
هو الرياضة بالحركة، فليس يضر أن يخطىء الكرة، ولا ينفع أن يصيبها، وإن
كان الحكم قد أمر بالضرب والإصابة؛ لأن غرضه كان في ذلك الأمر نفس الحركة
والرياضة.
وكذلك إن دفن حكيم في برية دفيناً وقال الناس: اطلبوه فمن جده فله كذا.
وكان غرضه في ذلك أن يجتهد الناس مقادير اجتهادهم؛ ليكون ذلك الطلب عائداً
لهم بمنفعة أخرى غير وجود الدفين.
فإنه لا يضر أيضاً في ذلك أن يخطىء الدفين، ولا ينفع أن يصيبه.
وإنما الفائدة في السعي والطلب، وقد حصلت للطائفتين جميعاً.
أعني الذين وجدوه والذين لم يجدوه.
وأصناف الاجتهادات والنظر الذي يجري هذا المجرى كثيرة؛ فمن ذلك كثير من
مسائل العدد والهندسة وسائر الموضوعات، ليس غرض الحكماء فيها وجود الغرض
الأقصى من استخراج ثمرتها، وإنما مرادهم أن ترتاض النفس بالنظر، وتتعود
الصبر على الروية والفكر إذا جريا على منهاج صحيح، ولتصير النفس ذات ملكة
وقنية للفكر الطويل، ومفارقة الحواس والأمور الجسمية، فإذا حصلت هذه
الفائدة فقد وجد الغرض الأقصى من النظر.
فما كان من الشرع متروكاً غير مبين فهو ما جرى منه هذا المجرى، وكان الغرض
فيه والمصلحة منه حصول النظر والاجتهاد حسب.
ثم ما أدى إليه الاختلاف كله صواب وكله حكمة.
وليس ينبغي أن يتعجب الإنسان من الشيء الواحد أن يكون حلالاً بحسب النظر
الشافعي، وحراماً بحسب نظر مالك، وأبي حنيفة؛ فإن الحلال والحرام في
الأحكام والأمور الشرعية ليس يجري مجرى الضدين، أو المتناقضين في الأمور
الطبيعية وما جرى مجراها؛ لأن تلك لا يستحيل أن يكون الشيء الواحد منها
حلالاً وحراماً بحسب حالين، أو شخصين، أو على ما ضربنا له المثل من ضرب
الكرة بالصولجان، ووجود دفين الحكيم على الوجه الذي اقتصصناه.
وإذا كان الأمر كذلك فينبغي للعاقل إذا نظر في شيء من أحكام الشرع وكان
صاحب اجتهاد، له أن ينظر - أعني أنه يكون عالماً بالقرآن وأحكامه،
وبالأخبار الصحيحة، والسنن المروية، والاجتماعات الصحيحة - أن يجتهد في
النظر، ثم يعمل بجسب اجتهاده ذلك.
ولغيره إذا كان في مثل مرتبته من المعرفة أن يجتهد، ويعمل بما يؤديه إليه
اجتهاده، وإن كان مخالفاً للأول، واثقاً بأن اجتهاده هو المطلوب منه، ولا
ضرر في الخلاف، اللهم إلا أن يكون ذلك الأمر المنظور فيه من غير هذا الضرب
الذي حكيناه، وضربنا له الأمثال.
مثل الأصول التي غاية النظر فيها هو إصابة الحق لا غير فإن هذا مطلب آخر،
وله نظر لا بد أن يؤدي إليه.
وكما أن الرياضة المطلوبة بصرب الصولجان وإصابة الكرة إنما كانت لأجل
الصحة، ثم لم يضر بعد حصول الرياضة التي حصلت بها الصحة كيف جرى الأمر في
الكرة: أصبناها أم أخطأناها، فكذلك الحال في الوجه الآخر.
أعني الذي لا بد من إصابة الحق فيه بعينه فإن مثله مثل الفصد الذي لا بد
في طلب الصحة من إصابته بعينه، وإخراج الدم دون غيره، ولا ينفع منه شيء
غيره.
وإذا حصلت هذين الطريقين من النظر، وأعطيتهما قسطهما من التمييز لم يعرض
لك العجب فيما حكيته من مسألتك، وخرج لك الجواب عنها صحيحاً إن شاء الله.
مسألة لم إذا عرفت العامة حال الملك في إيثار اللذة
وانهماكه على الشهوة، واسترساله في هوى النفس استهانت به، وإن كان سفاكاً للدماء، قتالاً للنفوس، ظلوماً للناس، مزيلاً للنعم؟ وإذا عرفت منه العقل والفضل والجد هابته، وجمعت أطرافها منه؟ ما شهادة الحال في هذه المسألة؛ فإن جوابها يشرح علماً فوق قدر المسألة؟.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الملك هو صناعة مقومة للمدنية، حاملة للناس على مصالحهم من شرائعهم وسياساتهم بالإيثار، وبالإكراه، وحافظة لمراتب الناس ومعايشهم لتجري على أفضل ما يمكن أن تجري عليه.
وإذا كانت هذه الصناعة في هذه الرتبة من العلو فينبغي أن يكون
صاحبها مقتنياً للفضائل كلها في نفسه؛ فإن من لم يقوم نفسه لم يقوم غيره،
فإذا تهرب في نفسه بحصول الفضائل له أمكن أن يهذب غيره.
وحصول فضائل النفس يكون أولاً بالعفة التي هي تقويم القوة الشهوية حتى لا
تنازع إلى ما لا ينبغي، وتكون حركتها إلى ما يجب، وكما يجب، وعلى الحال
التي تجب.
وثانياً تقويم القوة الغضبية حتى تعتدل هذه القوة أيضاً في حركتها،
فيستعملها كما ينبغي، وعلى من ينبغي، وفي الحال التي تنبغي، ويعدلها في
طلب الكرامة، واحتمال الأذى، والصبر على الهوان بوجه وجه، والنزاع إلى
الكرامة على القدر الذي ينبغي، وعلى الشرائط التي وصفت في كتب الأخلاق.
وإذا اعتدلت هاتان القوتان في الإنسان فكانت حركتهما على ما يجب معتدلة من
غير إفراط ولا تقصير - حصلت له العدالة التي هي ثمرة الفضائل كلها.
وبحصول هذه الفضائل تقوى النفس الناطقة، وتستمر للإنسان الصورة الكمالية
التي يستحق بها أن يكون سائس مدينة، أو مدير بلد.
ومتى لم تحصل هذه له فينبغي أن يكون مسوساً بغيره، مدبراً بمن يقومه
ويعدله.
فأي شيء أقبح من عكس هذه الحال، وإجرائها على غير وجهها؟ وطباع الإنسانية
تأبى الاعوجاج في الأمور فكيف الانتكاس، وقلب الأشياء عن جهاتها؟ فأما
قولك: وإن كان الملك ذا بطش شديد، وعسف كثير بسفك الدماء، وانتهاك الحرم
فهذه حال تنقصه من شروط الملك ولا تزيد فيه، وهو بأن يسقط من عين رعيته
أقرب؛ إذ كانت شريطة الملك أن يستعمل هذه الأشياء على ما ينبغي، وعلى جميع
الشرائط التي قدمت.
وهل هذا إلا مثل طبيب يدعى أنه يبرى من جميع العلل، ويتضمن بسلامة الأبدان
على اختلاف أمزجتها، وحفظها على اعتدالاتها، ثم إذا نظر يوجد مسقاماً،
مختلف المزاج بسوء التدبير.
ولما سئل، وتصفحت حاله جد من سوء البصيرة، وفساد التدبير لنفسه بحيث لا
ينتظر منه إصلاح مزاج بدنه، فكيف لا يعرض من مثل هذا الضحك والاستهزاء،
وكيف لا يستهين به من ليس بطبيب ولا يدعى هذه الصناعة إلا أنه على سيرة
جميلة في بدنه، وسياسة صالحة لنفسه؟ فإن اتفق لهذا المدعي أن يتغلب
ويتسلط، ويستدعي من الناس أن يتدبروا بتدبيره، فكيف لا يزداد الناس من
النفور عنه، والضحك منه؟ فهذا مثل صحيح، مطابق للمثل به.
فينبغي أن ينظر فيه؛ فإنه كاف فيما سألت عنه إن شاء الله.
مسألة لم صار من يطرب لغناء ويرتاح لسماع يمد يده
ويحرك رأسه، وربما قام وجال، ورقص ونعر صرخ، وربما عدا وهام.وليس هكذا من يخاف؛ فإنه يقشعر ويتقبض، ويواري شخصه، ويغيب أثره، ويخفض صوته، ويقل حديثه؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة قد تقدم الجواب عنها كلامنا في سبب السرور والغم حيث قلنا: إن النفس عند السرور تبسط الدم في العروق إلى ظاهر البدن، وإنها عند الغم تحصره، وبانحصار الحرارة إلى عمق البدن، وإلى منشئها من القلب ما يكثر هناك البخار الدخاني ويبرزه إلى ظاهر البدن واشتقاق اسم الغم يدل على معناه؛ لأن القلب يلحقه ما يلحق الشيء الحار إذا غم فيمنع ذلك الحرارة من الانتشار والظهور إلى سطح البدن؛ ولذلك يتنفس الإنسان عند الغم تنفساً شديداً كثيراً؛ لحاجة القلب إلى هواء يخرج عنه الفضلة الدخانية التي فيه، ويجلب له هواء آخر صافياً ينمي الحرارة ويروحها، كالحال في النار التي من خارج.
وهاتان الحالتان متلازمتان، أعني مزاج القلب، وحركة النفس، وذلك أنه عرض للنفس انقباض غارت الحرارة من أقطار البدن إلى عمقه.
وإن اتفق لمزاج البدن غؤور من الحرارة، وانحصار إلى ناحية القلب انقبضت النفس لأن أحدهما ملازم للآخر تابع له؛ ولهذا ظن قوم أن النفس مزاج ما، وظن آخرون أنها حال تابعة لمزاج البدن.
والخمر وما يجري مجراها من الأشربة والأدوية التي تبسط الحرارة بلطفها، وتنميها وتنشرها إلى ظاهر البدن - يعرض منها السرور والطرب، والأدوية التي تبرد البدن، وتقبض الحرارة يعرض منها ضد ذلك.
والمزاج السودوي معه - أبداً - الغم، والمزاج الدموي معه - أبداً - السرور.
وكما أن الأدوية والأغذية يعرض منها للمزاج هذا العارض، وتتبعه
حركة النفس، فكذلك الحديث والألحان، وصوت الآلات من الأوتار والمزامير -
تحرك النفس أيضاً، ويتبع ذلك حركة مزاج البدن؛ لإتصال المزاج بالنفس.
ولأنهما متلازمان يؤثر أحدهما في الآخر، ويتبع فعل أحدهما فعل الآخر.
مسألة لم صار الكذاب يصدق كثيراً، والصادق يذب نادراً؟
وهل ينتقل إلف الصدق إلى الكذب؟.
وهل يتحول إلف الكذب إلى الصدق أن يستحيل ذلك؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الصدق والكذب يجريان من النفس
مجرى الصحة والمرض؛ لأن الصدق لها صحة ما، والكذب مرض ما.
وأيضاً فإن الصدق من الخبر يجري مجرى الصحة، والكذب منه يجري مجرى المرض.
فكما أن الصحة من الجسم أكثر من المرض؛ لأن المرض إنما يكون في عضو أو
عضوين أو ثلاثة فكذلك الصحة في النفس أكثر من المرض؛ لأن المرض إنما يكون
منها في قوة أو قوتين، وفي خلق أو خلقين.
وكما أن الجسم لو كثرت أمراض أعضائه، أو لو توالت أمراض كثيرة على عضو منه
لأبطلته وأعدمته، فكذلك النفس لو كثرت امراض قواها، أو توالت أمراض كثيرة
على قوة واحدة لأهلكتها.
وإنما الاعتدال الموضوع لكل واحد من الجسم والنفس هو الذي يحفظ عليه
وجوده، فإن طرق واحداً منهما مرض في بعض الأحوال حتى يخرجه عن اعتداله
فإنما يكون ذلك في جزء من الأجزاء، وقوة من القوى، ثم يكون ذلك زماناً
يسيراً، ويرجع بعد ذلك إلى الاعتدال الموضوع له.
فأما إن توهم متوهم أن الأمراض تستولي على جميع أعضاء الجسم حتى لا يبقى
منه جزء صحيح، أو تتوالى أمراض كثيرة في زمان طويل متصل على عضو واحد فإن
ذلك وهم باطل؛ لأنه لو صح وهمه لبطل الجسم، أو ذلك العضو الذي توهم فيه.
والدليل على ذلك أن القلب لما كان مبدأ الحياة الذي منه تسري الحياة في
جميع البدن صار محفوظاً غاية الحفظ من الأمراض؛ لأنه لو عرض له مرض لسرى
ذلك المرض في جميع أجزاء البدن سريعاً، وعرض منه التلف السريع، والموت
الوحي.
وهذه حال النفس في اعتدالها ومرضها.
ولما كان الكذب يعطيها صورة مشوهة، أي صورة الشيء على خلاف ما هو به صار
المعطي والمعطي مريضين به؛ ولذلك لا يتكلف أحد ذلك، ولا يتعمده إلا لضرورة
داعية، أو لأنه يظن بذلك الكذب أنه نافع له أيضاً كما ينفع السم الجسم في
بعض الأحوال فيتجشم هذه السماجة على استكراه من نفسه، وربما تكرر منه ذلك
فصار عادة، كما تصير سائر القبائح أخلاقاً وعادات، وكما تصير المآكل
الضارة عادة سيئة لقوم.
وأيضاً فإن المعتاد للكذب إنما يتم له الكذب إذا خاطه بالصدق، وإذا سمع
أيضاً منه الصدق، وإلا لم يتم له الكذب أيضاً؛ لأن الباطل لا قوام له إلا
إذا امتزج بالحق.
فأما قولك: هل ينتقل من اعتاد الصدق على الكذب، أو من ألف الكذب إلى
الصدق؟ فلولا ان ذلك ممكن ومشاهد في الناس لما وضعت السنن ولا قوم
الأحداث، ولا عني الناس بتأديب أولادهم، ولا عاتب أحد أحداً، ولكن هذه
الأشياء شائعة في الناس، ظاهرة فيهم.
وقد بين ذلك في كتب الأخلاق، فإن أردت استقصاءه فخذه من هناك إن شاء الله.
مسألة ذكرت - أيدك الله - مسائل لا تستحق الجواب
من آراء العامة، وجهالات وقعت لهم مثل قولهم: إذا دخل الذباب في ثياب أحدهم يمرض، وقولهم: دية نملة تمرة، وإذا طنت أذن أحدهم قالوا كيت وكيت.وهذه المسائل وأشباهها إنما ينبغي أن يهزأ بها، ويتملح بإيرادها على طريق النادرة، فأما أن تطلب لها أجوبة فما أظن عاقلاً يعترف بها، فكيف نجيب عنها؟ والله يغفر لك ويصلحك.
مسألة ما الفرق بين العرافة والكهانة
والتنجيم والطرق، والعيافة، والزجر
؟وهل تشارك العرب في هذه الأشياء أمة أخرى أم لا؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الفرق بين العرافة والكهانة فهو أن العراف يخبر عن الأمور الماضية، والكاهن يخبر بالأمور المستقبلة.
وذلك أن العرافة معرفة الآثار، والاستدلال منها على مؤثرها.
والكهانة هي قوة في النفس تطالع الأمور الكائنة بتخليها عن الحواس.
ومرتبتها عالية على العرافة.
وقد تكلمنا عليها في كتابنا الذي سميناه الفوز عند ذكرنا الفرق بين النبي والمتنبي، وفي القوة التي يكون بها الوحي، وكيفية ذلك فخذه من هناك.
وأما الفرق بين التنجيم وما يجري مجرى الفأل فظاهر؛ لأن التنجيم
صناعة تتعرف بها حركات الأشخاص العالية وتأثيرها في الأشخاص السفلية.
وهي صناعة طبيعية، وإن كان قد حمل أكثر من طاقتها، أعني أن المنجم ربما
تضمن العلم من جزيئات الأمور ودقائقها ما لا يوصل إليه بهذه الصناعة فيخبر
بالكائنات على طريقة تأثير الشيء في مثله، وذلك ان الشمس إذا تحركت في
دورة واحدة من أدوارها أثرت فيها ضروباً من التأثير في هذا العالم وكذلك
كل كوكب من الكواكب له أثر بحركته ودورته وشعاعه الذي يصل إلى عالمنا هذا.
فالمنجم إنما يقول مثلاً: إن السنة الآتية تجتمع فيها دلائل الشمس وزحل
فتؤثر في عالمنا هذا أثراً مركباً من طبيعتي هاتين الحركتين فتكون حال
الهواء كيت وكيت.
وكذلك حال الاستقصات الأربع.
ولما كان الحيوان والنبات مركبين من هذه الطبائع وجب أن يكون كل ما أثر في
بسائطها يؤثر أيضاً في المركبات منها.
فتأثير النجوم في عالمنا تأثير طبيعي.
والمنجم يخبر بحسب ما يحسب من حركاتها وشعاعاتها الواصل إلينا آثارها
حكماً طبيعياً، وإن كان يغلط أحياناً بحسب دقة نظره، وكثرت الحركات
والمناسبات التي تجتمع من جملة الأفلاك والكواكب، وقبول ما يقبل من أجزاء
عالم الكون والفساد، وتلك الآثار مع اختلافها.
فأما أصحاب الفأل، وزجر الطير، وطرق الحصى، وما أشبه ذلك فإنها ظنون،
والصدق فيها يكون على طريق الاتفاق، والنادر، وليس تستند إلى أصل، ولا
يقوم عليها دليل؛ لأنها ليست طبيعية، ولا نفسانية، ولا إلهية، وإنما هي
اختيارات بحسب الأوهام والظنون، وهي تكذب كثيراً، وتصدق قليلاً، كما يعرض
ذلك لمن أخبر أن غداً يجىء المطر، أو يركب الأمير، بغير دليل ولا إقناع؛
بل تكلم بذلك، وأرسل الحكم به إرسالاً فربما صح ووافق أن يطايق الحقيقة،
وفي الأكثر يبطل ولا يصح.
والأمم تشارك العرب في هذه الأشياء، إلا أن العرب تختص من العرافة ومن زجر
الطير بأكثر مما في الأمم الأخر.
مسألة لم صارت أبواب البحث عن كل شيء موجود أربعة
؟وهي: هل، والثاني ما، والثالث أي، والرابع لم
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لأن هذه الأشياء الأربعة هي مبادىء جميع الموجودات وعللها الأول.والشكوك إنما تعرض في هذه، فإذا أحيط بها لم يبق وجه لدخول شك.
وذلك أن المبدأ الأول في وجود الشيء هو ثبات ذاته، أعني هويته التي يبحث عنها بهل، فإذا شك إنسان في هوية الشيء، أي في وجود ذاته لم يبحث عن شيء آخر من أمره.
فإذا زال عنه الشك في وجوده، وأثبت له ذاتاً وهوية جاز بعد ذلك أن يبحث عن المبدأ الثاني من وجوده وهو صورته، أعني نوعه الذي قومه، وصار به هو ما هو، وهذا هو البحث بما؛ لأن ما هي بحث عن النوع، والصورة المقومة.
فإذا حصل الإنسان في الشيء المحجوب عنه هذين، وهما: الوجود الأول والهوية التي بحث عنها بهل، والوجود الثاني وهو النوعية أعني الصورة المقومة التي بحث عنها بما - جاز أم يبحث عن الشيء الذي يميزه من غيره، أعني الفصل، وهذا هو المبدأ الثالث؛ لأن الذي يميزه من غيره هو الذي يبحث عنه بأي، أعني الفصل الذاتي له.
فإذا حصل من الشيء المبحوث عنه هذه المبادىء الثلاثة لم يبق في أمره ما يعترضه شك، وصح العلم به إلا حال كماله، والشيء الذي من أجله وجد، وهذه العلة الأخيرة التي تسمى الكمالية وهي أشرف العلل.
وأرسططاليس هو أول من نبه عليها واستخرجها، وذاك أن العلل الثلاث هي كلها خوادم وأسباب لهذه العلة الأخيرة، وكأنها كلها إنما وجدت لها ولأجلها.
وهذه التي يبحث عنها بلم.
فإذا عرف لم وجد، وما غرضه الأخير، أعني الذي وجد من اجله - انقطع البحث، وحصل العلم التام بالشيء، وزالت الشكوك كلها في أمره، ولم يبق وجه تتشوقه النفس بالروية فيه، والشوق إلى معرفته؛ لأن الإحاطة بجميع علله ومبادئه واقعة حاصلة، وليس للشك وجه يتطرق إليه، فلذلك صارت البحوث أربعة لا أقل ولا أكثر.
مسألة ما المعدوم؟ وكيف البحث عنه؟ وما فائدة الاختلاف فيه؟
وما الذي أطال المتكلمون الكلام في اسمه ومعناه؟ وهل لقولهم محصول؟ فإني ما رأيت مسألة لا تمكن من نفسها غيرها.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن المعدوم الذي يشير
إليه المتكلمون خاصة هو موجود بوجه من الوجوه؛ ولذلك صحت الإشارة إليه،
والكلام عليه.
ومثال ذلك أن زيداً إذا توهم معدوماً فإن صورته قائمة في وهم المتكلم على
عدمه.
وتلك الصورة له في الوهم هي وجود ماله.
وكذلك حال كل ما يتوهمونه معدوماً من جسم، أو عرض، أو حال، لا معدومة بل
ملحوظة.
والدليل على ذلك أنا لا نتوهم شيئاً معدوماً إلا نتصور له حالاً قد وجد
فيها، أو يوجد فيها، وصورته تلك قائمة في وهمنا، وهي وجود ما.
فأما المعدوم المطلق الذي لا يستند إلى شخص ما، ولا إلى عرض فيه، وحال له،
فإنه لا يضبط بوهم، ولا يتكلم عليه، ولا تصح مسألة أحد عنه؛ لأنه لا شيء
على الإطلاق.
وإنما تصح المسألة عن شيء ثم، تعرض له أحوال إما حاضرة فيه، أو منتظرة له؛
ولذلك زعم أكثر المتكلمين أن المعدوم هو شيء، وزعم بعضهم أنه لا شيء، أعني
أنهم لا يسمونه بشيء.
وإنما عرض لهم هذا الخلاف لأن منهم من لحظه من حيث الوهم، ومنهم من لحظة
من حيث الحس.
فمن لحظه في وهمه أثبته شيئاً، ومن لحظه من حسه لم يثبته شيئاً.
والدليل على أن المعدوم الذي يشيرون إليه هو ما ذكرناه، وعلى الحال التي
وصفناها - أن القوم إذا تعاوروا مسألة المعدوم سألوا عن الجوهر: هل هو في
العدم؟ وعن السواد هل هو سواد العدم؟ وكذلك جميع أمثلتهم إنما هي من أمور
محسوسة، إذا صارت غير محسوسة كيف تكون أحوالها؟ ثم يكون جوابهم عن ذلك بما
يتصور منه للنفس، ويقوم في الوهم، فيقولون في السواد الذي حقيقته أنه أثر
في البصر من مؤثر يعرض منه القبض: إنه في العدم أيضاً كذلك.
كأنهم يتوهمون أنه يفعل بالبصر وهو معدوم ما يفعله وهو موجود.
وإنما عرض لهم هذا الوهم لأن القوة التي ترتقي إليها الحواس تقبل شبيهاً
بالآثار التي تقبلها.
أي تحصل لها الصورة مجردة من المادة، وهذا هو العلم الحسي.
لو أمكنهم إثبات صورة عقلية ونفيها لتكلموا على الموجود العقلي، والمعدوم
العقلي.
ولو أمكنهم ذلك لجاز أن يسألوا أيضاً عن العدم المطلق: هل يشار إليه أم لا
يشار إليه؟ ولكن هذه الأمور غابت عنهم.
وإنما سألت عن مذاهبهم، وعما يسألون عنه، وقد خرج الجواب، ولاح لك بمشيئة
الله.
مسألة سمعت شيخاً من الأطباء يقول
أنا أفرح ببرء العليل على تدبيري، وأسر بذلك جداً.
قلت له: فما تعرف علة ذلك؟.
قال: لا.
فذكرت له ما يمر بك في الجواب إن شاء الله.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما فرح الطبيب بنفسه، وصحة
علمه؛ وذاك إنه إذا شاهد عليلاً احتاج أن يتعرف أولاً علته حتى يعملها على
الصحة والحقيقة.
فإذا علمها قابلها بضدها من الأدوية والأغذية فيكون ذلك سبباً لبرء العليل.
فالطبيب حينئذ يكون قد أصاب في معرفة العلة، ثم في مقابلتها بالدواء الذي
هو ضدها.
وهذه الإصابة والمعرفة هي الحال التي يلتمسها بعلمه، ويسعى لها طول زمان
درسه ورويته.
ومن شان النفس إذا تحركت نحو مطلوب حركة قوية في زمان طويل، بشوق شديد، ثم
ظفرت به فرحت له، ولحقها انبساط وسرور عجيب.
مسألة ثم قلت - أيدك الله - سئل ابن العميد
لم لم يتفق الناس في التعامل على المثامنة بالياقوت والجوهر، أو بالنحاس والحديد والرصاص دون الفضة والذهب؟ وما الذي قصرهم عليهما مع إمكان غيرهما أن يقوم مقامها، ويجري مجراهما؟.الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تبين أن الإنسان لا تتم له الحياة بالتفرد؛ لحاجته إلى المعاونات الكبيرة ممن يعد له الأغذية الموافقة، والأدوية، والكسوة، والمنزل والكن، وغير ذلك من سائر الأسباب التي بعضها ضرورية في المعيشة، وبعضها نافعة في تحسين العيش وتفضيله، حتى يكون لذيذاً أو جميلاً أو فاضلاً.
وليس يجرى الإنسان مجرى سائر الحيوانات التي أزيحت علتها في ضرورات عيشها وفيما تقوم به حياتها بالطبع.
فالاهتداء إلى الغذاء والرياش وغيرهما من حاجات بدنه؛ ولذلك أمد بالعقل، وأعين به ليستخدم به كل شيء، ويتوصل بمكانه إلى كل أرب.
ولما كان التعاون واجباً بالضرورة، والاجتماع الكثير طبيعياً في
بقاء الواحد - وجب لذلك أن يتمدن الناس، أي يجتمعوا ويتوزعوا الأعمال
والمهن ليتم من الجميع هذا الشيء المطلوب، أعني البقاء والحياة على أفضل
ما يمكن.
ولما فرضنا أن الاجتماع قد وقع، والتعاون قد حصل عرض أن النجار الذي يقطع
الخشب ويهيئه للحداد، والحداد الذي يقطع الحديد ويهيئه للحراث، وكذلك كل
واحد منهم إذا احتاج إلى صاحبه الذي عاونه قد يقع استغناء صاحبه عنه في
ذلك الوقت، فإن الحداد إذا احتاج إلى صناعته الحياكة، وصاحب الثوب غير
محتاج إلى صناعة الحداد وقف التعاون، ولم تدر المعاملة، وحصل كل واحد على
عمله الذي لا يجدي عليه فيما يضطر إليه من حاجات بدنه التي من أجلها وقع
التعاون، واحتيج لذلك إلى قيم للجماعة، ووكيل مشرف على أعمالهم ومهنهم،
موثوق بأمانته وعدالته؛ ليقبل الجميع أمره، ويصير حكمه جائزاً، وأمره
نافذاً مصدقاً، وأمانته صحيحة؛ ليأخذ من كل أحد، ويستوفي عليه قدر ما عاون
به، ويعطيه من معاونة غيره بقسطه من غير حيف.
وإنما يتم له ذلك بأن يقوم عمل كل واحد منهم ويحصله، ثم يعطيه بمقدار تعبه
وعمله من عمل الآخر الذي يلتمس معاونته.
وهذا الفعل أيضاً لا يتم لهذا القيم المستوفي أعمال الناس إلا بأن يأتيه
كل من عمل عملاً، فيعرضه عليه، ويأخذ منه علامة من طابع أو غيره يكون في
يده متى عرضه قبل ولم ينس، وعرفت صحة دعواه، وأعطى به من تعب غيره بمقدار.
ثم لما نظر في هذا الشيء الذي يحتمل أن يكون بهذه الصفة فلم يمكن أن يجعل
من الأشياء الموجودة دائماً، ومما يقدر كل أحد على تناوله، ومد اليد إليه؛
لئلا يحصله من لا يعمل عملاً، ولا يعين أحداً بكده، ويتوصل به إلى كد غيره
وتعبه فيؤدي إلى خلاف ما دبر لإتمام المدنية والتعاون، فوجب أن يكون هذا
الطابع من جوهر عزيز الوجود؛ ليمكن حفظه، والاحتياط عليه، ولا يصل إلا من
جهة ذلك القيم إلى مستحقه الذي يعرض عمله وكده، ووجب مع ذلك أن يكون مع
عزة وجوده غير قابل للفساد من الماء والنار والهواء بنحو ما يمكن ذلك في
عالمنا هذا؛ فإنه كان شيئاً مما يبتل بالماء، أو يحترق بالنار، أو تفسد
صورته بعض العناصر الأربع - لم يأمن صاحب التعب الكثير أن يحصله ثم يفسده
عنده، فيضيع عمله، ولا يصدق فيما أعان به، وكد فيه فوجب أن يكون هذا
الطابع حافظاً لصورته، خفيف المحمل مع ذلك، مأموناً عليه الفساد مدة طويلة
من الطبائع الأربع، ومن الفساد الذي يكون بالمهنة أيضاً كالكسر والرض
وغيرهما.
ولما تصفحت الموجودات لم يوجد شيء يجمع هذه الفضائل إلا الأشياء المعدنية،
ومن بين الأشياء المعدنية الجواهر التي تذوب بالنار، وتجمد بالهواء.
ومن بين هذه الذهب وحده؛ فإنه أبقاها وأعزها وأحفظها لصورته، وأسلمها على
النار والهواء والماء والأرض، وهو مع ذلك سليم على الكسر والقطع والرض
يعيد صورة نفسه بالذوب، ويحفظها من جميع عوارض الفساد زماناً طويلاً جداً.
فجعل صورة مقوماً للصنائع، وعلامة لهذا القيم، ثم احتيط عليه بأن طبع
بخاتمه وعلاماته.
كل ذلك خوفاً من توصل الأشرار إليه ممن يرتفق من عمل غيره، ولا يرفق غيره،
فإن هذا الفعل هو الظلم الذي يرتفع به التعاون، ويزول معه النظام، ويبطل
بسببه الاجتماع والتعايش.
ثم لما وجد هذا الجوهر جمع هذه الفضائل، ويحيط عليه ضروب الاحتياطات من أن
يصل إلى غير مستحقه - عرض فيه عارض آخر، وهو أن الذي عاون الناس بمعاونة
استحق بها شيئاً منه ربما احتاج إلى معاونة يسيرة لا تساوي تعبه الأول،
ولا تقرب منه، ولا تقرب منه.
مثال أنه ربما تعب الإنسان أما ليحصل لغيره عمل الرحى بمئونة وكلفة وحكمة
بليغة.
فإذا أعطى من هذا الجوهر قيمة عمله ثم احتاج إلى بقل أو خلال أو عرض يسير
لا يستطيع أن يعطيه شيئاً من الجوهر الذي عنده، ولا أقل القليل منه؛ لأن
الجزء اليسير جداً منه أكثر قيمة من العمل الذي يلتمسه من غيره.
فاحتيج لذلك إلى جوهر آخر تكون فضائله أنقص من الذهب؛ ليصير
خليفة له يعمل عمله، وإن كان دونه، فلم يوجد ما يجمع تلك الفضائل التي
حكيناها في الذهب شيء غير الفضة، فجعلت نائبة عنه ثم جعل كل واحد من الذهب
يساوي عشرة أضعافه من الفضة؛ لأن العشرة نهاية الآحاد فوجب لذلك أن تكون
قيمة الواحد من ذلك الجوهر عشرة أمثاله من هذا الجوهر.
فاما التفاوت الذي وقع بين صرف الدينار والدرهم، أعني أن صار منه الواحد
بخمسة عشر درهماً ونحوها، وهي المسألة التي جعلتها تالية لهذه المسألة -
فإنما ذلك لأجل التفاوت في الوزن بين المثقال والدرهم ثم لأجل الغش الذي
يكون في أحدهما.
والأمر محفوظ مع ذلك في أن الواحد من الذهب بإزاء عشرة من الفضة إذا كان
كل واحد منهما غير مشوب ولا مغشوش.
مسألة متى تصل النفس بالبدن؟ ومتى توجد فيه؟
أفي حال ما يكون جنيناً أم قبلها أم بعدها؟
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن اتصال النفس بالبدن، ووجودها
فيه ألفاظ متسع فيها.
والأولى أن يقال: ظهور أثر النفس في البدن على قدر استعداد البدن، وقبوله
إياه.
وإنما تحرزنا من تلك الألفاظ لأنها توهم أن لها اتصالاً عرضياً أو جسمياً
وكلا هذين غير مطلق على النفس.
والأشبه إذا عبرنا عن هذا المعنى أن تقول: إن النفس جوهر بسيط إذا حضر
مزاج مستعد لأن يقبل له أثراً كان ظهورك ذلك الأثر على حسب ذلك الاستعداد؛
لنسلم بهذه العبارة من ظن من زعم أن النفس تتقلب وتفعل أفعالها على سبيل
القصد والاختيار، أعني أنها تفعل في حال، وتمنع في أخرى؛ فإن هذا يجلب
كثيراً من الشكوك التي لا تليق بخصائص النفس وأفعالها.
وإذ قد تحققت هذه العبارة فنقول: إن النطفة التي يكون منها الجنين إذا
حصلت في الرحم الموافق كان أول ما يظهر فيه من أثر الطبيعة ما يظهر مثله
في الأشياء المعدنية.
أعني أن الحرارة اللطيفة تنضجه وتمخضه، وتعطيه - إذا امتزج بالماء الذي
يوافقه من شهوة الأنثى - صورة مركبة كما يكون ذلك في اللبن إذا مزج
بالإنفحة.
أعني أنه يثخن ويخثر، ثم تلج عليه الحرارة حتى يصير ملوناً بالجمرة فيصير
مضغة، ثم يستعد بعد لقبول أثر آخر: أعني أن المضغة تستمد الغذاء، وتتصل
بها عروق كعروق الشجر والنبات، فيأخذ من رحم أمه بتلك العروق ما تأخذه
عروق الشجر من تربته، فيظهر فيه أثر النفس النامية، أعني النباتية، ثم
يقوى هذا الأثر فيه، ويستحكم على الأيام حتى يكمل، وينتهي بعد ذلك إلى أن
يستعد لقبول الغذاء بغير العروق، أعني أنه ينتقل بحركته لتناول غذائه،
فيظهر فيه أثر الحيوان أولاً أولاً.
فإذا كمل استعداده لقبول هذا الأثر فارق موضعه، وقبل أثر النفس الحيوانية،
ثم لا يزال في مرتبة البهائم من الحيوان إلى أن يصير فيه استعداد لقبول
أثر النطق.
أعني التمييز والروية.
فحينئذ يظهر فيه أثر العقل، ثم لا يزال يقوى هذا الأثر فيه على قدر
استعداده وقبوله حتى يبلغ نهاية درجته وكماله من الإنسانية، ويشارف الدرجة
التي تعلو درجة الإنسان فيستعد لقبول أثر الملك.
فحينئذ يجب أن ينشأ النشأة الآخرة بحال أقوى من الحالة الأولى المتقدمة.
وهذا الكلام ليس يقتضي أن يقال فيه: متى تتصل وتنفصل، بل من شأن القائل له
أن يقال فيه: متى يستعد ويقبل.
وأما النفس فهي معطية للذات كل ما قبل أثرها بحسب قبوله واستعداده وتهيئه.
وقد تبين أنها تعطي البدن أحوالاً مختلفة، وصوراً متباينة قبل أن يكون
جنيناً، وبعد أن تتم الصورة الإنسانية ليس ينقطع أثر النفس من البدن ألبتة
على ضروب أحواله إلى أن يدور ضرب أدواره، وينتهي إلى غاية كماله.
ولا ينبغي أن يقال إنه يخلو منها في حال من أحواله، وإنما يقوى الأثر
ويضعف بحسب قبوله.
والسلام.
مسألة سئل بعضهم إذا فارقت النفس الجسد
هل تذكر من علومها شيئاً أم لا؟ فأجاب بأنها تذكر المعقول كله، ولا تذكر المحسوس.فزاد السائل بما يعرض للعليل من النسيان؟ أي كيف تذكر النفس معقولها إذا فارقت البدن وهي لا تذكر شيئاً منه إذا اعتل البدن، أو بعض أعضاء البدن؟ فأجاب بما سيمر بك.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما يظهر أثر النفس في البدن بحسب حاجة البدن، وعلى قياس ما حكيناه من حالاته في الترقي من حال إلى حال.
والتذكر إنما هو إحضار صور المحسوسات من قوة الذكر إلى قوة
الخيال.
وهاتان القوتان جميعاً إنما تحصلان صور المحسوسات من الحواس أولاً في
حواملها من الأجسام الطبيعية، ثم تحصلانها بسيطاً في غير حامل جسمي بل في
قوة النفس المسماة ذكراً.
وإنما احتيج إلى هذه القوة لأغراض البدن وحاجته إلى الشيء بعد الشيء.
فإذا استحال البدن، وزالت الحاجة إلى الحواس سقطت الحاجة إلى الذكر أيضاً،
وصارت النفس مستغنية بذاتها وما فيها من صور العقل، أعني التي تمسى أوائل؛
لأن تلك هي ذات العقل غير محتاجة إلى مادة، ولا إلى جسم توجد بوجوده، أعني
أن الأمور الموجودة في العقل هي العقل، وهي التي نسميها الآن أوائل وليست
في مادة، ولا محتاجة إليها.
وجميع قوى النفس التي تتم بالبدن وبآلات جسمية فإنها تبطل ببطلان البدن،
أي تستغني عنها النفس بما هي نفس وجوهر بسيط.
وإنما احتاجت إليه لأجل حاجات البدن المشارك للنفس، المستمد منها البقاء
الملائم لها إذا كان نباتاً أو حيواناً أو إنساناً.
فأما النفس بما هي جوهر بسيط فغير محتاجة إلى شيء من هذه الآلات الجسمية.
وإنما عرضت لك هذه الحيرة لأنك سألت عن أمر بسيط مع توهمك إياه مركباً،
وحال المركب غير حال البسيط، أعني أن الآلات البدنية كلها هي أيضاً مركبة
نحو تمامات لها؛ ليكمل بها أيضاً شيء مركب.
والحواس الخمس، والقوى التي تناسبها من التخيل، والوهم، والفكر لا تتم إلا
بآلات وأمزجة مناسبة تتم بها أفعال مركبة.
فإذا عادت الجواهر إلى بسائطها بطل الفعل المركب أيضاً ببطلان الآلات
المركبة، واستغني الجوهر البسيط القائم بذاته عن حاجات البدن وضروراته
التي تم وجوده بها من حيث هو مركب لأجلها.
مسألة سأل عن الحكمة في كون الجبال
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن منافع الجبال ووضعها على بسيط من الأرض كثير جداً، ولولاها ما وجد نبات ولا حيوان على بسيط الأرض؛ وذلك أن سبب وجود النبات والحيوان، وبقائهما بعد هو الماء العذب السائح على وجه الأرض.وسبب الماء العذب السائح هو انعقاد البخار في الجو.
أعني السحاب وما يعرض له من الانحصار بالبرد حتى يعود منه إما مطر، وإما ثلج، وإما برد.
ولو أنك توهمت الجبال مرتفعة عن وجه الأرض، وتخيلت الأرض كرة مستديرة لا نتوء ولا غور فيها لكان البخار المرتفع من هذه الكرة لا ينعقد في الجو، ولا ينحصر، ولا يعود منه ماء عذب.
بل كان غاية ذلك البخار أن يتحلل ويستحيل هواء قبل أن يتم منه ما هو سبب عمارة وجه الأرض؛ وذلك لأجل أن البخار المرتفع من الأرض يحصل بين أعوار الأرض، وبين الجبال التي تمنعه السيلان، ومطاوعة حركة الفلك، وأسباب الرجة التي هي حركة الهواء.
أعني أن قلل الجبال الشاهقة تحفظ الهواء المحتقن يين أغوارها من الحركة التي يوجبها الفلك بأسره، والكواكب فيها، وشعاعاتها المؤثرة الملطفة التي توجب لها السيلان.
فإذا حصل الهواء بين الجبال كذلك - كان البخار المرتفع فيه أيضاً محفوظاً من التبدد والحركة بتحرك الهواء، ولحق هذا البخار من برد الجبال التي تحفظه في زمان الشتاء على أنفسها ما يجمده ويعقده، ثم يعصره فيعود ماء مستحيلاً، أو غيره مما يجري مجراه.
ولولا الجبال لكانت هذه المياه المدبرة بهذا التدبير مه ما ذكرناه لا تجري على وجه الأرض إلا ريثما يهدأ المطر، ثم تنشفه الأرض، فكان يعرض من ذلك أن يكون النبات والحيوان يعدمه في صميم الصيف، وعند الحاجة الشديدة إليه في بقائهما، حتى كان لا يوصل إليه إلا كما يوصل في البوادي البعيدة من الجبال، أعني باحتفار الآبار التي يبلغ عمقها مائة، ومائتين من الذرعان.
فأما الآن - مع وجود الجبال - فإن الأمطار والثلوج تبقى عليها، فإذا نشفتها في الوقت أو بعد زمان نشأت من أسافلها العيون، وسالتت منها الأنهار والأودية، وساحت على وجه الأرض منصبة إلى البحار، جارية من الشمال إلى الجنوب فإذا فنى ما استفادته من الأمطار في الصيف لحقتها نوبة الشتاء والأمطار، فعادت الحال.
والدليل على أن العيون والأنهار والأودية كلها من الجبال أنك لا ترتقى في نهر ولا واد إلا أفضى بك إلى جبل.
فأما العيون فإنها لا توجد إلا بالقرب من الجبال البتة.
وكذلك ما يستنبط من القنى، وما يجري مجراها.
فالجبال تجري من الأرض في إساحة الماء عليها من الأمطار مجرى
إسفنجة أو صوفة تبل بالماء فتحمل منه شيئاً كثيراً، ثم توضع على مكان يسيل
منه الماء قليلاً قليلاً، حتى إذا جفت أعيد بلها وسقيها من الماء؛ لتدوم
الرطوبة السائلة منها على وجه الأرض، ويصير هذا التدبير سبباً لعمارة
العالم، ووجود النبات والحيوان فيه.
وللجبال منافع كثيرة، إلا أن ما ذكرناه من أعظم منافعها فليقتصر عليه.
ولثابت مقالة في منافع الجبال من أحب أن يستقصي هذا الباب قرأه من تلك
المقال إن شاء الله.
مسألة لم صارت الأنفس ثلاثاً في العدد؟
وهل يجوز أن تكون اثنتين؟ أو هل يستحيل أن تكون أربع؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: النفس في الحقيقة واحدة، وإنما
يظهر أثرها - كما قلنا فيها فيما تقدم - بحسب قبول القابل.
وإنما قيل إنها ثلاث لأن من شأن الشيء الذي يبدأ أثره ضعيفاً ثم يقوى غاية
القوة أن ينقسم ثلاثة أقسام، أعني الابتداء، والتوسط، والنهاية.
ولما كان مبدأ أثر النفس في النبات، أعني أنه يظهر فيه معنى يقبل الغذاء
الموافق، وينفض الفضلة وما ليس بموافق، ويحفظ صورته بالنوع - سمي هذا
الطرف الأول نفساً نباتية.
ثم لما قوى هذا الأمر حتى صار ينتقل لتناول غذائه، وصارت له حواس وإرادة
سميت هذه المرتبة: المتوسطة والحيوانية.
ولما قوى هذا الأثر حتى صار - مع هذه الأحوال - يرتئي ويفكر، ويستعمل
التمييز بتقديم المقدمات، واستنتاج النتائج، ثم يعمل أعماله بحسبها سمي
ناطقاً، وعاقلاً، وما أشبه ذلك.
ولكل واحد من هذه المراتب لو قسمت - مراتب كثيرة.
إلا أن الأولى في كل ما جرى هذا المجرى أن يقسم إلى: المبدأ، والوسط،
والنهاية، كما فعل ذلك بقوى الطبيعة؟ فإن الحرارة والبرودة وما جرى مجراها
إنما تقسم إلى ثلاث مراتب، أعني الابتداء، والوسط، والنهاية.
وإن كانت كل واحد من هذه المراتب تنقسم أيضاً.
وإذا ما تأملت جميع القوى وجدت الأمر فيها جارياً هذا المجرى.
فأما قولك: هل يجوز أن تكون اثنتين، فهي إنما تكون واحدة أولاً، ثم
اثنتين، ثم تستكمل فتصير ثلاثاً، وقد شرح هذا.
مسألة لم صار البحر في جانب من الأرض
؟الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه: لولا حكمة عظيمة اقتضت أن ينحسر الماء عن وجه الأرض لكان الأمر الطبيعي يوجب أن يكون لابساً وجه الأرض أجمعه حتى تصير الأرض في وسطه شبيهة بمح البيض والماء حولها شبيهاً بالبياض، والهواء محيط بهما على ما هو موجود الآن، والنار محيطة بالجميع؛ ليكون الأثقل الأول بالمركز وهو الأرض في موضعه الخاص من المركز، ويليه الماء الذي هو أخف من الأرض وأثقل من الهواء، ويليه الهواء، ثم النار على سوم الطباع.
ولكن لو تركت هذه الأشياء وسومها الطبيعي لم تكن على وجه الأرض عمارة من نبات وحيوان وبشر وبهيمة وطائر، وبطلت هذه الحكمة العجيبة، والنظام الحسن؛ فلأجل ذلك خولف بين مركز الشمس ومركز الفلك الأعلى، فتبع هذا أن صارت الشمس تدور على مركزها لعالم، خاص بها غير الأرض.
أعني أن مركزها خارج من الأرض.
ولما دارت على مركزها قربت من ناحية من الأرض، وبعدت من أخرى وصارت الناحية التي تقرب منها تحمي بها.
ومن شأن الماء إذا حمى أن ينجذب إلى الجهة التي يحمي فيها بالبخار.
وإذا انجذب إلى هناك انحسر عن وجه الأرض الذي يقابله من الشق الذي تبعد عنه الشمس.
وإذا انحسر عن وجه الأرض حدث من الجميع كرة واحدة.
أعني من الماء والأرض، إلا أن شق الكرة الجنوبي الذي تقرب الشمس فيه من الأرض مكان الماء وهو البحر، وشق الكرة الشمالي الذي تبعد عنه الشمس من الأرض يابس تظهر فيه الأرض.
ثم وجب بعد ذلك أن تنصب عليها الجبال؛ لتستقيم الحكمة، وينتظم أمر العالم على ما هو به موجود.
عز مبدىء الجميع ومنشئه، وناظمه ومقدره، وتبارك اسمه، وجل جلاله، وتقدست اسماؤه، وتعالى هما يقول الظالمون علواً كبيراً.
مسألة لم صارت مياه البحر ملحا
ً؟الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما ذلك لأجل قرب
الشمس من سطح الماء، وتمكنها من طبخه، ومن طبيعة الماء إذا ألحت عليه
الحرارة بالطبخ أن يتحلل لطيفه إلى البخار، ويقبل الباقي أثراً من
الملوحة، فإن زادت الحرارة ودامت صار ذلك الماء شديد الملوحة، ثم انتهى في
آخر الأمر إلى المرارة.
وأصحاب الصنعة يدبرون ماء لهم بالنار، ويدبرون حتى يكثر تردده على النار
فيصير - بذلك - الماء حاراً يضرب إلى المرارة.
مسألة إذا كان المرئي لا يدرك إلا بآلة
وتلك هي الحس فما تقول فيما يراه النائم
؟ألم يدركه من غير حس، ولا انبثاث شعاع، ولا أعمال آلة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد كنا بينا في مسألة الرويا وما أحببنا به عنها ما فيه غني عن تكلف الجواب عن هذه المسألة.
ولكنا نذكر جملة وهو أن الحواس كلها ترتقي إلى قوة يقال لها الحس المشترك.
وهذا الحس يقبل الآثار من الحواس ويحفظها عليها في قوة التي تعرف بالوهم.
فإذا غاب المحسوس أحضرت هذه القوة صورة ذلك المحسوس من الوهم: سواء كان مرئياً، أو مسموعاً، أو غيرهما من الصور المحسوسات.
وليس يمكن أن يحصل في هذه القوة شيء من الصور إلا ما قبلته وأخذته من الحواس.
وقد مر هذا الكلام في الموضع الذي أذكرنا به مستقصى مع الكلام في حد المرئي وما يتبعه.
مسألة لا نخلو في طلبنا لعلم شيء
من أن نكون قد علمنا ذلك المطلوب، أو لم نعلمه
فإن كنا قد علمناه فلا وجه لطلبنا والدأب من ورائه.وإن كنا لا نعلمه فمحال أن نطلب ما لا نعمله.
وعاد أمرنا فيه مثل الذي أبق له عبد لا يعرفه وهو يطلبه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لو كان طلبنا للشيء إنما هو من وجه واحد، وذلك الوجه المجهول لكان الأمر على ما ذكرت لكنا قد تقدمنا قبل فشرحنا أن كل مطلوب يمكن أن يبحث من أمره عن أربعة مطالب: أحدها إنيته، وهذا البحث بهل، ثم بما، ثم بأي، ثم بلم.
وهذه جهات لكل مطلوب.
فإذا عرفت جهة جهلت أخرى.
وليس يغني العلم بأحدها عن الأخرى.
مثال ذلك أنك إن بحثت عن جرم الفلك التاسع: هل له وجود؟ فتبين هذا المطلب، بقيت الجهة الأخرى وهي جهة ما هو؛ لأنك قد عرفت جهة هل، وجهلت جهة ما.
فإذا عرفت هذه الجهة بقيت الجهة الثالثة وهي جهة أي.
وقد شرحنا هذه الجهات فيما مضى فإذا حصلت هذه بقيت جهة العلة القصوى أعني لم.
وهي البحث عن الشيء الذي من أجله وجد على ما وجد عليه من المائية والكيفية.
فإذا عرفت هذه الجهة لم يبق من أمره شيء مجهول إلا جزئيات الأمور التي لا نهاية لها.
وليس يبحث عن تلك؛ لقلة الفائدة فيها.
أعني أن تطلب مساحتها، ومبلغ عدد الأجزاء التي تمسحها، ونسبة كل جزء إلى غيره، ووضعه، وما أشبه ذلك.
وهذه المطالب هي بحث مطلب كيف وغيره من المقولات في أنواعها وأشخاصها.
وإذا عرفت الجنس العالي لم تطلب أجزاءه لحصول الجهة العليا.
فقد صح أن المطلوب إنما هو الجهة المجهولة، لا الجهة المعلومة، وأن الشيء الواحد قد يعلم من جهة، ويجهل من جهة أخرى، وزال موضع الشك إن شاء الله.
مسألة لم لا يجيء الثلج في الصيف كما قد يجيء المطر فيه
؟الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الفرق بين حالي الثلج والمطر أن البخار إذا ارتفع من الأرض حمل معه جزءاً أرضياً.
وقد يكون مقدار هذا الجزء الأرضي ما يخف مع البخار، ويتحرك معه، ويصعد بصعوده كالهباءة التي تراها أبداً في الهواء.
فإن ذلك القدر من أجزاء الأرض لخفته يتحرك بحركة الهواء، ويصعد مع بخار الماء.
فإذا اتفق وقت صعود هذا البخار أن يصيبه في الهواء برد شديد حتى يجمد - جمد معه الجزء الأرضي، وثقل بما يكتسبه من انضمام البعض إلى البعض بالبرد فارجحن إلى أسفل، وهو الثلج.
وإن اتفق أن يكون البرد الذي يلحقه يسيراً لا يبلغ أن يجمده عصر البخار عصراً فخرج منه الماء الذي يقطر، وهو المطر.
والدليل على أن في الثلج جزءاً أرضياً القبض الذي فيه الثلج وسلامة المطر منه.
وأيضاً فإن الثلج جزم البخار بعينه.
أعني الحالة التي ليست ماء ولا هواء.
فإذا جمدت تلك الحالة ردت طبيعة البخار.
فأما المطر فلا طبيعة للبخار فيه، وهو ماء بعينه.
وكذلك يصيب آكل الثلج من النفخ، والأسباب العارضة من البخار ما
لا يصيب شارب ماء المطر.
وإذ قد وضح الفرق بين المطر والثلج فإنا نقول في جواب مسألتك: إن الشتاء
يشتد فيه برد الهواء حتى يجمد البخار الصاعد إليه من الأرض فيرد ثلجاً.
فأما الصيف فليس يشتد فيه برد الهواء، ولكن بما عرض فيه من البرد بقدر ما
ينعقد البخار ثم ينعصر فيجيء منه مطر.
مسألة ما الدليل على وجود الملائكة
؟الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الكتاب والسنة فمملوءان من ذكر الملائكة، وأنها خلق شريف لله - تعالى - ولها مراتب متفاضلة.
وأما العقل فإنه يوجب وجودها من طريق أن العقل إذا قسم شيئاً وجد لا محالة إلا أن يمنع منه محال.
وذلك أن قسمة العقل هي الوجود الأول، والحق المحض الذي لا يعترضه مانع، ولا تعوق عنه مادة.
فإذا قسم فقد وجد الوجود العقلي، وإذا حصل هذا الوجود تبعه الوجود النفساني والوجود الطبيعي؛ لأن هذين متشبهان بالفعل، مقتديان به، تابعان له، غير مقصرين، ولا وانيين.
ولكن الطبيعة تحتاج في هذا الاقتداء إلى حركة؛ لقصورها عن الإيجاد التام؛ ولذلك قيل في حد الطبيعة إنها مبدأ حركة.
ولأن العقل إذا قسم الجوهر إلى الحي - قسم الحي منه إلى الناطق، وغير الناطق، وقسم الناطق منه إلى المائت وغير المائت فيحصل من القسمة أربعة هي: حي ناطق مائت.
وحي غير ناطق غير مائت.
وحي ناطق غير مائت.
وحي غير ناطق مائت.
والقسم الثالث هم المسمون ملائكة.
وهي مشتركة في أنها غير مائتة، ومتفاضلة في النطق.
وبهذا التفاضل صار بعضها أقرب إلى الله - تعالى - من بعض، وبه أيضاً صرنا - نحن معاشر البشر - متفاضلين في التقرب إلى الله - تعالى - والبعد منه، ولأجله قيل: فلان شبيه بملك، وفلان شبيه بشيطان، وبسببه قيل: فلان عدو الله، وبسببه قيل: فلان ولي الله، وفي السب يقال: أبعد الله فلاناً ولعنه.
وقرب الله فلاناً وأدناه.
وقد يمكن أن يثبت وجود الملائكة من طريق آثارها وأفعالها الظاهرة في هذا العالم.
ولكني لما احتجت في ذلك إلى مقدمات كثيرة، وبسط للكلام أخرج به عن الشرط الذي شرطته في أول هذه المسائل اقتصرت على ما ذكرته.
وهو كاف إن شاء الله.
مسألة وسألت - أيدك الله - عن آلام الأطفال
ومن لا عقل له من الحيوان، وعن وجه الحكمة فيه
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما هذه المسألة فإنها تتوجه إلى من أثبت جميع الأفعال التي ليست للناس منسوبة إلى الله - تعالى - ولم يعترف بأفعال الطبيعة، ولا أفعال الأشياء التي هي وسائط بيننا وبين الله - تعالى - فإن المتكلمين كالمجمعين على أن الحرارة، و الإحراق، وسائر أفعال الطبائع، وما ننسبه نحن إلى الوسائط التي فوض الله إليها تدبير عالمنا من الأفلاك، والكواكب كلها أفعال الله - تعالى - بلا واسطة يتولاها بذاته.وفي مناقضة هؤلاء القوم طول، فإن أحببت أن أفرد له مقالة أو كتاباً فعلت.
فأما من زعم أن النار إذا جاوزت النفط ألهبته، وإذا جاوزت الماء أسخنته، وكذلك كل عنصر وركن، وكل شعاع وأثر ممتد من العلو إلى أسفل، فإنه يؤثر في جميع ما يقابله آثاراً مختلفة: إما لاختلاف الفواعل، وإما لاختلاف القوابل - فإن هذه المسألة غير لازمة له.
وإنما ينبغي أن يسأل من وجه آخر لم تسأل عنه؛ فلذلك لم أتكلف جوابه.
وقد ظهر من مقدار ما أومأت إليه جواب مسألتك إن شاء الله.
مسألة لم كان صوت الرعد إلى آذاننا أبطأ
وأبعد من رؤية البرق إلى أبصارنا
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما البرق فإنه استحالة الهواء إلى الإضاءة.ولما كان الهواء سريع القبول للضوء، بل يستضىء في غير زمان، وذاك أن الشمس حين تطلع من المشرق يضيء منها الهواء في المغرب بلا زمان، وكذلك الحال في كل مضىء كالنار وما أشبهها إذا قابل الهواء قبل منه الإضاءة بلا زمان - وكان الهواء متصلاً بأبصارنا لا واسطة بيننا وبينه - وجب أن يكون إدراكنا أيضاً بلا زمان؛ ولذلك صرنا أيضاً ساعة نفتح أبصارنا ندرك زحل وسائر الكواكب الثابتة المضيئة إذا لم يعترض في الهواء عارض يستر أو يحجب.
فأما الرعد فلما كان أثره في الهواء بطريق الحركة والتموج لا
بطريق الاستحالة - وجب أن يكون وصوله إلى أسماعنا بحسب حركته في السرعة
والابطاء، وذاك أن الصوت الذي هو اقتراع في الهواء يموج ما يليه من الهواء
كما يموج الحجر الجزء الذي يليه من الماء إذا صك به، ثم يتبع ذلك أن يموج
أيضاً بعض الماء بعضاً، وبعض الهواء بعضاً على طريق المدافعة بين الأجزاء
إذا كانت متصلة.
فكما أن جانب الغدير إذا تموج حرك ما يليه في زمان، ثم ما يلي ما يليه إلى
أن ينتهي إلى الجانب الأقصى منه حتى تصير بينهما مدة وزمان على قدر اتساع
سطح الماء، فكذلك حال الهواء إذا اقترع فيه الجسم الصلب حرك ما يليه من
الهواء، وتموج به، ثم حرك هذا الجزء ما يليه في زمان بعد زمان حتى ينتهي
إلى الجزء الذي يلي آذاننا فنحس به؛ ولذلك صار صوت وقع الحجر على الحجر
إذا لمح الإنسان محركة من بعيد يصل إلى أسماعنا بعد زمان من رؤيتنا إياه.
وكذلك حالنا إذا رأينا القصار من بعيد على طرف واد فإنا نرى حركة يده،
وإلاحته بالثوب حين رفعه وضربه الحجر قبل أن نسمع صوت ذلك الوقع بزمان.
فهذه بعينها حال البرق والرعد؛ لأن السحاب يصطك بعضه ببعض فينقدح من ذلك
الاصطكاك ما ينقدح من كل جسمين إذا اصطكا بقوة شديدة، ويخرج أيضاً من
بينهما صوت.
وهما جميعاً - أعني البرق والرعد - يحدثان معاً في حال واحدة؛ إذ كان
سببهما جميعاً الصك والقرع، أعني حركة الجسم الصلب وقرع بعضه ببعض كحال
المقدحة والحجر، إلا أن البرق يضيء منه الهواء بالاستحالة التي تكون بلا
زمان فنحسه في الوقت.
فأما الرعد فيتموج منه الهواء الذي يلي السحاب المصطك، ثم يتموج أيضاً ما
يليه، ويسري في الجزء بعد الجزء إلى أن ينتهي إلى الهواء الذي يلي أسماعنا
في زمان فنحس به حينئذ.
مسألة إذا كان الإنسان على مذهب من المذاهب
ثم ينتقل عنه لخطأ يتبينه فما تنكر أن ينتقل عن المذهب الثاني مثل انتقاله عن الأول، ويستمر ذلك به جميع المذاهب حتى لا يصح له مذهب، ولا يضح له حق.؟ الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لو كانت الإقناعات ومراتبها متساوية في جميع الآراء لما أنكرت ما ذكرته، ولكني وجدت مراتب الأدلة والإقناعات فيها متفاوتة: فمنها ما يسمى يقيناً، ومنها ما يسمى دليلاً وقياساً إقناعياً بحسب مقدمات ذلك القياس، ومنها ما يسمى ظناً وتخيلاً، وما أشبه ذلك - فأنكرت أن تستوي الأحوال في الآراء مع تفاوت القياسات الموضوعة فيها.فمن ذلك أن القياس إذا كان برهانياً وهو أن تكون مقدماته مأخوذة من أمور ضرورية، وكان تركيبها صحيحاً - حدثت منه نتيجة بقينية لا يعترضها شك، ولا يجوز أن ينتقل عنه، ولا يسوغ فيه خطأ.
وكذلك.
التي امتدلى بها - فأثر الحرارة في المبدأ يكون ضعيفاً لكثرة المادة ومقاومتها، فإذا قويت الحرارة بالتدريج وانتهت إلى غاية أمرها - كان زمان الشباب، وكأنه صعود وحال نشأ حتى ينتهي، ثم يقف وقفة، كما يعرض في جميع الحركات الطبيعية، ثم ينحط وهو زمان التكهل، فلا يزال إلى نقصان حتى يفنى فناء طبيعياً كما وصفنا، وهو زمان الشيخوخة والهرم، وقد كان في زمان جالينوس من ظن ما ظننته حتى حكاه عنه، وذكر أنه بلى بمرض طويل أضحك منه من كان حفظ عليه مذهبه.
هذا آخر ما سألت في الهوامل.
وقد سلكت في الجواب عن جميعها المسلك الذي اخترته واقترحته من الاختصار والإيماء إلى النكت، والإحالة - فيما يحتاج إلى شرح - إلى مظانه من الكتب.
نفعك الله بها، وعلمك ما فيه خير الدارين بمنه ولطفه.
الحمد لله رب العالمين وصلواته على رسوله محمد وآله أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق