جاري فوري

 / / / // / / / //

 

========****************************=============== ------------------

 اضغط الرابط

صفحات القران

الأربعاء، 21 مايو 2025

ج1وج2 وج3وج4.. كتاب : نشوار المحاضرة المؤلف : القاضي التنوخي




ج1وج2 وج3وج4..
كتاب : نشوار المحاضرة
 
المؤلف : القاضي التنوخي



الجزء الأول
لماذا لا يكذبون على الوزير أعزه اللهحدثني أبو العباس هبة الله بن محمد بن يوسف، المعروف بابن المنجم النديم، وهو أحد بني يحيى بن أبي منصور المنجم، صاحب المأمون، ومحل أهله وسلفه وبيته في منادمة الخلفاء والوزراء والأمراء مشهور، وموضعهم من الكلام والنجوم والعلم والأدب وقول الشعر وتصنيف الكتب في أنواع ذلك المعروف، ومكانهم من المنزلة في خدمة السلطان وعظم النعمة والحال متعالم، ومحل أبي العباس في نفسه أشهر من أن يجهل في العلم والأدب وقول الشعر والمعرفة بالجدل والفقه، وغير ذلك مما يقوم به، وقد نادم أبا محمد المهلبي رحمه الله، واختص به ونفق عليه سنين كثيرة، ومن بعده من الوزراء، وغيرهم من الرؤساء، وهو أحد بقايا رجال أهل بيته، قال: كنت بحضرة أبي مخلد عبد الله بن يحيى الطبري صاحب معز الدولة فجرى ذكر الكرم والكرام، والجود والأجواد، وما كانت البرامكة وغيرها تأتيه من الأفضال على الناس، فأخذ أبو مخلد يدفع هذا ويبطله، حتى قال: هذه حيل نصبها الشحاذون على دراهم الناس، لا أصل لها.
فقلت له: أيها الشيخ إن قلت ذلك، فقد قال صاعد مثله، فأجيب.
فقال: ما قال؟ فقلت له: حكي له جود البرامكة، فقال: هذا من موضوعات الوراقين وكذبهم، وكان أبو العيناء حاضراً، فقال له: فلم لا يكذب على الوزير أعزه الله مثل هذا وهو حي يرجى ويخاف، وأولئك موتى مأيوس من خيرهم وشرهم مثل هذا الكذاب؟ قال: فخجل أبو مخلد.
الوزير ابن الزيات يذكر البرامكة وهو في التنوروفي معنى هذا ما أذكره، وإن كان موجوداً في الكتب، ولكنه على سبيل الإستعادة، وهو حسن.
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد الأزدي، قال: بلغني أن ابن الزيات لما حصل في التنور قال له بعض خدمه: لهذا وشبهه كنا نشير عليك بفعل الإحسان، وتقليد رقاب الرجال بالأمتنان، واتخاذ الصنائع في حال القدرة لتجازي بها الآن عند الحاجة.
فقال: لو كنت فعلت هذا، ما حصلت منه على طائل، لما في نفوس الناس من ضعف الإخاء، وكثرة الغدر، وقلة الوفاء، وتراني كنت أفعل أكثر من أفعال البرامكة؟ ما نفعهم لما حصلوا في مثل حالي من إسلام الزمان وجور السلطان؟ فقال له الخادم: لو لم ينفعهم إلا ذكرك لهم في مثل هذه الحال التي أنت فيها لكان ذلك أكبر نفع.
أبو الشبل يقارن في الكرم بين البرامكةوبين عبيد الله بن يحيى بن خاقان: وحدثني أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد المعروف بالأصبهاني الكاتب، قال: حدثني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي، قال: حضرت مجلس عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان إلى محسناً، وعلي مفضلاً، فجرى ذكر البرامكة، ووصف الناس لهم بالجود، وما قالوا في كرمهم وجوائزهم، فأكثروا.
فقمت في وسط المجلس، وقلت: أيها الوزير، قد حكمت في هذا الخطب حكماً نظمته في بيتي شعر، لا يقدر أحد أن يرده علي، وإنما جعلته شعراً ليبقى ويدور، أفيأذن الوزير في إنشادهما؟ فقال: قل، فرب صواب قلت، فقلت:
رأيت عبيد الله أندى أناملاً ... وأكرم من فضل ويحيى وخالد
ورواه لنا مرة أخرى فقال فيه:
رأيت عبيد الله أفضل سؤددا ... وأكرم من فضل ويحيى وخالد
أولئك جادوا والزمان مساعد ... وقد جاد ذا والدهر غير مساعد
الحسن المنجم عامل معز الدولةعلى الأهواز وحبه للعمارة: حضرت مجلس الحسن بن علي بن زيد المنجم، غلام أبي نافع، وهو إذ ذاك عامل معز الدولة رحمه الله على الأهواز وقطعة من كروها، ومحله عنده كمحل وزرائه، وكان قد خدم أبي رحمه الله قديماً، بعد مفارقته خدمة القاسم بن دينار عامل الأهواز، وتوكل له في داره وضيعته، وخلفه على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز، ثم خلطه بخدمة أبي عبد الله البريدي، فعلت منزلته، ثم بلغت به الحال ما ذكرته، فكنت إذا جئته، وهو إذ ذاك على غاية الجلالة، وأنا في حد الأحداث، اختصني.
وكان يعجبه أن يقرظ في وجهه، فأفاض قوم في مدحه، وذكر عمارته للوقوف، والسقايات، وإدراره الماء في ذبابة المسرقان وتفريقه مال الصدقات على أهلها، وذنبت معهم في ذلك.

فقال لي هو: يا بني، أرباب هذه الدولة إذا حدثوا عني بهذا وشبهه، قالوا: المنجم إنما يفعل هذا رياء، وما أفعله إلا لله تعالى، وإن كان رياء فهو حسن أيضاً، فلم لا يراؤون هم بمثل هذا الرياء؟ ولكن الطباع خست، حتى في الحسد أيضاً، كان الناس قديماً إذا حسدوا رجلاً على يساره، حرصوا على كسب المال حتى يصيروا مثله، وإذا حسدوا على علمه، تعلموا حتى يضاهوه، وإذا حسدوا على جوده، بذلوا حتى يقال إنهم أكرم منه، وإذا وعدد أشياء كثيرة، فالآن لما ضعفت الطبائع، وصغرت النفوس، وعجزوا أن يجعلوا أنفسهم مثل من حسدوه، في المعنى الذي حسدوه عليه، عدلوا إلى تنقص المبرز، فإن كان فقيراً شنعواً على فقره، وإن كان عالماً خطأوه، وإن كان جواداً قالوا هذا متاجر بجوده وبخلوه، وإن كان فعالاً للخير، قالوا هذا مراء.
الوزير حامد بن العباس يرى قشر باقلاءفي دهليز داره: حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي رحمه الله، قال: كان حامد بن العباس من أوسع من رأيناه نفساً، وأحسنهم مروءة، وأكثرهم نعمة، وأشدهم سخاء، وتفقداً لمروءته.
وكان ينصب في داره كل يوم عدة موائد، ولا يخرج من الدار أحد من الجلة والعامة والحاشية وغيرهم إذا حضر الطعام، أو يأكل، حتى غلمان الناس، فربما نصب في داره في يوم واحد أربعين مائدة.
وكان يجري على كل من يجري عليه الخبز لحماً، وكانت جراياته كلها الحواري.
فدخل يوماً إلى دهليز داره، فرأى قشر باقلاة، وأحضر وكيله، وقال: ويلك يؤكل في داري الباقلا؟ قال: هذا من فعل البوابين.
قال: أوليست لهم جرايات لحم؟ قال: بلى.
قال: فسلبهم عن السبب، فسألهم، فقالوا: لا نتهنأ بأكل اللحم دون عيالنا، فنحن ننفذه إليهم لنأكله معهم ليلاً، ونجوع بالغدوات فنأكل الباقلاً، فأمر حامد أن يجري عليهم جراية لعيالاتهم، تحمل إلى منازلهم، وأن يأكلوا جراياتهم في الدهليز، ففعل ذلك.
فلما كان بعد أيام، رأى باقلاة في الدهليز أيضاً، فاستشاط، وكان حديداً، سفيه اللسان، فشتم وكيله، وقال: ألم أضعف الجرايات، فلم في دهليزي قشور الباقلا؟ فقال: إن الجرايات لما تضاعفت، جعلوا الأولة لعيالاتهم في كل يوم، وصاروا يجمعون الثانية عند القصاب، فإذا خرجوا من النوبة ومضوا نهاراً إلى منازلهم، في نوبة استراجاتهم فيها، أخذوا ذلك مجتمعاً من القصاب فتوسعوا به.
فقال: فلتكن الجرايات بحالها، ولتتخذ مائدة في كل يوم، تنصب غدوة قبل نصب موائدنا، يطعم عليها هؤلاء، ووالله، لئن وجدت بعدما في دهليزي قشر باقلاة، لأضربنك وجميعهم بالمقارع.
ففعل ذلك، وكان ما زاد من نفقة الأموال، وأمراً عظيماً.
الوزير حامد بن العباس يخبىءأربعمائة ألف دينار في بئر مسراح: حدثني القاضي أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن الحارث ابن عياش الجوهري البغدادي، وأبو الحسن بن المأمون الهاشمي: أنه وجد لحامد في نكبته التي قتل فيها، في بئر لمستراح له، أربعمائة ألف دينار عيناً، دل عليها لما اشتدت به المطالبة.
وأخبرني غيرهما: أن حامداً كان عمل حجرة، وجعل فيها مستراحاً، وكان يتقدم إلى وكيله أن يبتاع له الدنانير، ويجيء بها، فكلما حصل له كيس، أخذه تحت ثيابه، وقام كأنه يبول، فدخل ذلك المستراح، فألقى الكيس في البئر، وخرج من غير أن يصب فيها ماء ولا يبول، ويوهم الفراش أنه فعل ذلك، فإذا خرج أقفل المستراح، ولم يدخله غيره، على رسم مستراحات السراة التي يختصونها، وإذا أراد الدخول، فتحه له الخادم الموسوم بالوضوء، وذلك الخادم أيضاً لا يعلم السر في ذلك، فلما تكامل ذلك المال، قال: هذا المستراح ضيق البناء، قبيح، فسدوه لأغيره، فسد البئر، وعطل المستراح، فحصل ذلك المال مصوناً في الموضع، لا يعرف خبره غيره.
فلما اشتدت به المطالبة، دل عليه، فأخرج وما ذهب منه شيء ولا عرف خبره إلا من جهته.
مصادرة التاجر ابن الجصاصفي زمن المقتدر زادت على ستة ملايين دينار: وحدثني أبو الحسين بن عياش: أنه سمع جماعة من ثقات الكتاب يقولون: إنهم حصلوا ما ارتفعت به مصادرة أبي عبد الله بن الجصاص في أيام المقتدر، فكانت ستة آلاف ألف دينار، سوى ما قبض من داره، وبعد الذي بقي له من ظاهره.
ابن الجصاص التاجر

يبقى له من بعد المصادرة مليون دينار: سمعت الأمير أبا محمد، جعفر بن ورقاء، بن محمد بن ورقاء الشيباني، يحدث في سنة تسع وأربعين وثلثمائة، قال: اجتزت بابن الجصاص، بعد إطلاقه إلى داره من المصادرة بأيام، وكانت بيننا مودة ومصاهرة، فرأيته على روشن داره، على دجلة، في وقت حار، من يوم شديد الحر، وهو حاف حاسر، يعدو من أول الروسن إلى آخره، كالمجنون.
فطرحت طياري إليه، وصعدت بغير إذن، فلما رآني استحيا، وعدا إلى مجلس له.
فقلت له: ويحك ما لك، ما الذي قد أصابك؟.
فدعا بطست وماء، فغسل وجهه ورجليه، ووقع ساعة كالمغشي عليه، ثم قال: أولاً يحق لي أ، أن يذهب عقلي، وقد خرج من يدي كذا، وأخذ مني كذا، وجعل يعدد أمراً عظيماً مما خرج منه، فمتى أطمع في خلفه، ولم لا يذهب عقلي أسفاً عليه؟.
فقلت له: يا هذا إن نهايات الأموال غير مدركة، وإنما يجب أن تعلم أن النفوس لا عوض لها، والعقوا والأديان، فما سلم لك ذلك، فالفضل معك، وإنما يقلق هذا القلق، من يخاف الفقر، والحاجة إلى الناس، أو فقد العادة في مأكول ومشروب وملبوس، وما جرى مجرى ذلك، أو النقصان في جاه، فاصبر، حتى أوافقك أنه ليس ببغداد اليوم، بعد ما خرج منك، أيسر منك من أصحاب الطيالس.
فقال: هات.
فقلت: أليس دارك هذه، هي التي كانت قبل مصادرتك، ولك فيها من الفرش والأثاث ما فيه جمال لك، وإن لم تكن في ذلك الكبر المفرط؟.
فقال: بلى.
فقلت: وقد بقي لك عقارك بالكرخ، وقيمته خمسون ألف دينار.
فقال: بلى.
فقلت: ودار الحرير وقيمتها عشرة آلاف دينار.
قال: بلى.
فقلت: وعقارك بباب الطاق، وقيمته ثلاثون ألف دينار.
فقال: بلى.
قلت: وبستانك الفلاني، وضيعتك الفلانية، وقيمتها كذا وكذا.
فقال: بلى.
فقلت: وما لك بالبصرة وقيمته مائة ألف دينار.
فقال: بلى.
فجعلت أعدد عليه، من عقاراته، وضياعه، إلى أن بلغت قيمة سبعمائة ألف دينار.
فقلت: وأصدقني عما سلك لك من الجوهر والأثاثوالقماش والطيب والجواري والعبيد والدواب، وعن قيمة ذلك، وقيمة دارك؟ فأخذ يصدقني، ويقوم، وأحصي، إلى أن بلغت القيمة لذلك، ثلثمائة ألف دينار.
فقلت له: يا هذا، من ببغداد اليوم من يحتوي ملكه على ألف ألف دينار؟ وجاهك عند الناس الجاه الأول، وهم يظنون أن الذي بقي لك ضعف هذا، فلم تغنم؟.
قال: فسجد لله، وحمده، وبكى، ثم قال: والله، لقد غلب الفكر علي حتى نسيت جميع هذا أنه لي، وقل في عيني، لإضافتي إياه إلى ما أخذ مني، ولو لم تجيئني الساعة، لزاد الفكر علي حتى يبطل عقلي، ولكن الله تعالى أنقذني بك، وما عزاني أحد، بأنفع من تعزيتك، وما أكلت منذ ثلاث شيئاً، فأحب أن تقيم عندي، لنأكل ونتحدث ونتفرج.
فقلت: أفعل، فأقمت يومي عنده وأكلنا، وتحدثنا بقية يومنا.
حكاية تدل على دهاء التاجر أبي عبد الله بن الجصاص: وكنت أنا، اجتمعت ببغداد، في سنة نيف وخمسين وثلثمائة، مع أبي علي بن أبي عبد الله بن الجصاص، فرأيت شيخاً طيباً، حسن المحاضرة، فسألته عن الحكايات التي تنتسب إلى أبيه، مثل قوله خلف إمام قد قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " صدق الله العظيم " ، فقال: إي لعمري، بدلاً من آمين.
ومثل قوله للخاقاني الوزير: أسهرني البارحة صوت الكلاب في الحارة على بابي، كل كلب مثلي ومثل الوزير.
وقوله له، وأراد تقبيل رأسه، فقال: إن فيه دهناً فلا تفعل، فقال: لو كان في رأس الوزير خرا لقبلته.
ومثل قوله: قمت البارحة في الظلمة إلى الخلاء فما زلت اتلحظ المقعدة حتى وقعت عليها.
ومثل قوله وقد وصف مصفحاً بالعتق، فقال: هو كسروي، وأمثال هذا على كثرته، وتواتر الرواية له.
فقال لي: أما أمر المقعدة، وإي لعمري، وما كان من هذا الجنس، فكذب، وما كانت فيه سلامة تخرجه إلى هذا، وما كان إلا من أدهى الناس وأخبثهم، ولكنه كان يطلق بحضرة الوزراء قريباً مما حكي عنه، بسلامة طبع كانت فيه، ولأنه كان يحب أن يصور نفسه عندهم بصورة الأبلة، ليأمنه الوزراء، لكثرة خلواته بالخلفاء، فيسلم عليهم، وأنا أحدثك عنه بحديث حدثنا به، لتعلم معه إنه كان في غاية الحزم، وإن فاعله لا يجوز عليه مثل ما حكي عنه.
فقلت: أحب أن تفعل.

قال: حدثنا أبي قال: إن أبا الحسن بن الفرات، لما ولي بعض وزاراته قصدني قصداً قبيحاً، لشيء كان في نفسه علي، فأنفذ العمال إلى ضياعي، وأمر بنقص معاملاتي، وبسط لسانه بثلبي وتنقصي في مجالسه، وأدام الغض مني إذا دخلت إليه.
فوسطت بيني وبينه جماعة، وبذلت له أشياء توجب صلاح ما بيننا، فما نجعت، وأقام على قصدي، وأنا محتمل، طامع في رجوعه.
فدخلت يوماً داره، فسمعت حاجبه يقول وقد وليت عنه: أي بيت مال يمشي على وجه الأرض؟ ألفا ألف دينار تمشي وليس لها من يأخذها؟ فعلمت أن هذا من كلام صاحبه، وأني منكوب، وكان عندي في ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار، عيناً وجوهراً، سوى غيرهما مما يحتوي عليه ملكي.
فضاقت علي الدنيا، وسهرت ليلتي بأسرها أفكر في أمري معه، فوقع لي الرأي في الثلث الأخير، فركبت في الحال إلى داره، فوجدت الأبواب مغلقة، فطرقتها.
فقال البوابون: من هذا؟.
فقلت: ابن الجصاص.
فقالوا: ليس هذا وقت وصول، والوزير نائم.
فقلت: عرفوا الحجاب أني حضرت لمهم، فعرفوهم، فخرج إلى أحدهم، فقال: إنه إلى ساعة ينتبه، فتجلس وتنتظر.
فقلت: الأمر أهم من ذلك، فأنبهه وعرفه عني هذا.
فدخل، فأبطأ ساعة، ثم خرج، فأدخلني من دار إلى أخرى، حتى انتهيت إلى مرقده، وهو على سرير وحواليه نحو خمسين فراشاً لغلمان له، كأنه حفظه وقد قاموا، وبعض الفرش تنقل، وهو جالس في فراشه، مرتاعاً، قد ظن أن حادثة حدثت، أو أني جئته برسالة الخليفة، وهو متوقع لما أورده.
فرفعني، وقال: ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ فقلت: خير، ما حدثت حادثة، ولا معي رسالة، وما جئت إلا في أمر يخص الوزير ويخصني، لم تصلح مفاوضته فيه إلا على خلوة شديدة فسكن، ثم قال لمن حوله: انصرفوا، فمضوا.
وقال: هات.
فقلت: أيها الوزير إنك قد قصدتني أقبح قصد، وشرعت في هلاكي، وإزالة نعمتي، وفي إزالتها خروج نفسي، وليس من النعمة والنفس عوض، ولعمري أني قد أسأت في خدمتك، وقد كان في بعض هذا التقويم بلاغ عندي، وقد جهدت في استصلاحك بكل ما قدرت عليه، ووسطت بيني وبينك فلاناً، وبذلت كذا، قلت كذا، فأبيت إلا الإقامة أذاي، وليس شيء أضعف من السنور، وإذا عاثت في دكان بقال فظفر بها، ولزها إلى الزاوية ليخنقها، وثبت عليه، فخدشت وجهه وبدنه، ومزقت ثيابه، وطلبت الحياة بكل ما يمكنها، وقد وجدت نفسي معك في مثل هذه الصورة، ولست أضعف بطشاً من السنور، وقد جعلت هذا الكلام عذراً بيننا، فإن نزلت تحت حكمي في الصلح، وإلا فعلي وعلي، وحلفت له بأيمان عظيمة، لأقصدن الخليفة الساعة، ولأحولن إليه من خزانتي ألفي ألف دينار عيناً وورقاً، ولا أصبح إلا وهي عنده، وانت تعلم قدرتي عليها، وأقول له: خذ هذا المال، وسلم ابن الفرات إلى فلان، واستوزره، وأذكر له أقرب من يقع في نفسي أنه يجيب إلى تقليده، ممن له وجه مقبول، ولسان عذب، وخط حسن، ومخرقة حادة، ولا أعتمد إلا بعض كتابك، فإنه لا يفرق بينك وبينهم إذا رأى المال حاضراً، فيسلمك في الحال لهم، ويراني المتقلد بعين من أخذه وهو صغير، فجعله وزيراً، وغرم عنه هذا المال الكثير، ويعتقد أني ربه وولي نعمته، فيخدمني، ويتدبر بتدبيري، في جميع أمره، فأسلمك إليه، فيفرغ عليك العذاب، حتى يأخذ منك الألفي ألف دينار بأسرها، وأنت تعلم أن حالك تفي بها، ولكنك نفتقر بعدها، ويرجع إلى المال، ولا يذهب علي منه دانق، وأكون قد أهلكت عدوي، وشفيت غيظي، واسترجعت مالي، وصنت نعمتي، وازداد محلي عظماً بصرف وزير، وتقليد وزير.
فلما سمع هذا أسقط في يده، وقال: يا عدو الله أو تستحل هذا؟.
فقلت: لست عدو الله، بل عدو الله من استحل مني ما أحوجني إلى الفكر في مثل هذا، ولم لا أستحل مكروه من يريد هلاكي وزوال نعمتي؟.
فقال: أو أيش؟.
قلت: أو أن تحلف الساعة بما أستحلفك به من الإيمان المغلظة، أنك تكون لي لا علي، في صغير أمري وكبيره، ولا تنقص لي رسماً، ولا تغير معاملة، ولا تضع مني، وتزيد في رفعتي، وذكري بالجميل، ولا تبغي لي الغوائل، ولا تدسس علي المكاره، ولا تشرع لي في سوء ولا نكبة أبداً، ظاهراً ولا باطناً، وتفعل وتفعل، فاشترطت عليه الأمن من كل ما كنت أخافه منه.
فقال: وتحلف أنت أيضاً بمثل هذه اليمين على جميل النية، وحسن الطاعة والمؤازرة.
فقلت: أفعل.

فقال: لعنك الله فما أنت إلا إبليس، سحرتني والله.
واستدعى دواة، وعملنا نسخة اليمين، فأحلفته بها أولاً، ثم حلفت له.
فلما أردت القيام، قال: يا أبا عبد الله لقد عظمت في نفسي وخففت ثقلاً عني، فو الله ما كان المقتدر يفرق بيني مع كفايتي وغنائي وموقعي، وبين أخس كتابي - كما ذكرت - مع المال الحاضر، فليكن ما جرى مطوياً.
فقلت: سبحان الله.
فقال: وإذا كان غداً، فصر إلى المجلس العامي لترى ما أعاملك به.
فنهضت، فقال: يا غلمان، بأسركم بين يدي أبي عبد الله، فخرج بين يدي مائتا غلام، فعدت إلى داري وما طلع الفجر، فاسترحت.
وجئته في وقت المجلس، فرفعني فوق جميع من كان بحضرته، وقرظني التفريط التام، وعاملني بما علم منه الحاضرون، رجوعه لي، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمال النواحي، بإعزاز وكلائي، وصيانة أسبابي وضياعي وتقدم إلى كتاب الدواوين بإخراج كل ما كانوا أدخلوه إليها من تغيير رسومي، والزيادة علي، وأن أجرى على الرسوم القديمة.
فشكرته، وقمت، فقال: يا غلمان بين يديه، فخرج الحجاب يجرون سيوفهم بين يدي، والناس يشاهدون ذلك، ويعجبون منه، وقد رجع جاهي، ولم يعلم أحد سبب صلاح بيننا، فما حدثت بذلك إلا بعد القبض عليه.
ثم قال لي أبو علي ابنه: فهل كان هذا فعل ورأي من يليق به ما حكي من تلك الحكايات عنه؟ فقلت: لا.
حكاية تدل على ذكاء التاجرأبي عبد الله بن الجصاص: حدثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بكر داسة، قال: حدثني بعض شيوخنا قال: كنا بحضرة أبي عمر القاضي، فجرى ذكر ابن الجصاص وغفلته، فقال أبو عمر: معاذ الله ما هو كذلك، ولقد كنت عنده أيام مسلماً، وفي صحنه سرادق مضروب، فجلسنا بالقرب منه نتحدث، فإذا بصرير نعل من خلف السرادق فصاح: يا غلام جئني بمن مشت خلف السرادق الساعة، فأخرجت إليه جارية سوداء.
فقال: ما كنت تعلمين هاهنا.
قالت: جئت إلى الخادم أعرفه أني قد فرغت من الطبيخ، وأستأذن في تقديمه.
فقال: انصرفي لشأنك.
فعلمت أنه أراد أن يعرفني أن ذلك الوطء وطء سوداء مبذلة، وأنها ليست من حرمه ولا ممن يصونه، فيزيل عني أن أظن به مثل ذلك في حرمة، فكيف يكون هذا مغفلاً؟.
مروءة التاجر ابن الجصاص واتساع حاله: حدثني أبو العباس هبة الله بن المنجم، أن جده حدثه: أنه لما قبض المقتدر على ابن الجصاص، أنفذ إلى داره من يحصي ما فيها ويحمله.
فقال لي الذي كتب الإحصاء: إن وجدنا له في جملة قماشه سبعمائة مزملة خيازر، فما ظنك بمروءة وقماش يكون هذا في جملته؟.
ثلاثون جاماً في تركة يأنس الموفقي ثمنها ثلاثة ملايين دينار: كنت بحضرة الوزير أبي الحسن بن محمد بن هارون المهلبي رحمه الله ببغداد وقد دخل إليه أبو إسحق القراريطي بعد وروده من مصر وأبو القاسم الجهني حاضر.
فقال له: يا سيدي تسل أبا إسحق عن الحكاية التي كنت حكيتها لك في أمر الجامات البجاذي؟ فإني كنت ذكرت لك أنه كان حاضراً لأمرها وما علمت أنه قدم من مصر فأواطئه.
فقال له أبو محمد: ما بك إلى هذا حاجة.
فقال: بلى يا سيدي، ثم التفت إلى القراريطي، فقال: إني حكيت لسيدنا الوزير أن المقتدر أنفذني أيام تقلدي له المواريث لقبض تركه فلان، فذكر أميراً جليلاً، قد أنسيت اسمه على الحقيقة، وأظنه قال: يأنس الموفقي، وأنفذك مستظهراً بك لتحصي التركة، وإنها كانت هائلة عظيمة، وإنا وجدنا فيها ثلاثين جامة بجاذي، كل جامة فتحها شبر وكسر، في غلف من لب الخيازر، مبطنة بالحرير والديباج، مضربة بالنبات، محلاة بالذهب، فأثبتناها، وحملناها إلى المقتدر، فهاله حسنها، وأحضر ابن الجصاص، وأمره بتقويمها، فقال: ما أعرف لها قيمة، ولا رأيت مثلها قط، ولولا أني شاهدتها، لكذبت بوجود مثلها، ولو قلت إن قيمة كل واحدة مائة ألف دينار، ما خشيت البعد.
وإني لما حدثت سيدنا الوزير أيده الله، بهذا الحديث، كذبني جماعة من ندمائه، وكنت أنت يا سيدي بمصر، فإن رأيت أن تقيم الآن لي الشهادة.
فقال القراريطي: قد صدق - أيد الله الوزير - أبو القاسم، أنا رأيت هذه الجامات، وقبضتها للمقتدر من هذه التركة وسمعت ابن الجصاص يقول هذا، وقد نشي أبو القاسم شيئاً جرى لم يذكره.
فقال أبو محمد: ما هو؟.

فقال: سألنا خازن الرجل عن هذه الجامات وسببها، فقال: لا أعلم من أين وصلت إليه، ولكن كان عنده منها، ثمانون جامة، فأهدى إلى جماعة من الملوك منها وبقي هذه البقية.
فاستطرف أبو محمد المهلبي الحكاية واستحسنها.
مروءة الوزير حامد بن العباسومكارم أخلاقه: حدثني أبو العباس هبة الله بن محمد بن يوسف بن يحيى بن علي بن يحيى ابن أبي منصور المنجم، قال: حدثني جدي، قال: وقفت امرأة لحامد بن العباس على الطريق، فشكت إليه الفقر، وطلبت منه البر، ورفعت إليه قصة كانت معها، فلما جلس، وقع لها بمائتي دينار.
فأنكر الجهبذ دفع هذا القدر إلى مثلها، فراجعه.
فقال لحامد: والله ما كان في نفسي أن أهب لها إلا مائتي درهم، ولكن الله أجرى لها على يدي مائتي دينار، فلا أرجع في ذلك، أعطها، فدفع إليها.
فلما كان بعد أيام رفع إليه رجل قصة يذكر فيها: إن امرأتي وإياي كنا فقيرين، فرفعت امرأتي قصة إلى الوزير، فوهب لها مائتي دينار، فاستطالت بها علي، وتريد الآن إعنائي لأطلقها، فإن رأى الوزير أن يوقع لي إلى من يكفها عني، فعل.
قال: فضحك حامد، ووقع له بمائتي دينار، وقال: أعطوه إياها، وقولوا له: قد صار الآن مالك مثل مالها، فهي لا تطالبك بالطلاق فقبضها الرجل وانصرف غنياً.
الوزير علي بن عيسىوصاحب ديوان السواد: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول الأنباري التنوخي المعروف والده بأبي بكر الأزرق، قال: كان أبو عيسى أخو أبي صخرة جارنا ببغداد، وكان عظيم الحال، كثير المال، تام الجاه، شيخاً من شيوخ الكتاب، قد تقلد كبار الأعمال، وخلف إسماعيل بن بلبل قديماً على الوزارة، فلما ولي محمد بن عبيد الله الخاقاني الوزارة قلد ديوان السواد، فلما صرف بأبي الحسن علي ابن عيسى وورد أبو الحسن من اليمن والشام، لما كان نفي إليه عقيب قصة ابن المعتز، وتقلد الوزارة، لم يره أهلاً لديوان السواد، ولأن صنعته لم تكن بالتامة التي تفي بهذا الديون، ولم يمكنه صرفه لمكانه كانت له في الدار، فكان يقصده بالغض في المجالس، ولا يرفعه الرفعة التي يستحقها صاحب ديوان السواد، وإذا أراد عملاً من الديوان أو خراجاً أو حساباً وقع إلى كتاب الديوان، استدعاهم، وخاطبهم وهو حاضر، لا يكلمه في ذلك، فيغض منه بهذا، الغض الشديد، فإذا أراد عملاً يعلم أن صناعة أبي عيسى لا تفي به وأنه لا يمكنه الكلام عليه، خاطبه فيه على رؤوس الأشهاد، ليبين نقصة ويفتضح، وإذا أراد مهماً أحضر كتاب الديوان فخاطبهم فيه، ليكون ذلك نهاية الغض منه.
فلما طال ذلك على أبي عيسى، جلس عنده يوماً حتى لم يبق في مجلسه غيره، وغير إبراهيم بن عيسى أخي الوزير.
فقال له علي بن عيسى: هل من خاجة؟ فقال: نعم، إذا خلا مجلس الوزير.
قال: فأخبرت عن إبراهيم إنه قال: لما سمعت هذا قمت وانصرفت فلما كان من الغد جئت إلى أخي، فوجدت أبا عيسى في صدر المجلس، حيث يستحق الديوان أن يكون وهو يأمر، وينهي، وينبسط، ويتكلم، والخطاب معه في الأعمال دون الكتاب، وقد صار في السماء.
فدعتني نفسي إلى مسألة الوزير عن ذلك، فجلست إلى أن لم يبق في مجلسه غيري، فقال: شيء تقوله يا بني؟ فقلت: شيء من الفضول أريد أن أسأل الوزير عنه.
فقال: إن كان فضولاً فلا تسل عنه.
قال: قلت لا بد.
فقال: هات.
قلت: استخلاك أمس أبو عيسى فأخليته، ثم رأيت اليوم تعامله بضد ما كنت تعمله قبل هذا، فما سبب ذلك؟.

فقال: نعم، إنه خاطبني بخطاب عظم به في عيني، وكبر به في نفسي، وعلمت صدقه فيه، فرجعت له، قال لي، وقد خلا بي: أيها الوزير، أنا رجل شيخ من شيوخ الكتاب، عارف بمقدار ما أحسنه من صناعة الكتابة، وتقصيري فيها عن الغاية، وليس يخفي علي ما يعاملني به الوزير من الغض والهتك والتعريض للفضيحة في الصناعة، ومخاطبة الكتاب في الديوان إذا أراد مهماً، ومخاطبتي إذا نزل معضل، ويجب أن يعلم الوزير أيده الله، أن حالي، ومالي، وباطني، أكثر مما يقع له، ويعرفه من ظاهري على كثرته، وأني ما أتصرف طلباً للفائدة، ولا خوفاً من الفقر، وإنما أريد الزيادة في الجاه، واتصال نفوذ الأمر والنهي، وقد عشت طول هذه السنين، آمراً، ناهياً، مستوراً في صناعتي، ما تعرض لي أحد من الوزراء، ولا تعرضت لهم، وسلمت عليهم، وسلموا علي، ومهما عمله الوزير في من الغض فليس يمكنه أن يزيل من نفوس الخاصة والعامة، أني خلفت إسماعيل بن بلبل على الوزارة، وتقلدت كذا وكذا، وأخذ يعدد كبار الأعمال التي وليها، وأن مثل هذا لا يناط بعاجز، ولا أن يستخرج من النفوس عظم محلي فيها، مع سعة الحال، وكثرة الضياع والمال، ولا يمكنه في طمس محلي أكثر مما قد عمله، وأنا بين أمور، إما توصلت إلى إزالة ذلك عني بما لعله يثقل على الوزير، وآثرت صفاء نيته فاستعفيت من العمل، ولزمت بيتي، فلم أكن فيه خاملاً ولا ساقطاً ثم حصلت حيث أختار، من الكون في جملة أولياء الوزير أو أعدائه، فإما أعفاني مما يستعمله معي، وردي الخبر إلى العادة التي يستحقها من نصب في مثل منصبي، أو أعفاني من العمل لألزم بيتي.
فقلت له: يا أبا عيسى، لن ترى بعد هذا شيئاً تنكره، ولن أكون لك إلا على أفضل محبتك، فبكر إلى ليبين لك مصداق ذلك.
فلما جاءني اليوم، عاملته بما رأيته.
حكايات عن وقار الوزير علي بن عيسى وزماتتهويشبه قول علي بن عيسى لأخيه: إن كان فضولاً فلا تسل عنه، ما كان يبلغنا عنه من الزماتة الشديدة، والوقار العظيم، ومطالبة نفسه بإحتشام الخلق، واستعمال ذلك مع أهله وولده.
حدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: بلغني عن بعض أكابر ولده أنه دخل إليه في آخر عمره، وهو متسلق، فلما رأى ابنه جلس منتصباً.
وأخبرني أبي رحمه الله، وأبو الحسين بن عياش: أنهما كانا يشاهدان كانا أبا الحسن في آخر الأوقات في المجالس الحافلة، يجلس عند باب مفتوح، وبين البابين مسورة يستند إليها، وعلى الباب ستر قد أرخي حتى بلغ الأرض وغطى المسورة، وصار حجاباً بين الناس وبينها، وهو ملتزق بالستر احتشاماً للناس أن يستند بحضرتهم، وما زال الناس على هذا.
حكاية عن تزمت القاضيأبي جعفر بن البهلول: حدثني أبو الحسن بن أبي طالب بن أبي جعفر بن البهلول، قال: كنت وأنا صبي، أجيء، وألعب، بحضرة جدي، فيصبح علي.
قال: ما دخلت إليه قط، وهو مكشوف الرأس، إلا أخذ القلنسوة من خلف مسورته، ولبسها، وجلس متزمتاً علي وسني إذ ذاك عشر سنين، أو حواليها، إلى أن أنصرف، فأراه إذا بعدت، وقد وضعها عن رأسه.
بين الوزير علي بن عيسىوالوزير أبي علي بن مقلة: ويشبه فعل أبي الحسين علي بن عيسى بأبي عيسى أخي صخرة، ما أخبرني به الثقة، قال: أخبرني جماعة من الكتاب، أنه بلغه أن المقتدر قد عمد على صرفه بأبي علي بن مقلة، وكان يخلفه إذ ذاك على عدة دواوين، فاستدعاه، وطالبه بأعمال يعملها له من الدواوين، فوعده بإحضارها.
فلما كان بعد أيام، خاطبه بحضرة الناس يريد الغض منه، فقال له: طلبت منك أعمالاً فما أحضرتها، وأنا أعلم تعذرها عليك، فإن كان الأمر كذلك، فأفصح عن نفسك.
فقال ابن مقلة: قد أحضرتها، ووضعها بين يديه.
فأخذ يقرؤه، ويعجب مشايخ الكتاب الحضور من خطائه فيها، ويوافقه على ضعف صناعته، ويفضحه في موضع يخرجه، ويقول له في عرض الخطاب؛ هذه حياكة: ليست كتابة، ويضرب على عمل عمل، وبرسم في أضعافه، كيف يجب أن يعمل، والكتاب الحاضرون يعجبون من حسن ما يورده أبو الحسن، وضعف ما أورده أبو علي، إلى أن ضرب على جميع أعمال، ثم قال له: قم فاعملها على هذا، وحررها، وجئني بها، فقام أبو علي يجر رجله.
فلما ولي عن حضرة أبي الحسن، قال: إن أمراً عجز عنه علي بن محمد بن الفرات، ونحن فيه مرتكبون، تقوم به أنت؟ لشيء عجيب.

قال: فلما كان في اليوم الرابع أو الخامس من هذا الحديث، قبض على علي بن عيسى، وسلم إلى أبي علي، وقلد الوزارة، فاعتمد الغض من أبي الحسن، فما قدر على ذلك بأكثر من المكاره، والمخاطبة له في وجهه بما يرتفع عنه أرباب المروءات.
فمن ذلك، إن هذا المخبر أخبرني، قال: حدثني أبو أحمد الشيرازي الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر قال: كنت بحضرة أبي علي بن مقلة يوماً في وزارته وقد دخل عليه علي بن عيسى فجلس بين يديه، وكان أبو عبد الله العلوي الموسوي حاضراً، وأبو علي الحسن بن هارون.
فقال أبو علي بن مقلة للحسن بن هارون: اكتب رقعة عن أبي عبد الله يصف فيها اختلال ضيعته، ويسأل فيها الاحتساب له بمظلمة، وإطلاق معونة له.
ففعل الحسن بن هارون ذلك في الحال، وعرض الرقعة، فوقع بإخراج الحال، وأنفذ إلى الكاتب بأن أخرج الحال مصدقاً لما في الرقعة.
ففعل ذلك .
فوقع تحت إخراج الحال بإطلاق عشرين كراً حنطة وعشرين كراً شعيراً معونة له، والاحتساب بما ذكر مبلغه في المظلمة، وقال لأبي علي الحسن ابن هارون: سلمه إلى أبي عبد الله.
قال، فاستحسن الحاضرون كرمه في ذلك على رجل علوي، وأخذ أبو الحسن علي بن عيسى يشكر له ذلك ويصوبه له.
فقال له مجيباً: فلم تفعل مثل هذا يا أبا الحسن في وزارتك؟.
قال، فنهض أبو الحسن، وقال: ستودع الله الوزير، ولم يجب بحرف واحد.
تزمت الوزير علي بن عيسى وتخشنهومن زماته أبي الحسن علي بن عيسى وتخشنه، أنه كان يجب أن يبين فضله في هذا على كل أحد، أخبرني به غير واحد: إن أبا عمر القاضي دخل يوماً في بعض وزاراته، وعلى أبي عمر قميص دبيقي سشتري فاخر، فأراد الحسن أن يخجله فقال له: يا أبا عمر بكم اشتريت شقة هذا القميص؟.
فقال: بمائتي دينار.
فقال أبو الحسن: ولكني اشتريت لي هذه الشقة التي قطعت منها هذه الدراعة وهذا القميص الذي تحتها بعشرين ديناراً.
فقال له أبو عمر مسرعاً كأنه قد أعد له الجواب: الوزير أعزه الله يجمل الثياب، ولا يحتاج إلى المبالغة فيها، ونحن نتجمل بالثياب، فنحتاج إلى المبالغةفيها لأنا نلابس العوام، ومن نحتاج إلى التفخيم عليه، وإقامة الهيبة في نفسه بها، والوزير أيده الله يخدمه الخواص، أكثر من خدمة العوام، ونعلم أنه يدع هذا عن قدرة.
قال: فكأنما ألقم أبا الحسن حجراً، وسكت عنه.
الوزير علي بن عيسى يفرضعلى ملك الروم أن يحسن معاملة الأسارى المسلمين: حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن، قال حدثني مكرم ابن بكران، عن أبي يحيى بن مكرم القاضي، قال: كنت خصيصاً بأبي الحسن علي بن عيسى، وربما شاورني في شيء من أمره، قال: دخلت عليه يوماً وهو مغموم جداً، فقدرت أنه بلغه عن المقتدر أمر كرهه، فقلت هل حدث شيء؟ وأو مات إلى الخليفة.
فقال: ليس غمي من هذا الجنس، ولكن مما هو أشد منه.
فقلت: إن جاز أن أقف عليه فلعلي أقول فيه شيئاً.
فقال: نعم، كتب إلى عاملنا بالثغر، أن أسارى المسلمين في بلد الروم، كانوا على رفق وصيانة إلى أن ولي آنفاً، ملك الروم، حدثان، فعسفا الأسارى، وأجاعهم، وأعرياهم، وعاقباهم، وطالباهم بالتنصر، وأنهم في جهد جهيد، وبلاء شديد، وليس هذا مما لي فيه حيلة، لأنه أمر لا يبلغه سلطاننا، والخليفة لا يطاوعني، فكنت أنفق الأموال، وأجتهد، وأجهز الجيوش حتى تطرق القسطنطينية.
فقلت أيها الوزير، هاهنا رأي أسهل مما وقع لك، يزول به هذا.
فقال: قل يا مبارك.
فقلت: إن بانطاكية عظيماً للنصارى يقال له البطرك، وببيت المقدس آخر يقال له القاثليق، وأمرهما ينفذ على ملك الروم، حتى انهما ربما حرما الملك فيحرم عندهم، ويحلانه فيحل.
وعند الروم أنه من خالف منهم هذين فقد كفر، وأنه لا يتم جلوس الملك ببلد الروم إلا برأي هذين، وأن يكون الملك قد دخل إلى بيعتهما، وتقرب بهما، والبلدان في سلطاننا، والرجلان في ذمتنا، فيأمر الوزير بأن يكتب إلى عاملي البلدين بإحضارهما، وتعريفهما ما يجري على الأسارى، وإن هذا خارج الملك، وإنهما إن لم يزيلا هذا، لم يطالب بجريرته غيرهما، وينظر ما يكون من الجواب.
قال: فاستدعي كاتباً، وأملى عليه كتابين في ذلك، وأنفذهما في الحال، وقال: سريت عني قليلاً، وافترقنا.

فلما كان بعد شهرين وأيام، وقد أنسيت الحديث، جاءني فرانق من جهته يطلبني، فركبت وأنا مشغول القلب بمعرفة السبب في ذلك، حتى وصلت إليه، فوجدته مسروراً، فحين رآني قال: يا هذا، أحسن الله جزاءك عن نفسك ودينك وعني.
فقلت: ما الخبر؟.
قال: كان رأيك في أمر الأسارى أبرك رأي وأصحه، وهذا رسول العامل قد ورد بالخبر، وأومأ إلى رجل كان بحضرته، وقال له: خبرنا بما جرى.
فقال الرجل: أنفذني العامل مع رسول البطرك والقاثليق، برسالتهما إلى قسطنطينية وكتبا إلى ملكيهما: إنكما قد خرجتما عن ملة المسيح بما فعلتماه بالأسارى وليس لكما ذلك، فإنه حرام عليكما، ومخالف لما أمرنا به المسيح من كذا وكذا، وعددا أشياء في دينهما، فإما زلتما عن هذا واستأنفتما الإحسان إلى الأسارى، وتركتما مطالبتهم بالتنصر، وإلا لعناكما على هذين الكرسيين وحرمنا كما.
قال: فمضيت مع الرسول، فلما صرنا بقسطنطينية، حجيت عن الملكين أياماً، وخليا بالرسول، ثم استدعياني إليهما، فسلمت عليهما، فقال لي ترجمانهما: يقول لك الملكان، إن الذي بلغ ملك العرب من فعلنا بالأسارى، كذب وتشنيع، وقد أذنا في إدخالك دار البلاط لتشاهد أساراكم، فترى أحوالهم بخلاف ما بلغكم، وتسمع من شكرهم لنا، ضد ما اتصل بكم.
قال: ثم حملت إلى دار البلاط فرأيت الأسارى، وكأن وجوههم قد أخرجت من القبور، تشهد بالضر الشديد والجهد الجهيد وما كانوا فيه من العذاب إلى حين قدومنا إلا أنهم مرفهون في ذلك الوقت، وتأملت ثيابهم، فإذا جميعها جدد، فعلمت أني منعت من الوصول تلك الأيام حتى غير زي الأسارى وأصلح أمرهم.
وقال لي الأسرى: نحن للملكين شاكرين، فعل الله بهما وصنع، وأومأوا إلي: إن الأمر كان كما بلغكم، ولكنه خفف عنا، وأحسن إلينا، بعد حصولك هاهنا.
وقالوا لي كيف عرفت حالنا؟ ومن تنبه علينا، وأنفذك بسببنا؟.
فقلت لهم: ولي الوزارة علي بن عيسى فبلغه ذلك، فأنفذ من بغداد، وفعل كذا وكذا.
قال: فضجوا بالدعاء إلى الله تعالى للوزير، وسمعت امرأة منهم تقول: مر يا علي بن عيسى لا نسي الله لك هذا الفعل.
قال: فلما سمع ذلك علي بن عيسى أجهش بالبكاء، وسجد حمداً لله سبحانه وتعالى، وتر الرسول، وصرفه.
فقلت له: أيها الوزير، أسمعك دائماً تتبرم بالوزارة، وتتمنى الإنصراف عنها في خلوتك خوفاً من آثامها، فلو كنت في بيتك، هل كنت تقدر أن تحصل هذا الثواب ولو أنفقت فيه أكثر مالك؟ فلا تفعل، ولا تتبرم بهذا الأمر فلعل يمكنك ويجري على يديك أمثال هذا الفعل، فتفوز بثوابه في الآخرة، كما تفردت بشرف الوزارة في الدنيا.
ابن الرزق الله، التاجر البغدادييوقف في بلاد الروم أكسية لتدفئة أسارى المسلمين: حدثني أبو محمد، عبد الله بن أحمد بن داسه البصري، قال: حدثني علي بن إبراهيم بن حمادى القاضي: إن بعض مشايخ العرب أخبره عن رجل المسلمين، أسر، ثم رجع إلى دار الإسلام، قال: لما حملنا إلى بلد الروم مرت بنا شدائد، فحصلنا عدة ليال لا ننام من البرد، وكدنا نتلف، ثم دخلنا قرية، فجاءنا راهب فيها بأكسية وقطف ثقيلة دفية، فغطى جميع الأسارى، كل واحد بواحدة، فعشنا تلك الليلة، فأقامونا في تلك القرية أياماً، فكانت سبيلنا هذه، ثم نقلونا إلى أخرى، فعادت حالنا في العري والبرد إلى الأولى.
فسألنا عن السبب في ذلك، فقالوا: إن رجلاً ببغداد من التجار يقال له ابن رزق الله، صهر ابن أبي عوف، توصل إلى أن حصلت له هذه الأكسية والقطف عند الراهب، بغرامات مال جليل، وسأله أن يغطي بها من يحصل في قريته من أسارى المسلمين، وضمن له أن ينفق على بيعة في بلد الإسلام بإزاء هذا في كل سنة شيئاً ما دامت الأكسية محفوظة للاسارى، فالراهب يفعل ذلك في هذه القرية، وما قبلها وما بعدها ليس فيها شيء من هذا.
فأقبلنا ندعو لابن رزق الله كما نفحنا البرد، ولحقتنا الشدة، ونحن لا نعرفه.
شخص متعطل زور كتاباً عن لسان
الوزير ابن الفرات، إلى عامل مصر: حدثني أبو الحسين، عبد الله بن أحمد بن عياش القاضي: إن رجلاً دامت عطلته، فزور كتباً عن علي بن محمد بن الفرات، وهو وزير، إلى أبي زنبور عامل مصر، وخرج إليه ولقيه بها.
فأنكرها أبو زنبور، لإفراط التأكيد فيها، وكثرة الدعاء للرجل، وأن محله عنده لم يكن يقتضي ذلك الترتيب، واستراب بالخطاب أيضاً.

فوصل الرجل بصلة يسيرة، وأمر له بجراية، وقال: تأخذها إلى أن أنظر في أمرك.
وأنفذ الكتب في خاص كتبه إلى ابن الفرات، وشرح له الصورة، وكان فيها: إن للرجل حرمة وكيدة بالوزير، وخدمة قديمة.
قال: فوصلت الكتب إلى أبي الحسن بن الفرات، وأصحابه بين يديه فعرفهم الصورة، وعجبهم منها، وقال: ما الرأي في أمر الرجل؟ فقال: بعضهم: تقطع يده لتزويره على الوزير.
وقال بعضهم: يقطع إبهامه.
وقال بعضهم: يضرب ويحبس.
وقال بعضهم: يكشف لأبي زنبور أمره، ويتقدم بطرده، ويقتصر به على الحرمان مع بعد الشقة.
فقال ابن الفرات: ما أبعد طباعكم عن الجميل، وأنفرها من الحرية، رجل توسل بنا، وتحمل المشقة إلى مصر، وأمل بجاهنا الغنى، ولعله كان لا يصل إلينا، ولا حرمة له بنا فيأخذ كتبنا، فخفف عنا بأن كتب لنفسه ما قدر أن به صلاحه، ورحل ملتمساً للرزق، وجعلنا سببه، يكون أحسن أحواله عند أجملكم محضراً الخيبة؟.
ثم ضرب بيده إلى الدواة، وقلب الكتاب المزور، ووقع عليه بخطه: هذا كتابي ولا أعلم لأي سبب أنكرته.
ولا كيف استربت به، كأنك عارف بجميع من خدمنا في النكبة، وأوقات الاستتار، وقديم الأيام، وقد أحطت علماً بجميعهم، فأنكرت أبا فلان هذا - أعزه الله - من بينهم، وحرمته بي أوكد مما في هذا الكتاب، وسببه عندي أقوى مما تظن، فأجزل عطيته، وتابع بره ووفر حظه من التصرف فيما يصلح له، وافعل به واصنع، وأصدر الكتاب في الحال.
فلما كان بعد مدة طويلة، دخل عليه رجل جميل الهيئة، حسن الزي والغلمان، فأقبل يدعو له، ويبكي، ويقبل الأرض بين يديه، وابن الفرات لا يعرفه، ويقول: يا بارك الله عليك - وكانت هذه كلمته - ما لك؟.
فقال له: أنا صاحب الكتاب المزور إلى أبي زنبور، الذي حققه تفضل الوزير، فعل الله به وصنع.
قال: فضحك ابن الفرات، وقال: فبكم وصلك؟.
قال: وصل إلي من ماله، قسطه لي، ويتصرف صرفني فيه، عشرون ألف دينار.
قال ابن الفرات: الحمد لله، الزمنا، فإننا ننفعك بأضعافها.
قال: فلزمه وفاتشه، فوجده كاتباً، فاستخدمه، وأكسبه مالاً عظيماً، وصار ذلك سبباً لحرمة الرجل به.
أبو عمر القاضي يعامل بالجميلرجلاً زور عنه رقعة بطلب التصرف: حدثني أبو أحمد بن أبي الورد شيخ من أبناء القضاة لقيته سنة تسع وأربعين وثلثمائة ببغداد، قال حدثني أبي وكان خصيصاً بأبي عمر القاضي.
إن رجلاً زور عنه رقعة إلى أبي القاسم ابن الحواري، يسأله تصريفه وكانت بينهما مودة.
وصار الرجل بالرقعة إلى أبي القاسم، فأخذت منه وحجب، فجلس يتوقع الجواب.
فاتفق أن جاء القاضي أبو عمر وأنا معه ليسلم على ابن الحواري، ودخلنا، فوجد القاضي الرقعة بحضرته مشبهة بخطه، فوجم لذلك، وتشوف لمعرفة الخبر، وكان فيه من الوقار والرصانة والفضل المشهور الذي ضرب به المثل، ما لم يتبين لابن الحواري معه ذلك عليه، وفطنت أنا لدربي بأخلاقه.
وحانت لابن الحواري التفاتة، فرأى الرقعة في يده، فقال: أيها القاضي الساعة وصلت، وأنا أفعل ما التمسه في معنى الرجل.
فشكره أبو عمر، وخاطبه بما أوهمه فيه إنها رقعته، من غير أن يطلق ذلك، وكان أفعل الناس لهذا، وأقدرهم على أن يتكلم دائماً في الأمور بما يحتمل معنيين، ويحتاج إلى تفسير للمقصد، توقياً منه، ودهاء.
وقال أبو عمر: فليطلب الرجل، إن كان حاضراً ويدخل، فطلبوه وأدخلوه، وقد امتقع لونه.
فقال له ابن الحواري: أنت الموصل لرقعة القاضي أعزه الله؟.
فقال: نعم.
فقال له أبو عمر: إنه أعزه الله قد وعد بتصريفك والإحسان إليك فالزمه.
قال: وتحدثنا ساعة، ونهض أبو عمر، وقال لي سراً: جئني به.
فتأخرت وونسته، وحملته إليه، فدخلت عليه به وهو خال ينتظرنا وحده.
فقال له: ويلك، أتزور على خطي، وأنا حاكم، وخطي ينفذ في الأموال والفروج والدماء؟ ما كان يؤمنك أن أعرفأبا القاسم أمرك فتصير نكالاً.
فبكى الرجل وقال: والله، أيها القاضي، ما حملني على ذلك إلا عدم القوت، وشدة الفقر، وأني وثقت بكرمك ففعلت ذلك، إذ كان غير متصل بحكم ولا شهادة، وقدرت أيضاً أن ذلك ينستر عنك، وأنتفع أنا من حيث لا يضرك.

فقال له أبو عمر: الله إن الفقر حملك على هذا؟ فقال: إي والله، فبكى أبو عمر، وسار خادماً له، فغاب الخادم قليلاً، ثم جاء بصرة فيها مائة دينار، ومنديل فيه دست ثياب، فسلمه إلى الرجل.
فقال له أبو عمر: اتسع بهذا، والبس هذا، والزم أبا القاسم فإني أؤكد عليه أمرك، واحلف لي أن لا تزور على خطي أبداً.
فحلف له الرجل على ذلك وانصرف.
فلما كان بعد شهور جاءنا مسلماً على أبي عمر بمركوب حسن وثياب فاخرة، فأخذ يشكر أبا عمر ويدعو له، وهو لا يعرفه، وقد ذكرته أنا.
فقال له أبو عمر: يا هذا على أي شيء تشكرني؟.
فقال: أنا صاحب الرقعة إلى أبي القاسم ابن الحواري، الذي وصلني القاضي بماله، وأحياني بجاهه، وقد صرفني أبو القاسم طول هذه المدة، فبلغت حالي إلى هذا، وأنا أدعو الله للقاضي أبداً.
فقال أبو عمر: الحمد لله على حسن التوفيق.
أراد أن يزور على رجل مرتعش اليدحدثني أبو الحسين بن عياش القاضي، قال: رأيت صديقاً لي على بعض زواريق الجسر ببغداد، جالساً في يوم ريح شديد، وهو يكتب.
فقلت ويحك في مثل هذا الموضع، ومثل هذا الوقت؟.
فقال: أريد أن أزور على رجل مرتعش، ويدي لا تساعدني، فتعمدت الجلوس ها هنا لتحرك الزورق بالموج في هذه الريح، فيجيء خطي مرتعشاً، فيشبه خطه.
الوزير ابن مقلة يزور عليه أخوهحدثني أبو الحسين، قال: حضرت أبا علي بن مقلة، وقد عرضت عليه، وهو وزير، عدة تسبيبات، وتوقيعات، قد زورها عليه أخوه أبو عبد الله، وارتفق عليها، وكان أبو عبد الله حاضراً، فاستقبح أن يفضحه فيها.
فلما كثرت عليه، التفت إليه، فقال: يا أبا عبد الله، قد خففت عنا، حتى ثقلت، وخشينا أن نثقل عليك، فأحب أن تخفف عن نفسك هذا التعب.
قال: فضحك أبو عبد الله، وقال السمع والطاعة للوزير.
عمران المملكة أساس صلاح الرعيةحدثني القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي قال: استتر في دورنا عند أبي، أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، المعروف بابن حنزابة، وكنت حدثاً، فكان يستدعيني دائماً، ونتحدث، وألعب معه الشطرنج.
فقال لي يوماً، وقد جرى حديث نقصان دخل المقتدر عن خرجه: نظرت، فإذا دخل المملكة كذا وكذا، وخرجها كذا وكذا، وإذا دخل ضياع عمي أبي الحسن، وما قبض معها من ضياعنا، كان في وقت قبضها، كذا وكذا، وهو اليوم الثلث ذلك، ولو مكنت من ضياعها وحدها، لعمرتها، فعاد ارتفاعها إلى ما كان عليه، فوفر ما بين الإرتفاعين يعمر الدنيا كلها، وإنما أملاكنا شقص يسير من الأرض، فكيف لو كان للدنيا من يهتم بعمارة جميعها؟.
قال القاضي أبو الحسن: وما سمعت أعظم من هذا، وذلك قبل تقلد أبي الفتح الوزارة.
وكان أبو الحسن، يحفظ مبلغ المال، وأخبرني به، فذهب عني.
الوزير ابن الفرات يحسن خياطحدثني أبي رضي الله عنه، قال: بلغني أن أبا الحسن بن الفرات، اجتاز وهو متوسط الحال، في بعض الدروب الضيقة راكباً، وبين يديه غلامان، فسال عليه ميزاب من دار فصيره آية ونكالاً.
فقال لأحد غلمانه: اطلب لي موضعاً أدخله.
فدق على قوم بابهم، وكان صاحب الدار خياطاً، فلما رأى شارة أبي الحسن، وهيأته، أعظمه وخدمه، وأدخله وأجلسه، وأخذ ثيابه فدفعها إلى زوجته لتغسلها، وجلس يحادثه، وبادر الغلام الآخر إلى دار أبي الحسن فجاءه بخلعه ثياب قبل أن يفرغ من غسل ذلك القماش، فلبسها، وأمر بترك تلك الثياب على القوم، وانصرف.
وضرب الدهر ضربه، وولي الوزارة الأولة.
فاجتاز يوماً راكباً في موكب عظيم، فقام الناس ينظرونه، وقام الخياط، فلما رآه عرفه، فقال لأهل سوقه: إن لي مع هذا الرجل قصة طريفة، وأخبرهم بها.
فقالوا له: إنه كريم، ولو قصدته لانتفعت.
فلما كان من غد قصده الخياط، فصادف مصيره إلى بابه ركوب ابن الفرات، فدعا له، وقال: لي بالوزير حرمة.
فتأمله ابن الفرات، فعرفه، وتذكر قصته، فأمر بإجلاسه.
فلما عاد استحضره وسأله عن خبره، وخبر زوجته، وأولاده.
فأخبره ووصف خلة.
فقال له: أيما أحب إليك الجائزة أو الخدمة لنا؟ فقال: بل خدمة الوزير.
فأمر بألف دينار، وأن يجعل رئيساً على الخياطين في داره، ففعل به ذلك.
فما مضت عليه مديدة حتى صار صاحب عشرات ألوف.
الوزير المهلبي يحسن إلى كواز

وقد شاهدت أنا، قريباً من هذا، من الوزير أبي محمد، الحسن بن محمد المهلبي رحمه الله، وذلك: إن أبا محمد عبد الرحمن بن نصر السكري البصري، صاحب البريديين، وتقلد شرطة البصرة دفعات، دعاة في وزارته، فجاء إليه إلى داره في شارع المربد.
فلما أراد الرجوع من داره إلى مسماران - وكان أبو محمد المهلبي رحمه الله، قد نزلها - استقبح الإجتياز بالجامع مع أنه شارب، فعدل في الأزقة إلى سيحان، ليركب منها طيارة.
فلما بلغ حيث تعمل الكيزان، حقنه بوله، فدخل دار قوم صنعاء، فبال، فدعا له صاحب الدار.
فقال له: هذه الدار لك؟ قال: لا، هي بأجرة معي.
قال:كم أجرتها؟ قال: خمسة دراهم في الشهر.
قال: وكم تساوي؟ قال خمسمائة درهم.
قال: وكم رأس مالك في عمل الكيزان؟ قال: مائة درهم.
فدفع إليه في الحال ألف درهم، وقال: اشتر منها الدار، ورد الباقي في رأس مالك، وركب.
من مكارم أخلاق الوزير أبي محمد المهلبيوكان رحمه الله، من بقايا الكرام، ولقد شاهدت له مجلساً في شهر رمضان، سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، كأنه من المجالس البرامكة، ما شهدت مثله قط قبله ولا بعده، وذلك: إن كاتبه على ديوان السواد، أبو الحسن عبد العزيز بن إبراهيم، المعروف بابن حاجب النعمان، سقط من روشن في دار أبي محمد على دجلة، فمات في اليوم الثامن من السقطة.
فجزع عليه أبو محمد، وجاء من غد إلى أولاده، لأنهم كانوا دفنوه عشياً، وكنت معه وحضر، وقد أعدوا له دستاً يجلس فيه، فلما دخل عدل عنه ولم يجلس فيه، فعزاهم بأعذب لسان، وأحسن بيان، ووعدهم الإحسان، وقال: أنا أبوكم، وما فقدتم من ماضيكم غير شخصه.
ثم قال لابنه الأكبر أبي عبد الله: قد وليتك موضع أبيك، ووردت إليك عمله، ووليت أخاك الحسين، وكان هذا صبياً سنه إذ ذاك عشر سنين أو نحوها كتبة حضرة ابني أبي الغنائم، وأجريت عليه كذا وكذا - رزقاً كثيراً، وقد ذهب عني - فليلزمه، فإن سنيهما متقاربة، ليتعلم بتعلمه، وينشأ بنشأته، فيجب حقه عليه.
ثم قال لأبي العلاء صاعد بن ثابت، خليفته على الوزارة: اكتب عهداً لأبي عبد الله، واستدع كل من كان أبو الحسين رحمه الله، مستأجراً منه شيئاً، فخاطبه في تجديد الإجارة للورثة، فإن أكثر نعمته، إنما كانت دخالات وإجارات ومزارعات، وقد انحلت الآن بموته، ومن امتنع فزده من مالي، واسأله، ولا تقنع إلا بتجديد العقد كيفما جرت الحال.
ثم قال لأبي المكارم بن ورقاء، وكان سلف الميت: إن ذيل أبي الحسن طويل، وقد كنت أعلم إنه يجري على أخواته وأولادهن وأقاربه شيئاً كثيراً في كل شهر، وهؤلاء الآن يهلكون بموته، ولا حصة لهم في إرثه، فقم إلى ابنه أبي محمد المادرائي - يعني زوجة المتوفى - فعزها عني، واكتب عنها جريدة بأسماء جميع النساء اللواتي كان أبو الحسن يجري عليهم وعلى غيرهن، من الرجال وضعفاء حاشيته.
وقال لأبي العلاء: إذا جاءك بالجريدة، فأطلقها عاجلاً لشهر، وتقدم بإطلاقها على الإدرار، فبلغت الجريدة ثلاثة آلاف وكسراً في الشهر، وعملت في المجلس وأطلق مالها وامتثل جميع ما رسم به أبو محمد.
فلم يبق أحد إلا بكى رقة واستحساناً لذلك.
ولقد رأيت أبا عبد الله محمد بن الحسن الداعي العلوي رحمه الله، ذلك اليوم، وكان حاضراً المجلس، وقد أجهش بالبكاء، وأسرف في شكر أبي محمد، وتفريطه، على قلة كلامه إلا فيما يعنيه، وعلى سوء رأيه - كان - في أبي محمد،، ولكن الفضل بهره، فلم يمنعه ما بينهما، أن نطق بالحق.
وقلت أنا، لأبي محمد في ذلك اليوم: لو كان الموت يستطاب في وقت من الأوقات، لطاب لكل ذي ذيل طويل، في أيام سيدنا الوزير أطال الله بقاءه، فإن هذا الفعل، تاريخ الكرم، وغاية تسامي الهمم وبه يتحقق ما يروى عن الأسلاف من الأجواد، والماضيين من الكرماء الأفراد، وغير ذلك، مما حضرني في الحال.
ثم نهض أبو محمد رحمه الله، فارتفعت الضجة من النساء، والرجال، وأهل الدار، والشارع، بالدعاء له، والشكر.
الوزير المهلبي وأبو عبد الله الأزدي الموصليحدثني أبو محمد، يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي الموصلي:إن أبا عبد الله، والده، رحمه الله، توسط بين أبي محمد المهلبي، وناصر الدولة، في مال يحمله إلى معز الدولة، من صلح الموصل، فأنفق من المال أربعين ألف درهم، لإضافة لحقته.

وسبب عليه المهلبي بالمال كاملاً، وهو لا يعرف الخبر، وكانت بينهما مودة وأنس، فصحح أبو عبد الله الموجود، ودافع بما أنفق.
وجلس يوماً في داره ليحتال العوض ويرده، فجاءته رقعة أبي محمد يدعوه للشرب، فدافع، فركب، فأكلا، وجلسا للشراب.
فقال له أبو علي الأنباري: أرى فيك يا سيدي أبا عبد الله فتوراً، وكانت بينهما مودة، وأبو علي - إذ ذاك - يخلف الوزير أبا محمد على الوزارة وعنده ابنته، فحدثه أبو عبد الله بالحديث، وإن قلبه مشغول، إلى أن يتم له العوض ويرده، وسأله كتمان ذلك.
وتبين المهلبي في أبي عبد الله ذلك الفتور، فسأله عنه فورى عن الصدق وكبرت نفسه عن إخباره بذلك، فأمسك عنه، وقام أبو عبد الله إلى البول، فقال أبو محمد لأبي علي الأنباري: أما ترى فتور أبي عبد الله وهو صديقك، وقد رأيته يسارك، وأطنه قد خرج إليك بسبب كسله، فما هو؟.
فحدثه أبو علي بالحديث.
فلما عاد قال أبو محمد: يا أبا عبد الله، أيدك الله، ما أنصفتني في المودة، ولا أنصفت نفسك في السياسة، تهتم بسبب أربعين ألف درهم، أملك إسقاطها عنك، فتكاتمني ذلك، حتى كأنها عليك لغريب، أو بحق واجب.
وأخذ أبو عبد الله يجحد، ويقطب في وجه أبي علي، ثم أخرج سره.
فقال المهلبي، لأبي علي يجب الساعة أن ينفذ إلى الجهبذ، أن يكتب له - أيده الله - روزاً بها، وأن تجعل أنت لها وجوهاً في الخرج، وتولد بها نفقات واجبات - كما تعلم - على الأمير معز الدولة، لتسقط عن أبي عبد الله - أيده الله - ولا نغرهما نحن.
قال: فاستدعي الجهبذ وأخذ روزه، وسلمه إليه.
ثم قال له المهلبي: أي شيء ضرك أو ضرني من هذا، سقط عنك هم وثقل، وعني بقضائي بعض حقك، وخرج المال من مال الأمير، عد الآن إلى شربنا.
فما برح ليلته تلك من عنده، وسقط المال عنه.
عطايا الوزير المهلبي متواصلةوقد أخبرني جماعة من ندماء أبي محمد: إنه فرق في ليلة من الليالي عليهم، وعلى جماعة كانوا حضوراً معهم، من مغنين وملهين وغير ذلك، من الدراهم والثياب، ما يبلغ قيمة الجميع خمسة آلاف دينار.
ورأيته أنا، غير مرة، قد وهب للجهني ولأبي الفرج الأصبهاني خمسة آلاف درهم وأربعة آلاف درهم، ولغيرهما دائماً.
الوزير القاسم بن عبيد اللهيأمر أستاذه بالارتفاق: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني أبو إسحق إبراهيم بن السري الزجاج، قال: كنت أؤدب القاسم بن عبيد الله، وأقول له: إن بلغك الله مبلغ أبيك، ووليت الوزارة، ماذا تصنع بي؟ فيقول: ما أحببت.
فأقول له: تعطيني عشرين ألف دينار، وكانت غاية أمنيتي، فيقول: نعم.
فما مضت إلا سنون، حتى ولي القاسم الوزارة، وأنا على ملازمتي له، وقد صرت نديمه، فدعتني نفسي إلى إذكاره بالوعد، ثم هبته.
فلما كان في اليوم الثالث من وزارته، قال لي: يا أبا إسحق، لم أرك أذكرتني بالنذر؟.
فقلت: عولت على رعاية الوزير أيده الله، وأنه لا يحتاج إلى إذكار لنذر عليه، في أمر خادم واجب الحق.
فقال لي: إنه المعتضد، ولولاه ما تعاظمني دفع ذلك إليك في مكان واحد، ولكن أخاف أن يصير لي معه حديث، فاسمح لي بأخذه متفرقاً.
فقلت: يا سيدي، أفعل.
فقال: اجلس للناس، وخذ رقاعهم، للحوائج الكبار، واستجعل عليها، ولا تمتنع عن مسألتي شيئاً تخاطب فيه، صحيحاً كان أو محالاً، إلى أن يحصل لك مال النذر.
قال: ففعلت ذلك، وكنت أعرض عليه، كل يوم، رقاعاً، فيوقع فيها لي، وربما قال: كم ضمن لك على هذا؟ فأقول: كذا وكذا، فيقول: غبنت، هذا يساوي كذا وكذا، ارجع فاستزد، فأرجع القوم، ولا أزال أماكنهم، ويزيدوني حتى أبلغ الحد الذي رسمه لي.
قال: وعرضت عليه شيئاً عظيماً، فحصلت عندي عشرون ألف دينار وأكثر منها، في مديدة.
فقال لي بعد شهور: يا أبا إسحق، حصل مال النذر؟.
فقلت: لا، فسكت.
وظللت أعرض، فيسألني في كل شهر أو نحوه، هل حصل المال؟ فأقول: لا، خوفاً من انقطاع الكسب، إلى أن حصل عندي ضعف ذلك المال.
وسألني يوماً، فاستحييت من الكذب المتصل، فقلت: قد حصل ذلك ببركة الوزير.
فقال: فرجت والله عني، فقد كنت مشغول القلب، إلى أن يحصل لك.
قال: ثم أخذ الدواة، فوقع لي إلى خازنه بثلاثة آلاف دينار صلة فأخذتها وامتنعت أن أعرض عليه شيئاً، ولم أدر كيف يقع منه.

فلما كان من غد جئته، وجلست على رسمي، فأومأ إلي، أن هات ما معك، يستدعي مني الرقاع على الرسم.
فقلت: ما أخذت رقعة من أحد، لأن النذر قد وقع الوفاء به، ولم أدر كيف أقع من الوزير.
فقال: سبحان الله، أتراني كنت أقطع شيئاً قد صار لك عادة، وعلم به الناس، وصارت لك بمنزلة عندهم وجاه، وغدو ورواح إلى بابك، ولا يعلم سبب إنقطاعه، فيظن ذلك لضعف جاهك عندي، أو تغير رتبتك؟ أعرض علي على رسمك، وخذ بلا حساب.
فقبلت يده، وباكرته من غد بالرقاع، وكنت أعرض عليه كل يوم شيئاً إلى أن مات، وقد تأثلت حالي وكبرت.
الوزير عبيد الله بن سليمانيبيح جزءاً من مال الدولة لأحد صنائعه: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني شيخ من شيوخنا، ذكره هو، وقد غاب عني إسمه، قال: حدثني أبو عبد الله بن أبي عوف، قال: استتر عندي، عبيد الله بن سليمان، فدخلت إليه يوماً، في حجرة كنت أفردتها له من داري، فقام إلي، فقلت له ممازحاً كما جرى علي لساني: يا سيدي اخبأ لي هذا، إلى وقت انتفع به فيه.
قال: فلما كان بعد مدة، انتقل من عندي، فما مضت أيام حتى ولي الوزارة.
فقال لي أهلي: لو قصدته، وكانت حالي إذ ذاك صغيرة.
فقلت لهم: لا أفعل، أنا في ستر، وقصدي له الآن كأنه اقتضاء لثمن معروف أسديته إليه، وما أرضى لنفسي بهذا، ولو كان لي عنده خير لابتدأني به، فبت ليلتي تلك مفكراً، وكان هذا يوم الخلع.
فلما كان في السحر جاءني فرانقه برقعة بخطه، يعاتبني على تأخري عنه، ويستدعيني.
فصرت إليه، فإذا هو جالس، والخلق عنده، فلما صرت مع دسته، قام إلي قياماً تاماً، وعانقني، وقال لي في أذني: هذا وقت تنتفع فيه بقيامي لك، وجلس، وأجلسني معه على طرف الدست، فقبلت يده، وهنأته ودعوت له.
ومضت ساعة، فإذا قد استدعاه المعتضد، فقام، وأمرني أن لا أبرح.
فجلست، وامتدت العيون إلي، وخوطبت في الوقت، بأجل خطاب، وعظمت.
ثم عاد عبيد الله ضاحكاً، وأخذ بيدي إلى دار الخلوة، فقال: ويحك إن الخليفة الساعة استدعاني بسببك، وذلك أنه كوتب بخبر قيامي لك في مجلس الوزارة، فلما استدعاني الآن بدأ لينكر علي وقال: تبتذل مجلس الوزارة بالقيام لتاجر؟ ولو كان هذا لصاحب طرف كان محظوراً، أو ولي عهد كان كثيراً، وأخذ يتحاور في ذلك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، لم يذهب عني حق المجلس، وتوفية الرتبة حقها، ولكن لي عذراً، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسمعه، ثم ينفذ حكمه في، وأخبرته بخبري معك وقت استتاري عندك، فقال: أما الآن، فقد عذرتك فلا تعاود، فانصرف.
ثم قال لي عبيد الله: يا أبا عبد الله إني قد شهرتك شهرة، إن لم تكن معك مائة ألف دينار معدة للنكبة، هلكت، فيجب أن نحصلها لك لهذه الحال فقط، ثم نحصل لك نعمة بعدها، تسعك وعقبك.
فقلت: أنا عبد الوزير، وخادمه، ومؤمله.
فقال: هاتم فلاناً الكاتب، فجاء.
فقال: أحضر التجار الساعة، وتقص عليهم في تسعير مائة ألف كر من غلات السلطان بالسواد بما يساوي، وعرفني.
فخرج، وعاد بعد ساعة، وقال: قد قررت ذلك معهم.
فقال له: بع على أبي عبد الله، هذه المائة ألف كر، بنقصان دينار واحد مما قررت به السعر مع التجار، وبعه له عليهم بالسعر المقرر معهم، وطالبهم بأن يعجلوا له فضل ما بين السعرين اليوم، وأخرهم بالثمن إلى أن يتسلموا الغلات، واكتب إلى النواحي بتقبيضهم إياها.
قال: ففعل ذلك، فقمت عن المجلس، وقد وصل إلى مائة ألف دينار في بعض يوم، وما عملت شيئاً.
ثم قال: اجعل هذه أصلاً لنعمتك، ومعدة للنكبة، ولا يسألنك أحد من الخلق شيئاً إلا أخذت رقعته، وواقفته على أجرة لك عليها، وخاطبتني.
قال: فكنت أعرض عليه في كل يوم ما يصل إلي فيه ألوف دنانير، وأتوسط الأمور الكبار، وأداخل في المكاسب الجليلة، حتى بلغت النعمة إلى هذا الحد.
وكنت ربما عرضت عليه رقعة، فيقول لي: كم ضمن لك على هذه؟ فأقول: كذا وكذا.
فيقول: هذا غلط، هذا يساوي كذا وكذا، ارجع فاستزد.
فأقول له: إني أستحي.
فيقول: عرفهم أني لا أقضي لك ذلك إلا بهذا القدر، وأني رسمت لك هذا.
قال: فأرجع، فأستزيد ما يقوله، فأزاد.
الوزير عبيد الله بن سليمان

ورقاع إسماعيل القاضي: حدثني أبي رضي الله عنه، قال: سمعت القاضي أبا عمر، يقول: عرض إسماعيل القاضي، وأنا معه، على عبيد الله بن سليمان، رقاعاً في حوائج الناس، فوقع فيها.
فعرض أخرى، وخشي أن يكون قد ثقل عليه، فقال له: إن جاز أن يتطول الوزير أعزه الله بهذا، فوقع له.
فعرض أخرى، وقال: إن أمكن الوزير أن يجيب إلى هذا، فوقع، ثم عرض أخرى، وقال: إن سهل على الوزير أن يفعل ذلك، فوقع له، فعرض أخرى، وقال شيئاً من هذا الجنس.
فقال: له عبيد الله: يا أبا إسحق، كم تقول إن أمكن؟ وإن جاز؟ وإن سهل؟ من قال لك إنه يجلس هذا المجلس، ثم يتعذر عليه فعل شيء على وجه الأرض من الأمور، فقد كذبك، هات رقاعك كلها، في موضع واحد.
قال: فأخرجها إسماعيل من كمه، وطرحها بحضرته، فوقع فيها، وكانت مع ما وقع فيه قبل الكلام نحو ثمانين رقعة.
الوزير ابن مقلةيتبرم برقاع ذوي الحاجات: حدثني الحسين بن الحسن الواثقي، قال: كنت أرى دائماً، أبا محمد جعفر بن ورقاء، يعرض على أبي علي ابن مقلة، في وزارته، الرقاع الكثيرة، في حوائج الناس، في مجالس حفلة وخلوته، فربما تجاوز ما يعرضه في يوم، مائة رقعة.
فعرض عليه يوماً، في مجلس خال، شيئاً كثيراً، فضجر أبو علي، وقال له: إلى كم يا أبا محمد؟ فغضب جعفر، وقال: أيد الله الوزير، إن كان فيها شيء لي فخرقه، إنما أنت الدنيا ونحن طرق إليك، وعلى بابك الأرملة، والضعيف، وابن السبيل، والفقير، ومن لا يصل إليك، فإذا سألونا سألناك، فإن صعب هذا عليك، أمرنا الوزير - أيده الله - أن لا يعرض عليه شيئاً، ونعرف الناس ثقل حوائجهم عليه، وضعف جاهنا عنده، ليعذرونا.
فقال له أبو علي: لم أذهب حيث ذهبت يا أبا محمد، وإنما أردت أن تكون هذه الرقاع الكثيرة في مجلسين، أو مجلس يحضر فيه الكتاب فيخففون عني بالتوقيعات فيها، ولو كانت كلها حوائج تخصك لقضيتها، وكان سروري بذلك أعظم، هاتها.
قال: فأخذها جميعها، ووقع له فيها بما التمس أرباب الرقاع.
فشكره جعفر، وقبل يده، وانصرف.
الوزير علي بن عيسىورقاع أبي بكر الشافعي: حدثني الفضل بن أحمد الحياني، قال: قال لي أبو بكر الشافعي صاحب علي بن عيسى: لما أفلتنا من مصادرة المحسن بن الفرات، بعد ما جرى علي من مكروهه، ومصادرته، وإيقاعه بي بسبب صحبتي لعلي بن عيسى، وأفضى الأمر إلى أبي الحسن علي بن عيسى، أردت الانتفاع بأمور أتكلم فيها، أخلف بما أخذه منها، بعض ما صودرت عليه، فأخذت رقاعاً كثيرة للناس، وكنت أعرضها على أبي الحسين فيوقع فيها.
فعرضت عليه يوماً شيئاً كثيراً، فضجر مني، فقلت: أيها الوزير، إذا كان حظنا من أعدائك، في أيام نكبتك الصفع، ومنك، في أيام ولايتك، المنع، فمتى - ليت شعري - وقت النفع؟ قال: فضحك، ورقع لي في جميعها، وما تضجر من شيء أعرضه عليه بعد ذلك.
الوزير علي بن عيسىومحمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي: حدثني أبو السري، عمر بن محمد القارىء، قال: حدثني أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى، قال: قال لي أبي: عرض علي أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، في بعض وزاراتي، رقعة التمس فيها محالاً، وقبل يدي، فعملت على إجابته إليه، وتركت الرقعة بحضرتي، أتفكر كيف أعمل ذلك من غير عتب.
وعرض لي رأي الركوب، فنهضت.
فقبض محمد بن الحسن على يدي، وقال: أنا نفي من العباس إن تركت الوزير يركب، إلا بعد أن يوقع لي في رقعتي، أو يقبل يدي كما قبلت يده.
قال: فوقعت له قائماً، وعجبت من سوء أدبه، وعظم وقاحته.
الوزير أبو محمد المهلبيومحمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي: ولقد شاهدت أبا بكر محمد بن الحسن، هذا، في سنة خمسين وثلثمائة، وقد تقلبت الأيام به، وبأهل بيته، بحضرة أبي محمد المهلبي، وقد كان العيارون ثاروا ببغداد، وأوقعوا فتناً عظيمة، كان أصلها بنو هاشم، وغلقوا الجامع بالمدينة فلم تصل فيه تلك الجمعة.
وكان سبب ذلك، عربدة وقعت بين رجل عباسي وبين رجل علوي، على نبيذ، في خندق طاهر، فقتل العلوي، وثار أهله به، وثارت الفتنة ودخلت العامة فيها، وعظم الأمر، حتى أجلس الديلم في الأرباع، وكان شيئاً هائلاً.

ولم تسكن الفتنة، فقبض أبو محمد، على أكثر بني العباس، الوجوه والمستورين، والعيارين منهم والذعار، حتى قبض في جملتهم على عدة قضاة وشهود هاشميين وصلحاء، وكان ممن قبض عليه محمد بن الحسن ابن عبد العزيز.
وجلس لهم الوزير أبو محمد، يوماً، ليناظرهم، وسامهم أن يسموا له العيارين منهم، والأحداث وحملة السكاكين، ليقبض عليهم، ويفرج عن الباقين، وأن يكفل منه أهل الصلاح، ولأهل الطلاح، ويأخذون على أيديهم، لتطفأ نائرة الفتنة.
وكان القاضي أبو الحسن، محمد بن صالح الهاشمي، حاضراً، فأخذ يتكلم بكلام سديد، في دفع هذا، وترقيق المهلبي، ويرفق به.
فاعترض ابن عبد العزيز الخطاب، وتكلم بكلام فيه حراشة وجفاء وخشونة.
فسمعت أبو محمد يقول له: يا ماص كذا وكذا، ما تدع جهلك، والخيوط التي في رأسك، كأني لا أعرفك قديماً وحديثاً، وأعرف حمقك، وحمق أبيك، وتشنيعك لمجالس الوزراء، وشهوتك أن تقول: قال الوزير، فقلت له، وما تظن إلا أن المقتدر على السرير، وأنا أحد وزرائه، ولا تعلم ان صاحب السرير اليوم، هو الأمير معز الدولة الديلمي، يرى أن في سفك دمك قربة إلى الله تعالى، وأن وزنك عنده كوزن الكلب، يا غلمان جروا برجله.
فجرت رجله ونحن حاضرون، فرأيت قلنسوة كانت على رأسه، وقد سقطت.
ثم قال: طبقوا عليه زورقاً، وانفوه إلى عمان، فأجلس في الزورق، وحدر.
فقبلت الجماعة يده، وراسله الخليفة المطيع لله في أمره، ولم تزل المراسلات، إلى أن عفا عنه، وألزمه بيته، وأخذ خط أهله بجميع ما كانوا امتنعوا منه، مما سامهم إياه، وتلقط خلقاً من أحداث الهاشميين، وغيرهم من العامة، وأهل الذعارة والعصبية، فجعلهم في زواريق، وطبقها عليهم، وسمرها، وأنفذها إلى بصنى وبيروذ، فحبسهم في حبوس ضيقة هناك، ودور تجري مجرى القلاع، فكانوا فيها إلى أن مات أبو محمد، ومات منهم خلق في الحبس، ثم أطلق بقيتهم، على قلتها، بعد موته بسنين، وزالت الفتنة إلى الآن.
لو سلم من العشق أحدلسلم منه أبو خازم القاضي: حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، كاتب القضاة من بني عبد الواحد بالبصرة، وله شعر جيد حسن، واتساع تام في الأدب، رواية له وحفظ، وكتب مصنفة فيه، قال: حدثني أبو إسحاق الزجاج، قال: كنا ليلة بحضرة القاسم بن عبيد الله يشرب، وهو وزير، فغنت بدعة جارية عريب.
أدل فأكرم به من مدل ... ومن ظالم لدمي مستحل
إذا ما تعزز قابلته ... بذل وذلك جهد المقل
فأدت فيه صنعة حسنة، فطرب القاسم عليه طرباً شديداً، واستحسن الصنعة والشعر، وأفرط في وصف الشعر.
فقالت بدعة: يا مولاي، إن لهذا الشعر خبراً أحسن منه.
قال: ما هو؟ قالت: هو لأبي خازم القاضي.
قال: فعجبنا من ذلك، مع شدة تقشف أبي خازم، وبغضه وورعه، وتقبضه.
فقال لي الوزير: يا الله يا أبا إسحاق، بكر إلى أبي خازم، وسله عن هذا الشعر وسببه.
فباكرته، وجلست حتى خلا وجهه، ولم يبق إلا رجل بزي القضاة عليه قلنسوة، فقلت له: شيء أقوله على خلوة.
فقال: قل، فليس هذا ممن أكتم.
فقصصت عليه الخبر، وسألته عن الشعر والسبب.
فتبسم، وقال: هذا شيء كان في الحداثة، قلته في والدة هذا - وأومأ إلى القاضي الجالس، فإذا هو ابنه - وكنت إليها مائلاً، وكانت لي مملوكة، ولقلبي مالكة، أما الآن فلا عهد لي بمثله منذ سنين، وما عملت شعراً منذ دهر طويل، وأنا أستغفر الله مما مضى.
قام: فوجم الفتى، وخجل، حتى ارفض عرقاً.
وعدت إلى القاسم فأخبرته، فضحك من خجل الابن، وقال: لو سلم من العشق أحد، لكان أبو خازم مع بغضه.
وكنا نتعاود ذلك زماناً.
علوي يفتخر بنفسهأنشدني أبو إسحاق، إبراهيم بن علي النصيبيني المتكلم، وأبو الفرج عبد الواحد بن نصر الببغاء وغيرهما، قالوا: أنشدنا أبو عبد الله ابن الأبيض العلوي بالشام، لنفسه:
وانا ابن معتلج البطاح تضمني ... كالدر في أصداف بحر زاخر
ينشق عني ركنها وحطيمها ... كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي ومثل سهولها ... خلفي ومثل ظبائهن مجاوري
وذكر أبو الحسن السلامي: إن أبا الحسن الرامي مر على علي بن خلف القطان البغدادي، وأنشده هذه الأبيات لنفسه.
ابن قناش الجوهري يصف دجلة

أنشدني أبو جعفر بن عبيد الله الطائي البغدادي، المعروف بابن قناش الجوهري لنفسه:
أنا ظام فاسقينها ... إنني حلف اختيال
ما ترى دجلة كالس ... احب أذيال الدلال
وهي تزهي بقصور ... عن يمين وشمال
وبماء قد حكى المد ... به ظهر غزال
في هجاء مغن طنبوريأنشدني أبو الحسن، محمد بن عبد الواحد، في ابن طرخان المغنى الطنبوري، لنفسه، وله اتساع في الأدب تام:
قل لابن طرخان أما تستحي ... تقرن تطفيلك بالباس
يا أخرج الناس من إيقاعه ... وأدخل الناس إلى الناس
وقال:
يا من يصيح بحلق ما له طبقه ... ولا يوافق زيراً لان أو خرقه
فارقت بينك والإيقاع في قرن ... فأنت أطفل من كلب على مرقه
فإن دعيت ففي الأحيان عن غلط ... وإن حظيت بشيء فهو من صدقه.
للكاتب بشر بن هارونفي هجاء أحد خلفاء القضاة ببغداد: أنشدني أبو نصر بشر بن هارون، الكاتب النصراني البغدادي، لنفسه، في أبي رفاعة بن كامل، أحد خلفاء القضاة ببغداد، على بعض سوادها:
قضى شعري على القاضي بحكم ... أجاب إليه مصفوعاً مذالاً
ولو لم يستجب لنتفت منه ... سبالاً إن وجدت له سبالاً
ونتف سباله شيء محال ... لأن الحلق صيره محالاً.
بشر بن هارون الكاتبيشكو من رئيسين صرف أحدهما بالآخر: وأنشدني لنفسه في شعبان سنة تسع وخمسين وثلثمائة، في رئيسين صرف أحدهما بالآخر، وإنما كتبتهما إذ ذاك، لأنهما كانا حينئذ قد روهما في أبي الفضل الشيرازي لما صرف عن الوزارة بأبي الفرج بن فسانجس:
مضى من كان يعطينا قليلاً ... ووافى من يشح على القليل
وأحسب أن سيملكنا مكد ... متى اطرد القياس على الدليل
فقل للفاطمي لقد تمادت ... أناتك في الحلول وفي الرحيل
فحث السير عل الله يهدي ... شفاء منك للبلد العليل.
أبو نصر البنصفي مجلس سيف الدولة، يعلل سبب تسميته بالبنص: أخبرني أبو جعفر طلحة بن عبيد الله بن قناش، إنه كان بحضرة سيف الدولة، وقد كان من ندمائه، قال: كان يحضر معنا أبو نصر البنص، وكان هذا رجلاً من أهل نيسابور، أقام ببغداد قطعة من أيام المقتدر، وبعدها إلى أيام الراضي، وكان من أصحابنا في المذهبين، يعني في الفقه مذهب أبي حنيفة، وفي الكلام مذهب أهل العدل والتوحيد، وكان مشهوراً بالطيبة، والخلاعة، وخفة الروح، وحسن المحاضرة، مع عفة وستر، وتقلد الحكم في عدة نواح بالشام.
فقيل له يوماً بحضرة سيف الدولة، لم لقبت بالبنص؟ قال: ما هذا لقب، إنما هو اشتقاق من كنيتي، كما إننا لو أردنا أن نشتق من أبي علي مثل هذا، وأومأ إلى ابن البازيار، لقلنا ألبعل، ولو اشتققنا من أبي الحسن مثل هذا، وأومأ إلى سيف الدولة، لقلنا ألبحس.
فضحك منه، ولم ينكر عليه.
أبو نصر البنصفي مجلس أبي بكر بن دريد: وخبرني ببغداد مجلس أبي بكر بن دريد، وأبو نصر هذا يقرأ عليه قصيدته التي أولها:
أماطت لثاماً عن أقاحي الدمائث ... بمثل أساريع الحقوف العثاعث
إلى أن بلغ إلى قوله:
أنسوا ضباً بجانب كدية ... أحاطو على حافتها بالربائث
فقطع القراءة، وقال: يا أبا بكر، أعزك الله، ما الربائث؟ قال ابن دريد: العرب تسمي الحراب العراض الحدائد، ربائث.
فقال له البنص: أخطأت يا أبا بكر أعزك الله.
فعجبنا من جزأته على تخطئة أبي بكر في العلم، وتشوفنا إلى ما يجري.
فقال له أبو بكر، وكان وطيء الخلق: فما هي يا أبا نصر، أعزك الله؟ قال: جمع ربيثاء، هذه التي تقدم في السكرجات.
وعاد يقرئنا في القصيد، محتداً، فضحكنا منه.
أبو نصر البنصوصاحب الشرطة: حدثني أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر الخراساني، القاضي الفقيه، قال: قال لي أبو نصر البنص هذا: كنت في بعض المدن، وأنا غريب، فنزلت في خان، فكان يختلف إلي أحداث ورجال، أقرئهم الفقه في غرفتي، وإذا انقضى الدرس، لعبنا ومزحنا.

فظن أهل الخان، أن اجتماعهم عندي، مع ما يسمعونه من المزح، لفساد، فاستعدوا علي إلى صاحب الشرطة، وقالوا إنني قواد.
فأحضرت، فلما وقفت بين يديه، رأيت على رأسه غلاماً أمرد حسن الوجه قائماً، فأنعظت من شهوته، فقال لي الوالي: أنت قواد؟ قال: وكنت بلا سراويل، فكشفت عن أيري، وقلت: هذا، أصلحك الله، أير قواد؟ فضحك، وقال: لا، وفرق القوم عني، وأخذني لعشرته، فكنت أختلف إليه، مدة كوني في البلد، وأعاشره.
بين الأمير معز الدولةووزيره أبي جعفر الصيمري: حدثني أبو حامد القاضي، قال: كنت قائماً بين يدي معز الدولة، فقال لأبي جعفر الصيمري وزيره، بالفارسية: يا أبا جعفر، أريد الساعة خمسمائة ألف دينار، لمهم لا يجوز تأخيره.
فقال له الصيمري: أيها الأمير، رد ذلك، فإني أيضاً أريد مثله فقال له: فإذا كنت أنت وزيري، فممن أريد هذا إلا منك؟ فقال له الصيمري: فإذا لم يكن في الدخل فضل لذلك عن الخرج، فمن أين أجيئك به؟ قال: فحرد عليه معز الدولة وقال: الساعة والله أحبسك في الكنيف، حتى تجيء بذلك.
فقال: إذا حبستني في الكنيف، خريت لك نقرة بهذا المال؟ فضحك منه، وأمسك عنه.
المدائني يتماجن على شيخ صوفيحدثني أحمد بن محمد المدائني، قال: وقفت في جامع المدينة ببغداد على حلقة صوفية، يتجاورون على الخطرات والهواجس، ومسائل تشبه الوسواس، لم أفهمها.
وخطر لي أن أمجن بهم، فقلت: أيها الشيخ المصدر،مسألة.
فقال: هات.
فقلت: أخبرني إذا كنت شيخاً في معناك، حلساً في ذات نفسك، فأصاب يافوخك تقطيع بعضب خزري على سبيل العلم، وكنت تحت الإرادة، هل يضر أوصافك شيء، مع تعلقك بخبل القدرة، يا بطال؟ قال: فوقع لمن حوله إنها مسألة، وأخذوا يتعاطون الجواب.
وفطن الشيخ، فخفت أن يأمرهم بي، فانسللت.
أبو أحمد الحارثيوصوفي يترنم بالرباعيات: حضرني أبو أحمد عبد الله بن عمر الحارثي، وعندي صوفي يترنم بشيء من الرباعيات، فلم يستطبه أبو أحمد.
فقال له على البديهة: يا أخي لا أقطع حديثك إلا بخير.
الشافعي وغلام الهراسحدثني الفضل بن أحمد الحياني، قال: قال لي الشافعي، صاحب علي ابن عيسى: علق مرة بلجام مركوبي، غلام هراس، بيده غضارة هريسة ينادي عليها، وشالها إلى أنفي، وقال: جمع اللوز والغنم، ثم نادى يمينه.
فقلت أعزك الله، هذا وجهي إلى الوزير، أخبره بهذا الخبر، فإن رأيت أن تطلقني، فعلت.
أبو محمد الواسطيوالمغنية التي يهواها: حدثني أبو أحمد الحارثي، قال: كان عندنا بواسط، رجل متخلف موسر، يقال له: أبو محمد بن أبي أيوب، وكان يعاشرنا بمغنية يهواها، وكان من غنائها، صوت أوله:
إن الخليط أجد منتقله ... ولو شك بين حملت إبله.
وكانت تغني فيه لحناً صعباً حسناً، لا يفهمه أبو محمد لتخلفه، فاقترحه يوماً عليها، فقال: بالله يا ستي غني لي: إني خريت فجئت أنتقله.
فقالت: ويل لي، أنا أغني شيء من هذا؟ ففطنت لما يزيد، فقلت لها: إنه يريد أن تغني له: إن الخليط أجد منتقله.
فقالت له: قطع الله ظهرك، أين ذا من هذا؟ وغنت الصوت.
وكان غنائها: خليلي هيا نصطبح بسواد.
فقال لها يوماً: بالله يا ستي، غني: خليلي هيا نصطبح بسماد.
فقالت له: إذا عزمت على هذا، فوحدك.
قال: ودخلت إلينا يوماً على غفلة، ونحن نصافعه ويصافعنا بالمخاد، فاستحيا، وسألنا أن ندعه، فتركناه.
فلما، جلسا على الشرب، طلب منها صوتاً له عليها، وهو:
أبيني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تمادياً.
فأعطته مخدة.
أبو الفرج الببغاء يمدح سيف الدولةأنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي النصيبيني الكاتب المعروف بالببغاء، قصيدة له في سيف الدولة، يذكر وقعة كانت له مع بني كلاب، وعفوه عنهم:
إذا استلك الجانون أغمدك الحلم ... وإن كفك الإبقاء أنهضك العزم.
وهي حقيقة بأن تورد كلها، ولكني اخترت من شعره، ما يصلح للمكاتبة في الحوادث، أو الأمتثال، أو معنى لم يسبق إليه، فتركت أكثر محاسن شعره، وحسن نظمه، وبلاغته، وعذوبة كلامه، وأكثر إحسانه، موكولاً إلى من ينظر في ديوانه.
ومن هذه القصيدة، مثل:

ومن لم يؤدبه لفرط عتوه ... إذا ما جنى الإنصاف أدبه الظلم.
ومنها:
إذا العرب لم تجز اصطناع ملوكها ... بشكر تعاوت في سياستها العجم
أعدها إلى عادات عفوك محسناً ... كما عودتها قبل آباؤك الشم
فإن ضاق عنها العذر عندك في الذي ... جنته فما ضاق التفضل والحلم.
القاضي أبو بكر بن سياروحساب الأصابع: حدثني القاضي أبو بكر بن سيار، قال: ضربوا مثلاً للأنسان فقالوا: ابن عشر سنين، قد دار في أهله، كما دارت هذه على هذه، وأومأ إلى إبهامه وسبابته، وعقد عشراً.
وابن عشرين، قد التصب بين أمري الكسب والعيال، كما انتصبت هذه بين هاتين، وعقد بأصابعه عشرين.
وابن ثلاثين، قد استوى، كما استوت هذه على هذه، وعقد ثلاثين بأصابعه.
وابن الأربعين، قد قام كما قامت هذه، وعقد بأصابعه.
وابن خمسين قد انحنى، كما انحنت هذه، وعقد خمسين بأصابعه.
وابن ستين، وعقدهما بأصابعه، قد انحط في عمره وقوته، كما انحطت هذه على هذه.
وابن سبعين، قد اضطجع، كما اضطجعت هذه على هذه.
وابن ثمانين، وعقدهما، قد احتاج إلى ما يتوكأ عليه، كما توكأت هذه على هذه.
وابن تسعين، قد ضاق عمره وأمعاؤه، كما ضاقت هذه.
وابن مائة، قد انتقل عن الدنيا إلى الأخرى، كما انتقل العقد من اليمين إلى الشمال.
هندي يقتل فيل بحيلته من غير سلاحوحدثني القاضي أبو بكر بن سيار، قال: حدثني شيخ من أهل اليمن، وذكر أن أسمه نعمان، وجدتهم يذكرون ثقته، ومعرفته بأمر البحر، وأنه دخل الهند والصين، قال: كنت ببعض بلدان الهند، وقد خرج على ملكها خارجي، فأنفذ إليه الجيوش، فطلب الأمان، فأمنه، فسار ليدخل، من موضعه، إلى بلد الملك، فلما قرب، أخرج الملك الجيش ليلتقيه، والآلات، وخرجت العامة، تنتظر دخوله، فخرجت معهم.
فلما بعدنا في الصحراء، وقف الناس ينتظرون طلوع الرجل، وهو راجل، في عدة الرجال، وعليه ثوب ديباج، ومئزر في وسطه، جرياً على زي القوم، فتلقوه بالإكرام، ومشوا به، حتى انتهى إلى أفيلة عظيمة، قد أخرجت للزينة، وعليها الفيالون، وفيها فيل عظيم يختصه الملك لنفسه، ويركبه في بعض الأوقات.
فقال له الفيال، لما قرب منه: تنح عن طريق الفيل، فسكت، فأعاد إليه، فسكت.
فقال له: يا هذا، احذر على نفسك، وتنح عن طريق فيل الملك.
فقال له الخارجي: قل للفيل الملك يتنحى عن طريقي.
فغضب الفيال، وأغرى الفيل به، بكلام كلمه، فغضب الفيل وعدا إلى الخارجي، ولف خرطومه، وشاله الفيل شيلاً عظيماً، والناس يرونه، وأنا فيهم، ثم حبط به الأرض، فإذا هو انتصب على قدميه فوق الأرض، ولم ينح يده على الخرطوم.
فزاد غضب الفيل، وشاله أعظم من ذلك، وعدا، ثم رمى به الأرض، فإذا هو قد حصل عليها مستوياً على قدميه، منتصباً، قابضاً على الخرطوم.
قال: فشاله الفيل الثالثة، وفعل به مثل ذلك، فحصل على الأرض منتصباً، قابضاً على الخرطوم، وسقط الفيل ميتاً، لأن قبضه على الخرطوم تلك المدة، منعه من النفس، فقتله.
قال: فوكل به، وحمل إلى الملك، وحدث بالصورة، فأمر بقتله.
فاجتمع القحاب - بهذا اللفظ - وهم النساء الفواجر، يفعلن ذلك بالهند ظاهراً، عند البد، تقرباً إليه عندهم، بلا اجتعال، وهم العدول هناك، يشهدون في الحقوق، ويقمن الشهادة، فيقطع بها حاكمهم.
ويشاورن في الأمور، وفي الآراء، وعندهن، إنهن ببذلهن نفوسهن عند البد، بغير اجتعال، قد صرن في حكم الزهاد، والعباد.
قال: فقالت القحاب للملك، يجب أن تستبقي مثل هذا، لا تقتله فإن فيه جمالاً للمملكة، ويقال: إن للملك خادماً، قتل فيلاً بقوته وحيلته، ومن غير سلاح.
فعفا عنه الملك واستبقاه.
ملك الهنديحاور الحكماء من رعيته: حدثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيار، قال: حدثني شيخ من أهل التيز ومكران، لقيته بعمان، ووجدتهم يذكرون ثقته، ومعرفته بأمر البحر، وحدثني القاضي، قال: حدثني هذا الشيخ: إن رجلاً بالهند من أهلها حدثه: أن خارجياً، خرج في بعض السنين، على ملك من ملوكهم، فأحسن التدبير، وكان الملك معجباً برأيه، مستبداً به فأنفذ إليه جيشاً، فكسره الخارجي، فزحف إليه بنفسه.

فقال له وزراؤه: لا تفعل، فإن الخوارج تضعف بتكرير الجيوش عليها، والملك لا يجب أن يغرر بنفسه، بل يطاول الخارجي، فإنه لا مادة له يقاوم بها جيشاً بعد جيش، إذا توالت عليه جيوش الملك.
فلم يقبل، وخرج بنفسه، فواقعه، فقتله الخارجي، وملك داره ومملكته، فأحسن السيرة، وسلك سبيل الملوك.
فلما طال أمره، وعز ذكره، وقوي سلطانه، جمع حكماء الهند، من سائر أعماله، وأطراف بلدانه، وكتب إلى عماله أن يجتاز أهل كل بلد، مائة منهم، من عقلائهم وحكمائهم، فينفذونهم إليه، ففعلوا.
فلما حصلوا ببابه، أمرهم باختيار عشرة منهم، فاختاروا، فأوصل العشرة، وأوصل من أهل دار المملكة عشرة، وقال لهم: يجب على العاقل، أن ينظر عيوب نفسه فيزيلها، فهل ترون في عيباً، أو في سلطاني نقصاً؟ فقالوا: لا، إلا شيئاً واحداً، إن أمنتنا قلناه.
قال: أنتم آمنون.
قالوا: نرى كل شيء لك جديداً، يعرضون إنه لا عرق له في الملك.
فقال: فما حال ملككم الذي كان قبلي؟ قالوا: كان ابن ملك.
قال: فأبوه؟ قالوا: ابن ملك.
قال: فأبوه؟ إلى أن عدد عشرة أو أكثر، وهم يقولون، ابن ملك، فانتهى إلى الأخير.
فقالوا: كان متغلباً.
قال: فأنا ذلك الملك الأخير، وإن طالت أيامي، مع إحساني السيرة، بقي هذا الملك بعدي، في ولدي وولد ولدي، فصار لأولاد أولادهم من العرق في الملك، مثل ما كان لملككم الذي كان من قبلي.
فسجدوا له، وكذا عادتهم إذا استحسنوا شيئاً، ولزمتهم حجة، وانصرفوا، فإزداد بذلك الملك توطداً له.
قلت أنا للقاضي: هذا شيء قد سبقت العرب إليه في كلمتين، استغني بهما عن هذا المثل الطويل العجمي.
فقال: ما هما؟ فقلت: روت العرب أن رجلين تفاخرا، فقال أحدهما لصاحبه: نسبي مني ابتدأ، ونسبك إليك انتهى.
الصيمري وزير معز الدولةيرفق بأحد المصادرين: حدثني أبو القاسم أبو القاسم سعيد بن عبد الرحمن الكاتب الأصبهاني، قال: حضرت الصيمري، في وزارته لمعز الدولة، وقد أحضر رجلاً مصادراً، وقد قرر أمره على مال.
فقال له: أعطني كفيلاً، وأخرج فصحح المال.
فقال: لا كفيل لي أوثق من إحسانك إلي أيها الأستاذ.
فرق له، وخفف مصادرته، وأحسن إليه.
مهاترة بين بصري وسيرافيحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن بكر، قال: حدثني أبو بكر سعيد بن هارون الطبيب، وكان أبوه سيرافياً وجيهاً في بلده وغيرهما، موسراً، قال: خاصم أبي رجل من أهل البصرة، فقال له الرجل: تكلمني وأنت قطعة سيرافي؟ فقال له سعيد: أنا نجار في بلدي، وأنت عار في بلدك.
الوزير أبو محمد المهلبيوحد الإقبال والإدبار: حدثني أبو الحسن بن يوسف، قال: حدثني قاضي القضاة أبو محمد عبيد الله بن أحمد، قال: تجارينا بحضرة أبي محمد المهلبي، ذكر الأقبال والإدبار، فقال: ليس الإقبال أكثر من الحركة والتواضع، ولا الإدبار أكثر من الكسل والتكبر.
من شعر أبي الفرج الببغاءأنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد النصيبيني المخزومي الكاتب، المعروف بالببغاء لنفسه قصيدة منها:
جاورت بالحب قلباً لم تذر فكري ... للحب مستمتعاً فيه ولم تدع
يصبو ولكن يكف الحلم صبوته ... وأشرف الحب أدناه من الورع
وبي أمس غرام لو أنست إلى ال ... شكوى ولكن أعد الصبر للجزع
ما بال أهل زماني من تجاهلهم ... بموضعي بين مغبون ومختدع
من لم تزد قومه أفعاله شرفاً ... بالفضل فهو لمعنى غير مخترع
عفت الموارد لما لم أجد ظمأ ... في كثرة الماء ما يغني عن الجرع.
لأبي الفرج الببغاءفي الأمير سيف الدولة: وأنشدني لنفسه في سيف الدولة رحمه الله أولها:
أفادت بك الأيام فرط تجارب ... كأنك في فرق الزمان مشيب
وكل بعد قرب الحين نحوه ... سلاهبك الجرد الجياد قريب
تباشر أقطار البلاد كأنها ... رياح لها في الخافقين هبوب
وتملأ ما بين عثيراً ... مثاراً بوجه الشمس منه شحوب
وما يدرك العليا إلا مهذب ... يصاب على مقداره ويصيب

فلا تصطف الإخوان قبل اختبارهم ... فما كل خل تصطفيه نجيب.
من مكارم أخلاقأبي المنذر النعمان بن عبد الله: حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني وكيل كان لأبي المنذر النعمان بن عبد الله، قال: كان من عادة النعمان، إذا كان في انسلاخ كل شتوة، أن يعمد إلى جميع ما استعمله من خز وصوف وفرش وكوانين وآلة الشتاء، فيبيعه في النداء.
ثم ينفذ إلى حبس القاضي، فينظر من حبس بإقراره، دون قيام البينة عليه، ولا حال له، فيؤدي ما عليه من ثمن تلك الآلات، أو يصالح عنه ويخرجه، إن كان المال ثقيلاً.
ثم يعمد إلى من يبيع بيعاً يسيراً، مثل بقلي ورهدراي، ومن رأس ماله دينار، وديناران، وثلاثة، فيعطيه من عشرة دنانير إلى مائة درهم، وأقل وأكثر، ليزيد في رأس ماله.
ويعمد إلى من يبيع في الأسواق مثل طنجير، وقدر، وقميص خلق، وما يغلب على الظن أن مثله لا يباع إلا من ضر شديد، وإلى امرأة تبيع غزلها عجوز، فيعطيهم أضعاف ثمنه، ويدعه عليهم.
ويعمل ألواناً من هذا الجنس كثيرة، يأمرني بفعلها، وصرف ثمن تلك الالآت إليها.
فإذا انقضى الصيف عمد إلى ما عنده من دبيقي، وقصب، وحصر، ومزملات، وآلة الصيف، فيفعل به مثل ذلك.
فإذا جاء الشتاء والصيف ثانية، استجد جميع ما يحتاج إليه.
فلما كثر ذلك علي من فعله، قلت له: يا سيدي، إنك، هوذا، تفقر نفسك، من حيث لا تنفع غيرك، لأنك تشتري هذه الثياب، والآلات، والفرش، في وقت الحاجة إليها بضعف قيمتها، وتبيعها وقت استغناء كافة الناس عنها، فتشتري منك بنصف قيمتها، فيخرج منك في ذلك، مال عظيم، فإن أذنت لي، ناديت على كل ما يباع، فإذا استقرت العطية، وأخذت الدراهم، أخذته لك بزيادة، وعزلته إلى الصيف أو الشتاء، ودفعت مثل ثمنه، من مالك، إلى هذه الوجوه.
فقال لي: ما أحب هذا، تلك الآلات قد متعني الله بها طول شتائي أو صيفي، وبلغني وقت الغناء عنها، وما أنا على ثقة من أني أعيش إلى وقت الحاجة إليها ثانياً، ولعلي قد عصيت الله عليها، وفيها، فأنا أحب بيع أعيانها؛ وصرف الثمن بعينه، في هذه الوجوه، شكراً لله على تبليغي وقت الإستغناء عنها، وكفارة لما عصيته فيها، ثم إن أحياني الله إلى وقت الحاجة إليها، فليس ذلك بغال، ولا يتعذر شراء مثله، واستجداد خلفه، والتمتع بالجديد.
وفي بيعي إياه رخيصاً، وشراي له غالياً، فائدة أخرى، وهي أن ينتفع الضعفاء من التجار الذين أبتاع ذلك منهم، وأبيعه عليهم، بما فيه من الأرباح علي، ولا يؤثر ذلك في حالي.
من مكارم أخلاقأبي المنذر النعمان بن عبد الله: أخبرني القاضي، وقال: أخبرني الوكيل: إن النعمان كان يعجبه، إذا قدم إليه لون من طعام طيب، أو حلو عجيب، أن لا يمعن في أكله، ويأمر بدفعه بعينه إلى السؤال.
وكان رسمه، أن يفرق في كل يوم، جميع ما يشال من مائدته، ويفضل في مطبخه، عن وظائف غلمانه، فكان يجتمع على بابه، كل يوم، منهم جمع عظيم.
قال: فأكل يوماً عنده صديق له هاشمي، فقدم إليه لون طيب، فما استتم أكله حتى أمر به للسؤال، فشيل.
وقدم جدي سمين، فما تهنأوا بأكله حتى أمر به فرفع إلى السؤال، وقدم جام لوزينج معمول بالفستق، وكان يعجب النعمان، ويلزمه على كل جام خمسون درهماً، وخمسة دنانير، واقل، وأكثر، على قدر كبر الجام، فما أكلوا منه إلا يسيراً، حتى قال: ارفعوه إلى السؤال: فقبض الهاشمي على الجام، وقال: يا هذا، أحسب أننا نحن السؤال، ودعنا نتهنأ بأكله، لم تدفع كل ما تشتهيه للسؤال؟ وما للسؤال وهذا؟ لهم في لحم البقر، وعصيدة التمر كفاية، والله لا شلته.
فقال: يا سيدي، إن عادتي ما تراه.
قال: بئست العادة، لا نصبر لك عليها، تقدم أن يعمل للسؤال إذا كان لا بد لك من ذلك، مثل هذا، ودعنا نحن نتمتع بأكله، أو ادفع إليهم مثل ثمنه.
فقال: أفعل مستأنفاً، وأتقدم بأن يصنع لهم مثله، فأما ثمنه، فإن السائل لا تسمو نفسه، ولا يتسع صدره لعمل مثل هذا، ولو دفع إليه أضعاف ثمنه مراراً، لأنه إذا حصلت عنده الدراهم، وصرفها إلى غير هذا، في أمره المختل الذي هو إلى إصلاحه أحوج، ولا يحسن أيضاً، عمل مثل هذا، وأنا أحب أن يشاركوني في الإلتذاذ بما آكل، يا غلام، تقدم الساعة بعمل جامة مثل هذه، وتفريقها على السؤال، ففعل ذلك.

وكان بعدها إذا حضر من يحتشمه، أمر بعمل مثل ما يقدم إليه، والصدقة به، ولم يأمر برفع ذلك من حضرته، إلا إذا بشمه الحاضرون.
أبو القاسم بن الحواريوعظيم بره بأمه: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: كان يألف أبا القاسم بن الحواري، رجل من أهل عكبرا يخطب بأهلها، وكان ماجناً، خفيف الروح، مليح الحديث والكلام، طيب النشوار والأدب، يكنى بأبي عصمة، وكان يؤاكله دائماً، ويختص به، وينفق عليه.
وكان أبو القاسم، شديد البر بأمه، فكان يتنغص لها بالماء فضلاً عما سواه، ولا يتهنأ بأكل شيء، إلا إذا أكلت منه، وكان من عادته إذا استطاب لوناً، أن ينفذه من مائدته إليها.
فأكل عنده أبو عصمة هذا، أول يوم، وهو لا يعرف رسمه، فقدم لوزينج طيب، فما شبع منه أبو عصمة حتى أمر به أبو القاسم فرفع إلى والدته.
وقدمت مضيرة جيدة، بفراخ مسمنة، ودجاج هندي، ودهن الجوز والخردل، فما أكلوا منها حسباً حتى أمر ابن الحواري، برفعها إلى والدته، فأخذ أبو عصمة رغيفاً، وقام يمشي مع الغضارة.
فقال له ابن الحواري: إلى أين يا أبا عصمة؟ قال: إلى الوالدة يا سيدي، آكل معها هذه المضيرة، فإن هذه المائدة خراب، والخصب عندها.
فضحك ابن الحواري، وتقدم برد اللون إليه.
أبو عصمة الخطيب وأهل عكبراقال، وكان عصمة هذا لي صديقاً، وبي آنساً، فقال لي يوماً: إن أهل عكبرا سفل، وأنا مبتلى بالخطبة بهم، فإذا صعدت المنبر، أومأت إليهم بيدي، إيماء السلام، فيؤذن المؤذن، ويحبسون أني قد سلمت عليهم، وإنما أقول: لحاكم كلكم في استي.
أصل نعمة سليمان الثلاج في بغدادحدثنا أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب، قال: حدثني ابن سليمان الثلاج قال: قال لي أبي: كان أصل نعمتي من ثمن خمسة أرطال ثلجاً، وذلك أنه عز الثلج في بعض السنين ببغداد، وقل، وكان عندي منه شيء بعته، وبقي منه خمسة أرطال.
فاعتلت شاجي جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وهو إذ ذاك أمير بغداد، فطلبت منه ثلجاً، فلم يوجد إلا عندي.
فجاؤوني، فقلت: ما عندي إلا رطل واحد، ولا أبيعه إلا بخمسة آلاف درهم، وكنت قد عرفت الصورة.
فلم يجسر الوكيل على شراء ذلك، ورجع يستأذن عبيد الله، وكانت شاجي بمنزلة روحه، وهي تتضور على الثلج، وتلح في طلبه.
فشتمه عبيد الله، وقال: امض واشتره بأي ثمن كان ولا تراجعني.
فجاءني، فقال: خذ خمسة آلاف درهم، وهات الرطل.
فقلت: لا أبيعك إياه إلا بعشرة آلاف درهم، فلم يجسر على الرجوع للاستئذان، فأعطاني عشرة آلاف درهم، وأخذ الرطل.
وشقت العليلة منه، فقويت نفسها، وقالت: أريد رطلاً آخر.
فجاءني الوكيل بعشرة آلاف درهم، وقال: هات رطلاً آخر، إن كان عندك، فبعت ذلك عليه.
فلما شربته العليلة، تماثلت، وجلست، وطلبت زيادة، فجاؤوني يلتمسون ذلك.
فقلت: ما بقي عندي إلا رطل واحد، ولا أبيعه إلا بزيادة، فداراني، وأعطاني عشرة آلاف درهم، وأخذ رطلاً.
وداخلتني رغبة في أن أشرب أنا شيئاً من الثلج، لأقول إني شربت ثلجاً سعر الرطل منه عشرة آلاف درهم.
قال: فشربت منه رطلاً.
وجاءني الوكيل قرب السحر، وقال: ألله، ألله، قد والله صلحت العليلة، وإن شربت شربة أخرى برأت، فإن كان عندك منه شيء، فاحتكم في سعره.
فقلت له: والله، ما عندي إلا رطل واحد، ولا أبيعه إلا بثلثين ألفاً.
فقال: خذ.
فاستحييت من الله أن أبيع رطل ثلج بثلثين ألفاً، فقلت: هات عشرين ألفاً، واعلم أنك إن جئتني بعدها بملء الأرض ذهباً، لم نجد عندي شيئاً، فقد فني.
فأعطاني العشرين ألف، وأخذ الرطل.
فلما شربته شاجي، أفاقت، واستدعت الطعام، فأكلت، وتصدق عبيد الله بمال.
ودعاني من غد، فقال: أنت - بعد الله - رددت حياتي بحياة جاريتي، فاحتكم.
فقلت: أنا خادم الأمير وعبده.
قال: فاستخدمني في ثلجه وشرابه، وكثير من أمر داره.
فكانت تلك الدراهم التي جاءتني جملة، أصل نعمتي، وقوبت بما انضاف إليها من الكسب مع عبيد الله، طول أيامي معه.
بغداد في أيام المقتدر

تجارينا عند القاضي أبي الحسن محمد بن صالح بن علي الهاشمي ابن أم شيبان في سنة ستين وثلثمائة، عظم بغداد، وكثرة أهلها، في أيام المقتدر، وما كان فيها من الأبنية، والشوارع، والدروب، وكبر البلد، وكثرة أهله، في سائر أنواع الناس.
وذكرت أنا كتاباً رأيته، لرجل يعرف ببزدجرد بن مهبنذان الكسروي، كان على عهد المقتدر، بحضرة أبي محمد المهلبي، كان سلم إلي وإلى جماعة ممن حضر، كراريس منه، لننسخه، وننفذه إلى الأمير ركن الدولة، لأنه التمس كتاباً في وصف بغداد، وإحصاء ما فيها من الحمامات، وإنها كانت عشرة آلاف، ذكر في الكتاب مبلغها وعدد من يحتوي عليه من البلد من الناس، والسفن، والملاحين، وما يحتاج إليه في كل يوم من الحنطة، والشعير، والأقوات، وإنه حصل ما يصل إلى أصحاب المعابر من الملاحين فكان في كل يوم، أربعين ألفاً، أو ثلاثين ألفاً.
وذكر غيري كتاباً ألفه أحمد ابن الطيب، في مثل هذا.
فقال لي القاضي أبو الحسن: أما ذاك، فعظيم لا نعمله، وقد شاهدنا منه ما لا يستعبد معه أن يكون كما أخبر يزدجرد، وأحمد بن الطيب، إلا إنا لن نحصه فنقطع العلم به، ولكن بالأمس، في سنة خمس وأربعين وثلثمائة، لما ضمن محمد بن أحمد المعروف بترة، بادوريا، عمرها، وتناهى في ذلك، فأحصينا وحصلنا ما زرع فيها من جربان الخس، في هذه السنة، وقدرنا بكلوذاي وقطربل وقرب بغداد، ما يحمل إليها من الخس على تقريب، فكان الجميع ألفي جريب، ووجدنا كل جريب خس يزرع فيه ستة أبواب، يقلع من كل باب من الأصول، كذا وكذا، ولم أحفظه، يكون للجريب كذا وكذا أصلاً، وسعر الخس إذ ذاك، على أوسط الأسعار كل عشرين خسة بدرهم واحد، فحصل لنا أن ارتفاع الجريب، على أوسط الريع والسعر، ثلثمائة وخمسون درهماً، قيمتها خمسة وعشرون ديناراً، يكون لألفي جريب، خمسون ألف دينار، وكل ذلك يؤكل ببغداد، فما ظنك ببلد يؤكل فيه في فصل من فصول السنة، صنف واحد من صنوف البقل، بخمسين ألف دينار.
ثم قال لنا القاضي، ولقد أخبرني رجل يبيع سويق الحمص، دون غيره من الأسوقة، أسماه وأنسيته، إنه أحصى ما يتخذ في سوقه من سويق الحمص في كل سنة، فكان مبلغه مائة وأربعون كراً، وأنه يخرج في كل سنة منه، حتى لا يبقى منه شيء، فإذا حال الحول، طحنوا مثل ذلك.
هذا وسويق الحمص، غير طيب، وإنما يأكله الضعفاء والمتجملون، شهرين أو ثلاثة من السنة، عند عدم الفواكه، وأضعافهم مراراً من الناس، من لا يأكل ذلك أصلاً.
ثم قال: قال لي بعض مشايخ الحضرة: عمارة بغداد، في سنة خمس وأربعين، عشر ما كانت عليه أيام المقتدر، على تحصيل وضبط، يعني في الأبنية والناس.
أحاديث في احتباس الحملجرى بحضرة القاضي أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي احتباس الحمل، وقول الشافعي ومالك فيه ما قالاه.
فحكيت أنا فيه، ما روي من أن محمد بن عجلان، ولد لأربع سنين، وأن أسنانه كانت تطحن.
فقال لي القاضي أبو الحسن: كان لأبي، زوجة من ولد الأشعث بن قيس، كوفيه، فحملت منه أحد عشر شهراً بحساب صحيح ضبطناه وأعلمناه، مع شدة الإستظهار والتحصيل، فيما يجب تحصيله والاستظهار به في مثل ذلك، فولدت بعد أحد عشر شهراً بنتاً، فعاشت البنت سنين، ولها أولاد.
قال: وحدثني أبي عن جدي: إنه شاهد بالكوفة، أربعة إخوة ولدوا في بطن واحد، وعاشوا كلهم، وأسنوا، ومنهم من أعقب.
قال لنا القاضي: إن إسماعيل بن أبي خالد المحدث، له ثلاثة إخوة ولدوا في بطن واحد، وكلهم عاشوا وأسنوا.
قد ينال الإنسان باللينما لا ينال بالشدة: حدثني أبو العباس هبة الله بن محمد بن المنجم، عن أسلافه: إن المأمون نكب عاملاً له، يقال: عمرو بن نهيوي، صهر موسى بن أبي الفرج بن الضحاك، من أهل السواد، موسراً، فأمر محمد ابن يزداد أن يتسلمه إليه، ويعذبه، ويعاقبه، حتى يأخذ خطه بعشرة آلاف ألف درهم، ويستخرجها منه.
فسلم عمرو إلى محمد، فأكرمه، وألطفه، وأمر بخدمته وترفيهه، وأفرده في حجرة سرية من داره، وأخدمه فيها من الفرش والغلمان بما يليق به، ولم يكلمه ثلاثة أيام، والمأمون يسأل عن الخبر، فيبلغه ترفيهه له، فيغتاظ، ويسأله، فيقول: هو مطالب.
فلما كان في اليوم الرابع، استدعى عمرو محمداً، فدخل إليه.

قال محمد بن يزداد: فقال لي: يا هذا، قد عرفت ما تقدم به إليك الخليفة في أمري، ووالله ما رأيت هذا المال، ولا نصفه، ولا ثلثه قط، ولا يحتوي عليه ملكي، ولعل الخليفة يريد دمي، وقد جعل هذا إليه طريقاً، وقد تفضلت علي لا يسعني معه أن أدخر جهداً في تجميلك عند صاحبك، وقد كتبت تذكرة بجميع ما يحتويه ملكي، ظاهراً وباطناً، وهي هذه، وسلمها إلي، وإذا هي تشتمل على ثلاثة آلاف ألف درهم، وعلي، وعلي، وحلف بالطلاق والعتاق، والإيمان المغلظة، ما تركت لنفسي بعد ذلك، إلا ما علي من كسوة تستر عورتي، وهذا وسعي، وجهدي، فإن رأيت أن تأخذه، وتسأل الخليفة الرضا به مني، فإن فعل فقد خلصني الله بك، ونجاني من القتل على يدك، وإن أبى، فإنه يسلمني إلى عدوي الفضل بن مروان، وهو القتل، ووالله، لا أعطيت على هذا الوجه، درهماً واحداً، ولا كنت ممن يجيء على الهوان، دون الإكرام، وسأتلف، ولا يصل الخليفة إلى حبة من مالي، ولكن المنة لك علي حاصلة، فإن عشت شكرتها، وإن مت فالله مجازيك عني.
قال: فأخذت التذكرة، ورحت إلى المأمون.
فقال: ما عملت في أمر عمرو بن نهيوي؟ فقلت: إنه قد بذل ألفي ألف درهم، وليس عنده أكثر من ذلك.
فاستشاط، وقال: لا، وكرامة له، ولا أربعة آلاف ألف، ولا ثمانية آلاف ألف.
وقال لي الفضل: ما دمت ترفهه، وتكرمه، وتجلسه على الدسوت، وتخدمه بنفسك وغلمانك، كيف لا يتقاعد؟ فقلت له: فتسلمه أنت إن شئت.
فقال الخليفة: خذه إليك.
فأخذه، وأرهقه، وطالبه بعشرة آلاف ألف، ودهقه، وضربه، وهو لا ينحل بشيء.
فنزل معه إلى خمسة آلاف ألف، فلم يستجب.
فقنع منه بثلاثة آلاف ألف، فلم يجب.
فلما زاد عليه المكروه، وخاف الفضل أن يتلف في العذاب، فيجب المال عليه في نفسه بإتلافه إياه، رفق به، وداراه، وخلع عليه، ورفهه أياماً.
وقال له: كان محمد بن يزداد بذل عنك ألفي ألف درهم، وقد قنعت بها منك، فهاتها.
فقال: ما ملكتها قط، ولا بذلتها لمحمد.
فجاء الفضل إلى المأمون، فاقتص عليه خبره معه، في معاقبته، ومطالبته أولاً، بالكل، واقتصاره ثانياً، وترفيهه له، وإكرامه، وقناعته منه بألفي ألف درهم، وإقامته على انه لا مال له، وإنكاره أن يكون بذل ذلك، وكنت حاضراً.
فانقطع الحبل في يد المأمون، وكاد يهم بالفضل.
فقلت: يا أمير المؤمنين الرجال لا يكالون، وليس كل أحد يجيء على الهوان، وإن الفضل استخطأ رأيي فيما عاملت عمرواً به، فصار إليه، وعامله بمثله حيث لم ينفع ذلك، ولو تركني معه في الأول، لا ستخرجت منه ثلاثة آلاف ألف عفواً، وهذه تذكرة بخط عمرو تحتوي على ثلاثة آلاف ألف فأخرجها، وطرحتها بين يديه.
وقلت: لو كنت علمت أن أمير المؤمنين يجيبني في ذلك الوقت، إلى ثلاثة آلاف ألف، عنه، لبذلتها، فبذلت ألفي ألف، حتى إن لم يقنع، زدت ألف ألف، والآن فقد فسد هذا، ووالله، لا أعطى عمرو، مع ما جرى عليه، حبة، فإن استحل أمير المؤمنين دمه، فذاك إليه، وإلا فليس إلى استخراج شيء منه سبيل.
قال: فاستحيا المأمون، وأطرق مفكراً ملياً، ثم رفع رأسه، وقال: والله لا كان كاتب من كتابي، ولا نبطي من عمالي، أكرم، وأوفى، وأصح تدبيراً مني، قد وهبت لك يا محمد، عمرواً وما عليه، فخذه، واصنع به ما شئت.
فتسلمته من الفضل بن مروان، وأطلقته مكرماً إلى بيته.
الحجاج بن يوسف الثقفييأمر بتعذيب آزادمرد: ويشبه هذا الحديث، حديثاً، وجدته بخط القاضي أبي جعفر بن البهلول، ذكر أن محمد بن أحمد الحشمي، أخبر، قال: قال الحجاج بن يوسف، لمحمد بن المنتشر: خذ إليك آزادمرد ابن الفرند، فدق يده على رجله، حتى تستخرج منه المال الذي عليه.
قال محمد: فاستخرجت منه بالرفق، ثلثمائة ألف درهم، في جمعة، فلم يرض ذلك الحجاج، فأخذه مني، ودفعه إلى معد، صاحب عذابه، فدق يده، ودهقه، ودق ساقه.
فمر به علي، وأنا في السوق، معترضاً على بغل، فقال: يا محمد ادن، فدنوت منه.
فقال: إنك وليت مني مثل هذا، فأحسنت إلي، فأديت ما أديت عفواً، ووالله لا يؤخذ مني درهم واحداً كرهاً، ولي عند فلان ثلاثون ألفاً، فخذها جزاء لما صنعت.
فقلت: وال، لا أخذت منك، وأنت على هذه الحال، شيئاً.
قال: أتدري ما سمعت من أهل دينكم، يحكون عن نبيكم؟ قلت: لا.

قال: سمعتهم يقولون ويحكون عنه، إنه قال: إذا أراد الله بقوم خيراً ولى عليهم خيارهم، وأمطرهم المطر في أوانه، وإذا أراد بقوم سوءاً، ولى عليهم شرارهم، وأمطرهم المطر في غير أوانه، ثم أمر قائد البغل، أن يقوده.
فلم أر من مكاني، حتى جاءني رسول الحجاج، وقال: أجب، فمضيت إليه، فوجدته متنمراً، والسيف منتضى في حجره.
فقال: ادن.
فقلت: لا والله، لا أدنو وهذا في حجرك.
فأضحكه الله، وأغمد السيف، وقال: ما خاطبك به المجوسي؟ قلت: والله، ما غششتك منذ ائتمنتني، ولا كذبتك منذ صدقتني، فقصصت عليه القصة.
فلما أردت أن أذكر الرجل الذي عنده الثلاثون ألف، أعرض، وقال: لا تذكره، أما إن الكافر عالم بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمير معز الدولة البويهيووزيره أبو محمد المهلبي: كان معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه، لما ابتنى قصره بباب الشماسية، والإصطبلات المتصلة بآخره من أحد جرانبه، التي لم يسبق إلى حسنها، وعمل الميدان على دجلة متصلاً بين القصر والبستان الشارع على دجلة، الذي يلازق دار صاعد بن مخلد، الذي كان منزلاً لأبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد ثم صيره أبو جعفر الصيمري بستاناً، والجميع الآن داخل في جملة قصر معز الدولة.
أول ما بدأ بأن السور المحيط بالقصر والميدان، والمسناة العظيمة التي من حد رقة الشماسية إلى بعض الميدان، وطول ما بناه منها ألف وخمسمائة ذراع، وعرضها نيف وسبعون آجرة كباراً، سوى الدستاهيجات التي تخرج منها إلى داخلها لضبطها.
وكان العمل في ذلك متصلاً، والصناع فيه متفرقين.
وهذا بعد أن كان عمل على بناء مدينة لنفسه، وخرج إلى كلواذى ليتخذها هناك، ثم أراد اتخاذها حيال كلواذى، ثم رحل إلى قطربل، فأراد أن يبنيها عندها، ثم تقرر رأيه على بناء دار بباب الشماسية، حصينة، يستغني بها عن المدينة، وتخف عليه نفقتها.
وقدر لذلك ألوف ألوف الدراهم، وزادت النفقة على التقدير أضعافاً.
وكان يطالب وزيره أبا محمد المهلبي بتوجيه وجوه الأموال لذلك، مع قصور الدخل عن الخرج، فيلقى منه عنتاً.
ثم كلفه تولي البناء بنفسه وكتابة، فكان، وهم، يتولون ذلك.
فسعى بعض أصحاب معز الدولة إليه، أنهم بسنفون البناء في السور، ليتعجل بنفقة خفيفة، ويسرقون الباقي.
وأوقفه على موضع منه، كان فيه ساف لبن لم يحكمه الصناع، ومشى عليه بحضرة معز الدولة - لأنه ركب إليه - فانقلعت منه لبنة.
فحمي طبعه، وكان حديداً جداً، سليم الباطن مع ذلك، وإذا أخرج حدته، وانقضت سورة غضبه، يندم على فعله، ولكن من يقوم على تلك الحدة.
فأحضر المهلبي، وواقفه على ما رآه، فأخذ يحتج عليه.
فحمي، وأمر به، فبطح، وضرب مقارع كثيرة.
ثم قال: اختفوه، فجعل في عنقه حبل، وأمسكه ركابيون فوق السور، ليشيلوه، فيخنق.
وبلغ خبره القواد، والأتراك، وخواصه، فبادروا إلى تقبيل الأرض بين يديه، ومسألته الصفح عنه، فأنزله، وأطلقه.
فمضى إلى داره كالميت، وأظهر قلة حفل بذلك، لئلا يشمت أعداؤه، ويطمعوا في صرفه، ويتقولون عليه بانكسار إن بان منه، ولئلا يبلغ صاحبه أنه مستوحش من ذلك، فيستوحش منه.
وكانت عادته أن يشرب في تلك الليلة النبيذ، ويدعو الغناء، فجمع الندماء، ليري قلة الإكتراث بما جرى عليه.
وعاد إلى داره وقد قرب المساء، فدعا بما يأكله، فأكل، وندماؤه معه، وليس فيه فضل لشدة الألم، وهو يتجلد، ويتحدث.
ثم دعا بنبيذ، فقالوا له: أيها الوزير، لو استرحت، وطرحت نفسك، كان أولى من النبيذ، فليس هذا وقته، وذنبوا له في هذا.
فأخذ هو يعزيهم عما جرى عليه، ويسلبهم، وتمثل في كلامه بهذا البيت:
فإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما صنع الدهر.
ثم شرب أقداحاً، وقام.
أخبرني، من حدثه به، من ندماء أبي محمد، عن مشاهدة.
الأمير معز الدولة وحدة طبعهوكانت عادة الأمير معز الدولة، إذا حمي جداً، أن يأمر بالقتل، ويكره أن يتم ذلك، ويعجبه أن يسأل العفو.
وقد فعل هذا، كثيراً جداً، بخلق من جملة أصحابه.

وأول ما عرف ذلك منه، وأقدم لأجله على مساءلته العفو، إذا أمر بقتل صاحب له، أنه أنكر على رجل بالأهواز، وهو إذ ذاك مقيم بها، وكان الرجل ضراباً يعرف بابن كردم، أهوازي، ضمن منه عمالة دار الضرب بسوق الأهواز، فضرب دنانير رديئة، ولم يعلم بها الأمير بها، فأنفذها إلى البصرة ليشتري بها الدواب، والبريديون إذ ذاك بها، فلم تؤخذ لشدة فسادها، فردت، وعاد الراضة الذين كان أنفذهم لذلك، فعرفوه الخبر، فحمي، وأحضر ابن كردم هذا، وخاطبه، وازداد طبعه حمياً، إلى أن أمر بأن يخنق على قنطرة الهندوان، بالأهواز.
فأخرج من بين يديه، وخنق، ومات، وعاد من كان أمره بذلك، فوقف بحضرته.
فقال له: ما فعل الرجل؟ قال: خنقناه ومات.
فكاد أن يطير غضباً، وشتمه، وشم الحاضرين، وقال: ما كان فيكم من يسألني أن لا أقتله؟ وأخذ يبكي، وكان فيه تحرج من القتل.
فقالوا: ما عملنا، وخفناك.
فكان بعد ذلك إذا أمر بقتل إنسان، سئل، وروجع، فيعفو.
من مكارم أخلاق الأمير سيف الدولةأخبرني طلحة بن عبيد الله بن قناش، قال: كنت يوماً في مجلس حديث وأنس، بحضرة سيف الدولة، أنا وجماعة من ندمائه، فأدخل إليه رجل، وخاطبه، ثم أمر بقتله، فقتل في الحال.
فالتفت إلينا، وقال: ما هذا الأدب الشيء، وما هذه المعاشرة القبيحة التي نعاشر ونجالس بها؟ كأنكم ما رأيتم الناس، ولا سمعتم أخبار الملوك، ولا عشتم في الدنيا، ولا تأدبتم بأدب دين ولا مروءة.
قال: فتوهمنا أنه قد شاهد من بعضنا حالاً يوجب هذا، فقلنا: كل الأدب إنما يستفاد من مولانا أطال الله بقاءه - وهكذا كان يخاطب في وجهه - وما عملنا ما يوجب هذا، فإن رأى أن ينعم بتنبيهنا، فعل.
فقال: أما رأيتموني، وقد أمرت بقتل رجل مسلم لا يجب عليه القتل، وإنما حملتني السطوة والسياسة لهذه الدنيا النكدة، على الأمر به، طمعاً في أن يكون فيكم رجل رشيد فيسألني العفو عنه، فأعفو، وتقوم الهيبة عنده وعند غيره، فأمسكتم حتى أريق دم الرجل، وذهب هدراً.
قال: فأخذنا نعتذر إليه، وقلنا: لم نتجاسر على ذلك.
فقال: ولا في الدماء؟ ليس هذا بعذر.
فقلنا: لا نعاود.
واعتذرنا حتى أمسك.
الخليفة المعتضد يعذب شخصاً
حاول الخروج عليه: حدثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثني أبي قال: كنت أكتب لبدر اللاني في أيام الموفق، والمعتضد، وأدخل الدار معه، أليه، فرأيت محمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة، وقد جعله كرنادكاً.
قال: فقلت له: كيف يفعل ذلك؟ وما كان سببه؟ فقال: إن رجلاً من أولاد الواثق، كان يسكن مدينة المنصور، سعى في طلب الخلافة، واستوزر شيلمة، فأخذ له البيعة على أكثر أهل الحضرة، من الهاشميين، والقضاة، والقواد، والجيش، وأهل بغداد الأحداث، وأهل العصبية، وقوي أمره، وانتشر خبره، وهم بالظهور في المدينة، والإعتصام بها، والتحصن، حتى إذا أخذ المعتضد، صار إلى دار الخلافة.
فبلغ المعتضد الخبر على شرحه، إلا اسم المستخلف.
فكبس شيلمة وأخذه، فوجد في داره جرائد بأسماء من بايع، وبلغ الهاشمي الخبر، فهرب.
وأمر المعتضد بالجرائد، فأحرقت ظاهراً، لئلا يعلم الجيش بوقوفه عليها فتفسد نياتهم له، بما يعتقدون من فساد نيته عليهم.
وأخذ يسائل شيلمة عن الخبر، فصدقه عن جميع ما جرى، إلا اسم الرجل الذي يستخلف، فرفق به ليصدقه عنه، فلم يفعل.
وطال الكلام بينهما فتوعده، فقال له: والله، لو جعلتني كردناكاً، ما أخبرتك باسمه.
فقال المعتضد للفراشيين: هاتم أعمده الخيم الكبار الثقال، فجاءوه بها وأمر أن يشد عليها شداً وثيقاً فشد، وأحضروا فحماً عظيماً، وفرش على الطوابيق بحضرته، وأحجبوا ناراً، وجعل الفراشون يقلبون شيلمة على تلك النار، وهو مشدود على الأعمدة، إلى أن مات وانشوى.
وأخرج من بين يديه ليدفن ، فرأيته على هذه الصورة.
قال: وأمر المعتضد بهدم السور المحيط بالمدينة، فهدم منه شيء يسير، فاجتمع إليه الهاشميون، فقالوا: يا أمير المؤمنين، فخرنا، وذكرنا، ومأثرتنا فأمر بقطع الهدم، وصرف حفظة كانوا عليه متوكلين برعيه، ورخص فيه، وتركه وأهمله، وخلى بينه وبين الناس.

فمل مضت إلا سنيات، حتى هدم الناس أكثره، أولا فأولاً، ووسعوا به ما يجاروهم من دورهم، واستضافوا مكانه إليها، حتى إن ذلك اتسع، فجعل وزير المقتدر، على كل دار هذا حكمها، أجرة العرضة بحسب ذلك، وكان لها ارتفاع كثير.
ثم تبع ذلك بسنين، خراب المدينة، أولاً فأولاً، حتى بلغت إلى ما هي عليه.
بابك الخرميوجلده وصبره على العذاب: ومن عجيب أخبار قوة النفس: إن أخل بابك الخرمي، المازيار، قال له لما أدخلا على المعتصم: يا بابك إنك قد عملت ما لم يعمله أحد، فاصبر الآن صبراً لم يصبره أحد.
فقال له: سترى صبري.
فلما صار بحضرة المعتصم، أمر بقطع أيديهما وأرجلهما بحضرته.
فبدىء ببابك، فقطعت يمناه، فلما جرى دمها، مسح به وجهه كله، حتى لم يبق من حلية وجهه، وصورة سحنته، شيء.
فقال المعتصم: سلوه لم فعل هذا؟ فسئل، فقال: قولوا للخليفة، إنك أمرت بقطع أربعتي، وفي نفسك قتلي، فلا شك أنك لا تكوينها، وتدع دمي ينزف إلى أن تضرب عنقي، فخشيت أن يخرج الدم مني، فتبين في وجهي صفرة يقدر لأجلها من حضر، أني قد فزعت من الموت، وإنها لذلك، لا من خروج الدم، فغطيت وجهي بما مسحته عليه من الدم حتى لا تبين الصفرة.
فقال المعتصم: لولا أن أفعاله لا توجب العفو عنه، لكان حقيقاً بالاستبقاء لهذا الفضل، وأمر بإمضاء أمره فيه.
فقطعت أربعته، ثم ضرب عنقه، وجعل لجميع على بطنه، وصب عليه النفط، وضرب بالنار.
وفعل مثل ذلك بأخيه، فما كان فيهما من صاح وتأوه.
عافية الباقلاني وخالد الحذاءيسيران حافيين على باب حديد محمي: وقد حكي: أن عافية الباقلاني، وخالد الحذاء، رئيسي أصحاب العصبية في زمانهما، بايعا على أن يحمى لهما باب حديد، ويمشيان عليه، ففعلا ذلك.
فلما حصلا فوقه، حل أحدهما مئزره، ثم ضرب يده إلى الآخر، وضبطه، وقال: انظرني أتوزرهما عطفيين، أي انتظر حتى أتزر.
قال: فما فارقه، حتى شد مئزره، وهما فوق الباب المحمي، ثم تمم مشيه، حتى خرج منه، وقد غلب بتلك الساعة، وإن لم يكن في الباب الحديد حيلة، أو عادة، مثلما يكون أسفل القدر، كالنار إذا دام الوقود عليها، فيأخذها الإنسان لساعته على راحته، لأن البخار يتصاعد، ثم يدعها قبل أن ينعكس البخار إلى أسفلها.
وقد شاهدت أنا، أبا الأغر بن أبي شهاب التيمي بالبصرة، فعل ذلك، وإلا، فلا أدري ما هو.
وقد أخبرني غير واحد، أن القطعة الحديد، إذا أدخلت الكور، وأحميت حتى تبيض بياضاً شديداً، فأخذها الإنسان، فلطعها مرتين، أو ثلاثة، قبل أن يرجع فيها الحمي، لم تضر لسانه.
وقد شاهدت أنا، أبا الحسن علي بن محمد بن أحمد التنوخي، وقد أدخل إلى فيه، غير مرة، شمعة مشعلة فيها رطل، وعض عليها، وكشر شفتيه لي، حتى تبينت اتقاد الشمعة في فيه، ساعة، ثم أخرجها غير مطفئة.
وسألته عن علة ذلك، فقال: يحتاج إلى حذق في سرعة الإدخال، حتى لا تحرق الشفتين، فإذا حصلت في داخل الفم، لم تضر، لأن ما يتصاعد من حمي الجوف، يغلب على حماها، فلا تضر.
كيف قتل الخليفة المعتضدوزيره إسماعيل بن بلبل: ومن طريف عقوبات المعتضد، قتله إسماعيل بن بلبل، حدثني أبي، قال: أخبرني جماعة من أهل الحضرة، يعرفون ويحصلون: إن المعتضد أمر بإسماعيل بن بلبل، فاتخذ له تغار كبير، ومليء إسفيداجاً حياً، وبله، ثم جعل العجل رأس إسماعيل فيه، إلى آخر عنقه، وشيء من صدره، وأمسك حتى جمد الإسفيداج، فلم تزل روحه تخرج بالضراط، إلى أن مات.
الخليفة المعتضد يقتل آخر بسد جميع منافذهوأخبرني أيضاً رحمه الله: إن المعتضد، أمر برجل فسد بالقطن أنفه، سداً شديداً، وفمه، وعيناه، وأذناه، ومنخراه، وذكره، وسوءته، ثم كتف وترك، فلم يزل ينتفخ، ويزيد، إلى أن طار قحف رأسه ومات.
قرطاس الرومي وكيف عاقبه المعتضدحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب التنوخي، قال: قال أبي: كنت مع صاحبي الذي كنت أكتب له، بدر اللاني، في عسكر الموفق، وهو يقاتل صاحب الزنج.
فرمى زنجي من أصحاب الخائن، يقال له: قرطاس، الموفق، بسهم، فأصاب ثندوءته، وصاح: خذها مني وأنا قرطاس، فصارت مثلاً للرماة إلى الآن.
فحمل الموفق صريعاً في حد التلف، ونزع السهم وكان مقطناً، فبقي الزج مكانه، وجمع، وانتفخ، وأمد، وأشرف على الموت.

واستخبر بذلك أهل عسكر الخائن، وكانوا يصيحون بنا كل يوم: ملحوه، أي: قد مات الموفق، فاجعلوه مكسوداً.
فأجمع رأي الطب على بطه، فلم يمكنهم الموفق من ذلك.
فقالوا للمعتضد: إنه إن لم يبط، عمل إلى داخل، فأتلفه.
فقال: احتالوا عليه وبطوه، وأنا أمنعكم منه.
فطول أحد الطب، ظفر إبهامه اليمين، وجعل تحته حديدة مبضع، وجاء إلى الموفق، فقال: أيها الأمير، دعني أحبسه، وأنظر كيف هو.
فقال: لعلك تبطه؟ فأراه يده، وقال: كيف أبطه، وليس في يدي حديد، فمكنه منه، فجسه وخرقه بالمبضع من أوله إلى آخره مستعجلاً، فنذر الزج وخرج، وتبعته مدة عظيمة وقيح.
ففزع الموفق في حال البط، لمجيئه على غفلة، فلكم الطبيب، فقبله عن مكانه، فلما استراح بما خرج من الموضع، ووجد خفه، خلع على الطبيب، وأجازه، وعولج إلى أن برىء.
وجعل أبو العباس وكده طلب قرطاس، وكان إذا رآه في الحرب، طرح نفسه لأخذه، فيحاربه قرطاس أشد حرب، ويقول له بعجمته: يا بلئباس، يريد يا أيا العباس، إن وقعت في يدك، قد مني أوتاراً.
قال: فلم يزل المعتضد يجهد نفسه في أمره، حتى أخذه أسيراً، وقد وقعت به جراحات، فجاء به إلى الموفق، فأمر بضرب عنقه.
فقال له المعتضد: تهب لي قتله، حتى أعمل به ما أريد.
فقال: أنت أحق به، فخذه، فأخذه، فقد من أصابعه الخمس أوتاراً.
قال: فقلت لأبي: كيف فعل ذلك؟ فقال: قلع أظفاره، وسلخ جلد أصابع كفه من رؤوسها، إلى أكتافه، وعبر بها صلبه وكتفيه إلى آخر أصابعه الأخرى، وجلد بني آدم غليظ، فخرج له ذلك، فأمر أن تفتل له أوتاراً، ففعل، وصلب بها قرطاس.
من طريف حيل اللصوص - 1ومن طريف حيل اللصوص، الواقعة في عهدنا، أن أبا القاسم عبيد الله بن محمد الخفاف، حدثني: إنه شاهد لصاً قد أخذ، وتشاهدوا عليه، إنه يفش الأقفال في الدور اللطاف التي يخمن على أنها لعزب.
فإذا دخل، حفر في الدار حفرة لطيفة، كأنها بئر النرد، وطرح فيها جوزات، كأن إنساناً كان يلاعبه، وأخرج منديلاً فيه مقدار مائتي جوزة، فتركه إلى جانبها، ثم دار فكور كل ما في الدار، مما يطبق حمله.
فإن لم يفطن به أحد، خرج من الدار، وحمل ذلك كله.
وإن جاء صاحب الدار، ترك عليه قماشه، وطلب المفالتة والخروج.
فإن كان صاحب الدار جلداً، فوائبه ومنعه، وهم بأخذه وصاح: اللصوص، واجتمع الجيران، أقبل عليه، وقال: ما أبردك، أنا أقامرك بالجوز منذ شهور وقد أفقرتني، وأخذت مني كل ما أملكه، وأهلكتني ما صحت، ولا فضحتك بين جيرانك، أنت لما قمرتك الآن قماشك، أخذت تدعي علي اللصوصية؟ يا غث، يا بارد، بيني وبينك دار القمار، الموضع الذي تعارفنا فيه، قل بحذائهم، وبحذاء هؤلاء الحاضرين، قد ضغيت حتى أدع عليك قماشك.
فكلما قال الرجل: هذا لص، فيقول الجيران: إنما يريد أن لا يفضح نفسه بالقمار، فقد أدعى عليه اللصوصية، ولا يشكون أنه مقامر، وأن الرجل صادق، ويخلصون بينهما، ثم يأخذ الجوز وينصرف، ويفتضح الرجل بين جيرانه.
من طريف حيل اللصوص - 2وأخبرني أيضاً: إنه شاهد آخر، كان يدخل الدار الآهلة نهاراً، ويعتمد التي فيها النساء، ورجالهم خارجون.
فإن تمت له الحيلة، وأخذ منها شيئاً، انصرف.
وإن فطن له، وجاء صاحب الدار، أوهمه أنه صديق زوجته، وإنه بعض من غلمان القواد، ويقول له: استر علي هذا عند صاحبي، وعلى نفسك، ويتزيا بالأقبية، يوهم الرجل أنه لا يمكنه رفعه إلى السلطان في الزنا، إن اختار فضيحة نفسه.
وكلما ادعى عليه اللصوصية، صاح بهذا الحديث، فيجتمع الجيران، فيشيرون على الرجل بالستر على نفسه.
وكلما أنكر ذلك، قالوا: هذا محبة بزوجته، ويخلصون اللص من يده، حتى ربما أجبروه على صرفه.
وكلما جحدت المرأة، وحلفت، وبكت، وأقسمت إنه لص، كان ذلك أدعى لهم إلى تخليته.
فيتخلص، ويعود الرجل، ويطلق زوجته، ويفارق أم ولده، فأخرب غير منزل، وأفقر آخرين، بهذا.
إلى أن دخل داراً فيها عجوز، لها أكثر من تسعين سنة، ولم يعلم، وأدركه رب البيت، فأخذ يوهمه ذلك، فقال: يا كشخان ليس في الدار إلا أمي، ولها تسعون سنة، وهي منذ أكثر من خمسين سنة، قائمة الليل، صائمة النهار، طول الدهر، أفتراها هي عشقتك، أم أنت عشقتها؟ وضرب فكيه.

واجتمع الجيران، فقال اللص ذلك، فكذبوه، لما يعرفون به المرأة من الدين والصلاح، فضرب، وأقر الصورة فحمل إلى السلطان.
القصري غلام الحلاجكان يصبر على الجوع خمسة عشر يوماً: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: بلغني أن الحسين بن منصور الحلاج كان لا يأكل شيئاً شهراً أو نحو شهر، على تحصيل ورصد.
قال: فهالني هذا، وكانت بيني وبين أبي الفرج بن روحان الصوفي مودة، وكان صالحاً من أصحاب الحديث، ديناً، وكان القصري، غلام الحلاج، زوج أخته، فسألته عن ذلك.
فقال: أما ما كان الحلاج يفعله، فلا أعلم كيف كان يتم له، ولكن صهري القصري غلامه، قد أخذ نفسه سنين، بقلة الزاد، ودرجها على ذلك، حتى تمكن بعد مدة، أن يصبر عن الأكل خمسة عشر يوماً، ونحو ذلك، أقل أو أكثر.
وكان يتم له ذلك بحيلة كانت تخفي علي، فلما حبس في جملة الحلاجية، كشفها لي، وقال: إن الرصد، إذا وقع بالإنسان شديداً، وطال فلم تنكشف معه حيلة، ضعف عنه الرصد ثم لا يزال يضعف، كلما لم تنكشف حيلته، حتى يبطل أصلاً، فيتمكن حينئذ، من فعل ما يريد.
وقد رصدني هؤلاء منذ خمسة عشر يوماً، فما رأوني آكل شيئاً بتة، وهذا نهاية صبري عن فقد الغذاء، وإن لم آكل بعده بيوم، تلفت، فخذ رطلاً من الزبيب الخراساني، ورطلاً من اللوز السمين.
ودقهما، واجعلهما مثل الكسب وأصلحهما صفيحة رقيقة، فإذا جئتني غداً، فاجعلها بين ورقتين من دفتر، وخذ الدفتر في يدك مكشوفاً، مطوياً في كفك طياً مدوراً من غير انتشار، ليخفى ما فيه، فإذا خلوت بي، ولم تر من يلاحظني، فاجعل ذلك تحت ذيلي، وانصرف، فإنني آكله سراً، وأشرب الماء إذا تمضمضت للطهور، فيكفيني خمسة عشر يوماً أخرى، إلى أن تجيئني ثانياً، على هذا السبيل.
ومتى رصدني هؤلاء في هذه الخمسة عشر يوماً الثانية، لم يجدوني آكل شيئاً على الحقيقة، إلى أن تعود أنت بعد هذه المدة بالقوت، فأغتفلهم في أكله أيضاً، فيقوم بي.
قال: فكنت أعمل ذلك معه، طول حبسه.
ما اشترطه أبو سهل بن نوبختلكي يؤمن بدعوة الحلاج: حدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: لما قدم الحلاج بغداد يدعو، استغوى كثيراً من الناس، والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى، لدخوله من طريقهم.
فراسل أبا سهل بن نوبخت، ليستغويه، وكان أبو سهل من بينهم مثقفاً، فهماً، فطناً.
فقال أبو سهل لرسوله: هذه المعجزات التي يظهرها، قد تأتي فيها الحيل، ولكن أنا رجل غزل، ولا لذة لي أكثر من النساء وخلوتي بهن، وأنا مبتلي بالصلع، حتى إني أطول شعر قحفي، وأجذبه إلى جبيني، وأشده بالعمامة، وأحتاله فيه بحيل، ومبتلى بالخضاب، لستر المشيب.
فإن جعل لي شعراً، ورد لحيتي سوداء بلا خضاب، أمنت بما يدعوني إليه، كائناً ما كان، إن شاء قلت إنه باب الإمام، وإن شاء الإمام، وإن شاء قلت إنه النبي، وإن شاء قلت إنه الله تعالى.
قال: فلما سمع الحلاج جوابه أيس منه، وكف عنه.
وقال لي أبو الحسن: وكان الحلاج، يدعو كل قوم إلى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أبو سهل، على حسب ما يستبله طائفة طائفة.
الحلاج في مجلس الوزير حامد بن العباسأخبرني أبو الحسين بن عياش القاضي، عمن أخبره: إنه كان بحضرة حامد بن العباس، لما قبض على الحلاج، وقد جيء بكتب وجدت في داره، من قوم تدل مخاطبتهم، إنهم دعاته في الأطراف، يقولون فيها: وقد بذرنا لك في كل أرض ما يزكو فيها، وأجاب قوم إلى أنك الباب - يعنون الإمام - وآخرون أنك صاحب الزمان - يعنون الإمام الذي تنتظره الأمامية - وقوم إلى أنك صاحب الناموس الأكبر - يعنون النبي صلى الله عليه وسلم - وقوم إلى أنك أنت هوهو - يعنون الله عز وجل - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
قال: فسئل الحلاج عن تفسير هذا الرمز، فأخذ يدفعه، ويقول: لا أعرف هذه الكتب، هذه مدسوسة علي، لا أعلم ما فيها، ولا معنى لهذا الكلام.

وحدثني أبو الحسين بن عياش، عمن حضر مجلس حامد ابن العباس الوزير، وقد جاءوا بدفاتر وجدت للحلاج، فيها: إن الإنسان إذا أراد الحج فإنه يستغني عنه، بأن يعمد إلى بيت داره، فيعمل فيه محراباً ذكره، ويغتسل، ويحرم، ويقول كذا، ويفعل كذا، ويصلي كذا، ويطوف بهذا البيت كذا، ويسبح كذا، ويصنع كذا، أشياء قد رتبها وذكرها من كلام نفسه، قال: فإذا فرغ من ذلك، فقد سقط عنه الحج إلى بيت الله الحرام.
وهذا شيء معروف عند الحلاجية، وقد اعترف لي رجل منهم، يقال إنه عالم لهم، ولكن ذكر أن هذا رواه الحلاج عن أهل البيت صلوات الله عليهم، وقال ليس عندنا إنه يستغني به عن الحج، ولكنه يقوم مقامه، إن لم يقدر على الخروج، بإضافة، أو منع، أو علة، فأعطاني المعنى، وخالف في العبارة.
قال لي أبو الحسين: فسئل الحلاج عن هذا، وكان عنده إنه لا يوجب عليه شيئاً، فأقر به، وقال: هذا شيء رويته كما سمعته، فتعلق بذلك عليه.
واستفتى حامد، القاضيين أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي الأنباري، وأبا عمر محمد بن يوسف، وهما إذ ذاك، قاضياً بغداد.
فقال أبو عمر: هذه زندقة، يجب عليه القتل بها، لأن الزنديق لا يستتاب.
وقال أبو جعفر: لا يجب عليه القتل، إلا أن يقر بأنه يعتقد هذا، لأن الناس قد يروون الكفر ولا يعتقدونه، فإن أخبر أن هذا شيء رواه وهو يكذب به، فلا شيء عليه، وإن أخبر إنه يعتقد، استتيب منه، فإن تاب، فلا شيء عليه، وإن لم يتب، وجب عليه القتل.
قال: فعمل في أمره على فتوى أبي عمر، وعلى ما شاع وذاع من أمره، وظهر من إلحاده وكفره، واستغوائه الناس، وإفساده أديانهم، فاستؤذن المقتدر في قتله، وكان قد استغوى نصراً القشوري، من طريق الصلاح والدين، لا مما كان يدعو إليه، فخوف نصر السيدة أم المقتدر.
من قتله، وقال: لا آمن أن يلحق ابنك - يعني المقتدر - عقوبة هذا الشيخ الصالح، فمنعت المقتدر من قتله، فلم يقبل، وأمر حامداً بأن يقتله، فحم المقتدر يومه ذاك، فازداد نصر والسيدرة افتتاناً، وتشكك المقتدر فيه، فأنفذ إلى حامد من بادره بمنعه من قتله، فتأخر ذلك أياماً، إلى أن زال عن المقتدر ما كان يجد من العلة، فاستأذن حامد في قتله، فضعف الكلام فيه، فقال له حامد: يا أمير المؤمنين، إن بقي، قلب الشريعة، وارتد خلق على يده، وأدى ذلك إلى زوال سلطانك، فدعني أقتله، وإن أصابك شيء، فاقتلني، فأذن له في قتله، فعاد، فقتله من يومه، لئلا يتلون المقتدر.
فلما قتل، قال أصحابه: ما قتل هو، وإنما قتل برذون كان لفلان الكاتب، اتفق إنه نفق ذلك اليوم.
وهو يعود إلينا بعد مدة، فصارت هذه الجهالة، مقالاً لطائفة منهم.
طرائف من مخاريق الحلاجوكانت أكثر مخاريق الحسين بن منصور الحلاج، هذا، التي يظهرها كالمعجزات، ويستغوي بها جهلة الناس، إظهار المآكل في غير أوانها، بحيل بقيمها، فمن لا تنكشف له، يتهوس بها، ومن كان فطناً، لم تخف عليه.
فمن طريف ذلك، ما أخبرني بها أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم الشاهد الأهوازي، قال: أخبرني فلان المنجم، وأسماه، ووصفه بالحذق والفراهة، قال: بلغني خبر الحلاج، وما كان يفعله من إظهار تلك العجائب والمخرقات التي يدعي أنها معجزات، فقلت أمضي وانظر من أي جنس هي من المخاريق.
فجئته، كأني مسترشد في الدين، فخاطبني وخاطبته، ثم قال: تشه الساعة ما شئت، حتى أجيئك به.
وكنا في بعض بلدان الجبل التي لا تكون فيها الأنهار، فقلت له: أريد سمكاً طرياً في الحياة الساعة.
فقال: أفعل، اجلس مكانك.
فجلست، وقام ، وقال: أدخل البيت، وأدعو الله تعالى أن يبعث لك به.
قال: فدخل بيتاً حيالي وأغلق بابه، وأبطأ ساعة طويلة، ثمجاءني وقد خاض وحلاً إلى ركبته، وماء، ومعه سمكة تضطرب كبيرة.
فقلت له: ما هذا؟ فقال: دعوت الله تعالى، فأمرني أن أقصد البطائح فأجيئك بهذه، فمضيت إلى البطائح فخضت الأهوار، وهذا الطين منها، حتى أخذت هذه.
فعلمت أن هذه حيلة، فقلت له: تدعني أدخل البيت، فإن لم تنكشف لي حيلة فيه آمنت بك.
فقال: شأنك.
ودخلت البيت، وأغلقته على نفسي، فلم أجد فيه طريقاً ولا حيلة.

فندمت، وقلت: إن أنا وجدت فيه حيلة وكشفتها له، لم آمن أن يقتلني في الدار، وإن لم أجد، طالبني بتصديقه، فكيف أعمل؟ قال: وفكرت في البيت، فدققت تأزيره، وكان مؤزراً بإزار ساج، فإذا بعض التأزير فارغ، فحركت منه جسرية خمنت عليها، فإذا هي قد انقلعت، فدخلت فيها، فإذا ثم باب مسمر، فولجت منه إلى دار كبيرة، فيها بستان عظيم، فيه صنوف الأشجار، والثمار، والنوار، والريحان، التي هي في وقتها، وما ليس هو في وقته، مما قد عتق، وغطي، واحتيل في بقائه، وإذا بخزائن مليحة، فيها أنواع الأطعمة المفروغ منها، والحوائج لما يعمل في الحال، إذ طلب، وإذا بركة كبيرة في الدار، فخضتها، فإذا هي مملوءة سمكاً، كباراً وصغاراً، فاصطدمت واحدة كبيرة، وخرجت، فإذا رجلي قد صارت بالوحل والماء إلى حد ما رأيت رجله.
فقلت: الآن إن خرجت، ورأى هذا معي، فقتلني، فقلت: أحيال عليه في الخروج.
فلما رجعت إلى البيت، أقبلت أقول: آمنت، وصدقت.
فقال لي: ما لك؟ قلت: ما هاهنا حيلة، وليس إلا التصديق بك.
قال: فاخرج.
فخرجت، وقد بعد عن الباب، وتموه عليه قولي، فحين خرجت، أقبلت أعدو إلى باب الدار، ورأى السمكة معي، فقصدني، وعلم أني قد عرفت حيلته، فأقبل يعدو خلفي، فلحقني، فضربت بالسمكة صدره ووجهه، وقلت له: أتعبتني، حتى مضيت إلى اليم، فاستخرجت لك هذه منه.
قال: فاشتغل عني بصدره وبعينيه، وما أصابه من السمكة، وخرجت.
فلما صرت خارج الدار، طرحت نفسي مستلقياً، لما لحقني من الجزع والفزع.
فخرج إلي، وصاح بي، وقال: ادخل.
فقلت: هيهات، والله لئن دخلت، لا تركتني أخرج أبداً.
فقال: اسمع، والله لئن شئت قتلك على فراشك، لأفعلن، ولئن سمعت بهذه الحكاية لأقتلنك، ولو كنت في تخوم الأرض، وما دام خبرها مستوراً، فأنت آمن على نفسك، امض الآن حيث شئت، وتركني، ودخل.
فعلمت أنه يقدر على ذلك، بأن يدس أحد من يطيعه ويعتقد فيه ما يعتقد، فيقتلني.
فما حكيت الحكاية، إلى أن قتل.
؟من أقوال الحلاج وتواقيعه وكان الحلاج، له الكتب المصنفة في مذاهبه، يسلك في كلامه فيها، مذاهب الصوفية، في الهوس، ويكثر من ذكر النور الشعشعاني، وإذا أفصح بكلام مفهوم، كان ترسله حسناً، وتلفظه به مليحاً.
أخبرني بعض أصحابه من الكتاب، قال: خرج له توقيع إلى بعض دعاته، تلاه علي، فحفظت منه قوله فيه: وقد الآن أوانك، للدولة الغراء، الفاطمية الزهراء، المحفوفة بأهل الأرض والسماء، وأذن للفئة الظاهرة، مع قوة ضعفها في الخروج إلى خراسان، ليكشف الحق قناعه، ويبسط العدل باعه.
وأخبرني هذا الرجل، عمن حدثه من أصحابه، قال: كنا معه في بعض طرقات بغداد، فسمعنا زمراً طيباً شجياً.
فقال بعضنا: ما هذا؟ فقال لنا هو: هذا نوح إبليس على الدنيا.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ضرب العوديماثل صوت الهيب في أصول النخل: حدثني أبو محمد بن محمد اليومني البصري، وكان علامة لهم حسن النشوار، رواية للأخبار، ثقة، قال: اجتاز بعض البصريين، ومعه ابن له حدث، في طريق، فسمعا صوت ضرب عود، فاستطابه الفتى.
فقال لأبيه: يا أبت ما هذا؟ قال: يا بني، هذا صوت الهيب في أصول النخل.
والهيب: حديدة عظيمة كالبيرم يقلع بها أصول النخل، لا تنقلع إلا بها وهي تسمى ببغداد العتلة فمنها منبسط كالأسطام محدد، وتكون ثقيلة، لعل فيها نحو العشرة أمناء.
أبو جعفر الصيمريوزيره معز الدولة يسخف في مجلس العمل: وكان هذا البومني حسن البلاغة، طويل اللسان، يتكلم في أمور الكافة بالبصرة، إذا عرضت المهمات العظام، ويناظر السلطان.
فلما جاء أبو جعفر الصيمري إلى هناك، وطالب الناس بالمعطل - ولهذه المطالبة شرح طويل - ناظره البومني في أنها غير واجبة، فلم ينزل تحت الحجة، وأخلد إلى القدرة.
فوعظه البومني، وقال: أيها الإستاذ، إن بلدنا، بلد كثير الصالحين، ضعيف الأهل، ما خير قط لمن ظلمهم، وإن أهله يكلونك إلى الله تعالى، ويومونك بسهام الأسحار، يعني الدعاء.
فقلب الصيمري الكلام إلى السخف، وكان شديد الإستعمال له ظاهراً في مجلس الحفل والعمل، فقال: يا شيخ، سهام الأسحار لحيتك، يعني الضراط.
أبو علي الجبائي والحلاج

حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي، قال: أخبرني جماعة من أصحابنا: إنه لما افتتن الناس بالأهواز وكورها بالحلاج، وما يخرجه لهم من الأطعمة والأشربة، في غير حينه، والدراهم التي سماها دراهم القدرة، حدث أبو علي الجبائي بذلك، فقال: إن هذه الأشياء محفوظة في منازل يمكن الحيل فيها، ولكن أدخلوه بيتاً من بيوتكم، لا منزله هو، وكلفوه أن يخرج منه خرزتين سوداء وحمراء، فإن فعل فصدقوه.
فبلغ الحلاج قوله، وإن قوماً قد عملوا على ذلك، فخرج عن الأهواز.
بعض اعتقادات أصحاب الحلاجوأهل مقالته الآن، يعتقدون أن اللاهوت الذي كان حالاً فيه، حل في ابن له بتستر: وأن رجلاً بها هاشمياً ربعياً، يقال له: محمد بن عبد الله، ويكنى بأبي عمارة، قد حلت فيه روح محمد بن عبد الله النبي صلوات الله عليه، وهو يخاطب فيهم بسيدنا، وهي من أعلى المنازل عندهم.
وأخبرني، من استدعاه بعض الحلاجية، إلى أبي عمارة هذا، بالبصرة، وله مجلس يتكلم فيه على مذاهب الحلاج، ويدعو إليه.
قال: فدخلته، وظنوا أني مسترشد، فتكلم بحضرتي، والرجل أحول، فكان يقلب عينيه في سقف البيت، فيجيش خاطره بذلك الهوس.
فلما خرجنا، قال لي الرجل: آمنت؟ فقلت: أشد ما كنت تكذيباً بقولكم الآن، هذا عندكم الآن بمنزلة النبي، لم لا يجعل نفسه غير أحول؟ فقال: يا أبله، كأنه أحول؟ إنما هو يقلب عينيه في الملكوت.
خال المؤمنين عند الحلاجية - 1وأبو عمارة هذا، متزوج بامرأة من الأهوازيين، يقال لها بنت ابن جان بخش، ولها أخ فاجر يغني بالطنبور، وكان أبوه شاهداً جليلاً تانئاً موسراً، والحلاجية تعتقد أنه بمنزلة محمد بن أبي بكر، خال المؤمنين.
فحدثني عبيد الله بن محمد، قال: كنا نسير بالأهواز يوماً، ومعنا كاتب ظريف من أهل سيراف يقال له المبارك بن أحمد، فاجتزنا بالرجل، فقام، وسلم علينا.
فقال لي الكاتب: من هذا؟ فقصصت عليه قصته بأشرح من هذا، فقلب رأس بغله ورجع.
فقلت له: إلى أين يا أبا سعيد؟ قال: ألحقه، فأسأله عما سارته به أخته عائشة أم المؤمنين، يوم الجمل، لما أفضى إليها بيده ليخرجها من الهودج.
فضحكت من ذلك، ورددته.
خال المؤمنين عند الحلاجية - 2وكان هذا الفتي، ابن جان بخش، قد ورث مالاً جليلاً، ودخل الديلم الأهواز عقيب ذلك، فتقاين بالمال، وعاشر الديلم، فأنفق أكثره عليهم، فتعلم الكلام بالديلمية، حتى صار إذا تكلم بها، كأنه من بلد الديلم، وهو أسماء قراهم، وعلامات بلدانهم.
فلما خف ماله، اشترى بغلين، ودابتين، وزوبينات، وسلاحاً وآلة الجند، وجعل لرأسه شعراً مثل شعور الجيل والديلم، وسمى نفسه حلوز بن يا علي، وكان أبوه في الأصل يكنى بأبي علي، وهذا الاسم من أسماء الجيل.
وجاء إلى أبي القاسم البريدي، وهو بالبصرة يحارب الأمير أحمد ابن بويه، فاستأمن إليه ومن الديلم والجيل خمسمائة، وقصته مشهورة.
قال: فأخبرني هو، قال: كنت، أداخل وأدعوهم، ولا يشكون أني ديليمي، وأعطيهم علامات بلدانهم، فإذا وقع من يفطن بي، أعطيته شطر الرزق.
قال: وكنت آكل الثوم، ولا أتعالج للصنان، وأصبر جيفة على مذاهب الديلم، وأجيء، فأرتفع في القيام، حتى ألزق بأبي القاسم، مما يلي رأسه، فيموت من بغض رائحتي.
قال: وعلت حالي عنده، فكان يطرح لي كرسياً برسم الخاصة، فإذا جلست، اصطدمت الذباب، وقتلته بحضرته، كأني ديلمي فج، فكان يضج مني، ويقول: يا قوم، أعفوني من هذا الديلمي الفج، البغيض، المتن، وخذوا مني أضعاف رزقه.
فأقمت عنده سنين، إلى أن انكشف خبري، فهربت من يده.
وهذا من طيب أخبار المورثين المتخلفين، فأفردته.
من أخبار متخلفي المورثين - 1ومن طيب أخبار متخلفي المورثين، ما أخبرت به: من أن أحدهم ورث مالاً جليلاً جسيماً، فتقاين، وعمل كل ما اشتهى، فبلغني إنه قال: أريد أن تفتحوا لي صناعة لا تعود علي بشيء، أتلف بها هذا المال.
فقال له أحد جلسائه: اشتر التمر من الموصل واحمله إلى البصرة، فإنك تهلك المال.
فقال: هذا إذا فعل، عاد منه، ولو اثنان في العشرة، تبقى من أصل المال.
فقال له آخر: اشتر هذه الإبر الخياطية، التي تكون ثلاثاً بدرهم، وأربعاً، وتتبعها، فإذا اجتمع لك عشرة آلاف إبرة بجملة الدراهم، فاسبكها نقرة، وبعها بدرهمين.

فقال: أليس يرجع من ثمنها درهمان؟ فقال له أحدهم: كأنك تريد ما لا يرجع شيء منه البتة؟ فقال: نعم.
فقال: تشتري ما شئت من الأمتعة، وتخرج به إلى الأعراب، فتبيعه عليهم، وتأخذ سفاتجهم إلى الأكراد، وتأخذ سفاتجهم إلى الأعراب.
قال: وكان يعمل هذا، حتى فني ماله.
من أخبار متخلفي المورثين - 2وبلغني أن آخر، أسرع في ماله، فبقيت منه نحو خمسة آلاف دينار، فقال: أريد أن تفنى بسرعة، حتى انظر أي شيء أعمل بعدها.
فعرضت عليه أشياء من هذا الجنس، فلم يردها.
فقال له بعض أصحابه: تبتاع زجاجاً مخروطاً بالمال كله، إلا خمسمائة دينار، وتعبيه، ويكون في نهاية الحسن، وتنفق الخمسمائة دينار في يوم واحد، في جذور المغنيات، والفاكهة، والطيب، والشراب، والثلج، والطعام، فإذا قارب الشراب أن يفنى، أطلقت فارتين في الزجاج، وأطلقت خلفهما سنوراً، فيتعادى الفار والسنور في الزجاج، فيتكسر جميعه، وتنهب الباقي.
فقال: هذا طيب.
فعمل ذلك، وجلس يشرب، فحين سكر، قال: هي، وأطلق الرجل الفارتين والسنور، وتكسر الزجاج، وهو يضحك، ونام.
وقام الرجل ورفقاؤه، فجمعوا ذلك الزجاج، وعملوا من قنينة قد تشعثت قدحاً، ومن قدح قد تكسر برنية غالية، ولزقوا ما تصدع، وباعوه بينهم، فرجع عليهم منه دراهم صالحة اقتسموها، وانصرفوا عن الرجل، فلم يعرفوا خبره.
فلما كان بعد سنة، قال صاحب المشورة، بالزجاج والفار والسنور، لو مضيت إلى ذلك المدبر، فعرفت خبره.
فجاء، فإذا هو قد باع قماش بيته، وأنفقه، ونقص داره، وباعها، وسقوفها، حتى لم يبق إلا الدهليز، وهو نائم فيه، على قطن، متغط بقطن قد فتق من لحف وفرش، بيعت وبقي القطن، فهو يتوطاه، ويتغطى به من البرد.
قال: فرأيته، وكأنه سفرجل بين القطنين.
فقلت: يا ميشوم، ما هذا؟ قال: ما تراه.
فقلت: في نفسك حسرة؟ قال: نعم.
قلت: ما هي؟ قال: أشتهي أن أرى فلانة، مغنية كان يعشقها، واتلف أكثر المال عليها.
قال: وبكى، فرققت له، وأعطيته من منزلي ثياباً، فلبسها، وجئنا إلى بيت المغنية، فقدرت أن حاله قد ثابت، فدخلنا إليها، فحين رأته، أكرمته، وبشت به، وسألته عن خبره، فصدقها عن الصورة.
فقالت له في الحال: قم ، قم.
قال: لم؟ قالت: لئلا تجيء ستي وتراك وليس معك شيء فحرد علي لم أدخلتك، فاخرج إلى برا حتى أصعد أكلمك من فوق.
فخرج، وجلس ينتظر أن تخاطبه من روزنة في الدار إلى الشارع، وهو جالس.
فقلبت عليه مرقة من قدر سكباج، وصيرته آية ونكالاً، وضحكت.
فبكى، وقال: يا أبا فلان، بلغ أمري إلى هذا؟ أشهد الله، وأشهدك أني تائب.
قال: فأخذت أطنز به، وقلت: أيش تنفعك التوبة الآن؟ قال: ورددته إلى بيته، ونزعت ثيابي عنه، وتركته بين القطن، كما كان أولاً، وحملت ثيابي، فغسلتها، وأيست منه، فما عرفت له خبراً، نحو ثلاث سنين.
فأنا ذات يوم، في باب الطاق فإذا بغلام يطرق لرجل راكب، فرفعت رأسي إليه، فإذا به على برذون فاره، بمركب خفيف مليح فضة، وثياب حسنة، ودراريع فاخرة، وطيب طيب، وكان من أولاد الكتاب، وكان قديماً أيام يساره يركب الدواب من الدواب أفرهها، ومن المراكب أفخرها، وآلته وثيابه، وقماشه أفخر شيء مما كان يقدر عليه، أو ورثه عن والديه.
فحين رآني، قال: فلان، فعلمت أن حاله قد صلحت، فقبلت فخذه، وقلت: يا سيدي أبو فلان.
فقال: نعم.
قلت: إيش هذا؟ قال: صنع الله، والحمد له، البيت، البيت، فتبعته، حتى انتهى إلى بابه، فإذا بالدار الأولة، قد رمها، وجعلها صحناً واحداً، فيه بستان، وجصصها من غير بياض وطبقها، وترك فيها مجلساً واحداً، حسناً، عامراً، وجعل باقي المجالس صحناً، وقد صارت طيبة، إلا أنها ليست بذلك السرو الأول.
وأدخلني إلى حجرة كانت له قديماً، يخلو فيها، وقد أعادها إلى أحسن ما كانت عليه، وفيها فرش حسن ليس من ذلك الجنس، وفي داره أربعة غلمان، قد جعل كل خدمتين إلى واحد منهم، وخادم شيخ، كنت أعرفه له، قد رده، وجعله بواباً، وشاكري، وهو سائسه.
وجلس، فجاؤوه بآلة مقتصدة نظيفة، فخدم بها، وبفاكهة مختصرة متوسطة، وطعام نظيف كاف، إلا أنه قليل، فأكلنا، وبنبيذ تمر جيد، فجعلوه بين يدي، وبمطبوخ جيد بين يديه.
ومدت ستارة، فإذا بغناء طيب، وبخر بعود طري وند جميعاً، وأنا متشوف إلى علم السبب.

فلما طابت نفسه، قال: يا فلان، تذكر أيامنا الأولة؟ قلت: نعم.
قال: أنا الآن في نعمة متوسطة، وما قد أفدته من العقل، والعلم بالزمان، أحب إلي من تلك النعمة، هو ذا ترى فرشي؟ قلت: نعم.
قال: إن لم تكن بذلك العظم، فهو مما يحتمل به أوساط الناس.
قلت: نعم.
قال: وكذلك آلتي، وثيابي، ومركوبي، وطعامي، وفاكهتي، وشرابي، فأخذ يعدد ويقول في كل فصل: إن لم يكن ذلك المفرط، ففيه جمال، وبلاغ، وكفاية.
إلى أن ذكر كل ما عنده، ويضيف ذلك أمره الأول، ويقول: هذا يغني عن ذلك، قد تخلصت من تلك الشدة الشديدة، تذكر يوم عاملتني المغنية لعنها الله بما عاملتني به؟ وما عاملتني به أنت ذلك اليوم، وقلته في كل يوم، وفي يوم الزجاج؟ فقلت: هذا قد مضى، والحمد لله الذي أخلف عليك، وخلصك مما كنت فيه، فمن أين لك هذه النعمة، والجارية التي نغنينا الآن؟ فقال: اشتريها بألف دينار، وربحت جذور القيان، وآمري الآن على غاية الإنتظام والإستقامة.
فقلت: من أين هذا؟ قال: مات خادم لأبي، وابن عم لنا بمصر، في يوم واحد، فخلفا ثلاثين ألف دينار، فحملت إلي بأسرها، فوصلت في وقت واحد، وأنا بين القطن، كما رأيت، فحمدت الله، وأعتقدت أن لا أبذر، وأن أدبر، وأعيش بها إلى أن أموت، وأنفقها على اقتصاد.
فعمرت هذا الدار، واشتريت جميع ما فيها من فرش وآلة وثياب ومركوب وجواري وغلمان، بخمسة آلاف دينار، وجعلت تحت الأرض خمسة آلاف دينار، عدة للحوادث، وابتعت ضياعاً ومستغلات بعشرة آلاف دينار، تغل لي في كل سنة، مقدار نفقي، على هذا المقدار الذي تراه من النفقة، ويفضل لي في كل سنة إلى وقت ورود الغلات، شيء آخر، حتى لا أحتاج أن أقترض ولا أن أستدين، وأمري يمشي على هذا.
وأنا في طلبك منذ سنة، ما عرفت لك خبراً، فإني أحببت أن ترى رجوع حالي، ومن دوام صلاحها، واستقامها، أن لا أعاشرك، يا عاض بظر أمه، أبداً، خذوا يا غلمان برجله.
فجروا والله برجلي، وأخرجوني، ولم يدعوني أتمم شربي عنده ذلك اليوم.
وكنت ألقاه بعد ذلك على الطريق راكباً.
فيضحك إذا رآني، ولا يعاشرني، ولا أحداً من تلك الطبقة.
ويبعد في نفسي، ما حكي من أمر سفاتج الأعراب والأكراد، والزجاج، فإن هذا عندي، لا تسمح به نفس مجنون.
ابن الدكيني يرث عن والدهخمسمائة ألف دينار: ولكن قد حكي: أن رجلاً من أولاد التجار ببغداد، يقال له: ابن الدكيني، وخبره مشهور ببغداد، مات أبوه، فخلف عليه خمسمائة ألف دينار، فلعب بها لعباً لم يسمع قط بأعظم منه.
وكان يضاهي المقتدر، وإذا بلغه أنه عمل شيئاً من ألوان اللذة والطيب واللعب، عمل ما يقاربه من جنسه.
وإنه كان يجذر دائماً بمائتي دينار في يوم، وينثر على المغنيات خمسة آلاف درهم، وعشرة آلاف درهم، غير دفعة، ويهب لهم الخلع، كل خلعة بثلاثة آلاف درهم، وألفي درهم، ومائة دينار.
ويهب منها في مجلس، عشر خلع، وخمس عشرة خلعة، يخرجها من دكان أبيه من التخوت، فيهبها.
وأنه كان إذا أصبح مخموراً، أحضر الثياب الدبيقي، فتخرق بحضرته باليد، عصائب للفصد، ويقول: لا يزيل خماري غير سماع أصواتها.
وإنه أنفق في فصاد فصدته عشيقته، ثلاث آلاف دينار.
وأشياء من هذا السرف.
وإنه لما لم يبق إلا نحو خمسين ألف دينار من ماله، تاب من هذا كله، ولزم يده، وتجهز للحج.
فأنفق فيه، وفي أبواب الثواب عشرة آلاف دينار.
فلما قضى حجه، وعاد يريد بغداد، مات في طريقه وهو شاب، فورث ورثته باقي ذلك المال.
وآخر في بالبصرة ورث عن والدهمائة ألف دينار: وسمعت بعض الطياب، يقول، وقد جرى ذكر رجل عندنا بالبصرة، ورث مقدار مائة ألف دينا، فتقاين بها في سنين قريبة، وعاد فقيراً.
فقال له ذلك الرجل: يا أخي فرسخ قراصنة في هذا العمل بضاعة.
تاجر من العسكر يحاسب ولدهعلى ما أتلف من المال: حدثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال: كان بالعسكر رجل تاجر، موسر من التجار، يقال له أحمد بن عمر بن حفص، فخرج إلى أصفهان، فأنفق ابن له من ماله في القيان، ثلاثة آلاف دينار، وكوتب بذلك، فعاد.
فلما اجتمعا، طالبه بالحساب، فدافع.

فقال له أبوه يوماً: إلى كم تدافع بالحساب، وقد بلغني خبر ما أتلفت فيه المال؟ فإن كنت استفدت بذلك عقلاً، وعلماً بالزمان، وحنكتك الشدائد والأمور، وأدبتك، فليس هذا بغال، بهذا القدر من مالي، فإنه مالك، وإن لم تكن أفدت ذلك، فإن المصيبة فيك عندي، أعظم من المصيبة بذهاب المال.
أحمد الخراساني صاحب ابن ياقوتوحدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: كان أحمد بن محمد الخراساني، الذي صار بعد ذلك، صاحباً لابن ياقوت، جاءني وقد ورث خمسين ألف درهم، في أول عمره، فدخل دار الزكروية المغنية، وتعشق جارية لها، كانت مشهورة ببغداد، بالحسن والظرف، وطيب الغناء، يقال لها زهرة، كان الأحداث ببغداد قد استهتروا بها.
فقالت الزكروية: أراك قد عشقت جاريتي هذه، فكم هذه؟ قال: خمسين ألف درهم.
قالت: هذه دور بلا نحبة.
فما مضت إلا أيام، حتى أتلفها، فرأيته بجبة لا قميص تحتها ولا فوقها، يمشي حافياً، ثم صنع الله له بعد ذلك، وخدم ابن ياقوت، فأثرى وعقل.
أبو وسنا الخزاعيوالكلام الذي يطر الآجر: وحدثني قال: كان رجل من الرجالة، يقال له ابن وسنا الخزاعي، يتعشق حدثاً ببغداد، يقال له الحسين بن غريب البقال، حسن الوجه، رائعاً، خفيف الروح حسن الالتقاء، فأنفق عليه مالاً، وباع عقاراً كان له، ثم خف ماله، فأمسك يده عنه، وقطعه.
فقيل له بعد ذلك: لم تركت ابن غريب، وحلفت أن لا تكلمه؟ فقال: كلا حسين بن غريب يطير الآجر.
درة الرقاص الصوفي وأبو غالب بن الآجريسمعت درة، الرقاص الصوفي، يقول: استترت مع أبي غالب بن الآجري، كاتب صافي، أحد الساجية، شهراً، فضاف صدري، فتركته وهربت منه، وغبت أياماً عند أخواتي، ثم جئته، فعاقبني.
فقلت: يا هذا ضاق صدري.
فقال لي: استر معي أيام استتاري، فإذا خلصني الله، دوعتك أياماً متتابعة، بعدد أيام استتارك عندي، أجذر لك في كل يوم غناء بمائة دينار.
فاستترت معه بعد هذا نحو شهر، ثم فرج الله عنه، وظهر، وعادت حاله.
فلما التقينا، قلت: النذر.
قال: نعم، إجلس، لنجعل اليوم أوله، فجذر ذلك اليوم، وتلك الليلة، قياناً بمائة دينار، وأنفق قريباً منها، ثم لم يدع القيان يخرجن، إلا أن يملهن، فيحضر بدلهن.
وجلسنا على تلك الحال، يجذر في كل يوم وليلة بمائة دينار قياناً، وينفق في طعام وشراب وفاكهة وطيب، مثلها.
وكان ربما احتاج إلى لقاء صاحبه، والتصرف في شغله، فيخرج، ويركب، ويتصرف، ويعود ليلاً، أو عشياً، وكما يستوي له، والغناء جالس، والمطبخ قائم، ونحن نأكل ونسمع، وهو غائب عن داره، حتى وفى لي أياماً بعدد أيام استتاري معه، وكانت أكثر من ثلاثين يوماً.
آخر أبي غالب بن الآجريولقد رأينا أنا، أبا غالب الآجري هذا، وقد ورد البصرة في أيام أبي القاسم البريدي، فاستشفع على أبي بغلامه مبشر، لأنه كان قد ملكه في أيام نعمته.
وكنت أرى مبشراً غلامنا، يبره في الأوقات، من ماله، بعشرين درهماً، وثلاثين درهماً، ويأخذ له من أبي سبعين درهماً، ومائة درهم، في أوقات، وهو يجيء إلى مبشر، فيواكله، ويشاربه، ويعاشره، وكأنه نديم له، بدالة ملكه إياه، ورأى عليه قميصاً مخرقاً، ودراعة مرقوعة، ونعلين كنباتي في رجله يمشي بهما في الطرق، وغلامه خلفه، ومعه خف منعل، فإذا حصل في دهليزنا لبسه، ودخل إلى أبي.
ولزمنا مدة، إلى أن خاطب أبيبعض العمال في تصريفه بعشرة دنانير في الشهر، فصرف فيما هذا مقداره.
درة الصوفي يتحدث عن المورثينوقال لي درة الصوفي: كان المورث، إذا اجتذبنا إلى اللعب معه، ومعه عشرة آلاف دينار، أو مائتا ألف درهم، سميناه: المعجل.
فقلت له: ما معنى هذا؟ فقال:: النساء، إذا مات لهن ابن له شهور دون السنة، أو سنة إلى حد الفطام، سمينه المعجل.
وكنا نحن نسمي هذا بالمعجل، بمعنى أن ماله، لا يبلغ به في هذا العمل، إلا إلى حد الطفل الذي يموت في شهور، أو سنة وأشهر للنساء، فيسمونه المعجل.
ونعوذ بالله من الإدبار، وتغير النعم، وإيحاشها بقلة الشكر.
فصل من كتاب كتبه القاضي التنوخي

إلى رئيس: ولقد كتبت، في محنة لحقتني، إلى رئيس، كتاباً فيه فصل يتعلق بما ذكرته، من منادمة أبي غالب الكاتب، لمبشر مولانا، بدالة ملكه له، وقبوله بره بتلك الحجة، استحسنته، فأوردته هاهنا وهو: لا أحوجك الله إلى اقتضاء ثمن معروف أسديته، ولا ألجأك إلى قبض عوض عن جميل أوليته، ولا جعل يدك السفلى لمن كانت عليه هي العليا، وأعاذك من عز مفقود، وعيش مجهود، وأحياك ما كانت الحياة أجمل بك، وتوفاك إذا كانت الوفاة أصلح لك، بعد عمر مديد، وسمو بعيد، وختم بالحسنى عملك، وبلغك في الأولى أملك، وسدد فيها مضطربك، وأحسن في الأخرى منقلبك، إنه سميع مجيب، جواد قريب.
أبو الحسن الموصلي كاتب أبي تغلبوالسيدة جميلة ابنة ناصر الدولة: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال: رأيت أبا الحسن علي بن عمرو الموصلي يكتب إلى أبي تغلب بن ناصر الدولة، وكتب في موضع من الكتاب أمور حميدة.
فقلت له: هذا الموضع يصلح أن يكون فيه أمور جميلة فأما حميدة، فهي لفظة مستكرهة.
فقال: صدقت، ولكني كتبت، وأنا الموصل، رقعة إلى أبي تغلب، فيها أمور جميلة فوصلت إليه، وهو عند أخته جميلة، وهي غالبة عليه، محتوية على أمره، لا يقطع شيئاً من دونها، ولا يفصل رأياً إلا عن مشورتها، وكانت الرقعة مما احتاج إلى مطالعتها بما فيها فقرأها عليها فأنكرت علي قولي جميلة، لأنه اسمها، إنكاراً شديداً، احتجت معه إلى الإعتذار مما كتبت، فما كتبت بعدها الآن، جميلة في شيء من مكاتباتي إلى أحد، وصار تركها لي طبعاً.
علية بنت المهدي تتحامى اسم طلويشبه هذا، قول علية بنت المهدي، لما قرأت القرآن فبلغت إلى قوله عز وجل: " بسم الله الرحمن الرحيم " فإن لم يصبها وابل فطل " صدق الله العظيم " ، فقالت: فإن لم يصبها وابل فما نهى أمير المؤمنين عن ذكره، ولم تقل طل، لأنه كان اسم خادم تعشقته، فبلغ الرشيد أخاها خبرها معه، فجرى عليها منه مكروه غليظ، وأحلفها على أشياء منها أنها لا تذكره.
امرأة بغدادية تتظرف فتحرف القرآنوقد حكي: أن بعض النساء الظراف، قرأت: تعلم ما في روحي ولا أعلم ما في روحك، ولم تقل نفسي لأن الظراف، لا يقولون ذلك فقال لها بعض من سمعها: ويحك، فأنت أظرف من الله؟ قولي كما قال.
بحكم أمير الأمراءوفتوة جارية الهاشمية: أخبرني غير واحد: إن بحكم الماكاني أمير الأمراء ببغداد، عشق جارية من القيان بها، يقال لها فتوة جارية الهاشمية، وكان يتكبر عن شرائها، ويرفع نفسه أن يبوح بمحبتها، ويحضرها، فيعطيها كل شيء.
وكان قد استعمل لها عوداً، من عود هندي، قام عليه بمال، وكانت تغني به.
فسكر يوماً، فخسف وجه العود، وقلعه، وملأه لها دراهم، فوسع نيفاً وعشرين ألف درهم.
أبو العباس البغداديوإنفاقه ماله في الفساد: وكان عندنا بالبصرة، دلال من أهلها يعرف بأبي العباس البغدادي ورث في حداثته مالاً جليلاً، فتقاين بجميعه، فلما افتقر، صار دلالاً، فكسب أيضاً كسباً ثانياً كبيراً، فما كان يبقى منه شيئاً، بل ينفقه كله في الفساد.
فأخبرني بعض الشيوخ البصرة، قال: رأيته، وهو حدث، في ليلة شهر رمضان، مملوء الكم، يريد دار بدعة الدرونية، وكانت إذ ذاك مغنية البلد، المشهورة فيه، بالنبل، والحذاقة، والطيب، والحسن، ولها أخبار كثيرة طريفة.
فقلت: إيش في كمك يا أبا العباس.
فقال: مخلط خراسان أتصدق به على بدعة، صدقة شهر رمضان.
فلم أشك في أنه كذلك.
فقلت: فأطعمني منه، فطرح في كمي منه شيئاً ثقل به كمي، وافترقنا.
فلما بلغت بيتي أردت أن أطعم عيالي منه، فنظرت فإذا هو لوز ذهب، وسكر فضة، وفستق وبندق عنبر، وزبيب ند، فخبيته.
فلما كان من غد، نظرت فإذا قيمته مال، فجئت إليه، ورددته عليه.
فقال: يا بارد، أيش هذا حتى ترده؟ جميع ما كان في كمي البارحة، كذا، فرقته على بدعة وجواريها.
فقلت: لو عملت هذا ما طلبته منك.
قال: فظننت أني على الحقيقة أحمل لوزاً وسكراً وزبيباً وفستقاً؟.
كل نفس آتيناها هداهاحدثني أحمد بن عبد الله بن بكر البصري، قال: حدثني عروة الزبيري: إنه حج في سنة الهبير، فاشترى من مكة قرداً، وكان مع عديله كلب، فألف القرد الكلب، فكانا يأكلان في موضع واحد.

قال: فقطع علينا القرمطي، وأخذنا السيف، وتفرق الناس، وحيل بينهم، وبين أمتعتهم ورحالاتهم، ومشيت أنا، فأفلت فيمن أفلت، وجئت إلى الكوفة، وما أملك درهماً واحداً.
فبينا أنا جالس يوماً أفكر، لمن أسأل، وكيف أعمل، إذ سمعت جلبة وضوضاء.
فخرجت أبصر ما هي؟ فإذا القرد قد ركب الكلب، وجاءا كذلك، فدخلا الكوفة، والناس يضحكون منهما.
وإذا القرد كان يطعم الكلب، ويريد منه الركوب، واحتال لنفسه بذلك، طول الطريق.
فلما رأيت القرد والكلب استدعيتهما فجاءا إلي.
فقال الناس: ما هذا؟ فقلت: هما لي، فأخذتهما.
وبلغ أمير الكوفة الخبر، فراسلني في بيعهما عليه.
فبعتهما عليه بثلثمائة درهم، فكانت سبب صلاح حالي في الوقت، وخرجت البلد.
ما للماء للماء وما للخمر للخمروروي عن وهب بن منبه: أنه كان في عهد بن بني إسرائيل، خمار، فسافر بخمر له ومعه قرد، وكان يمزح الخمر بالماء نصفين، ويبيعه بسعر الخمر، والقرد يشير إليه أن لا تفعل، فيضربه.
فلما فرغ من بيع الخمر، وأراد الرجوع إلى بلده، ركب البحر، وقرده معه، وخرج فيه ثيابه، والكيس الذي جمعه من ثمن الخمر.
فلما سار في البحر، استخرج القرد الكيس من موضعه، ورقى الدقل وهو معه، حتى صار في أعلاه، ورمى إلى المركب بدرهم، وإلى البحر بدرهم.
فلم يزل ذلك دأبه، حتى قسم الدراهم نصفين، فما كان بحصة الخمر، رمى به إلى المركب، فجمعه صاحبه، وما كان بحصة الماء رمى به إلى البحر فهلك، ثم نزل عن الدقل حتى حصل في المركب.
قرود اليمن ترجم الزاني والزانيةحدثني أبو عمر أحمد بن عبد الله أحمد بن بكر البصري، قال: حدثني النعمان الواسطي المحدث إنه كان باليمن، فحدثه بعض من يثق به من الرعاة هناك، قال: كنت أرعى غنماً لي في بعض الأودية، فرأيت قردين، ذكراً وأنثى، وهما نائمان في مكان من الجبل.
فجاء قرد ذكر، يخفي مشيه، حتى حرك الأنثى، وهي إلى جنب الذكر، فانتبهت، ومضت معه، وافترشها، وأنا أراهما.
فانتبه ذكرها، فرآها، فزعق زعقة عظيمة، فاجتمع إليه من القرود عدد كثير، هالني.
فصاح بين أيديهم، فأقبلوا يتشممون الأنثى، حتى فرغوا كلهم من تشممها.
ثم نزلوا بها، وبالذكر الذي وطئها، تخفياً من ذكرها، إلى وهدة بعيدة، فدحرجوها فيها قهراً، ثم رجموهما بالحجارة، حتى ماتا.
دب في شيراز ينفخ في زق حدادقال: حدثني أبو الحسن الزجاج، صديق - كان لي - ثقة: إنه شاهد بشيراز، دباً، ينفخ في زق حداد، كأنه أقامة مقام الأجير.
دب يضرب بمطرقة حدادقال: شاهدت أيضاً دباً يضرب بالمطرقة، على حداد، فغلط يوماً، فضرب دماغ الحداد فقتله.
خاقان المفلحي يستطيب لحم الدب والضبعحدثني أبو محمد الصلحي الكاتب، قال: حدثني أبي، وكان يكتب لخاقان المفلحي، قال: شربت معه يوماً، فنقلني بقديد، فلم حصل في فمي، لم أستطبه.
فقلت: أيها الأمير، ما هذا؟ فقال: هذا قديد الدب.
فرميت به، وقذفت، وثارت بي أخلاط، وصارت علة، فأقمت أربعة أشهر عليلاً في بيتي.
قال: وكان خاقان، يأكل لحم السباع، والضباع، ويستطيبها، ولحم كل شيء له لحم.
وصف له الطبيب فروجاً، فأكل مهراً
وأخبرني وهب بن يوسف، اليهودي، الطبيب، عن داود اليهودي، الشامي، قال: كنت أخدم خاقان، فاعتل، فحميته، فاحتمى، وصلح، وأقبلت العافية.
فقال لي: لا أقدر أحتمي أكثر من هذا.
فقلت له: كل فروجاً.
فلما كان من غد، جئته، فوجدت الحمى، قد عادت أعظم مما كانت، وهي في طريق البرسام.
فقلت له: ما عمل الأمير أمس؟ فقال: أكلت فروجاً.
فقلت: ليس هذا من فعل الفروج، أي فروج هذا، حتى فعل هذا؟ فقال لي بعض غلمانه: إنه ذبح مهراً، وأكل منه أطايبه.
فقلت: أيها الأمير، أصف لك فروجاً، فتأكل لحم دابة؟ فقال: بابا، إنما أكلت فروج الدابة.
فقلت في نفسي: خذ الآن فروج الموت.
ومازلت أعالجه شهوراً كثيرة، حتى برىء.
وظيفة خاقان المفلحي في كل يوممن اللحم ألف مائتا رطل: قال أبو محمد الصلحي، عن أبيه: كانت وظيفة خاقان المفلحي، في كل يوم، ألف رطل ومائتي رطل لحماً، له، ولغلمانه، وخدمه، وكل ما يتخذ في داره، إذا كان في أعماله.
فإذا كان ببغداد، اقتصر على النصف من ذلك، وهو ستمائة رطل لحماً، سوى الحيوان الذي يذبح في المطبخ.


وظيفة الوزير أبي الفرج بن فسانجسمن اللحم في كل يوم: وأخبرني بعض وكلائه وزراء هذا الزمان، وهو أبي الفرج بن فسانجس: إن وظيفة كانت، في أيام وزارته، في كل يوم، نيف وستين رطلاً لحماً، له، ولنسائه وغلمانه، وجميع ما يتخذ في دوره، وثلاثة جدي، وعشر دجاجات، وأربعة أو خمسة أفرخ، وثلاث جامات حلوى من السوق، وليست من فاخره، وإنما هي زلابية دقيقة، أو فالوذج، أو ما يجري مجرى ذلك.
كفى بالأجل حارساً
سمعت قاضي القضاة، أبا السائب، يحكي: إن رجلاً كان له على رجل دين، فهرب منه، فلقيه صاحب الدين في صحراء فقبض عليه، وأخرج قيداً كان معه، فقيده ونفسه به، وجعل إحدى الحلقتين في رجل غريمه، والأخرى في رجل نفسه، ومشيا إلى قرية تقرب من الموضع، فجاءاها، وقد أدركهما المساء، وأغلق أهل القرية باب سورها، فاجتهدا في فتحها لهما، فأبى أهل القرية، فباتا في مسجد خراب على باب القرية، فجاء السبع وهما نائمان، فقبض على صاحب الدين فافترسه، وجره، فانجر الغريم معه، فلم تزل تلك حاله إلى أن فرغ السبع من أكل صاحب الدين، وشبع، وانصرف، وترك المديون وقد تجرح من جره وسحبه عليه، وبقيت ركبة الغريم في القيد، فحملها الرجل مع قيده، وجاء إلى القرية، فأخبرهم الخبر، حتى حلوا قيده، وسار لوجهه ذلك.
عريان أعزل يصيد الأسدحدثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيار: إن رجلاً أجنة الليل في بعض أسفاره، فبات في خان خراب، بقرب أجمة، وماء مستنقع، وكانت ليلة قمراء، وكان الموضع مسبعاً، والرجل عارف بذلك، فرقي سطح الخان، وطلب لبناً فشرجه على باب الدرجة، وجلس يترقب، فإذا رجل عريان، قد جاء حتى جلس على الماء.
قال: فقلت له: ما تصنع؟ قال: جئت لأصطاد السباع.
فقلت: يا هذا اتق الله في نفسك.
فقال: الساعة ترى.
فلم يلبث هنيهة، أن طلع سبع، فتراءى له الرجل، فصاح به، فقصده: فلما قرب منه، طرح الرجل نفسه في الماء، فرمى السبع بنفسه خلفه في الماء، فغاصا، فإذا الرجل قد خرج من وراء السبع، وعلق خصييه بيده، ثم أخرج من منديل على رأسه، قصبة مقدار ذراع، مجوفة، فارسية، وثيقة، نافذة، فدسها في جاعرة السبع، وأقبل يدخل فيها الماء بإحدى يديه، وكلما دخل جوف الأسد الماء ثقل، وضعف بطشه، وهو يمرس مع ذلك خصاه، إلى أن غرقه، وقتله.
ثم جره في الماء فأخرجه إلى الشط، وسلخ جلده، وأخذ جبهته، وكفه، وشحمه، ومواضع يعرفها منه لها ثمن.
ثم صاح بي: يا شيخ، كذا أصطاد السباع.
وتركني ومضى.
لئيم يفخر بلؤمهحدثني أبو القاسم عبد الله بن محمد بن مهرويه، بن أبي علان الأهوازي الكاتب، خال والدي، قال: كانت بيني وبين أبي جعفر بن قديدة، عداوة، وكنت قد تبت من التصرف مع السلطان.
فتقلد ضياع السيدة أم المقتدر، وفيها ما يجاوز ضيعتي، فآذاني أذى شديداً، في الشرب، والأكرة، وقصد إخراب ضيعتي، وإبطال جاهي فصبرت عليه.
فقبض يوماً على أكار لي، فصفعه صفعاً عظيماً، فأنفذت إليه كاتباً كان يكتب لي على ضيعتي، يعرف بأبي القاسم على بن محمد بن خربان، ليعاتبه، ويستكفه، ويأخذ الأكار، فتلقى الرجل بكلام غليظ.
فعاد إلي، فقال: إن هذا قد جدبك، فخذ حذرك، ودبر أمرك بغير ما أنت فيه.
فقلت: ما الخبر؟ فعرفني ما جرى عليه.
ففكرت، فلم أر لحسم مادته، وأذيته في نفسه، غير ضمان ضياع السيدة، وتسلمه، ومطالبته بالحساب، وإيقاعه في المكاره.
فكتبت إلى كاتب السيدة، وخطبت ضمان النواحي، بزيادة ثلاثين ألف دينار في ثلاث سنين، عما رفعها ابن قديدة، على أن تسلم إلي، لأحاسبه وأطالبه، بما يخرجه الحساب عليه، وأوفره، مضافاً إلى هذه الزيادة.
وأنفذت الكتاب مع فيج قاصد.
فحين نفذ، اغتممت، وقلت: ضياع لا أعرف حاصلها على الحقيقة، لم حملت نفسي على هذا؟ وكان احتمال عداوة الرجل، أيسر من هذا.
وطرحت نفسي مفكراً، وأنا بين النائم واليقظان، حتى رأيت، كأن رجلاً شيخاً، أبيض الرأس واللحية، بزي القضاة، قد دخل إلي وعليه طيلسان أزرق، وقلنسوة، وخف أحمر.
فقال: ما الذي يغمك من هذا الأمر؟ ستربح في أول سنة من هذا الضمان، على ما زدته، عشرة آلاف دينار، وتخسر في الثانية، عشرة، وتخرج في الثالثة بغير ربح ولا خسران، ويكون تعبك بإزاء اشتفائك من عدوك.

فانتبهت متعجباً، وسألت: هل دخل إلي أحد؟ فقالوا: لا، فقويت نفسي قليلاً.
فلما كان في اليوم الثاني والعشرين، ورد رسول من بغداد، بكتب إلي قد أجبت فيها إلى ملتمسي، وكوتب في طيها، عامل كان لهم بالطيب مقيماً، يشرف على جميع عمالهم بكور الأهواز يؤمر بقدومها وتسليم ابن قديدة إلي، وعقد الضمان علي.
فأنفذت إلى العامل سفتجة بألف دينار مرفقاً، وكتبت إليه، وسألته الحضور، وأنفذت إليه الكتب الواردة.
فلما كان بعد أيام، كنت جالساً مع عامل الأهواز، على داره بشاطىء دجيل فإذا عسكر عظيم قد طلع من جانب المأمونية.
فارتاع، وظن أن صارفاً قد ورد، وأنفذ من سأل عن الخبر، فعاد، وقال: فلان، عامل السيدة، فعبر في طياره، وأنا معه، لتلقيه.
فحين اجتمعا، قال له: يا سيدي، أريد ابن أبي علان.
فقلت: أنا هو يا سيدي.
قال: ولم يكن يعرفني، ولا أعرفه إلا بالوجوه فأقامني من موضعي، ورفعني فوق الجماعة، وتحير العامل، ومن حضر.
وقال له: أريد ابن قديدة، فأنفذ إليه، فاستدعاه.
فحين حضر قيده، وقال لي: يا أبا القاسم تسلمه.
فقال العامل: أيش هذا التعب؟ وأقبلت الجماعة تمازحني.
فقلت: هو أحوجني إلى هذا.
قال: فتسلمه، وقمت إلى داري.
وعبر عامل السيدة، فحملت إليه من الألطاف، والأنزال، والهدايا، ما صلح، وعقد علي الضمان من غد، وانصرف في اليوم الثالث.
وحملت إليه ألف دينار أخرى مرفقاً.
وحصلت ابن قديدة معي في المكاره متردداً، ووفرت من جهته مالاً على السيدة، وكاتبها، وكذا العامل، وارتجعت ما لزمني على مؤونة العامل ومرفقة.
وأطلقته بعد شهور إلى داره، وقد ركبه دين ثقيل، وباع شيئاً من ضيعته، وانكسر جاهه، وانخزلت نفسه.
ونظرت في الضمان، وتصرمت السنة، فربحت عشرة آلاف دينار.
فقلت: قد جاء ما قال الشيخ في المنام، فأثبتها عند الصارف، ولم أدخلها في دخلي، ولا في خرجي.
فلما كانت السنة الثانية، قعدت بي الأسعار، فخسرت ذلك القدر، فأديته بعينه في الخسران.
فلما كانت السنة الثالثة، خرجت رأساً برأس، ما خسرت ولا ربحت شيئاً.
فصححت مال الضمان، وكتبت أستعفي، وقد علمت أن النكبة قد بلغت بابن قديدة إلى حد لا يجسر أن يتقلد معها، ولا أن يقلد أيضاً.
فلم يعفني كاتب السيدة، وطالبني بتجديد الضمان على الزيادة، وعمل على التأول عليها من ابن قديدة.
وأنفذ في إشخاصي، خادماً من كبار خدم السيدة، فجاء في طيار، وأمر هائل، فتخوفت من الشخوص معه، فأحصل في الحبس، وتستمر علي المكارة، وأنقطع عن الشروع في الخلاص.
فأنزلت الخادم، وهاديته، ولاطفته، وحملت إليه خمسة آلاف درهم فاستعظمها، وعبدني.
فقلت له: إن ذيلي طويل، وأريد أن أصلح أمري، ثم أخرج، فتمهلني أسبوعاً، وتدعني أخلو في منزلي، وأصلح ما أحتاج إليه، ثم أخرج معك، فمكنني من ذلك.
فقلت لإخوتي، وأصهاري، وكتابي: ليدعه كل واحد منكم يوماً، له، ولغلمانه، وأسبابه، وامنعوهم من معرفة خبري، وشاغلوهم بالنبيذ، والشطرنج، والمغنيات، ففعلوا ذلك.
وخرجت أنا تحت الليل بمرقعة، راكباً حماراً، ومعي غلامان من غلماني، ودليل، وليس معي شيء من الدنيا، إلا سفاتج بخمسة آلاف دينار.
وسرت واشتغل الخادم بالدعوات، فما عرف خبري إلا وأنا بواسط، فقامت قيامته، وانحدر في طريق الماء، فوصل إلى الأبلة، وقد قاربت أنا بغداد، ثم دخلتها متخفياً، وطرحت نفسي على أبي المنذر النعمان ابن عبد الله، وكانت لي به حرمة وصحبة، أيام تقلده الأهواز، وتصرفي معه، فلقي بي أبا الحسن، علي بن عيسى، وهو إذا ذاك الوزير، وعرفه محلي.
فقال لي: قد كنت أحب أن أراك، لما يبلغني من حسن صناعتك، وطرح إلي أعمالاً، فعملتها بحضرته، وأعجبته صناعتي، وقرظني.
ولزمته أياماً، وخبري منستر عن كاتب السيدة، ثم خاطب الوزير في أمري، وخوطبت السيدة.
فقالت: لا أقرر أمره، أو يصير إلى ديواني.
فقال لي: امض وأنا من ورائك، ولا تخف.
فمضيت، فاغتفلوني، فراسلتهم في أمري.
وحضر أبو المنذر، ديوان السيدة، فتوسط ما بيني وبينهم، وقرر الأمر على صلح ثلاثة آلاف دينار، آو نحوها - الشك مني - وضمنها عني، وأخذني إلى داره، فأديتها إليه من جملة السفاتج.

وطالبني علي بن عيسى، بالتصرف معه، فعرفته توبتي منه، وإني إنما ضمنت هذا الضمان، لضرورة، وشرحت له الخبر، فأعفاني.
فرجعت إلى الأهواز، وقد مضت السنون على العداوة بيني وبين ابن قديدة، إلا أنه منهزم.
وكتب السلطان ببيع ضياعه بالأهواز، وكان الناس يشترون ما يغل في سنة وأكثر، بنصف ثمنه، فاشتريت ما كان فيه غناي، وخرقت فيه الحكم.
واشترى أبو عبد الله البريدي لنفسه، بأسماء قوم، أمراً عظيماً، برأيي واختياري له، وكان سره عندي، وكان في ذلك الوقت لا يتقضى علي.
واشترى ابن قديدة، فيمن اشترى، وتصرفنا في الضياع.
فكتب السلطان بإلزامنا زيادة عظيمة، أظنه قال: مائة ألف دينار.
فقال لي البريدي: كيف أعمل في الزيادة؟ قلت: لا يلزمها الناس لك، وواضعت أهل البلد على الإمتناع، فجمعهم، وخاطبهم، فامتنعوا، واحتاج إلى أن خبطهم.
فخلا بي، فقال: ما أعرف في هذا غيرك، فدبره لي، وألزمني ذلك، فقلت: مكني من العمل بما أريد، وعلي المال.
فقال: أنت ممكن.
فجلست أنا وغلام جوذاب، فقسطنا المال على أهل البلد، وأخرجنا أنفسنا، فما ألزمناها شيئاً، ونقصنا من عنينا به، وزدنا بإزاء ذلك على غيره.
قال: واعتمدت أن قسطت على ابن قديدة ضعف ما يلزمه، وعملنا بذلك جرائد.
وناظرنا الناس على الإلتزام بما قسطناه، فامتنعوا، وقالوا: على أي حساب هذا؟ وحاسبونا، وناظرونا.
فقلت للجماعة: من صلح له أن يلتزم هذا التقسيط، وإلا فليحاسبنا على ما قبضه من غلات الضياع التي اشتراها، وأنا أرد عليه ما يبقى له من الثمن بعد ذلك، وآخذ ما اشتراه، وألتزم هذه الزيادة.
وكان كل إنسان قد اشترى ما في شركته، وما في جواره، مما كان يتأذى به هو وأسلافه، منذ مائة سنة، وما كان يتمناه ويشتهيه منذ ذلك العهد، وما قد ارتخصه، واستصلحه.
فقامت قيامة أهل البلد، والتزموا عن أخرهم التقسيط، على ما فصلته عليهم، من غير محاسبة.
ووركت على ابن قديدة مالاً عظيماً، فلم يكن له فيه وجه.
فأنا جالس في بيتي ليلة، إذ جاءني فدخل إلي.
فقلت: ما هذا يا أبا جعفر؟ وقمت إليه، وسلمت عليه، فعاتبني، وخضع لي.
فقلت: ما تريد؟ فقال: تخفف عني من التقسيط، وتعاونني بمالك، فو الله، ما معي ما أؤديه.
فخففت عنه منه شيئاً يسيراً، وأقرضته ثلاثين ألف درهم، وكتبت بها عليه قبالة، وأشهدت فيها حماعة عدول البلد، وتركتها في بيتي، فلم أفكر في المال سنين.
ورجعت أدس المكاره، والمغارم، والمحن عليه، وهو يذوب، وينقص في كل يوم.
فلما علمت أنه قد بلغ آخر أمره، طالبته بالدين، فاستتر عني في منزله.
فاستعديت عليه إلى القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي، فكتب لي عدوى إلى صاحب المعونة.
فهرب من داره، فنادى القاضي على بابه بالحضور، فلم ينجع ذلك.
فسألت البريدي إخراجه، فكبس عليه وأخرجه، وأحضره معي إلى القاضي، فقامت البينة عليه بالمال.
فسألت القاضي حبسه.
فقال لي القاضي علي بن محمد: الحبس في الأصل غير واجب، وذوو المروءات لا يحبسون مع أصاغر الناسفي حبس واحد، ولكن أمكنك من أن تلازمه بنفسك أو أصحابك، كيف شئت.
فلازمته في مسجد على باب القاضي بأصحابي ومضيت إلى البريدي، فقلت: قد لحقت خصمي عناية القاضي، فالله الله في، فإني لا آمن أن يدس ابن قديدة إلى أكرته، أو إلى قوم من الجيش، فيؤخذ من يدي، ويخرج إلى بغداد، فيبطل المال علي، ويحصل هناك يسعى بي، ويعرض نعمتي للزوال.
قال: فخاطب البريدي القاضي في ذلك، فتقرر الأمر بينهما على أني اكتريت داراً قريبة من حبس القاضي، أؤدي أنا أجرتها، وأجلس ابن قديدة فيها، وألازمه بأصحابي، وأوكل بها رجالة أعطيهم من مالي أجرتهم يحفظونه.
فنقلته إليها، فأقام فيها سنة وكسراً، وهو لا يؤدي المال، ويكايدني عند نفسه، وأنا قد رضيت أنا يتأخر المال، ويبقى هو محبوساً.
واعتل علة صعبة، فجاءتني أمه، وكانت بيني وبينها قرابة، فسألتني إطلاقه، وبكت، فلم أفعل.
إلى أن بلغني أنه في النزع، وجاءتني تبكي، فرحمتها، فأطلقته لها، بعد أن كفلته منها.
فمات بعد ثلاثة أيام، وابتعت بالمال ضياعاً من ضياعه.
كيف تاب بن أبي علان من التصرف

قلت لأبي القاسم ابن أبي علان: كيف كانت توبتك من التصرف؟ وما سببها؟ قال: كان سبب ذلك، أن أبا علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي رحمه الله، كان يجيء إلى الأهواز فينزل علي، لأني كنت كاتب ديوان الأهواز، وخليفة أبي أحمد بن الحسين بن يوسف على العمالة، والأمر كله إلى أدبره.
وكان أبو علي يقدم الأهواز في كل سنة دفعة، وقت افتتاح الخراج، ويستضيف إلى خراج ضيعته بجبي، خراج قوم كان رسمهم أن يكونوا في أثره على مرور السنين.
فإذا قدم البلد، أعظمه الناس وأكرموه، ولا ينزل إلا علي في أكثر الأوقات، فأقرر أمره مع العامل.
وربما كان العامل غير صاحبي، أو من لا يعرف محل أبي علي، فيكون ما يقرر عليه أمره أقل من ذلك، إلا أنه كان لا يخلو من أن يسقط عنه نصف الخراج أو ثلثه.
فإذا عاد جبي، لم يلزم نفسه من خراج ضيعته شيئاً البتة، ونظر إلى ما بقي، بعد إسقاط خراجه من النظر، ففضه على القوم الذي في أثره، وألزمهم بإزاء ذلك، أن يضيف كل واحد منهم، رجلاً من الفقراء الذين يتعلمون منه العلم طول السنة، فيكون ما يلزم الواحد، على الواحد منهم، شيئاً يسيراً لا يبلغ خمس ما أسقطه عنه من الخراج بجاهه.
ويعود هو فيخرج من ضيعته العشر الصحيح، فيتصدق به على الفقراء من أهل الحوز، قريته التي هو مقيم فيها، وعلى أهل محلته، وكان هذا دأبه في كل سنة.
فنزل علي في بعض قدماته، فبلغت له مراده في أمر الخراج، وجلسنا ليلة نتحدث.
فقلت له: يا أبا علي أتخاف مما أنا فيه شيئاً؟ فقال: يا أبا القاسم، وكيف لا أخاف عليك، والله، لئن مت على هذه الحال، لا رحت رائحة الجنة.
فقلت: ولم؟ ولأي شيء؟ وإنما أنا أعمل الحساب، وأجري مجرى ناسخ، وآخذ أجري من بيت المال، أو يجيئني رجل مظلوم، قد لزمته زيادة باطلة في خراجه، فأسقطها عنه، وأصلحها له في الحساب، فيهدي إلي بطيب قلبه، أو أرتفق من مال السلطان بشيء، ولي في فيء المسلمين قسط يكون هذا بإزائه.
فقال: يا أبا القاسم، إن الله لا يخادع، أخبرني، ألسن أنت تختار المساح، وتنفذهم إلى المساحة، وتوصيهم بالتقصي، فيخرجون، فيزيدون بالقلم واحداً أو اثنين في العشرة، ويجونك بالتزاوير، فتسقطها أنت، وتعمل الجرائد، وتسلمها إلى المستخرج، وتقول له: أريد أن يصح المال في كذا وكذا يوماً عند الجهبذ، وإلا دققت يديك على رجليك؟ قلت: نعم.
قال: فيخرج المستخرج فيبث الفرسان، والرجالة، والرسل، والمستحثين، ويضرب، ويصفع، ويقيد، وأنت تأمره وتنهاه، وإذا قلت له: أطلق رجلاً، أو أخره بما عليه قبل أمرك، وإذا لم تأذن له طالبه حتى يؤدي؟ قلت: نعم.
قال: فيحصل المال عند الجهبذ، فتخرج إليه الصكاك من يدوانك وبعلاماتك؟ فقلت: نعم.
قال: فأي شيء بقي من العمل لم تتول وزره، وتضمن غرمه، وتتحمل إثمه؟ تب إلى الله، وإلا فأنت هالك، ودع التصرف، وأصلح أمر آخرتك.
قال: وأخذ يغظني، ويخطب علي، حتى بكيت.
ثم قال لي: لست بأعظم نعمة ولا أكبر منزلة من جعفر بن حرب، فإنه كان يتقلد كبار أعمال السلطان، وكانت نعمته تقارب نعمة الوزراء، وكان يعتقد الحق ومنزلته في العلم المنزلة المشهورة، وصنف غير كتاب من كتبه الباقية إلى الآن في أيدي الناس، وهو يتصرف مع السلطان.
فاجتاز يوماً راكباً في موكب له عظيم، ونعمته على غاية الوفور، ومنزلته بحالها من الجلالة، فسمع رجلاً يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما أنزل من الحق " صدق الله العظيم " فقال: اللهم بلى، وكررها دفعات، وبكى، ثم نزل عن دابته، ونزع ثيابه، ودخل إلى دجلة، فاستتر بالماء إلى حلقه، ولم يخرج حتى فرق جميع ماله في المظالم التي كانت عليه ، وردها، ووصى فيها، وتصدق بالباقي، وعمل ما اقتضاه مذهبه، ووجب عليه عنده.
فاجتاز رجل، فرآه في الماء قائماً، وسمع بخبره، فوهب له قميصاً ومئزراً فاستتر بهما، وخرج فلبسهما، وانقطع إلى العلم والعبادة، حتى مات.
ثم قال لي أبو علي: فافعل أنت أبا القاسم مثل هذا، فإن لم تطب نفسك به كله، فتب.
قال: فأثر كلامه في، وعملت على التوبة، وترك التصرف، ولم أزل أصلح أمري لذلك مدة، حتى استوى لي التخلص من السلطان، فتبت، وتركت معاودة التصرف.
أبو فراس الحمداني

من مناجيب بني حمدان: من مناجيب أبو حمدان، أبو فراس، الحارث بن أبي العلاء بن حمدان، فإنه برع في كل فضل، على ما أخبرني جماعة شهدوه، وأوثق بهم، حسن خلق لم ير في عصره - بالشام أحسن منه، مع خلق طاهر، وحسن باطن وظاهر، وفروسية تامة، وشجاعة كاملة، وكرم مستفيض، لأنه نشأ في تربية سيف الدولة رضي الله عنه، وحجره، وأخذ أخلاقه، وتأدب بآدابه، مع ملاحة خط، وترسل، وشعر في غاية الجودة، وديوانه كبير، إلا أنه كان قبيل موته اختاره، على ما أخبرني به أبو الفرج الببغاء، فنفى منه شيئاً كثيراً.
قال: واقفني على نفيه، لأنه عرضه علي، فكل ما استضعفناه نفاه، وما اجتمعنا على استجادته أقره، وحرره في نسخة تداولها الناس ومات وما بلغ الأربعين، مقتولاً.
قال: وأظن مبلغ سنه كانت سبعاً وثلاثين سنة، أو نحوها، لما قتل.
وكان قرغويه غلام أبي الهيجاء الذي كان أحد قواد سيف الدولة، وحاجبه، احتال عليه، حتى قتله في سنة سبع وخمسين وثلثمائة.
قال: وذلك أن الجيوش السيفية افترقت بعد وفاة صاحبها، فكل قطعة حوت بلداً، وصار معظمهم مع قرغويه بحلب، واحتوى عليها وانضمت قطعة إلى أبي فراس، فغلب بها على حمص.
فلما استقام الأمر لقرغويه، رحل بالأمير أبي المعالي شريف بن سيف الدولة، وهو ذاك صبي، وأبو فراس خاله، لقتال أبي فراس، ثم جرت بينهما مراسلة، واصطلحوا.
وجاء أبو فراس، وهو لا تحدثه نفسه أن قرغويه يجسر عليه، ولا أنه يخاف أبا المعالي وهو ابن أخته، فدخل إلى أبي المعالي وخرج، وما أحب الأمير أبو المعالي به سوءاً.
إلا أن قرغويه خاف أن يتمكن من ابن أخته، فيحمله على قتله، فنصب له قوماً اغتالوه في العسكر، وهم عقيب حرب لم تهدأ، وتخليط لم يسكن.
وأراد الأمير أبو المعالي إنكار ذلك، فمنعه قرغويه، وطاح دم الرجل، رحمه الله.
وحدثني أبو الحسن، أن أبا محمد الصلحي، وكان أبوه يكتب لأبي فراس أيام ملكه، حدثه بمثله، على غير هذا، وجملته: أنه أسر، فجاء وهو أسير، راكباً، فما شاهدته طائفة من غلمان سيف الدولة، إلا ترجلت له، وقبلت فخذه، فلما رأى ذلك قرغويه قتله في الحال.
كيف أسر أبو فراس الحمدانيقال: وكان سيف الدولة، قلده منبج وحران وأعمالهما، فجاءه خلق من الروم، فخرج إليهم في سبعين نفساً من غلمانه وأصحابه، يقاتلهم، فنكأ فيهم، وقتل، وقدر أن الناس يلحقونه، فما اتبعوه، وحملت الروم بعددها عليه، فأسر.
فأقام في أيديهم أسيراً سنين، يكاتب سيف الدولة أن يفتديه بقوم كانوا عنده من عظماء الروم، منهم البطريق المعروف بأغورج، وابن أخت الملك، وغيرهما، فيأبى سيف الدولة ذلك، مع وجده عليه، ومكانه من قلبه، ويقول: لا أفدي ابن عمي خصوصاً، وأدع باقي المسلمين،ولا يكون الفداء إلا عاماً للكافة، والأيام تتدافع.
إلى أن وقع الفداء قبيل موت سيف الدولة، في سنة خمس وخمسين وثلثمائة، فخرج فيه أبو فراس، ومحمد بن ناصر الدولة، لأنه كان أسيراً في أيديهم، والقاضي أبو الهيثم عبد الرحمن بن القاضي أبي الحصين علي بن عبد الملك، لأنهم كانوا أسروه أيضاً في حران، قبل ذلك بسنين، وخرج من المسلمين عدد عظيم.
قال: ولأبي فراس كل شيء حسن من الشعر، في معنى أسره.
فمن ذلك، أن كتب سيف الدولة تأخرت عنه، وبلغه إن بعض الأسراء قال: إن ثقل هذا المال على الأمير سيف الدولة، كاتبنا فيه صاحب خراسان، فاتهم أبا فراس بهذا القول، لأنه كان ضمن للروم وقوع الفداء، وأداء ذلك المال العظيم، فقال سيف الدولة: ومن أين يعرفه أهل خراسان؟ فكتب إليه قصيدة أولها:
أسيف الهدى وقريع العرب ... إلى م الجفاء وفيم الغضب
وما بال كتبك قد أصبحت ... تنكبني مع هذي النكب
وإنك للجبل المشمخر ... لي ولقومك بل للعرب
علي تستفاد وعاف يفاد ... وعز يشاد ونعمي ترب
وما غض مني هذا الأسار ... ولكن خلصت خلوص الذهب
ففيم يقرعني بالخمول ... مولى به نلت أعلى الرتب
أتنكر أني شكوت الزمان ... وأني عتبتك فيمن عتب
فالا رجعت فأعتبني ... وصيرت لي ولقولي الغلب
ولا تنسين إلي الخمول ... عليك أقمت فلم أغترب

وأصحبت منك فإن كان فضل ... وإن كان نقص فأنت السبب
وإن خراسان إن أنكرت ... علاي فقد عرفتها حلب
ومن أين ينكرني الأبعدون ... أمن نقص جد أمن نقص أب
ألست وإياك من أسرة ... وبيني وبينك فوق النسب
وداد تناسب فيه الكرام ... وتربية ومحل أشب
فلا تعدلن فداك ابن عمك ... لا بل غلامك عما يجب
أكنت الحبيب وكنت القريب ... ليالي أدعوك من عن كثب
فلما بعدت بدت جفوة ... ولاح من الأمر ما لا أحب
فلو لم أكن بك ذا خبرة ... لقلت صديقك من لم يغب
وما شككتني فيك الخطوب ... ولا غيرتني عليك النوب
وأشكر ما كنت في صحبتي ... وأحلم ما كنت عند الغضب.
قال الببغاء: وله في صفة أسره، وعلل لحقته هناك، ومراث لنفسه في الأسر، وتعطف لسيف الدولة، وصفة الأسر، وما لحقه فيه، شعر كثير، حسن أكثره، بمعان مخترعة، لم يسبق إليها.
ونحن نوردها ما نختاره من ذلك، بعد هذا إن شاء الله تعالى.
إذا اختال أمر القضاء بالدولةاختل حالها: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: كان أول ما انحل من نظام سياسة الملك، فيما شاهدناه من أيام بني العباس، القضاء، فإن ابن الفرات، وضع منه، وأدخل فيه قوماً بالذمامات، لا علم لهم، ولا أبوة فيهم، فما مضت إلا سنوات، حتى ابتدأت الوزارة تتضع، ويتقلدها كل من ليس لها بأهل، حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلثمائة، أن تقلد وزارة المتقي أبو العباس الأصبهاني الكاتب، وكان غاية في سقوط المروءة، والرقاعة.
ولقد استأذنت عليه يوماً، فجاء البواب، فقال: ابن عياش بالباب، فسمعته يقول له من وراء الستر: يدخل.
فقلت في نفسي: لا إله إلا الله، تبلغ الوزارة إلى هذا الحد في السقوط؟ وحتى كان يركب وليس بين يديه إلا ابن حدبنا صاحب الربع، وحتى رأيت في شارع الخلد قرداً معلماً، يجتمع الناس عليه.
فيقول له القراد: تشتهي أن تكون بزازاً؟ فيقول: نعم، ويومىء برأسه.
فيقول: تشتهي تكون عطاراً؟ فيقول: نعم برأسه.
فيعدد الصنائع عليه، فيومىء برأسه.
فيقول له في آخرها: تشتهي تكون وزيراً؟ فيومىء برأسه: لا، ويصيح، ويعدو من بين يدي القراد، فيضحك الناس.
قال: وتلى سقوط الوزراة، اتضاع الخلافة، وبلغ صيورها إلى ما نشاهد، فانحلت دولة بني العباس، بانحلال أمر القضاء.
وكان أول وضع الفرات من القضاء، تقليده إياه، أبا أمية الأحوص الغلابي البصري، فإنه كان بزازاً، فاستتر عنده ابن الفرات، وخرج من داره إلى الوزارة.
فقال له في حال الاستتار: إن وليت الوزارة، فأي شيء تحب أن أعمل بك؟ قال: تقلدني شيئاً من أعمال السلطان.
قال: ويحك، لا يجيء منك عامل، ولا أمير، ولا صاحب شرطة، ولا كاتب، ولا قائد، فأي شيء أقلدك؟ قال: لا أدري، ما شئت.
قال: أقلدك القضاء.
قال: قد رضيت.
فلما خرج، وولي الوزارة، وهب له، وأحسن إليه، وقلده قضاء البصرة، وواسط، وسبع كور الأهواز.
وكان يداعبه، ويتلهى به، ويسخر منه أوقات استتاره عنده، وقبلها، ويمد يده إليه، فلما ولاه القضاء، وقره عن ذلك.
ثم انحدر أبو أمية إلى أعماله، فأراد أن يغطي نقصه في نفسه، وقلة عمله، ويصل ذلك بشيء يتجمل به، فعف عن الأموال، فما أخذ شيئاً، وتصون وتوقر، واقتصر على الأرزاق، وصلات ابن الفرات الدارة، فستر ذلك جميع عيوبه.
وتناول الشعراء، فقال فيه القطراني البصري:
عبث الدهر بنا وال ... دهر بالأحرار يعبث
من عذيري من زمان ... كل يوم هو أنكث
ما ظننا أننا نبقى ... وأن نحيا ونلبث
فنرى الأحوص يقضي ... وأبا عيسى يحدث.
من محاسن الأحوص الغلابي القاضي بالبصرةحدثني أبو الحسين محمد بن عبد الله بن محمد القاضي، المعروف بابن نصرويه، قال: كنت أيام أبي أمية الغلابي، وتقلده القضاء بالبصرة، حدثاً، وكنت أجيئه مع خالي، وكان الحر عندنا بالبصرة إذ ذاك، شديداً مفرطاً، أكثر من شدته الآن.

وكان أبو أمية يخرج في كل عشية من داره في مربعة الأحنف، وعليه مئزر، وعلى ظهره رداء خفيف، وفي رجليه نعلان كنباتي ثخان، ، وبيده مروحة، وهو قاضي البصرة، والأبلة، وكور دجلة، وكور الأهواز، وواسط، وأعمال ذلك، فيمشي حوله من يتفق أن يكون في الوقت من غير تعمل، حتى ينتهي إلى موضع حلقة أبي يحيى زكريا الساجي، فيجلس إليه، وربما سبقه، وجاء أبو يحيى، وجلسا يتحدثان، ويجتمع إليهما أترابهما، وإخوانهما القدماء، فيستعملون من التخالع والانبساط في الحديث، والمزح، وما ليس بقليل.
ويجيء سعيد الصفار، وكان يخلف أبا أمية على البصرة، بقلنسوة عظيمة، وقميص، وخف، وطيلسان، فيسلم عليه بالقضاء، ويشاوره في الأمور، فيقول له: قم عني، لا يجتمع علي الناس، لا تقطعني عن لذتي بمحادثة إخواني القدماء، قم إلى مجلسك.
فيقوم سعيد، فيجلس بالبعد منه في الجامع، في موضع برسمه، ينظر بين الناس.
وما كان ذاك يغض من قدره عند الناس، وكانت سيرته أحسن سيرة، واستعمل من العفة عن الأموال، ما لم يعهد مثله.
وكان ديوان وقوف البصرة إذ ذاك ببغداد، فإذا أراد أحد أربابها شيئاً، خرجوا إلى بغداد حتى يوردوا الأمر فيه من الحضرة، فلحق الناس مشقة، فنقل أبو أمية ديوانها إلى البصرة، فكثر الدعاء له، وصارت سنة، وبقي الديوان بالبصرة.
وكان - مع هذا - يتيه على ابن كنداج، وهو أمير البصرة، ولا يركب إليه مرة، إلا إذا جاء ابن كنداج مرة، ويعترض على ابن كنداج.
في الأمور، ويسمع الظلامات فيه، وينفذ إليه في إنصاف المتظلم، فيضج ابن كنداج من يده، ويكتب إلى ابن الفرات في أمره، فترد عليه الأجوبة بالصواعق، ويأمره بالسمع والطاعة، فيضطر إلى مداراته، والركوب إليه، وتلافيه.
فقبض على ابن الفرات، وأبو أمية لا يعلم، وورد كتاب على الطائر - بذلك - إلى ابن كنداج، فركب بنفسه في عسكره إلى أبي أمية، فقدر أنه قد جاء مسلماً، فخرج إليه، فقبض عليه، ومشاه بين يديه، طول الطريق، إلى داره ببني نمير، حتى أدخله السجن، من تحت الخشبة فأقام فيه مدة، ثم مات.
ولم يسمع بقاض أدخل السجن من تحت الخشبة غيره، ولا بقاض مات في السجن سواه.
ثم ولي ابن الفرات الوزارة أيضاً، فحين جلس، سأل عن أصحابه، وصنائعه، وسأل عن أبي أمية، فعرف ما جرى عليه، ووفاته، فاغتم لذلك.
وقال: فاتني بنفسه، فهل له ولد أقضي فيه حقه؟ فقالوا: ابن رجل.
فكتب بحملة إليه مكرماً، فحمل.
فلما دخل عليه، وجد سلامه سلام متخلف، فقال له: ما اسمك؟ قال أبو غشان، وكانت لثغته كذا، ولم يفرق لتخلفه بين الاسم والكنية.
فقال ابن الفرات: عزيز علي أن لا أقضي حق أبي أمية، في نفسه، ولا في ولده، وكيف أقلد هذا القضاء؟ فوصله بمال جزيل، وأمر بإجراء أرزاق عظيمة عليه، وصرفه إلى بلده، وكان يأخذها إلى أن زال أمر ابن الفرات.
أبو عمر القاضي يقلد ابناً لأحمد بن حنبل
القضاء ثم يصرفه: حدثني أبو نصر أحمد بن عمرو البخاري القاضي، قال: حدثني جماعة من ثقات أهل بغداد.
إن أبا عمر القاضي قلد ابناً لأحمد بن حنبل القضاء.
فتظلم إليه منه، وذكر عنده بشناعات لا يليق مثلها بالقضاة، فأراد صرفه.
فعوتب على ذلك، وقيل: إن مثل هذا الرجل لا يجوز أن يكون ما رمي به صحيحاً، فإن كان صح عندك، وإلا فلا تصرفه.
فقال: ما صح عندي، ولا بد من صرفه.
فقيل: ولم؟ قال: أليس قد احتمل عرضه، أن يقال فيه مثل هذا، وتشبهت صورته بصورة من إذا رمي بهذا جاز أن يتشكك فيه؟ والقضاء أرق من هذا فصرفه.
أبو خازم القاضي يغضبإذا سمع مدحاً للقاضي بأنه عفيف حدثني أبو الحسين بن عياش القاضي، عمن حدثه: إنه كان يساير أبا خازم القاضي في طريق، فقام إليه رجل، فقال: أحسن الله جزاءك أيها القاضي، في تقليدك فلاناً القضاء ببلدنا، فإنه عفيف.
فصاح عليه أو خازم، وقال: اسكت عافاك الله، وتقول في قاض إنه عفيف، هذه من صفات أصحاب الشرط، والقضاة فوقها.
قال: ثم سرنا، وهو واجم ساعة.
فقلت: ما لك أيها القاضي؟ قال: ما ظننت أني أعيش حتى اسمع هذا، ولكن فسد الزمان، وبطلت هذه الصناعة، ولعمري إنه قد دخل فيها من يحتاج القاضي معه إلى التقريظ، وما كان الناس يحتاجون أن يقولوا: فلان القاضي عفيف، حتى تقلد فلان، وذكر رجلاً لا أحب أن أسميه.
فقلت: من الرجل؟ فامتنع.

فألححت عليه، فأومأ إلى أبي عمر.
إسراع الناس إلى العجب مما لم يألفوهوحدثني أبو الحسين، قال: لما قلد المقتدر أبا الحسين بن أبي عمر القاضي، المدينة رئاسة، في حياة أبيه أبي عمر، خلع عليه، واجتمع الخلق من الأشراف، والقضاة، والشهود، والجند، والتجار، وغيرهم على باب الخليفة، حتى خرج أبو الحسين وعليه الخلع، فساروا معه.
قال: وكنت فيهم مع عمي، للصهر الذي كان بينه وبينهم، ولأنه كان أحد شهودهم.
فسار عمي، وأنا معه، في أخريات الموكب، خوفاً من الزحام، ومعنا شيخ من الشهود كبير السن، أسماه أبو الحسين وأنسيته أنا.
فكنا لا نجتاز بموضع، إلا سمعنا ثلب الناس لأبي الحسين، وتعجبهم من تقلده رئاسة.
فقال عمي الشيخ: يا أبا فلان ما ترى ازورار الناس من تقلد هذا الفتى، مع فضله، ونفاسته، وعلمه، وجلالة سلفه؟ فقال له الشيخ: يا أبا محمد، لا تعجب من هذا، فلعهدي، وقد ركبت مع أبي عمر يوم خلع عليه بالحضرة، وقد اجتزنا بالناس، وهم يعجبون من تقلده، أضعاف هذا العجب، حتى خفت أن يثبوا بنا، وهذا أبو عمر الآن قدوة في الفضل، ومثال في العقل والنبل، ولكن الناس يسرعون إلى العجب مما لم يألفوه.
من قدم أمر الله على أمر المخلوقينكفاه الله شرهم: حدثني أبو الحسن علي بن القاضي أبي طالب محمد بن القاضي أبي جعفر ابن البهلول، قال: طلبت السيدة أم المقتدر، من جدي، كتاب وقف لضيعة كانت ابتاعتها، وكان الكتاب في ديوان القضاء، فأرادت أخذه لتخرقه، وتبطل الوقف، ولم يعلم جدي بذلك.
فحمله إلى الدار، وقال للقهرمانة: قد أحضرت الكتاب كما رسمت فأيش تريد؟ فقالوا: نريد أن يكون عندنا.
فأحس بالأمر، فقال لأم موسي القهرمانة: تقولين للسيدة أعزها الله، هذا والله ما لا طريق إليه أبداً، أنا خازن المسلمين على ديوان الحكم فإما مكنتموني من خزنة كما يجب، وإلا فاصرفوني وتسلموا الديوان دفعة، فاعملوا به ما شئتم، وخذوا منه ما أردتم، ودعوا ما أردتم، أما أن يفعل شيء منه على يدي، فو الله لا كان هذا ولو عرضت على السيف.
ونهض والكتاب معه، وجاء إلى طياره، وهو لا يشك في الصرف، فصعد إلى ابن الفرات، فحدثه بالحديث، وهو وزير.
فقال: ألا دافعت عن الجواب، وعرفتني حتى كنت أتلافى ذلك، الآن أنت مصروف، ولا حيلة لي مع السيدة في أمرك.
قال: أودت القهرمانة الرسالة إلى السيدة، فشكته إلى المقتدر.
فلما كان في يوم الموكب، خاطبه المقتدر شفاهاً في ذلك، فكشف له الصورة، وقال مثل ذلك القول في الإستغفاء.
فقال له المقتدر: مثلك يا أحمد يقلد القضاء، أقم على ما أنت عليه، بارك الله فيك، ولا تخف أن يثلم ذلك عرضك عندنا.
قال: فلما عاودته السيدة، بلغنا أنه قال لها: الأحكام ما لا طريق إلى اللعب به، وابن البهلول مأمون علينا، محب لدولتنا، وهو شيخ دين، مستجاب الدعوة، ولو كان هذا شيء يجوز، ما منعك إياه.
فسألت السيدة كاتبها ابن عبد الحميد عن ذلك، وشرحت له الأمر.
فلما سمع ما قاله جدي، بكى بكاء شديداً - وكان شيخاً صالحاً من شيوخ الكتاب - وقال: الآن علمت أن دولة السيدة وأمير المؤمنين تبقى، وتثبت أركانها، إذ كان فيها مثل هذا الشيخ الصالح الذي يقيم الحق على السيدة، ولا يخاف في الله لومة لائم.
فأي شيء يساوي شراؤكم لوقف؟ وإن أخذتم كتابه خرقتموه، فأمره شائع ذائع، والله فوق كل شيء، وبه عالم.
فقالت السيدة: وكأن هذا لا يجوز؟ فقال لها: لا، هذه حيلة من أرباب الوقف على مال الله، واعلمها أن الشراء لا يصح بتخريق كتاب الوقف، وهذا لا يحل.
فارتجعت المال، وفسخت الشراء، وعادت تشكر جدي، وانقلب ذلك أثراً جميلاً عندهم.
فقال لنا جدي بعد ذلك: من قدم أمر الله تعالى على أمر المخلوقين كفاه الله شرهم.
القاضي أبو محمد البصري والد القاضي أبي عمريؤدب مملوكاً من وجوه مماليك الخليفة المعتضد: حدثني أبي رضي الله عنه، قال: سمعت القاضي أبا عمر يقول: قدم خادم من وجوه خدم المعتضد بالله، إلى أبي في حكم، فجاء فارتفع في المجلس.
فأمره الحاجب بموازاة خصمه، فلم يفعل إدلالاً بعظم محله في الدولة.
فصاح أبي عليه، وقال: هاه، تؤمر بموازاة خصمك، فتمتنع؟ يا غلام، عمرو بن أبي عمرو النخاس الساعة، لأتقدم إليه ببيع هذا العبد، وحمل ثمنه إلى أمير المؤمنين.

ثم قال لحاجبه: خذ بيده، وسار بينه وبين خصمه.
فأخذ كرهاً وأجلس مع خصمه.
فلما انقضى الحكم، انصرف الخادم، فحدث المعتضد بالحديث، وبكى بين يديه.
فصاح عليه المعتضد، وقال: لو باعك لأجزت بيعه، ولما رددتك إلى ملكي أبداً، وليس خصوصك بي، يزيل مرتبة الحكم، فإنه عمود السلطان، وقوام الأديان.
قاضي همذانيمتنع عن قبول شهادة رجل مستور: سمعت قاضي القضاة، أبا السائب عتبة بن عبيد الله، يقول: كان في بلدنا، يعني همذان، رجل مستور، فأحب القاضي قبوله فسأل عنه، فزكي له سراً وجهراً.
فراسله في حضور المجلس، ليقبله، وأمر فأخذ في كتب ليحضر فيقيم الشهادة فيهم.
وجلس القاضي، وحضر الرجل مع الشهود، ونودي به، فجاء مع شاهد آخر، فلما جلسا ليشهدا، أمرهما القاضي بالقيام، فقاما، ونظر بين الخصوم، وتقوض المجلس، ولم يقبله.
فورد على الرجل أمر عظيم، ودس إلى القاضي من يسأله عن سبب ذلك.
فقال القاضي: إني أردت قبوله لستره ودينه، ثم انكشف لي أنه مراء، فلم يسعني قبوله.
فقيل له: كيف انكشف هذا القاضي، بعد أن دعاه للقبول؟ قال: كان يدخل إلي في كل يوم، فأعد خطاه، من حيث تقع عيني عليه من داري إلى مجلسي، فلما دعوته اليوم للشهادة، جاء، فعددت خطاه من ذلك المكان، فإذا هي قد زادت خطوتين أو ثلاث، فعلمت أنه متصنع لهذا الأمر، مراء، فلم أقبله.
الصفح الجميل عفو بلا تقريعحدثني أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان، المعروف بابن أبي عمرو الشرابي حاجب أمير المؤمنين المطيع لله قال: دخلت في حداثتي يوماً على أبي السائب القاضي، فقصر في القيام، وأظهر ضعفاً عنه للسن، والعلل المتصلة به، وتطاول لي، فجذبت يديه بيدي، حتى أقمته القيام التام.
وقلت له: أعين قاضي القضاة - أيده الله - على إكمال البر، وتوفيه الإخوان الحق.
قال: وقد كنت عاتباً عليه في أشياء عاملني بها، وإنما جئته للخصومة، فبدأت لأصل الكلام.
فحين رأى الشر في وجهي، قال: تتفضل باستماع كلمتين ثم تقول ما شئت.
فقلت له: قل.
فقال: روينا عن ابن عباس في قوله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم " فاصفح الصفح الجميل " صدق الله العظيم " قال: عفو بلا تقريع، فإن رأيت أن تفعل ذلك، فعلت.
فاستحيت من الإستقصاء عليه.
بين الأصبهاني الكاتبوالخوميني عامل سوق الأهواز: حضرت أبا عبد الله الخوميني عامل سوق الأهواز، وقد جعل إليه أبو بكر أحمد بن عبد الله، المعروف بأبي بكر بن عبد الله أبي سعيد الأصبهاني الكاتب.
فأخذ يريه أنه يريد القيام، ويتثاقل فيه، حتى يسبقه أبو بكر ابن أبي سعيد بالجلوس، إلى قيامه له.
ففطن أبو بكر، فوقف من بعيد، وقال: هي، قم قائماً حتى أجيء، وإلا انصرفت من موضعي.
فضحك الخوميني، وقال: والله يا سيدي، ما أردت هذا.
وقام له القيام التام.
شيخ من الكتابينصح أبا الحسين بن عياش: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: تقلد سليمان بن الحسن الوزارة الأولى عقيب به وأنسي، فكنت أجيئه على ذلك الأنس، ما تغير علي، ولا أنكرت منه شيئاً.
وكنت شاباً، ولم تكن لي مداخلة بالملوك، وكنت أجيئه والناس محجوبون فأدخل على الرسم، وهو خال.
فاتفق أني بت ليلة موكب عند أبيه، أبي محمد، فبكرت من غد لأراه، ثم أنصرف.
فجئت، والقاضي أبو عمر، وابنه أبو الحسين، والقاضي ابن أبي الشوارب، وابنه، والقاضي ابن البهلول، والناس من الأشراف، والكتاب، ووجوه القواد، وأهل الحضرة، محجوبون، وهم جلوس في الرواق، والحاجب واقف على باب السلم، وكان ينفذ إلى حجرة خلوة له، هو فيها.
فلما رآني الحاجب، أمر فرفع لي الستر، فدخلت إليه، وهو يتبخر وعليه سواده، يريد الركوب إلى المقتدر، وليس بين يديه أحد.
فطاولني في الحديث، إلى أن فرغ، وشد سيفه ومنطقته، وخرج، وأنا خلفه.
فتلقاه الناس بالسلام، وتقبيل اليد، فخرجوا خلفه، فاختلطت بهم.
فإذا بإنسان يجذب طيلساني، فالتفت، فإذا هو فلان، شيخ من شيوخ الكتاب، أسماه أبو الحسين وأنسيته أنا، وذكر أنه كان صديقاً لأبي، ولأبيه من قبله.
فقال لي: يا أبا الحسين، فداك عمك، في بيتك خمسون ألف دينار؟ فقلت: لا والله.
قال: فتقوى الله على خمسين ألف مقرعة وصفعة؟ قلت: لا والله.

قال: فلم تدخل إلى الوزير، وفلان، وفلان - وعدد من حضر - محجوبون، يتمنون الوصول، ولا يقدرون، ثم لا ترضى، حتى تطيل عنده، وتخرج في يوم موكب، وراءه، وليس معه غيرك، ولا خمسون ألف دينار معدة عندك، تؤديها إذا نكب هذا، فأخذت بتبعة الإختصاص به، وأنت لا تقوى على ما يولد هذا.
فقلت: يا عم لم أعلم، وأنا رجل فقيه، ومن أولاد التجار، ولا عادة لي بخدمة هؤلاء.
فقال: يا بني لا تعاود، فإن هذا يولد لك اسماً، ويجر عليك تبعة.
قال: فتجنبت بعد ذلك الدخول إلى سليمان في أوقات مجالسه العامة، وأيام المواكب خاصة.
أبو يوسف القاضي واللوزينج بالفستق المقشورحدثني أبي، قال: بلغني من غير واحد: إن أبا يوسف صحب أبا حنيفة، لتعلم العلم، على فقر شديد، فكان ينقطع بملازمته عن طلب المعاش، فيعود إلى منزل مختل، وأمر قل.
فطال ذلك، وكانت امرأته تحتال له ما يقتاته يوماً بيوم.
فلما طال ذلك عليهما، خرج إلى المجلس، وأقام فيه يومه، وعاد ليلاً فطلب ما يأكل، فجاءته بغضارة مغطاة، فكشفها، فإذا فيها دفاتر.
فقال: ما هذا؟ قالت: هذا ما أنت مشغول به نهارك أجمع، فكل منه ليلاً، قال: فبكى، وبات جائعاً، وتأخر من غد عن المجلس، حتى احتال ما أكلوه.
فلما جاء إلى أبي حنيفة، سأله عن سبب تأخره، فصدقه.
فقال: ألا عرفتني، فكنت أمدك؟ ولا يجب أن تغنم، فإنه إن طال عمرك فستأكل بالفقه، واللوزينج بالفستق المقشور.
قال أبو يوسف: فلما خدمت الرشيد، واختصصت به، قدمت بحضرته يوماً جامة لوزينج بفستق، فحين أكلت منها، بكيت، وذكرت أبا حنيفة.
فسألني الرشيد عن السبب في ذلك، فأخبرته.
سبب اتصال أبي يوسف القاضي بالرشيدوحدثني أبي، قال: كان سبب اتصاله بالرشيد إنه قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة، فحنث بعض القواد في يمين، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها، فجيء بأبي يوسف، فأفتاه أنه لم يحنث، فوهب له دنانير، وأخذ له داراً بالقرب منه، واتصل به.
فدخل القائد يوماً إلى الرشيد، فوجده مغموماً، فسأله عن سبب غمه، فقال: شيء من أمر الدين قد حزبني، فاطلب لي فقيهاً أستفتيه، فجاءه بأبي يوسف.
قال أبو يوسف: فلما دخلت إلى ممر بين الدور، رأيت فتى حسناً، أثر الملك عليه، وهو في حجرة في الممر محبوس، فأومأ إلي بإصبعه مستغيثاً، فلم أفهم عنه أرادته، وأدخلت إلى الرشيد، فلما مثلت بين يديه، سلمت، ووقفت.
فقال لي: ما اسمك؟ قلت: يعقوب.
أصلح الله أمير المؤمنين.
قال: ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني، هل يحده؟ قلت: لا يجب ذلك.
قال: فحين قتلها سجد الرشيد، فوقع لي إنه قد رأى بعض أولاده الذكور على ذلك، وإن الذي أشار إلي بالاستغاثة، هو الابن الزاني.
قال: ثم رفع رأسه، فقال: ومن أين قلت هذا؟ قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ادرؤوا الحدود بالشبهات، وهذه شبهة يسقط الحد معها.
فقال: وأي شبهة مع المعاينة؟ قلت ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم.
قال: ولم؟ قلت: لأن الحد حق الله تعالى، والإمام مأمور بإقامة الحد، فكأنه قد صار حقاً له، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه، ولا تناوله بيده، وقد أجمع المسلمين على وقوع الحد بالإقرار والبينة، ولم يجمعوا على إيقاعه بالعلم.
قال: فسجد مرة أخرى، وأمر لي بمال جليل، ورزق في الفقهاء في كل شهر، وأن ألزم الدار.
قال: فما خرجت، حتى جاءتني هدية الفتى، وهدية أمه، وأسبابه، فحصل لي من ذلك، ما صار أصلاً للنعمة، وانضاف رزق الخليفة، إلى ما كان يجريه علي ذلك القائد.
ولزمت الدار، فكان هذا الخادم يستفتيني، وهذا يشاورني، فأفتى وأشير، فصارت لي مكنة فيهم، وحرمة بهم، وصلاتهم تصل إلي، وحالتي تقوى.
ثم استدعاني الخليفة، وطاولني، واستفتاني في خواص أمره وأنس بي.
فلم تزل حالي تقوى معه، حتى قلدني قضاء القضاة.
أنس الرشيد بأبي يوسف القاضيقال لي أبي: بلغني أن أبا يوسف، لما مات، خلف في جملة، كسوته، مائتي سراويل خز، دون غيرها من أصناف السراويلات.
وأن جميع سراويلاته كانت مختصة كل سراويل بتكة أرمني نساوي ديناراً، وبلغ من محله عنده، أن طلبه الرشيد يوماً، فجاء وعليه بردة، أنساً به، فحين رآه الرشيد، قال لمن بحضرته:

جاءت به متعجراً ببردة ... سفواء ترمي بنسيج وحده.
كيف نصب أبو جعفر بن البهلول قاضياً
حدثني القاضي أبو الحسن علي بن أبي طالب بن القاضي أبي جعفر بن البهلول قال: حدثني أبي، عن أبيه، وحدثي أيضاً، أبو الحسن أحمد ابن يوسف الأزرق عن أبي جعفر بن البهلول القاضي، قال: لما استقرت الأمور للناصر لدين الله، بعد فراغه من أمر الزنج، نظر في البلدان ومصالحها، وأمر بارتياد قضاة من أهل البلدان لها.
فسأل عن الأنبار، ومن فيها يصلح لتقلد القضاء، فأسميت له.
وكان عارفاً بأبي، إسحاق بن البهلول، حين استقدمه المتوكل إلى سر من رأى حتى حدثه، ولم أكن تقلدت شيئاً من ذلك.
قال: فأمر بإحضاري وتقليدي.
فتقدم إسماعيل بن بلبل، إلى إسماعيل بن إسحاق القاضي في ذلك، وكاتبني بالحضور، فحضرت، فعرفني الصورة، وحملني إلى إسماعيل.
فقلت لهما: أنا في كفاية وغناء، ولا حاجة بي إلى تقلد القضاء.
فأمسكا عني، فعدت إلى منزلي ببغداد لأصلح أمري وأرجع.
فجاءني جعفر بن إبراهيم الحصيني الأنباري، وكان من عقلاء العجم بالأنبار، ولي صديقاً، فقال لي: لأي شيء استدعيت؟ فحدثته.
فقال: اتق الله في نفسك، إن الذي جرى بينك وبينهما خاف عن الناس، وإنك تعود إلى بلدك، فيقول أعداؤك: طلب القضاء، فلما شوهد، وجد لا يصلح، فرد.
فقلت: ما أصنع، وقد قلت ما قلت؟ قال: ترجع إلى إسماعيل فتصدقه عما جرى بيننا.
قال: فباكرت إسماعيل، فحين رآني، قال: هذا وجه غير وجه الأمسي.
قلت: هو كذلك.
قال: هي.
قلت: كان كذا وكذا، فأخبرته بما جرى بيني وبين جعفر بن إبراهيم.
فقال: نصحك والله هذا الصديق، والأمر على ما قاله، قم بنا إلى الوزير.
قال: فحملني إليه، فلما رآنا إسماعيل تبسم، وقال: كيف عاد أبو جعفر؟ قال: فقص عليه إسماعيل القاضي الخبر.
فقال: جزي الله هذا الصديق عنك خبراً، فقد أشار عليك بالرأي الصحيح، اكتبوا عهده.
قال: فكتب عهدي عن الناصر، على الأنبار، وهيت وعانات، والرحبة، وقرقيسيا، وأعمال ذلك، وعدت إلى بلدي.
قلت أنا: ولم يزل محل أبي جعفر ينمى ويزيد، حتى قلد مدينة أبي جعفر المنصور عند صرف أبي عمر في قصة ابن المعتز، فظهر من فضله ما اشتهر.
ارتفاع محل القاضي ابن البهلولفي دولة المقتدر: وكان عند المقتدر ووزرائه، بصورة الناسك الزاهد، من ذلك ما حدثني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، قال: حدثني أبو علي أحمد بن جعفر بن إبراهيم الحصيني الأنباري الكاتب، قال: مات واثق مولى المعتضد، فأوصى أن يصلي عليه أبو الحسن علي بن عيسى، فحضر الحق وجوه الدولة، من القواد، والكتاب، والأشراف، والقضاة، وغيرهم.
فكان فيمن حضر، القاضيان أبو جعفر، وأبو عمر، وكنت حاضراً.
قال: فوضعت الجنازة، وقيل لأبي الحسين علي بن عيسى تقدم، فجاء ليتقدم، فوقعت عينه على أبي جعفر، فجذبه، وقدمه، وتأخر هو.
قال: فلما انقضت الصلاة، طلبت أبا عمر، لأنظر كيف هو، فوجدته قد اسود وجهه غماً، بتقديمهم أبا جعفر عليه.
فجئت إلى أبي جعفر، وهنأته بذلك، وأخبرته بخبر أبي عمر، فاستسر بذلك، وسر بعلمي أنا بالأمر، ومشاهدتي له، لأجل البلدية.
قال لي أبو الحسن: هذا، مع نفرة كانت بينهما، ولكن أبا الحسن لفضله، لم يكن يدفع أهل الفضل عنه، وإن لم يكن ما بينه وبينهم مستقيماً.
الحسين بن القاسم بن عبيد اللهيتصرف تصرفاً يكون أوكد الأسباب في عزله عن الوزارة: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول، قال: كان قد ارتكب الحسين بن القاسم بن عبيد الله دين عظيم، عشرات ألوف دنانير، فدعاه غرماؤه إلى القاضي، فخافهم، واستتر.
وجاء إلى جدي فشاوره في أمره، وقال: إن بعت ملكي، كان بإزاء ديني، وحصلت فقيراً، وقد رضيت أن أجوع، وأعطي غلتي بأسرها الغرماء، وليس يقنعون بذلك، فكيف أعمل؟ يحتال لي القاضي في ذلك! وكان منزل الحسين في الجانب الشرقي، والحكم فيه إلى أبي عمر.
فقال له جدي: إن من مذهب مالك، الحجر على الرجال إذا بان سفههم في الأموال، وإن عني بك أبو عمر، جعل استدانتك من غير حاجة كانت بها إليها، وإنما بذرت المال، وتخرقت في النفقة، دليلاً على سفهك في مالك.

ولو صار أن يسمع في ذلك شهادة من يعرفه عن حالك، فيثبت حينئذ السفه عنده، فيحجر عليك، ويمنعك من التصرف في مالك، ويدخل فيه أيدي أمنائه، ويحول بينك وبينه.
فإذا أثبت عنده الغرماء عليك الدين، أمرهم، يعني أمناءه، بأن يصرفوا الغلات إليهم، قضاء للدين، وبقيت عليك الأصول.
قال: فطرح الحسين نفسه على أبي عمر، ففعل به ذلك، فظهر وصلحت حاله، وجرى أمره مع الغرماء.
على ذلك.
قال: ولما ولي الحسين الوزارة، وفسد عليه مؤنس، فسعى في صرفه، وقال للمقتدر: يا أمير المؤمنين، هذا لم يكن موضعاً لحفظ ماله، حتى حجر عليه القضاة لسفهه وتبذيره فيه، كيف يحمد حتى يرد إليه مال الدنيا وتدبيرها، وسياسة العالم، وهو عجز عن تدبير داره ونفقته؟ وكان ذلك أوكد الأسباب في صرفه.
عدد الشهود الذي قبلهم القاضي التيمي بالبصرةحدثني أبو الحسين محمد بن عبد الله المعروف بابن نصرويه، قال: قبل التيمي، القاضي كان قديماً عندنا بالبصرة، ستة وثلاثين ألف شاهد، قي مدة ولايته.
فقلت له: هذا عظيم، فكيف كان ذلك؟ فقال لي: كان القضاة على مذهب أبي حنيفة، وغيره من الفقهاء، في أن الناس كلهم عدول، على الشرائط التي تعرفها، وكان يشهد الناس عند التيمي بأسرهم، فإذا سمع شهاداتهم، سأل عنهم، فيزكون، فيقبلهم، وكان الناس يشهد بعضهم لبعض، من الجيران، وأهل السوق، ولانعرف ترتيب قوم مخصوصين للشهادة، إلى أن ولي إسماعيل.
قال: وكان مبلغ من قبله التيمي، ستة وثلاثون ألف شاهد، منهم عشرون ألفاً لم يشهدوا عنده إلا شهادة واحدة.
أسد بن جهور وما فيه من سوداء ونسيانأخبرني أبو القاسم الجهني، قال: كانت في أسد بن جهور سوداء ونسيان.
فحضرته يوماً، وهو في دار بعض الوزارء، وقد جلس يتحدث، ومعنا بعض القضاة، وكان اليوم حاراً، فوضعنا عمائمنا، ووضع القاضي قلنسوته.
فطلب الوزير أسداً، فقام مستعجلاً، فأخذ قلنسوة القاضي، فلبسها ودخل على الوزير.
فصاح القاضي به، وجماعتنا، فما سمع، حتى دخل كذلك على الوزير، فضحك منه.
وخجل أسد وعاد إلينا راجعاً عنه.
المتوكل يختار فتى لمنادمتهحدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبو جعفر بن حمدون، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمدون، قال: كنت مع أبي، وأنا صبي، بسر من رأى، وهو ينادم المتوكل على الله، فخرج إلى الصيد، وهو معه، وأنا مع أبي.
فانفرد أبي في يوم من الأيام، وأنا معه، فأعطاني دابته، فأمسكتها وحولت وجهي عنه، وجلس يبول، إذ جاء المتوكل يحرك وحده، ويقصده، وقد انفرد عن الجيش، ليولع به.
فلما قرب منه، قال له: من هذا الصبي الذي يمسك دابتك؟ قال: عبد أمير المؤمنين، ابني.
قال: فلم قد حول وجهه عنك؟ قال: فعن لأبي أن يتنادر، ولم يراع كون النادرة علي وعلى أمي، فقال: حول وجهه عني استحياء من كبر أيري.
قال: فقلت أنا للخليفة: والله يا أمير المؤمنين، لو رأيت أير جدي، لعلمت أن أيره عنده زر.
فضحك المتوكل، وقال: يا أحمد، ابنك والله أطيب منك، فأحضره معك للندام.
فحضرت منذ ذلك اليوم، وصرت من الندماء.
المعتضد يلاعب ابن حمدون بالنردوحدثني، وقال: حدثني أبو جعفر، قال: حدثني أبو محمد، قال: كنت قد حلفت، وعاهدت الله تعالى، ان لا أعتقد مالاً من القمار، وأنه لا يقع في يدي شيء منه، إلا صرفته في ثمن شمع يحرق، أو نبيذ يشرب، أو جذر مغنية تسمع.
قال: فجلست يوماً ألاعب المعتضد بالنرد، فقمرته سبعين ألف درهم.
فنهض المعتضد يصلي العصر، من قبل أن يأمر لي بها، وكان له ركوع طويل قبلها، فتشاغل به.
وصليت أنا العصر فقط، فجلست أفكر، وأندم على ما حلفت عليه، وقلت: كم عساي أشتري من هذه السبعين ألفاً، شمعاً، وشراباً، وكم أجذر؟ وما كنت هذه العجلة في اليمن، ولو لم أكن حلفت، كنت الآن قد اشتريت بها ضيعة.
قال: وكانت اليمن بالطلاق، والعتاق، وصدقة الملك، والضيعة.
وأغرقت في الفكر، والمعتضد يراني، وأنا لا أعلم.
فلما سلم من الركوع، سبح، وقال لي: يا أبا عبد الله في أي شيء فكرت؟ فقلت: خيراً يا مولاي.
فقال: بحياتي أصدقني، فصدقته.
فقال: وعندك أني أريد أعطيك سبعين ألفاً من القمار؟ فقلت له: أفتضغو؟ قال: نعم، ضغوت، قم ولا تفكر في هذا.
قال: ودخل في صلاة العصر الفرض.

قال: فلحقني غم أعظم من الأول، وفكر أشد منه، وندم على فوت المال، وقلت لم صدقته، وأخذت ألوم نفسي.
قال: فلما فرغ من صلاته، وجلس، قال لي: يا أبا عبد الله، بحياتي أصدقني عن هذا الفكر الثاني.
فلم أجد بداً، فصدقته.
فقال: أما القمار فقد فاتك، لأني قد صغوت بك، ولكني أهب لك سبعين ألف درهم غير تلك، من مالي، فلا يكون علي إثم في دفعها، ولا عليك إثم في أخذها، وتخرج من يمينك، فتأخذها وتشتري بها ضيعة حلالاً.
فقبلت يده، فأحضر المال، وأعطانيه، فأخذته، واعتقدت به ضيعة.
المعتضد يسدد دين نديمه مرتينوحدثني أبو محمد قال: حدثني أبو جعفر، قال: حدثني أبو محمد ابن حمدون، قال: كان علي دين ثقيل، مبلغه خمسة آلاف دينار، ولم يكن لي وجه قضائه، ولك تكن القضاة تعدي علي، لملازمتي المعتضد.
فجلس المعتضد للمظالم بنفسه مجالس عدة، فتظلم إليه مني غرمائي.
فأحضرني، وسألني عن الدين، فأقررت به عنده للقوم.
ففكر المعتضد في حبسي به لهم، فيبطل أنسه بي، ويتحدث عنه إنه بخل بقضاء دين نديم له، ورأى أن يلتزم المال.
ثم قال للغرماء: المال علي، ووقع لهم به في الحال.
فأخذوه، وانصرفوا.
فلما خلونا، قال: يا عاض كذا، أي شيء كانت هذه المبادرة إلى الإقرار، ما قدرت أن تجحد، ولا أغرم أنا المال، ولا تحبس أنت؟ فقلت: لم أستحل ذلك، وكيف أجحد قوماً في وجوههم، وقد أعطوني أموالهم؟ قال: ومضت على هذه مديدة، فأضقت، فاستدنت ألوفاً أخرى دنانير، أقل من تلك، وطولبت بها، فدافعت، لأن دخلي لم يكن يفي بنفقتي، وما أقيم من المروءة، أكثر من قدر حالي، فما كان لي وجه أقضى منه الدين.
وجلس المعتضد للمطالم، فرفع إليه القوم، فأحضرني، وسألني، فأقررت، فوزن المال عني.
ثم قال للقاضي الذي يلي حضرته: خذ هذا، فناد عليه في البلد بسفهه في ماله، وعدمه، وإنه لا يملك ما يباع عليه فيقضي به دينه، وإن من عامله بعد هذا فقد طوح بماله.
فاضطربت من ذلك.
فقال: لا والله، لا جعلت أنت غرماءك كل يوم، حيلة على مالي.
قال: فما نفعني معه شيء، حتى مضيت إلى دار القاضي وجلست معه في مجلسه، وهو يشيع في الناس ذلك، ويجربه في وجهي، ولم يناد علي.
بين ابن المدبر وعريبحدثني أبو محمد، قال: حدثني أبو احمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي الكاتب، قال: أخبرني من أثق به، أن إبراهيم بن المدبر قال: كنت أتعشق عريب، دهراً طويلاً، وأنفقت عليها مالاً جليلاً.
فلما قصدني الزمان، وتركت التصرف، ولزمت البيت، كانت هي أيضاً، قد أسنت، وتابت من الغناء، وزمنت.
فكنت جالساً يوماً، إذ جاءني بوابي، وقال: طيار عريب بالباب، وهي فيه تستأذن.
فعجبت من ذلك، وارتاح قلبي إليها، فقمت حتى نزلت إلى الشط، فإذا هي جالسة في طيارها.
فقلت: يا ستي، كيف كان هذا.
قالت: اشتقت إليك، وطال العهد، فأحببت أن أجدده، وأشرب عندك اليوم.
قلت: فاصعدي.
قالت: حتى تجيء محفتي.
قال: فإذا بطيار لطيف، قد جاء وفيه المحفة، فأجلست فيها، وأصعد بها الخدم.
وتحدثنا ساعة، ثم قدم الطعام، فأكلنا، وأحضر النبيذ، فشربت وسقيتها فشربت، وأمرت جواريها بالغناء، وكان ومعها منهن عدة، وحسنات، طياب، حذاق، فتغنين أحسن غناء وأطيبه، فطربت وسررت.
وقد كنت، قبل ذلك بأيام، عملت شعراً، وأنا مولع في أكثر الأوقات بترديده، وإنشاده، وهو:
إن كان ليلك نوماً لا انقضاء له ... فإن جفني لا يثنى لتغميض
كأن جنبي في الظلماء تقرضه ... على الحشية أطراف المقاريص
أستودع الله من لا أستطيع له ... شكوى المحبة إلا بالمعاريض.
فقلت لها: يا ستي، إني قد عملت أبياتاً، أشتهي أن تصنعي فيها لحناً.
فقالت: يا أبا إسحاق مع التوبة؟ قلت لها: فاحتالي في ذلك كيف شئت.
فقالت: رو هاتين الصبيتين الشعر، وأومأت إلى بدعة وتحفة جاريتيها.
فحفظتهما الشعر، وفكرت ساعة، ووقعت بالمروحة على الأرض، وزمزمت مع نفسها، ثم قالت لهما: أصلحا الوتر الفلاني على الطريقة الفلانية، وأضربا بالإصبع الفلانية، وافعلا كذا وكذا، إلى أن فتح لهما الضرب، ثم قالت غنياه على الطريقة الفلانية، وأجعلا في الموضع الفلاني كذا.

فغناه، كأنهما قد سمعناه قبل ذلك دفعات، وما خرج الغناء من بين شفتيها.
فطربت وقلت في نفسي: عريب تزورني وتلحن شعري، وهي على كل حال مغنية، وتنصرف من عندي صفراً؟ والله، لا كان هذا، ولو أني مت ضراً وجوعاً وفقراً.
فقمت إلى جواري، وشرحت الحال لهن، وقلت: عاونني بما يحضركن، فدفعت إلى هذه خلخالاً، وهذه سواراً، وهذه عقد حب، وهذه جان، إلى أن اجتمع لي من حيلهن ما قيمته ألف دينار.
قال: واستدعيت زنبيلاً مشبكاً ذهباً كان عندي، فيه مائة مثقال، فجعلت ذلك فيه، وخرجت به إليها، وقلت: يا سيدتي، هذه طرف، أحببت إتحاف هاتين الصبيتين بها، فأحب أن تأمريهما بأخذها.
فامتنعت امتناعاً ضعيفاً، وقالت: يا أبا إسحاق، بيننا اليوم هذا، أو فضل فضل له؟ فقلت: لا بد.
فقالت لهما: خذاه، فأخذتاه، وجلست إلى وقت المغرب.
ثم قامت لتنصرف، فشيعتها إلى دجلة.
فلما أرادت الجلوس في طيارها، قالت: يا أبا إسحاق لي حاجة.
قلت: مري بأمرك.
قالت: قد ابتاعت فلانة، أم ولدك، ضيعة يقال لها كذا، وهي تحاورني، وأنا شفيعتها، وأريد أن تأمرها بأخذ المال مني والنزول عنها لي.
فعلمت أنها إنما جاءت لهذا السبب.
فقلت: مكانك، فتوقفت في الطيار.
فدخلت إلى أم ولدي وضمنت لها المال، وأخذت العهدة بالضيعة، فجئت بها إليها.
وقلت: قد وهبتها لك، وضمنت المال لها، وفي غد أتقدم بالإشهاد لك في ظهر الكتاب.
فخذيه معك عاجلاً.
فشكرتني ومضت.
وكان شراء الضيعة ألف دينار.
فقام علي يومها، وتلحينها هذا الشعر بألفي دينار ومائة دينار.
الزجاج يدرس النحو على المبردحدثني أبو الحسن بن الأزرق قال: حدثني أبو محمد بن درستويه النحوي قال: حدثني الزجاج، قال: كنت أخرط الزجاج، فاشتهيت النحو، فلزمت المبرد لتعلمه، وكان لا يعلم مجاناً، ولا يعلم بأجرة إلا على قدرها.
فقال لي: أي شيء صناعتك؟ قلت: أخرط الزجاج، وكسبي في كل يوم درهم ودانقان، أو درهم ونصف، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أعطيك في كل يوم درهماً، وأشرط لك أني أعطيك إياه أبداً، إلى أن يفرق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه.
قال: فلزمته، وكنت أخدمه في أموره، ومع ذاك أعطيه الدرهم، فنصحني في التعليم، جتى استقللت.
فجاءه كتاب من بني مارية، من الصراة، يلتمسون معلماً نحوياً لأولادهم، فقلت له: أسمني لهم، فأسماني، فخرجت إليهم، فكنت أعلمهم، وانفذ إليه في كل شهر ثلاثين درهماً، وأتفقده بعد ذلك بما أقدر عليه.
ومضت على ذلك مدة، فطلب منه عبيد الله بن سليمان، مؤدباً لابنه القاسم.
فقال له: لا أعرف لك إلا رجلاً زجاجاً بالصراة مع بني مارية.
قال: فكتب إليهم عبيد الله فاستنزلهم عني، فنزلوا له.
فأحضرني وأسلم القاسم إلي، فكان ذلك، سبب غناي.
وكنت أعطي المبرد ذلك الدرهم في كل يوم، إلى أن مات، ولا أخليه من التفقد معه بحسب طاقتي.
بيتان من نظم أبي محمد الشاميكاتب الأمير سيف الدولة: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد، وأبو الفرج الببغاء، قالا: أنشدنا أبو محمد عبد الله بن محمد الشامي، كاتب سيف الدولة لنفسه.
وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما ... عفت منه آثار وسدت مشارع
فقلت إلى أن يرجع جارياً ... ويعشب جنباه تموت الضفادع.
ليحيى بن محمد في مواهب المغنيةوأنشدني أبو محمد لنفسه في قنية بغداد، مشهورة بالإحسان، تسمى مواهب، كانت جارية لأبي الحسن بن هارون الكاتب، باعها، فاشتراها أبو الفضل العباس بن الحسين الوزير الآن فلما تزوج ابنة الوزير أبي محمد المهلبي، زينة بني الحسن، دفعها إلى أبي محمد، فأعتقها، وزوجها غلاماً من غلمانه يسمى غالب، ويعرف بالشار زادي، وهي الآن تخدم الأمير عز الدولة بصناعتها:
تمام الحج أن تقف الركائب ... على دار تحل بها مواهب
ولولا أن يقال صبا لقلنا ... عجائب دون أيسرها عجائب.
لأبي الفرج الببغاءفي الأمير سيف الدولة: أنشدني أبو الفرج الببغاء لنفسه، قصيدة له في سيف الدولة: أولها:
سقت العهاد خليط ذلك المعهد ... رياً وحياً البرق برقة تهمد.
في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد

فكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلة في الجلمد
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الأثمد
ووصف فيها اللواء فقال:
ومملك رق القنا مستخرج ... باللطف أسرار الرياح الركد
خرس يناجيها فتفهم نطقه ... وتجيبه أنفاسها بتصعد
قلق كأن الجو ضاق به فما ... ينفك بين توثب وتهدد
وفيها يقول:
إن المحامد رتبة لا يبلغ ال ... إنسان راحتها إذا لم يجهد
من لم تبلغه السيادة نفسه ... دون الأبوة لم يكن بمسود
يقول في آخرها يصف القصيدة:
حلل من المدح ارتضى لك لبسها ... شكري فأغرب مفرد في مفرد
لما نشرب عليك فاخر وشيها ... قالت لك العلياء أبل وجدد.
لأبي الفرج الببغاء يعزي الأمير سيف الدولةبولده أبي مكارم: وأنشدني لنفسه يعزي سيف الدولة بابنه أبي مكارم من قصيدة أولها:
سرورنا بك فوق الهم بالنوب ... فما يغالبنا حزن على طرب
إذا تجاوزت الأقدار عنك فهل ... من واجب الشكر أن يرتاع من سبب
حتام تخدعنا الدنيا بزخرفها ... ولا تحصلنا منه على أرب
نسر منها بما تجني عواقبه ... هماً ونهرب والآجال في الطلب.
سيف الدولة يقيم الفداء مع الرومعلى شاطىء الفرات: قال: وكان سيف الدولة أقام الفداء بشاطىء الفرات في سنة خمس وخمسين وثلثمائة، فأنفق عليه خمسمائة ألف دينار، وأخرج كل من قدر على إخراجه من أسارى المسلمين من بلد الروم، واشترى كل أسير بثلاثة وثمانين ديناراً وثلث رومية، من ضعاف الناس، فأما الجلة ممن كان أسيراً، ففادى بهم رؤساء كانوا عنده أسرى من الروم.
وكانت الحال هائلة فيما أخبرني جماعة حضروا، يبقى فخرها وثوابها له.
فقال أبو الفرج قصيدة في ذلك، أنشدنيها، أولها:
ما المال إلا ما أفاد ثناء ... ما العز إلا ما حمى الأعداء
فقال فيها، في ذكر الفداء
وفديت من أسر العدو معاشراً ... لولاك ما عرفوا الزمان فداء
كانوا عبيد نداك ثم شريتهم ... فغدوا عبيدك نعمة وشراء
والأسر إحدى الميتتين وطالما ... خلدوا به فأعدتهم أحياء
وضمنت نفس أبي فراس للعلا ... إذ منه أصبحت النفوس براء
ما كان إلا البدر طال سراره ... ثم انجلى وقد استتم بهاء
يوم غدا فيه سماحك يعتق ... أسراء منك ويأسر الأمراء.
رأي أحد القضاة في الخليفة المقتدرجرى في مجلس أبي يوماً ذكر المقتدر بالله وأفعاله، فقال بعض الحضار: كان جاهلاً.
فقال أبي: فإنه لم يكن كذلك، وما كان إلا جيد العقل، صحيح الرأي، لكنه كان مؤثراً للشهوات.
ولقد سمعت أبا الحسن علي بن عيسى يقول، وقد جرى ذكره بحضرته في خلوة: ما هو إلا أن يترك هذا الرجل النبيذ خمسة أيام متتابعة، حتى يصح ذهنه، فأخاطب منه رجلاً ما خاطبت أفضل منه، ولا أبصر بالرأي، وأعرف بالأمور، وأسد في التدبير، ولو قلت إنه إذا ترك النبيذ هذه المدة، في أصالة الرأي، وصحة العقل كالمعتضد والمأمون، ومن أشبههما من الخلفاء، ما خشيت أن أقع بعيداً، وما يفسده غير متابعة الشرب، ولا يخبله سواها.
المؤتمن أبو القاسم سلامةيتحدث عن صحة تفكير الخليفة المقتدر: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: سمعت المؤتمن أبا القاسم سلامة، أخا نجح الطولوني، يقول: اجتمع علي بن عيسى وعلي بن محمد الحواري، ونصر القشوري، وأنا معهم، على رأي عقدناه في بعض الأمور الكبار، التي حدثت في أيام المقتدر.
فلما صح الرأي عندنا، وتقرر في أنفسنا دخلنا على المقتدر فعرضناه عليه، واستأذناه في إمضائه.
فقال لنا: هذا خطأ في الرأي، والصواب كيت وكيت.
ففكرنا فيما قال، فوجدنا الصواب معه، وقد خفي علينا، فرجعنا عن رأينا لرأيه، وعملنا عليه.
حديث القاضي أبي طالب ابن البهلول

مع الخليفة المقتدر: حدثني أبو الحسن، قال حدثني القاضي أبو طالب ابن البهلول، قال: حضرت في بعض أيام المواكب، باب دار الخلافة، فوقفت في طياري، والقضاة في طياراتهم، والقواد، والكتاب، نتوقع الإذن.
فاستدعيت وحدي من بين القضاة، فدخلت على المقتدر، فوجدت أبا علي بن مقلة، قائماً بين يديه، وهو الوزير إذ ذاك.
فقال لي المقتدر بهذا اللفظ والإعراب: قد كان أبوك عضداً، وأنت بحمد الله، خلف منه، وقد ترى كلب غلماني هؤلاء علي، ومطالبتهم إياي بالأموال، ولو قد فقدوني لتمنوا أيامي، وقد عزمت على بيع ضياعي النمروديات بالأهواز، فتكتب إلى خليفتك على القضاء بها، في الاجتماع مع أحمد بن محمد البريدي على بيع ذلك، والمعاونة فيه.
فقلت: إذا كان الأمر من أمير المؤمنين أطال بقاءه، بهذا الموضع من العناية، خرجت أنا فيه.
فقال: لسنا نكلفك ذلك، ولكن اكتب إلى خليفتك فيه.
قال: فخرجت، وامتثلت أمره، وكاتبت أبا القاسم علي بن محمد التنوخي، وكان يخلفني إذ ذاك، على كور الأهواز، وقصصت عليه ما جرى.
ومضت الأيام، وصرف ابن مقلة، بأبي القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد فأنفذ أبا الحسن بن الحرث صاحبه إلى الأهواز، صارفاً للبريدي، فزاد على من كان اشترى الضياع مالاً عظيماً.
وكتب إلي أبو القاسم التنوخي، إنه قد استثنى من المال بجملة عظيمة لنفسه، وخنسها.
وكانت في نفسي على ابن الحرث موجدة، فأسررت ذلك في نفسي.
وانحدرت في يوم موكب على رسمي، وكنا في طياراتنا، إذ خرج خلفاء الحجاب يطلبوني وحدي.
فصعدت، والقضاة كلهم محجوبون، فدخلت على المقتدر، وبحضرته سليمان، وعلي بن عيسى، وكان يسدده، ويصل معه، ويخاطب ويتخاطب على الأمور.
فقال لي المقتدر: قد أحمدنا ما كان من خليفتك على القضاء بالأهواز، فيما كنا تقدمنا به من أمر النيرمذيات، وقد كاتب ابن الحرث إنه قد زاد على المبتاعين زيادة قبلوها، وامتنعوا عن أدائها إلا بعد أن أقول بلساني إني قد أمضيت البيع، وإني لا أقبل بعدها زيادة، ولا أفعل هذا، فاكتب إلى خليفتك بأني قد قلت ذلك، وأن يسجل لهم بما ابتاعوه.
فأردت أذية ابن الحرث فقلت يحتاج في المكاتبة إلى ذكر مبلغ الزيادة.
فالتفت، فنظر إلى علي بن عيسى نظر منكر، فرأيته يرتعد، وقال له: مبلغ الزيادة كذا وكذا.
فقال لي: اكتب إلى خليفتك، بأنها كذا وكذا.
فدعوت له، وانصرف.
فلما وليت، ثقلت في مشيتي لأسمع ما يجري، فسمعته يقول لعلي بن عيسى: أي شيء أقبح من هذا؟ كأنه أنكر لم لم يعرف مبلغ الزيادة أولاً، فيذكرها لي من غير أن أحتاج إلى استدعاء علمها منه.
قال: وكرر الإنكار، قال: أي شيء أقبح من هذا؟ وأخرج عن الأدب فيه؟ تحققاً برسم الملوك في أن يتكلموا هم بجميع ما يحتاجه إليه، في جميع الأمور، من غير تقصير يحوج المخاطب إلى مطالبتهم بالزيادة في البيان.
وأومأ في آخر كلامه، إلى أني إن ذكرت ذلك عنه للناس، غض منه، ومن الملك.
فسمعت علي بن عيسى، يقول له: يا أمير المؤمنين، هذا خادمك، وابن خادمك، وغذي نعمتك، ونشو دولتك، ليس مثله من ظن به هذا.
الخليفة المعتضد يتنبأ بأن ضياع الدولةيجري على يد ولده المقتدر: حدثني أبو علي الحسين بن محمد الأنباري الكاتب قال: سمعت دلوية الكاتب، يحكي عن صافي الحرمي الخادم، مولى المعتضد، إنه قال: مشيت يوماً بين يدي المعتضد، وهو يريد دور الحرم، فلما بلغ إلى باب دار شغب أم المقتدر، وقف يتسمع ويطلع من خلل الستر، فإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها، وهو جالس وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فضة، فيه عنقود عنب، في وقت فيه العنب عزيز جداً، والصبي يأكل عنبة واحدة، ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة، على الدور إليه أكل واحدة مثلما أكلوا، حتى فني العنقود، والمعتضد يتمزق غيظاً.
قال: فرجع، ولم يدخل الدار، ورأيته مهموماً.
فقلت: يا مولاي، ما سبب ما فعلته؟ وما قد بان عليك؟ فقال: يا صافي، والله لولا النار والعار، لقتلت هذا الصبي اليوم، فإن في قتله صلاحاً للأمة.
فقلت: يا مولاي، حاشاه، أي شيء عمل؟ أعيذك بالله يا مولاي، إلعن إبليس.

فقال: ويحك، أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأعلم أن الناس بعد موتي لا يختارون إلا ولدي، وأنهم سيجلسون ابن علياً - يعني المكتفي - وما أظن عمره يطول، للعلة التي به، قال صافي: يعني الخنازير التي كانت في حلقه، فيتلف عن قريب، ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده منهم أكبر من جعفر، فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في السخاء، هذا الذي قد رأيت من أنه أطعم الصبيان مثلما أكل، وساوى بينه وبينهم، في شيء عزيز في العالم، والشح على مثله في طباع الصبيان، فتحتوي عليه النساء، لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال، كما قسم العنب، ويبذر ارتفاع الدنيا ويخربها، فتضيع الثغور، وتنتشر الأمور وتخرج الخوارج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العباس أصلاً.
فقلت: يا مولاي بل يبقيك الله، حتى ينشأ في حياتك، ويصير كهلاً في أيامك، ويتأدب بآدابك، ويتخلق بخلقك، ولا يكون هذا الذي ظننت.
فقال: احفظ عني ما أقوله، فإنه كما قلت.
قال: ومكث يومه مهموماً.
وضرب الدهر ضربه، ومات المعتضد، وولي المكتفي، فلم يطل عمره، ومات، وولي المقتدر، فكانت الصورة كما قال المعتضد بعينها.
فكنت كلما وقفت على رأس المقتدر وهو يشرب، ورأيته قد سكر ودعا بالأموال، فأخرجت إليه، وحلت البدر، وجعل يفرقها على الجواري والنساء، ويلعب بها، ويمحقها، ويهبها، ذكرت مولاي المعتضد، وبكيت.
قال: وقال صافي: كنت يوماً واقفاً على رأس المعتضد، فأراد أن يتطيب، فقال: هاتم فلاناً الطيبي، - خادم يلي خزانة الطيب - فأحضر.
فقال له: كم عندك من الغالية؟ فقال: نيف وثلاثون حباً صينياً، مما عمله عدة من الخلفاء.
فقال: فأيها الطيب؟ قال: ما عمله الواثق.
قال: أحضرنيه.
فأحضره حباً عظيماً، يحمله خدم عدة، بدهق ومصقلة، ففتح، فإذا الغالية قد ابيضت من التعشيب، وجمدت من العتق، في نهاية الذكاء.
فأعجبت المعتضد، وأهوى بيده إلى حوالي عنق الحب، فأخذ من لطاخته شيئاً يسيراً، من غير أن يشعث رأس الحب، وجعله في لحيته، وقال: ما تسمح نفسي بتطريق التشعيث على هذا الحب، شيلوه، فرفع.
ومضت الأيام، فجلس المكتفي للشرب يوماً، وهو خليفة، وأنا قائم على رأسه، فطلب غالية، فاستدعى الخادم، وسأله عن الغوالي، فأخبره بمثل ما كان أخبر به أباه.
فاستدعى غالية الواثق، فجاءه بالحب بعينه، ففتح، فاستطابه، وقال: أخرجوا منه قليلاً، فأخرج منه مقدار ثلاثين أو أربعين مثقالاً، فاستعمل منه في الحال ما أراده، ودعا بعتيدة له، فجعل الباقي فيها، ليستعمله على الأيام.
وولي المقتدر الخلافة، وجلس مع الجواري يشرب يوماً وكنت على رأسه، فأراد أن يتطيب، فاستدعى الخادم، وسأله، فأخبره بمثل ما أخبر به أباه وأخاه.
فقال: هات الغوالي كلها، فأحضرت الحباب كلها، فجعل يخرج من كل حب، مائة مثقال، وخمسين، وأقل، وأكثر، فيشمه ويفرقه على من بحضرته، حتى انتهى إلى حب الواثق، فاستطابه.
فقال: هاتم عتيدة.
فجاءوه بعتيدة، وكانت عتيدة المكتفي بعينها، ورأى الحب ناقصاً، والعتيدة فيها قدح الغالية، ما استعمل منه كثير شيء.
فقال: ما السبب في هذا؟ فأخبرته بالخبر على شرحه، فأخذ يعجب من بخل الرجلين، ويضع منهما بذلك.
ثم قال: فرقوا الحب بأسره على الجواري، فما زال يخرج منها أرطالاً، وأنا أتمزق غيظاً، وأذكر حديث العنب، وكلام مولاي المعتضد، إلى أن مضى قريب من نصف الحب.
فقلت له: يا مولاي، إن الغالية أطيب الغوالي وأعتقها، ولا يعتاض منها، فلو تركت منها لنفسك، وفرقت الباقي من غيرها كان أولى.
قال: وجرت دموعي لما ذكرته من كلام المعتضد، فاستحى مني، ورفع الحب.
فما مضت إلا سنتين من خلافته، حتى فنيت تلك الغوالي، واحتاج إلى أن عجن غالية بمال عظيم.
يقال إن جميع الغوالي استعملت في الوحلالذي عملته السيدة أم المقتدر: أخبرني غير أبي علي: إن تلك الغوالي كلها، وما كان في الخزائن من المسوك والعنابر، استعمل كله في الوحل الذي كانت السيدة عملته.
وخبر الوحل مستفيض على ألسنة العوام، فلا وجه للإطالة بذكره.
ورأيت، أهل العلم والخبرة بأمور الخلافة وأخبارها، يكذبون بذلك تكذيباً شديداً، فلم أورده لهذا السبب.


أنموذج من إسراف السيدة أم المقتدرحدثني أبو الحسن البرسي، العامل بالبصرة، إن بعض بني إسحاق الشيرازي المعروف بالخرقي، ممن كان يعامل أم المقتدر، أسماه هو وأنسيته أنا، حدثه: إنها طلبت منه في يوم يقرب من نيروز المعتضد، ألف شقة زهرية خفاقاً جداً.
قال: فبعثت في جمعها، الرسل تكدني بالاستعجال، والقهارمة يستبطؤوني، حتى تكاملت، وصرت بها إلى الدار.
فخرجت القهرمانة، فقالت: اجلس في الحجرة التي برسمك، واستدع الخياطين، وتقدم أن يقطعوا ذلك أزراراً على قدر حب القطن، ويحشونها من الخرق، ويخيطونها، ليجعل بدل الحب القطن ويشرب دهن البلسان، وغيره من الأدهان الطيبة الفاخرة، وتوقد في المجامر البرام على رؤوس الحيطان ليلة النيروز بدلاً من حب القطن والنفط والمجامر الطين.
ففلت ذلك، ومضت تلك الثياب الكثيرة الأثمان في هذا.
قال، وقال لي: كنت أشتري لها ثياباً دبيقية، يسمونها ثياب النعال.
وذلك إنها كانت صفاقاً، تقطع على مقدار النعال المحذوة، وتطلي بالمسك والعنبر المذاب، وتجمد، ويجعل بين كل طبقتين من الثياب، من ذلك الطيب ما له قوام، ونحن نفعل بطاقات كثيرة كذا، وتلف بعضها على بعض، ثم تصمغ حواليها بشيء من العنبر، وتلزق حتى تصير كأنها قطعة واحدة، وتجعل الطبقة الأولى بيضاء مصقولة، وتخرز حواليها بالإبريسم، ونجعل لها شركاً، من إبريسم كلها، كالشرك المضفورة من الجلود، وتلبس.
قال: وكانت نعال السيدة من هذا المتاع، لا تلبس النعل إلا عشرة أيام، أو حواليها، حتى تخلق، وتتفتت، وتذهب جملة دنانير في ثمنها، وترمى.
فيأخذون الخزان، أو غيرهم، فيستخرجون من ذلك العنبر والمسك فيأخذونه.
وهو يساوي جملة الدنانير.
أنموذج من إسراف الخليفة المقتدرأخبرني أبو القاسم الجهني: إن المقتدر أراد الشرب على نرجس في بستان لطيف، في صحن دار من صغار صحونه.
فقال بعض من يلي أمر البستان: سبيل هذا النرجس أن يسمد قبل شرب الخليفة عليه بأيام، فيحسن ويقوى.
فقال هو، ويلك، يستعمل الخرء في شيء بحضرتي وأريد أن أشمه؟ قال: بهذا جرت العادة في كل ما يراد تقويته من الزروع.
فقال: وما العلة في ذلك؟ قال: لأن السماد يحميه، فيعنيه على النبات والخروج.
قال: فنحن نحميه بغير السماد، وتقدم، فسحق من المسك بمقدار ما احتاج إليه البستان من السماد، وسمد به.
وجلس يشرب عليه يومه وليلته، واصطبح من غده عليه، فلما قام، أمر بنهبه.
فانتهب البستانبانون والخدم، ذلك المسك كله من أصول النرجس، واقتلعوه مع طينة، حتى خلصوا المسك، فصار البستان قاعاً صفصقاً.
وخرج من المال شيء عظيم في ثمن ذلك المسك.
أنموذج من إسراف الخليفة الراضيحدثني أبو إسحاق الطبري، غلام أبي عمر الزاهد، غلام ثعلب، وكان منقطعاً إلى بني حمدون، قال: حدثني أبو جعفر بن حمدون، قال: كنا نشرب مع الراضي بالله يوماً، في مجلس مغمى بالفاكهة الحسنة الفاخرة.
فغرض من الجلوس فيه، فقال: افرشوا لنا المجلس الفلاني، واطرحوا فيه ريحاناً ونيلوفر فقط، طرحاً فوق الحصر، بلا أطباق، ولا تعبية في مشام، كما تفعل العامة، وعجلوا ذلك الساعة، لننتقل إليه.
قال: فلم تكن إلا لحظة، حتى قالوا له: قد فرغنا من ذلك.
فقال لنا: قوموا، فقمنا معه.
فلما رأى المجلس، قال للشرابية: غيروا لون هذا الريحان بشيء من الكافور يسحق ويطرح فوقه، فليس هو مليح هكذا.
قال: فأقبلوا يجيئون بصواني الذهب، وفيها الكافور الرباحي المسحوق أرطالاً، ويطرح فوق الريحان، وهو يستزيدهم، إلى إن صار الريحان كالمغطى ببياض الكافور، وكأنه ثوب أخضر، قد ندف عليه قطن رقيق، أو روضة عليها ضرائب الثلج.
فقال حينئذ: حسبكم.
قال: فقدرت ما استعمل من الكافور، كان أكثر من ألف مثقال بشيء كثير.
فشربنا عليه معه، فلما قام، أمر بنهبه.
فأخذ غلماني منه مثاقيل كثيرة، لأنهم كانوا في جملة الخدم والفراشين الغلمان الذي نهبوا ذلك.
الراضي يأمر لكل واحد من ندمائهبوزن الآجرة دراهم: سمعت أبا بكر محمد بن يحيى الصولي، وأنا إذ ذاك في حد الصبيان، يحكي لأبي، حكاية طويلة عن الراضي، فيها شعر له، وقصة، لم تعلق بذهني كلها في الحال، لصغري عن ذلك.

فسأله أبي أن يمليها، فأملاها على صاحب لأبي كان جالساً بحضرته، وكتبها على ظهر جزء كان قد قرأه عليه، فيه أشعار وأخبار غير ذلك.
هو باق عندي، وحصلت منها ما بقي في حفظي: إنه دخل إلى الراضي، وهو يبني شيئاً، أو يهدم شيئاً - أنا الشاك - فأنشده أبياتاً، وكان الراضي جالساً على آجرة حيال الصناع.
قال: كنت أنا وجماعة من الندماء قيام، فأمر بالجلوس بحضرته، فأخذ كل واحد منا آجرة، فجلس عليها.
واتفق أني أخذت آجرتين ملتزقتين بشيء من اسفيداج، فجلست عليهما فلما قمنا، أمر بأن توزن جرة كل واحد منا، ويدفع إليه بوزنها دراهم، أو دنانير - الشك مني - .
قال: فتضاعفت جائزتي على جوائز الحاضرين، بتضاعف وزن آجرتي على آجرهم.
حدثني علي بن الحسن الحاجي، قال: حدثنا أبو الحسن العروضي، معلم الراضي ونديمه بهذا الحديث، فذكر مثله، ولم يذكر تضاعف جائزة الصولي، إلا أنه قال: كنت أنا وجماعة من الندماء.
ختم الراضي الخلفاء في أمور عدةوللراضي فضائل كثيرة، وقد ختم الخلفاء في أمور عدة، منها: إنه آخر خليفة له شعر.
وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش، والأموال.
وآخر خليفة بني.
وآخر خليفة خطب على منبر في يوم جمعة.
وآخر خليفة جالس الجلساء، ووصل إليه الندماء.
وآخر خليفة كانت نفقته، وجوائزه، وعطاياه، وخدمته، وجراياته، وخزائنه، ومطابخه، وشرابه، ومجالسه، وخدمه، وحجابه، وأموره، جارية على ترتيب الخلافة الأولى.
وآخر خليفة سافر بزي الخلفاء القدماء.
وآخر خليفة بعده المتقي، وسافر المطيع غير سفر، ولكن ليس كذلك.
أنموذج من إسراف المتوكلحدثني أبو القاسم الجهني، قال: حدثني أبو محمد بن حمدون، عن أبيه: إن المتوكل اشتهى أن يجعل كل ما تقع عليه عينه، في يوم من أسام شربه، أصفر.
فنصبت له قبة صندل مذهبة، مجللة بديباج أصفر، مفروشة بديباج أصفر.
وجعل بين يديه الدستنبو والأترج الأصفر، وشراب أصفر في صواني ذهب.
ولم يحضر من جواريه إلا الصفر، عليهن ثياب قصب صفر.
وكانت القبة منصوبة على بركة مرصصة يجري فيها الماء، فأمر أن يجعل في مجاري الماء إليها الزعفران على قدر ليصفر الماء ويجري من البركة، ففعل ذلك.
وطال جلوسه وشربه، فنفد ما كان عندهم من الزعفران، فاستعملوا العصفر، ولم يقدروا أنه ينفذ قبل سكره، فيشترون منه، فنفد.
فلما لم يبق إلا قليل، عرفوه، وخافوا أن يغضب إن انقطع، ولا يمكنهم قصر الوقت من شري ذلك من السوق.
فلما أخبروه أنكر لم لم يشتروا أمراً عظيماً، وقال: الآن إن انقطع هذا تنغص يومي فخذوا الثياب المصفرة المعصفرة القصب، فانقعوها في مجرى الماء ليصبغ لونه بما فيها من الصبغ، ففعل ذلك.
ووافق سكره مع نفاد كل ما كان في الخزائن من هذه الثياب.
فحسب ما لزم على ذلك الزعفران والعصفر، وثمن الثياب التي هلكت، فكان قدر جميعه خمسين ألف دينار.
ويشبه هذا ما اخبرنا به الجم الغفير: إن الحسن بن سهل، لما زف ابنته بوران إلى المأمون، بفم الصلح، انقطع بهم الحطب في المطبخ يوم العرس، أحوج ما كانوا إليه، فعرفوه ذلك.
فأمر الجيش، فصب عليها الزيت وغيره من الأدهان حتى تشربها وأمر بإيقاده تحت القدور، وبث الرسل في طلب الحطب.
فاستعمل من ذلك الجيش شيء كثير إلى أن حمل الحطب.
الوزير المهلبي يشتري لمجلس شرابهورداً بألف دينار: وشاهدنا نحن، أبا محمد المهلبي في وزارته، وقد اشترى في ثلاثة أيام متتابعة، ورداً بألف دينار، فطرح في بركة عظيمة كانت له في دار كبيرة، تعرف بدار البركة، وشرب عليه، ونهب.
وكان في البركة فواره حسنة، فطرح الورد فيها، وفرشه في مجالسه.
وكان لذلك شرح طويل.
أبو القاسم البريدي يشرب على وردبعشرين ألف درهم: وشرب أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي، بالبصرة، على ورد بعشرين ألف درهم، في يوم واحد، على رخصه هناك، واسترخاص السلطان لما يشتهيه، وطرح فيه عشرين ألف درهم خفافاً، وزنها عشرة آلاف درهم، وشيئاً كثيراً من قطع الند المثاقيل اللطاف، وقطع الكافور اللطاف، والتماثيل، ولعب به شاذكلى، وانتهب الفراشون الورد، مع ما فيه من الدراهم والطيب.

وقيل إن ذلك المجلس قام عليه بثلاثة آلاف دينار مع جذور المغنيات، وثمن الطيب، وما أنفق على المائدة، والشراب، والثلج، ذلك اليوم.
أخبر بهذا أبو العباس النخاس المعروف بالشامي، في الوقت، وأنا أسمع، وأرانا من الدراهم شيئاً، وذكر إنه انتهبها مع الغلمان.
كان أبو العباس الشامي نخاساً
فأصبح قواداً: وكان هذا الشامي أمة وحدة في مذهبه، فإنه كان يصحب أبا عبد الله البريدي، على طريق التنخس، ويشتري الجواري السوذاج والمغنيات فيبيعهن عليه.
فربما كره جارية فردها عليه، وما دار بينهما ميزان.
ثم اتسع ذلك البابا لأبي العباس، فصار يستعمله مع الكافة، ثم تجاوزه إلى بذل قيان له، وإخراجهن بحضرته، وأن يمازحهن، ويلاعبهن الرجال، ولا ينكر ذلك.
وربما تجاوزا هذا إلى غيره، ولا ينكر، ويجتعل عليه - فيما بلغني - من وجوه كثيرة.
أبو العباس الشامي النخاسكان صفعاناً طيباً: وكان، مع هذا، صفعاناً طيباً.
فمن ذلك: إنه دخل يوماً على أبي يوسف البريدي، فصفعه بمخده ديباج حسنة مثمنة.
فأخذها الشامي، وعدا، ليسلمها إلى غلامه، فيحملها إلى بيته.
فقال له أبو يوسف: قد أخذتها! ويلك.
قال: فأراد أطال الله بقاء سيدنا من حيث جاءت، ولا آخذها؟ فقال: لا يا ماص كذا، خذها، لا بورك لك فيها.
فدفعها إلى غلامه.
أبو العباس الشامي النخاسيطلب من القاضي قبوله للشهادة: ومنها: إنه كان مشهوراً بالقيادة، وكان يعادي بزازاً بالبصرة، يعرف بالآدمي.
فبلغه أن القاضي جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، عمل على قبوله، وما كان لذلك أصل، وإنما كان إرجافاً.
فجاء إليه، وكان منبسطاً عليه بالمزاح، لمعرفته به.
فقال له: أيها القاضي، إن رأيت أن تقبل شهادتي.
فقال له القاضي: ما بلغ الأمر إلى قبول مثلك، فأي شيء دعاك إلى هذا، يا أبا العباس؟ ومازحه.
قال: بلغني أنك تريد أن تقبل الآدمي، وأنا وهو جميعاً: كنا نقود على البريدي، فاقبلني أنا أيضاً.
فضحك وقال: لا لك أقبل، ولا له.
الوزير المهلبي والشامي النخاسوجاء إلى الأهواز، بجارية له مغنية، إلى أبي محمد المهلبي، وكنت بالأهواز.
وحدثني بهذا الخبر جماعة مما شاهدوه من ندمائه.
فغنت له، وكانت تجلس عنده للغناء، وهو غير حاضر، دفعات كثيرة.
فقال له المهلبي يوماً، وقد جرى بحضرته ذكر الجماع، فأخذ الشامي يخبر عن نفسه، بالعجز عنه، لأنه كان قد نيف على الثمانين.
فقال له المهلبي: فجاريتك يا أبا العباس حبلى، فمن أين هذا الحبل؟ فقال: يا سيدي إذا ولدت، سميت ابنها العباس بن الحسن، يعرض بأنه ابن الوزير، يصلح للوزارة، وإنه ابنك.
فضحك والجماعة منه.
أبو مخلد يستولي على دستمجلس معز الدولة: أخبرنا أبو علي أحمد بن موسى حمولي، صاحب معز الدولة، قال: كنا يوماً قياماً، بحضرة مولانا الأمير - يعني معز الدولة - فدخل إليه أبو مخلد، فرأى تحته دست ديباج جديد، حسن جداً، قد استعمله بتستر، وقام عليه بألفي دينار.
فقال له: أيها الأمير، تنح عن الدست، فإن عليه شيئاً.
فلم يفهم الأمير مراده، وتزحزح عن دسته، فجذبه، وحمل جزءاً منه على كتفه، وقام.
فقال له الأمير: يا بغاء - بكلام الديلم - إلى أين؟ قال: إلى طياري أنقل هذا الدست إليه أولاً أولاً كما ترى، ومن يعارضني؟ أو يجسر على ذلك؟ قال: فضحك الأمير، وقال: ما يعارضك أحد.
قال: فنقل، يشهد الله، الدست بآلته كاملاً، على ظهره، إلى طياره وأنا أراه، حتى أخذه جميعه.
أبو مخلد يستولي على طنفسةرآها في مجلس الخليفة المطيع: وكانت لأبي مخلد، مروءة عظيمة، وشهود للفرش خاصة.
فدخل يوماً إلى أمير المؤمنين، المطيع لله، فرأى في المجلس طنفسة عظيمة خليفية من ورقم أصفر، فلما رآها تحير.
فقال لأبي أحمد الشيرازي، كاتبه: أريد أن أعمل بهذه، كما عملت بدست معز الدولة، وكان قد اشتهر خبره في نقل الدست على ظهره.
فقال له أبو أحمد: مثل هذا لا يجوز أن يفعل بحضرة الخليفة، لأن الهزل لا يستعمل مع هؤلاء، وخاصة هذا مجلس عام، ولكن أنا أعيد استحسانك لها، وأستوهبها لك منه.
فلما تفوض الموكب، خرج أبو أحمد، فوجده جالساً في الدهليز.

فقال: ما هذا أيها الشيخ؟ قال: ترجع، وتعرف مولانا، أني لا أبرح، والله، إلا بالطنفسة، وإنما قبلت رأيك فوقرته، وإلا كنت قد أخذتها كما أخذت الدست.
فرجع أبو أحمد، وأخبره، الخبر على شرحه، فأمر بحملها إلى طياره فحملت معه، ثم انصرف.
أخبرني أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي بذلك.
ابن دية الأنماطي يقوم ثمن قسم من فرشأبي مخلد بمائتي ألف دينار: وسمعت ابن دية الأنماطي، وهو رئيس هذه الصناعة ببغداد، ومن لم يشاهد أحد بها من المتاع ما شاهده، يخبر في مجلس حافل، إنه شاهد لأبي مخلدفرشاً أخرجه إليه ليقومه له.
قال: فقومته له، قيماً استرخصتها جداً، فبلغت القيمة مائتي ألف دينار، ولا أدري ذلك فرشه كله، أو له شيء آخر من الفرش سواه.
الشيخ الخياط وأذانه في غير وقت الأذانحدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي القاضي: إن شيخاً من التجار، كان له على بعض القواد مال جليل، يماطله به.
قال: فعلمت على الظلامة إلى المعتضد، لأني كنت إذا جئت إلى القائد حجبني، واستخف بي غلمانه.
وكنت إذا تحملت عليه، فاستشفعت، لم ينجع فيه.
وتظلمت إلى عبيد الله بن سليمان منه، فما نفعني.
فقال لي بعض إخواني: علي أن آخذ لك المال، ولا تحتاج إلى الظلامة إلى الخليفة ولا إلى غيره، فقم معي الساعة.
قال: فقمت معه، فجاء بي إلى خياط في سوق الثلاثاء، شيخ، وهو جالس يخيط، ويقرىء في المسجد، فقص عليه قصتي، وسأله أن يقصد القائد فيسأله إزاحة علتي، وكانت داره قريبة من موضع الخياط، فقام معنا.
فلما مشينا تأخرت، وقلت لصديقي: إنك قد عرضت هذا الشيخ، ونفسك، وإياي، إلى مكروه غليظ، هذا إذا حصل على باب الرجل، صفع، وصفعنا معه، فإنه لم يلتفت لشفاعة فلان وفلان، ولم يفكر في الوزير، يفكر في هذا؟ فضحك الرجل، وقال: لا عليك، امش واسكت.
فجئنا إلى باب القائد، فحين رأى غلمانه الخياط أعظموه، وأهووا ليقبلوا يده، فمنعهم.
وقالوا: ما جاء بك يا شيخ؟ فإن صاحبنا راكب، فإن كان أمر نعمله نحن بادرنا إليه، وإلا فادخل واجلس حتى يجيء.
فقويت نفسي، فدخلنا، وجلسنا.
وجاء الرجل، فلما رأى الخياط، أعظمه إعظاماً تاماً، وقال: لست أنزع ثيابي، أو تأمر بأمرك.
فخاطبه في أمري.
فقال: والله، ما عندي إلا خمسة آلاف درهم، فسله أن يأخذها، ورهناً من مراكبي الفضة والذهب، إلى شهر، لأعطيه.
فبادرت أنا إلى الأجابة، فأحضر الدراهم، والمراكب بقيمة الباقي، فقبضت ذلك.
وأشهدت الخياط وصديقي عليه، بأن الرهن عندي، إلى شهر على البقية، فإن جاز الأجل، فأنا وكيل ببيعه، وأخذ مالي من ثمنه، فأشهدتهما على ذلك، وخرجنا.
فلما بلغنا إلى موضع الخياط، طرحت المال بين يديه، وقلت: يا شيخ، إن الله قد رد علي هذا بك، فأحب أن تأخذ ربعه، أو ثلثه، أو نصفه، بطيب من قلبي.
فقال: يا هذا، ما أسرع ما كافأتني على فعل الجميل بالقبيح، انصرف بمالك، بارك الله لك فيه.
فقلت: قد بقيت لي حاجة.
فقال: قل.
قلت: تخبرني عن سبب طاعة هذا لك، مع تهاونه بأكابر أهل الدولة.
فقال: يا هذا قد بلغت مرادك، وأخذت مالك فلا تقطعني عن شغلي، وما أعيش منه.
فألححت عليه.
فقال: أنا رجل أؤم، وأقرىء في هذا المسجد، منذ أربعين سنة، ومعاشي من هذه الخياطة، لا أعرف غير هذا.
وكنت منذ دهر، قد صليت المغرب، فأخرجت أريد منزلي، فاجتزت بتركي كان في هذه الدار، فإذا قد اجتازت امرأة جميلة الوجه عليه، فتعلق بها وهو سكران، ليدخلها داره، وهي ممتنعة تستغيث، وليس أحد يغيثها، وتصيح، ولا يمنعها منه أحد، وتقول في جملة كلامها: إن زوجي قد حلف بطلاقي أن لا أبيت عنه، فإن بيتني هذا، أخرب بيي، مع ما يرتكبه مني من المعصية، ويلحقه بي من العار.
قال: فجئت إلى التركي، ورفقت به، وسألته تركها، فضرب رأسي بدبوس كان في يده.
فشجني، وآلمني، وأدخل المرأة.
فصرت إلى منزلي فغسلت الدم، وشددت الشجة، واسترحت.
وخرجت أصلي العشاء، فلما فرغنا منها، قلت لمن حضر: قوموا معي إلى عدو الله، هذا التركي، ننكر عليه، ولا نبرح، حتى نخرج المرأة.

فقاموا، وجئنا، فضججنا على بابه، فخرج إلينا في عدة من غلمانه، فأوقع بنا الضرب، وقصدني من بين الجماعة، فضربني ضرباً عظيماً، كدت أتلف منه، فشالني الجيران إلى منزلي كالتالف.
فعالجني أهلي، ونمت نوماً قليلاً للوجع، وأفقت نصف الليل، فما حملني النوم فكراً في القصة.
فقلت: هذا قد شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات، فلو أذنت، وقع له إن الفجر قد طلع، فأطلق المرأة، فلحقت بيتها قبل الفجر، فتسلم من أحد المكروهين، ولا يخرب بيتها، مع ما قد جرى عليها.
فخرجت إلى المسجد متحاملاً، وصعدت المنارة، فأذنت، وجلست أطلع منها على الطريق، أترقب منها خروج المرأة، فإن خرجت، وإلا أقمت الصلاة، لئلا يشك في الصباح، فيخرجها.
فما مضت إلا ساعة، والمرأة عنده، فإذا الشارع قد امتلأ خيلاً ورجلاً ومشاعل، وهم يقولون: من هذا الذي أذن الساعة؟ أين هو؟ ففزعت وسكت، ثم قلت أخاطبهم، لعلي أستعين بهم على إخراج المرأة.
فصحت من المنارة: أنا أذنت.
فقالوا لي: انزل، فأجب أمير المؤمنين.
فقلت: دنا الفرج، ونزلت، فمضيت معهم، فإذا هم غلمان مع بدر.
فأدخلني على المعتضد، فلما رأيته هبته، وارتعدت، فسكن مني.
وقال: ما حملك على أن تغر المسلمين بأذانك في غير وقته، فيخرج ذو الحاجة في غير حينها، ويمسك المريد للصوم، في وقت أبيح له فيه الأفطار؟ فقلت: يؤمني أمير المؤمنين، لأصدق؟ فقال: أنت آمن على نفسك.
فقصصت عليه قصة التركي، وأريته الآثار التي بي.
فقال: يا بدر، علي بالغلام والمرأة، الساعة، وعزلت في موضع.
فلما كان بعد ساعة قليلة، أحضر الغلام والمرأة، فسألها المعتضد عن الصورة، فأخبرته بمثل ما قلته.
فقال لبدر: بادر بها الساعة إلى زوجها مع ثقة يدخلها دارها، ويشرح له خبرها، ويأمره عني بالتمسك بها، والإحسان إليها.
ثم استدعاني، فوقفت، فجعل يخاطب الغلام، وأنا قائم أسمع.
فقال له: يا فلان، كم رزقك؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم أعطاؤك؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم وظائفك؟ قال: كذا وكذا.
قال: وجعل يعدد عليه ما يصل إليه، والتركي يقر بشيء عظيم.
قال: فقال له: كم لك جارية؟ قال: كذا وكذا.
قال: فما كان لك فيهن، وفي هذه النعمة العريضة، كفاية عن ارتكاب معاصي الله عز وجل، وخرق هيبة السلطان؟ حتى استعملت ذلك، وتجاوزته إلى الوثوب بمن أمرك بالمعروف؟ فأسقط الغلام في يده، ولم يحر جواباً.
فقال: هاتم جوالق، ومداق الجص، وقيوداً، وغلاً، فأحضر ذلك.
فقيده، وغله، وأدخله الجوالق، وأمر الفراشين، فدقوه بمداق الجص.
وأنا أرى ذلك، وهو يصيح، ثم انقطع صوته، ومات.
فأمر به، فغرق في دجلة، وتقدم إلى بدر بحمل ما في داره.
ثم قال لي: يا شيخ أي شيء رأيت من أجناس المنكر، كبيراً كان أو صغيراً، أو أي أمر، صغيراً كان أو كبيراً، فمر به وأنكره، ولو على هذا، وأومأ بيده إلى بدر.
فإن جرى عليك شيء، أو لم يقبل منك، فالعلامة بيننا أن تؤذن في مثل هذا الوقت، فإني أسمع صوتك فأستدعيك، وأفعل مثل هذا بمن لا يقبل منك، أو بمن يؤذيك.
قال: فدعوت له وانصرف.
وانتشر الخبر في الأولياء والغلمان، فما سألت أحداً منهم بعدها إنصافاً لأحد، أو كفاً عن قبيح إلا أطاعني، كما رأيت، خوفاً من المعتضد.
وما حتجت أن أؤذن إلى الآن، في غير وقت الآذان.
مثل على تيقظ المعتضد وعلو عمتهحدثني أبي، عن أبي محمد ابن حمدون، قال: كنت بحضرة المعتضد ليلة شرب، إذ جاءه كتاب، فقرأه وقطع الشرب، وتنغص به.
واستدعى عبيد الله بن سليمان، فأحضر للوقت، وقد كاد يتلف، وظن أنه قد قبض عليه.
فرمى بالكتاب إليه، فإذا هو كتاب صاحب خبر السر بقزوين إليه، يقول: إن رجلاً من الديلم، وجد بقزوين، وقد دخلها متنكراً.
فقال لعبيد الله: اكتب الساعة، إلى صاحبي الحرب والخراج، وأقم قيامتهما، وتهددهما عني بالقتل، لم تم هذا، وتشدد في الإنكار، وطالبهما بتحصيل الرجل، ولو من تخوم الديلم، وأعلمهما إن دمهما مرتهن به، حتى يحضرانه.
وأرسم لهما أن لا يدخل البلد مستأنفاً أحد، ولا يخرج إلا بجواز، حتى لا تتم حيلة لأحد من الديلم في الدخول سراً، وأن يزيدا في الحذر والتيقظ، ونفذنا الناس إليهم، وأفرط في التأكيد.
فقال عبيد الله: السمع والطاعة، أمضي إلى داري، فأكتب.

فقال: لا، إجلس بمكانك، واكتب بخطك، واعرض علي.
قال: فأجلسه، وعقله ذاهل، فكتب ذلك، وعرضه عليه، فلما ارتضاه، دعا بخريطة إلى حضرته، فجعلت الكتب فيها، وأنفذها.
وقال لعبيد الله: أنفذ معها من يأتيك بخبر وصولها النهروان، وسيرها عن، وانصرف.
فنهض عبيد الله، وعاد المعتضد إلى مجلس شربه، وكان قد لحقه تعب عظيم، فاستلقى ساعة، ثم عاد يشرب.
فقلت له: يا أمير المؤمنين، تأذن في الكلام؟ فقال: نعم.
فقلت: كنت على سرور، وطيب نفس، فورد خبر قد كان يجوز أن تأمر فيه غداً بما أمرت به الساعة، فضيقت صدرك، وقطعت شربك، وتغصت على نفسك، وروعت وزيرك، وأطرت عقول عياله وأصحابه، باستدعائه في هذا الوقت المنكر، حتى أمرته بهذا الذي لو أخرته إلى غد، لكن جائزاً.
فقال: ابن حمدون، ليست هذه من مسائلك، ولكنا أذنا لك في الكلام.
إن الديلم شر أمة في الدنيا، وأتهمهم مكراً، وأشدهم بأساً، وأقواهم قلوباً، ووالله، لقد طار عقلي فزعاً على الدولة من أن تطرق إليهم دخول قزوين سراً، فيجتمع فيها منهم عدة، يوقعون بمن فيها ويملكونها، وهي الثغر بيننا وبينهم، فيطول أمد ارتجاعها منهم، ويلحق الملك من الضعف والوهن بذلك أمر عظيم، يكون سبباً لبطلان الدولة، وتخيلت أني إن أمسكت عن التدبير ساعة، إنه يفوت، وإنهم يحتوون على قزوين، ووالله لو ملكوها، لنبعوا علي من تحت سريري هذا، واحتووا على دار المملكة، فما هنأني الشرب، ولا طابت نفسي بمضي ساعة من زماني فارغة من تدبير عليهم.
فعملت ما رأيت.
التفريط في حفظ حدود أذربيجانأدى إلى فساد المملكة: وحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: كنت حدثاً في الديوان في سنة سبع عشرة وثلثمائة، والوزير إذ ذاك أحمد بن عبيد الله الخصيبي.
فأنشأنا من الديوان، كتباً إلى ابن أبي الساج، عن السلطان، يأمره فيها بالمسير إلى الحضرة، لقتال القرمطي.
فوردت الأجوبة للخليفة، لا للديوان.
فسمعت مشايخ الكتاب، يتحدثون عنه، إنه كتب يقول: أنا في ثغر الروم، وبإزاء سد أحصن من سد يأجوج ومأجوج، وإن أخللت به، انفتح منه أعظم من أمر القرمطي، ولم يؤمن أن يكون سبباً لزوال المملكة في سائر النواحي.
قال: فأخذ الكتاب يتطانزون بذلك، وقالوا: في أي ثغر هو؟ ومن بإزائه إلا الديلم، وإنما هم أكرة، ولكنه يريد ترفيه نفسه، والخلاف على السلطان.
قال: وأنشئت كتب أخر، يؤمر فيها بترك ما هو بسبيله، والقدوم، فقدم وخرج إلى القرمطي، فقتله القرمطي.
فما مضت إلا مديدة يسيرة، على قتله، حتى سار القاسم بن الحسن الداعي العلوي، وما كان الديلمي صاحب جيشه، من طبرستان إلى الري، فأخذاها من يد أصحاب السلطان.
وخرج أسفار بن شيرويه الديلمي فسار إلى طبرستان، فأخذها منهما.
فرجع الداعي إليه، فقاتله، فقتله أسفار، وتوطأ له الأمر، وسار إلى الري، فقاتله ماكان.
وثار مرداويج، وكان أحد أصحاب أسفار، به، فقتله، واحتوى على عسكره، وتملك أعماله، وأخذ الري، والجبل، والأعمال.
وتفرقت أعمال ابن أبي الساج على جماعة أهملوا سياستها.
واستفحل أمر الديلم، وتزايد على الأوقات، وضعف السلطان، وانفتقت الفتوق عليه، وكثرت الفتن، وقتل المقتدر.
وجاء مرداويج إلى أصبهان ليسير إلى بغداد.
وقدم شيرج بن ليلى إلى الأهواز، فتملكها.
وكان الأمير عماد الدولة علي بن بويه يخلفه على الكرج حينئذ، فاستغوى من معه، وسار بهم فملك أرجان لنفسه.
وهدده مرداويج بالمسير إليه، فداراه، ووعده أن يكون من قبله، وأنفذ الأمير ركن للدولة، أخاه، رهينة إليه.
وسار فأوقع بياقوت، وهو في سبعمائة نفر من الديلم، وياقوت في الطم والرم، وملك فارس، وظفر بأموالها، وكنوزها، فقوي، وعمل مرداويج على إنفاذ عسكر إليه، ليأخذه، ثم يسير إلى بغداد، فوثب غلمانه الأتراك به، فقتلوه، وجاء رجاله إلى الأمير عماد الدولة، وقد كان ملك فارس، وطرد ياقوت عنها، فقوي أمره، وعظم شأنه.
ومرت على ذلك سنيات، فأنفذ أخاه الأمير معز الدولة إلى الأهواز، ولم يزل أمره يقوى، حتى ملك بغداد.
وحصل الأمر على ما قاله المعتضد، وابن أبي الساج، وصاروا ملوك الأرض.
====================================جج222.--------------

ج2222222222..


كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

وحصلت للديلم ممالك، غير ممالك الأمراء من بني بويه، كثيرة، بعد أن كان الناس يتمثلون إذا ظلموا، فيقولون: أي شيء خبرنا؛ في يد الديلم نحن أم في يد الأتراك؟ فصاروا في ممالكهما وأيديهما.
ونسأل الله السلامة.
مثل آخر على تيقظ المعتضد وعلو همتهحدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، قال: حدثني أبو علي الحسن بن إسماعيل بن إسحاق القاضي، وكان ينادم المعتضد، ويتجاسر عليه، قال: كنا نشرب يوماً مع المعتضد، حتى دخل عليه بدر، فقال: يا مولاي، قد أحضر القطان الذي من بركة زلزل.
قال: فترك مجلس النبيذ، وقام إلى مجلس في آخر ذلك المجلس، ودونه، ونحن نراه ونسمع كلامه، ومدت بيننا وبينه ستارة، ولبس قباء، وأخذ بيده حربه، وجلس كالمغضب المهول، حتى فزعنا نحن منه، مع أنسنا به.
وأدخل إليه شيخ ضعيف، فقال له بصياح شديد: أنت القطان الذي قلت أمس ما قلت؟ فغشي على القطان، فأمر به فعزل ناحية.
فلما سكن جاءوه به، فقال: ويلك، مثلك يقول ليس للمسلمين ناظر في أمورهم، فأين أنا؟ وأي شغل شغلي؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل سوقي، لا أعرف غير الغزل والقطن ومخاطبة النساء والعامة، وإنما اجتاز بنا رجل بايعنا شيئاً كان معه، فوجدنا ميزانه ناقصاً، فقلت هذا الكلام، وعنيت به المحتسب لا غيره.
فقال له المعتضد: الله، إنك أردت به المحتسب؟ فقال: والله ما عنيت غيره، وأنا تائب أن أتكلم بما يشبه هذا.
فقال: يحضر المحتسب، ويبالغ في الإنكار عليه لم غفل عن إنكار مثل هذا، ويؤمر بتعييره، وتتبع الطوافين، وأهل الأسواق، والتعيير عليهم.
وقال للشيخ: انصرف، لا بأس عليك، ودخل، فضحك، وانبسط، وعاد يشرب.
فلما حمل علي النبيذ، قلت له: يا مولاي، تعرف فضولي، فتأذن لي في أن أقول؟ فقال: قل.
قلت: كان مولانا في أطيب شرب، وأتم سرور، فتركه، وتشاغل عنه بخطاب كلب من السوقة، كان يكفيه أن يصيح عليه راجل من رجالة صاحب الربع صيحة، ولم يقنع مولانا في أمره بالوصول إلى حضرته، حتى غير له لبسته، وشهر سلاحه، واستقصى خطابه بنفسه، لأجل كلمة تقول العامة مثلها دائماً، ولا يميزون معناها.
فقال: يا حسن، أنت لا تعلم ما يجر هذا الكلام، إن مثل هذا إذا انتشر على ألسنة العوام، تلقفه بعضهم من بعض، وتجرأوا عليه، وربوا على قوله، حتى يصير منهم كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يبعد أن يولد ذلك لهم امتعاضاً عند أنفسهم للسياسة والدين، فتثور الفتن على السلاطين.
وليس شيء أبلغ في حسم ذلك، من قطع مادته من الأصل في أوله.
فإن هذا، مما جرى عليه، قد طارت روحه، فهو يخرج، ويحدث بأضعاف ما لحقه من الإنكار، وأكثر مما شاهده من الهيبة والفخامة، وفوق ما سمعه من المطالبة بموجبات السياسة، ومر الحقيقة ، فينتشر عند العوام ما نحن عليه من التيقظ، وإن كلمة تكلم بها الرجل منهم لم تخف علي، وما غفلت عن مناظرة صاحبها، وعقابه فيعرفوني بذلك، فيعنيني ذلك عن أفعال كثيرة، ويحذر جميعهم، ويضبط نفسه، وتنحسم مادة شر.
لو جرى، لأحتيج إلى ضروب من الكلف غليظة في صلاحه، قد انحسمت بيسير من القول والفعل.
فأقبلنا ندعو له ونطريه أنا والجماعة.
مثل على ضبط المعتضد أمر جندهوتشدده في منعهم من التعدي: حدثني وكيل كان لأبي القاسم ابن أبي علان، سلمه إلي بتوكيل في ضيعتي بالأهواز، وكان ابن أبي علان يقول إنه أسن منه، وكان ثقة، ما علمت، يقال له: ذو النون بن موسى، قال: كنت غلاماً، والمعتضد إذ ذاك بكور الأهواز، فخرجت يوماً من قرية بمناذر يقال لها شانطف، أريد عسكر مكرم، ومعي حمار أنا راكبه، وهو موقر بطيخاً، قد حملته من القرية لأبيعه في البلد، يعني العسكر.
فلقيني جيش عظيم لم أعلم ما هو، وتسرع إلي منهم جماعة، وأخذ واحد منهم ثلاث بطيخات أو أربعاً، وحرك.
فخفت أن ينقص عدده، فأتهم به، فبكيت، وصحت، والحمار يسير بي على المحجة، والعسكر يجتاز عليها.
فإذا بكوبكبة عظيمة يقدمها رجل منفرد، فوقف، وقال: ما لك يا غلام تبكي وتصيح؟ فعرفته حالي، فوقف بي، ثم التفت إلى القوم، فقال: هي، علي بالرجل الساعة.
قال: فكأنه كان وراءه، حتى ورد في سرعة الطرف.
فقال: هذا هو يا غلام؟ فقلت: نعم.
فأمر به فبطح وضرب المقارع، وهو واقف، وأنا على حماري، والعسكر واقف.

وجعل يقول، وهو يضرب: يا كلب، يا كذا وكذا، ما كان معك ثمن هذا البطيخ؟ ما كان في حالك فضل لشرائه؟ ما قدرت تمنع نفسك منه؟ هو مالك؟ مال أبيك؟ أليس هو الرجل الذي قد تعب بنفسه في زرعه، وسقيه، وماله، وأداء خراجه؟ أليس كذلك؟ أليس كذلك؟ يعدد عليه أشياء من هذا الجنس، والمقارع تأخذه، إلى أن ضربه نحو مائة مقرعة.
ثم أمره برفعه، فرفع، وسار، وسار الناس.
فأخذ الجيش يشتمونني، ويقولون، يضرب فلان بسبب هذا الأكار الخوزي، لعنه الله، مائة مقرعة.
فسألت بعضهم عن الخبر، فقال: هذا الأمير أبو العباس.
شدة ضبط المعتضد عسكرهحدثني عبد الله بن عمر الحارثي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون، قال: كان المعتضد، في بعض متصيداته، مجتازاً بعسكره، وأنا معه، فصاح ناطور في قراح قثاء، فاستدعاه، وسأله عن سبب صياحه.
فقال: أخذ بعض الجيش من القثاء شيئاً.
فقال: أطلبوهم، فجاءوا بثلاثة أنفس.
فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناطور: نعم.
فقيدهم في الحال، وأمر بحبسه.
فلما كان من الغد، أنفذهم إلى القراح، فضرب أعناقهم فيه، وسار.
فأنكر الناس ذلك، وتحدثوا به، ونفرت قلوبهم منه.
ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة، فقال لي: يا أبا عبد الله هل يعيب الناس علي شيئاً؟ عرفني حتى أزيله.
قلت: كلا، يا أمير المؤمنين.
فقال: أقسمت عليك بحياتي، إلا ما صدقتني.
قلت: وأنا آمن؟ قال: نعم.
قلت: إسراعك إلى سفك الدماء.
قال: والله، ما هرقت دماً منذ وليت هذا الأمر، إلا بحقه.
قال: فأمسكت إمساك من يتبين عليه الكلام.
فقال: بحياتي ما يقولون؟ قلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيب، وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة.
قال: دعاني إلى الإلحاد، فقلت له: يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة، وأنا الآن منتصب منصبه، فألحد حتى أكون من؟ وكان قال لي: إن الخلفاء لا تغضب، فإذا غضبت لم ترض، فلم يصح إطلاقه.
فسكت، سكوت من يريد الكلام.
فقال لي: في وجهك كلام.
فقلت: الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة أنفس، الذين قتلتهم في قراح القثاء.
فقال: والله، ما كان أولئك المقتولين هم الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصاً حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر أصحاب القثاء، فأردت أن أهول على الجيش، بأن من عاث من عسكري، وأفسد بها القدر، كانت هذه عقوبتي له: القتل، ليكفوا عما فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم في الحال، وإني حبستهم، وأمرت بإخراج اللصوص في غد مغطين الوجوه، ليقال إنهم أصحاب القثاء، ويقتلون بفعل ذلك.
فقلت: كيف تعلم العامة هذا؟ قال: بإخراجي القوم الذين أخذوا القثاء، أحياء، وإطلاقي لهم في هذه الساعة.
ثم قال: هاتم القوم، فجاءوا بهم، وقد تغيرت حالهم من الحبس والضرب.
فقال لهم: ما قصتكم؟ فاقتصوا عليه قصة القثاء.
فقال لهم: أفتتوبون من مثل هذا الفعل، حتى أطلقكم؟ فقالوا: نعم.
فأخذ عليهم التوبة، وخلع عليهم، ووصلهم، وأمر بإطلاقهم، ورد أرزاقهم عليهم.
فانتشرت الحكاية، وزالت عنه التهمة.
بين المعتضد ونديمه ووزيرهحدثني أبي، عن أبي محمد، عبد الله بن حمدون، قال: قال لي المعتضد، يوماً، وقد قدم إليه عشاء على النبيذ: لقمني.
قال: وكان الذي قدم إليه فراريج، ودراريج، فلقمه من صدر فروج.
فقال: لا، لقمني من فخذه.
فلقمته لقماً.
ثم قال: هات من الدراج، فلقمته من أفخاذها.
فقال: ويلك، هو ذا تتنادر علي؟ هات من صدورها.
فقلت: يا مولاي، ركبت القياس، فضحك.
فقلت له: إلى كم أضحكك، ولا تضحكني؟ قال: شل المطرح، وخذ ما تحته.
قال: فشلته، فإذا بدينار واحد.
فقلت: آخذه هذا؟ فقلت له: بالله، هوذا تتنادر أنت الساعة علي؟ خليفة يجيز نديمه بدينار واحد؟ فقال: ويلك، لا أجد لك في بيت المال حقاً أكثر من هذا، ولا تسمح نفسي أن أعطيك من مالي شيئاً، ولكن هوذا، أحتال لك بحيلة، تأخذ فيها خمسة آلاف دينار.
فقبلت يده.
فقال: إذا كان غداً، وجاء القاسم فهو ذا أسارك حين تقع عيني عليه، سراراً طويلاً، ثم ألتفت إليه كالمغضب، وانظر أنت إليه من خلال ذلك، كالمخالس لي، نظر المترثي.
فإذا انقطع السرار، فستخرج، ولا تبرح من الدهليز.

فإذا خرجت، خاطبك بجميل، وأخذك إلى دعوته، وسألك عن حالك، فاشك الفقر والخلة، وقلة حظك مني، وثقل ظهرك بالدين والعيال، وخذ ما يعطيك، واطلب كل ما تقع عينك عليه، فإنه لا يمنعك، حتى تستوفي الخمسة آلاف دينار.
فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى بيننا، فاصدقه، وإياك أن تكذبه، وعرفه أن ذلك، حيلة مني عليه، حتى وصل إليك هذا، وحدثه بالحديث على شرحه، وليكن إخبارك إياه، بعد امتناع شديد، وإحلاف منه بالطلاق والعتاق أن تصدقه، وبعد أن تخرج من داره، كل ما يعطيك إياه.
فلما كان من غد، حضر القاسم، فحين رآه، بدأ يساررني، وجرت القصة، على ما واضعني عليه، فخرجت، فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني.
فقال لي: يا أبا محمد، ما هذا الجفاء؟ لا تجيئني، ولا تزورني، ولا تسألني حاجة، فأقضيها لك، فدعوت له.
فقال: ما يقنعني إلا أن تزورني اليوم، ونتفرج.
فقلت: أنا خادم الوزير.
فأخذني إلى طياره، وجعل يسألني عن حالي، وأخباري، فاشكو إليه الخلة، والإضافة، والدين، وجفاء الخليفة، وإمساك يده، فيتوجع، ويقول: يا هذا، مالي مالك، ولن يضيق عليك، ما اتسع علي ولا تتجاوزك نعمة تخلصت إلي، أو يتخطاك خط نازل بفنائي، ولو عرفتني لعاونتك، وأزلت هذا عنك.
فشكرته وبلغنا إلى داره، فصعد، ولم ينظر في شيء، وقال: هذا يوم أحتاج أن اختص فيه بالسرور بأبي محمد، فلا يقطعني عنه أحد.
فأمر كتابه بالتشاغل بالأعمال، وخلا بي في دار الخلوة، وجعل يحادثني ويبسطني، وقدمت الفاكهة، فجعل يلقمني بيده، وجاء الطعام، فكانت فكانت هذه سبيله، وهو يستزيدني.
فلما جلس للشرب، وقع لي بثلاثة آلاف دينار مالاً، فأخذتها في الوقت.
وأحضرني ثياباً، وطيباً، ومركوباً، فأخذت ذلك.
وكانت بين يدي صينية فضة، فيها مغسل فضة، وخرداذي بلور، وكوز وقدح بلور، فأمر بحمله إلى طياري.
وأقبلت كلما رأيت شيئاً حسناً، له قيمة وافرة، طلبته منه.
وحمل إلي فرشاً نفيساً، وقال: هذا للبنات.
فلما تفوض المجلس، خلا بي، وقال: يا أبا محمد، أنت عالم بحقوقي عليك، مودتي لك.
فقلت: أنا خادم الوزير.
فقال أريد أن أسألك عن شيء، وتحلف لي أنك تصدقني عنه.
فقلت: السمع والطاعة، فأحلفني بالله، وبالطلاق، والعتاق، على الصدق.
ثم قال لي: بأي شيء ساررك الخليفة اليوم في أمري؟ فصدقته عن كل ما جرى، حرفاً بحرف.
فقال: فرجت عني، وأن يكون هذا كهذا، مع سلامة نيته لي، أسهل علي.
فشكرته، وودعته، وانصرف إلى بيتي.
فلما كان من الغد، باكرت المعتضد، فقال: هات حديثك.
فسقته إلى آخره.
فقال: احتفظ بالدنانير، ولا يقع لك، أنك تعامل بمثل هذا بسرعة.
وحدثني أبو السري، محمد بن عمر التازي البغدادي، ويعرف بابن عتاب السقطي، قال: حدثني أبو الطيب واثق بن رافع، مولى ابن أبي الشوارب، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون، بهذا الحديث، فأورده بغير هذه الألفاظ، والمعنى واحد.
إلا أنه ليس في حكاية واثق، العشاء بالفراريج والدراريج، ولا أن المعتضد وهب له ديناراً.
وأول حكاية واثق عن ابن حمدون، قال: شكوت إلى المعتضد، ديني وإضاقتي، فقال: أما مالي فلا أطمع لك فيه، ولكن أعمل لك حيلة، وذكر الحكاية.
عاشق تسبب في قتل حبيبته وزوجها ومن الأخبار المفردات، والإتفاقات التي سمعناها، وشاهدنا بعضها، ما أخبرني به أبو القاسم الجهني قال: كان في جواري ببغداد، امرأة جميلة مستورة، ولها ابن عم يهواها، كان ربي معها، فعدل بها أبوها عنه، إلى رجل غريب، زوجه بها، فكان ابن العم، يلزم بابها، طمعاً فيها، وأحس الزوج بذلك، فكان يتحرز، وكان خبيثاً.
فخرج يوماً في بعض شأنه، وأرادت المرأة أن تتبرد، فنزعت ثيابها، وجلست عند البئر تغتسل، وتركت خواتيم الذهب، كانت في يدها، عند ثيابها في الدار، وكانت لطيفة، وفيها عقعق مخلى في الدار، فأخذ الخواتيم، وخرج وهي في منقاره، إلى الباب، على عادة العقاعق، في أخذ كلما يجدونه وخبئه.
فوافق خروجه، اجتياز ابن عمها، ورأى الخواتيم، فسعى خلف العقعق، وأخذها منه، ولبسها، وقعد بالباب، ليراه زوج المرأة، فيظن أنه كان عندها، فيطلقها، فيتمكن هو من تزوجها.

فجاء الزوج، فقام ابن العم مسلماً عليه، وتعمد أن يرى الخواتيم في يده وانصرف، فعرفها الزوج، ودخل، فرأى امرأته تغتسل، فلم يشك إنه غسل جنابة، وأن ابن العم قد، قد وطئها.
فقال لجارية كانت معهم: اذهبي في حاجة كذا، فمضت فيها، وغلق الباب، وأضجع المرأة، ولم يسلها عن شيء، وقتلها.
وعادت الجارية، فرأت ستها مقتولة، فريعت، وخرجت، وصاحت، فبدر الجيران به، وأهلها، فقبضوا عليه، وحمل إلى السلطان، فقتل بها.
فأخرج ابن العم الحديث، وكان ذلك سبب توبته، ولزم العبادة، وترك الدنيا إلى أن مات.
كلب يكشف عن قاتل سيدهومنها: إن مبشر الرومي، مولى أبي، حدثني: إنه سمع مولى كان له قبل أبي، يعرف بأبي عثمان، زكريا المدني، ويقال له: ابن فلانة، وكان هو تاجراً جليلاً، عظيماً، كثير المال، مشهوراً بالجلالة، ولاثقة، والأمانة، يحدث: إنه كان في جواره ببغداد، رجل من أصحاب العصبية، يلعب بالكلاب.
فأسحر يوماً في حاجة، وتبعه كلب كان يختصه من كلابه، فرده، فلم يرجع، فتركه.
ومشى، حتى انتهى إلى قوم كانت بينه وبينهم عداوة، فصادفوه بغير حديد، فقبضوا عليه، والكلب يراهم، فأدخلوه، فدخل معهم، فقتلوه، ودفنوه في بئر في الدار، وضربوا الكلب، فسعى، وخرج وقد لحقته جراحة، فجاء إلى بيت صاحبه يعوي، فلم يعبأوا به.
وافتقدت أم الرجل، ابنها، يومه وليلته، فتبينت الجراحة بالكلب، وأنها من فعل من قتل ابنها، وأنه قد تلف، فأقامت عليه المأتم، وطردت الكلاب عن بابها.
فلزم ذلك الكلب الباب، ولم ينطرد، فكانوا يتفقدونه في بعض الأوقات.
فاجتاز يوماً، بعض قتلة صاحبه بالباب، وهو رابض، فعرفه الكلب، فخمش ساقه، ونهشه، وعلق به.
واجتهد المجتازون في تخليصه منه، فلم يمكنهم.
وارتفعت ضجة، وجاء حارس الدرب، فقال: لم يتعلق هذا الكلب بالرجل، إلا وله معه قصة، ولعله هو الذي جرحه.
وخرجت أم القتيل، فحين رأت الرجل، والكلب متعلقاً به، وسمعت كلام الحارس، تأملت الرجل، فذكرت أنه كان أحد من يعادي ابنها ويطلبه، فوقع في نفسها إنه قاتل ابنها، فتعلقت به، وادعت عليه القتل، وارتفعا إلى صاحب الشرطة، فحبسه، بعد أن ضرب، ولم يقر، ولزم الكلب باب الحبس.
فلما كان بعد أيام، أطلق الرجل، فحين أخرج من باب الحبس، علق به الكلب، كما فعل أولاً، فعجب الناس من ذلك.
وأسر صاحب الشرطة، إلى بعض رجالته، أن يفرق بين الكلب والرجل، ويتبع الرجل ويعرف موضعه، ويترصده، ففعل ذلك.
فما زال الكلب، يسعى خلف الأول، والراجل يتبعه، إلى أن صار في بيته.
وأقبل الكلب يصيح، ويبحث في موضع البئر التي طرح فيها القتيل.
فقال الشرطي: انبشوا موضع نبش الكلب، فنبش، فوجد الرجل قتيلاً.
فأخذ الرجل، وضرب، وأقر على نفسه، وعلى جماعة بالقتل، فقتل هو، وطلب الباقون، فهربوا.
خبأ ماله في برنيةفعجل ذلك في سرقتها: ومنها، إن أبا الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، حدثني، قال: كان لنا صديق، مستظهر على الزمان، قد سلم على الحوادث، عمره كله.
فلما تواترت الكبسات ليلاً ببغداد، خاف على مال عنده عتيد، فجعل ثلاثة آلاف دينار عيناً، في برنية، وحفر لها في عرض حائط، كان بين بيتين من داره، وكانت الحفيرة قريبة من زاوية الحائط، والزاوية على الطريق، ومضى على هذا مدة.
فجاء اللصوص، ينقبون على داره، فوقع نقبهم على زاوية، فقدروا أن الحائط عرضاً، فنقبوا في طوله من حيث الزاوية، فوصلوا إلى البرنية، فأخذوها.
فلما شاهدوا ما فيها اكتفوا به، وانصرفوا، ولم يدخلوا الدار.
وتضعضعت حال الرجل.
الأمير عماد الدولة بن بويهتقع عليه حية فيجد كنزاً: ومنها: ما حدثني به أبو الحسن بن مهذب القزويني، كاتب سوريل أحد قواد الديلم، قال: لما ملك الأمير عماد الدولة، أحمد بن بويه، شيراز، ظهر له من الكنوز القديمة، والقريبة، أمر عظيم، على أوصاف طريفة.
فكان منها: إنه دخل مستراح دار الإمارة، التي يسكنها، فسقطت عليه حية من سقف المستراح، وكان أزجاً عتيقاً، فارتاع لذلك، وأمر بنقضه، فوجد خمسين ألف دينار عيناً.
الأمير عماد الدولة يجد كنزاً
في خان مهجور: قال: وكنت قائماً بحضرته يوماً، فسعي إليه ببيت في خان في السوق، وأن فيه ودائع عظيمة القدر، لبعض أصحاب ياقوت.
فقال لي: امض فخذها.

فجئت، وفتحت الباب، وإذا بشيء كثير، فاستدعيت كاتباً آخر، وجلسنا نحصي.
فوقعت عيني على بيت في آخر الخان، مقفل بعدة أقفال، قد رثت، لعتقها، ووقع في نفسي أن فيه وديعة أخرى لبعض أصحاب السلطان.
فقلت للخاني: لمن هذا البيت، وأي شيء فيه؟ فقال: لا أدري، إلا أنه مقفل منذ أكثر من ثلاثين سنة.
فقوي طمعي فيه، فقلت: افتحوه، ففتحوه، فلم يجدوا فيه شيئاً.
فاستربت بالأمر، وقلت: بيت عليه عدة أقفال، طول هذه السنين، فارغ؟ هذا محال، فتشوه.
وفتش بدن الحائط، فلم يجدوا شيئاً.
فقلعت بارية فيه، وأمرت بالحفر، فحفر، ولم نر شيئاً.
وعزمنا على الإنصراف، فوجدنا خمس قماقم مملوءة دنانير، فحملناها إلى الأمير، وحدثته بالحديث، فوهب لي منها، ألف دينار.
الأمير معز الدولة يستخرج كنزاً من المدائن
ومن ذلك: ما اخبرني به الحسن بن محمد الحسين الجبائي، قال: حدثني أبو الحسن الدامغاني، صاحب معز الدولة: إنه كان جالساً في الدهليز، في يوم نوبة، فجاء رجل يصيح: نصيحة.
فقلت له: ما هي؟ قال: لا أخبر بها إلا الأمير.
فدخلت، فعرفته، فقال: هاته، فأدخلته إليه.
فقال: أنا رجل صياد بناحية المدائن، وكنت أصيد، فعلقت شبكتي في أسفل جرف بشيء، ولم أدر ما هو، فخلصتها، فتعذرت، فغصت في الماء، فوجدتها متعلقة بعروة حديد، فحفرت، فإذا بقمقم مملوء، فرددته إلى مكانه، وجئت أعرف الأمير.
فقال لي: انحدر الساعة معه، وأحضرني المال، ورد الرجل إلي على حاله.
فانحدرت، وجئت إلى المدائن العتيقة، والجرف، ووجدنا القمقم بحاله، كما قال الرجل.
فتتبعت نفسي الطلب، وأمرت بأن يحفروا، ويطلبوا.
فحفروا، وأطالوا الحفر كثيراً، فوجدنا ثمانية قماقم أخر، مالاً.
فحملت الجميع، والرجل، إلى الأمير، وحدثته بالحديث، ففرح بذلك، وقال: أعطوا الرجل من المال عشرة آلاف درهم، واصرفوه.
فقال الرجل: لا أريد ذلك، ولا حاجة لي إليه.
فقال له الأمير: ولم؟ قال: أريد أن تهب لي الصيد في تلك الناحية، وتأمر بأن يمنع كل أحد من أن يصطاد فيها غيري.
فضحك الأمير، وجعل يعجب من حماقته، وقال: اكتبوا له بما سأل.
فكتب له بذلك.
كردك النقيب الديلمييغتال مستأمناً طمعاً في ماله: ومنها: ما جرى في عصرنا، وأخبرت به، من أمر كردك النقيب: وذلك، إن معز الدولة، أنفذه إلى رجل بعمان، يقال له النوكاني، كان قد ملكها عقيب انقراص بني وجيه، ملوكها، فراسله في تسليمها إليه، وتهدده بالجيش.
وكان الرجل تاجراً موسراً، إلا أن أهل البلد ملكوه، فملك.
فلما جاءته الرسالة، انحل، وأجاب إلى تسليم البلد.
وخلع على كردك ورده.
فاضطرب أهل البلد عليه، وجيشه، وثاروا به، وقبضوا عليه، وخيروه موضعاً ينفى إليه، فاختار البصرة.
وجمع متاعه، وأمواله، وصكاك ضياعه وعقاره، بعمان، والبصرة، وحسابه، وثبت ودائعه، وذخائره، وكل ما يملكه، قليل، وكثير، وعتيد.
قال: وجعله في مركب، وخطف يريد البصرة، وقد احتوى مركبه على مال كثير.
فلقيه كردك في الطريق يريده، وعنده أنه بعمان، بجواب الرسالة.
فلما رآه طرح إليه، فعرفوه خبره، فوجده في نفر يسير، فطمع فيه، وبات معه في مركبه، ونقل إليه من غلمانه قطعة.
فلما كان الليل، قيده، وطرحه في البحر، واحتوى على جميع ما في المركب، ونقل، إلى مركبه، من الجواهر، والطيب، وفاخر المتاع، والجواري، وما أراد، وترك الباقي في المركب.
وسار حتى أتى معز الدولة، فعرفه ما عمل، وسلم إليه عقود الضياع، وثبت الودائع، واستوهب منه من بقي من الجواري، وأشياء أرادها أيضاً من المتاع، فوهبها له.
وطاح دم الرجل.
وقبض الأمير الضياع، وأمر ببيعها، فبيعت، وقد شاهدت بيعها.
وبلغني، أن المشترين، كانوا يستلمون كتب الرجل بشرائها، فتسلم إليهم.
ابن الحراصة يضمن القمار والفجور ببغدادوحماية اللصوص بألفي درهم في كل شهر: ومن ذلك: ما كان يجري ببغداد من رجل يعرف بابن الحراصة، نفاط، مع قائد من قواد الديلم، يقال له أبو الحسن شيرمردي بن بلعباس قاضي الديلم.
وكان هذا النفاط، مظهراً للقمار، والعيارة، والفجور، وبيع الخمور، وتأوي إليه اللصوص، فلا ينكر أحد ذلك عليه، لأجن شيرمردي، وضمانه ذلك منه، بألفي درهم، في كل شهر.

وبلغني: أنه كان إذا عجز عليه مال الضمان، قبض على من يجتاز ببابه، ويدخلهم فيها، ويقال لهم: إما وطئتم ما تريدون، وزنتم كذا وكذا، أو لا، فزنوه وانصرفوا، ولا يخرجون إلا بذلك.
وكان ينزل الجانب الشرقي، بقرب الجسر، وباب الطاق، في الموضع المعروف ببين القصرين، بدار الجاشياري، على دجلة.
ابن الحراصة ترتكب الفاحشة في داره علانيةفحدثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال: اجتزت بداره من الشط، فرأيت في صحنها، ظاهراً بغير استتار، نفسين يتجامعان.
فقلت لمن كان معي في السمارية، اعدلوا بنا ننكر هذا.
فطرحنا إليهما، وأخذت الجماعة ترجمهما من الشط، وتستنفر الناس.
فقال بعض من معنا: لعنكما الله، ما كان في الدار بيت تدخلون فيه؟ فذكرت في الحال ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: عند ظهور المنكر، أشد الناس أمراً بالمعروف، من يقول ألا تواريتما، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ونزل إلينا أصحاب ابن الحراصة، فخفنا منهم على نفوسنا، وجلسنا في السمارية،وانصرفنا.
فلم يزل كذلك، إلى أن زاد، وأكثر على معز الدولة في استقباح ذلك، فأمر بكبسه، فهرب، وتفرقت جموعه.
إمرأة تشوي ولدها وتأكلهومنها: إن أحمد بن إبراهيم الجعفي، أحد شهودي - كان - بقصر ابن هبيرة، وأنا أتقلدها، إذ ذاك، أخبرني: إنه شاهد في وقت الغلاء الشديد الذي كان ببغداد، ونواحيها، في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، امرأة قد شوت ولدها، وجلست تأكله.
ففطن المسلمون بها، فأخذوها، وبقيت معها حتى حملوها إلى السلطان، فقتلها.
وقد أخبرني عدد كثير من أهل بغداد، أن هذا جرى عندهم في هذا الوقت، وأنهم شاهدوه.
واختلف علي قول بعضهم، لأن فيهم من قال: شوت ابناً لجارة كانت لها، ومنهم من قال: ابناً لها، ومنهم من قال: ابنة جارتها.
وأي شيء حصل له من ذلك، فهو طريف عظيم.
عشرون ألف درهمثمن كر واحد من الحنطة: حدثني أبو الحسين بن عياش القاضي، قال: حدتني أبو عبد الله الموسوي العلوي، البغدادي: إنه باع في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، عند اشتداد الغلاء، على معز الدولة، وهو محاصر، مقيم بظاهر بغداد من الجانب الغربي، كراً معدلاً حنطة، بعشرين ألف درهم.
قال: ولم أخرج الغلة حتى تسلمت المال، وحصل في داري، ثم أخرجت الغلة فاكتالوها، وأخذوها.
فنعوذ بالله من مثل هذه الأحوال.
أبو الفرج الببغاء يمتدح الأمير سيف الدولةأنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المعروف بالببغاء، لنفسه قصيدته إلى سيف الدولة، يذكر وقعة كانت له مع بعض العرب، وهي:
عدل الصوارم أعدل الأحكام ... وشبا الأسنة أكتب الأقلام
أخلق بمن كفر الغنى أن يغتدي ... كفرانه سبباً إلى الإعدام
من كان في الإكرام مفسدة له ... فهوانه أولى من الإكرام.
هذا البيتان من الأمثال الجياد، التي يجب أن تسير.
وفي هذه القصيدة أشياء حسان، منها قوله:
فتركتهم صرعى كأنك بالظبي ... عاطيتهم في الروع كأس مدام
متهاجرين على الدنو كأنما ... أنفت رؤوسهم من الأجسام.
الجزء الثاني
علو نفس أبي جعفر القاضيحدثني أبي، رضي الله عنه، قال: حدثني سهل بن عبد الله الإيذجي،وكان أحد شهودها ووجوهها، ويخلفني على القضاء، وغيري، بها طويلاً، قال: حدثني أبي، وكان رئيس البلد، ومن وجوه شهوده: أن أبا جعفر، محمد بن منصور القاضي، لما تقلد كور الأهواز، من قبل المتوكل، أول دفعة، ووردها، احب أن يطوف عمله.
قال: وكان شديد الشرف، عظيم النعمة والنفقة في مروءته، حتى إنه كان يستعمل في مطبخه، بدلاً من الشيرج، دهن اللوز والجلوز.
وكان في داره رحى لطيفة، يديرها حمار له، يستخرج عليها دهن اللوز دائماً.
وكان يستعمل في مطبخه، من اللحم، والدجاج، والفراخ، والحملان، والجداء، أكثر مما يتخذه الوزراء، في كثير من الأمور.
فقدم علينا، فأبعدنا في تلقيه، وسألناه النزول علينا، فامتنع.
وقال: لا يجوز للقاضي أن ينزل على أحد.
فقلنا له: فنفرغ لك أحد المنازل، فكأنه أجاب إلى هذا.
وسبقناه إلى البلد، فأخلينا له داراً من دورنا، وجاء فيها فنزل.

فاجتهدنا في قبول غلمانه لطفاً منا، أو شيئاً، قليلاً أو كثيراً، فامتنعوا، وقالوا: إنه متى علم أنكم فعلتم ذلك، صارت عداوة، وما قبل لأحد من خلق الله شيئاً قط.
فلما كان بعد أسبوع استدعاني، فقال لي: يا أبا محمد، كيف سعر الخبز عندكم؟ فقلت: خمسون رطلاً بدرهم.
فقال: فالدجاج؟ فقلت: ثلاث بدرهم.
فقال: فالفراخ؟ فقلت: ستة بدرهم.
قال: فالجداء؟ فقلت: أجود جدي بدرهمين.
وأخذ يسائلني عن العسل، والسكر، وحوائج السقط، وغير ذلك.
من الفواكه، والثلج، وأنا أخبره بسعر البلد على الحقيقة، بالذي يشترى لنا، ولسائر الناس مثله، ويقول: أهكذا يشترى لكم؟ فأقول: نعم.
فلما استتم الكلام، قال: يا غلام، قل للموكلين، والفراشين، أن يحملوا، ويشدوا الثقل على البغال والجمال، وتقدم إلى الغلمان بالمسير مع السواد، وأن يتخلف معي للركوب من جرت عادته بذلك، وأسرجوا لي الدواب والعمارية، فقلت: أحدث، أعز الله القاضي، أمر؟ .
فقال: نعم، إنني أحاسب وكيلي، في كل أسبوع يوماً، على ما ينفقه في طول الأسبوع، ولما كان البارحة، حاسبته، فرفع إلي من أسعار ما اشتراه، مثل ما ذكرت، فكدت أن أوقع به، ولم أشك في أنكم قد دسستم إلى الباعة، أن يبيعوه بهذا السعر، إرفاقاً لنا، لما امتنعنا من قبول هداياكم، ثم توقفت عن الإيقاع به، إلى أ، أسألك عن الصورة، وأكشف.
فلما جئتني اليوم، وسألتك، وأنت عندي مقبول الشهادة، وقلت لك، أن تخبرني، كيف تشتري أنت وأهل البلد، فأخبرتني أنك وهم تشترون بهذا، علمت أن هذا بلد لا تقوم فيه مروءة لشريف، وأن الضعيف والشريف فيه يتساويان في اللذات والمروءات، فلا حاجة لي بالمقام فيه، ولا بد أن أرحل الساعة، وأجعل مقامي بحيث تبين مروءتي، وتظهر نعمة الله عندي.
قال: ورحل عنا من يومه.
الحكم كالسهم إذا نفذ لم يمكن ردهوحدثني أبي، رضي الله عنه، إن بعض المعمرين من الشهود بالأهواز، حدثه وذكر هو الشاهد وأنسيته أنا، عن أبيه أو بعض أهله، قال: كان محمد بن منصور، يتقلد القضاء بكور الأهواز، وعمر بن فرج الرخجي، يتقلد الخراج بها.
وكانا يتوازيان في المرتبة السلطانية، فلا يذهب القاضي إلى الرخجي إلا بعد أن يجيئه، ويتشاحان على التعظيم. وترد كتب الخليفة إليهما، بخطاب واحد، قال: وتولدت من ذلك، عداوة بينهما، فكان الرخجي يكتب في القاضي، إلى المتوكل، فلا يلتفت إلى كتبه، لعظم محله عند المتوكل، ويبلغ ذلك القاضي، فيقل الحفل به، ويظهر الزيادة في التعاظم عليه.
فلما كان في بعض الأوقات، ورد كتاب المتوكل، على الرخجي، يأمره بأمر في معنى الخراج، وأن يجتمع مع محمد ابن منصور القاضي، ولا ينفرد عنه، وورد بالكتاب، خادم كبير من خدم السلطان.
فأنفذ الرخجي إلى القاضي، فأعلمه، وقال: يصير إلى ديوان الخراج لنجتمع فيه على امتثال الأمر.
فقال القاضي: ولكن تصير أنت إلى الجامع، فنجتمع فيه، وتردد الكلام بينهما، إلى أن قال الرخجي للخادم: ارجع إلى حضرة أمير المؤمنين،واذكر القصة، وإن قاضيه يريد إيقاف ما أمر به.
وبلغه الخبر، فركب محمد بن منصور، إلى الديوان، ومعه شهوده، فدخله، والرخجي فيه في دست، وكتابه بين يديه، فلما بصروا به، قاموا إليه، إلا الرخجي.
فعدل القاضي عن موضعه في الديوان، فجلس في آخر البساط، بعد أن أمر غلامه، فطوى البساط، وجلس على البارية، وحف شهوده به، وجاء الخادم، فجلس عند القاضي، وأوقفه على الكتاب.
ولم يزل الرخجي، يخاطب القاضي، وبينهما مسافة، حتى فرغوا من الأمر.
فلما فرغوا، قال الرخجي، للقاضي: يا أبا جعفر، ما هذه الجبرية؟ لا تزال تتورع بي، وتتحكك بمنافرتي ومضاهاتي، وتقدر أنك عند الخليفة - أطال الله بقاءه - مثلي، ومحلك يوازي محلي.
قال: وأسرف في هذا الجنس من الفن، وحمي في الخطاب، والقاضي ساكت.
إلى أن قال الرخجي، في جملة الكلام: والخليفة - أعز الله نصره - لا يضرب على يدي في أمواله التي بها قيام دولته، ولقد أخذت من ماله، ألف ألف دينار،وألف ألف دينار، فما سألني عنها.
وإنما إليك أن تحلف منكراً على حق، أو تفرض على لامرأة على زوجها، أو تحبس ممتنعاً عن أداء حق.
وأخذ يعدد هذا وشبهه، وأبو جعفر، كلما ذكر الرخجي ألف ألف دينار، وثنى القول، يعدد بأصابعه، وقد كشفها ليراها الناس.

فلما أمسك عمر، لم يجب بشيء، وقال: يا فلان الوكيل.
قال: لبيك أيها القاضي.
قال: سمعت ما جرى؟ قال: نعم.
قال: قد وكلتك لأمير المؤمنين وللمسلمين، على هذا الرجل في المطالبة بهذا المال.
فقال له الوكيل: إن رأى القاضي أن يحكم بهذا المال للمسلمين.
قال: والرخجي ممسك، والناس حضور على بكرة أبيهم، لا يدرون ما يريد أن يفعل.
قال: فأخذ محمد بن منصور دواة، وكتب بخطه في مربعة سجلاً بذلك المال.
ورمى به إلى الشهود، وقال: اشهدوا على إنفاذ الحكم بما في هذا الكتاب، وإلزامي فلان ابن فلان، هذا، وأومأ بيده إلى الرخجي، بما أقر به عندي من المال المذكور مبلغه في هذا كتاب للمسلمين.
وكتب الشهود خطوطهم بالشهادة بذلك، وختموها، وأخذها محمد ابن منصور، وجعلها في كمه، ونهض.
وأخذ الرخجي يهزأ بالقاضي، ويظهر التهاون بفعله ذلك.
وقال له لما أراد القيام، طانزاً: يا أبا جعفر، بالغت في عقوبتي، قتلتني.
فقال أبو جعفر: إي والله.
فما سمعناه أجابه بغيرها، وافترقا، وكتب صاحب الخبر، للوقت إلى المتوكل.
قال: فبلغنا أن كتابه لما عرض على المتوكل، أحضر وزيره، وقال له: يا فاعل يا صانع، أنا أقول لك منذ دهر، حاسب هذا الخائن المقتطع، الرخجي، على أموالنا، وأنت تدافع، حتى حفظها الله علينا، بقاضينا محمد بن منصور، ورمى إليه بكتاب صاحب الخبر.
وقال له: قد ظهرت الآن أموالنا، في سقطات قوله، وفلتات لسانه، وهذه عادة الله عز وجل عند أئمة عباده، أن يأخذ لهم أعداءهم، أكتب الساعة بالقبض على الرخجي، وتقييده، وغله، وحمله.
قال: فخرج الوزير، وهو على غاية القلق، لعنايته بالرخجي، واستدعى خليفته وقال له: أكتب إليه الساعة، قد تسرعت يا مشوم، وقتلت نفسك، ما كان الذي دعاك إلى معاداة القضاة؟، قد جرى كيت وكيت، وأنت مقتول إن لم تتلاف أمر محمد بن منصور، فاجتهد فيه ، وأعلمه، أني هو ذا، أؤخر اليوم فقط، في إنفاذ من يقبض عليه، إلى أن يحكم أمره مع القاضي، وأقول للخليفة: أني قد أنفذت إليه، وأنفذ إليه في غد، من يمتثل الأمر فيه.
فلما ورد كتابه على الرخجي، قامت قيامته، وأحضر من يختص به، فشاوره.
فقال له: تركب الساعة إليه وتطرح نفسك عليه.
قال: فركب إليه، في موكب عظيم، فحجبه القاضي.
فاجتهد في أن يوصله إليه ، فما كان إلى ذلك طريق، فرجع خجلاً.
وقال لأصحابه: ما ترون ؟ فإني أخاف أن يقدم العشية من يقبض علي.
فقالوا له: إن للقاضي رجلاً تانئاً، من أهل البلد، يقال له: فلان، قد اصطنعه، وائتمنه، ويريد قبول شهادته، وهو غالب عليه جداً، فتستدعيه، وتكتب له روزاً بشيء من خراجه، وتسأله أن يوصله إليه، ويستصلحه لك.
فأحضره الرخجي، وكتب له روزاً بألف دينار من خراجه، وسأله ذلك.
فقال له: أما استصلاحه لك، فلا أضمنه، ولكن أوصله إليك.
فقال له: قد رضيت.
فقال: إذا كان وقت المغرب، فانتظرني، وخرج الرجل.
فلما كان وقت المغرب، صار إلى الرخجي، فقال: تلبس عمامة، وطيلساناً، وتركب حماراً، وتجيء.
قال: ففعل ذلك، وركبا بغير شمعة.
وجاء الرجل، فقال للحاجب: استأذن لي على القاضي، ولصديق لي معي، فدخل إليه وخرج فقال: ادخلا.
فحين شاهد القاضي الرخجي، أقبل يصيح ويقول: هذا الحال، وأنت أمين؟ هاه.
ثم قال للرخجي: اخرج عافاك الله عن داري.
قال: فبادر الرخجي، فأكب على رأسه، فلما رآه القاضي قد فعل ذلك، قام إليه فعانقه.
وبكى الرخجي بين يديه، ودفع الكتاب إليه.
قال: فبكى القاضي، وقال: عزيز علي يا هذا، ما كان اضطرك إلى الإقرار؟ فقال: تحتال في أمري.
فقال: والله ما لي حيلة، فإن الحكم كالسهم إذا نفذ لم يمكن رده، فجهد به الرخجي، فما زاده على ذلك، فانصرف بأقبح منصرف.
فلما كان من الغد، ورد خادم، فقبض عليه وغله، وقيده وحمله فعلته في حفظ أموال المسلمين، وقد كنا نأمر بمحاسبته، فيتأخر ذلك لعوائق، والآن فقد أقر طائعاً غير مكره، فما نؤثر معاملته، إلا بما يعمله الواجب، بارك الله عليك، وإن للرجل أملاكاً قبلك، فتنصب من يبيعها، تتحمل ثمنها إلى بيت المال، قضاء لما أقر به.
قال: فنصب محمد بن منصور، من باع أملاك الرخجي في كور الأهواز، على عظمها، وحمل ثمنها إلى بيت المال، فهي الأملاك المبيعة، التي تعرف إلى اليوم بالرخجيات.

وحصل الرخجي في العذاب بسر من رأى.
شيخ أهوازي يسعى
في صرف عامل الأهوازوحدثني خال والدي، أبو القاسم بن أبي علان، عبد الله بن محمد ابن مهرويه. قال: أخبرني شيخ من شيوخنا، قال: كان عمر بن فرج الرخجي، يتقلدنا في الدفعة الأولى، ثم صرف عنا، وولينا عامل بعده.
فخرجنا في بعض السنين نتظلم، وكانت أملاك عمر عندنا كثيرة، وله البستان المعروف بالتفرج قديماً، الذي في وسط البلد، ويعرف الآن بالبستان الصغير.
قال: فلما حصلنا بحضرة الخليفة نتظلم، عارضنا عمر، وأخذ يكلمنا بكلام عارف بالبلد، محتج بحجاج صحيح يبطل به ظلامتنا.
وكان المتكلم عنا، فلان، رئيسالبلد، أسماه أبو القاسم وأنسيته، فأومأ إلينا أن اسكتوا، فسكتنا.
فقال: أيد الله أمير المؤمنين، قد أضجرناه اليوم بالخطاب، فنعود في مجلس ثان.
فقال: ذاك إليكم.
فانصرفنا، فقلنا له: ما حملك على هذا؟ فقال: إنكم لا تعلمون ما علمت.
قال: فلما كان عشياً، جئنا إلى منزل عمر، ودخل إليه، ونحن معه، فاستخلاه مجلسه، فأخلاه.
فقال له: يا هذا، إنك أخذت اليوم تسعى على دمائنا، وناظرتنا مناظرة عارف ببلدنا، ولو رددنا عليك، لكنا إما أن نقطعك، أو تقطعنا فنهلك، ولم تكن بك حاجة إلى ما عاملتنا به، ولا فائدة لك.
ولا أنت الآن عاملنا، فيخرج عن يدك ما تنظر لنا به، وإنا قد وردنا ومعنا في أنفسنا أمر، إن عدنا إلى بلدنا بغيره سقط جاهنا، وقال أكثر أهل الكور: خرجوا فما عملوا شيئاً، ولا يخلوا إما أن يكون ما التمسناه حقاً أو باطلاً، فإن كان حقاً، فقطعك لنا عنه ظلم، وإن كان باطلاً، فمنعك لنا منه ذل، وليس يجوز لنا الرجوع إلا به، لأن في رجوعنا ذهاب الجاه، وطمع العمال في نعمتنا، وأنت تعلم ما لك عندنا من الضياع والأموال، وعلي وعلي، قال: وحلف بالطلاق وأيمان البيعة، لئن لم تعاونا غاية المعاونة، وتشهد لنا في المجلس الثاني بكل ما نريده لأخرجن الساعة، وأعملن عملاً بخراجك وضياعك، وما أسقطته عن نفسك أيام تقلدك البلد، من أصول الخراج، واقتطعه من العمالة أيضاً، ويشتمل على ألفي ألف دينار، وأقول للخليفة: إن لك عندنا مبقلة، ستون جريباً، قيمتها ستون ألف دينار - يعني البستان الذي تقدم ذكره - وهو المتوكل، وأقيم هؤلاء شهوداً كلهم، يشهدون عليك بصحة المال، ويواجهونك بما أنسبه إلى أنك أخذته منهم ومن غيرهم، ويحلفون عليه، وأواجهك بالسعاية والوقيعة، بحضرة المتوكل، وأدع ما قدمت له، حتى إذا وقعت في النكبة والمطالبة، رهبني الوزراء أولاً، وكل من يعلم أنني كنت سبب نكبتك، من العمال، وأصحاب الدواوين، وصاروا أعواناً لي وشهوداً، فأبلغ بذلك محبتي، وأرجع إلى منزلي سالماً، وأنت منكوب.
قال: فحين سمع عمر ذلك، اسود وجهه، وقال: أو أيش؟ قال: تحلف أنك تشهد لنا، وتعاوننا.
قال: فحلف على ذلك وقمنا.
فلما كان في المجلس الثاني، حضرنا حضرة المتوكل، وأقبلنا نتظلم، وعمر يشهد لنا، ويصدق قولنا.
فما برحنا إلا بصرف عاملنا، وبالنظر لنا في معظم حوائجنا، واحتسابه لنا بمظالم التمسناها، وبلغنا ما أملناه وقدرناه، وزدنا عليه وخرجنا.
فقال لنا الشيخ: كيف رأيتم هذا الرأي؟ أيما كان أجود، هذا، أو أن نجاح عمر بن فرج في ذلك المجلس، ويحاجنا، ويضرنا بمناظرته، فيضجر الخليفة، فيأمر بإخراجنا، فلا نصل إليه أبداً، ويقول: هؤلاء طامعون بالمال، ونعود بالخيبة إلى منازلنا، بعد السفر والنفقة.
فقلنا له: أحسن الله جزاءك، فأنت أبصر منا بالرأي.
من مكارم أخلاق المأمونمن أحاديث أبي الحسن محمد بن علي بن الخلال البصري، رحمه الله، قال: حدثني أبو القاسم، علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي، رحمه الله، قال: قال محمد بن منصور القاضي: التمس أمير المؤمنين المأمون، رجلاً يكون بصحبته في بعض أسفاره، فأشير عليه بي، وكنت حديث السن، فركبت معه في العماريه، فأجلسني عن يمينه، فلما أمسينا غلبني النوم.
فقال لي من غد: نومك يا محمد، نوم الشباب فاجعل الليل أثلاثاً، فثلث للحديث، وثلث للنوم، وثلث للذكر، ثم أدارني فأجلسني عن شماله.
ثم قال لي: أتدري لم أجلستك بالأمس عن يميني؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين.
فقال: إني وجدت في معدتي بله وما تنخمت قط عن يميني.

قال القاضي التنوخي: وكان محمد بن منصور هذا، نبيلاً، جليلاً، ذا مروءة تامة.
؟
مروءة القاضي محمد بن منصوروأخبرني بعض شيوخنا: أنه لما تولى الحكم بكور الأهواز، دخل إلى جنديسابور، فنظر في حساب وكيله، فإذا هو قد اكتسب عليه بثمن جدي، درهم، وثمن عشرة أفراخ ، درهم.
فقال للموكل له: ألم أتقدم إليك، ألا تبتاع شيئاً، من بائع يعلم أنك وكيلي؟ قال: بلى، وعلى ذلك أعمل.
قال: فلو لم يعلم البائع، أنك وكيلي، لما حاباك هذه المحاباة.
فقال: هذا ما ابتعته بهذا البلد، وهكذا يباع لسائر المبتاعين.
فالتفت إلى بعض شهوده، فقال: أهكذا هو؟ فقالوا: قد حيف عليه، أيها القاضي، إنا لنبتاع الجدي بأربعة دوانيق، ونحوها.
فقال: هذا بلد لا يقيم فيه ذو مروءة.
ثم أسرع بالرحيل عنه.
حرمة القضاء في العهد العباسيقال التنوخي: وأخبرني بعض شيوخنا، عنه: أنه كان جالساً للحكم، في المسجد الجامع بسوق الأهواز، فاجتاز بباب الجامع عامل الكور، فرأى جميع الناس. فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا القاضي.
قال: هذا كله لأبي جعفر؟ فنقلت الحكاية إليه، فقطع النظر، وانصرف إلى داره، وكتب إلى السلطان يومئذ، يقول: إن فلاناً العامل. اجتاز بي، وأنا أنظر في الحكم في المسجد الجامع، فذكرني بحضرة العامة، بالكنية دون اللقب، ذكر المزري علي، المانع لي من التشريف الذي ألبسنيه أمير المؤمنين، وإن الذي أنظر فيه إنما هو انتزاع أموال الناس، التي فيها يتهالكون، وعليها يتقاتلون، وأنا أنتزعها بالهيبة والكرامة.
فخرج أمر السلطان، بإن يضرب ذلك العامل، على باب المسجد بالأهواز ألف سوط.
فلما وقف على ذلك، خليفة العامل بالحضرة، اجتهد في إزالته بكل حيلة، فما أمكنه.
فبذل للفيج الحامل للكتاب، مائة دينار، ليتأخر عن النفوذ، ليلة واحدة، ثم بادر برسوله إلى العامل، يصف ما جرى، وما فعله من استنظار الفيج، ليقدم الحيلة في الدفع عن نفسه.
فلما ورد الرسول إلى العامل، نهض من وقته، إلى بعض إخوان القاضي، من شهود البلد، وطرح نفسه عليه، ولم يعلم باطن أمره، وسأله إصلاح قلب القاضي له.
فصار معه إلى باب القاضي ليلاً، ولم يزل حتى وصل إليه، وأغرق في الاعتذار إليه، والخضوع له، حتى قال: قد قبلت العذر، وصفحت عن الذنب، فانصرف.
فغاداه الفيج بما أمر به في بابه، فقال: إني قد صفحت عنه.
جزاء الوالي الظالمقال أبو الحسين محمد بن علي بن إبراهيم بن شعيب، وحدثني القاضي أبو عبد الله الحسين بن شعيب الأرجاني، وكان من شيوخ أهل العلم والرئاسة ببلده: إن عاملاً للمكتفي رحمة الله عليه، بكورة أرجان، طالب بعض أهل الخراج بخراجه، فتغيب عنه، فأمر بإحراق بابه.
فاتصل الخبر بالمكتفي، فأنفذ من قبض على العامل، فضربه على باب المسجد بأرجان، ألف سوط.
الجذوعي القاضي يشهد على الخليفة المعتمدقال أبو الحسين محمد بن علي، وحدثني أبي رحمه الله، وسمعته من غيره: إن القضاة والشهود، بمدينة السلام، أدخلوا على المعتمد على الله للشهادة عليه في دين كان اقترضه عند الإضاقة بالإنفاق على حرب صاحب الزنج.
فلما مثلوا بين يديه، قرأ عليهم إسماعيل بن بلبل الكتاب، ثم قال: إن أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - يأمركم أن تشهدوا عليه، بما في هذا الكتاب.
فشهد القوم، حتى بلغ الكتاب إلى الجذوعي القاضي، فأخذ بيده وتقدم إلى السرير، فقال: يا أمير المؤمنين، أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟ فقال: اشهد.
فقال: لا يجوز، أو تقول: نعم، فأشهد عليك.
فقال: نعم، فشهد في الكتاب، ثم خرج.
فقال المعتمد: من هذا؟ فقيل له: هذا الجذوعي البصري.
فقال: وما إليه؟ فقالوا: ليس إليه شيء.
فقال: مثل هذا لا يكون مصروفاً، فقلدوه واسطاً.
فقلده إسماعيل، وانحدر.
فاحتاج يوماً إلى مشاورة الحاكم، في ما يشاور في مثله، فقال: استدعوا القاضي، فحضر، وكان قصيراً، وله دنية طويلة، فدخل في بعض الممرات ومعه غلام له، فلقيه غلام كان للموفق، وكان شديد التقدم عنده، وكان مخموراً، أو سكراناً، فصادفه في مكان كان خالياً من الممر، فوضع يده على دنيته، حتى غاص رأسه فيها، وتركه ومضى.

فجلس الجذوعي في مكانه، فأقبل غلامه، حتى فتقها، وأخرج رأسه منها، وثنى رداءه على رأسه، وعاد إلى داره، وأحضر الشهود، وأمرهم بتسلم الديوان، ورسل الموفق يترددون، وقد سترت الحال عنه. حتى قال بعض الشهود، لبعض الرسل، الخبر، فعاد إلى الموفق، فأخبره بذلك.
فأحضر صاحب الشرطة، وأمره بتجريد الغلام، وحمله إلى القاضي، وضربه هناك ألف سوط.
وكان والد هذا الغلام من جلة القواد، ومحله محل من لو هم بالعصيان أطاعه أكثر الجيش، فترجل القواد، وصاروا إليه، وقالوا: مرنا بأمرك، فقال: إن الأمير الموفق، أشفق عليه مني. فمشى القواد بأسرهم مع الغلام، إلى باب الجذوعي، فدخلوا عليه وضرعوا له، فأدخل صاحب الشرطة، وقال: لا تضربه.
فقال: لا أقدم على خلاف أمر الموفق.
فقال: فإني أركب إليه، وأزيل ذلك عنه. فركب فشفع له، وصفح عنه.
إيحاشك فقد، وإيناسك وعدحدثني أبي رضي الله عنه: إن صديقاً لأبي خليفة القاضي، اجتاز عليه راكباً، وهو في مسجده، فسأله أن ينزل عنده ليحادثه.
فقال: أمضي وأعود.
فقال له أبو خليفة: إيحاشك فقد، وإيناسك وعد.
أبو خليفة القاضي والكلام المسجوعقال: وكان أبو خليفة كثير الاستعمال للسجع في ألفاظه.
وكان بالبصرة رجل يتحامق، ويتشبه به، يعرف بأبي الرطل، ولا يتكلم إلا بالسجع، هزلاً كله.
فقدمت هذا الرجل امرأته إلى أبي خليفة، وهو يلي قضاء البصرة إذ ذاك، وادعت علية الزوجية والصداق، فأقر لها بهما.
فقال له أبو خليفة: أعطها مهرها.
فقال أبو الرطل: كيف أعطيها مهرها ولم تفلع مسحات نهرها؟ قال أبو خليفة: فأعطها نصف صداقها.
قال: لا، أو أرفع ساقها، وأضعه في طاقها.
فأمر به أبو خليفة، فصفع.
أخبرني غير واحد: إن أبا الرطل هذا، كان إذا سمع رجلاً يقول: لا تنكر لله قدرة، قال هو: ولا الهندبا خضرة، ولا للنخلة بسرة، ولا للعصفر حمرة، ولا للزردج صفرة، ولا للقفا نقرة. قال: وكان إذا سمع العامة يقولون: ديوك لا تغرق، قال هو: والديك لا تسرق، وسنور لا يزلق، ونور لا يعبق، وذرة لا تسرق، حتى لا تغرق، ولا نار لا تحرق، وخليفة لا يسرق، وقاض لا يحنق.
بين علي بن عيسى وعلي بن الفراتسمعت بعض شيوخ الكتاب يتحدثون، قالوا: كان أبو الحسن عللي بن عيسى، شديد الإعظام لصناعة الكتابة،شحيحاً على محله منها، غير مسامح لشيء يعاب به، مهما صغر فيها.
وكانت المسابقة فيما بينه وبين أبي الحسن علي بن الفرات فيها، وكان كل واحد منهما، يتقلد ديواناً، في وزارة العباس بن الحسن.
وكان يتصرف في الديوان الذي يتقلده علي بن عيسى، عامل يعنى به ابن الفرات، فقصده علي بن عيسى، وعمل له مؤامرة بمائة ألف دينار في عمله، وعزم على أخذها منحه، وأحضره ، وسلم إليه المؤامرة.
وقال له: إن كان عندك جواب لها، فأجب، وإلا فالتزم المال.
فقال: آخذها من بيتي، وأجيب.
فقال له: خذها.
وأخذها العامل، وجاء إلى ابن الفرات، فشرح له الصورة، وسأله أن ينظر في المؤامرة ويلقنه الجواب على كل باب منها.
فقرأها ابن الفرات، وقال للعامل: لولا الاتفاق، لما انحل عنك منها درهم، ولكن الله سهل لك غلطاً غلط به علي بن عيسى على نفسه فيها، وهو رجل شديد الضن بصناعة الكتابة، غير مسامح لنفسه في العيب بها، وقد غلط غلطاً قبيحاً، لو غلط مثله صغير من الكتاب لافتضح، وبطلت صناعته، وسقط محله، وذاك إنه قد صدر في أول المؤامرة باباً، ذكر فيه ما وصل من فضل الكيل في غلات عملك، وأنك لم تورده، وألزمك مالاً جليلاً عنه، ثم ذكر بعد ذلك، أنك اقتطعت من غلات المقاسمة، أشياء أوردها، وذكر الحجج فيها، وألزمك مالاً جسيماً، هو شطر مال المؤامرة.
وقد كان من قانون الحساب، ورسم الصناعة في مثل هذا، أن يبتدئ بما ثنى به من الاقتطاع الواقع في أصول الغلات، ثم يثني بذكر فضل الكيل.
فإما إذا صدر فضل الكيل، فقد صحح لك الأصول، فإيراده ما اقتطعه من الأصول، ناقض للفعل الأول، وهو خطأً قبيح في الكتبة، مسقط لمحل من يعمله.
وسبيلك أن تمضي إليه وتخلوا به، وتقول: يا سيدي محلك في هذه الصناعة، لا يقتضي ما قد عملته في هذه المؤامرة، وقد أخطأت خطأً قبيحاً، وهو كذا وكذا، وواقفه عليه.
وقل له: لا يخلو أمري معك من حالين:

إما كشفت أمرك للناس، ففضحتك في الصناعة بما تنكبني به من مال، وألزمت بعد ذلك ما يبقى في المؤامرة، وهو يسير.
وإما تفضلت بإبطال هذه المؤامرة، وأبطلت عني مالها، وسترت على نفسك خطأك، وارتفقت مني، مع هذا، بما شئت، وابذل له مرفقاً جليلاً، فإن حذره على صناعته، وحبه للمرفق، سيحمله على إبطال المؤامرة، وتخريقها.
فإن امتنع من ذلك، واقفته على الخطأ بين الملأ، فإنه يوجب عليه أن يسقط عنك ما خرجه في أصول غلات الناحية، وهو شطر المال.
قال الرجل: فمضيت إلى علي بن عيسى سحراً، إلى منزله، فحين رآني، قال: ما عملت في جواب المؤامرة؟ قلت: بيننا شيء أقوله سراً.
قال: أدن.
فدنوت منه، فقلت له ما قاله لي ابن الفرات بعينه، وفتحت المؤامرة، ووقفته على الموضع.
فحين رآه اغتم، وقال: يا هذا، قد وفر الله عليك المرفق، فإن مرفقي في هذا الأمر التيقظ على الخطأ الواقع مني، وستره على نفسي، والحذر من مثله مستأنفاً، وقد أسقط الله عنك جميع المؤامرة، ولن تسمع بعدها لفظة في معناها، والله بيني وبين ابن الفرات، فإن هذا من تعليمه لك، وليس أنت ممن يعرف مثله.
قال: فمضيت من عنده، وقد زالت المطالبة، وربحت المرفق، وعدت إلى ابن الفرات، فحدثته، فضحك.
الوزير ابن الفرات يفحم مناظريه
ويكاد يأكلهمواخبرني بعض الكتاب، قال: كان ابن الفرات قد صودر على ألف ألف وستمائة ألف دينار، فأدى جميعها في مدة ستة عشر شهراً، من وقت القبض عليه، وكان في الحبس، يتوقع أن يطلق.
فخاف علي بن عيسى، وحامد بن العباس، من إطلاقه، فتشاورا في شيء يستعملانه مع المقتدر، يمتنع معه من إطلاقه.
قال: وكان أبو زنبور، قد استقدم ليحاسب، وكان من صنائع علي بن عيسى في وزارته الأولى.
فلما ولي ابن الفرات، أقره، وأحسن إليه، فكان أبو زنبور يحمل إليه في كل شهر عشرة آلاف دينار، مرفقاً عن أعماله، ويخفيها، فتصل في أعدال البز، وما يشاكل ذلك.
فقال علي بن عيسى، لحامد: ما أشك أن ابن الفرات، قد كان يرتفق من عامل مصر، بمرفق جليل، فنحضر أبا زنبور، ونسأله عن ذلك.
فأحضراه، وسألاه عن مرفقه، فكشف لهما عن الصورة، وصدقهما عنها، ولم يكن فيه من الفضل ما يخفي ذلك، على الرجل ونفسه.
فقال علي بن عيسى: هذا مال عظيم، فخذ خط أبي زنبور، بأنه كان يحمل إليه ذلك، واعرضه على الخليفة.
ففعلا ذلك، وعرضاه عليه، وقالا له: يجب أن يطالب بذلك.
فقال الخليفة: أخرجوه، وطالبوه، بعد أن تناظروه.
قال: فجلس حامد بن العباس، وعلي بن عيسى، ونصر القشوري، وابن الحواري، واحضروا أبا زنبور معهم، واستدعوا ابن الفرات من محبسه ليناظروه.
وكان شفيع المقتدري، يتعصب لابن الفرات، ويعتني بأمره، ويقوم فيما بينه وبين الخليفة، فقال للمقتدر: يا مولاي، إن ابن الفرات منكوب، وهؤلاء أعداؤه، ولعله أن يجيبهم بجواب لك فيه فائدة، فلا يبلغونك إياه، فأنفذ من يحضر المجلس، ويرقي إليك ما يجري.
فقال له: امض أنت وافعل هذا.
قال: فخرج شفيع، فوجد ابن الفرات، في الصحن، وقد أخرج من محبسه، وهو يمشي، ليخل مجلس الوزير.
فقال له: اثبت فإني معك.
فقويت نفسه، ودخل المجلس، وحامد في صدر دست عظيم، برسم الوزارة، في دار الخلافة، وعلي بن عيسى عن يمينه، وبجنبه ابن الحواري، ونصر القشوري عن يساره، وبجنبه أبو زنبور.
فسلم ابن الفرات، وتخطى حتى جلس بين يدي حامد، فرفعه قليلاً.
وخاطبه ابن الفرات بالوزارة، وسلم على علي بن عيسى، وأدار عينه في المجلس، فعرف كل من فيه، إلا أبا زنبور، فإنه كان لغيبته بمصر، لم يشاهده قط.
فقال لمن كان بجانبه: من هذا؟ فقال له: هذا أبو زنبور عامل مصر.
فأحس ابن الفرات، بأنه في بلية سببها أبو زنبور، فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
قال: وكان أبو زنبور قصيراً دميماً مقبحاً.
فقال أبو زنبور في الحال: لوددت أن الأرض ابتلعتني فبل ذلك.
قال، فقال له حامد، وعلي بن عيسى: هذا فلان بن فلان، عامل مصر، قد ذكر أنه كان يرفقك في كل شهر، من مال عمله، بعشرة آلاف دينار، تكون لمدة ولايتك، كذا وكذا، وما حملت لبيت المال شيئاً منها، ويجب الآن أداءها، فما تقول؟

فقال لهما: إن هذا - وأومأ إلى أبي زنبور - إن كان قد أمر بالسعاية، بوزير عامله، فكشف ستره في أيام نكبته، وسعى بمرفق أرفقه به في حال ولايته، وأبان بذلك عن قدر عقله، وأمانته، وعقل من يركن إليه مستأنفاً، فإنه قد صدق فيما أخبر به.
ولم أكن لأرتفق هذا منه، لأدع له شيئاً من مال السلطان، ولا لأمكنه من اقتطاعه، وكن لأمهله من وقت إلى آخر، وأزيد في إكرامه، ومخاطبته، وأرفهه عن إنفاذ المستحثين، ومن تلزمه عليهم المؤونة التي لا يجب الاحتساب بمثلها، وكلما يتفق الوزراء من العمال، قديماً، وحديثاً فهذا سبيله.
وإنما صودرت على ألف ألف وستمائة ألف دينار، أديتها صلحاً، عن هذا ومثله وشبهه، وإلا فأي شيء كان موجب مصادرتي إلا عن هذا وما يشبهه؟ فالمصادرة قد غسلت عني هذا كله. ولكن، قد وجب على أبي زنبور من هذا المرفق، باعترافه لمدة عطلتي وحبسي، وهي ستة عشر شهراً، مائة ألف وستون ألف دينار.
فإن كان أرفق الوزير أعزه الله بها، فقد سقطت عنه، والكلام فيها بين الخلفة والوزير، وإن كان لم يحملها إليه، فيجب الآن أن يحملها إلى أمير المؤمنين.
قال: فقام شفيع في الحال.
فقال له علي بن عيسى: إلى أين يا أبا اليسر؟ قال: إلى مولانا، أحكي له ما جرى، فإنه أنفذني لهذا السبب، وأمرني به ومضى.
وحمل ابن الفرات إلى حبسه.
فعاد شفيع وقال: يقول لكم مولانا، لا يبرح أحد منكم، أو تحمل إلي هذه المائة ألف وستون ألف دينار، كيف شئتم.
فقال علي بن عيسى: جئنا به لنصادره، فصادرنا.
فألزموا أبا زنبور معظم المال، وعاونوه بشيء تحمل قسطه حامد، وعلي بن عيسى.
وضمنوا المال، ثم انصرفوا.
؟
أفضل ما يخلف المرء لعقبهصديقاً وفياً
حدثني أبو القاسم الجهني، قال: كنت بحضرة أبي الحسن بن الفرات، وابن الجصاص حاضر، فتذاكروا ما يعتقده الناس لأولادهم.
فقال ابن الفرات: ما أجل ما يعتقده الناس لأعقابهم؟ فقال بعض من حضر: الضياع.
وقال بعضهم: العقار.
وقال آخرون: المال الصامت.
وقال آخرون: الجواهر الخفيفة الثمن، فإن بني أمية سئلوا: أي الأموال كانت أنفع لكم في نكبتكم؟ فقالوا: الجوهر الخفيف الثمن، كنا نبيعه، فلا نطالب بمعرفة، ولا يتنبه علينا به، والواحدة منه أخف محملاً من ثمنها، وابن الجصاص ساكت.
فقال له ابن الفرات، كالمستهزئ به: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ فقال: أجل ما يعتقده الناس لأولادهم، الصنائع والإخوان، فإنهم إن اعتقدوا لهم ضياعاً، أو عقاراً، أو صامتاً، من غير إخوان، ضاع ذلك وتمحق، وأحدث الوزير أعزه الله بحديث جرى منذ مدة، يعلم معه صدق قولي.
فقال له ابن الفرات: ما هو؟ فقال: الناس يعلمون أني صنيعة أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وكان رجلاً مستهتراً بالجوهر، يعتقده لنفسه، وأولاده، وجواريه.
فكنت جالساً يوماً في داري، فجاءني بوابي، فقال: بالباب امرأة تستأذن، في زي رث، فأذنت لها، فدخلت، فقالت لي: تخلي لي مجلسك، فأخليته.
فقالت لي: أنا فلانة، جارية أبي الجيش.
فحين قالت ذلك، ورأيت صورتها، عرفتها، وبكيت لما شاهدتها عليه، ودعوت غلماني ليحضروني ما أغير به حالها.
فقالت: لا تدع أحداً، فإني أظنك دعوته لتغيير حالي، وأنا في غنية وكفاية، ولم أقصدك لذلك، ولكن لحاجة هي أهم من هذا.
فقلت: ما هي؟ فقالت: تعلم أن أبا الجيش، لم يكن يعتقد لنا إلا الجوهر، فلما جرى علينا بعده من طلب السلطان، ما جرى، وتشتتنا، وزال عنا ما كنا فيه، كان عندي جوهر قد سلمه إلي، ووهبه لي، ولابنته مني فلانة، وهي معي هاهنا.
فخشيت أن أظهره بمصر فيؤخذ مني، فتجهزت للخروج، وخرجت على هيئة زرية، مستخفية، وابنتي معي، فسلم الله تعالى، ووصلنا هذا البلد، وجميع مالنا سالم.
فأخرجت من الجواهر شيئاً، قيمته على أبي الجيش خمسة آلاف دينار، وصرت به إلى سوق الخرازين فبلغ ألفي دينار.
فقلت: هاتم.
فلما أحضروا المال، قالوا: أين صاحب المتاع؟ قلت: أنا هي.
قالوا: ليس محلك أن يكون هذا لك، وأنت لصة، فتعلقوا بي وجذبوني، ليحملوني إلى صاحب الشرطة.
فخشيت أن أقع في يديه فأعرف، فيؤخذ الجوهر، وأطالب أنا بمال، فأخرج الباقي.
فرشوت القوم بدنانير يسيرة كانت معي، وتركت الجوهر عليهم، وأفلت.

فما نمت ليلتي غماً على ما ذهب، وخشية الفقر، لأن مالي هذا سبيله، فأنا غنية فقيرة، فلم أدر ما أفعل.
فذكرت كونك ببغداد، وما بيننا وبينك، فجئتك، والذيأريده منك جاهك، تبذله لي، حتى تتخلص لي ما أخذ مني، وتبيع الباقي، وتحصل لي ثمنه مالاً، وتشتري به لي ولابنتي عقاراً، نقتات من غلته.
قال: فقلت: من أخذ منك الجوهر؟ فقالت: فلان.
فأحضرته، فجاءني، فاستخففت به، وقلت: هذه امرأة من داري، وأنا أنفذتها بالمتاع لأعرف قيمته، ولئلا يراني الناس أبيع شيئاً بدون قيمته، فلم تعرضتم لها؟ فقال: ما علمنا ذلك، ورسمنا - كما تعلم - لا نبيع شيئاً، إلا بمعرفة، ولما طالبناها بذلك اضطربت، فخشينا أن تكون لصة.
فقلت له: أريد الجوهر الساعة، فجاءني به، فلما رأيته عرفته، وكنت أنا اشترته لأبي الجيش بخمسة آلاف دينار.
فأخذته منهم، وصرفتهم.
وأقامت المرأة في داري، ونقلت ابنتها إلي، وأخرجت الجوهر، فألفته عقوداً، وعرضته، وتلطفت لها في بيعه بأوفر الأثمان، فحصل لها منه أكثر من خمسين ألف دينار.
فابتعت لها بذلك ضياعاً وعقاراً ومسكناً، فهي تعيش به وولدها، إلى الآن.
فنظرت، فإذا الجوهر لما كان معها بلا صديق، كان حجراً، بل كان سبباً لمكروه يجري عليها، وقد رشت على الخلاص منه دنانير، ولما وجدت صديقاً يعينها، حصل لها منه هذا المال الجليل.
فالصديق أفضل العقد.
فقال ابن الفرات: أجدت يا أبا عبد الله.
ثم قال لنا: الناس ينسبون هذا الرجل إلى الغفلة، وقد سمعتم ما يقول، فكيف يكون مثل هذا مغفلاً؟
المأمون ومحبته للجوهروقد حكي: أن المأمون كان محباً للجوهر، وكان الناس يغالون فيه، في أيامه، فأراد أن يحتال بحيلة تضع من قدره، ليرخص قيمته، فيشتريه.
فجمع أصحابه يوماً، وخاطبهم. فقال: ما أجل الذخائر؟ فتقرر رأيهم على الجوهر.
فقال: هاتم جوهرة، فجاءوا بواحدة شراؤها عليه مائة دينار.
فقال للجوهريين: كم تساوي هذه؟ قالوا: مائة دينار.
فقال: يا غلام، اكسرها قطعاً، فكسرت.
فقال: كم تساوي الآن؟ فقالوا: دانق فضة.
فأخرج ديناراً، فقال: كم يساوي هذا؟ قالوا: عشرين درهماً.
فقال: كسروه قطعاً، فكسر.
فقال: كم يساوي الآن؟ قالوا: تسعة عشر درهماً صحاحاً.
فقال: أجل الذخائر هذا الذي إذا كسر، لم يذهب من قيمته شيء.
قال: فانتشرت الحكاية بين من حضر من الجوهريين، ونقص نصف ثمنه على الحقيقة، وقلت رغبة أهل الدولة في شراءه.
أموي يتحدث عما أعانهمفي نكبتهم وحكي عن بعض بني أمية: أن المنصور سأله لما نكبهم، أي شيء كان أنفع لكم في هربكم؟ فقال: ما وجدنا شيئاً أنفع من الجوهر القليل الثمن، الذي تبلغ قيمة الحبة منه خمسة دنانير، لأنا استصحبنا الفاخر منه، والقريب الثمن، فما كنا نقدر على بيع الفاخر لشدة الطلب لنا، والخوف من أن يعرف به، فينبه علينا، ونؤخذ، وكان هذا اليسير الثمن، يشترى منا، من غير أن يعرف، فننتفع به، ويخفا أمرنا، فكان أنفع.
قال: فأي النساء وجدتم أفضل؟ قال: بنات العم، كن أصبر علينا، وأشفق.
قال: فأي الرجال، وجدتم أفضل؟ قال: الموالي.
قال: فأمر المنصور المهدي، أن يتزوج ابنة عمه، واتخذ المنصور مواليه عمالاً في أعماله، وقدمهم، ورفع منهم.
لقمة بلقمةحدثني أبو بكر البسطامي، غلام ابن دريد، قال: كان لامرأة، ابن، غاب عنها، غيبة منقطعة.
فجلست تأكل يوماً، فحين قطعت لقمة، وأهوت بها إلى فيها، تصدق منها سائل وقف بالباب، فامتنعت من أكل اللقمة، وحملتها مع تمام الرغيف، فتصدقت بها، وبقيت جائعة.
وكانت شديدة الحذر على ابنها، والدعاء برده، فما مضت إلا ليل يسيرة على هذا الحديث، حتى قدم ابنها، فأخبر بشدائد مرت به عظيمة.
وقال: أعظم شيء مر على رأسي، أني كنت في وقت كذا، أسلك أجمة في البلد الفلاني، إذ خرج أسد، فقبض علي من حمار كنت فوقه، فغار الحمار فتشبكت مخالب السبع، في مرقعة كانت علي، فما وصلت إلي، وذهب عقلي، وجرني فأدخلني الأجمة.
فما هو إلا أن برك علي ليفترسني، حتى رأيت رجلاً عظيم الخلق، أبيض الوجه والثياب، وقد جاء حتى قبض على قفا الأسد، وشاله حتى خبط به الأرض، وقال: قم يا كلب، لقمة بلقمة. فقام السبع مهرولاً، وثاب إلي عقلي، وطلبت الرجل، فلم أجده.

وجلست ساعات، إلى أن عادت إلي قوتي، ثم نظرت إلى نفسي، فلم أجد بها بأساً، فمشيت، فلحقت القافلة، وأخبرتهم فعجبوا من خلاصي، ولم أدر ما معنى لقمة بلقمة.
فنظرت المرأة إلى الوقت فإذا هو الوقت الذي أخرجت اللقمة من فيها، فتصدقت بها، فأخبرته الخبر.
كفى بالأجل حارساً
حدثني إبراهيم بن الخضر، وكان أحد أمناء القضاة ببغداد، قال: حدثني صديق لي أثق به، قال: خرجت إلى الحائر، فرأيت رجلاً، فرافقته في الطريق، ولم أكن أعرفه، وكان ذلك في أيام الحنابلة، ونحن نزور متخفين.
فلما صرنا في أجمة بانقيا، قال لي رفيقي: يا فلان، إن نفسي تحدثني إن السبع يخرج الساعة فيقرصني دونك، إن كان ذلك، فخذ حماري، وقماشي، فأده إلى منزلي، في موضع كذا وكذا، وعرفهم خبري.
قال: فقلت: ما يكون إلا خيراً وسلامة.
فما استتم الكلام، حتى خرج سبع، فلما رآه الرجل، سقط، وأخذ يتشهد، وقصده السبع، فما كذب أن أخذه، وجره عن الحمار. فسقت أنا الحمار مع ما عليه، وأسرعت حتى خرجت، ولحقت بالقرية، وعجبت من حدسه على نفسه، وصدق ظنه، ولحقني غم لفراقه، وما جرى عليه.
ورجعت إلى بغداد، فحين دخلت، لم تكن لي همة، حتى استوصفت الموضع، وقصدته، فدققت الباب، أسأل عنه، فقلت لمن فيه: خذوا قماش صاحبكم، رحمه الله.
قالوا: قد خرج الساعة في حاجة له، وهو حي والحمد لله، فلم أشك في أني غلطت، فقلت: من هو؟ قالوا: فلان، اسمه.
فزاد تعجبي، فجلست، فما أطلت، حتى طلع علي، فحين رأيته طار عقلي جزعاً، وفرحاً، وتشككاً، فقلت: حديثك.
قال: إن السبع ساعة جرني، وأدخلني الأجمة، هزني، وسحبني، فأنا لا أعقل.
ثم سمعت صوت شيء، فإذا بخنزير عظيم قد خرج، فحين رآه السبع، تركني، وقصد الخنزير، فدقه، وأقبل يأكله، وأنا أراه، ومعي بقية من عقلي.
فلما أن فرغ منه، خرج من الأجمة، وتركني، وقد جرح فخذي جراحة خفيفة.
فقمت، فوجدتني أطيق المشي، فأقبلت أمشي في الأجمة، أطلب الطريق، فإذا بجيف ناس، وبقر، وغنم، وغير ذلك، منها ما قد صار عظاماً بالية، ومنها ما هو طري.
فانتهيت إلى خرق متمعطة، ومخالي للفيوج مطروحة، فسولت لي نفسي تفتيش ذلك.
ثم وقفت على شيء مكور، فإذا هو هميان، ففتحته، فإذا فيه ألف دينار صفر، فأخذتها، ولم أفتش الباقي، وخرجت، فما عرجت، وعدت إلى منزلي، فسبقتك.
قال: وأخرج الدنانير، فأراني إياها، وكشف عن الجراحة، فسلمت إليه، متاعه وافترقنا.
كتاب من يحيى بن فهد الأزدي للأمير
أبي تغلب بن حمدانكتب أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي، إلى الأمير أبي تغلب فضل الله بن ناصر الدولة، عند اعتقاله أخاه أبا الفوارس محمد، لخوفه منه، وحمله إياه إلى القلعة مقيداً، وحبسه فيها، وذلك في شعبان سنة وستين وثلثمائة، في الليلة الثامنة منه.
وكتب أبو محمد ذلك، لما بلغه الخبر، بمحضر منا، كالارتجال، بغير فكر طويل، ولا تعمل شديد، نسخته: من اختاره الله تعالى لجليل الأمور، واصطفاه لحراسة الأمة وحماية الثغور، وخصه بنفاذ الرأي فيما يحله ويعقده، ونصره على كل عدو يرصده، وكفاه كيد من يبغي عليه ويحسده، وقرن عزماته بالصواب في جميع ما يمضيه، وبلغه في الدنيا ما يرتجيه، وجعل ما يبرمه مطرداً على التوفيق، وذاهباً مع السداد في أجمل طريق، معونة له على ما اسنده - جل ذكره - إليه، وحفظاً للملة، وذباً عنها على يديه، لا سيما إذا كان مقدماً لتقوى الله سبحانه، في سائر أفعاله، مؤثراً لرضاه تعالى، في جميع أحواله، غير خارج عن حدوده في تدبير، ولا ناكث عن صراطه في صغير ولا كبير.
والحمد لله الذي خص مولانا الأمير السيد، أطال الله بقاءه، من هذه الأوصاف الشريفة، والأخلاق المنيفة، بما فضله به على ملوك الزمان، وأنطق بذكره وشكره كل لسان، وجعل القلوب كلها، شاهدة به، والآراء علي اختلافها، متفقة عليه.

والحمد لله الذي جعل تدبيراته جارية على الصواب، ماضية على سنن الكتاب، محروسة من عيب كل عائب، ثاقبة كالنجم الثاقب، الذي لا يدفع عله دافع، ولا ينازع في سموه منازع. وإياه نسأل، كافة أولياءه، وخدم دولته، وإليه أرغب، الرغبة التامة من بينهم، في إيزاعه الشكر على ما أولاه، وإلهامه حمده، تقدست أسماؤه، على ما خوله وأعطاه، وأن يديم له شأنه وتسديده، ويصل بالحق وعده ووعيده، ويحسن من كل نعمة وموهبة، حظه ومزيده، ويجعل قوله مبروراً، ووعده مقهوراً، وفعله مشكوراً، وقلبه مسروراً، ولا يخليه من جد سعيد، إنه ولي حميد، فعال لما يريد.
وورد الخبر، بما جرى من الاستظهار على من شك في مناصحته ووفائه، وظهر في الدولة سوء رأيه، بعقب تتابع الأنباء، بما كان أضمره من الغدر، وأضب عليه من قبح الأمر، وبما نال منه من إعمال الحيلة على ثلم المملكة، والسعي في تفريق الكلمة، وإفساد البلاد، وإخافة العباد، ولم يصادف وروده، إلا مستبشراً به، مستنصباً له، عالماً بجميل صنع الله - عز وجل - في وقوعه، شاكراً له على ما أبلاه، وأولاه من المعونة عليه، عارفاً بأن مولانا الأمير - أدام الله تأييده - لم يأمر به، وما وجد سبيلاً إلى الصلاح، إلا سلكها، ولا ترك سبيلاً إلى الاستصلاح إلا ركبها، فلم يزده ذلك إلا تماديا ًفي العصيان وغياً، ومروراً في ميدان البغي وبغياً يحسن به العدول عن صلة الرحم،بحكم الله عز وجل، إذ جعل البغي في كتابه،محلاً للإخلال بحق النسب، حيث يقول، وهو أحسن القائلين " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون " فبين سبحانه: إن الفحشاء ضد للعدل، والمنكر مسقط للإحسان، والبغي موجب لقطع القرابة، وأوجب تبارك اسمه، لمولانا الأمير - أدام الله عزه - النصر على الباغي، بقوله عز من قائل، ومن بغي عليه لينصرنه الله.
على أن الذي أتاه مولانا، أطال الله بقاءه، في بابه، لمواصلة الرحم أقرب، ولأسبابها ألزم وأوجب، إذ حال بينه وبين ما يؤثمه ويرديه، وصرفه عما كان يفسد دينه ودنياه بالإيغال فيه، ولم ينقله بذلك، إلا إلى عيش رغد، وأمر تام، ونعمة دارة، وحال سارة.
والله يكافئ مولانا الأمير السيد أطال الله بقاءه على قدر نيته، ويجازيه بجميل طويته، ويبلغه من الدنيا بحسب حفظه فيها للدين، ويكبت أعداءه بذبه عن المسلمين، ويهنيه بنعمه عليه، ويمتعه بمواهبه لديه، ويرغم أعداه، ويحمده بدء كل أمر وعقباه، إنه جواد كريم، سميع مجيب.
من شعر يحيى بن فهد الأزديأنشدني أبو محمد يحيى بن محمد لنفسه:
يا من علاقة حبه فرض ... ضاقت علي ببعدك الأرض
فالقلب يخفق وحشة لكم ... حتى كأن سواده نبض
وأنشدني لنفسه:
وصفراء من مال الكروم عتيقة ... مكرمة لم تمتهن بعصير
صبغت بها كأسي وأطلقت شمسها ... على نوره إلا بقية نور
كسالفة شقراء قد رف تحتها ... جربان وشي أبيض وحرير
كأن شعاع الكأس نار توقدت ... على كف ساق زينت بخصور
فما حضرت حتى تبدل ما جنى ... علي زماني من أسى بسرور
وأنشدني لنفسه:
لقد نفرت عيني عن النوم بعدكم ... فليس إلى طيب الرقاد تتوق
وقد ألفت طول البكاء كأنها ... لدمع عيون العالمين طريق
وأنشدني لنفسه:
يا موقد النار في فؤادي ... وآمر العين بالسهاد
حللت من ناظري وقلبي على تعديك في السواد
فليس ترقى دموع عيني ... أو يظفر القلب بالمراد
وليس يطفى لهيب قلبي ... أو تملك العين للرقاد
وأنشدني لنفسه:
أصبحت من شوقي ومن ضري ... تنم أنفاسي على سري
وكلما جئتك أشكو الهوى ... ازددت يا مولاي في هجري
فكم تراني صابراً للبلا؟ ... ستغلب البلوى على صبري
وأنشدني لنفسه:
يغدو علي بوجه مشرق غنج ... يا طيب مبتكري فيه وإصباحي
في صورة البدر في قد القضيب على ... دعص من الرمل يخطو فوق رحراح
وأنشدني لنفسه من أبيات:

الليل يعجب مني كيف أسهره ... والشوق ينهى الكرى عني وأزجره
والصبح قد ضل عن ليلي بوادره ... فما يلم بهذا الليل آخره
وأدهم الليل وقف ما يغالبه ... من الصباح على الظلماء أشقره
وأنشدني لنفسه:
إذا أتاك امرؤ يبغيك حاجته ... فقد علاك بفضل ما له ثمن
فاسمع له طائعاً وانجح مطالبه ... واعرف له حقه لا خانك الزمن
وأنشدني لنفسه:
يا هاجراً لغلامه ... ومقاطعاً لكلامه
ومواصلاً لصدوده ... وعتابه وملامه
لم قد هويت جفاءه ... وتركته بغرامه
أمنن عليه بوصلة ... لخضوعه وسقامه
وأنشدني لنفسه:
يا هلالاً بدا فوافق سعداً ... وغزالاً كأنه الغصن قداً
ومثالاً تكامل الحسن فيه ... فحكت وجنتاه خمراً وورداً
كلما ازددت في القطيعة بعداً ... زدتني جفوة وهجراً وصداً
تتعدى وحق أن تتعدى ... كل من يملك الجمال تعدى
إنني ما اتخذت غيرك مولى ... فاتخذني لحسن وجهك عبداً
وأنشدني لنفسه:
سقى الشوق عيني ماء وجد ولوعة ... فإنسانها في ذلك الماء يسبح
إذا حركته من جوى الحب زفرة ... ترقرق فوق الخد منه الملوح
وأنشدني لنفسه قصيدة يفتخر فيها، أولها:
سوى حلمي يخف مع الشباب ... وغير أعنتي يثني التصابي
يقول فيها:
كأن عواقب الأيام مدت ... فقرت من فؤادي في كتاب
فلست أدافع الجلى بشك ... ولا أشكو الحوادث بارتياب
وأنشدني أيضاً قصيدة أخرى أولها:
أبى شرف المناصب والأصول ... وفضل في القلوب وفي العقول
وقلب لا يخوف بالمنايا ... ونفس لا تقر على خمول
لمثلي أن يميل إلى اكتساب ... بغير السمهرية والنصول
وأنشدني من قصيدة يفتخر فيها:
تعود كفي قائم السيف صاحباً ... يساعده في كل أمر يحاول
سريع مضاء الشفرتين كأنه ... إذا سل من ماء المنية سائل
كأن مدب النمل فوق غراره ... إذا صح منه للعقول التأمل
بين يحيى بن فهد الأزدي
وأبي الفرج الببغاءوكتب إلى أبي الفرج الببغاء، إلى الموصل، يتشوقه، بعد خروجه من بغداد:
ظعنت فما لأنسي من ثواء ... وبنت فبان عن قلبي السرور
ولو أني قضيت حقوق نفسي ... تبعتك كيفما جرت الأمور
وودي ليس ينقصه مغيب ... كما لا يستزيد له حضور
فإن تبعد فإنك ملء صدري ... وودك جل ما تهوى الصدور
فأجابه أبو الفرج:
بقربك من بعادك أستجير ... وهل في الدهر غيرك من يجير
نأيت فما لسلواني دنو ... وغبت فما للذاتي حضور
وقد صاحبت إخواناً ولكن ... متى تغني عن الشمس البدور
فيا من رعت منه الدهر قدماً ... بمن تسمو بخدمته الأمور
ومن قدرت أن له نظيراً ... فحين طلبت أعوزني النظير
إذا كنت السرور وغبت عني ... فكيف يتم بعدك لي سرور
ولأبي محمد إلى أبي الفرج، في فصل من كتاب، وقد اعتل بعده:
فقدت السلامة لما نأي ... ت وحالفت لما بعدت الضنينا
وكان اقترابك لي صحتي ... فحين ارتحلت عدمت القرينا
وما هون السقم يا سيدي اش ... تياقي وحاشى له أن يهونا
فكتب إليه أبو الفرج، في صدر كتاب:
وعن كمد فل غرب السلو ... وشوق أعاد حراكي سكونا
وقلب يرى كل شيء يعين ... قلوب العباد عليه معينا
ولم أر بعدك شيئاً يسر ... فأفتح أنساً إليه الجفونا
وجملة أمري أني اشتكيت ... وقد كان دهري لي مستكينا
وجربت مذ غبت عني الكرام ... فكانوا الشكوك وكنت اليقينا
وأنشدني لنفسه:

يدعي حبيبي إلى هجري فيعدل بي ... عن هجره مرض في القلب مكتوم
لو كان ينصفني ما كان يهجرني ... لكنني الدهر في حبيه مظلوم
فقرات من رسائللبعض الكتاب، في وصف قاض: الحمد لله الذي ليس من دونه احتراز، ولا لذاهب عنه مجاز، هو من لا يبهره الإطراء، ولا يحيله الإغراء.
آخر: الحمد لله على حلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، الذي لا يودى مسيله، ولا يخيب سؤوله.
آخر: إن لله علينا من النعم ما لا نحصيه، مع كثرة سخطه على ما نعصيه، فما ندري أيها نذكر، ولا على أيها نشكر، أجميل ما نشر وأبدى، أم قبيح ما ستر وأخفى.
بين أبي عمر القاضي
وأبي عصمة الخطيبحدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش، وأبو جعفر طلحة بن عبيد الله بن قناش الطائي الجوهري البغدادي، وجمعت خبريهما، قالا: كان أبو عصمة العكبري الخطيب، غالباً على أبي القاسم بن الحواري، وكانت منزلته في الطيبة مشهورة، قال، فحدثنا: أن أبا عمر خطب لابن رائق الكبير، على ابنة قيصر الكبرى، فأطال وأبلغ، وكان يوماً حاراً. فلما انقضت الخطبة، قيل له: اخطب على البنت الأخرى، للابن الآخر.
فكره الإطالة، لئلا يضجر الخليفة، وأراد التقرب إليه، فحمد الله سبحانه بكلمتين، ثم قرأ آية من القرآن، وعقد النكاح.
فنهض المقتدر مبادراً لشدة الحر، ووقع ذلك عنده ألطف موقع لأبي عمر.
قال: فعاد ابن الحواري إلى داره، وجئت، فجلست عنده أحدثه، وأتطايب له، وأغمز رجله.
فقال: جرى اليوم لأبي عمر القاضي كل جميل، ووصفه الخليفة، وقرظه، واستحسن إطالته في الخطبة الأولى وإيجازه في الثانية، وقال: مثل هذا الرجل، وفيه هذا الفضل، لم لا نزيد في الإحسان إليه؟ فقررت مع الخليفة، بأن يزيده في أعماله وأرزاقه، كذا وكذا، فأمرني بتنجيز ذلك له من الوزير.
قال: وكان ابن الحواري، صديقاً لأبي عمر.
فلما سمعت ذلك، دعتني نفسي إلى أن أستبق بالخبر، إلى أبي عمر، لأستحق البشارة، وأتقرب إليه.
وطال علي الوقت، حتى نام أبو القاسم، فركبت دابتي، وجئت إلى أبي عمر، فأنكر مجيئي ذلك الوقت، وعلم أنه لمهم، فأوصلني، فجلست، وهنأته، وحدثته بالحديث على شرحه.
فقال أبو عمر: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأحسن الله جزاء أبي القاسم، ولا عدمتك. فاستقللت شكره،وولد لي فكراً، مع ما بان لي في وجهه من التعجب مني.
فلما خرجت ندمت ندماً شديداً، وقلت: سر السلطان، أفشاه إلى رجل عنده فوق الوزير، فباح ذلك الرجل به بحضرتي وحدي، لا يسره عني، ولعله هو، أراد أن يعتد به على أبي عمر، بادرت أنا بإخراجه، إن راح أبو عمر فشكره على ذلك، أو ذاكره به، فعلم أن ذلك من فعلي، بأي صورة يتصورني؟ أليس يراني بصورة من خرج بسر؟ وإخراج السر، في الخير والشر، والفرح والغم، والجيد والرديء، واحد؟ إن أداه ذلك إلى استثقالي واحتشامي، أليس في هذا انتقاص معيشي وخيري؟ ثم إن حجبني عنه،من يوصلني إليه؟ ومن يرغب في استخدامي بعده أو يدخلني داره؟ أوليس ينتشر في البلد، إنه طردني، لأنني أفشيت له سراً، لا يدري ما هو.
ليس إلا أن أرجع إلى أبي عمر، فأسأله كتمان ذلك.
قال: فرجعت من حيث قدمت لي دابتي، ولم أركب.
فحين وقع ناظر أبي عمر علي، قال لي: يا أبا عصمة، ولا حرف، ولا حرف.
قال: فكأنه حسب ما حسبته لنفسي، وعلم ما علمته، مما طرأ علي، فلما رآني قد استدركت ذلك، علم أني ما رجعت إلا لأسأله كتمان هذا، فبدأني بما قاله، فشكرته وانصرفت، ولم اجلس.
وقد أخبرني أبو الحسين بن عياش رحمه الله، بهذا الخبر، عن أبي عصمة، ولم يذكر فيه حديث الخطبة، ولا أي شيء كان السر، وهذا الحديث أشرح، فأوردته هكذا.
؟
القاضي يخطب بين يدي
الخليفة في الأملاكحدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: حدثني القاضي أبو طالب بن البهلول، قال: لما تأخر أبي عن حضور المواكب، وكان لا يخطب في الإملاكات غيره، عرض للمقتدر رأي، في إملاك بحضرته.
فقال لي علي بن عيسى هذا شيء كان إلى أبيك، وأنت أحق به.
فقلت: لا أقوم به.
فقال لأبي عمر: فاخطب أنت.
فاستعفاه، وسأله أن يجعل ذلك إلى ابنه، فجعله إليه.
وكان يخطب بحضرة المقتدر في الإملاكات.
وصف طبق قطائف

وصف القاضي المعروف بالنقاش، طبق قطائف، قدم إليه، فقال: اقشعر جلده من كثر حمله.
النداء على الرطب الآزادحدثني خالي، قال: سمعت منادياً ببغداد، ينادي على الرطب الآزاد: هوذا أولاد الخلافة، في الغلائل نيام.
الوزير ابن مقلة وأبو أحمد الفضل
الشيرازي الكاتبحدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي، قال: حدثني أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب، قال: كنت أكتب بين يدي أبي علي بن مقلة، وهو وزير، وكانت حالي صغيرة، وكنت أستحلي قينة كنت أنفق جميع ما أكسبه عليها.
وكان أبو علي يعرف ذلك من خبري، فيخصني بالأعمال التي تكسب المنافع، وإذا أراد كتب عهد لعامل، أو إجابة صاحب طرف، لم يعدل بذلك عني، فأنتفع بالمائتي دينار، والثلثمائة، والأكثر، والأقل، ولا أبقي شيئاً.
قال: فكان من ذلك، أن كتاب ملك جرزان، ورد عليه، فرمى به إلي، وأمرني بالإجابة عنه. فجاءني موصله، يتنجز الجواب، وحمل إلي مائتي دينار، وثياب ديباج، وغير ذلك.
فأجبته جواباً جميلاً، وأخذت ذلك فأنفقته كله على المغنية.
وأصبحت بعد أيام، وهي عندي، وليس معي ما أجذرها به في يومي ذلك، وأنا قلق من انصرافها، ولا حيلة لي في إسلامها، حتى جاءني غلامي، فقال لي: إن صاحب جرزان على الباب.
فتثاقلت به، وقلت: لم يبق شيء أتوقعه منه، وقد كتبت كتبه، وأنا متشاغل بحيلة ما أجذر هذه اليوم، فاحجبه عني.
قال: فخرج وعاد وقال: قد أعطاني عشرة دراهم، وسألني إيصاله إليك.
قال: فطمعت فيه، وقلت: إذا أعطى غلامي عشرة دراهم، فالأمر يحتمل أن يصل إلي، هاته. قال: فدخل، وأخرج الكتاب، وقال: يا سيدي، كانت العادة، إذا عنون الكتاب إلى صاحبي، وقيل: لأبي فلان بن فلان، أن يقال بعد ذلك: ملك جرزان، ولم يقل هذا، وفيه عليه غض في عمله، فحلق ذلك.
قال: فقلت هذا لا يجوز إلا بأمر من الوزير، وهذا أمر عظيم، وإذا قيل ذلك فكأنما قد أزلنا ملك السلطان عن ذلك الصقع، وأخذت أهول الأمر، وأفخمه بقدر طاقتي.
فقال: يا سيدي، لا زمان علي في مساءلة الوزير، لأني أريد الخروج اليوم مع القافلة، فخذ مني ما شئت، واكتب لي.
قال: فزاد طمعي فيه، وقلت: هذا أمر لا يمكن للوزير فعله، إلا بأمر من الخليفة.
قال: فما زلت معه في ألوان، إلى أن دفع لي في الحال، ثلثمائة دينار عيناً.
فقلت: على شريطة أن لا يرى الكتاب أحد معك، ولا تقم اليوم ببغداد.
قال: فشارطني على ذلك.
فكتبت إلى جانب العنوان " ملك جرزان " فقط، وأخذت الدنانير وانصرف الرجل، ولم أدع الجارية تبرح ومعي شيء من الدنانير.
قال: ثم دخلت إلى أبي علي، بعد ذلك بأيام، فرمى إلي كتباً وقال: اكتب إلى صاحبها عهداً على أعماله بتستر.
قال: فجاءني الرجل، وحمل إلي مائتي دينار، وثلاثة أثواب تسترية، وعمامة منها، فكتبت عهده، وقطعت الثياب، وكنت أنفق من تلك الدنانير.
قال: وكان بين أبي علي، وبين أبي العباس الخصيبي، من العداء والمشاحة على الوزارة، ما عرفه الناس، وكانت لأبي العباس علي، حقوق، ورياسة قديمة، فكنت أحب لقاءه، وأخاف من أجل الوزير، فكنت ربما مضيت إليه في الأيام سراً، واعتذرت من تقصيري باتصالي بالوزير، فيعذرني.
فاتفق أني مضيت إليه يوماً سحراً، في تلك الثياب الجدد، وعدت إلى دار الوزير، فلما صرت في الحجرة التي كان فيها، وجدته وأبا الحسين ابنه، مختليين، وفي ناحية من الدار جماعة من الكتاب جلوس، منهم أبو جعفر بن شيرزاد، وأبو محمد المادرائي، وأبو العلي الحسن بن هارون، وغيرهم.
فعدلت لأجلس مع الجماعة، فلما رآني الوزير، صاح: تعال، بحرد.
قال: فقمت فزعاً، أن يكون الخبر بلقائي الخصيبي، قد ري إليه، فجئته، فأسر إلى أبي الحسين، بشيء في أمري، لا أدري ما هو، ثم ضحك وقال: اجلس، فلما ضحك، سكنت نفسي، وجلست.
فقال: اليوم يوم سبت، والهوا طيب فما ترى في ترك العمل والصبوح؟ فقلت: هذا والله عين الرأي، وحقيقة الصواب، ونفس لواجب، وما لا يجوز العدول عنه، ولا الخروج منه، ولا التأخر عن فعله، وأخذت أصف طيب الصبوح، وأروي ما حضرني فيه، في الحال.
قال: فقال لحاجبه: قل لأصحابنا، يمضون إلى الديوان وينظر كل واحد في أمره، وما إليه، وأخل دار العامة، ولا تستأذن علي لأحد، حتى أتشاغل بالصبوح.

ثم دعا الفراشين، فأمرهم بفرش حجرة كان يستطيبها، وقال: أريد أن تكون في نهاية الضياء، من غير أن يسقط فيها خرم إبرة شمس.
فقام فلم تكن إلا ساعة، حتى جلس فيها، فأكلنا معه، ونفسي متطلعة إلى ما جرى.
فلما نهضنا لغسل أيدينا، سألت أبا الحسين عن ذلك، فقال:إن الوزير لما رآك، قال: هذا الرجل يخدمنا، ويختص بنا، وواجب الحق علينا، وهو يعشق مغنية لعل ثمنها شيء يسير، ويتلف كل ما يكسبه عليها، ولا نشتريها له؟ أي شيء أقبح من هذا؟ قال: فقلت له - وكنت أعرف في أبي الحسين شدة - فأي شيء قلت له يا سيدي؟ قال: قد قويت رأيه.
قلت لا يقنعني هذا والله، أريد أن تتجرد، وتصمم، وتذكره، ولا تدعه أو يتنجز لي ثمنها اليوم.
فقال: أفعل.
وقام أبو الحسين لينام، فلم يحملني أنا النوم، وقعدت، فعملت أبياتاً في الوزير، أشكره على هذا الرأي، وأتنجز الوعد، وحررتها بأحسن ما قدرت عليه من خطي.
فلما جلسنا للشرب، وشرب الوزير أقداحاً، رميت إلى أبي الحسن ابن هارون بن المنجم، بالرقعة، وكانت له عادة عندي في التعصب لشعري، والمدح لي عند الوزير، لنفاقه عليه، واختصاصه به، من بين ندمائه.
فأخذ أبو الحسن الرقعة، فأنشد منها الشعر، وأتبع ذلك بوصفها وتقريظها، وتبعه الجماعة، واستحسن الوزير ذلك، فأخذ الرقعة، فقطع بالسكين، سحاة عريضة منها، فكتب في رأسها شيئاً، ثم أخذها الوزير، فلفها شديداً حتى صارت كالزر، ورمى بها، فإذا هي في حجري، ففتحتها، فإذا فيها: ندى الخادم، عشرة آلاف درهم، وبخط أبي الحسين: فلان الجهبذ خمسة آلاف درهم.
قال: فجئت لأنهض، فأشكره، وأقبل يده، فأومأ إلي بإصبعه، أن اسكت ووضعها على فيه، فسكت، وشربنا إلى أن حضرت المغرب، وقام الوزير ليصلي، وقمنا.
قال: فاستدعاني، فقال: أخذت المال؟ فقلت: لا.
فقال: إنا لله، ظننتك أفره من هذا، إذا قال لك السلطان، هات لأغرف لك، فابسط حجرك، ولا تنتظر غضارة، أن صرفني الخليفة الليلة عن الوزارة، كيف تصل أنت إلى المال؟ إن مت؟ أن كان كذا؟ فقلت: حاشاك يا سيدي، لعن الله هذه الدراهم، مع هذا القول، يبقيك الله ألف سنة.
فقال: دع ذا عنك، ثم نادى الخادم، فجاء، فقال: خذ هذه الرقعة، وأحضر المال الساعة، قبل أن أتمم الصلاة.
قال: فأخذها الخادم ودخل هو في الصلاة، ودخلنا نحن، فوالله، ما تممنا صلاتنا، حتى حضر المال، ولم يكن معي غلام يحمله، إلا صبي يحمل دواتي، ولا يطيق ذلك.
قال: فالتفت إلى بدعة الصغيرة، وكانت في المجلس، وكان بيني وبينها ود، وهي تتعصب لي، فقلت: يا ستي، أعيريني بعض خدمك، يحمل هذا المال معي، إلى داري فإن غلامي لا يطيقه. قال: وكانت بدعة الحمدونية، إذا حضرت المواضع، معها عدة جوار وخدم وفراشين.
قال: فدفعت إلي غلامها، وكان مقدماً عندها، فسلمت إليه المال، فحفظه، حتى أداه إلى منزلي. فاستدعيت مولاة الجارية، وبذلته لها في ثمنها، فقالت: لا أبيعها إلا بثلاثين ألفاً، فاستقبحت إعلام الوزير بالصورة، وتاقت نفسي إلى نفقة المال، فأسلفتها منه للجذور، خمسة آلاف درهم، وأنفقت الباقي عليها في مدة يسيرة.
الوزير ابن مقلة يهدي لكاتبهعطراً وشراباً ومالاً
حدثني أبو محمد أيضاً، قال: حدثني أبو أحمد أيضاً، قال: غدوت في بعض الأيام إلى حضرة الوزير أبي علي بن مقلة، وأنا في بقية خمار، وقد خلفت في داري هذه الجارية.
فلما مضى من النهار ساعتان، عن للوزير قطع العمل، والتشاغل بالشرب.
فقطعت من رأس الدرج، قطعة، وكتبت فيها إلى أخي، آمره باحتباس الجارية، وبإعداد أشياء رسمتها له، وأعلمته أنني على أثر الرقعة، مع تشاغل الوزير بالأكل، وعملت على الاحتجاج للوزير بالخمار، والوزير يلحظ ما أكتبه، ويقرؤه، وأنا لا أعلم.
وسلمت الرقعة إلى غلامي ومضى بها إلى منزلي.
فلم يكن بأسرع من أن نهض الوزير، واستدعى المائدة، وأمرني بالأكل معه، فامتنعت، واحتججت بعظم الخمار، وأنني لا أقدر على شم الطعام، فضلاً عن أكله.
فألح علي فألححت في الامتناع.
فاستدعى عملاً كان بين يديه، وأخرج منه عدة كتب، وأمرني بالانفراد، والإجابة عنها.

فورد علي من ذلك ما أقلقني، ولم أعلم غرضه، ولا أنه يستدعيني إلى الطعام، ويشير علي بالدخول معه في ذلك الأمر، وتأخير الكتابة إلى غد، وأنا مقيم على شكوى الخمار، وتعذر الأكل علي.
إلى أن فرغت من الكتب، وقد توسط أكله، وجئت بها مقدراً أنه يأذن لي في الانصراف.
فقال: قد تبقى من مدة أكلنا، ما تبلغ به وطرك من الطعام، فاستخر الله وساعدنا.
فأقمت على الامتناع.
فاستدعى عملاً ثانياً، وأخرج منه عدة كتب أخر، وقال لي: إذا كنت غير داخل معنا في أمرنا، فأجب عن هذه أيضاً.
فورد علي أعظم من الأول، وانفردت للإجابة، إلى أن فرغت منها، مع فراغه من الأكل. وجئت بالكتب فعرضتها عليه، وأنا لا أشك في الانصراف.
فقال لي : لست أشك في تصرم خمارك، فاستدع ما تأكله، والحق بنا.
فأقمت على الامتناع.
فاستدعى عملاً ثالثاًً، ليشغلني بشيء، وتبسم.
فقلت له ما هذه الحاجة الداعية إلى اتصال العمل علي في هذا اليوم.
فقال: قد قرأت رقعتك إلى أخيك، من ظهرها.
فعرفت من حيث أتيت، فضحك وضحكت.
وأمر بإحضار مائتي دينار، وعشرين دناً من الشراب العتيق، وسلم ذلك إلى غلامي، ثم أمر بإحضار صندوق صغير له، فيه طبب، فقدم إلى حضرته، ومنديل دبيقي، وجعل فيه من الصندوق، من الند كفاً، ومن العود المقلي كفاً، وكذلك من الكافور والمسك، مثل ذلك، واستدعى قدحاً، فجعل فيه أوراق غالية، ووضعه في المنديل، وختمه بخاتمه.
وقال: إمض فأنفق هذه الدنانير، وشرب الشراب، وتبخر بهذا البخور.
فأخذت جميع ذلك، وانصرفت.
أنت تحركت على الصفراءليس الصفراء تحركت عليك وحدثني أبو محمد أيضاً، قال حدثني أبو أحمد أيضاً قال: كانت هذه الجارية صفراء، تسمى بهجة.
فشربت معها ليلة، وأصبحت مخموراً، فآثرت الجلوس معها، على لقاء الوزير أبي علي، وكان يعرف خبري معها.
فأردت الاعتذار إليه من التأخر عن الخدمة، وأخفي خبري عليه، فكتبت إليه رقعة أعتذر فيها، وأقول: إن الصفراء تحركت علي، فتأخرت.
فوقع على ظهرها بخطه: أنت تحركت على الصفراء، ليس الصفراء تحركت عليك.
قلت: وهذا التوقيع يشبه ما أنشدنا أبو الحسن علي بن هارون بن المنجم، لنفسه، في جارية صفراء، وقد شكا إلى الطبيب مرة الصفراء، ولا أدري أيهما أخذ من صاحبه:
قال الطبيب وقد تأمل سحنتي ... هذا الفتى أودت به الصفراء
فعجبت منه إذ أصاب وما درى ... قولاً وظاهر ما أراد خطاء
بغل لا يصلح للبيعرأى رجل في حمام، رجلاً وافر المتاع: فقال له عابثاً: تبيع هذا البغل؟ قال: لا، ولكني أحملك عليه.
القاضي أبو الحسن الهاشمي
يغسل الخليفة الراضيوحدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي رحمه الله، قال: لما مات الراضي رضي الله عنه، أنفذ إلي فاستدعيت لغسله، فحضرت، ودخلت إلى الموضع الذي هو فيهمن دار الخلافة، فإذا به مسجى، على وجهه إزار مروي غليظ.
فقلت: لا إله إلا الله، مثل هذا يطرح على وجه الخليفة؟ فقال لي بعض الخدم: إنه لما مات، أخذ كل إنسان، ما هو مثبت عليه، فرده إلى الخزانة، حتى طرحت أنا عليه إزاري هذا.
قال: فطلبنا مرجلاً أو مسينة لنغلي فيها ماء حاراً، فما وجدنا، حتى جاءوا بها بعد مدة من حجرة بعض الخدم.
فغسلته، وكفنته بأكفان جميلة من داري، وصليت أنا والخدم عليه، وحمل إلى داره بالرصافة فدفن فيها.
الخليفة الواثق، يهمل بعد موته
فيأكل الحرذون عينيهحدثني الحسين بن الحسن بن أحمد بن يحيى الواثقي، قرابة أبي، قال: حدثني أبي، قال حدثني أبي أحمد، قال: كنت أخدم الواثق، وأخدم تخته، في علته التي مات فيها.
فكنت قائماً بين يدي الواثق، في علته، أنا وجماعة من الأولياء، والمالي، والخدم، إذ لحقته غشية، فما شككنا أنه قد مات.
فقال بعضنا لبعض: تقدموا فاعرفوا خبره، فما جسر منهم أحد يتقدم.
فتقدمت أنا، فلما صرت عند رأسه، وأردت أن أضع يدي على رأسه وأعتبر نفسه، لحقته إفاقة، ففتح عينيه، فكدت أن أموت فزعاً من أن يراني قد مشيت في مجلسه إلى غير رتبتي. فتراجعت إلى خلف، فتعلقت قبيعة سيفي بعتبة المجلس، وعثرت به، فانكببت عليه، فاندق سيفي، وكاد أن يدخل في لحمي، ويجرحني.

فسلمت، وخرجت، واستدعيت سيفاً ومنطقة أخرى، ولبستها وجئت حتى وقفت في مرتبتي ساعة، فتلف الواثق تلفاً لم تشك جماعتنا فيه، فتقدمت فشددت لحييه، وغمضته، وسجيته، ووجهته إلى القبلة، وجاء الفراشون، وأخذوا ما تحته في المجلس، ليردوه إلى الخزانة، لأن جميعه مثبت عليهم، وترك وحده في البيت.
فقال لي ابن أبي دؤاد القاضي: إنا نريد أن نتشاغل بعقد البيعة، ولا بد أن يكون أحدنا يحفظ الميت إلى أن يدفن، فأحب أن تكون أنت ذلك الرجل.
وقد كنت من أخصهم به في حياته، وذلك أنه اصطنعني، واختصني، حتى لقبني الواثقي، باسمه، فحزنت عليه حزناً شديداً، وقلت: دعوني، وامضوا.
فرددت باب المجلس، وجلست في الصحن، عند الباب أحفظه، وكان المجلس في بستان عظيم، أجربة، وهو بين بساتين.
فحسست بعد ساعة، في البيت، بحركة عظيمة أفزعتني، فدخلت أنظر ما هي، فإذا بحرذون قد أقبل من جانب البستان، وقد جاء حتى استل عيني الواثق، فأكلهما.
فقلت: لا إله إلا الله، هذه العين التي فتحها منذ ساعة، فاندق سيفي هيبة لها، صارت طعمة لدابة ضعيفة.
قال: وجاءوا وغسلوه بعد ساعة، فسألني ابن أبي دؤاد، عن سبب عينيه، فأخبرته.
قال: والحرذون، دابة أكبر من اليربوع قليلاً.
ما أرانا إلا كنا خزاناً للوليد
حكي عن هشام بن عبد الملك، إنه لما ثقل، وأخذ في النزع، أغمي عليه، ثم أفاق، فطلب شيئاً. فقيل له: إن الخزان قد أقفلوا على جميعه، وتفرقوا.
قال: فتنفس الصعداء، وقال: ما أرانا إلا كنا خزاناً للوليد بن يزيد.
الخليفة القاهر يعذب أم المقتدر
زوجة أبيه ويصلبها منكسةوهذه شغب أم المقتدر بالأمس، تنعمت ما لم يتنعمه أحد، ولعبت من أموال الدنيا بما استفاض خبره.
فلما قتل المقتدر قبض عليها القاهر، فعذبها صنوف العذاب حتى قيل إنه علقها بثدييها، يطالبها بالأموال، وحتى علقها منكسة، فبالت، فكان بولها يجري على وجهها.
فقالت له: يا هذا، لو كانت معنا أموال، ما جرى في أمرنا من الخلل، ما يؤدي إلى جلوسك، حتى تعاقبني بهذه العقوبة، وأنا أمك في كتاب الله عز وجل، وأنا خلصتك من ابني في الدفعة الأولى، حتى أجلست هذا المجلس.
الخليفة القاهر يعذب أم المقتدر
ويضطرها لبيع أملاكهاحدثني أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني عمي أبو محمد، قال: أنفذني أبو الحسين بن أبي عمر القاضي، وابن حباب الجوهري، إلى القاهر، وكان قد طلب منه شاهدين، ليشهدا على أم المقتدر، بتوكيلها، في بيع أملاكها.
قال: فصرنا إلى دار الخلافة، واستؤذن لنا، فدخلنا إلى القاهر، وهو جالس في صحن كبير، عند باب ممدود عليه ستارة ديباج، وسبنية، على كرسي حديد، وفي يده حربة يقلبها، وخدمه قيام على رأسه.
فسلمنا عليه ووقفنا. ودفع إلينا أحد الخدم، كتاباً أوله: أقرت شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد صلوات الله عليه، أم جعفر المقتدر رحمة الله عليه.
فوقفنا عليه، فإذا هو وكالة ببيع أملاكها، في سائر النواحي.
فقلنا للخادم: فأين هي؟ قال: وراء الباب. فاستأذنا الخليفة في خطابها، فقال: افعلا.
فقلنا: أنت عافاك الله هاهنا، حتى نقرأ عليك؟ فقالت: نعم.
فقرأ عليها الكتاب وقررناها، ثم توقفنا عن كتب الشهادة، فأومأ بعضنا إلى بعض، كيف نعمل في رؤيتها؟ وإلا لم يمكنا إقامة الشهادة، وهبنا الخليفة.
فقال: مل لكم تتآمرون.
فقلنا: يا أمير المؤمنين، هذه شهادة، نحتاج أن نقيمها عند قاض من قضاة أمير المؤمنين؟ فقال: نعم.
قلنا: فإنها لا تصح لنا دون أن نرى المرأة بأعيننا، ونعرفها بعينها واسمها، وما تنسب إليه.
فقال: افعلوا.
قال: فسمعت من وراء الستارة، بكاء، ونحيباً، ورفعت الستارة.
فقلت لها: أنت شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد بالله صلوات الله عليه، أم جعفر المقتدر رحمة الله عليه.
قال: فبكت ساعة، ثم قالت: نعم.
فقررناها على ما في الكتاب، وأسبل الستر، فتوقفنا عن الشهادة، فقال القاهر بضجر: فأي شيء بقي؟ فقلنا: يعرفنا أمير المؤمنين إنها هي.
فقال نعم، هذه شغب مولاة أبي المعتضد بالله، أمير المؤمنين، وأم أخي جعفر المقتدر بالله، ونهض.
فأوقعنا خطوطنا في الكتاب، وانصرفنا.

قال: ولما رأيتها، وجدتها امرأة عجوزاً، دقيقة الوجه والمحاسن، سمراء اللون إلى البياض والصفرة، عليها أثر ضر شديد، وثياب غير فاخرة.
فما انتفعنا بأنفسنا ذلك اليوم، فكراً في تقلب الزمان، وتصرف الحدثان.
وجئنا، فأقمنا الشهادة، عند أبي الحسين القاضي.
يقتلون شيخاً حسن الشيبة
ثم يظهر أنه خناقحدثني أبو جعفر، أصبغ بن أحمد الكاتب، شيخ خدم قديماً الصيمري، وحجب أبا محمد المهلبي، وهو إذ ذاك يخلف أبا جعفر الصيمري على الأمور كلها، فلما ولي أبو محمد الوزارة، صرفه عن حجبته، وصرفه فيما يتصرف فيه المستخرجون المستحثون، قال: حدثني بعض غلمان بجكم، قال: أنفذني إلى الأنبار، في جماعة غلمان، لقتل قوم كانوا محبسين من الأعراب، وأمرنا بحمل رؤوسهم إليه، وكتب لنا في ذلك.
فجئنا إلى العامل، فأوصلنا إليه الكتاب، فسلم القوم إلينا، فضربنا أعناقهم، وقطعنا رؤوسهم. وأقمنا ليلتنا هناك، وبكرنا، والرؤوس في مخال دوابنا، مسمطة عليها، ونحن نريد بغداد.
وكنا عشرة غلمان، والمقتلين عشرة.
فلما صرنا في بعض الطريق، وحمي النهار، أوينا إلى قرية خراب، وجلسنا نأكل، والمخالي بين أيدينا، فيها الرؤوس، قد نحيناها عن الدواب، وتركنا الدواب ترعى.
فلما فرغنا من أكلنا، قمنا إلى المخالي، فافتقدنا من الرؤوس التي فيها واحداً، فقامت قيامتنا، فقلنا نحن مقتولون به، سيقول لنا بجكم: أخذتم منه مالاً وتركتموه، كيف نعمل؟ فأجمع رأينا على أن نخرج إلى تلك الصحراء، فنعترض رجلاً كائناً من كان أول ما نلقاه، فنقتله، ونجعل رأسه في المخلاة، بدلاً من الذي ضاع، ونسير.
فخرجنا على هذا، فأول من استقبلنا، رجل شيخ، حسن الشيبة والثياب، له سجادة وسمت، وهو راكب حماراً، عليه خرج مثقل، وهو يسير.
فأوقعنا به وقتلناه، بعد أن تذممنا من قتله، مع ما رأيناه عليه ، إلا أنا خفنا أن ينتشر الناس في الطريق، فلا يمكنا قتل أحد، ونكون نحن المقتلين.
فقتلنا الرجل، وقطعنا رأسه، وجئنا لنجعله في المخلاة، فإذا نحن برأس ملقى بين أرجل الدواب، فشككنا فيه، وعددنا الرؤوس، فإذا هي أحد عشر.
فشككنا، حتى أخذ كل واحد منا رأساً، وبقي في الأرض رأس واحد فاضلاً.
فقامت قيامتنا، ولطمنا، وقلنا: قتلنا رجلاً مسلماً بغير سبب، وشق ذلك علينا.
وكان معنا شيخ من الغلمان، جار، فقال: يا قوم، إنكم ما سلطتم على هذا الشيخ، إلا وله عند الله سريرة سوء، ففتشوا رحله، لعلكم تستدلون على ما يزول به غمنا في قتله.
فقمنا إلى رحله فحططنا الخرج عنه، وفتحناه، فأول شيء خرج علينا، هو بكرة، ثم تلا ذلك، ثياب ملوثة بالدم وبالغائط.
وتوالت الأدلة علينا، فإذا هو خناق شداخ.
فحمدنا الله تعالى على ما سلمنا من قتل من لا يستحق القتل. وتقاسمنا قماشه، ودفنا رأسه في الطريق.
وجئنا فسلمنا العشرة الرؤوس إلى بجكم.
القاضي أبو عمر وحسن تصرفه
ووفور عقلهحدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، قال: ركبت معم القاضي أبي عمر، في يوم موكب، في طياره، إلى دار المقتدر.
فصعد هو وابنه، وجلست أنا والجماعة، في الطيار، ننتظر رجوعه.
فرأيت جماعة من الخدم، وقد وقفوا له، يشتمونه بأقبح لفظ، ويقولون له: يا ظالم، يا مرتشي، وهو مطرق إلى الأرض، يمشي إلى أن دخل الدار.
فهالني إقدامهم عليه، وقبح الصورة، وقلت في نفسي: إن لم يكن هذا الفساد برأي الخليفة، وإلا فيجب أن يشتكي إليه منهم الساعة، حتى يؤدبوا.
فلما عاد، خاطبه أولئك الخدم، بأقبح من الخطاب الأول، فعلمت أنه ما شكاهم، ولم أقدم على مخاطبته في ذلك، لعظم هيبته، وافترقنا.
فلما كان عشي ذلك اليوم، عدت إليه، وهو متخل، وقد استدعى بعض أصحابه، ودفع إليهم تخوت ثياب فاخرة، وطيباً، وأشياء قيمتها خمسمائة دينار، وأمره بحملها إلى خادم كان رئيس أولئك الخدم الذين سبوه غدوة.
وقال له: إقره السلام، وقل له كنت راسلتني في أن أحكم لفلان بشيء، لم تجز إجابتك إليه، لأنه لم يكن مذهبي، ولا مما يجوز عندي في الحكم، ولو عرضت على السيف لم أجب إلى محال في حكم، فرددتك.

فكان منك بالأمس ما لم يرض الله به، ولا قدح في شيء من أمرنا، ولكني استدللت به على عتبك، ووقع لي أن الرجل كان وعدك بشيء ساءك فوته، وقد أنفذت إليك هذا - وضع الهدية بين يديه - وأحب أن تقبله، وتعذرني.
قال: فاغتظت منه ، وقلت في نفسي: يؤدي جزية، ويعطي مصانعة عن عرضه، أي رأي هذا؟ فمضى الرسول، وافترقنا، ما بدأني بشيء، ولا بدأته به.
فلما كان في الموكب الثاني، صحبته، فصعد من الطيار، وجلست على رسمي، فإذا بأولئك الخدم، وعدة أكثر منهم، وقد وقفوا له سماطين، يقولون: يا عفيف، يا نظيف، يا مأمون، يا ثقة، يا جمال الإسلام، يا تأريخ القضاة، ويدعون له، ويشكرونه، حتى صعد من الطيار، وخدموه أحسن خدمة، وهو ساكت على رسمه، إلى أن دخل الدار، ثم عند خروجه إلى أول ما نزل طياره.
فتحيرت مما رأيتهم عليه من التضاد في الدفعتين، مع قرب العهد.
فلما استقررنا في الطيار، قال لنا أبو عمر: كأني بكم أنكرتم ما جرى منهم في ذاك الموكب، قلتم: لو شكاهم إلى الخليفة، فأمر بتأديبهم، أليس كذا وقع لكم؟ قلنا: بلى.
قال: كيف رأيتم ما شاهدتم اليوم؟ قلنا: أحسن منظر.
قال: أنه لم يذهب علي ما فكرتم فيه، ولكني علمت أنه لو شكوتهم، كنت بين أمور: إن لم يقع إنكار، فتنخرق هيبتي، ويبطل جاهي، ويطمع كل أحد في، ويجر علي ذلك أموراً كباراً.
أو وقع إنكار ضعيف، كان ذلك إغراء لهم.
أو وقع إنكار قوي، صاروا كلهم أعدائي، وتنقصوني، وعاداني بعداوتهم من فوقهم من الخدم، ولهم بالسلطان خلوات ليست لي، فيولدون علي عنده من الحكايات والسعايات، ما يفسد علي رأيه في مديدة.
وإني علمت أنهم ما قصدوني بهذا لشيء بيني وبينهم، وإنما هي طاعة منهم، للخادم الذي هو رئيس عليهم ، وأن ما حمله على ذلك ، ما كان طمع في أخذه على قضاء الحاجة التي سألني فيها فرددته.
وعلمت أني إذا عوضته واستصلحته، صلح لي جميع هؤلاء.
فعلمت ما رأيت، فانصح هؤلاء، وجميع الخدم، وأمنت عداوتهم، وعادوا يكذبون أنفسهم فيما رموني به ذلك اليوم ، ويخاطبوني بضده، بحضرة أكثر من كانوا خاطبوني ذلك اليوم بالقبيح بحضرته، وصاروا لي خدماً، وزاد ذلك في محلي، أن يرى أعدائي، خدم الخليفة، يخدمونني، ويدعون لي، ولم يكن الخليفة، لو بلغ غاية الإنكار عليهم، يأمرهم بهذا من خدمتي.
وما علم الغرباء، لأي سبب رضوا عني، وفعلوا بي هذا، ويجوز أن يظن أعدائي، أو يرجف أوليائي، أن الخليفة أمرهم بهذا، وأنكر عليهم ما جرى أولاً، فتلافوني بهذا الفعل، وقد بلغت أكثر ما أردت، ولم أبلغ الغاية، ولا عاديت أحداً.
واعلم يا أبا الحسن، إن أشياء قليلها كثير، منها إيثار العداوة، - وذكر أشياء لم أحفظها - فأي الرأيين الآن عندك أصوب؟ فقلت: رأي القاضي، جمل الله الدنيا ببقائه، وفعل به وصنع.
؟
القاضي أبو عمر يستميل أحد خدم الخليفةوقد سمعت هذا الخبر عن جماعة غير القاضي أبي الحسن، منهم أبو عمر عبيد الله بن الحسين بن أحمد السمسار البغدادي الشاهد، وكان يخلف القضاة على بعض الأعمال، ويتقلد سوق الرقيق بمدينة السلام، فذكروا: أن أبا عمر القاضي، لما جرى عليه من الخادم ما جرى، أحضر حضرياً كان يخدمه، وقال له: امض فتوصل إلى فلان الخادم وابكي بين يديه بكاء شديداً، وقل له: إن أخي مات، وخلف مالاً وأطفالاً، ولم يوص.
وإن القاضي قد رد ذلك إلى بعض أسبابه، وفي هذا ذهاب جاهي، وإن كان قد فعل الحق في ذلك، فالله، الله، في ، تسأله أن يرد إلي المال والطفل، واحرص على ذلك، واحمل له هذه الدنانير - وأعطاه مائة دينار - ، وقل له: إذا فعلت ذلك، أعطيتك مائة أخرى، ولا تقنع منه أو يركب إلي ويسألني.
قال: فمضى الحضري، وتوصل إلى ذلك.
فقال له الخادم: ويحك، هذا قد عاملته بكل قبيح، فكيف أسأله حاجة؟ قال: فلم يزل الحضري يرفق به إلى أن أجاب.
فجاء فأخبر القاضي بأنه يركب إليه في يوم كذا، فانتظره.
وجاء الخادم إلى أبي عمر، وداراه، ومسحه، وأزال كل ما في نفسه، وقضى له الحاجة، ووقع له بما أراد، وسلم إلى الحضري التوقيع، فشكر ودعا.
وشكر الخادم وانصرف.
واستدعى أبو عمر الحضري، فأخذ التوقيع، وخرقه، ودفع إليه المائة الدينار الأخرى، وقال: تمضي بها إلى الخادم، فمضى بها إليه.

وصار الخادم صديقاً له. وقد أخذ مرفق أبي عمر، وهو لا يدري بذلك، واستقامت الحال.
جواب مفحموأخبرني غير واحد من أهل الحضرة: إن هاشمياً وقف لأبي عمر، في طريقه إلى الجامع، وكان سأله شيئاً فلم يجبه إليه، فقال له: يا بارقي، يعرض به، وما كان عليه من مبايعة ابن المعتز، ليكتب أصحاب الأخبار بذلك، فيجدد له سوءاً عند الخليفة. فوقف أبو عمر، وقال للرجل: يا هذا إن أمير المؤمنين أعزه الله قد عفا عن هذا الذنب، فإن رأيت أن تعفو، فعلت.
قال: فخجل الهاشمي، وعجب الناس من ثبات أبي عمر، وحسن جوابه، وسرعة فطنته، وتلطفه.
رقية تحبس السمحضرت أبا الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، وقد رقى ملسوعاً من عقرب، فقال الملسوع: قد زال الوجع، وقام وهو كالمعافى، بعد أن دخل ضاجاً من الألم.
فسألته عن ذلك، فقال: هذه رقية لها خبر طريف، حدثني به، أبو أحمد الوزان، فجربتها على خلق، فأنجعت.
فسألته إخباري الخبر، فقال: حدثني أبو أحمد هذا، قال: حدثني أحمد بن الطيب السرخسي، قال: كنت قائماً بين يدي المعتضد، فدخل إليه بعض الخدم، فقال: بالباب رجل يصيح: نصيحة، وقد قلنا له: ما هي؟ فقال: لا أقولها إلا للخليفة.
فقال: لعل له ظلامة، أو حاجة، فراجعوه.
فكرر الكلام، إلى أن أمر بإدخاله، فقال له: ما نصيحتك؟ فقال: معي رقية تحبس السم.
فقال المعتضد: هاتوا عقرباً.
قال: فكأنها كانت معدة لهم، فجاءوا بعقرب في الوقت، فطرحت على خادم، فلسعته، فصاح، فرقاه الرجل، فسكن ما كان يجده الخادم.
فقال لأحمد بن الطيب: أكتب هذه الرقية، وأمر له بثلثمائة دينار.
فأملاها أحمد بن الطيب علينا، وهي: أن تأخذ حديدة، وتمرها من أعلى اللسعة في البدن إلى موضع اللسعة، كأنك ترد شيئاً، وتقول: بسم الله لومر سرلومر بهلبتي تنبه تنبه كرورابا كرورابا ابهتح ابهتح بهشترم بهوداله مهراشترم لوته قرقر سفاهه فلا تزال تكررها، وتمسح الحديدة، إلى أن يذكر الملسوع، أن السم الذي في بدنه قد انحدر إلى الموضع الملسوع، ويسكن عنه الضربان، إلا من حيث موضع اللسعة، فيفتح الموضع حينئذ بإبرة، ويعصر، فإن السم يخرج، ويزول الألم في الحال.
قال أبو الحسن: وقد جربتها على العقرب مراراً كثيرة، فنفعت.
وسبيلها أن تجرب في غير ذلك من السموم، فإن الذي قال الرجل: إنها تحبس السم، ولم يخص شيئاً من السموم بعينه.
أبو أحمد الوزان هذا، قد رأيته، وكان شيخاً صالحاً، يتوكل للقاضي أبي جعفر بن البهلول، وأبي طالب، في بيع الحطب، وحدثني عنهما بأشياء.
دواء للسعة الزنبورحدثني علي بن محمد الأنصاري، قال: قال لي المرعوس المتطبب، وكان يخدم بجكم: إن الزنبور، إذا لسع إنساناً، فإن اتفق في الحال أن يكون محاذياً له إنسان محاذاة صحيحة، فيعمد الرجل المحاذي للملسوع، إلى كوز ماء، فيصبه على جبينه وقحف رأسه، إن كانت اللسعة في بدنه، فإنه يسكن.
قال: فلسعني مرة زنبور، فقلت لرجل كان في محاذاتي، صب على جبيني ورأسي ذلك الكوز الماء، ففعل، فسكن ما بي في الحال.
طبيب يلطخ مريضاً بالعذرة
قال: وقد عالج صبياً في رأسه بثور، بأن نوره، ثم غسله، وطلاه بغطاء رطب، وأقامه في الشمس نحو ساعة زمانية، ثم غسله، وطلاه بدواء كان معه، فزالت البثور.
ذرق العصفور يزيل الآكلةوقال لي هذا الطبيب:إن خرا العصافير اليابس،إذا سحق، وجمع بالزيت، وحشي به الذي قد وقعت فيه الآكلة من الأبدان، أصلحها، وأزال الآكلة.
قال: وقال لي إن الشب إذا جعل في الزيت، وأمر على الموسى، لم يحلق شيئاً.
البول المغلي يحل القولنجقال: وقد رأيت هذا الطبيب، وقد شفى رجلاً به قولنج شديد، ببول أغلاه، وطرح فيه جندب استر، وعقاقير أخر، فانحل قولنجه، في الحال.
عجوز تداوي من البثورقال: وكانت بي في ساقي، قد تطاولت، فخرجت إلى قرية تقارب ما براون،من أعمال الأنبار،فنزلت على مزارع فيها، يقال له إبراهيم بن شمعون،فرأى تلك البثور.
فقال لي: عندنا عجوز ترقى من هذا، فأحضرنيها، فقالت: هذه علة يقال لها الدروك، وأنا أرقيها.
فرقتها طويلاً، ثم ألقت على ساقي الآس، والدهن، وقالت: لا تحله ثلاثة أيام.
فلما كان بعد ثلاثة أيام حللته، وقد عوفيت.
حفظ القاضي أبي جعفر
بن البهلول يدفع كارثةحدثني أبو أحمد الوزان هذا، قال: كنت أتوكل لأبي جعفر بن البهلول القاضي، في بيع حطبه الذي كان يتجر فيه من الحرار، وأزنه على المشترين.
فبلغني يوماً خبر طوف عظيم، قد ورد له، فخرجت إلى دمما أستقبله، وكان هائلاً مهولاً.
وكانت القنطرة إذ ذاك مخوفة، على شفا الوقوع، والزواريق ممنوعة من الاجتياز بها لئلا تنكسر.
فأقمت يومي أنتظر الطوف، فإذا الجماعة قد جاءوني، وقالوا: إنه طوف عظيم، وقد حصل في جرية الماء، وليس يطيقه من فيه، والساعة يجيء،فيقع على القنطرة ويكسرها، فيكون فيه هلاك أبي جعفر مع السلطان.
قال: وهم في الحديث، حتى إذا رأيت الطوف، قد جاء كالجبل،وهو متصوب إلى القنطرة، لم أشك في المكروه، ورأيت الرجال الذي فيه قد ألقوا نفوسهم في الماء، وهم لا يشكون في تصوبه إلى القنطرة.
فأقبلت أدعو الله بصرفه عنها، إلى أن قرب، فدهشت، وجرى على لساني أن صحت: يا بخت أحمد بن إسحاق رده، ثلاث دفعات.
قال: فرأيت، والله، الطوف، وقد تعوج، ووقفت وقفة شديدة، فتقطع، فصار حطباً متفرقاً، يجيء على رأس الماء، لا يضر القنطرة، وجنح معظمه في الموضع الذي تقطع فيه، ووقعت البشارات والضجيج.
فقلت: ما الخبر؟ قالوا: إنه لما عدل عن القنطرة، جنح على جزيرة أخرى كانت مغطاة بالماء، فلما جنح عليها، تقطع، فكانت هذه صورته.
قال: فجمعنا الحطب من أسفل القنطرة، وما ذهب منه عود، ولا لزمتنا عليه مؤنة، وجعلناه في عدة أطواف، وجئنا به إلى بغداد.
وجئت إلى القاضي أبي جعفر، وعرفته ذلك، فحمد الله عز وجل، وتصدق بصدقة جليلة.
الأمير معز الدولة يزاد فوق
وظيفته رغيفين وباقة بصلجرى حديث ارتفاع الناس، وتقلب الزمان بالإنسان، فحدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: حدثني الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي، قال: حدثني الأمير معز الدولة، رحمه الله، قال: كنت ببلد الديلم أحتطب لأهلي، فقالت لي أختي الكبيرة، ليس يكفينا هذا الحطب، فجئنا بكارة أخرى حطباً لهم اليوم.
فقلت لها: لا أقدر، وقد جئتكم بما قدرت عليه.
فقالت: إن جئت بشيء، زدتك رغيفين مما أخبزه.
فجئتها على ظهري بكارة أخرى، وقد تلفت.
فقالت: إن جئتني بكارة ثالثة، أعطيتك مع الخبز الذي أزيدك إياه على وظيفتك باقة بصل. فجئتها بالكارة الثالثة.
فلما خبزت، أعطتني وظيفتي، وزادتني رغيفين، وباقة بصل، بإزاء ما حملته.
ثم صنع الله لي وتغيرت حالي إلى ما تراه.
قال: وقال لي أبو الفضل الوزير، لولا أن الأمير حدث بهذا، دفعات كثيرة، في مجالس حافلة، فأخرجه مخرج الافتخار، لا السر، لما تحدثت به.
أبو علي حمولي القمي يرتفع من حارس
في خان إلى أعلى المراتبوسمعت أبا علي أحمد بن موسى حمولي القمي، يحدث، في حديث له طويل، وهو إذ ذاك في السماء، رفعة، وجلالاً، ويساراً، وإليه طراز الحرم الديباج، وابتياع الثياب، ومرتبته عند معز الدولة، أجل مرتبة: أنه كان أميناً على زورق، زماناً، من سورا إلى القصر، لشدة الحاجة والفقر.
وحدثني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أعرف أبا علي حمولي، حارساً لمتاع التجار، في خان يطرح إليه متاع الموصل، في موضع داره على دجلة.
إن الفتى من يقول هاأنذاجرى في مجلس أبي رضي الله عنه، بحضرته، يوماً، ذكر رجل كان صغيراً فارتفع.
فقال بعض الحاضرين: من ذاك الوضيع؟ أمس كنا نراه بمرقعة يشحذ.
فقال أبي: وما يضعه أن الزمان عضه، ثم ساعده، كل كبير إنما كان صغيراً أولاً، والفقر ليس بعار، إذا كان الإنسان فاضلاً في نفسه، وأهل العلم خاصة لا يعيبهم ذلك.
وأنا أعتقد أن من كان صغيراً فارتفع، أو فقيراً فاستغنى، أفضل ممن ولد في الغنى، أو في الجلالة، لأن من ولد في ذلك، إنما عمل له غيره، فلا حمد له هو خاصة فيه، ومن لم يكن له فكان، فإنما بجده أو كده، وصل إلى ذلك، فهو أفضل من أن يصل إليه ميراثاً، أو بجد غيره، وكد سواه.
حريق الجمل ببغدادحدثني أبو الحسين بن عياش رحمه الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، قال: لما وقع ببغداد، حريق الجمل، اختل دكاني فيما اختل، وذهب مني مال عظيم.
فقلت له: كيف كان حريق الجمل؟

قال: اجتاز في سوق الخرازين، جمل عليه قصب، وكان رجل يثقب لؤلؤاً، وبين يديه نار، فوقع طرف القصب على النار، فاشتعلت وبلغت إلى الجمل في لحظة.
فكان الجمل، كلما أحس بوقع النار عدا، وتنافض الشرار منه، في جانبي الطريق، فحرق كل ما يجتاز به.
فلم يزل على ذلك، إلى أن تلف الجمل، وتشاغل الناس بطفي الحريق الواقع في الدور والعقار.
فكان حد ما احترق، من أول سوق الخرازين إلى طاق الحراني، ووسط قطيعة الربيع. وتلف ناس كثير، وزالت نعم عظيمة، بذهاب الأموال، ورؤوس أموال التجار، وانهدام العقارات. قال: وكان هذا عقيب انتقال المعتصم إلى سر من رأى، فهم الناس بالانتقال عن بغداد، وإن تخرب، فبلغ ذلك المعتصم.
قال: فخاطبه أبو عبد الله أحمد بن أبي داؤد، في إطلاق مال للناس.
فقال المعتصم: خذ خمسة آلاف ألف درهم، وأخلف بها جميع ما ذهب من الناس.
فأخذ ابن أبي داؤد المال، وجاء فجلس في مجلس الشرقية، واجتمع إليه الناس، فعرفهم علم الخليفة بأمرهم، وما كان منه في خطابه، وما أنفذ معه من المال، فقال: ولم يذكر مبلغه، إلا أنه قال: قد حملت من المال ما أخلف به، جميع ما ذهب من جميعهم.
قال: وكنت حاضراً المجلس، أسمع الكلام.
فقام إليه شيخ كان حاضراً، فقال: أيها القاضي، إن هذا مال عظيم، فكم أنفذ إلينا أمير المؤمنين معك؟ فقال: خمسة آلاف ألف درهم.
فالتفت الشيخ إلى نفسين في المجلس، فقال: قوما، فقاما.
فقال أيها القاضي هذان، قد ذهب منهما، في أثمان عقاريهما، ورؤوس أموالهما، خمسة آلاف ألف درهم، أليس هكذا يا معشر المسلمين؟ واستشهد الحاضرين، فقالوا: نعم.
فقال: أيها القاضي، إذا كان هذان، وهما نفسان، من جميع من قد حضر، قد ذهب منهما قدر ما حمله أمير المؤمنين، فالباقون من أين يأخذون؟ قال: فتحير ابن أبي داؤد، وقال: ما ترون في هذا؟ فقالوا: الرأي لك.
قال: فقال أولئك النفسان: أما نحن، فما نريد شيئاً، ولا نسأل الخلف، إلا من الله عز وجل، ولا نطلبه إلا مكن فضله، ولكنا نشير عليك أيها القاضي، فقال: افعلا.
قالا: تجعل هذا المال، مقسوماً بين أهل البضائع اليسيرة، وصغار الناس، فإن رغب أحد من الأكابر، في أن يشارك الأصاغر فيه، فإن ذاك إليه وإليك.
قال: فقام خلق كثير، فقالوا: أما نحن، فما نريد شيئاً، اجعله للأصاغر، وانصرفوا.
ففض المال، على أرباب البضائع اليسيرة، ثم لم يكف، واحتيج لهذا إلى أضعاف ما حمل من المال.
فلما نفذ المال، خرج ابن أبي داؤد ليلاً، لكثرة الازدحام عليه، والطلب منه، ونفاذ ما عنده.
إبراهيم بن الحسن البزاز يخسر
في حريق واحد ما يزيد على أربعمائة ألف درهمسمعت إبراهيم بن حسن البزاز، يقول: خلف الحريق سريع، كان حريق بالكرخ في سنة نيف وأربعين وثلثمائة فتلف لي متاع في دكاني وداري بمائتي ألف درهم، سوى أثمان العقار.
فقلت: كم كان أثمان العقار؟ فقال: أكثر من هذا.
قال: فنمى الله، عز وجل، ما بقي، وأعدت منه عقاري، ورأس مالي في دكاني، فما أفرق اليوم بين أمري، وبين ما كان قبل الحريق.
قلت له: ففي دكانك اليوم متاع بمائتي ألف درهم؟ فضحك، وقال: هذا لا يسأل عنه التجار، ولا يصدقون أيضاً إذا سئلوا، ولكن ما أفرق بين حالي الساعة، وذلك الوقت، وأنا من الله عز وجل في خير.
أبو القاسم الجهني يفخر بأنه قد أجهد نفسه
فيما لا يليق بالرجل الحرحدثني أبو القاسم الجهني، قال: جرى بيني وبين محمد بن خلف، القاضي وكيع، ملاحاة في شيء، بحضرة أبي الحسن بن الفرات، فولدت بيننا عداوة، فبحثت عن عيوبه.
فبلغني أن له أباً ساقطاً في أصحاب الصناديق بباب الطاق، فركبت حتى جئت إليه، فرأيته يعمل الصناديق بيده، وفاتشته، فإذا هو أسقط رجل، وأجهله.
وانصرفت فكاتبت جماعة من وجوه الشهود بالجانين، وأشرافهم من البطنين، وأكابر التجار والكتاب والتناء، وواعدتهم بحضور مسجد هناك كبير، فحضر خلق كثير.
وركبت ، فحين حصلت هناك، قلت: علي بخلف الصناديقي، فجاءوا بالشيخ كما أقيم من العمل، وآلته معه، ويده ملوثة، كما كنت وصيتهم.
فقلت لهم: أعزكم الله، إني كنت سألتكم الحضور لأخاطب هذا الشيخ بحضرتكم بشيء آخذ خطوطكم به، فاحفظوا ما يجري.
ثم قلت: يا شيخ، من أنت؟ قال: أنا خلف بن فلان.

قلت: وكيع قاضي، من هو منك؟ قال: ابني.
فقلت لمن حضر من شيوخ المحلة: هو كما قال؟ فقالوا: نعم.
قلت: أنت بهذه الصورة مع اتساع حال ابنك؟ قال: لأنه عاق بي، فعل الله به وصنع، ودعا عليه.
فقلت له: يا شيخ، تحفظ القرآن؟ قال: أحفظ منه ما أصلي به.
فقلت: تحسن شيئاً من القراءات؟ قال: لا.
قلت: وكتب الحديث قط؟ قال: لا.
قلت: رويت من الأخبار، والآثار، والآداب، والأشعار شيئاً؟ قال: لا.
فلم أزل أعدد عليه العلوم وأصنافها، وهو يقول لا، لا.
قلت: فتحسن شيئاً من النحو أو العروض أو المنطق؟ قال: لا.
فقلت: أعزكم الله، إن وكيعاً رجل كذاب، متعاط العلم والأدب، ولم آمنه في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكذب في العلوم، وأن يجعل ذلك طريقاً متى مات هذا الشيخ، فيقول: حدثني أبي، وأخبرني أبي، ويضع على لسانه كل كذب.
فأردت أن تحفظوا على هذا الشيخ ما ذكره من أنه ليس من هذا الأمر، ولا إليه، حتى لا يمكنه ادعاء ذلك عليه بعد موته، وأن تعرفوا أيضاً فسقه بعقوقه والده، وسقوط مروءته، بتركه أباه على هذه الحال.
قال: فما فارقتهم حتى أخذت خطوطهم بما جرى، على أشنع شرح قدرت عليه، وأجابوا هم إليه.
وصرت بالمحضر معي إلى مجلس الوزير، وتركته في خفي، وأجريت الحديث مع وكيع، إلى أن شاغبته في الكلام، وقلت: لا تسكت يا ابن الصناديقي الجاهل، فامتعض.
وأخرجت المحضر، وعرضته على الوزير، وسألته أن ينفذ ويستدعي أباه ويشاهده.
فضحك الوزير، وسقط وكيع من عينه.
وقامت قيامته من يدي.
أبو القاسم الجهني يتولى
الحسبة بالبصرةوولي أبو القاسم الجهني، عندنا بالبصرة، الحسبة، من قبل أبي جعفر الصيمري، فسمعت إذ ذاك، شيوخنا، يقولون: إنهم ما شاهدوا ولا سمعوا، من بلغ مبلغه، في ضبط العامة، ورفع الغشوش، ومن عرف من أسرار الصنائع، والأمتعة، ما عرفه، حتى كأنه لا يحسن شيئاً غيرهما، مثله.
وطالب الناس بمطالبات صعبة، فانتشر له حديث عظيم جميل، في البلد بذلك، وهيبة في نفوس الأكابر، فضلاً عن الأصاغر.
فاجتاز يوماً وبين يديه رجالته، بمؤذن يؤذن لبعض الصلوات، فقالوا: الجهني، الجهني.
فتطلع المؤذن، فرآه، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل لك علي طريقاً، فقالوا للرجالة: خذوه إلى الدار.
فضج من ذلك، وقام معه الجيران، وجاءوا، ونزل الجهني في داره، فادخلهم.
فقالوا له: أمرت بإحضار هذا الرجل المؤذن، فأي طريق لك عليه؟ فقال: تحتاج أن تحلف لي أن لا تدخل المسجد بالنعل الذي تدخل به الكنيف، فإن هذا يفسد صلاة الناس، ولا يحل، ولا تؤذن وأنت جنب.
فسألوه أن يعفيه، فأبى وقال: إما أن يحلف أو لا يدخل المسجد، فما زال به حتى أحلفه على ذلك.
فلما أراد الانصراف، قال له: يا شيخ، الآن علمت أن لي عليك طريقاً، وإن بيننا معاملة، أم لا؟ فقال: أيدك الله، أخطأت ولم أعلم.
فقال: لا تعاود الكلام فيما لا تحتاج إليه، فإن الفضول ضار.
الكوكبي محتسب الأهواز
والقاضي ابن السراجحدثني أبو العباس نصر بن محمد الشاهد رحمه الله خليفة أبي رضي الله عنه على فريضة الأهواز، قال: كان الكوكبي محتسباً عندنا من قبل أخي أم موسى القهرمانة، وكان خشناً منبسط اليد، جلداً. فوقعت بينه وبين أبي الحسن بن علي السراج القاضي نفرة، فأمسك عنه أياماً، ثم صار إلى بابه على غفلة، وقد كان أخل بالجلوس في الجامع مجلسين.
فوقف في رجالته على الباب، وقالوا: قولوا للقاضي، ليس لك أن تواصل الجلوس في منزلك، أبرز إلى الجامع ينلك القوي والضعيف، كما أمرت في عهدك.
فدخل إليه الغلمان، فأخبروه، فقامت قيامته، فأخرج من بحضرته من الشهود يدارونه.
فقال: لا أدخل، ولا أنصرف، أو يركب إلى الجامع.
فما زالوا به حتى أصلحوا بينهما.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمحدثني القاضي أبو عمر عبيد الله بن الحسين المعروف بابن السمسار، قال: حدثني أبو علي بن ادريس الجمال الشاهد، قال: حدثني أو عبد الله بن أبي عوف، قال:

كان سبب اختصاصي بعبيد الله بن سليمان، أني جزت يوماً في الجامع بالمدينة، فوجدته وهو ملازم في يد غريم له، في عقب النكبة، بثلثمائة دينار، وكنت أعرف محله من غير مودة بيننا. فقلت له: لأي شيء أنت هاهنا أعزك الله جالس وما مضيت إلى الصلاة؟ فقال: ملازم في يد هذا بثلثمائة دينار علي.
فسألت الغريم إنظاره، فقال: لا أفعل.
قلت: فالمال لك علي، تصير إلي بعد أسبوع حتى أعطيك إياه.
فقال: تعطيني خطك بذلك.
فاستدعيت دواة ورقعة، وكتبت له ضماناً بالمال إلى شهر، فرضي وانصرف.
وقام عبيد الله فأخذ يشكرني.
فقلت: تمم أيدك الله سروري، بأن تصير معي إلى منزلي.
فحملته وأركبته حماري، ومشيت خلفه، إلى أن دخل داري، فأكلنا ما كان أصلح لي في يوم الجمعة، كما يفعل التجار، ونام.
فلما انتبه، أحضرته كيساً، وقلت: لعلك على إضاقة، فأسألك بالله، إلا أخذت منه ما شئت.
قال: فأخذ منه دنانير، قام فخرج.
فأقبلت امرأتي تلومني وتوبخني، وقالت: ضمنت عنه ما لا يكفي به حالك، ولم تقنع إلا بأن أعطيته شيئاً آخر.
فقلت: جميلاً أسديته، ويداً جليلة، وهو رجل حر كريم، كبير جليل، من بيت وأصل، فإن نفعني الله به فذاك، وإن تكن الأخرى فلن يضيع عند الله.
ومضى على الحديث مدة، وحل الدين، وجاء الغريم يطالبني، فأشرفت على بيع عقاري، ودفع ثمنه إليه، ولم استحسن مطالبة عبيد الله، ودفعت الرجل بوعد وعدته إلى أيام.
فلما كان بعد يومين من هذا الحديث، جاءتني رقعة عبيد الله يستدعيني، فجئته.
فقال: قد وردت علي غليلة من ضيعة لي، أفلتت من البيع في النكبة، ومقدار ثمنها مقدار ما ضمنت عني، فتأخذها، وتبيعها، وتصحح ذلك للغريم.فقلت: أفعل ذلك.
فحمل الغلة إلي،فبعتها، وحملت الثمن بأسره إليه،وقلت له:آنت مضيق،وأنا أدفع الغريم، وأعطيه البعض من عندي فاتسع أنت بهذا.
فجهد أن آخذ منه شيئاً،فحلفت أن لا أفعل، ووفرت الثمن عليه.
وجاء الغريم، فألح علي،فأعطيته من عندي البعض. ودفعت به مديدة.
فلم يمض على ذلك إلا شيء يسير حتى ولي عبيد الله الوزارة، فأحضرني من يومه، فجعلني في السماء، وقام لي في مجلسه،وكسبت به الأموال، وقر هذه النعمة التي أنا فيها.
حكاية تدل على مقدار عناية الوزير
عبيد الله ابن سليمان بابن أبي عوفحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول،قال:حدثني أبي، قال: خرجت من حضرة عبيد الله بن سليمان في وزارته، أريد الدهليز، فخرج ابن أبي عوف فصاح البوابون، والحجاب، والخلق، هاتم دابة أبي عبد الله.
فحين قدمت دابته ليركب،خرج الوزير ليركب، فرآه، فتنحى أبوعبد الله بن أبي عوف، وأمر بإبعاد دابته لتقدم دابة الوزير، فحلف الوزير إنه لا يركب، ولأتقدم دابته، حتى يركب ابن أبي عوف.
قال: فرأيته قائماً، والناس قيام بقيامته، حتى قدمت دابة ابن أبي عوف فركبها، ثم قدمت دابة الوزير،فركبها، وسارا جميعاً.
ابن أبي عوف يحتال في
إيصال كتبه إلى الوزيروحدثني أبو الحسن، قال: حدثني أبي، قال: لما خرج عبيد الله إلى الجبل، واستحلف القاسم، لم يكن يعامل ابن أبي عوف، مثلما كان أبوه يعامله.
فشق ذلك عليه، وخاف أن ينفذ كتبه بشكايته إلى أبيه، فتقع في يد القاسم.
فجاءني دفعات، يسلم علي، ولا يسألني حاجة، حتى جعلني صديقاً، ثم سألني أن أجعل كتبه إلى الوزير في طي كتب حرم صاحبي إليه، وكان في جملة القواد المجردين من عبيد الله، فكنت أفعل ذلك دائماً، فيوصل صاحبي الكتب إلى الوزير سراً، وتنفذ الأجوبة، فترد كتب عبيد الله على القاسم، في الخاص، بالصواعق في أمر ابن أبي عوف.
ويوكل القاسم بالطرق، وتؤخذ له كتب أكثر الناس، فيقف عليها، ولا يجد لابن أبي عوف كتاباً، فيتميز غيظاً، ولا يدري من أين يؤتى، إلى أن قدم عبيد الله.
تصرف من ابن أبي عوفيدل على نفس صغيرة قال: وسألني في تلك الأيام، رجل من أهل الثغر، أن أشفع له إلى ابن أبي عوف، في معاونته على أسرى له في بلاد الروم، فامتنعت عن ذلك، لعلمي أنه تاجر على كل حال.
فألح علي، فكتبت له رقعة إليه، فجاءني الرجل فشكرني، وذكر أنه أعطاه أربعين ديناراً.

ومضت السنون، فسألني ابن أبي عوف أن أؤجره رقة من ضياعي بالأنبار، يعمل فيها البطيخ الذي نسب فيما بعد إلى العبدلاوي، وإنما هو مضاف إلى أبي عبد الله بن أبي عوف، فآجرته إياها بمال جليل.
وعمل البطيخ فأنجب، فلما طالبته بالأجرة، احتسب علي الأربعين ديناراً التي بر بها الثغري، بشفاعتي.
سبب سقوط محل ابن أبي عوفوكان سبب سقوط محله، على ما أخبرني به أبو الحسين بن عياش القاضي رحمه الله، قصة ابنته، فإنه ذكر أن الخبر استفاض ببغداد: أنه دخل داره، فوجد مع ابنته رجلاً ليس لها بمحرم، فقبض عليه، وعمل على ضربه بالسياط، فأشير عليه أن لا يفعل، وقيل له أن في ذلك هتكاً لابنتك ولك، فأطلق الرجل وقيد المرأة واحفظها، فلم يقبل، واستدعى صاحب الشرطة، فضرب الرجل بالسياط على باب داره، وكان الرجل أديباً ظريفاً، فأنشأ يقول متمثلاً وهو يضرب:
لها مثل ذنبي اليوم إن كنت مذنباً ... ولا ذنب لي إن كان ليس لها ذنب
يا قوم، أيحد أحد الزانين، دون الآخر، أخرجوا صاحبتي، وإلا فافرجوا عني.
قال: فاتضح ذلك، وانهتك، وتناوله الشعراء والخطباء والناس بألسنتهم حتى سقط محله.
وكان من ذلك ما قاله ابن بسام، في قصيدة أولها:
يا قومنا إن القيامة دانيه ... زان يحد ولا تحد زانيه
ويكمل البيت الأول بيت تمام له، وهو:
فيا بعل ليلى، ليس يجمع سلمها ... وحربي وفيما بيننا شبت الحرب
الموفق طلحة يراسل أخاه المعتمد
في خلع المفوض وتقليد العهد لغيرهحدثني أبو أحمد عبد الله بن عمر السراج الواسطي، المعروف بالحارثي، قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثني يوسف بن يعقوب المقرئ الواسطي، قال: لما دخل الناصر لدين الله الموفق، مدينة واسط بعد صاحب الزنج، وأقام بها، والمعتمد بفم الصلح، ووقعت الرسالة بينهما في خلع المفوض وتقليد العهد من يختاره الموفق، استدعاني الموفق، وجماعة من شهود واسط، وخاطبنا في النفوذ إلى المعتمد، لنشهد عليه بذلك.
فقالت الجماعة: السمع و الطاعة، ونهضت، غيرى، فإني سكت، وجلست.
فقال الموفق: شيء تقوله؟ فقلت: إن إذن الأمير الناصر اعزه الله،قلت.
قال: قل.
قلت: أيها الأمير إنك تنفذنا إلى إمام، ولسنا نأمن أن يشهدنا على غير ما تريد أن يشهدنا عليه، وإذا وقفنا بحضرته، فأشهدنا، لم يجز أن نشهد على غير ما يشهدنا عليه، فما تأمر؟ قال: فكأني أيقظته من رقدة، وأعلمته أنه إن أشهدنا على تثبيت أمر المفوض، وخلعه هو، وتفسيقه، وقع الأمر موقعه.
فقال: أحسن الله جزاءك، وأضرب على إنفاذنا.
قال: ثم كان يختصني بعد ذلك، ويستدعيني في أوقات، وكان ذلك أول ما بان من محلي عند أهل بلدي، وتقدمت به عليهم. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
؟؟؟
متى حدثت ابن مقلة نفسه بالوزارةحدثني أبو الحسن الأزرق التنوخي، قال: حدثني بعض أصحابنا، قال: حدثني أبو علي بن مقلة، قال: كنت خصيصاً بأبي الحسن بن الفرات قبل وزارته الأولى، وكاتباً له.
فلما تقلد الوزارة، استدعاني بعد جلوسه، وقال: أحضر ابن الأخرس التاجر، وجماعة من التجار غيره، وبايعهم ثلاثين ألف كر من غلات السواد، واستقص السعر منهم، واستثن في كل كر بدينارين، وطالبهم بحصول الاستثناء اليوم، وحصله، وعرفني.
قال: فأحضرتهم، وقررت السعر معهم، وطالبتهم بالاستثناء عاجلاً، فقالوا: نصححه في مدة ثلاثة أيام، فعرفته، فأجاب.
فقال: إذا حصل الاستثناء فاكتب لهم إلى العمال، بتسليم الغلات، وقبض الأثمان.
فلما كان في اليوم الثالث، حملوا مال الاستثناء، وكتبت لهم بالتسليم، وقطعني شغل عرض عن مطالعة الوزير بذلك.
فلما كان بعد يومين، قلت له: ذلك المال الذي أستثني به من غلات السواد حاصل منذ أيام عندي، فما الذي يأمر الوزير فيه؟ فقال: يا سبحان الله، كأنك قدرت أني استثنيت به لنفسي؟ لقد قبحت في الظن، وإنما أردت بذلك الإصلاح لحالك، وأن أعتقد لك نعمة يبين بها أثر صحبتي عليك، فأصلح به أمرك.
قال: فقبلت يده، وشكرته، وعدت إلى منزلي،وما أتمالك فرحاً. فحين علمت حصول المال لي، حدثتني نفسي بالوزارة، ودعتني نفسي إلى تأهيل نفسي لها، والسعي في طلبها.
فما زلت من ذلك الوقت أشرع فيها، حتى تمت لي.
؟
شيخ من الدينارين يثني ابن مقلة
عن طلب الوزارةحدثني أبو الحسين بن عياش، قال: كنت بحضرة أبي علي بن مقلة، وقد أرجف له بالوزارة الأولى.
فدخل عليه شيخ من الديناريين، كان يكرمه أبو علي، فأعظمه، وجلسا يتشاوران طويلاً.
ثم زاد الكلام بينهما حتى سمعت بعض كلام الشيخ، وهو يعاتبه على طلب الوزارة، ويثنيه عنها، ويشير عليه أن لا يدخل فيها، وأبو علي ساكت.
فلما انقضى كلامه، قال له أبو علي: بلغني عن معاوية وهو ممن لا يدفع من علم بالدنيا، أنه قال: من طلب عظيماً خاطر بعظيم.
قال: فقال له الشيخ: أستودع الله الوزير، وقام.
فما كان إلا بعد أسبوع أو أقل، حتى خلع على أبي علي، وقلد الوزارة.
من طلب عظيماً خاطر بعظيم
حدثني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان، قال: كنت بسيراف، وقت أن اجتاز بها أبو عبد الله البريدي، يقصد علي بن بويه، فأعظمه الليث، وحمله، ولقيه وجوه سيراف في الجيش والناس كلهم، وكنت فيهم.
فسمعته، وهو على دابته، وهو يقول: من طلب عظيماً خاطر بعظيم.
وما أحسن ما أنشدنا المتنبي لنفسه، من قصيدة مشهورة له:
غريب من الخلان في كل بلدة ... إذا المطلوب قل المساعد
وجزاء سيئة سيئة مثلهاحدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش، قال: لما ولي أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد الوزارة، صارفاً لأبي علي بن مقلة، وتضمنه هو وأبو عباس الخصيبي بالمال الذي ضمناه به، وتسلمناه، كنت أختلف إلى أبي القاسم، على رسمي في ملازمته، فأرى أبا العباس بحضرته يخاطبه في معنى أبي علي، والتشديد في مطالبته، وربما أحضراه ليوقعا به، فأقوم لئلا يراني قد رأيت منه ذلك.
فكنت أجلي بحيث أرى وأسمع ولا يراني، فيطالب، ويضرب.
فإذا أوجعه المكروه، قال: لي في موضع كذا، كذا وكذا.
فيرفع المكروه عنه، ويمضون إلى الموضع، فلا يجدون لما ذكره حقيقة.
فإذا سألوه قال: ما لي حال، ولا مال، وإنما بردت عن نفسي في الحال، ودفعت الموت، ولا يمكن أبو القاسم سليمان، من رد المكروه عليه أياماً.
فطالت قصته، ولم يستخرج منه شيء، فجرت بينه وبين أبي العباس مخاصمة بهذا السبب، وقال: لا بد من بسط العذاب عليه، حتى يروج بعض المال من جهته، وكان سليمان يستحي. فتقرر الرأي على أن نقل إلى دار ابن الحرث، وكان الخصيبي يجيء إليها، فيعاقبه، ويستخرج المال منه.
قال: فاتفق أنني دخلت يوماً مسلماً على ابن الحرث، وعزمنا على الجلوس للأنس، فدخل الخصيبي، فدخلت بيتاً من الدار لئلا يراني.
وخليا، وأخرجا ابن مقلة، فأخذ الخصيبي يوبخه، ويستخف به، على ما ارتكبه منه، ومن سليمان، ويشتفي منه بالخطاب بكل لون قبيح، وقد أقامه بين غلامين، وأقام خلفه آخر.
إلى أن قال له في جملة كلامه: أقرأني يعقوب البريدي جوابك إليه، لما عدت من البحر، في ظهر كتابه إليك، يقول إنه فد امتثل أمرك في نفيي وحملي إلى البحر، فوقعت بخط يدك قطعها الله: يا عاجز، ألا سملته، ثم حملته، يا عاض كذا وكذا، أردت أن ينطبق لفظك بانطباق ناظري؟ يا غلام اصفع.
قال: فصفع، وأخذ خطه بالمال.
مشعوذ يدعي الولايةومن الأخبار المفردات، ما أخبرني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن الأزرق، قال: قدم علينا بالأنبار رجل من أهل القصر، يقال له عمر، يعظ العامة، ويري نسكاً، ويقول: من أطاع الله، أطاعه كل شيء، وإنه يغمس يده في الزيت الحار المغلي الشديد الحرارة، فلا يضره.
فافتتن أهل البلد به، واجتمعوا إلى الجامع، ليشاهدوا ذلك، وسألوني الحضور، فحضرت، وإخوتي، وسلطان البلد، وقد نصب ديكدان في صحن الجامع على دكة، ووضع فوقه طنجير، والرجل قائم يصلي.
فلما جئنا طلبوا زيتاً، فأنفذت على يد غلامي، فجاءوا بخماسية، فصبت في الطنجير، وأوقد عليها وقود جيد شديد.
فلما أغلي الزيت ونش، أقبل على أخي ، وقال: يا أبا أحمد، الله الله ، لا يكون ما أحضرته غير الزيت، فأهلك.
فحين قال هذا، انكشف لي أنها حيلة، فقلت له: ما هو إلا الزيت.
فنزع ثيابه، وعمد إلى بقية كانت في الخماسية من الزيت لم تغل، مقدارها نصف رطل، فصبها في الطنجير، ودعا شارباً، فغسل يده غسلاً شديداً، وذراعيه، وصدره، ثم أخذ كفاً من الماء البارد، فرشه على الزيت، فزاد نشيشه.

ثم صعد على الدكة، وفي يده صنجات،، فرمى بها في الطنجير، ثم أدخل يده بسرعة شديدة، وصاح بأعلى صوته: لا إله إلا الله، وغرف بكفه الصنجات، فأخرجها، ورمى بها بحدة، وهو يصيح: يا الله، بأعلى صوته.
ثم تقدم إلى الزيت، فاغترف بكفه منه، فغسل به صدره، وذراعيه، وهو يصيح صياحاً شديداً، يوهم به من حضر أنه يريد الدعاء، وكان عندي، أنه تألم وتوجع وتأوه.
ثم نزل، فأقبل يدعو، ويقول للعامة: أنا أرجو أن أجيئكم بعد أيام، بسباع الأجمة،أقودها بآذانها. فحملناه معنا إلى منزلنا، واغتسل بماء حار، وتدلك، وبخرناه، وأقام عندنا يومه.
فسألناه عن سبب ذلك.
فقال: من أطاع الله، أطاعه كل شيء، فأمسكا عنه.
فلما كان بعد أيام،جاء جماعة من أهل الأنبار، فقالوا: نحن نغلي الزيت، ونعمل كما عمل، ونغلي القار، ونأخذه من القدر بأيدينا حاراً.
قال فجمعناهم بحضرته، فعملوا ذلك، فأبلس، وقال:هذا، إنما لحقتكم بركتي.
وهرب من البلد غد.
فسألنا الذين عملوا ذلك، فقالوا جربنا على أنفسنا، وتصبرنا كما يصبر الواحد منا على الماء الحار الشديد الحرارة في الحمام، ولا يصبر عليه آخرون.
ويشبه هذا، ما أخبرني به أبو أحمد بن أبي سلمة العسكري، أحد الشهود بها، إنه شاهد رجلاً، يدخل يده في قدر السكر الحار، ويخرج منه ما طرحه في الظروف.
وأخبرني أبو الطيب، إنه رأى الشبلي الصوفي، يدخل يده في طنجير حار، فيه فالوذج حار مغلي، فيأخذ منه اللقم، فيأكلها.
قال: وهذا أشد ما شاهدته، وفعل ذلك مراراً.
فقال له في بعضها، صوفي كان حاضراً: ويحك اعمل أن في يدك كشتبان، حلقك مصهرج؟
الشبل يتواجدقال: وكان الشبلي ينتف شعر رأسه، وكانت لهذا الشبلي، عجائب وحكايات، منها، ما من الوزير أبي محمد المهلبي، قال: اجتزت بغداد. في بعض طرقها، فرأيت الناس مجتمعين على رجل طريح.
فقلت: ما هذا؟ فقالوا: الشبلي جاز الساعة على هذا الهراس، ومناديه يقول: إلى كم تغلط؟ فتواجد، وصاح حتى أغمي عليه.
قال: فمضيت، وعجبت من جهله.
فرأيت بعض الصوفي، فأخبرته الخبر، وقلت له: ويحك، أيش في هذا، حتى يصيح الشبلي منه، ويتواجد؟ فقال: يعتقد أن الله تعالى كلمه على لسان المنادي.
فقلت: هذا أظرف، لو كان بحذاء المنادي مناد الهراس آخر، يصيح مثل صياحه، إلى كم تغلط، أيهما كان كلام الله؟ فقال: الجواب عليه في هذا.
إذا عتق الشمع عشرات السنين
ثم استعمل أبطأت النار فيهومن الأخبار المفردات أيضاً، ما أخبرني به أبو الحسين بن عياش، قال: دعانا أبو الطيب بن أبي جعفر الطائي مع أبي القاسم سليمان بن الحسن، وابنه أبي محمد، دعوة أنفق فيها مائتي دينار، وأظهر من الآلات، ونعم المروءة، كل شيء حسن طريف غريب فاخر.
وكان أحسن ما شاهدنا له شمعتين موكبيتين فيهما ثلاثون أو أربعون مناً، في تورين كبيرين، نصبهما في وسط المجلس، وفرق الشموع الصغار حواليهما.
فكان الفراشون إذا أرادوا قط الشمعتين، تطاولوا شديداً، حتى يقطعوهما.
وكان لون الشمعتين غير مليح يضرب إلى البياض، مما قد عشب عليهما من التراب.
وجلسنا إلى قريب من الغداة، وهما تتقدان في ليلة شتوية، ونمنا، وانتبهنا، وهما تتقدان، فنظرت فإذا الذي اتقد من كل واحدة منهما، أصابع يسيرة، وهما بحالهما.
قال: فما تمالكت، أن سألته، فيما بيني وبينه، عن سبب ذلك.
فقال: هما عندي، وعند أبي من قبلي، منذ خمسين سنة، ما استعملناهما.
وعندنا شمع كثير هذا سبيله، تعمدنا تعتيقه، لأنه بلغ أبي أن الشمع إذا عتق عشرات سنين، ثم استعمل، كان ما يحترق منه هذا القدر، ونحوه.
فعتق شمعاً كثيراً، ونسيه، ومات، وتشاغلت بعده عن استعماله سنين، فلما احتفلت لهذه الدعوة الآن، ذكرت الشمع العتيق الذي في خزائننا، فأخرجت هاتين منه، وكان من أمر هما ما رأيت، وصحت التجربة لنا فيهما.
حجام يحجم بالنسيئة إلى الرجعةأخبرنا أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو بكر يموت بن المزرع، قال: سمعت أبا عثمان الجاحظ، يحدث: أنه رأى حجاماً بالكوفة، يحجم بنسيئة إلى الرجعة، لشدة إيمانه بها.
آذان رجل من القطيعةأخبرني أبو الفرج الأصبهاني. قال:

سمعت رجلاً من القطيعة، يؤذن: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله، أشهد أن علياً ولي الله، محمد وعلي خير البشر، فمن أبا فقد كفر، ومن رضي فقد شكر، ضرطت هند على ابن عمر، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
وهذا عظيم مفرط، ونستغفر الله منه، ونستعيذ به من الجهل.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟الحنابلة يبنون مسجداً ضراراً
أخبرني جماعة من البغداديين: إن الحنابلة بنوا مسجداً ضراراً، وجعلوه سبباً للفتن والبلاء.
فتظلم منه إلى علي بن عيسى، فوقع في ظهر القصة.
أحق بناء بهدم، وتعفية رسم، بناء أسس على غير تقوى من الله، فليلحق بقواعده، إن شاء الله تعالى.
أبو عبد الله الكرخي آية
في سرعة الحفظحدثني أبي رضي الله عنه، قال: حدثني أبو عبد الله المفجع، قال: أنشدت أبا محمد القاسم بن محمد الكرخي، قصيدة طويلة مدحته بها، فلما استتممتها، خرج ابنه أبوعبد الله جعفر بن القاسم من خيش كان في صدر المجلس الذي كنا فيه، فقال: يا شيخ، ألا تستحي، تمدحنا بقصيدة ليست لك، تدعيها؟ قال: ولم أكن أعرف خبره في سرعة الحفظ، فقلت: أعيذك بالله يا سيدي، والله ما قالها غيري. فقال: سبحان الله، هذه علمنيها المعلم في المكتب من كذا وكذا سنة، وابتدأ حتى مضى في جميعها، ما أخل ببيت واحد، وكانت فوق الخمسين بيتاً.
فأسقط في يدي، فخجلت، واندفعت أحلف، بالطلاق والعتاق، أنها لي، وأنا لا أدري من أتيت. فلما رحمني القاسم قال: يا هذا لا تقلق، فأنا أعلم أنك صادق، ولكن أبا عبد الله لا يسمع شيئاً ينشد، طويلاً ولا غيره، إلا حفظه في دفعة واحدة حين يسمعه، وإنه حفظها لما أنشدتنا إياها. وأجازني، وانصرفت.
أبو عبد الله الكرخييحفظ جماعة تحتوي على ارتفاع فارس حدثني أبي رضي الله عنه: أن جماعة كان عملها جعفر بن القاسم، تحتوي على ارتفاع فارس، أو ناحية من فارس، الشك مني، ومشايخ الناحية، ومعاملاتها، وخراجها، وما أدي، وما بقي، ودخل ذلك، وخرجه، وكان يرفع حسابها إلى الوزير.
فطلبت الجماعة منه، ففقدت.
فقال جعفر: لا عليكم، وأملاها من حفظه في الحال بحضرة والوزير، ورفع الحساب عليها. ثم وجدت الجماعة، فوجدت موافقة لها حرفاً بحرف، إلا في باب واحد، فإنه جاء به مقدماً ومؤخراً.
نادرة عن شخص آخر
آية في سرعة الحفظحدثني أبو القاسم عبد الله ابن محمد ابن عثمويه الكاتب، قال: حدثني الكرماني كاتب كان لأبي بكر ابن الصيرفي، صاحب الجيش، قال: أنفذني صاحبي لأنفق في رجال أبي محمد جعفر ابن محمد ابن ورقاء، فأنفقت فيهم، واستفضلت أنا وكاتب لأبي محمد، والجهبذ، والنقيب، نحو عشرة آلاف درهم.
فقالوا: ندخل في موضع، ونتحاسب، ونقسم.
فدخلنا مسجداً حيال دار أبي محمد، ولم نر فيه إلا رجلاً عليلاً نائماً، كأنه سائل، فحقرناه. وأخذنا نتحاسب، ونقول: وصل إلينا من رزق فلان الساقط كذا، وفلان البديل كذا، ومن الصرف كذا، ومن فضل الوزن كذا، ومن كذا كذا، إلى أن حصلنا مبلغ الفضل، وما يخص كل واحد منا.
فأقبلنا نزن، فشال العليل رأسه، وقال: يا أصحابنا، أخرجوا لي قسطاً.
فقلنا: ومن أنت؟ قال: أنا رجل من المسلمين، قد سمعت ما كنتم فيه.
فقلنا: هو ضعيف، أعطوه خمسة دراهم.
فقال: لا أريد إلا قسطاً صحيحاً بالسوية، مثلما يأخذه أحدكم.
فاستخففنا به.
فقال: لا عليكم، إما أعطيتموني ما التمست، وإلا جلست الساعة في سميرة، ومضيت إلى أبي بكر الصيرفي، وقلت: إنكم أخذتم باسم فلان الساقط كذا، وباسم فلان البديل كذا وكذا.
قال: فأعاد جميع ما قلنا وتحاسبنا عليه، حتى ما أخل بحرف واحد منه، فأقل ما يعمل بكم، إذا لم يصرفكم ويؤذيكم، أن يرتجع منكم ما سرقتم.
فنظرنا إلى ما قاله فوجدناه صحيحاً، فرمنا منه أن يقتصر على بعض ما طلبه.
فقال: لا والله إلا بقسط كما يأخذ أحدكم.
فلم نجد من دفع ذلك إليه بد، فدفعنا إليه قسطاً، مثلما أخذه واحد منا. فأخذه وافترقنا.
والد المؤلف يحفظ قصيدة تشتملعلى ستمائة بيت في يوم وليلة حدثني أبي رضي الله عنه، قال:

سمعت أبي رحمه الله ينشد يوماً، وسني إذ ذاك خمس عشرة سنة، بعض قصيدة دعبل الطويلة التي يفتخر فيها باليمن، ويعدد مناقبهم، ويرد على الكميت فخره بنزار، أولها:
أفيقي من منامك يا ظعينة ... كفاني اللوم مر الأربعين
وهي نحو ستمائة بيت، فاشتهيت حفظها، لما فيها من مفاخر اليمن لأنهم أهلي.
فقلت: يا سيدي، تخرجها إلي حتى أحفظها، فدافعني، فألححت عليه.
فقال: كأني بك، تأخذها، فتحفظ منها خمسين بيتاً أو مائة بيت، ثم ترمي بالكتاب، وتخلقه علي.
قلت: ادفعها إلي.
فأخرجها، وسلمها إلي، وقد كان كلامه أثر في، فدخلن حجرة كانت برسمي في داره، فخلوت فيها، ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيء غير حفظها.
فلما كان في السحر، كنت قد فرغت من جميعها، وأتقنتها، فخرجت إليه غدوة على رسمي، فجلست بين يديه.
فقال: هي، كم حفظت من القصيدة؟ فقلت: قد حفظتها بأسرها.
فغضب، وقدر أني قد كذبته، وقال لي: هاتها.
فأخرجت الدفتر من كمي، وفتحته، ونظر فيه، وأنا أشد، إلى أن مضيت في أكثر من مائة بيت.
فصفح منها عدة أوراق، وقال: أنشد من هاهنا.
فأنشدت مقدار مائة بيت آخر، فصفح إلى أن قارب آخرها بمائة بيت، فقال أنشدني من هاهنا، فأنشدته مائة بيت منها إلى آخرها.
فهاله ما رآه من حسن حفظي، فضمني إليه، وقبل وعيني، وقال: يا الله، يا بني، لا تخبر أحداً بها، فإني أخاف عليك من العين.
مقدار ما حفظه والد المؤلف من الشعرحدثني أبي رضي الله عنه، قال: حفظني أبي، وحفظت بعده، من شعر أبي تمام الطائي والبحتري، سوى ما كنت احفظه لغيرهما من المحدثين من الشعراء، مائتي قصيدة.
قال: وكان أبي وشيوخنا بالشام، يقولون: من حفظ للطائيين أربعين قصيدة، ولم يقل الشعر، فهو حمار في مسلاخ إنسان.
فقلت الشعر وسني دون العشرين، ثم بدأت بعمل مقصورتي التي أولها:
لولا التناهي لم أطغ نهي النهى ... أي مدى يطلب من جاز المدى
حفظ القرآن في ستة أشهرحدثني أبو عبد الله بن هارون التستري المقرئ رحمه الله، وكان أقام بمسجدنا بالبصرة، قال: أقمت أحفظ القرآن سنين كثيرة، كلما بلغت إلى موضع، أنسيت الذي قبله، حتى كأني ما سمعته قط، فشق ذلك علي.
فحججت، وتعلقت بأستار الكعبة، ودعوت الله تعالى، وسألته أن يعينني على حفظه.
ورجعت إلى البصرة، فلزمت التلقين، فحفظت القرآن في ستة أشهر على حرف أبي عمرو، ثم تعاطيت السبعة.
فما حال الحول علي، إلا وقد أحكمت أكثرها.
من أقوال الصوفيةبلغني عن بعض الصوفية، إنه قال: الاستغفار صابون المعاصي، و الشكر لله عز وجل سفتجة الرزق، والصلاة جوارشن المعدة، والصوم ريباس البدن، واليقين الرأس الأكبر.
وعن بعضهم، من أهل زماننا: المعرفة بالله، دليل لا ضيعة معه، والعمل الصالح، زاد لا يخاف معه طول السفر.
ناصر الدولة الحمداني يتبع
وصية أبيه أبي الهيجاءحدثني أبو محمد يحيى بن محمد، قال: حدثني أبو اسحاق ابن أحمد القراريطي قال: حدثني ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان، قال: كان أبي أبو الهيجاء شديد الانحراف عني أول نشوي، لما يراه من الفضل في، وخوفه مني على أعماله.
فكان يغض مني، ويتجافاني، ويمسك يده عني، فأتحمل ذلك، وأصبر عليه.
فولي طريق خراسان، فجلس يعرض دوابه، فبقي منها خمسين دابة، ما بين زمن وأعجف، إلى غير ذلك.
ثم قال: يا حسن، أريد أن أخرج بعد شهرين إلى العمل، وهذه الدواب مسلمة إليك، وقد رددت أمرها إليك، لأجربك بها في الأمور الكبار. فإن قمت بها حتى تصح وتبرأ وتسمن، وكان فيك فضل لذلك، علمت أنك تصلح لما هو فوقه، وإن لم تصلح على يدك، فهو أول عمل رددته إليك من أمري وآخره، فعجبت من أن أول عمل أهلني له، أن أكون سائس دواب، ولم أجد بداً من الصبر.
فقلت: السمع والطاعة.
وأخذت الدواب، وأفردت لها اسطبلاً، وجعلت لنفسي فيها دكة، واستأجرت لها سواساً، وأدرت أرزاقهم، وطالبت بأشد الخدمة، وكنت أحضر أمر الدواب دفعات في اليوم، حتى توقح وتعالج وتسمن، وأفردت بياطرة فرهاً لذلك.
فما مضى عليها إلا شهر وأيام، حتى صحت وسمنت، وصارت على غاية الحسن.
وأزف خروجه، فقال لي: يا حسن ما فعلت بتلك الدواب؟ فقلت: قم إلى الإسطبل حتى تراها.

فقام، فرآها في غاية الحسن، فسر بذلك، وأعجبه، وأثنى علي، وقال: يا حسن، هوذا أعلمك بدل قيامك بهذا الأمر شيئاً تنتفع به، وفيه قضاء لحقك، بقدر ما أتعبتك فيه.
فقلت: قل، يا سيدي.
قال: إذا رأيت السلطان قد رفع من أهلك رجلاً، أو الزمان قد نوه به ورأسه، فإياك أن تحسده، وتشغل نفسك بعداوته، فإنك تتعب، ولا تصل إلى فائدة، وتسقط أنت، ولا يضر هو، وتغنم أنت، ولا يتآذى هو، وتغض من نفسك بغضك من رجل صار كبيراً من أهلك، فإنه ما ارتفع إلا بآلة فيه، يدفعك بها، أو إقبال يدفعك عنه، واجهد أن تخدمه، وتصافيه الود، ليكون ذلك الفضل الذي فيه، فضلاً لك، وذلك الفخر راجعاً إليك، وتتجمل بثنائه عليك، وإطرائه لك، وتصير أحد أعوانه، فإنه أحسن بك من أن كون من أعوان غيره ممن ليس من أهلك، ويراك الناس عنده وجيهاً، فيكرمونك له،فإن كان له منزلة من السلطان جاز أن تصل إليها باستخلافها إياك عليها،وانتقاله إلى ما هو أكبر منها، وكذلك إن كانت منزلته من غير سلطان، فلا تقل أنا أقعد منه في النسب، وأني خير قرابته، وهذا أمس كان وضيعاً، وكان دوننا، فإن الناس بأوقاتهم.
فقلت: نعم يا سيدي.
قال: ثم أقبل علي، وونسني، وولد لي في نفسه، القيام على تلك الدواب، منزلة.
فقال: اخرج معي إلى العمل.
وخرج فخرجت معه، وكنت أسايره إلى حسر النهروان وأحادثه، فولد ذلك الانبساط في نفسي طمعاً فيه، وأن أسأله شيئاً.
فذكرت بجسر النهروان، أن له ضيعة جليلة عظيمة، بنواحي الموصل، يقال لها: النهروان، كنت أشتهيها.
فقلت له: يا سيدي قد كثرت مؤونتي، وتضاعفت نفقتي، فلو وهبت لي النهروان ضيعتك، لأستعين بغلتها على خدمتك، ما كان ذلك منكراً.
قال: فحين سمع هذا، تغيظ غيظاً شديداً، وأقبل يشتمني أقبح شتيمة، وقال: يا كلب، سمت بك نفسك إلى أن تمتلك النهروان؟ وقنعني بالسوط الذي كان في يده، وهو مفتول كالمقرعة، فوقع السوط على وجهي، فشجه من أوله إلى آخره، وأحسست بالنار في وجهي، وورد ذلك على غفلة، فتداخلني ألم عظيم، وغيظ مما عاملني به أشد من الألم.
وقلت في نفسي، ما كان هذا جوابي، وقد كان يقنعه أن يردني، ولكن نيته لي فاسدة بعد. وقصرت عن مسايرته، ولحقني غلماني، فوقفوا معي ساعة، حتى صلحت قليلاً، وسار هو، ففتلت رأس دابتي، وأنفذت من رد بغلين كانا لي في السواد، عليهما قماشي وثيابي وغلماني، ورجعت أريد بغداد، وأنا وقيذ من الألم والغيظ حتى وردت بغداد.
وكان الوزير إذ ذاك علي بن عيسى، وهو في غاية العناية بأبي، وهو قلده العمل، وكان يحبني، ويكرمني، ويختصني، ففكرت أن أدخل إليه، أشكو أبي، وأريه الأثر الذي بي. فقصدت دارنا ، فأدخلت البغلين والقماش إلى الدار، ولم أنزل، وتوجهت إلى دار الوزير. فحين نزلت عن دابتي، وصرت في الصحن، ذكرت وصية أبي لي في أمر الأهل، وندمت على دخول دار الوزير، وقلت: لأن أقبل الوصية في أبي، أولى من قبولها في الأهل، فعملت على أن أغالط الوزير، ولا أعرفه.
وجئت فسلمت على الوزير، ووقفت بين يديه، ولم تكن عادتي تجري بالجلوس بحضرته. فحين رآني أعظم الأثر الذي في وجهي، وقال: ما لحقك؟ وأنكره، لأنه كان قبيحاً جداً.
فقلت: لعبت بالصولجان والكرة، فأفلتت، فضربت وجهي.
فقال: أليس كنت قد خرجت مع أبيك، فلم رجعت.
فقلت: خرجت مشيعاً، فلما بعد، عدت لألزم خدمة الوزير.
قال: فأخذ يسألني عن مسير أبي، فإذا بأبي قد دخل، وإذا هو لما رجعت من الطريق، وبلغه خبر رجوعي قد اغتاظ، فرجع، إما ليردني، أو ليقبض علي، وجاء إلى داره، فعرف أني لم أنزل،وأني توجهت إلى دار الوزير، فلم يشك في أني قد مضيت أشكوه.
فجاء، فوجدني أخاطبه، فتحقق ذلك عنده، فجلس.
فقال له الوزير: ما ردك يا أبا الهيجاء؟ فقال: أيها الوزير، ما هذا حق خدمتي لك، ومنا صحتي إياك، وانقطاعي إليك، وأخذ يعتب على الوزير أعظم عتب، وأنا قائم، ساكت، أسمع.
فقال له الوزير: ما هذا العتب علي؟ أي شيء عملت؟ فقال: تمكن هذا الكلب من ذكري بحضرتك، والتبسط في.
فقال: من تعني؟ فقال: الحسن، هذا القائم، فعل الله به وصنع.

فقال له الوزير: يا هذا قد وسوست، أي شيء كان أول هذا؟ والله، ما نطق هذا الفتى في أمرك بحرف، ولا سمعت قط ذكرك بما يوجب عتباً عليه، وكيف علي في تمكيني منه، ولو فعل ذلك، لغض بي عندي من نفسه.
فاستحيا أبي، وعلم أني لم أخاطب الوزير بشيء، وأمسك.
فقال له الوزير: لا بد أن تحدثني بما بينكما، فإنك ما حملت نفسك على الرجوع، إلا لأمر عظيم، وهو ذا أرى الحسن أيضاً به أثر قبيح، وقد سألته، فقال: إن كرة أفلتت من يدي غلمان ضرب معهم بالصولجان فأصابت وجهه، فوقع لي أنه صادق، فلما جئت الآن، وقدرت أنه قد شكاك، وقع لي إن هذا شيء من فعلك، ولا بد أن تصدقني.
قال: فقص عليه أبو الهيجاء القصة، كما جرت.
فأقبل عليه علي بن عيسى، وقال: أما تستحي يا أبا الهيجاء، أن يكون هذا قدر حلمك عن ابنك، وأكبر ولدك؟ فإذا كنت بهذا الطيش معه، فكيف تكون مع الغريب؟ وأي شيء كان في مسألته لك أن تهب له ضيعة؟ ولو فعلت ذلك، ما كان ذلك بدعاً من بر الآباء بأولادهم. ولما لم تسمح له بذلك، قد كان يجب أن ترده رداً جميلاً، أو قبيحاً إذا اغتظت، وأما أن تبلغ به ضرب السياط، آه، آه.
قال: وزاد عليه في العتب والتوبيخ، وهو مطرق مستحيي.
حتى قال له: وليس العجب من هذا، حتى رجعت من عملك، غيظاً عليه، وقدرت أنه قد شكاك إلي، وأني أطلق له أن ينقصك، فجئت عاتباً علي، لوهم توهمته فيه.
قال: فأخذ أبي يعتذر إليه من ذلك.
فقال: والله، ما أقبل عذرك، ولا تنغسل عن نفسي هذه الآثار، إلا بأن تشهد لحسن بالضيعة، وتهبها له، جزاء عن ظلمك إياه.
فقال: السمع والطاعة لأمر الوزير.
فقال لي علي بن عيسى: انكب على رأس أبيك ويده فقبلهما.
قال: ففعلت ذلك.
وجذب علي بن عيسى دواته ودرجاً، فأعطاهما أبا الهيجاء، وقال: اكتب له بالضيعة، إلى أن تشهد، فكتب أبي بالضيعة لي.
وقال الوزير: خذ، خذ، فإذا عاد إلى البيت، فاكتب عليه العهد بالوثيقة، وأشهد عليه جماعة من العدول،فإن امتنع عرفي حتى أطالبه لك بذلك.
قال:وخرجنا ونحن مصطلحون.
فلما صرنا في الدهليز، قال أبي: يا حسن أنا علمتك على نفسي، بالوصية التي وصيتك بها، كأني بك وقد جئت لتشكوني، فلما صرت في الدهليز ذكرت وصيتي لك، فقلت: لأن أستعملها مع أبي، أولى بي، فلما صرت في مجلس الوزير، قلت له ما قلت، ولم تشكني إليه.
قلت: والله يا سيدي كان.
فقال: إذا كان فيك من الفضل ما قد حفظت معه وصيتي، في مثل هذه الحال، فما ترى بعدها مني ما تكرهه.
فقبلت يده، وعدت معه إلى دارنا.
فسلم إلي الضيعة، وأشهد بها لي، وصلحت نيته بعد ذلك، واستقامت الحال بيننا.
وكان قبول تلك الوصية أبرك شيء علي.
بين ابن أبي البغل عامل أصبهان
وأحد طلاب التصرفحدثني أبو القاسم سعد بن عبد الرحمن الأصبهاني، كتاب الأمير أبي حرب، سند الدولة، الحبشي بن معز الدولة، ومحله من النبل والجلالة والثقة، والأدب، والعلم، مشهور، قال: كان أبو الحسين بن أبي البغل، يتقلد بلدنا، فأخبرني من حضر مجلسه، فقد دخل إليه شيخ قدم من بغداد، بكتب من وزير الوقت، ومن جماعة رؤساء الحضرة، وإخوان أبي الحسين بها، يخاطبونه بتصريفه ونفعه.
فسلم وجلس، وأصل الكتب، وصادف منه ضجراً وضيق صدر، وكانت إضبارة عظيمة، فاستكثرها بن أبي البغل،ولم يقرأها جميعها.
فقال له الرجل: إن رأيت أن تقرأها، وتقف على جميعها.
فصخب، وتغيظ، وقال: أليس كلها في معنى واحد؟ قد والله بلينا بكم يا بطالين، كل يوم يصير إلينا منكم واحد يريد تصرفاً، لو كانت خزائن الأرض إلي، لكانت قد نفذت.
ثم قال للرجل: يا هذا، ما لك عندي تصرف، ولا إلي عمل شاغر أرده إليك، ولا فضل في مالي أبرك منه فدبر أمرك بحسب هذا.
قال: والرجل ساكت جالس، إلى أن أمسك ابن أبي البغل.
فلما سكت، ومضت على ذلك ساعة قام الرجل قائماً، وقال: أحسن الله جزاءك، وتولى مكافأتك عني بالحسنى، وفعل بك وصنع.
قال: وأسرف الرجل في شكره، والدعاء له، والثناء عليه، بأحسن لفظ، وأجود كلام، وولى منصرفاً.
فقال ابن أبي البغل: ردوا من خرج.
وقال له: يا هذا، هو ذا تسخر مني؟، على أي شيء تشكرني؟ على أياسي لك من التصرف، أو على قطع رجائك من الصلة، أو على قبيح ردي لك عن الأمرين، أو تريد خداعي بهذا الفعل؟

قال: لا، ما أردت خداعك، وما كان منك من قبيح الرد، غير منكر، فإنك سلطان، ولحقك ضجر.
ولعل الأمر على ما ذكرته من كثرة الواردين عليك وقد بعلت بمن حضر، ونحوسى أن صار هذا الرد القبيح، والأياس الفظيع، في بابي.
ولم أشكرك إلا في موضع الشكر، لأنك صدقتني عما لي عندك في أول مجلس، فعتقت عنقي من ذل الطمع، وأرحتني من التعب بالغدو والرواح إليك، وخدمة من أستشفع بهم عليك، وكشفت لي ما أدبر به أمري، وبقية نفقتي معي، ولعلها تقوم بتجملي، الذي أتجمل به إلى بلد آخر، فإنما شكرتك على هذا، وعذرتك فيما عاملتني به، لما ذكرته أولاً.
قال: فأطرق ابن أبي البغل خجلاً، ومضى الرجل.
فرفع رأسه بعد ساعة، وقال: ردوا الرجل، فردوه.
فاعتذر إليه، وأمر له بصلة، وقال: تأخذها إلى أن أقلدك ما يصلح لك، فإني أرى فيك مصطنعاً.
فلما كان بعد أيام قلده عملاً جليلاً، وصلحت حال الرجل.
ابن أبي البغل يأمر بإشخاص
أحد عماله لكي يقطع سحاة كتابحدثني أبو القاسم، قال: كانت في أبي البغل ، منافرة ومناكدة.
فورد عليه يوماً، كتاب من عامل له، من بلد بينه وبينه فراسخ كثيرة، وقد سحاه بسحاة غليظة. واجتهد أبو الحسين في قطع السحاة بيده، وجهد جهداً شديداً، فما كان له إلى ذلك طريق، فترك الكتاب، ووقع بإشخاص العامل، ومضى اليوم.
فلما كان بعد أيام، قدم العامل، فلما جلس بين يديه، قال لصاحب الدواة: أين ذلك الكتاب الذي ورد منه بالأسحاة الغليظة؟ فأحضره.
فقال له: اقطع هذه الأسحاة.
فرامها العامل، فلم يكن فيها حيلة، فأخذ سكيناً من دواة بعض الكتاب بحضرته،فقطعها.
فقال له: ارجع الآن إلى عملك. فإنما دعوتك لتقطع هذه الأسحاة.
وأعلمك أنك قي أي وقت سحيت كتاباً لك بمثلها، أني أستحضرك لتقطعه.
فرده في الحال إلى عمله، وما تركه أن يقيم ولا ساعة، ولا سأله عن شيء من أمره.
لابن بشير الآمدي يهجو قاضي البصرةكان قد ولي القضاء بالبصرة، في سنة ست وخمسين وثلثمائة، رجل لم يكن عندهم بمنزلة من صرف به، لأنه ولي صارفاً لأبي الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، فقال فيه أبو القاسم الحسن بن بشير الآمدي، كتاب القاضيين أبي القاسم جعفر، وأبي الحسن محمد بن عبد الواحد:
رأيت قلنسية تستغيث ... من فوق رأس تنادي خذوني
وقد قلقت فهي طوراً تميل ... من عن يسار ومن عن يمين
فقلت لها أي شيء دهاك ... فردت بقول كئيب حزين
دهاني أن لست في قالبي ... وأخشى من الناس أن يبصروني
وأن يعبثوا بمزاح معي ... وإن فعلوا ذاك بي قطعوني
فقلت لها مر من تعرفين ... من المنكرين لهذي الشؤون
ومن كان يشهق أما رآك ... ويخرج من جوفه كالرنين
ومن كان يصفع في الله لا ... يمل ويشتد في غير لين
ويسلح ملأك كيل التمام ... إما على صحة أو جنون
ففارقها ذلك الانزعاج ... وعادت إلى حالها في السكون
أبو رياش الشاعر يعاتب الوزير المهلبيأنشدني أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي - ومحله من علم اللغة والشعر، المحل المعروف - لنفسه في أبي محمد المهلبي، وكان امتدحه، فتأخرت عنه صلته، وطال إليه تردده، على ما أخبرني به أبو رياش.
قال: فقلت:
وقائلة قد مدحت الوزير ... وهو المؤمل والمستماح
فماذا أفادك ذاك المديح ... وهذا الغدو معاً والرواح
فقلت لها ليس يدري امرؤ ... بأي الأمر يكون الصلاح
علي التقلب والاضطراب ... جهدي وليس علي النجاح
بين أبي العباس بن دينار
وأبي يحيى الرامهرمزيسمعت أبا يحيى زكريا بن محمد بن زكريا الرامهرمزي، يحدث أبي، قال: كان أبو العباس عبيد الله، صديقي، كما علم القاضي وكان مقيماً عندنا برامهرمز.
فلحقته إضاقة، فضيق على عياله، فأنفذوا إلي أساورة ودمالج وخلاخل ذهب، واقترضوا عليها ثلثمائة دينار، فأقرضتهم.

ومضت شهور، وجاء الديلم يريدون البلد، وخرج بجكم إليهم، فتهارب الناس منهم، وعملنا على الهرب متى انهزم بجكم، فما كان بأسرع من أن جاءنا منهزماً، فطار الناس على وجوههم.
وقال أبو العباس لحرمه: اخرجوا، فتباطؤوا بسبب حليهن.
فلما زاد عيه الأمر، دخل، فقال: ما لكم؟ إن كنتم قد صادقتم صديقا، فأقيموا، وعرفوني لأهرب وحدي، وإن كنتم اتخذتم حبة فاحملوها معنا، وإلا فالسيف قد لحق بنا، فما هذا التباطؤ عن الهرب، لندرك.
فحدثوه بحديث الحلي ورهنه، فكتب إلي: " بسم الله الرحمن الرحيم " يا أبا يحيى، جعلت فداك،
سلبت الجواري حليهن فلم تدع ... سواراً ولا طوقاً على النحر مذهباً
فاستحييت منه، وبعثت بالحلي، فأخذه، ورحل بجواريه، ورحلنا. ودخل الديلم البلد.
حجر خاصيته طرد الذبابحدثني أبو أحمد عبد الله بن عمر الحارثي، قال: حدثني رجل خراساني من بعض أصحاب الصنعة، ممن كان يعرف الأحجار الخواصية، قال: اجتزت برهداري بمصر، فرأيت عنده حجراً أعرفه، يكون وزنه خمسة دراهم، مليح المنظر، وقد جعله بين يديه في جملة قماشه.
وكنت أعرف أن خاصيته في طرد الذباب، وكنت في طلبه منذ سنين كثيرة.
فحين رأيته ساومته فيه، فاستلم علي به خمسة دراهم، فلم أماكسه ودفعتها إليه صحاحاً.
فلما حصلت في يده، وحصل الحجر في يدي، أقبل يطنز بي، ويسخر مني.
ويقول: يجون هؤلاء الحمير، لا يدرون أيش يعطون، ولا أيش يأخذون، والله، إن هذه الحصاة رأيتها منذ أيام مع صبي، فوهبت له دانق فضة، وأخذتها، وقد اشتراها هذا الأحمق مني بخمسة دراهم.
فرجعت إليه، وقلت له: يجب أن أعرفك أنك أنت الأحمق، لا أنا. قال: كيف؟ قلت: قم معي، حتى أعرفك ذلك.
فأقمته ومضينا حتى اجتزنا بكسار يبيع التمر في قصعة، والذباب محيط بها.
فنحيت الرجل بعيداً من القصعة، وجعلت الحجر عليها، فحين استقر عليها طار جميع الذباب. وتركته ساعة، وهي خالية من ذبابة واحدة فما فوقها، ثم أخذت الحجر فرجع الذباب، ثم رددته، فطار الذباب.
ففعلت ذلك ثلاث مرات، ثم خبأت الحجر.
وقلت: يا أحمق، هذا حجر الذباب، وأنا قدمت في طلبه من خراساني، يجعله الملوك عندنا على موائدهم، فلا يقربها الذباب ولا يحتاجون إلى مذبة، ولا إلى مروحة، والله، لو لم تبعني إياه إلا بخمسمائة دينار، لاشتريته منك.
قال: فشهق شهقة، قدرت أن تلف، ثم أفاق منها بعد ساعة، وافترقنا.
وخرجت بعد أيام إلى خراسان والحجر معي، فبعته على نصر بن أحمد أميرها بعشرة آلاف درهم.
يوسف بن وجيه صاحب عمان
يذعن لحكم مستشاريهحدثني أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد العسكري، قال: كان عندنا بعسكر مكرم شيخ أصبهاني مشهور يعرف بالكافوري، يتجر في الجوهر، وكان حسن البصيرة بها.
فأخبرني إنه اشترى فصين، وباعهما مالكهما على أنهما بجاذيان، ولم يعرفهما، قال: فعرفتهما أنا، وعلمت أنهما بلخش، وهو جنس يشبه الياقوت الأحمر، فاشتريتهما منه بثلثمائة درهم، وجلوتهما بالبصرة، فخرج لهما من الماء أمر عظيم.
واتفق أن خرجت إلى عمان، وهما معي، فعرضتهما على يوسف ابن وجيه، الأمير، وادعيت أنهما ياقوت أحمر، فعرضتهما لكل جوهري، فكانوا يصدقونني.
فابتاعهما مني، بعد خطوب طويلة ومراوضات، بخمسين ألف درهم، وقبضت الثمن.
ثم شك فيهما، فأحضرني، وطالبني بالمال.
فقلت: إن كنت تريد أخذ المال باليد والقدرة، فأنت السلطان مالي بك قوة، وإن كنت تريد أخذه بحجة، فبيني وبينك أهل الصنعة.
فقال: ليس بعمان من أثق بعلمه.
فقلت له: فسرديب قريبة منك، وهي المعدن فأنفذهما إلى هناك، فإن قيل إنهما ليسا بياقوت، رددت المال.
ووضعت في نفسي أن أتجر في المال، إلى أن ينكشف الأمر، فأربح فيه مالأً، ثم أرد عليه أصل ماله.
قال: فضمنني المال على الشرط والمقام، وأنفذ الفصين.
فلما كان بعد سنة، أو قريباً منها، أحضرني، وأخرج كتباً إليه من وكيله هناك، يذكر فيها أنه جمع أهل الصنعة بسرنديب كلهم، وعرض عليهم الفصين، فقالوا: هما ياقوت أحمر، إلا أنه فيه رخاوة، ولو كان أصلب من هذا، ما كان له قيمة، وأن هذا ياقوت ليس هو من هذا المعدن.
فقرأت الكتب.
فقال: رد المال.

فقلت: ما يلزمني، ما بعتك على أنهما من معدن سرنديب، أو غيره من المعادن، ولا على أنهما صلبان أو رخوان، وقد شهد أهل المعدن أنهما ياقوت، وقد نعتوهما بالرخاوة، وقالوا إنه لولا هذا العيب، ما كان لهما قيمة.
ولولا هذا العيب، ما بعتك بخمسين ألف دينار، وأنا تاجر، قد قصدت بلدك، فلا تظلمني.
فقال لمن بحضرته، ما تقولون؟ فقالوا: نحن معه.
فأفرج عني.
سلب دنانيره ثم استعادها بدرهمينوحدثني أيضاً الحارثي، عمن حدثته، قال: سافرت في بعض الجبال، وكان معي دنانير خفت عليها، فأخذت قناة مجوفة، وجعلت في أنبوبة منها الدنانير، حتى امتلأت بها، فلم تجلجل، ولا جاء لها صوت، ثم صببت في رأسها الرصاص الحار، حتى خفي أمرها، والتزقت، وجعلت فيها حلقة وسيراً، وكنت أمشي وأتوكأ عليها. فخرج علنا اللصوص والأكراد، في عدة مواضع، وأخذوا كل ما كان في القافلة، ولم يعرض لي أحد.
إلى أن خرج علينا آخر دفع، لصوص رجالة، فشلحونا، فرأى أحدهم عكازي، فاستملحها، وأخذها.
فلحقني من الجزع عليها، بسبب الدنانير، أمر عظيم.
فأخذ أهل القافلة، يتلهون بي، ويقولون: معنا من ذهبت منه الأموال والأمتعة، ما قلق قلقك على خشبة، وأنا ممسك، لا أصرح بما كان فيها.
قال: وتمادى السفر بنا، إلى أن وصلت إلى مقصدي، فبقيت منقطعاً بي، واحتجت إلى أن تصرفت ببدني في بعض المهن نحو سنة.
فلما كان بعد سنة، اجتزت برهداري على الطريق، وإذا بين يديه قناة تشبه قناتي، وتأملتها فإذا هي هي، ورطلتها فإذا ثقلها بحاله.
فقويت نفسي، وقلت للرجل: تبيعني إياها؟ فقلت: نعم.
فقلت: بكم.
فقال: بدرهمين.
ولم أكن أملك غيرهما، فقلت: أعطه إياهما على الله تعالى، فإن كان مالي فيها فقد فزت، وإلا أبلي عذراً بيني وبين نفسي.
فأعطيته الدرهمين، وأخذت العكاز، وصعدت إلى مسجد، وطلبت أشفى من بعض الأساكفة، وأصعدت به معي إلى المسجد، وشققت العصا، فإذا بدنانيري قد خرجت علي بعينها.
فأخذتها، ورميت القناة، وحمدت الله تعالى على حفظ ذلك علي.
وانصرفت فتجهزت، وخرجت إلى بلدي بتجارة ومير.
امرأة تدعي أن زوجها كان
يعشق السراويلاتحدثني أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، قال: مات عندنا بالأنبار، فلان، وأسماه، وكان عظيم النعمة، وافر المروءة، كثير الثياب، وكان لكثرتها، يحصل كل فن منها في عدة صناديق.
وكانت دراريعه الدبيقية مفردة، والدراريع الديباج مفردة، وكذلك القمص، والسراويلات، والجباب، والطيالس، والعمائم.
قال: وكان له بنو عم ورثوه، وأم ولد قد تزوجها.
فلما مات، أخرجت جميع آلاته، وقماشه، وثيابه، إلا اليسير، من الدار، فخبأته.
وذهب عليها صناديق السراويلات، فلم تخرجها، وجاء بنو العم، فختموا على الخزائن.
فلما انقضت المصيبة، فتحوها، فوجدوها أخلى من فؤاد أم موسى، فخاصموها إلى قاضي البلد، فلم تنقطع الخصومة.
فدخلوا الحضرة، وتظلموا منها فأشخصت، وحملت إلى القاضي أبي جعفر بن البهلول، ووقع إليه بالنظر فيما بينهم على طريق المظالم.
فحضروا عنده وأخذ يسائلهم عن دعواهم، وهي منكرة جميعها.
فقالوا له: أيها القاضي، فلان أنت أعرف الناس بعظم مروءته وثيابه، وما كنت تشاهده له، وكله كان في يدها له.
وساعة مات ختمنا خزائنه، وهي كانت في الدار، ولما فتحناها لم نجد له فيها إلا عدة صناديق فيها سراويلات، وقطعاً يسيرة من ثيابه.
فأين مضى هذا؟ ومن أخذه؟ وما السبب في عظم السراويلات وقلة الثياب؟ قال: فأقبلت الجارية محتدة، كأنها قد أعدت الجواب، فقالت: أعز الله القاضي، أما سمعت ما حكاه الجاحظ من أن رجلاً كان يعشق الهواوين، فجمع منها مائتي هاون، هذا كان يعشق السراويلات.
قال: فضحك القاضي أبو جعفر، وانفض المجلس من غير شيء.
فما انتصفوا منها بعد ذلك.
ينكرالدين، ويأبى أن يحلف اليمينتقدم إلي رجلان، بالأهواز فادعى أحدهما على الآخر حقاً. فأنكره.
فسألته، وقلت: أتحلف؟ فقال: ليس له علي شيء، فكيف أحلف؟ لو كان له علي شيء، حلفت له، وأكرمته.
بحث في الرباب بين القاضي وأحد العدولسمعت القاضي أبا القاسم جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، يقول:

كنت بحضرة القاضي أبي عمر، بعد قبوله شهادتي بمدة، على خلوة وأنس، فجرى حديث الملاهي.
فقلت: فلان يضرب بالرباب.
قال: فصاح علي القاضي أبو عمر، وقال: هاه، هوذا تهزأ بنا، هوذا تنمس علينا؟ ما هذا الكلام؟ فقلت: ما هو أيد الله القاضي؟ فوالله، ما أدري أني قلت شيئاً يتعلق بما قاله القاضي.
فقال: قولك يضرب، كأنك لا تعلم أن الرباب يجر حتى يسمع صوته، ولا يضرب به.
فحلفت له بأيمان مغلظة أني ما علمت هذا، ولا رأيت الرباب قط.
فقال: إن هذا أقبح، سبيل الصالح أن يعلم طرق الفساد ليجتنبها على بصيرة، لا على جهل. فعدت إلى داري، فقلت لسائس كان معي: ويلك اطلب لي ربابياً.
فطلبه، وجاء به، فجره بين يدي، فرأيته، فكان ما فاله أبو عمر صحيحاً.
القاضي أبو عمر يتردد في قبول
شهادة شاهد تظاهر بالانزعاج من رائحة الخمرقال: واجتاز أبو عمر بطريق قد كسر فيه دن خمر، ومعه بعض الشهود، فقال الشاهد: شه، شه، أفيه، أفيه، فأمسك عنه.
فلما جاء في المجلس ليقيم شهادة لزمته، توقف عن استماعها، فقامت قيامة الشاهد، وطرح عليه من يسأله.
فقال: هذا كذاب أو جاهل، فلا يسعني قبوله، وذكر حديث الخمر.
وقال: ليس تحريمها يقلب رائحتها من الطيب إلى النتن، حتى يقول هذا ما قاله، وما قاله إلا وهو يعلم أن رائحتها طيبة، فنمس وكذب، أو هو جاهل بهذا القدر، فلا أقبله.
قواد ابن قوادحدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال: حدثني بعض الكتاب، قال: سافرت وجماعة من أصدقائي، نريد مصر للتصرف.
فلما حصلنا بدمشق، كان معنا عدة بغال، عليها ثقل وغلمان لنا، ونحن على دوابنا، أقبلنا نخترق الطرق لا ندري أين ننزل.
فاجتزنا برجل شاب، حسن الوجه والثياب، جالس على باب دار شاهقة، وفناء فسيح، وغلمان بين يديه وقوف.
فقام إلينا، وقال: أظنكم على سفر، ووردتم الآن؟ فقلنا: نحن كذلك.
فقال: فتنزلون علي.
وألح علينا، وسألنا، فاستحيينا من محله، وحسن ظاهره، وهيبته، وحططنا على بابه، ودخلنا. وأقبل أولئك الغلمان، يحملون ثقلنا، ويدخلون الدار، ولا يدعون أحداً من غلماننا يخدمنا، حتى حملوه بأسره، في أسرع وقت.
وجاءونا بالطساس والأباريق، فغسلنا وجوهنا، وأجلسونا في مجالس حسنة، مفروشة بأنواع الفرش الذي لم نر مثله.
وإذا الدار في نهاية الحسن والفخر والكبر، وفيها دور عدة، وبستان عظيم، وصاحب المنزل يخدمنا بنفسه.
وعرض علينا الحمام، فقلنا نحن محتاجون إليه، فأدخلنا إلى حمام في الدار في نهاية السرو، ودخل إلينا غلامان أمردان وضيئان، في نهاية الحسن فخدمانا بدلاً من القيم والمزين، وأخرجنا من الحمام، إلى غير ذلك المجلس، فقدم إلينا مائدة حسنة جليلة، عليها من الحيوان، وفاخر الطبيخ، والألوان، ونادر الخبز، وغريب البوارد، وكل شيء.
وإذا بغلمان مرد، في نهاية الحسن والزي، قد دخلوا إلينا، فغمزوا أرجلنا، فلحقنا من ذلك، مع الغربة وطول العهد بالجماع، عنت، فأمرناهم بالانصراف، وفينا من لم يستحل التعرض لهم، وتعفف عن ذلك، لنزولنا على صاحبهم.
ثم انتبهنا، فنقلنا إلى مجلس آخر على صحنين، في أحدهما بستان حسن، فأخرج إلينا من آلات النبيذ كل طريف ظريف، وأحضر من الأنبذة، كل شيء طيب حسن.
وشربنا أقداحاً يسيرة، ثم ضرب بيده إلى ستارة ممدودة، فإذا بجوار خلفها، فقال: غنوا، فغنى الجواري اللواتي كن خلفها، أحسن غناء وأطيبه.
فلما توسطنا الشرب، قال: ما هذا الاحتشام لأضيافنا أعزهم الله؟ أخرجن، وهتك الستارة.
قال: فخرج علينا جوار لم نر قط أحسن، ولا أملح، ولا أظرف منهن، من بين عوادة، وطنبورية، وكراعة، وربابية، وصناجة، ورقاصة، وزنافة، بثياب فاخرة وحلي، فغنيننا، واختلطن بنا في المجلس والجلوس، وكان تجنبنا أشد، وانقباضنا أكثر، وضبطنا أنفسنا أعظم. فلما كدنا أن نسكر، ومضت قطعة من الليل، أقبل صاحب الدار علينا، وقال: يا سادة، إن تمام الضيافة، وحقها، الوفاء بشرطها، وأن يقيم المضيف بحق الضيف في جميع ما يحتاج إليه من طعام، وشراب، وجماع، وقد أنفذت إليكم نصف النهار بالغلمان، فأخبروني بعفافكم عنهم، فقلت: لعلهم أصحاب نساء، فأخرجت هؤلاء، فرأيت من انقباضكم عن ممازحتهن، ما لو خلوتم بهن، كانت الصورة واحدة، فما هذا؟

قلنا: يا سيدنا، أجللناك عن ابتذال من في دارك لهذا، وفينا من لا يستحل الدخول في الحرام. فقال: هؤلاء مماليكي، وهن أحرار لوجه الله إن كان لابد من أن يأخذ كل واحد منكم بيد واحدة منهن، ويتمتع ليلته بها، فمن شاء زوجته بها، ومن شاء غير ذلك فهو أبصر، لأكون قد قضيت حق الضيافة.
فلما سمعنا هذا، وقد انتشينا، طربنا، وفرحنا، وصحنا، وأخذ كل واحد منا واحدة، فأجلسها إلى جانبه، وأقبل يقبلها، ويقرصها، ويمازحها.
فتزوجت أنا بواحدة منهن، وغيري ممن رغب في ذلك، وبعضنا لم يفعل.
وجلس معنا بعد هذا ساعة، ثم نهض.
فإذا بخدم قد جاءوا، فأدخلوا كل واحد وصاحبته، إلى بيت في نهاية الحسن والطيب، مفروش بفاخر الفرش، وفيه برذعة وطية سرية، فبخرونا عليها، ونومونا، والجواري إلى جنوبنا، وتركوا معنا شمعة في البيت، وما نحتاج إليه من آلة المبيت، وأغلقوا، وانصرفوا، فبتنا في أرغد عيش ليلتنا.
فلما كان السحر، باكرنا الخدم، فقالوا: ما رأيكم في الحمام؟ فقد أصلح، فقمنا ودخلناه، ودخل المرد معنا، فمنا من أطلق نفسه معهم فيما كان امتنع عنه بالأمس.
وخرجنا، فبخرونا بالند العتيق، وعطرونا بماء الورد والمسك والكافور، وقدمت إلينا المرايا المحلاة.
وأخبرنا غلماننا، إن صورتهم في ليلتهم، كانت كصورتنا، وإنهم أتوا بجواري الخدمة الروميات، فوطئوهن.
فأقبل بعضنا على بعض، نعجب من قصتنا، وبعضنا يخاف أن تكون حيلة، وبعضنا يقول: هذا في النوم نراه؟ ونحن في الحديث، إذ أقبل صاحب الدار، فقمنا إليه، وأعظمناه، فأخذ يسألنا عن ليلتنا، فوصفناها له، وسائلنا عن خدمة الجواري لنا، فحمدناهن عنده.
فقال: أيما أحب إليكم، الركوب إلى بعض البساتين للتفرج إلى أن يدرك الطعام، أو اللعب بالشطرنج، والنرد، والنظر في الكتب؟ فقلنا: أما الركوب فلا نؤثره، ولكن اللعب بالشطرنج والنرد والدفاتر، فأحضرنا ذلك، وتشاغل كل منا بما اختاره.
ولم تكن إلا ساعتين أو ثلاثة من النهار، حتى أحضرنا مائدة كالمائدة الأمسية، فأكلنا، وقمنا إلى الفرش، وجاء الغلمان المرد، فغمزونا، وغمزهم منا من كان يدخل في ذلك، وزالت المراقبة.
وانتبهنا فحملنا إلى الحمام، وخرجنا فتبخرنا، وأجلسنا في مجلسنا بالأمس.
وجاء أولئك الجواري، ومعهن غيرهن، ممن هن أحسن منهن، فقصدت كل واحدة، صاحبها بالأمس، بغير احتشام، وشربنا إلى نصف الليل، فحملن معنا إلى الفرش.
وكانت حالنا هذه أسبوعا.
فقلت لأصحابي: ويحكم، أرى الأمر يتصل، ومن المحال أن يقول لنا الرجل ارتحلوا عني، وقد استطبتم أنتم مواضعكم، وانقطعتم عن سفركم، فما آخر هذا؟ فقالوا: ما ترى؟ قلت: أرى أن نفاتش الرجل، فننظر إيش هو؟ فإن كان ممن يقبل هدية أو براً، عملنا على تكرمته وارتحلنا، وإن كان بخلاف ذلك، كنا معتقدين له المكافأة في وقت ثان، وسألناه أن يحضرنا من نكتري منه، ويبذرقنا ورحلنا. فتقرر رأينا على هذا.
فلما جلسنا تلك العشية على الشرب قلت له:ة قد طال مقامنا عندك، وما أضاف أحد أحسن مما أضفتنا، ونريد الرحيل إلى مصر لما قصدناه، من طلب التصرف، وأنا فلان بن فلان، وهذا فلان، فعرفت نفسي والجماعة، وقد حملتنا من أياديك ومننك، ما لا يسعنا معه أن نجهلك، ويجب أن تعرفنا نفسك، فنبث شكرك، ونقضي حقك، ونعمل على الرحيل.
فقال: أنا فلان بن فلان، أحد أهل دمشق، فلم نعرفه، فقلنا: إن رأيت أن تزيدنا في الشرح.
فقال: جعلت فداكم أنا رجل قواد.
فحين قال هذا، خجلنا، ونكسنا رؤوسنا.
فقال: جعلت فداكم مالكم؟ إن لقيادتي خبراً، أظرف مما رأيتموه.
فقلنا: إن رأيت أن تخبرنا.
فقال: نعم، أنا رجل كان آبائي تناء تجاراً، عظيمي النعمة والأموال، وانتهت النعمة إلى أبي، وكان ممسكاً، مكثراً.
ونشأت له، وكنت متخرقاً، مبذراً، محباً للفساد، والنساء، والمغنيات، والشرب، فأتلفت مالاً عظيماً من مال أبي، إلا أنه لم يؤثر في حاله، لعظمه. ثم اعتل، وأيس من نفسه، وأوصى، فدعاني، وقال:

يا بني إني قد خلفت لك نعمة قيمتها مائة ألف دينار وأكثر، بعد أن أتلفت علي خمسين ألف دينار، وإن الإنفاق، لا آخر له إذا لم يكن بإيزائه دخل، ولو أردت تمحيق هذا المال عليك في حياتي، أو الآن، حتى لا تصل إلى شيء منه، لفعلت، ولكني أتركه عليك، فاقضي حقي بحاجة تقضيها لي، لا ضرر عليك فيها.
فقلت: أفعل.
فقال: أنا أعلم أنك ستتلف جميع هذا المال في مدة يسيرة، فعرفني إذا افتقرت. ولم يبق معك شيء. تقتل نفسك. ولا تعيش في الدنيا؟ فقلت: لا.
قال: فتحمل على رأسك؟ فقلت: لا.
قال: فتحسن تتصرف، وتكسب المال؟.
قلت: لا.
قال: فعرفني من أين تعيش؟ قال: ففكرت ساعة، فلم يقع لي إلا أن قلت: أصير قواداً.
قال: فبكى ساعة، ثم مسح عينيه، وقال: لست أعيب عندك هذه الصناعة، فإنها ما جرت على لسانك، إلا وقد دارت في فكرك، ولا دارت في فكرك، وأنت تنصرف عنها أبداً بعدي، ولكن أخبرني كيف يتم لك المعاش فيها؟ فقلت: قد تدربت بكثرة دعواتي القحاب والمغنيات، ومعاشرتي لشراب النبيذ، فأجمعهم على الرسم، فينفقون في بيتي، ويعملون ما يريدون، وآخذ منهم الدراهم، وأعيش.
فقال: إذاً يبلغ السلطان خبرك في جمعة، فيحلقون رأسك، وذقنك، وينادي عليك، ويتفرق جمعك، ويقتل معاشك، ويقول أهل بلدك انظروا إلى فلان. كيف ينادى عليه، وقد صار بعد موت أبيه قواداً.
ولكن إن أردت هذه الصناعة فأنا أعلمك إياها، وإن كنت لا أحسنها، فلعلك تستغني فيها، ولا تفتقر، ولا يتطرق عليك السلطان بشيء.
فقلت: افعل.
قال: تحلف لي أنك تقبل مني.
فحلفت.
فقال: إذا مت، فاعمل على أنك أنفقت جميع مالك، وافتقرت، وابتدئ فكن قواداً ولك ضياع وعقاب، ودور وأثاث، وآلة وجواري وقماش، وخدم وجاه وتجارات، واعمد لكل ما في نفسك أن تعمله إذا افتقرت، فاعمله وأنت مستظهر على زمانك، بما معك، وجيهاً عند إخوانك، بمالك، واعمل على أنك قد أنفقته، واجعل معيشتك مما تريد أن تحصله إذا افتقرت، فإنك تستفيد بذلك أموراً: منها: أنك تبتدئ أمرك بهذا، فلا ينكر عليك في آخره، ومنها: أنك تفعل ذلك بجاه وعقار وضياع وأحوال قوية، فلا يطمع فيك سلطان، وإن طمع فيك رشوت، وبذلت من قدرة وجدة، فتخلصت.
فقلت: كيف أعمل؟ قال: تجلس، إذا مت، ثلاثة أيام للعزاء، إلى أن تنقضي المصيبة، فإذا انقضت، نفذت وصيتي وتجملت بذلك عند الناس، وقضيت حقي. ثم تظهر أنك قد تركت اللعب، وأنك تريد حفظ مالك، مع ضرب من اللذة.
ثم تبتدئ فتشتري من الجواري المغنيات والسواذج، كل لون، ومن الغلمان المرد، والخدم البيض والسود، ما تحتاج إليه وتشتهيه، ودارك، وضياعك، وآلتك، كما خلفته.
فإن احتجت إلى استزادة شيء، فاستزد، وتنوق.
وعاشر من تريد أن تعاشره، من غير أن تدخل إليك مغنية قيان، ولا من تأخذ جذراً.
وداخل الأمير، والعامل، وادعهما مرة في كل شهر أو شهرين، وهاهما أيام الأعياد، بالألطاف الحسنة، وألقهما كل أسبوع دفعة، واجتهد أن تعاشرهما على النبيذ في دورهما، وألقهما بالسلام، وقضاء الحق.
واتخذ في كل يوم مائدة حسنة، وادع القوم، ومن يتفق معهم، وليمن ذلك بعقل وترتيب.
فإن ذلك أولاً، لا يظهر مدة طويلة، فإذا ظهر، صدق به أعدائك، وكذب به إخوانك، وقالوا: لعل هذا على سبيل المجون والشهوة، وعلى طريق التخالع، أو مسامحة الإخوان، وإلا فأي لذة له في ذلك وهو ليس مخنثاً، ولا مجنوناً، ولا فقيراً فيحاج إلى هذا، فيبقى الخلاف فيك مدة أخرى، وأنت مع هذا، قد وصلت سلطانك، ولعل العشرة بينكما قد وقعت، فيستدعي مغنياتك، وتسمعهن في منزله، فيصير لك بمنادمته رسم، وجاهك مع إخوانك باق ببرك وملاقاتك لهم، فهم يحامون عليك العاقل منهم، ويحافظ لك الآخر، فتصير في مراتب ندماء الأمير، وفي جملته، وتصير قيادتك كالتشنيع عليك، والعيب لك، وتخرج عن حد القواد المحض، الذين يؤذون دائماً، وتكبس منازلهم. قال: فاعتقدت في الحال، أن الصواب ما قاله.
ومات في علته، فجلست ثلاثة أيام، ثم نفذت وصيته، وفرقتها كما أمرني، ثم بيضت الدور، وهي هذه، وزدت فيها ما اشتهيت، واستزدت من الآلات، والفرش، والآنية، كما أردت، وابتعت هؤلاء الجواري والغلمان والخدم، من بغداد، ودبرت أمري على ما قاله أبي، من غير مخالفة بشيء منه.

فأنا أفعل هذا منذ سنين كثيرة، ما لحقني فيه ضرر، ولا خسران، وما فيه أكثر من إسقاط المروءة، وقلة الحفل بالعيب.
وأنا أعيش أطيب عيش وأهناه، وألتذ أتم لذة مع هؤلاء الجواري، والغلمان، والخدم، ومن يعاشرني عليهم.
ودخلي بهم، أكثر من خرجي، ونعمي الموروثة باقية بأسرها، ما بعت منها شيئاً بحبة فضة فما فوقها.
وقد اشتريت من هذه الصناعة عقاراً جليلاً، وأضفته إلى ما خلف أبي علي، وأمري يمشي كما ترون.
فقلنا: يا هذا، فرجت والله عنا، واو جدتنا طريقاً إلى قضاء حقك.
وأخذنا نمازحه، ونقول: فضلك في هذه الصناعة غير مدفوع، لأنك قواد ابن قواد، وما كان الشيخ ليدبر لك هذا، إلا وهو بالقيادة أحذق منك.
فضحك، وضحكنا، وكان الفتى أديباً خفيف الروح.
وبتنا ليلتنا على تلك الحال.
فلما كان من الغد، جمعنا له بيننا، ثلثمائة دينار من نفقاتنا، وحملناها إليه.
فأخذها، ورحلنا عنه.
أراد جوامرك فطلب جوانبيرةأخبرني غير واحد: أن أسداً بن جهور العامل، كان بخيلاً، وله سؤدداً، يتقلد كبار الأعمال، وهو عظيم الحال والمال.
قال: وكتب يوماً إلى عامل له، في رستاق: احمل إلي مائي جوانبيرة. فقال العامل: وما يصنع بهذه العجائز كلهن، وهذه العدة كيف تجتمع لي من قرية؟ فجمع ما قدر عليه من النساء بين الشباب والعجائز، وأنفذهن طوعاً وكرهاً.
وكتب إليه: إن كتابك وصل بجمع ماء جوانبيرة، وهذا لا يوجد إلا في بلد كبير، أو عدة رساتيق، وقد جمعت لك كذا وكذا، وحملته مع موصل هذا الكتاب.
فلما قرأ كتابه، قال: ادفعوهم إلى الطباخ، وقولوا له يذبح منهم اليوم كذا وكذا، ويصلح منهم كذا وكذا.
فقيل له: يذبح لك النساء؟ قال: ما طلبت نساء.
قالوا: أنت طلبت نساء.
قال: ردوا الكتاب، فردوه.
قال: إنا لله، إنما أردت جوامرك وكتبت جوانبيرة، ادفعوا إلى النساء شيئاً واصرفوهن، واكتبوا له بجميع الجوامركات.
ففعل ذلك.
أسد بن جهور وبخله على الطعامقالوا: وكان معروفاً بالبخل على الطعام جداً، وكان ندماؤه يلقون من ذلك جهداً.
وكان يحضرهم، ويطالبهم بالجلوس، ويحضر كل شيء لذيذ شهي من الطعام، فإن ذاقه منهم أحد، ولو دانقاً، استحل دمه، وعجل عقوبته.
وكانت علامته معهم إذا شيلت المائدة، أن يمسحوا لأيديهم في لحاهم ليعلم أنهم ما شعثوا شيئاً يزهمها.
وكان له ابن أخت، يجتريء عليه، ولا يفكر فيه، ويهتك سترته إذا واكله.
فقدمت يوماً دجاجة هندية، فائقة سرية، فحين أهوى ابن أخته إليها، قبض على يده أشد قبض، وقال: يا غث، يا بارد، يا قبيح العشرة، يا قليل الأدب، في الدنيا أحد يستحسن إفساد مثل هذه؟.
فقال ابن أخته: يا لئيم، يا بخيل، يا سيء الاختيار، فلأي شيء تصلح؟ تجعل عقدة على وجهه التركة للأعقاب؟ واسطة للمخانق، في صدور المجالس؟ سرية يتمتع بالنظر إليها؟ ما أقدر، شهد الله، أن أدعها من يدي.
فتصابرا عليها، إلى أن قال له الفتى: فافتدها من يدي.
قال بما تحب.
قال: ببغلتك الفلانية. قال. قد فعلت.
قال: بسرجها ولجامها الحلى الفلاني.
قال: قد فعلت.
قال: ما أرفع يدي عنها، أو يحضر ذلك.
قال يا غلام أحضرها.
فأحضرت البغلة والمركب، فسلمها الفتى إلى غلامه، وأخرجها، ورفع يده عن الدجاجة. وانقضى الطعام، وشيلت المائدة، وقام لينام.
فخرج ابن أخته، فقال للطباخ: علي بالفائقة الساعة، وبجميع ما شلتموه ن المائدة، فأضر إليه، ورد الندمان، وقعدوا، فأكلوا ذلك وانصرفوا، وقد أكل الدجاجة والطعام أجمع، وحصلت على البغلة والمركب.
قال: وإنما كان لا يطيق أن يرى ذلك يؤكل، فأما إذا نحي من بين يديه، لم يسأل عنه، ولم يطالب به.
أخبرني أبو الحسن بن الأزرق، قال: حدثني أبي، عن الحسن بن مخلد بهذا الحيث لأنه حصل مع ابن خالة الحسن بن مخلد، قال: رأيت الفتى، قد غدا إلينا، إلى ديوان الخراج على بغلة الحسن بن مخلد، فسألناه عن السبب، فأخبرنا بذلك.
ناصر الدولة يحاسب على بقية دجاجةسمعت أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشمي يقول: كنت بحضرة ناصر الدولة ببغداد، فاستدعى بشيء يأكله متعجلاً، ليتعلل به.
فجاءوه بدجاجة مشوية، ورغيفواحد، وسكرجتي ملح وخل، وقليل بقل.

فجعل يأكل، وأنا أحادثه، إذ دخل الحاجب فأخبره بحضور قوم لا بد من وصولهم؟، يحتشمهم. فأمر برفع الدجاجة، فرفعت، ومسح يده، ودخل القوم، فخاطبهم بما أرادوا، وانصرفوا.
فقال: ردوا الدجاجة، فأحضر، فتأمل الدجاجة ساعة، ثم حرد.
وقال: أين تلك الدجاجة؟ فقالوا: هي هذه.
فقال: لا، وحق أبي، علي بالطباخ، فحضر.
فقال: هذه هي تلك الدجاجة؟ فسكت.
فقال: اصدقني ويلك.
قال: لا.
قال: فما عملت بتلك؟ قال: لما شيلت، لم نعلم أنها ترد إليك، فأخذها بعض الغلمان الصغار وأكلها، فلما طلبتها، أخذنا هذه فكسرنا منها، وشعثنا، مثلما كنت كسرت وشعثت، طمعاً في أنك لا تعلم بذلك، وقدمناها.
فقال له: يا حمار، تلك كنت قد كسرت منها الفخذ الأيمن، وأكلت جانب الصدر الأيسر، وهذه مأكولة جانب الصدر الأيمن، مكسورة الفخذ الأيسر، لا تعاود بعدها لمثل هذا.
قال: السمع والطاعة.
وانصرف الطباخ.
فجعلت أعجب من تفقده وهو ملك لمثل هذا.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
الحسن بن مخلد وبخله على الطعامحدثي أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني جحظة، قال: ربحت بأكلة افتديتها خمسمائة دينار، وخمسمائة درهم، وخمسة أثواب فاخرة، وعتيدة طيب سرية.
قلت: كيف كان ذلك؟ قال: كان الحسن بخيلاً على الطعام، سمحاً بالمال، وكان يأخذ ندماءه، بغتة فيسقيهم النبيذ، ويواكلهم، فمن أكل، قتله قتلاً، ومن شرب عنده على الخسف، حظي عنده.
قال: فكنت عنده يوماً، فقال لي: يا أبا الحسن، قد عملت غداً على الصبوح الجاشري، فبت عندي.
فقلت: لا يمكنني ، ولكن أباكرك قبل الوقت، فعلى أي شيء عملت أن تصطبح؟ فقال: أعد لنا كذا وكذا، ووصف ما تقدم به إلى الطباخ بعمله، فعقدنا الرأي على أن أباكره.
وقمت، وجئت إلى بيتي، فدعوت طباخي، وتقدمت إليه بأن يصلح لي مثل ذلك بعينه، ويفرغ منه وقت العتمة، ففعل، ونمت.
وقمت وقد مضى نصف الليل، فأكلت ما أصلح، وغسلت يدي وأسرج لي وأنا عامل على المضي إليه، إذ طرقتني رسله، فجئته.
فقال: بحياتي، أكلت شيئاً؟ قلت: أعيذك بالله، انصرفت من عندك قبيل المغرب، وهذا نصف الليل، فأي وقت أصلح لي شيء؟ أو أي وقت أكلت شيئاً؟ سل غلمانك، على أي حال وجدوني؟ فقالوا: والله وجدناه يا سيدنا وقد لبس ثيابه،وهو ذا ينتظر أن يفرغ له من إسراج بغلته، ليركبها.
فسر بذلك سروراً شديداً، وقدم الطعام، فما كان في فضل أشمه، فأمسكت عن تشعيثه ضرورة، وهو يستدعي أكلي، ولو أكلت أحل دمي.
قال: وكذا كانت عادته، فأقول له: هو ذا آكل يا سيدي، وفي الدنيا أحد يأكل أكثر من هذا؟ وانقضى الأكل، وجلسنا على الشرب، فجعلت أشرب بأرطال، وهو يفرح، وعنده أني أشرب على الريق، أو على ذلك الأكل الذي خلست معه.
ثم أمرني بالغناء، فغنيت، فاستطاب ذلك، وطرب وشرب أرطالاً.
فلما شربت النبيذ، قد عمل فيه، قلت: يا سيدي، أنت تطرب على غنائي، فأنا على أي شيء أطرب؟ قال: يا غلام ، هات الدواة، فأحضرت، فكتب لي رقعة، ورمى بها إلي، وإذا هي إلى صيرفي يعامله بخمسمائة دينار، فأخذتها، فشكرته. ثم غنيت، فطرب، وزاد سكره، فطلبت منه ثياباً، فخلع علي خمسة أثواب.
ثم أمر أن يبخر من كان بين يديه، فأحضرت عتيدة حسنة سرية، فيها طيب كثير، فأخذ الغلمان يبخرون الناس منها، فلما انتهوا، قلت: يا سيدي وأنا أرضى أن أتبخر حسب؟ فقال: ما تريد؟ قلت أريد نصيبي من العتيدة.
فقال: قد وهبتها لك.
وشرب بعد ذلك رطلاً آخر، واتكأ على مسورته، وكذا كانت عادته إذا سكر.
فقام الناس من مجلسه، وقمت وقد طلع الفجر وأضاء، وهو وقت تبكير الناس في حوائجهم. فخرجت كأني لص قد خرج من بيت قوم، على قفا غلامي الثياب والعتيدة كارة.
فصرت إلى منزلي، ونمت نومة، ثم ركبت إلى درب عون، أريد الصيرفي، حتى دكانه، وأوصلت الرقعة إليه.
فقال: يا سيدي، أنت الرجل المسمى في التوقيع؟ قلت: نعم.
قال: أنت تعلم، أن أمثالنا يعاملون للفائدة.
قلت: نعم.
قال: ورسمنا أن نعطي في مثل هذا ما يكسر في كل دينار، درهم.
قلت له: لست أضايقك في هذا القدر.

فقال: ما قلت هذا لأربح عليك الكثير، أيما أحب إليك، تأخذ كما يأخذ الناس، وهو ما عرفتك، أو تجلس مكانك إلى الظهر حتى أفرغ من شغلي، ثم ركب معي إلى داري، فتقيم عندي اليوم والليلة، ونشرب، فقد والله سمعت بك، وكنت أتمنى أن أسمعك، ووقعت الآن لي رخيصاً، فإذا فعلت هذا، دفعت إليك الدنانير بما تساوي، من غير خسران.
فقلت: أقيم عندك.
فجعل الرقعة في كمه، وأقبل على شغله.
فلما دنت الظهر، جاء غلامه ببغل فاره، فركب، وركبت معه، وصرنا إلى دار سرية حسنة، بفاخر الفرش والآلات، ليس فيها إلا جوار روم للخدمة، من غير فحل.
فتركني في مجلسه، ودخل، ثم خرج إلي بثياب أولاد الخلفاء، من حمام داره، وتبخر، وبخرني بيده، بند عتيق جيد، وأكلنا أسرى طعام، وأنظفه، وقمنا إلى مجلس للشرب سري، فيه فواكه وآلات بمال.
وشربنا ليلتنا، فكانت ليلتي عنده أطيب من أختها عند الحسن بن مخلد.
فلما أصبحنا أخرج كيسين، في أحدهما دنانير، وفي الآخر دراهم، فوزن لي خمسمائة دينار من أحدهما، ثم فتح الآخر فإذا هو دراهم طرية، فوزن لي منها خمسمائة درهم.
وقال: يا سيدي تلك ما أمرت به، وهذه الدراهم هدية مني. فأخذتها، وانصرفت.
وصار الصيرفي صديقي، وداره لي.
إن بالحيرة قساً قد مجن
حدثني أبو الحسن بن عياش، قال: كان جحظة لما أسن، يفسو في مجالسه، فيلقى من يعاشره، ذلك جهداً.
وكنت أحب غناءه، والكتابة عنه، لما عنده من الآداب، وكان يستطيب عشرتي، وكنت إذا جلست، أخذت عليه الريح، وجلست فوقها.
فجئته يوماً في مجلس الأدب، والناس عنده، وهو يملي، فلما خفوا، قال لي، ولآخر كان معي، أسماه لي، وحدثني ذلك الرجل بمثل هذا الحديث: اجلسا عندي، حتى أجلسكما على لبود، وأطعمكما طباهجة بكبود، وأسقيكما معتقة اليهود، وأبخركما بعود، وأغنيكما غناء المسدود، أطيب من الندود.
فقلنا: هذا موضع سجدة.
وجلسنا، وصديقي لا يعرف خلته في الفساء، وأنا قد أخذت الريح، فوفى لنا بجميع ما شرطه. وقال لنا، وقد غنى، وشربنا: نحن بالغداوة في صورة العلماء، وبالعشي في صورة المخنكرين. فلما أخذ النبيذ منه، أقبل يفسو، وصديقي يغمزني، ويتعجب، فأغمزه، وأقول: إن ذلك عادته، وخلته، وإن سبيله أن يحتمل.
إلى أن غنى جحظة، صوتاً مليحاً، الشعر والصنعة له فيه، وكان يجيده جداً، وهو:
إن بالحيرة قساً قد مجن ... فتن الرهبان فيها وافتتن
ترك الإنجيل حباً للصبا ... ورأى الدنيا مجوناً فركن
وطرب صديقي ذاك، عليه طرباً شديداً، استحساناً له، وأراد أن يقول أحسنت والله يا أبا الحسن، فقال: افس علي كيف شئت.
فخجل جحظة.
بين جحظة وأبي الحسين بن عياشقال: وأخبرني أنه كان معه في حديدي لابن الحواري، وقد حملهم إلي بلا شكر ليتفرجوا، والحديدي يمده الملاحون بالقلوس، وجحظة بين يدي الرجل، قد صار في أعلى الريح لأنها كانت شمالاً، على سطح الحديدي.
فأقبل جحظة يفسو، فأنكر الرجل ذلك، وقال: ما هذا الفساء؟ من أين هذا؟ فقال جحظة: هؤلاء المدادون سفل، فإذا مدوا فسوا، وهم أعلى منا في الريح، فهي تحمل فساهم إلينا.
قال: فاشتبه ذلك على الرجل.
فقلت له: يا أبا الحسن، لو أن فساء هؤلاء يريد الطرادة ويجيء على حملها مستوياً إلى نفس الطرادة ما وصل إلينا بهذه السرعة، والريح من جهتك لا من جهة الملاحين، وأنا أنبه عليك. قال: فأقبل يصانعني، ويفتدي من يدي، أن لا أغمز به.
فقلت : على شريطة أن تقطع.
قال: نعم.
أبو عيشونة الشاطرحدثني أبو القاسم الصروي الكاتب، قال: كان بمدينة السلام، شاطر، يعرف بأبي عيشونة، فاجتاز به بعض العلماء من أهل الأدب، في هيج قد وقع، وقد خرج ليأخذ المجتازين فقبض عليه، وقال: اطرح ثيابك.
فقال: أنا فلان.
فاستحيا منه، فقال: خذ علي ما أنشدك.
قال: هات.
فقال:
خمسون ألف فتى ما منهم أحد ... إلا كألف فتى ضرغامة بطل
شدوا ثيابهم يوماً على أمل ... فأفرغوها وأدلوها على الأمل
فقال الرجل: أحسنت، فبالله، زدني من شعرك، فقال:
ولقد هيج البلا ... حين عض السفرجلا
ولقد قام حبكم ... في فؤادي بأعلى العلا
فقال: خلطت.

قال: أنا أبو عيشونة، وحياة أصحابي، أنج بنفسك.
فمضى وتركه.
الحذاء الماجن بباب الطاقرأيت حذاء ماجناً بباب الطاق، يعرف بالمدلق، ويلقب بالقاضي، يسمس النعال، بأسماء من جنس الصفعة، على سبيل الهزل.
فيقول لمن يخاطبه: هذه صلكعية، وهذه رأسكية، وهذه قفوية، فقال له واحد: كم أعطيت بها؟ فقال: إذا نزلت في حلقك، عرفتك ثمنها، وأخذته منك، ومتى وقعت في عنقك وكرهتها، فأنا آخذها منك بالثمن.
طبيب يتماجن على مريضورأيت طبيباً يتماجن على مريض، وقد شكا إليه شيئاً.
فقال: هذا يدل على أنك، ثارت بك الصفراء، وكان الذي شكاه المريض رطوبة.
فقال: يا هذا أنا مرطوب، فكيف تثور بي الصفراء؟ قال: فالسوداء.
قال: لا أعلم .
قال: الذي عندي، إنه ثارت بك الملمعة.
ففطن الرجل لموضع قوله: الصفراء والسوداء، ثم وصف ما يصلح له، مما شكاه إليه، من علته.
يريد نعلاً وجهه مليح وأسفله وثيق
قال لي أبو طلحة الحذاء البصري، وكان مألفاً للأحداث والمتأدبين، قال لي صديق لي: أريد نعلاً يكون لها وجه مليح، وأسفل وثيق.
فقلت له: يا حبيبي، عليك بفلان العلق، إن وزنت خمسين درهماً في اليوم، ولست أجد لك بهذه الصفة إلا هو.
كما تدين تدانجاءنا أبو عبد الله بن وارم الكوفي المتكلم، قال: كان عندنا بالكوفة، رجل، له ابن عاق به، فلاحاه يوماً في شيء، فجر برجله حتى أخرجه من بيته، وسحبه في الطريق شيئاً كثيراً.
فلما بلغ إلى موضع منه، قال له: يا بني حسبك، فإلى هاهنا جررت برجل لأبي إلى الدار، حتى جررتني منها.
طيب الطعام يستخرج لب الشكرحدثني أبو الحسن بن سهيل الحذاء، عن بعض الصوفية، أنه قال: طيب الطعام يستخرج من لب الشكر.
سعد السعودأنشدني إسحاق بن إبراهيم بن علي النصيبي المتكلم لنفسه، في غلامه سعد:
وفق الله من دعاك بسعد ... فلقد كان فيه عين السعيد
أبصر السعد غرة بين عينيك ... فسماك باسمه المحمود
فإذا دعاك داع لأمر ... كنت فيه يا سعد سعد السعود
من رسائل أبي محمد المهلبيوجدت في كتب أبي، كتاباً من كتب أبي محمد المهلبي إليه، قبل تقلده الوزارة، بسنين، أوله: كتابي أطال الله بقاء سيدنا القاضي، عن سلامة لا زالت له إلفاً، وعليه وقفاً.
وحمداً لمولى أستمد بحمده ... له الرتبة العلياء والعز دائماً
وأن يسخط الأيام بالجمع بيننا ... ويرضي المنى حتى يرينيه سالماً
وصل كتابه، أدام الله عزه، فقمت معظماً له وقعدت مشتملاً على السرور به.
وفضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... دالبيض زينت بالشعور
بنظام لفظ كالثغو ... ر أو اللآلي في النحور
أنزلته في القلب من ... زلة القلوب من الصدور.
أبو طلحة يروي حديثاً غير شريف
سمعت أبا طلحة الحذاء، يقول: روى فلان، عن فلان، بإسناد طويل، من أصبح في يوم سبت، وعنده طباهجة عنبرية، وبالقرب منه باقلاني، ولم يصطبح، فلا صبحه الله بخير ولا عافية.
واصل بن عطاء والخوارجأخبرني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، التنوخي: أن أبا حذيفة، واصل بن عطاء، خرج يريد سفراً في رهط من أصحابه، فاعترضهم جيش من الخوارج.
فقال واصل لأصحابه: لا ينطق منكم أحد، ودعوني معهم.
فقالوا: نعم.
قال: فقصدهم واصل، واتبعه أصحابه.
فلما قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا بهم، فقال: كيف تستحلون هذا، وما تدرون ما نحن، ولأي شيء جئنا؟ قالوا: نعم، فما أنتم؟ قال: قوم من المشركين، جئناكم مستجيرين لنسمع كلام الله.
قال: فكفوا عنهم، وبدأ رجل يقرأ عليهم القرآن.
فلما أمسك، قال له واصل: قد سمعنا كلام الله، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر في الدين.
فقالوا هذا واجب، سيروا.
قال: فسرنا، والخوارج والله معنا برماحهم، يسيروننا ويحموننا، عدة فراسخ، حتى قربنا من بلد لا سلطان لهم عليه.
فقالوا: ذاك مأمنكم؟ فقال واصل: نعم، فارجعوا عنا.
فانصرفوا.

وذهب أبو حذيفة في ذلك، إلى قول الله تعالى: " وأن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " .
بين معتزلي وأشعريحدثني أبو الحسن، قال: كان إسماعيل الصفار البصري، أحد شيوخ أصحابنا المعتزلة، وكان الناس إذ ذاك يتشددون على أهل الحق، ويباينونهم في الخلاف.
قال: فوقعت ليلة في الدرب الذي كان ينزله إسماعيل في البصرة، صاعقة.
فلما أصبح، قال لغلمانه: أنسوا لي الباب، وافرشوا لي عليه، وإلا أرجف بي المخالفون.
ففعلوا، وجلس على بابه.
فاجتاز بعض جلة شيوخ البصرة من المخالفين، فلما رآه، قال: ألم نخبر أن الله رماك بصاعقة من عنده؟ قال: ولم؟ أنا أقول إني أرى الله جهرة؟
خلاف بين المعتزلة
وبين غوغاء من العواموقال رجل من أصحاب إسماعيل بالبصرة: أن القرآن مخلوق، بحضرة غوغاء من العوام، فوثبوا عليه، وحملوه إلى نزار الضبي. وكان أميراً على البصرة، فحبسه.
فطاف إسماعيل على المعتزلة، فجمع منهم أكثر من ألف رجل، وبكر بهم إلى باب الأمير، فاستأذن عليه، فأذن له.
فقال: أعز الله الأمير، بلغنا أنك حبست رجلاً لأنه قال: أن القرآن مخلوق، وقد جئناك، وكلنا يقول: أن القرآن مخلوق، وخلفنا من أهل البلد أضعاف عددنا، يقولون بمقالتنا، فإما حبست جميعنا مع أخينا، أو أطلقته معنا.
قال: فعلم أنه متى ردهم ثارت فتنة لا يأمن عواقبها، وإن الرأي يوجب الرفق بهم.
فقال: بل نطلقه لكم.
فأطلقه، وانصرفوا به عدواً.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
دفن أبي هاشم الجبائي وأبي بكر بن دريد
في يوم واحدحدثني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجي القاضي، قال: لما توفي الشيخ أبو هاشم الجبائي، ببغداد، اجتمعنا لدفنه، فحملناه إلى مقابر الخيرزان، في يوم مطير، ولا يعلم بموته أكثر الناس، وكنا جماعة في الجنازة.
فبينا نحن ندفنه، إذ حملت جنازة أخرى ومعها جميعة عرفتهم بالأدب.
فقلت لهم: جنازة من هذه؟ فقالوا: جنازة أبي بكر بن دريد.
فذكرت حديث الرشيد، لما دفن محمد بن الحسن والكسائي بالري في يوم واحد.
قال: وكان هذا في سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، فأخبرت أصحابنا بالخبر، وبكينا على الكلام والعربية طويلاً، وافترقنا.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
بين الهبيري وابن أبي خالد الأحولحدثني أبي، رضي الله عنه، بإسناد ذكره: أن رجلاً من شيوخ الكتاب يعرف بالهبيري، لزمته العطلة، وأضرت به، فكان يلازم ابن أبي خالد الأحول، وهو إذ ذاك يدبر أمر الوزارة.
فطالت ملازمته داره، وكان ابن أبي خالد يستثقله، فحجب عن الدار.
فكان يبكر كل يوم فيقف على دابته بالباب، حتى يخرج الوزير، ثم ينتظر إلى أن يعود، ويدخل الوزير، وينصرف هو.
فطال ذلك على الوزير، حتى برم به، فقال لكاتب له : إلق هذا الرجل، وقل له: إنه لا تصرف لك عندي، ولست أحب أن أراك في كل وقت، فانصرف عني، ولا تقرب بابي.
قال الكاتب: فاستحييت أن أؤدي عن صاحبي مثل هذه الرسالة إلى شيخ من جلة الكتاب، وإن كان الزمان قد حطه، وعلت أن ذلك قد صدر عن الوزير، لسوء رأيه فيه، ومقته له، واستثقاله إياه.
فصرت إلى منزلي، وأخذت معي خمسمائة درهم، و؟صرت إلى الهبيري، فقلت: الوزير أعزه الله، يقرأ السلام عليك، ويقول لك: هوذا تشق علي؟؟ رؤيتك بالباب. والأشغال تقطعني عنك، ولا تصرف عندي أرتضيه لك في هذا الوقت، وقد حملت إليك خمسة آلاف درهم، فاستعن بها في نفقتك، والزم دارك، واربح العناء، فإذا سنح عندي شغل يصلح لك، استدعيتك. قال: فاستشاط الشيخ، وقال: جعلني من الشحاذين والمستميحين، ينفذ إلي برفد،والله لا قبلته.
قال: فاستجهلته، وداخلني غيظ من فعله، فقلت: يا هذا، واله، ما هذه الدراهم من مال الوزير، ولا هي إلا من مالي، ورسالته أقبح مما تذهب إليه، وإني كرهت تلقيك بها، وأنت من شيوخ هذه الصناعة، فتحملت لك هذا الغرم من مالي، من غير علم صاحبي، صيانة لك وله.
فقال: أما أنت، فأحسن الله جزاءك، ولا حاجة بي إلى مالك، ولو مصصت الثماد، ولكن أنشدك الله، إلا ما أبلغتني رسالته بعينها، وحزت بذلك شكري.
قال: فأديتها إليه على حقها وصدقها.
قال: فقال: أحب أن تتحمل الجواب.
فقلت: قل.

قال: تقول له: والله، ما آتيك لك نفسك، وإنما أنت رجل قد صرت باباً لأرزاقنا، إذ كنا لا نحسن صناعة غير الكتابة، ولا تصرف فيها إلا من عندك، ومن أراد دخول الدار، يجب أن يأتيها من بابها، وعلى الإنسان أن يتعرض للرزق، ويأتي بابه، فإن قسم الله له منه شيئاً، أخذه، وإلا كان قد أدى ما عليه.
وليس يمنعني استثقالك لي، من قصدك، فإن قسم الله لي شيئاً من جهتك، أو على يدك، أخذته على رغمك، وإلا فلا أقل من أن أؤذيك برؤيتي، كما تؤذيني بعطلتي.
قال: فانصرفت متعجباً منه، ولم أعد على الوزير ذلك، لئلا يغتاظ، وتغافلت يومي.
فلما كان من الغد، بكر الوزير خارجاً من داره، وأنا معه، فإذا بالشيخ، فلما رآه، التفت إلي، وقال: ألم أنفذك إليه برسالة؟ قلت: بلى.
قال: فلم عاد؟ قلت: الخطب طويل طريف، وإذا اطمأن الوزير في مجلسه أخبرته. قال: فلما نزل في طياره، قال: أخبرني بما جرى.
فقصصت عليه القصة، وحملي الدراهم من مالي، وما جرى بأسره، وأديت إليه رسالته بعينها، فكاد أن يطير غيظاً.
وانتهى الكلام، وقد قدم الطيار إلى دار الخلافة، فدخل إليه وفي نفسه حديث الهبيري، والغيظ منه، فوقف بحضرة الخليفة، وجرى الكلام.
فقال له الخليفة: قد ألط عامل مصر بالمال، وجنح إلى المدافعة، فاختر رجلاً شهماً، ننفذه مشرفاً عليه، ومطالباً بما مضى.
قال: وكان ابن أبي خالد يعتني برجل متصرف يقال له الزبيري، فأراد أن يسميه لذلك، فقال: الهبيري، لما كان في نفسه منه، وقرب العهد بذكره، والغيظ من أمره.
فقال الخليفة: أو يعيش الهبيري؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أرد الهبيري، وإنما أرد فلان بن فلان الزبيري.
قال: يجوز أن تكون أردت الزبيري، ولكن أخبرني بخبر الهبيري، فقد كان له بي حرمة في حياة أبي، وبأ سبابنا، وهو واجب الحق علينا.
فقال: نعم، هو يعيش.
قال: فأنفذه إلى مصر.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لا يصلح.
قال: ولم؟ قال: قد اختل.
قال: أحضرنيه حتى أشاهده، فإن كان مختلاً، أمرت له بصلة وجار، وإن كان ينهض بالعمل أنفذته.
قال: يا أمير المؤمنين، إنه متعطل منذ سنين، وقد خمل، وذهب اسمه، وصوته، وهذا عمل يحتاج إلى من له نباهة.
قال: إذا أقبلنا عليه، وندبناه لمثل هذا الأمر العظيم، تجدد ذكره، وتطرى أمره.
قال: إنه لا حال له تنهضه.
قال: يطلق له من مالنا مائة ألف درهم، يصلح بها حاله، ويحمل إليه من البغال والدواب والخيم والآلات.
قال: فأخذ يعتل عليه.
قال: أرى فيك تحاملاً عليه، لتصدقني عن أمره معك.
فلجلج.
فقال: بحياتي أصدقني، فصدقه عن الخبر.
فقال الخليفة: قد والله أجرى الله عز وجل رزقه على يدك بالرغم منك، كما قال، ووالله لا برحت، أو تكتب عهده، ويوصل بجميع ما أمرت به.
ثم قال: علي بالهبيري.
فأحضر، وخرج ابن أبي خالد عليه، فقال: يا هذا، قد والله جاء رزقك على يدي بالرغم مني، وجرى كذا وكذا، وأخبره الخبر، وسلم إليه التوقيعات بما أمر له به الخليفة، والكتب إلى مصر، وواقفه على العمل، وأخرجه إليه.
بين ابن أبي الأضخم
وابن أبي خالد الأحولوحدثني أيضا عن ابن أبي خالد هذا، قال: كان بغيضاً.
قال: فاتفق أن بكر إليه يوماً رجل شيخ من شيوخ الكتاب، يقال له: ابن أبي الأضخم متعطلاً، قد طالت عطلته، يغتنم أن يراه سحراً خالياً فيشكو إليه حاله، ويسأله التصرف.
فبكر بكوراً شديداً، فتلقاه برد قبيح، وقال له: أيش هذا المهم في مثل هذا الوقت؟ قال: فاحتد عليه الشيخ، وقال: ما العجب منك، العجب مني، حين ربطت أملي بك، وأسهرت عيني توقعاً للفجر في البكور إليك، وأسهرت عيالي وغلماني وتحملت التجشم إليك، وأنزلت بك حاجتي، حتى تتلقاني بمثل هذا، وعلي، وعلي، وحلف بأيمان البيعة، لا دخلت دارك أبداً، ولا سألتك حاجة، ولا طلبت منك تصرفاً، أو تجيئني إلى داري معتذراً مما تلقيتني به، وتقضي حاجتي في منزلي، ونهض.
فلما صار الرجل إلى منزله، ندم ندماً شديداً، وقال: هذا رجل لئيم الطبع، سيء الظفر، شرس الخلق، وأنا مضطر إلى لقاءه، ومساءلته في حوائجي، فلم حلفت بهذه اليمين؟ وما أحد أسوء حلة مني، فإن هذا الوزير لا يفكر في، ولا يجيئني والله أبداً، ولا يكون لي طريق إلى قصده.

ويحس العمال بذلك، فيخربون ضيعتي، وتدوم عطلتي، ويلحقني كيت وكيت.
وأقبل يلوم نفسه ويؤنبها، ويفكر كيف يعمل، وقد أسفر النهار وتعالى، إلى أن صار نحو ساعتين.
فدخل إلي غلمانه فقالوا: يا سيدنا، الوزير مجتاز في شارعنا، فقال: وما علينا منه.
فدخل آخر وقال: يا سيدي قد والله عدل من الشارع إلى دربنا.
ودخل آخر فقال: يا سيدي، إنه يقصد دارنا.
وتبادر الغلمان، فقالوا: قد صار بالباب، يستأذن عليك.
قال: فنهض الشيخ، وخرج إليه، وقبل يده، وقال: أبيت، أيدك الله، إلا الأخذ بالفضل.
قال: لا تشكرني، واشكر أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، على ذلك.
ودخل إليه فقال: إنك انصرفت، وقد أمضني خطابك، وقد كان ما خاطبتك به على ضجر مني، وعلى غير اعتقاد.
وركبت في الحال إلى الخليفة، فخاطبني، وأنا مشغول البال بما دار بيننا فوجد كلامي مضطرباً، وأقسم علي لأخبرنه، فأخبرته، فأخذ يعذلني ويوبخني على ما لقيتك به.
وقال: لا تقف، امض إليه الساعة معتذراً، وأخرجه من يمينه، واقض حاجته، وانظر في أموره.
قال: ثم دعا بدواة، فوقع لي بما كنت سألته، وبمال وصلني به، وتصرف قلدنيه، ونهض. فشكرته، ودعوت للخليفة، وحمدت الله تعالى على ما وفقه لي.
إذا نزل القضاء لم ينفع الدعاءحدثني أبو الحسن بن سهيل الحذاء، قال: حدثني أبو الحسن علي بن عبد الله الحذاء، قال: حدثني جعفر الخلدي الصوفي، قال: كنا مع ابن واصل الصوفي في سنة إحدى عشرة بالهبير.
فلما أخذ الناس في الوقعة، وبدأ السيف في أهل القافلة، اجتمعنا إليه، فقلنا: تدعو الله لنا أن يخلصنا.
قال: ليس هذا وقت الدعاء، هذا وقت الرضا والاستسلام، إنه إذا نزل القضاء، لم ينفع الدعاء.
من شعر ابن الحجاج البغداديحضرت أبا عبد الله بن الحجاج الكاتب البغدادي، صاحب السفه في شعره، ينشد أبا الفضل الوزير لنفسه، يوم قبض ببغداد على حرم أبي الفرج محمد بن العباس وأسبابه وأطلق الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين، وتقلد الوزارة، وكان محبوساً في دار أبي الفرج، فجلس فيها أكثر يومه.
وكان ذلك اليوم، يوم الثلاثاء، لسبع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ستين وثلثمائة، وخلع عليه في الغد، وهو يوم الأربعاء.
وكان القبض عليه يوم ثلاثاء، وخلع على أبي الفرج بالوزارة، صارفاً له، يوم الأربعاء، وبين الأمرين أربعمائة يوم، وجاء أبو الفرج فجلس في دار أبي الفضل، ونظر في الوزارة:
يا سيداً طلعته لم تزل ... أشهى إلى عيني من النوم
لم تظلم الناس وحاشاك أ، ... تحيف بالظلم على القوم
جازيته مثل الذي أسلفوا ... في الدار والمجلس واليوم
ثم خرج عن مجلسه.
فجلس جماعة في دار الوزير أبي الفضل، فأنشدنا شيخ حضر من الكتاب لابن زريق الكاتب في مثله، وهو أبو القاسم ابن زنجي، قال أنشدني ابن زريق لنفسه في الكوفي، لما صرف:
إنا لقينا حجاباً منك أرمضنا ... فلا يكن ذلنا فيه لك الغرضا
فاسمع مقالي ولا تعجل علي فما ... أبغي بنصحك لا مالاً ولا عرضا
في هذه الدار في هذا المكان على ... هذي الوسادة كان العز فانقرضا
عائدة الجهنية تنظم الشعرالحسنأنشدتني عائدة بنت محمد الجهنية لنفسها، وهذه امرأة فاضلة، كاتبة كانت زوجة عم الوزير ابن شيرزاد، وخليفته على كتابة بجكم وسبكتكين في الديوان الذي كان لأبي جعفر، وجاءه ابن زريق فحجب، ثم دخل بحيلة على ما أخبرنا.
قال: فأنشدته هذه الأبيات، فلما ولي الوزارة، نفعه، واستخدمه.
فلما قبض على الحسن بن علي المنجم، وحبس ابنته في دار أبي رضي الله عنه وكل هذه المرأة بها، وهي إذ ذاك عجوز، فكانت تناشدنا الأشعار، وتنشدنا لنفسها كل شيء جيد. فأخبرتني أنها قالت تهجو أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي، لما ولي الوزارة، وتعيبه بقصر قامته،وهزاله:
شاورني الكرخي لما دنا ال ... نيروز والسن له ضاحكه
فقال ما نهدي لسلطاننا ... من خير ما الكف له مالكه
قلت له كل الهدايا سوى ... مشورتي ضائعة هالكة
أهد له نفسك حتى إذا ... أشعل ناراً كنت دوباركه
أنشدتني ذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة.

الدوباركه: كلمة أعجمية، وهي اسم للعب على قدر الصبيان يخلونها أهل بغداد في سطوحهم ليالي النيروز المعتضدي، ويلعبون بها، ويخرجونها في زي حسن، من فاخر الثياب والحلي، ويحلونها كما يفعل بالعرائس، وتخفق بين يديها الطبول والزمور، وتشعل النيران.
فهجته هذه المرأة بما تحقق عندي أنها صادقة فيه، لأنه يليق بكلام النساء.
وقد كانت تنشدني لنفسها أفحل من هذا الكلام، وكتبت ذلك عنها، وهو ثابت في مواضع من كتبي، وما تعلق بحفظي لها غير هذه الأبيات.
؟
لو كان هذا المخنث شاعراً
لكان أشعر الناسحدثني أبي، قال: كنت أماشي المعوج الشامي الشاعر، ببغداد، وكان دقيقاً، دقيق الوجه، أشهل، معوج الوجه.
فلقينا مخنث، فولع به المعوج.
فقال له المخنث: لا تسكت، يا من كأنه ديك يطلع في سطل ماء.
فأسرع المعوج من يده، وقال: لو كان هذا شاعراً كان أشعر الناس، والله ما شبهني أحد، أصح من تشبيهه.
بين مخنث وامرأةحدثني أبو الطيب بن هرثمة، قال: كنت مجتازاً ببغداد، ومخنث يمشي، فرأته امرأة، وكان حسن البدن.
فقالت: ليت على ابني شحم هذا المخنث.
قال: فقال لها المخنث: مع بغائي، فشتمته.
فقال لها: كيف صار، تأخذن الجيد وتدعين الرديء.
بين مخنث ومغنيةحدثني أبو الحسين بن عياش، قال: سمعت مخنثاً يهاتر مغنية، فقال لها: لا تسكتين، وحرك كأنه دكان حجام، داخله دم، وخارجه شعر.
بين مخنث وامرأة تولعت بهقال: وبلغني أن مخنثاً قال لامرأة تولعت به: اشتغلي بحرك الذي قطع لسانه، وسود وجهه، وجعل إلى جانبه كنيف ينجر إليه.
فتى يهاتر مغنيةقال: وهاتر صديق لنا مغنية، فقال لها: يا من خرق حيضها حشو مسورة.
الحر العاملي ومكاشفته باللواطحدثني أبو الطيب بن هرثمة، قال: كان الحر العاملي، مكاشفاً باللواط، حتى أنه كان يقول لغلامه، بحضرة الناس: إمض إلى البيت الذي نكتك فيه البارحة، فجئني منه بكذا.
قال: فقال ليلة لغلام له: أعطني فرداً.
فقال: لا أفعل.
قال: ولم؟ قال: هي ليلة جمعة.
قال: وأي فرق بينها وبين غيرها من الليالي؟ قال: الذنب فيها يكتب ذنبين.
قال: فاحسب أن ليلة السبت قد تنايكنا فردين.
أبو عيسى ابن بنت أبي نوح
ومكاشفته بالبغاءقال: وكان أبو عيسى ابن بنت أبي نوح، مكاشفاً بالبغاء.
فقال يوماً رجل بحضرته: فلان بغاء.
فقال: لا، ولا كرامة، من ذلك العامي السفلة، حتى يكون بغاء؟ بأي أبوة؟ بأي نعمة؟ بأي كتبة؟ بأي صناعة؟ بأي ملوكية؟ بأي عرق؟.
الصولي والإسفيذاج
بالمباعر المحشوةقال: وأكلنا يوماً مع الصولي في داره، فقدمت إسفيذاج بمباعر محشوة، فأقبل يحثنا على أكل الحشوات.
حتى قال في جملة الكلام: ومن فضلها، وطيبها، أنها تشبه زباب المراهقين.
قال: فقلت لصديق كان إلى جانبي: كاشف هذا أيضاً بما يرمي به من البغاء.
لم أمرضه فأسلو لا ولا كان مريضاحدثني أبي، قال: خرج إلينا يوماً، أبو الحسن الكاتب، فقال: أتعرفون ببغداد رجلاً يقال له: ابن أصدق؟ قال: فلم يعرفه من أهل المجلس غيري، فقلت: نعم، فكيف سألت عنه؟ فقال: أي شيء يعمل؟ قلت: ينوح على الحسين عليه السلام.
قال: فبكى أبو الحسن، وقال: إن عندي عجوزاً ربتني من أهل كرخ جدان عفطية اللسان، الأغلب على لسانها النبطية، لا يمكنها أن تقيم كلمة عربية صحيحة، فضلاً عن أن تروي شعراً، وهي من صالحات نساء المسلمين، كثيرة الصيام والتهجد.
وإنها انتبهت البارحة في جوف الليل، ومرقدها قريب من موقعي، فصاحت بي: يا أبا الحسن.
فقلت: ما لك؟ فقالت: الحقني.
فجئتها، فوجدتها ترعد، فقلت: ما أصابك؟ فقالت: إني كنت قد صليت وردي فنمت، فرأيت الساعة في منامي، كأني في درب من دروب الكرخ، فإذا بحجرة نظيفة بيضاء، مليحة الساج، مفتوحة الباب، ونساء وقوف عليها.
فقلت لهم: من مات؟ وما الخبر؟ فأومأوا إلى داخل الدار.
فدخلت فإذا بحجرة لطيفة، في نهاية الحسن، وفي صحنها امرأة شابة لم أر قط أحسن منها، ولا أبهى ولا أجمل، وعليها ثياب حسنة بياض مروي لين، وهي ملتحفة فوقها بإزار أبيض جداً، وفي حجرها رأس رجل يشخب دماً.
فقلت: من أنت؟

فقالت: لا عليك، أنا فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذا رأس ابن الحسين، عليه السلام، قولي لابن أصدق عني أن ينوح:
لم أمرضه فأسلو ... لا ولا كان مريضا
فانتبهت فزعة.
قال: وقالت العجوز: لم أمرطه، بالطاء، لأنها لا تتمكن من إقامة الضاد، فسكنت منها إلى أن نامت.
ثم قال لي: يا أبا القاسم مع معرفتك الرجل، قد حملتك الأمانة، ولزمتك، إلى أن تبلغها له. فقلت: سمعاً وطاعة، لأمر سيدة نساء العالمين. قال: وكان هذا في شعبان، والناس إذ ذاك يلقون جهداً جهيداً من الحنابلة، إذا أرادوا الخروج إلى الحائر.
فلم أزل أتلطف، حتى خرجت، فكنت في الحائر، ليلة النصف من شعبان.
فسألت عن ابن أصدق، حتى رأيته.
فقلت له: إن فاطمة عليها السلام، تأمرك بأن تنوح بالقصيدة التي فيها:
لم أمرضه فأسلو ... لا ولا كان مريضا
وما كنت أعرف القصيدة قبل ذلك.
قال: فانزعج من ذلك، فقصصت عليه، وعلى من حضر، الحديث، فأجهشوا بالبكاء، وما ناح تلك الليلة إلا بهذه القصيدة، وأولها:
أيها العينان فيضا ... واستهلا لا تغيضا
وهي لبعض الشعراء الكوفيين.
وعدت إلى أبي الحسن، فأخبرته بما جرى.
كان الناس لا يستطيعون النياحةعلى الحسين عليه السلام خوفاً من الحنابلة
قال أبي، وابن عياش: كانت ببغداد، نائحة مجيدة حاذقة، تعرف بخلب، تنوح بهذه القصيدة.
فسمعناها في دور بعض الرؤساء، لأن الناس إذ ذاك كانوا لا يتمكنون من النياحة إلا بعز سلطان، أو سراً لأجل الحنابلة.
ولم يكن النوح إلا مراثي الحسين وأهل البيت علهم السلام فقط، من غير تعريض بالسلف. قالا: فبلغنا أ، البربهاري، قال: بلغني أن نائحة يقال لها: خلب، تنوح، اطلبوها فاقتلوها.
عناية رسول الله صلوات الله عليه
بأبي حسان الزياديحدثني أبي رضي الله عنه، بإسناد ذكره أن أبا حسان الزيادي، كان من وجوه فقهاء أصحابنا، ومن غلمان أبي يوسف، وكان من أصحاب الحد يث.
وكان تقلد القضاء قديماً، ثم تعطل، فأضاق، فلزم مسجداً حيال داره، يفتي، ويدرس الفقه، ويؤم، ويحدث، وإضاقته كل يوم تزداد، وهو يطلب التصرف، أو الرزق، ولا يظفر به، وقد نفد ما عنده، وباع كل ما يملك، وركبه دين عظيم.
إذ جاءه يوماً رجل خراساني، وقد حضر وقت خروج الناس من بغداد إلى مكة.
فقال له: إني أريد الخروج إلى الحج، وهذه عشرة آلاف درهم معي، تقبلها وديعة لي، فإن رجعت من الحج رددتها علي، وإن رجع الناس ولم أرجع، فاعلم أني هلكت، وهي لك هبة حلالاً.
قال أبو حسان: فأخذتها إلى منزلي، وقصصت على زوجتي الخبر.
فقالت: نحن في ضر شديد، فلو تصرفت فيها من الآن، وقضيت د ينك، واتسعت، فلعل الله يجعلها لك، فتكون قد تعجلت العيش.
فقلت: لا أفعل.
فما زالت في يومي وليلتي، تحملني على ذلك، حتى أجبتها إليه من غد، ففضضت الختم عن الكيس، وقضيت منه ديني، وتأثثت، وتوسعت في منزلي، واشتريت ثياباً لي، ولها، ولبناتي، وأصلحت جميع أمري بنحو خمسة آلاف درهم من ذلك.
ومضى على هذا الحديث ثلاثة أيام، أو أربعة، فانفتلت يوماً عن الصلاة، فإذا بالخراساني ورائي.
فلما رأيته قامت قيامتي، وقلت: ما لك؟ فقال: قد اصرفت عن السفر إلى مكة، وأريد المقام ببغداد، فتر إلي تلك الوديعة.
فقلت له: لست أتمكن من ذلك الساعة، فتجيئني غداً غدوة.
فنهض ونهضت إلى منزلي، وما بي طاقة للمشي، فيما بين المسجد وبيتي.
فدخلت، وسقطت مغشياً علي، واجتمع أهلي.
فلما أفقت قالوا: ما دهاك؟ قلت: أنتم حملتموني على التصرف في مال الخراساني، وقد جاءني الساعة يطلبه، فكيف أعمل؟ الآن أفتضح،ويذهب جاهي، وأهلك بين الناس، وأحبس، فأموت ضراً وغماً.
فبكوا، وبكيت.
وجاءت المغرب، فلم أقدر على الخروج إلى المسجد، وكذلك العشاء، ثم قمت، فصليت في البيت.
فقلت:هذا أمر لا يكشفه إلا الله، وليس لي إلا التضرع إليه، فجددت طهوراً، وصففت قدمي في المحراب، أصلي، وأبكي، وأدعو حتى ختمت القرآن، وقد كاد أن يطلع الفجر، وما اكتحلت غمضاً.
فقلت لأهلي:الساعة يجيء الرجل إلى المسجد، فكيف أعمل؟ فقالوا: لا ندري.
فقلت: أسرجوا لي، وكانت لي بغلة أركبها.

وقلت لهم: أنا، هو ذا، أركب، لا أدري إلى أين أمضي، ولست أرجع إليكم وإن تلفت، ولا وجه لي يقوى على كلام الخراساني، فإن طالبكم وخرج بكم إلى مكروه، فسلموا إليه بقية المال، واصدقوه الحديث، وإن أمكنكم مدافعته، فدعوني مستوراً،فلعلي أرجع بفرج، أو رأي في أمره.
وركبت، لا أدري أين أقصد، وليس معي ضياء، ولا غلام، وتركت عنان البغلة على عرفها. وجاءت إلى الجسر، وعبرته إلى الجانب الشرقي، وأنا عليها، وصارت بي إلى باب الطاق، وعطفت بي في الشارع الكبير، المنفذ إلى دار الخليفة.
فلما توسطه، إذا بموكب عظيم، وضياء، وقوم يجيئون من ناحية دار الخليفة.
فقلت: أتنكب الطريق، حتى لا يزحموني بدوابهم.
فجذبت العنان لأدخل درباً، فإذا بهم يصيحون بي، فوقفت.
فقالوا: من أنت؟ومن تكون؟ قلت: رجل من الفقهاء، فمسكوني، فجاذبتهم، وجاء رئيسهم.
فقال: من أنت رحمك الله؟ لا بأس عليك إن صدقت.
قلت: رجل من الفقهاء والقضاة.
قال: بمن تعرف؟ قلت: بأبي حسان الزيادي.
فصاح: الله أكبر، الله أكبر،أجب أمير المؤمنين، فسرت معه، حتى أدخلت على المأمون.
فقال لي: من أنت؟ قل: رجل من الفقهاء والقضاة، أعرف بالزيادي، ولست منهم، إنما سكنت في محلة لهم، فنسبت إليهم.
فقال:ٍ بأي شيء تكنى؟ قلت: بأبي حسان.
قال: ويحك ما دهاك؟ وما قصتك؟ فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما تركني أنام البارحة بسببك، أتاني دفعة في أول الليل، وفي وسطه، وهو يقول: أغث أبا حسان الزيادي، فأنتبه، ولا أعرفك، وأنسيت السؤال عنك، فلما كانت الساعة، أتاني، فقال: أغث أبا حسان الزيادي، فما تجاسرت عن النوم، وأنا ساهر من ذلك الوقت، وقد بثثت الناس في جانبي البلد، أطلبك، فما قصتك؟ قال: فصدقته عن الخبر، حتى لم أكتمه منه حرفاً.
وقلت: أنا رجل كنت أتقلد للرشيد من أبي يوسف القضاء بناحية، فلما مات، صرفت، وانقطعت أرزاقي، ولزمتني العطلة والإضاقة، فكان من خبري مع رجل خراساني كيت وكيت.
فبكيت، وبكى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون،هاتوا خمسة آلاف درهم، فجاءوا بها.
فقال: خذ هذه فارددها مكان ما تصرفت به.
ثم قال: هاتم عشرة آلاف، فجاءوا بها، فقال: خذ هذه فأصلح بها أمرك. وتوسع بها في نفسك.
ثم قال: هاتم ثلاثين ألفاً، فجاءوا بها، فقال: خذ هذه، فأصلح بها أمر بناتك، وزوجهن، وإذا كان يوم الموكب، فصر إلينا بسواد لنقلدك عملاً، ونرزقك رزقاً.
فحمدت الله، وشكرته، وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوت لأمير المؤمنين، وانصرفت والمال معي، وصرت إلى منزلي، وما طلعت الشمس، وأهل المسجد يتوقعون خروجي للصلاة، وقد أنكروا تأخري عنهم، فنزلت، فصليت بهم، وسلمت، وإذا بالخراساني، فأدخلته منزلي، وأخرجت إليه بقية ماله، فرأى ختمه غير صحيح.
وقلت: خذ هذا، فهو بقية مالك، فقد صرفته، وأومأت إلى المال الذي كان معي، وقلت خذ تمام مالك.
فقال: ما قصتك؟ فأخبرته الخبر فبكى، وحلف لا يأخذ شيئاً.
وحلفت عليه، فقال: والله، لا أخذته، ولا أدخلت في مالي شيئاً من مال هؤلاء.
وبأت بالنظر في أمر بناتي، وتزويجهن، وتجهيزهن، وتقدمت بابتياع سواد، ودابة، وغلام. وصرت إلى المأمون يوم الموكب، فأدخلت، فسلمت، فأوقفت مع القضاة، وأخرج إلي عهداً من تحت مصلاه، وسلمه إلي.
وقال: قد قلدتك القضاء بالمدينة الشرقية من الجانب الغربي، وهذا عهدي إليك عليها، فاتق الله، وقد أجريت إليك كذا وكذا، في كل شهر رزقاً.
فما زال أبو حسان يتقلدها في أيام المأمون.
العلويون وآل طاهرحدثني أبي، قال: حدثني الصولي، أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر حدثه، قال: لما عاد محمد بن عبد الله، أخي من مقتل يحيى بن عمر العلوي، رضي الله عنه، بعد مديدة، دخلت إليه بعد ذلك يوماً سحراً، وهو كئيب مطأطئ الرأس، في أمر عظيم، كأنه قد عرض على السيف، وبعض جواريه قيام لا يتجاسرن على مسألته، وأخته واقفة.
فلم أقدم على خطابه، فأومأت إليها، ما له؟ قالت: رأى رؤيا هالته.
فتقدمت إليه، وقلت: أيها الأمير، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره، فليتحول من جانبه إلى الآخر، وليقل ثلاثاً استغفر الله، ويلعن إبليس، ويستعيذ بالله، ثم ينام.

فرفع رأسه وقال: يا أخي، فكيف إذا كانت الطامة من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: أعوذ بالله.
فقال لي: ألست ذاكراً رؤيا طاهر بن الحسين؟ فقلت: بلى.
قال عبيد الله: وكان طاهر، وهو صغير الحال رأى النبي صلى الله عليه في منامه، فقال له: يا طاهر، إنك ستبلغ من الدنيا أمراً عظيماً، فاتق الله، واحفظني في ولدي، فإنك لا تزال محفوظاً ما حفظتني في ولدي.
فقال: ما تعرض طاهر لقتال علوي قط، وندب إلى ذلك غير دفعة فامتنع عنه.
ثم قال لي أخي محمد بن عبد الله: إني رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه في منامي، كأنه يقول لي: يا محمد، نكثتم؟ فانتبهت فزعاً، وتحولت، واستغفرت الله تعالى، وتعوذت من إبليس، ولعنته، واستغفرت الله تعالى ونمت.
فرأيته صلى الله عليه، ثانية، وهو يقول: يا محمد، نكثتم؟ ففعلت كما فعلت في الأولة.
فرأيته صلى الله عليه وهو يقول: نكثتم وقتلتم أولادي، لا تفلحون بعدها أبداً.
فانتبهت، وأنا على هذه الحال، وهذه الصورة، منذ نصف الليل ما نمت.
قال: واندفع يبكي، وبكيت معه.
فما مضت على ذلك إلا مديدة، حتى مات محمد، ونكبنا بأسرنا أقبح نكبة، وصرفنا عن ولاياتنا، ولم يزل أمرنا يخمل، حتى لم يبق لنا اسم على منبر، ولا علم في جيش، ولا إمارة. وحصلنا إلى الآن تحت المحن.
بين الوزير علي بن عيسى
والعطار الكرخيحدثني جماعة من أهل الحضرة: أن رجلاً عطاراً من أهل الكرخ، كان مشهوراً بالستر، ارتكبه دين، فقام من دكانه ولزم منزله وأقبل على الدعاء والصلاة ليالي كثيرة.
فلما كان ليلة جمعة، وصلى صلاته، ودعا ونام.
قال: فرأيت النبي صلى الله عليه في منامي، وهو يقول لي: اقصد علي ابن عيسى الوزير، فقد أمرته لك بأربعمائة دينار، فخذها وأصلح بها أمرك.
قال: وكان علي قيمة ستمائة دينار.
فلما كان من غد، قلت: قد قال رسول الله صلى الله عليه، من رآني في المنام، فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل بي، فلم لا أقصد الوزير؟ قال: فقصدته، فلما جئت إلى الباب، منعت من الوصول إليه، فجلست إلى أن ضاق صدري، وهممت بالانصراف، فخرج الشافعي صاحبه، وكان يعرفني معرفة ضعيفة، فأخبرته الخبر. فقال: يا هذا ، إن الوزير، والله، في طلبك منذ السحر، وإلى الآن، وقد سئلت عنك، فما عرفتك، وما عرفنيك أحد، والرسل مبثوثة في طلبك، فكن مكانك.
قال: ومضى، فدخل، فما كان بأسرع من أن دعوني، فدخلت إلى أبي الحسن علي بن عيسى. فقال: ما اسمك؟ فقلت: فلان ابن فلان العطار.
قال: من أهل الكرخ؟ قلت: نعم.
قال: يا هذا أحسن الله جزاءك في قصدك إياي، فوالله ما تهنيت بعيش منذ البارحة، جاءني رسول الله صلى الله عليه، في منامي، فقال: أعط فلان بن فلان العطار في الكرخ أربعمائة دينار، يصلح بها شأنه، وكنت اليوم، طول نهاري، في طلبك، وما عرفنيك أحد.
ثم قال: هاتم ألف دينار، فجاءوا بها عيناً.
فقال: خذ منها أربعمائة دينار، امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه، وستمائة دينار، هبة مني لك.
فقلت: أيها الوزير ما أحب أن أزاد على عطية رسول الله صلى الله عليه شيئاً، فإني أرجو البركة فيها، لا فيما عداها.
فبكى علي بن عيسى، وقال: هذا هو اليقين، خذ ما بدا لك.
فأخذت أربعمائة دينار وانصرفت.
فقصصت قصتي على صديق لي، وأريته الدنانير، وسألته أن يحضر غرمائي، ويتوسط بيني وبينهم، ففعل.
وقالوا: نحن نؤخره ثلاث سنين بالمال، فليفتح دكانه.
فقلت: لا، بل يأخذون مني الثلث من أموالهم، وكانت ستمائة.
فأعطيت كل من له شيء، ثلث ماله، وكان الذي فرقته، مائتي دينار.
وفتحت دكاني، وأدرت المائتين الباقية في الدكان، فما حال الحول علي، إلا ومعي ألف دينار. فقضيت ديني كله، وما زال مالي يزيد، وحالي تصلح.
يحفظ شعراً في منامه
حدثني أبو أحمد الحارثي عبد الله بن عمر، قال: رأيت في منامي كأني مجتاز بالبصرة في بني نمير على مجلس الشرطة، والناس مجتمعون. فقلت: ما هذا؟ قالوا: فتى يضرب عنقه.
فاطلعن في الحلقة، فإذا بفتى حسن الوجه، قد أجلس وشد ليضرب عنقه.
فقال لهم: دعوني أتكلم بكلمتين، ثم اعملوا ما شئتم.
فقالوا له: تكلم.
فقال: هل هاهنا رجل من أهل الأدب، يحفظ عني ما أقوله.
قلت: نعم، فقال:

أيا شاهدي قتل المشوق تحملا ... زكي سلام طيبته مقاصده
إلى الظبية اللعساء في سند الحمى ... بحيث تحدى باب عثمان قاصده
فقولا لها إن المشوق الذي اعتدت ... عليه لريب الدهر أيد تراصده
مضى وبأحناء الضلوع هواكم ... إلى أ، يرى إنشاءه بعد حاصده
ثم قال لي: احفظها يا أخي علي، فإنه لا خامس لقافيتها، بشرط أن لا تغير الصاد والدال، ثم ضربت عنقه.
وانتهبت، وأنا أنشد الأبيات في الحال، فعلقتها.
وطلبت - فيما أعرفه وأذكره - قافية خامسة للأبيات، فلم أجد.
قلت أنا: وطلبت لها قافية، فوجدت ما يصلح أن يضاف إليها، أتصده من الفصد، وعاصده، ولا أدري كيف ذهب ذلك عن أبي أحمد.
ولعل غيري إن فتش وجد قوافي أخر، إلا أنها قافية عزيزة على هذا الشرط، كيف تصرفت الحال.
المعتضد يهدم سور أنطاكيةحدثني أبي، قال: لما خرج المعتضد إلى قتال وصيف الخادم، إلى طرسوس، وأخذه، عاد إلى أنطاكية، فنزل خارجها، وطاف بالبلد بجيشه، وكنت صبياً إذ ذاك في المكتب.
قال: فخرجت في جملة الناس، فرأيته وعليه قباء أصفر بلا سواد، وسمعت رجلاً يقول: الخليفة بقباء أصفر بلا سواد؟ قال: فقال له أحد الجيش: هذا كان عليه وهو جالس في داره في بغداد، فجاءه الخبر بعصيان وصيف، فخرج في الحال من داره إلى باب الشماسية، فعسكر، وحلف أن لا يغير هذا القباء، أو يفرغ من أمر وصيف، فأقام بباب الشماسية، أياماً، حتى لحقه الجيش، ثم خرج، فهو عليه إلى الآن ما غيره.
قال: فحدث أبي بعد ذلك: وأنفذ المعتضد إلى سور إنطاكية بفعلة يهدمونه، فماج الناس، ولجت العامة، وتشاور شيوخ المدينة في هذا، فأجمع رأيهم أن كفوا العامة، ومضوا إلى مضرب الخليفة، وسألوا الوصول.
فأنفذ إليهم أن اختاروا عشرة منكم، يدخلون إلي ويخاطبونني.
فاختاروا عشرة كنت منهم.
فحدثني قال: دخلنا عليه، فسلمنا، ووقفنا، فأمر بإجلاسنا، فجلسنا.
فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن في وجه عدو كلب،وجهاد متصل، ونفير دائم، والعدو يطرقنا ونطرقه، فإن هدمت هذا السور، كان ذلك أقوى عدة للعدو علينا، وكان البلد له عند أيسر ضعف يلحقنا، وحادثة تطرقنا، فإن رأيت أن ترحم ضعفنا، وتستر ذرارينا، بهذا السور.
فقال: قد كثرت الحوادث علينا في هذه الثغور، واعتصام كل مخالف، بحصن منها، وقد علمتم ما لحقنا بالأمس من ابن الشيخ، واليوم من هذا الخادم، وقد سبق مني القول، أن لا أدع حصناً إلا هدمته، وأنا أهدم هذا السور، وأحصنكم من العدو، بإضعاف عدد الشحنة، وإدرار الأرزاق، وإطلاق مال للمطوعة، يقوون به على جهاد العدو، فتكون قوتهم مانعة للعدو، وكأن السور لم يزل، ولا يطمع أحد في التحصن به إلى العصيان.
قال: فلم يكن عند أصحابي حجة، وضعف كلامهم، ورأيت المجلس كالمنفض على هذا.
فقمت، واستأذنت في الكلام، فأذن لي.
فقلت: يا أمير المؤمنين، على أن أقول ما عندي، وأنا آمن؟ قال: نعم.
قلت: يا أمير المؤمنين، إن الله لو خلد أحداً في الأرض، لخلد محمداً صلى الله عليه، وإن هذه الحصون والأسوار لم توضع لسنة بعينها، ولا لأيام خليفة بعينه، وإنما جعلت لتبقى على الدهور، وتدفع عن أهلها في أيام كل ملك، سائساً كان أو متوانياً.
ولو كنا نثق بحياة أمير المؤمنين أبداً، ما سألناه خلاف ما يراه، ولو كنا نثق أن من يلي أمور المسلمين بعده يكون لهم، باهتمامه بمصالحهم، وسياسته لخاصتهم وعامتهم، مثله، لسهل ذلك علينا المصيبة بفقدان السور الذي لا عوض عنه، ولو كان من يتقلد بعده، مثله، لما كان لنا في ذلك عزاء عن السور، فإنا لا نأمن من إهمال من يجيء بعد ذلك الخليفة أيضاً، أن تشغله حادثة عنا، تمنعه من مصالحنا، فنكون نحن درية لسيوف الروم، ورماحهم.
وإنك يا أمير المؤمنين إن هدمت هذا السور، بقي بلدنا ما دمت حياً، ثم خرج عن أيدي المسلمين بعدك، وقتلتنا الروم، وسبت ذرارينا، وصليت بإثمنا في القيامة، وعارنا في الدنيا، فالله، الله، فينا، فقد صدقتك يا أمير المؤمنين، والأمر إليك بعد ذلك.
قال: فنكس المعتضد رأسه ساعة، ثم رفعه، وقد بكى.
وقال: كيف أعمل، وقد سبق قولي بأني أهدمه؟

فقلت له: تعمل الفعلة في هذا اليوم فقط، فيكون في ذلك إبرار لقب أمير المؤمنين، ثم إذا رحل هو عنا، أذن لنا في إعادة ما هدم اليوم فقط.
فقال: أنفذوا غداً من يرد الفعلة، ويمنعهم من هدم السور بعد اليوم، وقد أذنت لكم في إعادة ما انهدم.
فشكرناه، ودعونا له، وتعالت الصيحة بالدعاء له.
وعدنا، فوجدنا الفعلة، قد هدموا ذلك اليوم قطعة منه، فأعدناها بعد خروج المعتضد، من أموالنا.
فهي معروفة إلى الآن في السور، لتغير بنائها عن البناء الأول.
بحث في شكوى الزمان
وفساد الإخوانجرى بيني وبين أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين، الكاتب الأهوازي، وهذا الرجل من معقلي الناس وفضلائهم، عقلاً، ونبلاً، وبراعة في صناعته، وتقدماً، وقد ولي كبار الأعمال للسلطان، وخلف أبا عبد الله البريدي على الأهواز، وتولاها لمعز الدولة مكان أبي عبد الله البريدي، عقيب هربه من معز الدولة، ثم استخلفه بعد ذلك، أبو القاسم البريدي على البصرة، ثم خلف أبا علي الطبري، وأبا محمد المهلبي وكان إذ ذاك على كور الأهواز، ثم تقلد عمالة البصرة لسباشي الحاجب الخوارزمي التركي، ثم لمعز الدولة، رئاسة في أيام وزارة أبي محمد المهلبي، وحلب الدهر أشطره، وجرب الأمور، وسبر الزمان، ذكر الزمان وتصرفه، وفساد الإخوان فيه وقلة المودات، وما بلغني عهن ابن الحسن بن الفرات، أنه قال: جزى الله عنا من لا نعرفه ولا يعرفنا خيراً، وأنه قال: أحصيت ما أنا فيه من المكاره، فما وجدت منه شيئاً لحقني، إلا ممن أحسنت إليه.
فقال لي أبو الحسن: هذا صحيح، ولكن حدث عند فساد الزمان، وإلا فالأكثر من عدد الناس، كان قديماً، على تصرف زمانهم، ما يعتقدونه من مودات إخوانهم، فلما فسدت الطباع، وتسمح الناس في شروط موداتهم، صار الإنسان ساكناً ممن لا يعرفه، لا يلحق به شره، ولا يناله ضره، وإنما يلحق الآن الضرر من المعارف، ومن يقع عليه اسم الإخوان، ذلك إنهم يطالبون في المودة بما لا يفعلون مثله، فإن أسدى إليهم إحساناً عرف طبعه فهي العداوة القليلة، وإن حفظ الإنسان ما يضيعونه أبداً حصل تحت الرق، وإن قارضهم الأفعال ثارت العداوة، وتواترت عليه المكارم، هذا إذا سلم من أن يبدأك من تظنه صديقاً بالشر والتجني، والمعاملة القبيحة بالتوهم والتظني، من غير تثبت ولا استصلاح، فأما إذا كان ليس بينكما أكثر من المعرفة فالضرر معها بالثقة، لأن كل مكروه يلحقك، إذا حصلته، كان ممن يعرفك ويقصدك به على علم بك، فأما الضرر ممن لا تعرفه، فبعيد جداً، مثل لصوص يقطعون عليك الطريق، غرضهم أخذ المال منك، أو من غيرك، أو ما يجري هذا المجرى، وعلى أن أشد الضرر من اللصوص، ما وقع عن تعيين، وعلى معرفة بالإنسان.
فمهما أمكن للعاقل أن يقل من المعارف، واجتلاب من يسمى أخاً في هذا الزمان، فليفعل، وليعلم أنه قد أقل من الأعداء، وكلما استكثر منهم، فقد استكثر من الأعداء.
وكأن ابن الرومي جمع هذا المعنى، فقال:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أقتل ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
من شعر أبي فراس الحمدانيهذا شعر أبي فراس بن أبي العلاء بن حمدان بن حمدون العدوي التغلبي
أشد عدويك الذي لا تحارب ... وخير خليليك الذي لا تناسب
لقد زدت بالأيام والناس خبرة ... وجربت حتى هذبتني التجارب
فأقصاهم أقصاهم عن إساءتي ... وأقربهم مما كرهت الأقارب
وأعظم أعداء الرجال ثقاتها ... وأهون من عاديته من تحارب
وما أنس دار ليس فيها مؤانس ... وما قرب أهل ليس منهم مقارب
نسيبك من ناسبت بالود قلبه ... وجارك من صافيته لا المصاقب
وله:
إذا كان فضلي لا أسوغ نفعه ... فأفضل عندي أن أرى غير فاضل
ومن أضيع الأشياء مهجة عاقل ... يجور على حوبائها حكم جاهل
وله:
لمن أعاتب؟ مالي؟ أين يذهب بي؟ ... قد صرح الدهر لي بالمنع والياس
أبغي الوفاء بدهر لا وفاء به ... كأنني جاهل بالدهر والناس
وله:
وأخ أطعت فما رأى لي طاعتي ... حتى خرجت بأمره عن أمره

وتركت حلو العيش لم أحفل به ... لما رأيت أعزه في مره
والمرء ليس ببالغ في أهله ... كالصقر ليس بصائد في وكره
وله:
في الناس إن فتشتهم ... من لا يعزك أو تذله
فاترك مجالسة اللئيم ... فإن فيها العجز كله
وله:
غنى النفس لمن يعقل ... خير من غنى المال
وفضل الناس في الأنفس ... ليس الفضل في الحال
وله:
ندل على موالينا ونجفو ... ونعتبهم وإن لنا الذنوبا
بأقوال يجانبن المعني ... وألسنة يخالفن القلوبا
وله:
ولقد علمت كما علم ... ت وإن أقمت على صدوده
إن الغزالة والغزا ... لة في ترائبه وجيده
وله:
قد كان لي فيك حسن صبر ... خلوت يوم الفراق منه
لم يبق لي في الجفون إلا ... ما استنزلتني الخدود عنه
وله:
لي صديق على الزمان صديقي ... ورفيق مع الخطوب رفيقي
لو رآني إذا استهلت دموعي ... في صبوح ذكرته أو غبوق
أسرق الدمع من نديمي بكأسي ... فأحلي عقيانها بالعقيق
وله:
هل تحسان لي صديقاً صدوقاً ... يحفظ العهد أو رفيقاً رفيقا
لا رعى الله يا حبيبي دهراً ... فرقتنا صروفه تفريقا
وله:
من السلوان في عينيك ... آيات وآثار
أراها منك في القلب ... وفي القلوب أبصار
إذا ما برد الحب ... فما تسخنه النار
وله:
الحزن مجتمع والصبر مفترق ... والحب مختلف عندي ومتفق
ولي إذا كل عين نام صاحبها ... عين تحالف فيها الدمع والأرق
لولاك يا ظبية الأنس التي نظرت ... لما وصلن إلى مكروهي الحدق
لكن نظرت وقد سار الخليط ضحى ... بناظر كل حسن منه مسترق
وله:
يا من يلوم على هواه جهالة ... انظر إلى تلك السوالف تعذر
حسنت وطاب نسيمها فكأنها ... مسك تساقط فوق ورد أحمر
وله:
ومرتد بطرة ... مسدلة الرفارف
كأنها مسبلة ... من زرد مضاعف
وله:
يا ليلة لست أنسى طيبها أبداً ... قد كان كل سرور حاضراً فيها
باتت وبت وبات الزق ثالثنا ... حتى الصباح فتسقيني وأسقيها
كأن سود عناقيد بلمتها ... أهدت سلافتها صرفاً إلى فيها
وله:
بتنا نعلل من ساق أعد لنا ... بخمرتين من الصهباء والخد
كأنه حين أذكى نار وجنته ... سكراً وأسبل فضل الفاحم الجعد
يعل ماء عناقيد بطرته ... بماء ما حملت خداه من ورد
وله:
وظبي غرير في فؤادي كناسه ... إذا اكتنفت غور الفلاة وقورها
فمن خلقه لباتها ونحورها ... ومن خلقه عصيانها ونفورها
وله:
وجناته تجني على عشاقه ... ببديع ما فيها من الألاء
بيض علتها حمرة فتوردت ... فعل المدام مزجتها بالماء
فكأنما برزت لنا بغلالة ... بيضاء تحت غلالة حمراء
وله:
كأنما تساقط الث ... لج لعيني من يرى
أوراق ورد أبيض ... والناس في شاذكلى
وله:
كأنما الماء عليه الجسر ... درج بياض خط فيه سطر
كأننا حين استتب العبر ... أسرة موسى حين شق البحر
نسخة من كتاب من أبي
محمد يحيى الأزدي إلى
الأمير أبي تغلب بن ناصر الدولة

كان الحسين وإبراهيم ابنا ناصر الدولة، خالفا على أخيهما أبي تغلب فضل الله بن ناصر الدولة، عقيب قبضه على أخيهم محمد بن ناصر الدولة، وإصعاده به إلى القلعة مقيداً، وقبضه نعمته، وخرجا إلى أعماله محاربين له، ومواطئين حمدان بن ناصر الدولة، على محاربة أبي تغلب، واجتمعا معه، فخرج أبو تغلب بالجيوش إليهم، فلقيهم، وانهزم حمدان، ودخل الحسين إلى أبي تغلب، وانحدر إبراهيم إلى باب السلطان ببغداد، ليخل في الأمان، وكان ابتداء ذلك في شعبا سنة ستين، والصلح في شوال.
فكتب أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد، إلى أبي تغلب بالتهنئة على ذلك كتاباً نسخته: لم تزل عادة الله عند مولانا الأمير السيد، أطال الله بقاءه، وأدام تأييده، وكبت أعداءه، جارية بالمواهب النبيلة، والنعم المتصلة الجليلة، متسقة على التوفيق والسداد، مطردة بمنة الله أجمل اطراد، لما خصه الله تعالى به من حسن النية وجميل الاعتقاد، وأفرده من تغمد الحق في إصدار والإيراد، وألهمه إياه من التوفر على شكره وحمده، واجتلاب المزيد من ذلك لعنده، فابتداءاته - أدام الله تأييده - دالة على حسن عواقبها، ومبشرة بنيل البغية في أوائل الأمور وأواخرها، وأفعاله مقترنة أبداً بالرشاد؟؟، ؟وآراؤه بحمد الله مصاحبة للصواب والسداد، وراياته موصولة بالعز والنصر، ونعم الله عنده محفوظة بالحمد والشكر، وبحسب ذلك تكون دواعي المزيد، على قدر تضاعف التمكين والتأييد، ولهذه الشيم السنية، والفضائل الجليلة العلية، والطوية الحميدة المرضية، ما يجدد الله منحه لديه، ويديم دفاعه عنه وإحسانه إليه، ويسبغ آلاءه ونعمه عليه، ويجعل كلمته العليا، وكلمة أعدائه بسهم الله السفلى، وينوه باسمه - ثبته الله - في سائر البلاد، ويجعل زناده - أناره الله - أضوأ زناد، ويشرف الدعاء - على التنائي - بذكره، ويص ألسنة ممن قرب وبعد بشكره، والحمد لله على ما خوله وأولاه، وإليه الرغبة في زيادته في ما نوله وأعطاه، وحراسته في بدء كل أمر وعقباه، وإعلائه على كل من حسده وناواه، وقصر عن شأوه فعاداه، والحمد لله الذي جعل سفرته ظاهرة البركة، سعيدة السكون والحركة، ميمونة الأحوال، محمودة الحل والترحال، مؤذنة بحسن الانقلاب، على أحسن الوجوه وأجل الأسباب، عائدة بشكر الرعية ودعائهم، جامعة لنياتهم على اختلاف آرائهم، وهو المرجو الإعانة على ما قرب إليه، والمسؤول حسن التوفيق لما يزلف لديه، إنه ولي حميد، فعال لما يريد، ولقد صدق الله، وله الحمد، في مولانا - أدام الله عزه - ظنون أولياءه وأهل طاعته، وحقق بما تفضل به من ظهوره على أعداءه، تقديرات خدمه وعديد نعمه، فشكرهم لله تعالى على ما منحه من التوفيق والنعمة في ذلك بحسب موقعها، ومقدارها وموضعها، وما يخصهم ويعم غيرهم منها، ويصل إلى القاصي والداني الحظ بها، ولن يرتفع لغادر علم إلا وضعه الله سبحانه وتعالى بمثله - أيده الله - من كرام المخلصين لديه، ولا يبسط لمبطل أمل إلا قطعه الله تعالى بأقرب الطائعين إليه، فعال الله جل ذكره في عباده، ليجعل جنده المنصورين، وأعداءه المقهورين، وليظهر حقه على يد مستحقه، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، ورد الله الذين كفروا نعمة مولانا بغيظهم إليه أيده الله، لم ينالوا خيراً، إلا منه حرسه الله، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً، وهنأ الله مولانا الأمير نعمه عليه، وضاعف قسمه ومنحه إليه، وأصلح به وعلى يديه، وجعل الخير والسعادة واصلين إليه، وكبت عداته وحسدته، وبلغه في الدين والدنيا أمينته، ولا ابتزه ثوب نعمته، وحرس الأمة بحراسة مهجته، وصرف عين السوء عن دولته، وشد قواها بقدرته، فالسعيد من وفق لخدمته، وحظي بجميل رأيه، والشقي من نفر عن حوزته، وخرج عن ظله وجملته، والله وليه والدافع عنه، والذاب عن الإسلام وأهله ببقاءه، والمحسن إليهم بالمدافعة عن حوبائه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
رسالة إلى رجل تزوجت أمهحدثني أبو الفرج الببغاء، قال: جرى بحضرة الأمير سيف الدولة، ذكر رجل تزوجت أمه من أصحابه، وحديث الترسل والكتابة، فقال لي: اكتب الساعة على البريد، رقعة عن نفسك إلى هذا الرجل، تعزيه بتزويج أمه.
فكتب رقعة بين يديه ارتجالاً وحفظتها:

من سلك سبيل الانبساط، لم يستوعر مسلكاً في المخاطبة فيما يحسن الانقباض في ذكر مثله، واتصل بي ما كان من أمر الواجبة الحق عليك، المنسوبة بعد نسبتك إليها، إليك، ومن الله صيانتها في اختيارها ما لولا أن الأنفس تتناكره وشرع المروءة يحظره، لكنت في مثله بالرضى أولى، وبالاعتداد بما جدده الله من صيانتها أحرى.
فلا يسخطنك من ذلك، ما رضيه موجب الشرع، وحسنه أدب الديانة، فمباح الله أحق أن يتبع. وإياك أن تكون ممن إذا عدم اختياره سخط اختيار القدر له، والسلام.
حديث العلوية الزمنةحدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال: كانت في شارع دار الرقيق، صبية علوية، زمنت نحو خمس عشرة سنة، وكان أبي يتفقدها. وكانت مسجاة لا يمكنها أن تنقلب من جنب إلى جنب، أو يقلبها غيرها، ولا تقعد، أو تقعد، وكان لها من يخدمها في ذلك، وفي الإنجاء والأكل.
وكانت فقيرة، وإنما قوتها مما يبرها الناس، فلما مات أبي اختل أمرها، فبلغ تجني ، جارية أبي محمد المهلبي أمرها، فكانت تقيم بأكثر أمرها.
وإنها أصبحت في يوم من الأيام، وقد باتت في ليلته زمنة على تلك الصورة، فأصبحت من غد، وقد مشت، وبرئت، وقامت وقعدت.
وكنا مجاورين لها، وكنت أرى الناس ينتابون بابها، كالموسم، فأنفذت امرأة من داري صدوقة، ممن شاهدتها زمنة على طول السنين، فسألتها عن الخبر.
فقالت: إني ضجرت من نفسي، فدعوت الله تعالى طولاً بالفرج أو الموت، وبت وأنا على غاية الألم والصياح والقلق، وضجرت المرأة التي كانت تخدمني، فلما استثقلت في النوم، رأيت كأن رجلاً قد دخل علي، فارتعت منه.
فقال: لا تراعي، فأنا أبوك، فظننته علي بن أبي طالب، عليه السلام.
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما ترى ما أنا فيه؟ لو دعوت الله تعالى أن يهب لي العافية.
فقال لي الرجل: أنا أبوك محمد رسول الله.
فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي.
قال: فحرك شفتيه، ثم قال لي: هاتي يديك، فأعطيته يدي، فأخذهما، وأجلسني.
ثم قال لي: قومي على اسم الله.
فقلت: يا رسول الله، كيف أقوم؟ فقال: هاتي يديك، فأخذهما، فأقامني.
ثم قال: امشي على اسم الله.
فقلت: كيف امشي؟ فقال: هاتي يديك، فمشاني، ثم جلست، ففعل بي ذلك، ثلاث مرات.
ثم قال لي: قد وهب الله لك العافية، فاحمديه، وتركني، ومضى.
فانتبهت، وأنا لا أشك أ ني أراه، لسرعة انتباهي.
فصحت، فظنت خادمتي أني أريد البول، أو شيئاً مما يثقل عليها، فتثاقلت.
فقلت لها: ويحك ائتيني، فقد رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في النوم، فانتبهت، وأنا مسجاة.
فاستشرحتني.
فقلت لها: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه، فدعا لي في النوم، وقال: قد وهب الله لك العافية.
فقالت لي العجوز: ويحك، فإني أرجو أن تكوني قد برئت من العلة، هاتي يديك، فأقامتني، والله، كما أقامني النبي صلى اله عليه، في النوم، ولم أكن عرفتها ذلك.
فأعطيتها يدي، فأجلستني، وقالت لي: قومي، فقمت، فتعبت، ثم جلست، ففعلت بي ذلك ثلاث مرات.
ثم قمت، فمشيت وحدي.
فصاحت الخادمة سروراً بالحال، وإعظاماً لها، فقدر الجيران أني قد مت، فجاءوا، فقمت فمشيت بحضرتهم متوكئة، فكثروا علي في الليل، وفي غد، حتى كدت أتلف، وما زالت قوتي ترجع إلي،إلى أن مشيت كما أمشي الآن، ولا قلبة بي.
قال: وقد رأيتها بعد ذلك، أنا، تمشي وتجيء إلى عيالنا ماشية، وهي الآن باقية صحيحة، وهي أصلح وأورع وأزهد امرأة سمعت بخبرها في هذا الزمان، لا تعرف غير الصلاة والصيام، وطلب الرزق على أجمل الوجوه، عاتق إلى الآن، دينة جداً.
ولا تعرف إلى الآن في المشاهد، وعند أهلها، إلا بالعلوية الزمنة.
إذا لم تكن في الشاهد ثلاث خلال
من خلال أهل النار صار هو من أهل النارسمعت قاضي القضاة أبا السائد عتبة بن عبيد الله بن موسى، يقول: الشاهد، إذا لم تكن فيه ثلاث خلال، من خلال أهل النار، صار هو من أهل النار.
فقلت له: ما هي؟ فقال: قلة الحياء، لأن الشاهد، إذا كان مستحياً، أجاب إلى كل محال يسأله، فيذهب دينه، ويصير من أهل النار، والحياء في الأصل من الإيمان، وأهل الإيمان في الجنة، كما روى في الخبر، فقلة الحياء من خصال أهل النار، فهذه واحدة.

والثانية: إنه يحتاج أن يكون فيه سوء الظن، لأنه متى أحسن ظنه تمت عليه الحيلة والتزويرات، فيشهد بالمحال، فيدخل النار، وإذا كان شيء الظن سلب، وسوء الظن في الأصل إثم، كما قال الله تعالى، والإثم من خصال أهل النار.
وذكر الأخرى: وقد أنسيتها أنا.
ثم قال: ما ظنكم ببلد فيه عشرات ألوف الناس، ليس فيهم شهود إلا عشرة أنفس أو أقل أو أكثر، وأهل ذلك المصر كلهم يريدون الحيلة على هؤلاء العشرة، كيف يسلمون إن لم يكونوا شياطين الإنس في التيقظ والذكاء والتحرز والفهم.
شطرنجي يتحدث عن فضائل الشطرنجحدثني أبي، قال: كان لي صاحب يخدم أبي، ويخدمني بعده، من أهل أنطاكية، يقال له: أبو إبراهيم، وكان مستهتراً بلعب الشطرنج، وكان له فيها عجائب، منها: إنغلماني كانوا يلاعبونه بها، وكان إذا لعب بها برك على الأرض، واتكأ على ذراعيه كالنائم، فيجيء أحدهم من وراءه، فيعبي على ظهره عدة مخاد، فلا يشعر بها، فإذا انقضى الدست، أحس بذلك، فنحاها عن ظهره، وشتمهم.
قال: فحدثني هو، قال: دخلت ليلة إلى صديق لي مستهتر بالشطرنج أيضاً، وكانت المغرب قد وجبت.
فقال: بت عندي الليلة حتى نلعب بالشطرنج، فما بت.
فقال: نصلي، ونلعب دستاً أو دستين إلى وقت العتمة، وتنصرف.
فصلينا، وجعل السراج عندنا، ولعبنا، وطاب لي اللعب، فواصلناه، والليل يمضي ونحن لا نشعر به، إلى أن أحسسنا في أنفسنا بتعب شديد وضجر، ووافق ذلك سماعنا الآذان.
فقلت له: قد أذن العتمة، وتعبت، ولا بد من قيامي.
فصاح بغلمانه، فلم يجيبوه، فقام معي، فأنبههم، وقال: امضوا بين يديه. فلما خرجنا نظرنا، فإذا الأذان، هو أذان الغداة، وإذا الليلة كلها قد مضت، ونحن لا نعقل.
قال أبي: وكذا كان على الاستهتار بها، فإذا لمته، قال: ليس أنا مستهتر بها، المستهتر بها هو مثل من قيل له وقد احتضر: قل لا إله إلا الله، فقال شاهك، ودع الرخ.
قال: فقلت له: لا أعرف مثلك، كأنك لست ترضى من نفسك، إلا بهذا القدر؟ قال: وكان يصف من فضائل الشطرنج أشياء، فيقول: هي تعلم الحرب وتشحذ اللب، وتدرب الإنسان على الفكر، وتعلمه شدة البصيرة.
فلو لم يكن فيها شيء من المعوز في غيرها إلا أن أهل الأرض يلعبون بها منذ ألوف السنين، ما وقع فيها دست معاد قط من أول إلى آخره لكفى.
يخاف على غلبته في النرد من العينوبلغني عن بعض لعاب النرد: إن لعباً توجه عليه لرسيله، فقال له المتوجه عليه اللعب: غلبتك، صل على النبي.
فقال: لم أفعل ذا؟ فقال: حتى لا تصيب غلبتي العين.
مقامر بالنرد يكفر إذا خسروإن آخر منهم، كان إذا غلب، يكفر، ويعرض بأن غلبه من فعل الله عز وجل.
فامتنع رسيله عن ملاعبته، وقال: هو ذا تكفر، ولا ألعب معك.
فشارطه أن يلاعبه على أن لا يكفر، فلعب معه، فغلبه دفعات.
فقال لرسيله: يا هذا، لست أنقض الشرط بأن أكفر، ولكن قل أنت: أليس هذا قصد قبيح؟
بحث في عبارة الرؤياحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي، قال: حدثني أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب، قال: وكان أبو هاشم إذا ذكر أبا علي، قال: قال أبو علي، وفعل أبو علي، وكان من أمر أبي علي، وما سمعناه قط قال: الشيخ، ولا شيخنا، إلا مرة واحدة، فإنه حكى شيئاً من الكلام، فقال فيه: شيخنا أبو علي، قال: وكذا كانت عادته.
قال: قال أبو علي: رأى رجل مناماً، فجاء يفسره علي، فمجمج. فقلت له: اصدق، فإن المنام لا يكذب فيه.
قال: فقال لي: رأيت ذكرك قد طال حتى بلغ إلى عنقك، ثم تطوق عليه دفعات.
فقال له أبو علي: أنا رجل يطول ذكري على ذكر الناس مقدار ما رأيت من طول ذكري.
قال لي أبو حسن: ومضى على هذا سنون، فحدثني أبو عبد الله بن نافع البزاز جارنا، وكان هذا موسراً، يملك نحو سبعين ألف دينار، وله أولاد ذكور وإناث.
فقال لي: رأيت في المنام ذكري قد تفرك فلم يبق منه شيء.
فذكرت في الحال، تفسير أبي علي الرؤيا في أمر ذكره، فقلت في نفسي: إن صح القياس فهذا رجل ينقرض ذكره من الدنيا.
فما مضت إلا أيام، حتى مات أحد أولاده، ثم تتابعت في سنين يسيرة عليه المصائب، فلم يبق له ولد، ثم مات هو بعد ذلك بمدة فانمحى ذكره على الحقيقة.
ضيق أحوال الناس أبعدهم عن
ممارسة البر والإحسان

تجارينا ذكر شدة زماننا، وفقر الناس فيه، وضيق أحوالهم، واستحبابهم البخل، حتى إن بعضهم يسميه احتياطاً، وبعضهم إصلاحا، وتوصية الناس بعضهم بعضاً به، وتحذر التجار من معاملات الناس، ومسك الناس أيديهم عن الإحسان إلى أحد أو بره، أو إغاثة الملهوف، أو التنفيس عن مكروب، وإن ذلك في الأكثر لضيق أحوالهم.
فقال لي أبو الحسن أحمد بن يوسف: لقد كان يجيء الرجل من أهل العلم، فيجبى له من أصحابنا الألف الدرهم، والأقل، والأكثر، في يوم، لا يحتاج إلى أحد يخاطبه في ذلك، مع قلة عدد أصحابنا إذ ذاك.
ولقد قدم رجل أردنا أن نرتبطه ليتعلم، لجودة قريحته، وكان يحتاج إلى مائة درهم في كل شهر، فكلمت إبراهيم بن خفيف الكاتب، صاحب ديوان النفقات، وكان من أصحابنا، ورجلاً آخر من أصحابنا، فأجريا عليه مائة درهم في كل شهر، كل واحد منهما خمسين درهم، وكان الرجل يأخذها، إلى أن خرج من بغداد، سنين.
ولقد قال لي يوماً بعض من حضر إلى مجلس أبي الحسن الكرخي رضي الله عنه، من الفقهاء: يحتاج أهل المجلس إلى أكسية، فقد قرص الهواء.
فقمت أفكر في من أخاطبه في ذلك، فاجتزت في طريقي لدار، فقال لي بعض من كان معي: هذه دار تاجر موسر من أهل الخير، فلو خاطبته، ولم أكن أعرفه، فدخلت إليه، فعرفني ولم لأعرفه، فقام، وأكرم.
فقال: كم تريدون؟ فقلت: خمسين كساء، فحملها معي في الحال، ففرقها فيهم.
ولقد جاءني منذ أيام رجل من أهل البيوتات فشكا من خلته ما أبكاني، وذكر أن صلاح أمره في نيف وثلاثين درهماً، فما طمعت له فيها من أحد، ولا عرفت من أعلم أنني إن خاطبته فيها أجاب.
وورد لنا في هذه السنة صاحب لأبي هاشم، فخاطبنا له جماعة، واجتهدنا في تحصيل شيء له، نغير به حاله، فما حصل له من ذلك قليل ولا كثير.
ولقد في الدرب الذي أنزله هذا، وهو درب نهرويه، خلق من أمراء، وكتاب، وتناء، وتجار، حسبت ما كانوا يملكون، فكان أربعة آلاف ألف دينار، وما في هذا الدرب اليوم من يحتوي ملكه على أربعة آلاف درهم، غير أبي العريان، أخي عمران بن شاهين.
قردة على جانب عظيم من الذكاءحدثني لأبو الحسن بن سهيل الحذاء، قال: حدثني أبو العباس الفرغاني الصوفي، وكان من أصحاب الحديث، ومن الصوفية، وممن يعرف بصدق اللهجة والنسك، قال: رأيت بمكة قردة عند رجل يريد بيعها، خفيفة الروح، فساومت فيها، فتباعد علي في الثمن. فألححت عليه، وقلت له: يا هذا، أخبرني شرائها، واربح ما شئت علي.
قال: لا أخبرك.
فما زلت أداريه، إلى أن قال لي: شراؤها خمسة دراهم.
فقال: فأومأت القردة إلي بيدها ثلاثة، أي أنه اشتراني بثلاثة دراهم.
فقلت له: كذبت، شراؤها عليك ثلاثة دراهم.
قال: فقام ليضرب القردة، وقال: هذا من عملها.
فمنعته، وأعطيته خمسة دراهم، وأخذتها.
مخنث حاضر الجوابحدثني أبو الحسن بن سهيل الحذاء، قال: حدثني أبو العباس الفرغاني الصوفي وكان ممن يختم القرآن في ركعة، وكثير الصلاة، وأخف الناس روحاً، وأشدهم مجوناً، وأطيبهم قولاً ورقصاً، قال: اجتزت في الطريق بمخنث يتغوط، وهو جالس ويه على جبهته كأنه إنسان مغموم.
فوقع لي أن أولع به، فقلت: يا أختي، لم أنت مغمومة؟ تخافين ألا يجيئك بدله؟ خلفه سريع، الله يخلف عليك.
فقالت لي بالعجلة: ليس غمي هذا، ولكن غمي أنكم جماعة، وهو قليل، ولا يكفي غدائكم اليوم.
الشاعر أبو نصر البنص وجارية بغداديةحدث أبو حامد القاضي الخراساني، قال: قال لي أبو نصر البنص: جزت في أيام زيادة الماء على دار في دجلة، فإذا روشن حسن، وعليه جوار يلعبن، فأخذن يولعن بي. فأنعظت، وكشفت أيري، ونمت فقام منتصباً، فصحت الهليون الرطب.
فكشفت إحداهن عن حرها، وصاحت الفراني السميذ. فعطعط الملاحون بنا.
فص حجر خاصيته طرد الذبابحدثني أبو الخطاب محمد بن علي بن إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي، قال: كان لأبي فص حجر خمري اللون، عليه صورة ذبابة، وقد شاهدته غير دفعة، يأخذه، فيجعله في دكان اللبان، وهو مملوء ذباباً، فيتطاير الذباب كله عنه، فلا تبقى واحدة، فإذا نحاه رجع الذباب، فإذا عاد تنحوا.
وقد شاهدت ذلك غير دفعة.
أسد بن جهور وكثرة نسيانه
======================ج3333333333333333333===== =======
ج333333333..


كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي قال: حدثني أبي رضي الله عنه، قال: كان أسد بن جهور، كثير النسيان، فحضرته يوماً في مجلس عبيد الله ابن سليمان، وهو يخاطبه في أمر من الأمور، فيقول له أسد: سمعاً لأمر القاضي أعزه الله، وقد نسي أنه الوزير.
قال: وكان إلى جانبه أبو العباس بن الفرات، فغمزه أبو العباس، وقال: قل الوزير.
فقال: نعم، أعز الله القاضي.
فضحك ابن الفرات وقال: لست القاضي، فارجع إلى صاحبك فقضه.
أسد بن جهور يطلب الماءللدواة مراراً ثم يشربه
قال: وكنت يوماً عند أسد، فجفت دواته وهو يكتب منها.
فقال: يا غلام كوز ماء للدواة.
فجاء الغلام بالكوز ليصبه فيها، فأخذه وشربه، ومضى الغلام.
فقال: ويلك، هات الماء للدواة.
فجاءه به ثانية، فشربه أيضاً، ومضى الغلام، واستمد من الدواة فكانت أجف.
فقال: ويلكم، كم أطلب ماء للدواة ولا يجيئني.
فجاؤوه بكوز ثالث، فأخذه ليشربه.
فقال الغلام: يا سيدي، تصب في الدواة أولاً.
فقال: نعم، نعم، فصبه في الدواة.
بين أبي بكر الأزرق التنوخي وأسد بن جهورقال: وأخرجني ابن الفرات في سنة تسع وتسعين، انظر في أمر إصلاح الطريق ونفقات الموصل، وسبب لذلك مالاً على الكوفة، وأسد بن جهور عاملها.
فلما جئتها، وكان لي صديقاً، تأخر عن قصدي، فتأخرت عنه أيضاً، فولد ذلك بيننا وحشة، فاستقصيت عليه في المطالبة بالمال، وتقاعد بي، فصارت مكاشفة.
فكتبت إلى الوزير أحرضه عليه، وكتب يتشكاني، فوردت الكتب إلى شاكر الإسحاقي، وهو أمير الكوفة، أن يجمع بيننا في المسجد، ولا يبرح، ولا ينفصل، ولا يرضيني بالمال.
فركبت، وجئت إلى باب الإسحاقي، ولم أدخل، وعرفته ما ورد، وأنني متوجه إلى الجامع. فركب ولحقني، وقال: ورد اعلي مثل هذا.
فقلت: تحضر أسد، فركب إليه، فأحضره.
فحين اجتمعنا تخارجنا في الكلام، إلى أن قلت له: أتطن أني لا أعرف أباك، وأنه كان راجلاً على باب ديوان الضياع، برزق دينارين في الشهر.
قال: وكان اجتماعنا في أول يوم من شهر رمضان، فلم ينته الكلام إلى فصل، وجاءت الغرب، فقام شاكر ليركب، وأسد معه، فجلست أنا.
فقالا: لم تجلس؟ فقلت: أنا لا أخالف أمر الوزير، ولا أبرح إلا بفصل، أو بالمال.
فقال شاكر لأسد: اجلس معه ولا تبرح.
وقال لي: لولا أن قعودي معكما لا فائدة فيه، ويضرني، لقعدت، واعتذر إلى، فعذرته، وانصرف.
وقمت أنا إلى موضع من الجامع، يقال له قبة خالد، فجلست عنده أصلي، وجلس أسد مكانه، وأنفذ إلى داره يستدعي الإفطار، وأنفذت إلى داري، فجاء طعامه وطعامي معاً.
فقام إلي، وسألني أن أجعل إفطاري معه، وفرغ الجامع إلا من أصحابنا، وبسطت سفرته، واصلحت مائدته.
وأقبل أٍد يسألني المجيء إليه، وأنا أمتنع، إلى أن حلف، وكنت أعرف بخله.
فقلت لغلماني: أخرجوا طعامنا فصدقوا به، على من حوالي الجامع، ففعلوا.
وجئت، فأكلت معه منبسطاً، أكل الصائم، ولونه يتغير، ولا يقدر على النطق، فتقطعت نفسه، ولم نزل متلازمين في الجامع، خمسة عشر يوماً من رمضان إلى أن راج المال، وأنا أواكله هكذا.
فلما افترقنا، انعل بعد العيد بأيام، علة مات منها.
فقلت: إنا لله، ليت لا يكون ما عملته معه سبباً لموته غماً.
بين طاهر بن يحيى العلوي وأحد أصحابهحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثني أبو القاسم علي بن الأخزر المشهور بعلم النحو، وكان نبيلاً، جليلاً مرتفعاً عن الكذب، قال: حججت، فدخلت إلى طاهر بن يحيى العلوي، أسلم عليه، فجاءه رجل، فقبل رأسه ويديه، وأخذ يعتذر إليه.
فقال: لا تعتذر، فقد زال ما في نفسي، وقبلت عذرك، وإن شئت أخبرتك عن قصدك إياي، وسبب عذري لك من قبل أن تخبرني.
فتعجب الرجل، وقال: افعل يا سيدي.
قال: إنك رأيت رسول الله صلى الله عليه في منامك، فعاتبك على قطع عالتك عني إذا دخلت المدينة حاجاً، وإنك طويتني عدة حجج دخلت فيها المدينة ولم تجئني.
فقلت له: إن الحياء منعك من قصدي، وإنك لا تأمن أن لا أبسط عذرك.
فقال لك: إني آمر طاهر ببسط عذرك، فلا تجف ولدي، وصله، فجئت إلى، فقال الرجل: كذا والله كان، فمن أين لك يا سيدي هذا؟

قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه، في المنام وأخبرني بما جري بينكما على هذا الشبه.
يا قديم الإحسانحدثني أبو الحسن أيضاً، قال: كان في باب الشام رجل يقال له: لبيب العابد، زاهد، ناسك، صالح، فأخبرني، قال: كنت مملوكاً رومياً، فمات مولاي، فعتقني، فحصلت لنفسي رزقاً برسم الرجالة، وتزوجت بستي، زوجة مولاي، وقد علم الله، أني لم أتزوجها إلا لصيانتها، لا لغير ذلك، فأقمت معها مدة.
ثم إني رأيت يوماً حية وهي داخلة إلى جحرها، فأخذتها، فمسكتها بيدي، فانثنت على، فنهشت يدي، فشلت، ثم شلت الأخرى بعد مدة، ثم زمنت رجالي، واحدة بعد أخرى، ثم عميت، ثم خرست.
فمكثت على هذه الحال سنة، لم تبق في جارحة صحيحة، إلا سمعي، أسمع به ما أكره.
وكنت طريحاً على ظهري، لا أقدر على إشارة، ولا إيماء، فأسقى وأنا ريان، واترك وأنا عطشان، وأطعم وأنا ممتلئ، وأفقد الطعام، وأنا جائع، لا أدفع عن نفسي، ولا أقدر على إيماء بما يفهم مرادي منه.
فدخلت امرأة بعد سنة إلى زوجتي، فسألتها عني، فقال: كيف لبيب؟ فقالت لها، وأنا أسمع: لا حي فيرجى، ولا ميت فينسى.
فغمني ذلك، وبكيت، وضججت إلى الله تعالى في سري.
وكنت في جميع ذلك الحال، لا أجد ألماً في شيء من جسمي، فلما كان في ذلك اليوم، ضرب بدني كله ضرباً شديداً لا أحسن أن أصفه، وألمت ألماً مفرطاً.
فلما كان في الليل، سكن الألم، فنمت، وانتبهت، ويدي على صدري، فعجبت من ذلك وكيف صارت يدي على صدري، ولم أزل مفكراً في ذلك، ثم قلت لعل الله قد وهب عافيتي، فحركتها، فإذا هي قد تحركت، ففرحت، وطمعت في العافية.
وفلت: لعل الله إذن بخلاصي، فقبضت إحدى رجلي إلي، فانقبضت، وبسطتها، فانبسطت، وفعلت بالأخرى كذلك، فتحركت، فقمت قائماً، لا قلبة لي، ونزلت عن السرير الذي كنت مطروحاً عليه، فخرجت إلى الدار، ورفعت طرفي، فرأيت الكواكب، فإذا أنا قد أبصرت، ثم انطلق لساني، فقلت: يا قديم الإحسان، بإحسانك القديم.
ثم صحت بزوجتي، فقالت: أبو علي.
فقلت: الساعة صرت أبو علي.
فأسرجت، وطلبت مقراضاً، وكان لي سبال كما يكون للجند، فقصصته، فضجت من ذلك، وقالت: ما هذا؟ فقلت: بعد هذا لا أخدم غير ربي، فصار هذا سبب عبادتي.
قال: وخبره مستفيض، ومنزلته في العبادة مشهورة، وصارت هذه الكلمة عادته، لا يقول في حشو كلامه، وأكثر أوقاته غيرها: يا قديم الإحسان.
قال: وكان يقال: إنه مجاب الدعوة، وكان الناس يقولون إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح يده عليه، فسألته عن ذلك، فحدثني بهذا الحديث، وقال: ما كان سبب عافيتي غيره.
قال: وقال لي: كان لي قراح على شاطئ دجلة ، بالمدائن، وكان فيه تلال وأشياء ينبغي أن تستخرج، ويطم بها مواضع فيه، فتحتاج إلى رجال كثيرة.
فكنت ليلة فيه، وكانت قمراء، فاجتاز بي خلق كثير من الفعلة، قد انصرفوا من عمل بثق، فرأوني فعرفوني.
فقلت لهم: هل لكم أن تكسحوا هذا القراح الليلة، وتسووا تلوله بالأرض، وتأخذوا مني كذا وكذا.
فقالوا: نعم، أتحفنا بالأجرة، فعملوا ذلك، فأصبحنا وقد صارت أرضاً مستوية.
فقالت العامة: الملائكة أصلحوه، وكذبوا، ما كان غير هذا.
الحلاج في جامع البصرةحدثني أبو الحسين مجمد بن عبيد الله القاضي المعروف بابن نصرويه قال: حملني خالي معه إلى الحسين بن منصور الحلاج، وهو إذ ذاك في جامع البصرة، يتعبد، ويتصوف، ويقرأ، قبل أن يدعي تلك الجهالات، ويدخل في ذلك.
وكان أمره إذ ذاك مستوراً، إلا أ، الصوفية تدعي له المعجزات من طرائق التصوف، وما يسمونه معونات، لا من طرائق المذهب.
قال: فأخذ خالي يحادثه، وأنا صبي جالس معه، أسمع ما يجري.
فقال لخالي: قد عملت على الخروج من البصرة.
فقال له خالي: لم؟ قال: قد صير لي أهل هذا البلد حديثاً، وقد ضاق صدري، وأريد أن أبعد عنهم.
فقال له: مثل ماذا؟

قال: يرونني أفعل أشياء، فلا يسألونني عنها، ولا يستكشفونها فيعلمون أنها ليست كما وقع لهم، ويخرجون ويقولون: الحلاج مجاب الدعوة، وله معونات قد تمت على يده، وألطاف، ومن أنا حتى يكون لي هذا؟ بحسبك، إن رجلاً حمل إلي منذ أيام دراهم، وقال لي: اصرفها إلى الفقراء، فلم يكن يحضرني في الحال أحد، فجعلتها تحت بارية من بواري الجامع إلى جنب اسطوانة عرفتها، وجلست طويلاً فلم يجئني أحد، فانصرفت إلى منزلي، وبت ليلتي، فلما كان من غد، جئت إلى الأسطوانة، وجلست أصلي، فاحتف بي قوم من الصوفية، فقطعت الصلاة، وشلت البارية، وأعطيتهم تلك الدراهم.
فشنعوا علي بأن قالوا: إني إذا ضربت يدي إلى التراب صار في يدي دراهم.
قال: وأخذ يعدد مثل هذا أشياء، فقام خالي عنه، وودعه، ولم يعد إليه.
وقال: هذا منمس، وسيكون له بعد هذا شأن.
فما مضى إلا قليل، حتى خرج من البصرة، وظهر أمره وتلك الأخبار عنه.
جحظة البرمكي يغضب من
خسارته في النردحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي، قال: حدثني أبو علي بن الأعرابي الشاعر قال: كنت في دعوة جحظة، فأكلنا، وجلسنا نشرب، وهو يغني، إذ دخل رجل، فقدم إليه جحظة زلة كان زلها له من طعامه ونحن نأكل، وكان بخيلاً على الطعام.
قال: وكأن الرجل، كان طاوي سبع، فأتى على الزلة، وشال الطيفورية فارغة، وجحظة يرمقه بغيظ، ونحن نلمح جحظة، ونضحك. فلما فرغ، قال له جحظة: تلعب معي بالنرد؟ فقال: نعم.
فوضعاها بينهما، ولعبا، فتوالى الغلب على جحظة من الرجل، بأن تجيء الفصوص على ما يريد الرجل من الأعداد.
فأخرج جحظة رأسه من قبة الخيش، إلى السماء، وقال، كأنه يخاطب الله تعالى: لعمري، إني أستحق هذا، لأني أشبعت من أجعته.
بين مؤذن ومحتسبوحدثني، قال: سمعت بعض شيوخنا يحكون: إن رجلاً مؤذناً عادى محتسباً، فأحضره.
فقال له: أي شيء بيننا، مما يوجب استدعاءك لي.
قال: أريد أن تعرفني وقت الصلاة، فإن كنت عالماً بها، وإلا لم أدعك تؤذن مع الناس بالصلاة في غير وقتها.
ووجده غير قيم بذلك، فمنعه من الأذان.
أبو بكر بن دريد كان آية في الحفظوحدثني، قال: حدثني جماعة عن أبي بكر بن دريد، أنه قال: كان أبو عثمان الأشنانداني معلمي، وكان عمي الحسين ابن دريد يتولى تربيتي، فإذا أراد الأكل، استدعى أبا عثمان، فأكل معه.
فدخل عمي يوماً، وأبو عثمان المعلم يرويني قصيدة الحارث بن حلزة التي أولها:
أذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
فقال لي عمي: إذا حفظت هذه القصيدة، وهبت لك كذا وكذا.
ثم دعا بالمعلم ليأكل معه، فدخل إليه، فأكلا، وقعدا بعد الأكل ساعة، فإلى أن خرج المعلم، حفظت ديوان الحارث بن حلزة بأسره.
فخرج المعلم، فعرفته بذلك، فاستعظمه، وأخذ يعتبره علي فوجدني قد حفظته، فدخل إلى عمي، فأخبره، فأعطاني ما كان وعدني.
قال: وكان أبو بكر واسع الحفظ جداً، ما رأيت أحفظ منه، كان يقرأ عليه دواوين العرب كلها، أو أكثرها، فيسابق إلى حفظها، فيحفظها.
وما رأيته قط قرأ عليه ديوان شاعر، إلا وهو يسابق إلى قراءته لحفظه له.
البربهاري رئيس الحنابلة ببغدادحدثني أبو الحسن، قال: سمعت أبا محمد السليماني الهاشمي، المعروف بعباد رحله، وقد جرى ذكر البربهاري بحضرته، فقال: وقف يوماً للقاهر، فقال: يا أمير المؤمنين أهلك الهاشميين.
فقال القاهر: أفعل، وإنما أراد أ، يذكره بهم، ويقول: أهلك.
ورأى عيناً هائجة، فقال: لو استعمل هذا الخضرط، عوفيت.
فقيل له: ليس هو الخضرط.
فقال: نعم، غلطت، هو الخضخض.
فسكتوا عنه، وإنما أراد الحضض.
أبو الفرج الببغاء ينشي نسخة كتاب
على لسان الأمير سيف الدولة بشأن الفداءحدثني أبو الفرج الببغاء، قال: لما أقام سيف الدولة الفداء، بشاطئ الفرات في رجب سنة خمس وخمسين وثلثمائة، لزمه عليه خمسمائة ألف دينار، في شراء الأسارة، والأموال التي وصلهم بها، ورم بها أحوالهم.
وأخرج جميع ذلك من ماله، صبراً واحتساباً، وطلباً للثواب والذكر، من غير أن يعاونه أحد من الملوك عليه، ولا غيرهم.
وكان ذلك خاتم أعماله الحسنة، وأفعاله الشريفة، التي تجاوز الوصف، وتفوت العد.

فلما فرغ من ذلك، تقدم إلى كل من بحضرته، في الوقت، من أهل الكتابة، أن ينشئ كل واحد منهم، نسخة كتاب ليكتب عنه إلى من في البلدان من الجيش والرعية، بخبر تمام الفداء، ووصف الحال فيه.
فكتبت عنه في ذلك: كتابنا، تولاكم الله بكفايته، وحرسنا فيكم بناظر رعايته، من معسكرنا بالبقعة المعروفة بالمعقلة من شاطئ الفرات، بعد إمضائنا أمر الفداء الذي اختصنا الله فيه بشرف ذكره، وانتخبنا للنهوض بمعظم أمره، وولينا بالمعونة في تحمل ثقله، ووفقنا للفوز بإحراز فضله، بعد أن استراحت فيه النيات إلى الغفلة، ومطاوعة الشح، ومساكنة الراحة، وتظنون بالله الظنون. فالحمد لله حمداً نستديم بالإخلاص فيه مداد عوارفه وأياديه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. ولما كانت منح الله تعالى لدينا، ونعمه المتظاهرة علينا، أعظم من أن تطاول بثناء، وأجل من أن تقابل بجزاء، رأينا الاعتراف بما أحرزناه من سالفها، والإشادة بما قابلناه من مستأنفها، أقدر على استزادتها، وأولى بحراستها.
ولم نزل، ولله المنة، منذ عرفنا ما ندبنا إليه، وتأملنا ما حضنا عليه، من الخفوف لجهاد الكافرين والتعبد بقتال المخالفين، بين رأي يتضمن التوفيق عواقبه، وعزم يصرع الإقبال مغالبه، وفتح يجمع الإسلام أثره، وبلاء تداول الأيام خبره.
ولا ننصرف عن غزو إلا إلى نفير، ولا نتشاغل بنظر إلا إلى تدبير، ولا نعتد بالمال إلا ما أنفقناه، ولا نسر بذخر إلا ما أنفدناه، فيما حرس الأمة، وحصن الملة، وبث العدل، وجمع الشمل.
إلى أن استعبدنا ملوكهم بالأسر، وجسنا ديارهم بكتائب النصر، وأوحشنا المراتب من أربابها، واستنزلنا عن الحصون أصحابها، وفجعنا ملكهم بصهره وابن أخته قهراً، وأثكلنا أخاه مراغمة وصغراً.
فلما أدلنا الحق من الدلال، وأعاده الله تعالى بنا من العز إلى أشرف حال، عدلت السيوف عن دمائهم إلى أغمادها، واستبدلت إصدارها بإيرادها، ونصلت الرماح أسنتها، وطاوعت الخيل أعنتها، واستماحتنا الأعداء إلى الموادعة، ورغبت إلينا بالتضرع في المسألة.
واستفتحوا ذلك بطلب الفداء الذي لا يسعنا الامتناع منه، ولا نجد تأولاً في الإضراب عنه.
فرأينا بعد الإثخان في الأرض، فك من في أيديهم من الموحدين، ومن في رقهم من المسلمين، أفضل كاسب لعاجل الشكر، وأوفى ضامن لأجل الأجر.
فأنفذنا إلى سائر الأقطار وبثثنا الأصحاب في جميع الأمصار لإحصاء السبي وانتزاعه، والتوفر على جمعه وابتياعه من خالص ملكنا وخاصة مالنا، من غير مسامحة لأحد من أهل زماننا في معاونتنا، بغير الثياب التي شركناهم بها في نيل الحمد وكسب المثوبة.
وأضفناهم إلى من ملكناه بحكم الرماح، وأحرزناه بقهر الخيل والصفاح، من أكابر البطارقة، وأنجاب الزراورة، ووجوه الأعلاج، وأجاد الأنجاس.
ولم يزل من سلف قبلنا من الملوك، وتقدمنا من السلاطين، في عقد الهدن، وإقامة الأفدية، يرغب إلى سائر نظرائه، وذوي السمعة من أتباعه، والمكنة من رعيته، في معاونته بالأحوال، ومعاضدته ببذل الأموال.
وأبى الله لنا إلا التفرد بأجر ذلك وشكره، وحميد أثره، وجميل ذكره.
وندبنا أكابر الغلمان، وثقاة الخدم، لتسييرهم بأعم رأفة وأتم رفق، حسب ما أمرنا به من ترفيه السبي، ومراعاة الأسرى، إلى أن عبرنا بجميعهم من الفرات، بحيث سألنا صاحبهم الانجذاب إليه، ورغب إلينا في النزول عليه، تأنساً بمجاورة الدروب المستصعبة، وحذراً من مفارقة الجبال المستعصمة.
فلما اقتضى قربنا سرعة المسير، وتنجزه، دنونا لإمضاء الأمر بعد التقرير.
أقدم مرتاباً بإقدامه، وسار متهماً عواقب رأيه واعتزامه، بجموع يفرق الجزع آراءها، وقلوب يشتت الخوف أهواءها، وأفكار مكدودة بالوجل، ومنن مستعبدة لأوامر الفشل، يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو فأحذرهم، إلى أن حل بفنائنا ملقياً مفاليد أمره إلى الاستسلام، وآخذاً من وفاءنا بأوكد ذمام.
وافتتحنا الفداء يوم السبت غرة رجب الذي هو غرة الأشهر الحرم، وقد عرف الله تعالى المسلمين ما استودعناه من صالح الأعمال، وذكي الأفعال، وتعجل البركات، وتناصر الخيرات، فاستمر بأكمل هدي، وأنجح سعي، وأبسط قدرة، وأعم نصرة، وأعز سلطان، وأوضح برهان، وكلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، والله عزيز حكيم.

ولم تزل الحال في ذلك جارية على أحكم نظام، وأحسن التئام، إلى أن استنقذ الله بنا من كاد تطاول الأسر يستغويه، والإياس من الخلاص أن يرديه، وهم على الإضل ما عهدتاهم عليه من حسن اليقين، والتمسك بعصم الدين.
وسار عنا من فاديناه من البطارقة المذكورين، والزراورة المشهورين، بأجسام ضاعنة، وقلوب قاطنة، تتلفت إلى ما خلفته من غامر تفضلنا، وألفته من ألطاف تطولنا.
فهم بعد الفداء موثوقون في أسر الإحسان، ومع الخلاص مقرونون برق التطول والامتنان.
ولما أحضرونا من أسروه من الأعمال النازحة، والبلدان الشاسعة، ولم نستخر ادخار الأموال عن خلاصهم، ولا الشح بها عن تعجيل فكاكهم، فابتعناهم من الأثمان بأعظمها، ومن الأموال بأجسمها، ولم نطع في ادخار الذهب والفضة، المقرون بمخاوف الوعيد، وفظيع التهديد، أمر الشك في ربح الصفقة بمتاجرة الله تعالى، جل اسمه واثقين بعاجل الخلف، وآجل الجزاء، وذلك الفوز العظيم.
وتداركنا من عمارة أحوالهم، ما كان مختلاً بمعاناة الفقر، ومتهافتاً بتطاول الأسر، وانقلبنا قافلين بأسعد منقلب، وأربح مكتسب، وأتم إقبال، وأجمل حال، بعد أن أجفل العدو خذله الله، مستطيلاً مدة إقامته، وشاكاً في إحراز سلامته، متوهماً أن الخيول تطلبه، والرماح تتعقبه، لا يعرج على ضعفاء ساقته، ولا يلوي على أخص من في جملته.
وتقدمنا بمكاتبة أوليائنا، وكافة رعيتنا، بذكر ما هيأه الله عز وجل لنا من تظاهر النعم، وتواتر القسم، وليشهروا ذلك على منابر الصلوات، ويعلنوه بالرسائل والمكاتبات، إذ كان ما يتوجه لله سبحانه من تتابع النعم والمنح، وتواصل العوارف، عائداً على الملة، ومساوياً بالنفع به الأمة.
فالحمد لله الذي اختصنا من اختياره، وأفردنا بإيثاره، بما رآنا له أهلاً لخلافة نبيه صلى الله عليه وسلم في حراسة أمته، وإعزاز كلمته.
وإليه نرغب في توفيقنا للاعتراف بعوارفه، لما تكون به النعم محروسة، والموهبة محفوظة، لا ينتقصها كفران، ولا يرتجعها عدوان، إن شاء الله تعالى.
الشاعر المعوج يمدح بدر الحماميحدثني أبي، قال: حدثني المعوج، قال: كبا الفرس ببدر الحمامي، وافتصد، فدخلت إليه، فأنشدته أبياتاً عملتها في الحال، وهي:
لا ذنب للطرف إن زلت قوائمه ... وليس يلحقه من عائد دنس
حملت بأساً وجوداً فوقه وندى ... ليس يقوى بهذا كله الفرس
قالوا افتصدت فما نفس العلى معها ... خوفاً عليك، ولا نفس لها نفس
كف الطبيب دعا كفاً يقبلها ... ويطلب الرزق منها حين يحتبس
فأمر لي بخمسة آلاف درهم، فأخذتها وانصرفت.
الشاعر الصروي يمدح صاحب النشواروكنت سقطت من بغلة، فعمل أبو القاسم عبيد الله، قصيدة أنشدنيها، منها:
أسمت فتاة العير حمل العلى وقد ... نهيت من الإشفاق عن حملك القبا
ومشيتها تحت الشريعة والقضا ... ولو سمت رضوى حمل ذين قضى نحبا
فيا عجباً أن لم يسخ رسغها القضى ... وما هد ثقل الدين من متنها الصلبا
ومن ذا يطيق الطود حملاً إذا رسا ... ومن يحمل البحر الضم إذا عبا
فزلت ببدر منك لم يخف نوره ... وغيث حياً أحيا بسقطته التربا
وقمت سليم الجسم يدعو لك الثرى ... ويلثم منك الرجل والنعل والركبا
نهني بك المحراب والآي والتقى ... ودستك والأقلام والحكم والكتبا
أبيات من نظم أبي القاسم عبيد
الله بن محمدالصرويأنشدني أبو القاسم عبيد الله بن محمد الصروي، لنفسه، يصف زراقة النفط:
وصفراء في فيها لعاب كلونها ... إذا قذفته لاعب الريح واستنا
يجلله من بطنها في خروجه ... رداء دجى حتى يصير لها حصنا
لها ذنب في رأسه ذنب له ... إذا جر منها رد في جوفها طعنا
يمج بروقاً بين ليلين من حشا ... إلى فم أفعى ما ترى بينه سنا
تخوض الوغى عريانة لتخيفه ... ولو سئلت لم تعرف الخوف والأمنا
وأنشدني لنفسه:

وناولني في أسفل الكأس فضلة ... مزعفرة صفراء والكأس أبيض
كنرجسة في الروض ترنو بمقلة ... مذهبة والجفن منها مفضض
وأنشدني لنفسه في صفة إبريق وساق
ولاح لنا الإبريق من كف شادن ... له وجنة من لحظنا أبداً تدمى
كملحوظة مدت يداً دون وجهها ... وأخرى بها ردت على رأسها الكما
على شعر في عارضيه كأنما ... زرعن المها أجفانها فيه والسقما
كأن الليالي قد عددن سنينه ... فصيرن في خديه داراته رقما
وأنشدني لنفسه يصف مجدوراً:
بدر وغصن من فوق دعص نقا ... لم أصغي في حبه إلي لاحي
له لحاظ مرضى بلا سقم ... سكرى من الغنج تسكر الصاحي
جدر فاعتاض من تورده ... بصفرة في ملثم ضاح
كأنه فوق خده حبب ... يلعب بعد المزاج في الراح
وأنشدني لنفسه في كانون:
كأن تأجج كانوننا ... تكاثف نور من العصفر
وأحدث إخماده زرقة ... تأجج في مدمج أحمر
كبركة خمر بحافاتها ... بقايا تفتح نيلوفر
وأنشدني لنفسه أيضاً في كانون:
أنظر إلى كانوننا ... يضحك من غير فرح
كحمرة في شفق ... دبجها قوس قزح
لأبي الفرج الببغاء في وصف كانونوحدثني أبو الفرج الببغاء، قال: كنت بحضرة أبي العشائر بن حمدان، وبين يديه كانون، قد عمل النار في باطن فحمه، فعملت في الحال، وأنشدته:
ومجلس حل من يحل به ... من المعالي في أرفع الدرج
أمسى ندام الكانون لنا ... أكثر أنس النفوس والمهج
يبدي لنا ألسناً كالسنة ال ... حيات من ثابت ومختلج
لما بدا الفحم فيه أسود كال ... ليل وبث الشرار كالسرج
ودب صبغ اللهيب فيه بتض ... ريج خدود الشقائق الضرج
ظننت شمس الضحى به انكشفت ... للخلق في قبة من السبج
لأبي الفرج الببغاء في صفة شمعةأنشدني لنفسه في صفة شمعة:
وصفر كأطراف العوالي قدودها ... قيام على أعلى كراس من الصفر
تلبسن من شمس الأصيل غلائلاً ... فأشرقن في الظلماء بالخلع الصفر
عرائس يجلوها الدجى لمماتها ... وتحيا إذا أذرت دموعاً من التبر
إذا ضربت أعناقها في رضا الدجى ... أعارته من أنوارها خلع الفجر
تبكي على أحشائها بجسومه ... فأدمعها أجسامها أبداً تجري
علاها ضياء عامل في حياته ... كما تعمل الأيام في قصر العمر
للسري الرفاء في الغزلأنشدني غير واحد، قالوا أنشدنا سري بن أحمد الكندي الرفاء، لنفسه
وذي عنج يرنو بمقلة جؤذ ... متى يعد فيه خالع العذر يعذر
له فوق ورد الخد خال كأن ... إذا احمر ورد الخد نقطة عنبر
بين قاضي القضاة أبي السائب والشاعر ابن سكرة الهاشميأخبرني جماعة من أهل عصرنا من المتأدبين ببغداد أن أبا الحسن محمد بن عبد الله بم سكرة الهاشمي، دخل إلى قاضي القضاة أبي السائب عتبة بن عبيد الله، وهو جالس للحكم، فكتب رقعة كالقصص، ودفعها إليه، وقد كان مدحه فتأخرت صلته عنه. فلما قرأها أبو السائب، لم يبن في وجهه غضب، ولا نكير، ووقع فيها شيئاً بخطه. وقال أين رافع هذه القصة؟ فقام ابن سكرة، فدفعها إلي، فأخذها مقداراً أن فيها ما يستكف لسانه عنه من صلة أو بر، فلما قرأها استحيا وانصرف.
فقرئت الرقعة، فإذا الابتداء بخط ابن سكرة شعر، والجواب بخط أبي السائب نثر، كما نسخناها هاهنا:
يا عتبة بن عبيدحوشيت من كل عيبلبيك يا مختصر
وأبعد الله قوماًرموك عندي بريبوأنت فحوشيت من كل سوء
قالوا بأنك تهوىزبيبةبن شعيبكذبوا
فقلت هذا محالأصبوة بعد شيب؟أحسن الله جزاءك
وقلت ما يشبهك، وربما كانت
لقد هتفتم بشيخنقي ذيل وجيببئس ما فعلوا، والحمد لله على ذلك
رأيتم الأير فيه؟فلم شهدتم بغيب؟جهلاً منهم بطرق الشهادة
طبيعة الأمير سيف الدولة في إسداء المكارمحدثني أبو الفرج الببغاء، قال: تأخر عني رسمي من الكسوة، على الأمير سيف الدولة، وكان آثر الأشياء عنه، وأنفقها عليه، وأحبها إليه، أن يسأل فيعطي، وأن يستزاد فيزيد، وأن يطالب، ويناظر، حتى كان دائماً يعزل للإنسان شيئاً، يريد هبته له، خلف ظهره، ويقول: أريد أن أعطي فلاناً هذا.
فيخرج من يحضر: فيحدث الرجل، فيحضر، ولا يعطيه.
فيقول له الرجل: أيش وراء مسورة مولانا؟ فيقول: وأي شيء عليك؟ وأيش فضولك؟ فيقول: هذا والله لي عزله مولانا.
فيقول: لا .
فيقول: بلى، ويأخذه، ويجاذبه عليه، فإذا فعل ذلك، أعطاه، وزاده شيئاً آخر، يلتذ بهذا.
قال: فكتبت إليه، استحثه على رسمي من الكسوة: الرضا بالمأمول، أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة، دليل على همة الآمل، ومحل المسؤول في نفسه، مترجم عن نفاسة نفس السائل، إذ كان الناس من التخلق بالكرم، والتفاضل بالهمم، في منازل غير متقاربة، ومراتب غير متناسبة، وشرف أدبه، في شرف طلبه.
ورجاء سيف الدولة الشرف الذي ... يتقاصر التفصيل عن تفصيله
ضمنت تأميلي نداه فرده ... جذلان من سفر الظنون بسوله
وغنيت حين بلغت ورد نواله ... عن ورد ممتنع النوال بخيله
فالغيث يغبطني على إنعامه ... والدهر يحسدني على تأميله
وعلمي بأن أقرب مؤمليه - أيده الله - إليه، وأوجبهم حرمة عليه، أشدهم استزادة لنعمه، وأكثرهم تسحباً على كرمه، بعثني على التقرب إلى قلبه بالسؤال، ومناجاة كرمه بلسان الآمال. فسألته متقرباً، وطلبته مستحباً، فإن رأى العادل إلا في ماله، والمقتصد إلا في أفضاله، سيدنا الأمير سيف الدولة أطال الله بقاءه.
أن تعلم الأيام موضع عبده ... من عزه ومكانه من رائه
بشواهد الخلع التي يغدو بها ... متطاولاً شرفاً على نظرائه
فمن العجائب حبس توقيع له ... وموقع التوقيع من شفعائه
فعل إن شاء الله تعالى.
كيف تأثلت حال أبي عبد الله ابن الجصاصحدثني أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعلان، قال: حدثني أبو علي أحمد بن الحسين بن عبد الله الجوهري، ابن الجصاص، قال: قال لي أبي: كان بدء إكثاري، أني كنت في دهليز حرم أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وكنت أتوكل له ولهم في ابتياع الجوهر وغيره مما يحتاجون إليه، وما كنت أكاد أفارق الدهليز لاختصاصي بهم.
فخرجت إلي قهرمانة لهم في بعض الأيام، ومعها عقد جوهر، فيه مائتا حبة، لم أر قبله أحسن منه، ولا أفخر، تساوي كل حبة منه ألف دينار عندي.
فقالت: نحتاج أن تخرط هذه حتى تصغر، فتجعل لأربع عشرات اللعب.
فكدت أن أطير، وأخذتها، وقلت السمع والطاعة.
وخرجت في الحال مسروراً، وأنا على وجهي، فجمعت التجار، ولم أزل أشتري ما قدرت عليه، حتى حصلت مائة حبة أشكال من النوع الذي أرادته.
وجئت بها عشياً، وقلت: إن خرط هذا يحتاج إلى زمان وإنظار، وقد خرطنا اليوم ما قدرنا عليه، وهو هذا، ودفعت إليهم المجتمع، والباقي يخرط في أيام.
فقنعت بذلك، وارتضت الحب، وخرجت.
قامت علي بأثمان قريبة، تكون دون مائة ألف درهم، أو حواليها، وحصلت جوهراً بمائتي ألف دينار.
ثم لزمت دهليز هم، وأخذت لنفسي غرفة كانت فيه، فجعلتها مسكني. قال: فلحقني من هذا، أكثر مما يحصى، حتى كثرت النعمة، وانتهت إلى ما استفاض خبره.
سبب اختصاص أبي عبد الله ابن الجصاص
بأبي الجيش خمارويه أمير مصرحدثني أبو الحسين ابن عياش، قال: سمعت مشايخنا، يقولون: إن أصل اختصاص ابن الجصاص بأبي الجيش ابن طولون، أن أبا الجيش كان يشرب، إذا قعد للشرب، أربعين رطلاً من نبيذ مصر المعروف بالشيروي.
قال: ومن يشرب منه رطلاً، يقدر أن يشرب من غيره أرطالاً.
وكان لا يصبر معه أحد من ندماءه، ويسكرون قبله، فيصعب عليه، ويبقى وحده، فكان يتطلب المجيدين للشرب.
فوصف له ابن الجصاص، وهو إذ ذاك يتجر في الجوهر، فاستدعاه، فأدخل إليه، فحين مثل بين يديه، قبل الأرض، ولم يكن الناس يعرفون ذلك، فاستظرف خمارويه حسن أدبه.
وقال: أبو من؟ قال: عبد الأمير الحسين.
فقال: هذه اثنتان.

فواكله، وشاربه، قدحاً وقدحاً، حتى سكر خمارويه، ثم شرب بعده رطلاً.
فبلغ ذلك خمارويه من غد، فأدخله، وأجازه جائزة عظيمة.
وقال: ما صناعتك؟ فقال: الجوهر.
فقال: لا يبتاع لنا شيء إلا على يده، وكان مشغوفاً به، فكسب فيه الأموال.
وحصل يأكل معه، ويشاربه إذا أراد الشرب، فينام ندماؤه كلهم غيره، فولد ذلك له أنساً تاماً به، فكان يخرج إليه على النبيذ بأسراره، ويحادثه، ويأنس به.
ورد إليه أمر داره، والإشراف على جميع نفقاته.
ولم تزل حاله تقوى وتتزايد، حتى عرض له تزويج ابنته المعتضد، فأنفذه في الرسالة حتى عقد الإملاك، ثم أجرى أمر الجهاز على يده، فجرف الأموال بغير حساب.
قال: فأخبرني بعض أصحابنا، أنه لحق بعض الفرش الذي كان في جهاز قطر الندى ابنة خمارويه، مطر، فيما بين دمشق والرملة، فنزلها ابن الجصاص، وكتب إليه يعرفه الخبر، ويستأذنه في تطرية ذلك، فأذن له فيه.
فأقام شهرين لهذا السبب، وطرى الفرش، فاحتسب في النفقة، ثلاثين ألف دينار.
قال: ولما حصلت قطر الندى ببغداد، أضاق خمارويه إضاقة شديدة، لأنه افتقر بما حمله معها، وخرج من جميع نعمته، حتى طلب شمعة، فاحتبست عليه ساعة، إلى أن احتيلت.
فقال: لعن الله ابن الجصاص، أفقرني في السر.
بين الخليفة المكتفي والتاجر ابن الجصاصقال: ومن عجيب أخبار ابن الجصاص، أنه طلب منه المكتفي عقداً حسناً من فاخر الجوهر، يبتاعه منه.
فقال: كم يبلغ يا أمير المؤمنين؟ قال: ثلاثين ألف دينار.
قال: لا تصيب كما تريد، ولكن عندي عقد فيه ستون حبة، ولا أبيعك إياه بأقل من ستين ألف دينار، فإن أذنت، حملته.
فقال: افعل.
فحمله إليه والعباس بن الحسن قائم بين يديه، فعرضه عليه، فهال المكتفي أمره وحسنه، وقال: ما رأيت مثل هذا قط.
فقال: ومن أين عندك أنت مثل هذا يا أبا مشكاحل؟ فتنكر المكتفي، وتنمر، وهم به.
فأومأ إليه العباس بالإمساك، فأمسك، وترك العقد الجصاص، بحضرة الخليفة، وخرج.
فقال المكتفي للعباس: بالله، وبحقي عليك، هذه الكنية تلقبني بها العامة؟ فقال: لا والله يا مولانا، ولكن هذا رجل رقيع، عامي، والعامة إذا افتخرت على إنسان، قالت له مثل هذا، وقد ربحت بهذه الكلمة العقد، بلا ثمن، فدعني وابن الجصاص، فإن جاءك فأحله علي.
فلما كان بعد أيام، جاء ابن الجصاص، فأذكر المكتفي بثمن العقد.
فقال له: إلق العباس.
فجاء إليه، فطالبه بالمال.
فقال: ويحك، تطالب بثمن العقد، بعدما لقبت الخليفة بسببه، واجترأت عليه بما لا يجوز أن تجترئ بمثله على بعض غلمانه؟ لا تتكلم بهذا فتولد لنفسك منه، ما لا تحتاج إليه.
فأمسك ابن الجصاص، وذهب منه العقد والمال بالكلمة.
إسماعيل بن بلبل والأعرابي العائفحدثني أبو الحسين بن عياش، قال: أخبرني من أثق به، إن إسماعيل بن بلبل، لما قصده صاعد، لزم داره، وكان له حمل قد قرب وضعه، فقال: اطلبوا لي منجماً يأخذ مولده، فأتي به.
فقال له بعض من حضر، ما تصنع أيدك الله بالنجوم؟ هاهنا أعرابي عائف، ليس في الدنيا أحذق منه.
فقال: يحضر، فأسماه الرجل، فطلب، وجاء.
فلما دخل عليه، قال له إسماعيل: تدري لأي شيء طلبناك؟ قال: نعم.
قال: ما هو؟ فأدار عينه في الدار، فقال: لتسألني عن حمل، وقد كان إسماعيل أوصى أن لا يعرف، فتعجب من ذلك.
فقال له: فأي شيء هو؟ أذكر أم أنثى؟ فأدار عينه في الدار، فقال: ذكر.
فقال: للمنجم: ما تقول؟ قال: هذا جهل.
فبينا نحن كذلك، إذ طار زنبور على رأس إسماعيل، وغلام يذب عنه، فضرب الزنبور، فقتله. فقام الأعرابي، وقال: قتلت والله المزنر، ووليت مكانه، ولي حق البشارة، وجعل يرقص، وإسماعيل يسكنه، فنحن كذلك إذ وقعت الصيحة بخبر الولادة.
فقال: انظروا ما المولود؟ فقالوا: ذكر.
فسر إسماعيل بذلك سروراً شديداً، لإصابة العائف في زجره، وترجيه الوزارة، وهلاك صاعد، ووهب للأعرابي شيئاً، وصرفه.
فما مضى على هذا إلا دون شهر، حتى استدعى الموفق إسماعيل، وقلده الوزارة،وسلم إليه صاعداً، فكان يعذبه، حتى قتله.
فلما سلم إليه صاعد، ذكر الحديث الأعرابي، فطلبه، فجاءوا به.

فقال: خبرني كيف قلت ما قلته ذلك اليوم؟ وليس لك علم بالغيب، ولا هذا مما يخرج في نجوم. فقال: نحن إنما نتفاءل ونزجر الطير، ونعيف ما نراه، فسألتني أولاً، لأي شيء طلبت؟ فتلمحت الدار، فوقعت عيني على برادة عليها كيزان معلقة في أعلاها، فقلت: حمل.
فقلت لي: أصبت، ثم قلت لي: أذكر أم أنثى؟ فتلمحت، فرأيت فوق البرادة عصفوراً ذكراً، فقلت: ذكر.
ثم طار الزنبور عليك، وهو مخصر، والنصارى مخصرون بالزنانير، والزنبور عدو، أراد أن يلسعك، وصاعد نصراني الأصل، وهو عدوك، فزجرت أن الزنبور عدوك صاعد وأن الغلام لما قتله، إنك ستقتله.
قال: فوهب له شيئاً صالحاً، ثم صرفه.
أعراب ثلاثة يتنبأون بموت قاضي القضاة
ودفنه في دارهوحدثنا أبو الحسين، قال: اجتزت أنا وأبو طاهر بن نصر القاضي، بشارع القاضي، نقصد دار قاضي القضاة أبي الحسين، في علته التي مات فيها، لنعوده، فإذا بثلاثة من الأعراب ركبان.
فشال أحدهم رأسه، وقد سمع غراباً ينعب على حائط دار أبي الحسين قاضي القضاة.
فقال للنفسين اللذين خلفه: إن هذا الغراب ليخبرني بموت صاحب الدار.
فقال له الآخر: أجل إنه ليموت بعد ثلاثة أيام.
فقال الآخر: نعم ويدفن في داره.
فقلت: أسمعت ما قالوه؟ فقال: نعم.
فقلت: هؤلاء أجهل قوم، وافترقنا.
فلما كان في ليلة اليوم الرابع سحراً،ارتفعت الصيحة بموت قاضي القضاة أبي الحسين، فذكرت قول الأعرابي، وعجبت.
وحضرنا جنازته، ودفن في داره.
فقلت لأبي طاهر: رأيت أعجب من وقوع مقالة الأعرابي بعينها؟ أيش هذا؟ فقال: لا والله ما أدري، ولكن تعال حتى نسأل عنهم، ونقصدهم، ونستخبر منهم من أين لهم ذلك.
قال: فكنا أياماً نسأل عنهم، وعن حلتهم من البلد، فلا نخبر.
إلى أن أخبرونا بنزول حلة من بني أسد بباب حرب، فقصدناهم.
فقلنا: هل فيكم من يبصر الزجر؟ فقالوا: أجل، ثلاثة أخوة في آخر الحي، يعرفون ببني العائف، ودلونا على أخبيتهم.
فجئنا، فصادفنا أصحابنا بأعيانهم، ولم يعرفونا، فأخبرناهم بما سمعناه منهم، وسألناهم عنه. فقالوا: إنا، وغيرنا من العرب، نعرف نعيباً للغراب بعينه، لا ينعبه في موضع إلا مات ساكنه، مجرباً على قديم السنين في البوادي، لا يخطئونه، ورأينا ذلك الغراب، نعب ذلك النعيب الذي نعرفه.
فقلنا للآخر: كيف قلت إنه يموت بعد ثلاثة أيام؟ قال: كان ينعب ثلاثاً متتابعات ثم يسكت، ثم ينعب ثلاثاً على هذا، فحكمت بذلك.
فقلت للآخر: وكيف قلت أنه يدفن في داره؟ قال: رأيت الغراب يحفر الحائط بمنقاره ورجليه، ويحثو على نفسه التراب، فقلت: إنه يدفن في داره.
عيافة أعرابيحدثنا أبو الحسين بن عياش، قال: أخبرني صديق لي أنه خرج إلى الحائر على ساكنيه السلام ليزور.
فاجتاز في طريقه بموضع قريب من الأعراب، وهم نزول، فحط رحله ونزل، وجلس يأكل هو ومن معه، فوقف به بعض أولئك الأعراب يستطعم.
قال: فقلت له: اجلس حتى نأكل، ونفع إليك نصيباً.
فجلس قريباً منا، فإذا بغراب قد طار قريباً منه، وصاح صياحاً متتابعاً.
فقام الأعرابي يرجمه، ويقول: كذبت يا عدو الله، كذبت يا عدو الله.
قال: فقلنا له: ما الخبر يا أعرابي؟ قال: يقول الغراب إنكم ستقتلونني، وأنتم تريدون أن تطعموني، فكذبته في خبره.
قال: فاستحمقناه، وتممنا أكلنا.
وكان في السفرة سكين بزماورد عظيمة حادة، أنسيناها في السفرة. فجمعنا السفرة بما فيها، وقلنا للأعرابي: خذها، وفرغ ما فيها، واردد السفرة.
فجمعها بما فيها، وشالها، فضرب بها ظهره بحمية، من فرحه بتمكيننا إياه من جميع ما فيها، فخرجت السكين بحدتها، فدخلت بين كتفيه، فخر صريعاً يصرخ: صدق الغراب لعنه الله، مت ورب الكعبة.
فخشينا أن يصير لنا مع الأعراب قصة، فتركنا السفرة، وقمنا مبادرين، فاختلطنا بالقافلة حتى لا نعرف، وتركناه يتشحط في دمائه. ولا نعلم هل عاش أم مات.
من أحاديث الزراقينحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا سليمان بن الحسن، قال: قال لي أبو معشر المنجم، وقد جرى حديث الزراقين: رأيت أعجب شيء، وهو أن رجلاً في جواري بسر من رأى اعتقل، فأتاني أبوه، وكان لي صديقاً، فقال: تركب معي إلى صاحب الشرطة، نسأله إطلاقه، فركبت.

فاجتزنا بزراق على الطريق. فقلت: هل لك في أن نتلهى بهذا الزراق؟ فقال: افعل.
فقلت له: انظر في نجمنا، وأي شيء هو، وفي أي شيء هوذا نمضي؟ ففكر الزراق ساعة، ثم قال: تمضون في أمر محبوس.
قال: فانتقع لون أبي معشر، ودهش، وتلجلج لسانه.
فقلت أنا له: فهل يطلق أم لا؟ قال: تمضون وقد أطلق.
فقال لي أبو معشر: انطلق بنا، فهذا اتفاق طريف، وهوس.
فسرنا وجئنا إلى صاحب الشرطة، فسألناه في أمر الرجل.
فقال: الساعة - والله - وردت علي رقعة فلان، يسألني في أمره، فأطلقته.
فنهض أبو معشر مبادراً، وقال: إن لم أرف من أين أصاب الزراق في حكمه، ذهب عقلي، وخرقت كتبي، واعتقدت بطلان النجوم، ارجع بنا إليه.
قال: فرجعنا، فوجدناه في مكانه على الطريق.
فقال له أبو معشر: قم بنا، فأخذناه، وحمله إلى داره.
وقال له : أتعرفني؟ قال: لا.
قال:أنا أبو معشر المنجم.
فقبل الزراق يده، وقال: أستاذنا، وقد سمعت باسمك.
قال: دعني من ذلك، لك خمسة دنانير عيناً، وأصدقني من أين حكمت لنا بما حكمت به.
قال: أنا والله أصدقك، ولا أجسر آخذ منك شيئاً، وأنت أستاذ هذه الصناعة.
اعلم أني لا أحسن من النجوم شيئاً، وإنما أنا أزرق وأهذي على النساء، وبين يدي هذا التخت والإصطرلاب والتقويم للخلق حيلة.
ولكني قد صحبت أهل البوادي في وقت من الأوقات، وتعلمت منهم الزجر والفال والعيافة. وهم يعتقدون إذا سئلوا عن شيء أن ينظروا إلى أول ما تقع عليه عيونهم، فسيتخرجون منه معنى يجعلونه طريقاً لما يسألون عنه، وما يحكمون به.
فلما سألتني في أي شيء نمضي؟ تلجلجت، فوقعت عيني على سقاء معه ماء محبوس في قربته، فقلت: محبوس.
فقلت: هل يطلق أم لا؟ فنظرت أطلب شيئاً أزجره، فرأيت السقاء قد صب الماء، وهو يخرج من قربته، فقلت: إنكم تمضون وقد أطلق، فهل أصبت؟ فقال له أبو معشر: نعم، وفرجت عني أيضاً، أعطوه الدنانير، واصرفوه.
فأبى أن يأخذ، فما تركه أبو معشر حتى أخذها وخرج.
فطرح نفسه كالمستريح من أمر عظيم. ووضع يده على فؤاده، وقال: فرج عني.
بين الأمير الموفق وأبي معشر المنجمحدثني أبو أحمد عبد الله بن عمر بن الحارث الحارثي، قال:حدثني أبي، قال: كنت أحد من يعمل في خزانة السلاح للمعتمد وكنت قائماً بحضرة الموفق، في عسكره لقتال صاحب الزنج،وبحضرته أبو معشر، ومنجم آخر، أسماه أبي وأنسيته أنا.
فقال لهما: خذا الطالع في أضمرته منذ البارحة، أسألكما عنه، وأمتحنكما به، وأخرجا ضميري.
فأخذا الطالع، وعملا الزايرجه، وقالا جميعاً: تسألنا عن حمل ليس لإنسي.
فقال: هو كذلك، فما هو؟ قال: ففكرا طويلاً،ثم قالا: عن حمل لبقرة.
قال: هو كذلك فما تلد؟ قالا جميعاً: ثور.
قال: فما شيته؟ فقال أبو معشر: أسود في جبهته بياض.
وقال الآخر: أسود وفي ذنبه بياض.
قال الموفق: ترون ما أجسر هؤلاء، أحضروا البقرة، فأحضرت وهي مقرب.
فقال: اذبحوها، فذبحت، وشق بطنها، وأخرج منها ثور صغير أسود، أبيض طرف الذنب، وقد التف ذنبه، فصار على جبهته.
فتعجب الموفق، ومن حضره، من ذلك عجباً شديداً، وأسنى جائزتيهما. قال: وحدثني أبي، قال: كنت أيضاً بحضرة الموفق، وهذا المنجم، فقال لهما: معي خبيء، فما هو؟ فقال أحدهما، بعد أن أخذ الطالع، وعمل الزايرجه، وفكر طويلاً، وقال: هو شيء من الفاكهة. وقال أبو معشر: هو شيء من الحيوان.
فقال الموفق للآخر: أحسنت، وقال لأبي معشر: أخطأت، ورمى من يده تفاحة.
وأبو معشر قائم، فتحير، وعاود النظر في الزايرجه، ساعة، ثم عدا يسعى نحو التفاحة، حتى أخذها، فكسرها، ثم قال: الله أكبر، وقدمها إلى الموفق فإذا هي تنغش بالدود.
فهال الموفق من إصابته، وأمر له بجائزة عظيمة.
مما شاهده المؤلف من صحة أحكام النجوموهذا بعيد دقيق، ولكن فيما قد شاهدته من بعض صحة أحكام النجوم، كفاية.
هذا أبي حول مولد نفسه في السنة التي مات فيها، فقال لنا: هي سنة قطع على مذهب المنجمين، وكتب بذلك إلى بغداد، إلى أبي الحسن بن البهلول القاضي ينعي نفسه إليه، ويوصيه.

فلما اعتل أدنى علة، وقبل أن تستحكم علته، أخرج التحويل، ونظر فيه طويلاً، وأنا حاضر، فبكى، وأطبقه، واستدعى كاتبه، وأملى عليه وصيته التي مات عنها، وأشهد فيها من يومه. فجاءه أبو القاسم غلام زحل المنجم، فأخذ يطيب نفسه، ويورد عليه شكوكاً.
فقال: يا أبا القاسم، لست ممن يخفى هذا عليه، فأنسبك إلى غلط، ولا أنا ممن يجوز عليه هذا فتستغفلني، وجلس فواقفه على الموضع الذي خافه، وأنا حاضر.
ثم قال له أبي: دعني من هذا، بيننا شك في أنه إذا كان يوم الثلاثاء العصر، لسبع بقين من الشهر، فإنه ساعة قطع عندهم؟.
فأمسك أبو القاسم ولم يجبه، واستحيى منه أن يقول نعم، وبكى أبو القاسم غلام زحل لأنه كان خادماً لأبي.
وبكى أبي طويلاً، ثم قال: يا غلام الطست، فجاءه به، فغسل التحويل وقطعه، وودع أبا القاسم توديع مفارق.
فلما اكن في ذلك اليوم، العصر بعينه، مات، كما قال.
الأخذ بالحزم أولىأخبرني غير واحد من أصحابنا، أ، أبا محمد عبد الله بن العباس الرامهرمزي المتكلم، أخبره، قال: أردت الانصراف من عند أبي علي الجبائي إلى بلدي، فجئته مودعاً فقال لي: يا أبا محمد، لا تخرج اليوم، فإن المنجمين يقولون: إنه من سافر في مثله غرق، فأقم إلى يوم كذا وكذا، فإنه محمود عندهم.
فقلت: أيها الشيخ مع ما تعتقده في قولهم، كيف تجيء بهذا؟ فقال: يا أبا محمد، لو أخبرنا مخبر ونحن في طريق، أن فيه سبع، أليس كان يجب في الحكمة علينا أن لا نسلك ذلك الطريق، إذا قدرنا على سلوك غيره، وإن كان ممن يجوز عليه الكذب؟ قلت: نعم.
قال: فهذا مثله، وقد يجوز أن يكون الله تعالى أجرى العادات، بأن تكون الكواكب إذا نزلت هذه المواضع حدث كذا، والأخذ بالحزم أولى.
قال: فأخرت خروجي إلى اليوم الذي قاله.
أبو علي أحذق الناس بالنجومحدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: حدثني أبو هاشم الجبائي، قال: كان أبو علي من أحذق الناس بالنجوم، فولد في جواره مولود، فقال أبوه: إني أحب أن تأخذ طالعه.
قال: وكان ليلاً، فأخذ الاصطرلاب وعمل مولده، وحكم له بأشياء، صحت كلها بعد ذلك.
أبو الحسن الأهوازي وسابور ذو الأكتافجرى الحديث يوماً بحضرة أبي، في البخل والبخلاء، واختصاص الملوك بذلك، وكان أبو الحسن مطهر بن إسحاق بن يوسف الأهوازي الشاهد حاضراً فقال: دخلت يوماً إلى أبي عبد الله البريدي، وقد نصبت مائدته، فاستدعاني إليها، وكنت جائعاً، فأقبلت آكل منبسطاً.
فقدم جدي مشوي حار، فضربت يدي إلى كتفه، فأكلتها.
ثم قدم بعده ألوان أخر، وجدي بارد، فضربت يدي إلى كتفه فأكلتها.
ثم قد م بعده ألوان، وقدم جدي مبزر، فأخذت الكتف فأكلتها.
ثم جاء جدي بماء وملح، فجئت لآخذ الكتف، فسبقتني يد أبي عبد الله إليه، فكففت يدي.
فقال لي: يا أبا الحسن، أنت اليوم سابور ذو الأكتاف.
فاستحييت، وخجلت، وعلمت أنه ما قالها إلا من غيظ، فقصرت.
وتوقيت بعد ذلك مواكلته.
فقال أبي: ما كان أبو عبد الله بخيلاً على الطعام، وإنما كان نهماً، شديد الجوع، وكان في أول أكله، وإلى وسطه، يلحقه هذا النهم، وربما أطلق ما يشبه هذا، فيظن من لا يعرف طبعه أنه بخيل، ويحتاج من يواكله إلى التقصير، حتى يمضي نصف أكله.
فإذا مضى نصف أكله، انبسط، وانطلق وجهه، وساءه وغمه أن يقصر من يحضر في مواكلته، وقال: هوذاينسبوني إلى البخل ثم لا يأكلون.
أبو عبد الله الكرخي يحب مؤاكلة الأكولولكن أبا عبد الله بن القاسم الكرخي هو الجواد على الطعام والمال، ولقد دخلت إليه يوماً في الأهواز، وهو عاملها، أقلب عليه ثياباً، ولم تكن بيننا معرفة، فأخذ منها ما أراد، ووافقني على الأثمان، وطال جلوسي عنده، فجاء غلمانه بأطباق فاكهة، فقمت.
فقال: ما هذا الخلق النبطي يا أبا الحسن؟ اجلس، فجلست، وأخذنا في الأكل، وكنت جائعاً، فأقبلت آكل كمثراة، كمثراة، في لقمة، وخوخة خوخة، في لقمة، وتينة تينة، في لقمة، وهو ينظر إلى ذلك، ويستحسنه، ويضحك منه، ويعجبه ويستطرفه، وكان ضعيف الأكل جداً.
وكلما جئت لأقطع، حلف علي، ولقمني بيده.
ثم شيلت الفاكهة، وجاءوا بالطعام، وكانت هذه صورتي عنده، وانصرفت.
فلما كان من غد نصف النهار، وكنت جالساً في دكاني بالبزازين، فإذا بفراش ومعه غلام تحته بغل.

فقال: العامل يطلبك، فلم أدر ما هو، فركبت البغل وصرت إليه، وإذا المائة منصوبة، وهو ينتظرني.
فقلت: ما يأمر الأستاذ أيده الله؟ فقال: إني استطبت مؤاكلتك بالأمس، وأكلت فضلاً مما جرت عادتي به، فلما قدمت اليوم المائة، لم أتهنأ بالأكل، فعزلتها واستدعيتك، وأريد أن تجيني في كل يوم.
قال: فكنت أتأخر في الأيام، فيعاتبني، وينفذ إلي بغلاً أركبه.
وولد ذلك لي محلاً عظيماً في البلد، وجاهاً، وكسبت به عليه البز وغيره، مما رد إلي شراءه من جميع ما كان يحتاج إليه في داره، مالاً جليلاً.
بين أبي جعفر بن شيرزاد
وأبي عبد الله الموسويحدثنا أبو العباس هبة الله بن المنجم، قال: سمعت أبا عبد الله الموسوي العلوي، يقول: قصدني أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد في أيام تدبيره الأمر، قصداً قبيحاً، وعمل لي كتابة مؤامرة في خراجاتي، بمائة ألف درهم، أكثرها واجب علي، وباقيها كالواجب. وأحضرني للمناظرة عليها، فاعتقلني في داره.
فضقت ذرعاً بما نزل بي، وعلمت أن المال سيؤخذ مني إذا نوظرت، وأنه يؤثر في حالي، ويهتك جاهي، فلم أدر ما أعمل.
فشاورت بعض من يختص به، فقال: طمعه فيك - والله - قوي، وما ينفعك معه شيء غير المال. فقلت: فكر في حيلة أو مخادعة.
ففكر، ثم قال: لا أعرف لك دواء إلا شيئاً واحداً، أن سمحت به نفسك، وتركت العلوية عنك، وفعلته، نجوت.
فقلت: ما هو؟ قال:هو رجل سمح على الطعام، محب لأكله على مائدته، موجب لحرمته، وأرى لك، إذا وضع طعامه، أن تخرج إليه، فإنك معه في الدار، ولا يمنعك الموكلون من ذلك، فتجيء بغير إذن، فتجلس على المائدة، وتأكل، وتنبسط، وتخاطبه في أمرك عقيب الأكل، وتسأله، وترفق به، وتخضع له، فإنه يسامحك بأكثرها، ويقرب ما بينك وبينه.
فشق ذلك علي، ثم نظرت، فإذا وزن المال أشق منه.
وكان أبو جعفر، لا يأكل إلا بعد المغرب، في كل يوم مرة، فلم آكل ذلك اليوم شيئاً، وراعيت مائدته؟، فلما وضعت المائدة، قمت.
فقال الموكل: إلى أين؟ قلت: إلى مائدة الوزير، فما قدر أن يمنعني، وجاء معي.
فلما رآني أبو جعفر، أكبر ذلك، وتهلل وجهه، وقال: إلى عندي يا سيدي، إلى عندي، وأجلسني إلى جنبه، وأقبلت آكل، وأنبسط في الأكل والحديث، إلى أن رفعت المائدة، وقام أبو جعفر، وقمنا، وشيلت المائدة، واستدعاني إلى موضعه، فغسلت يدي بحضرته.
فلما فرغت، أردت أن أبتدأه بالخطاب، فقال لي: قد آذيتك يا سيدي أبا عبد الله بتأخيرك عن منزلك، فامض إلى بيتك، وما أخاطبك بشيء مما في نفسي، ولا فيما أردت مخاطبتك فيه، ولا مطالبة عليك من جهتي بعدما تفضلت به.
فشكرته، وقلت: إن رأى سيدنا أيده الله، أن يتمم معروفه علي بتسليم المؤامرة إلي، فعل.
فقال: هاتموها، فما برحت، إلا وهي معي في خفي، وانصرفت إلى منزلي، وسقط المال عني. ولزمته للسلام، وصرت أتعد مؤاكلته، والتخصص به، فسلمت عليه طول أيامه، وسلم مالي وجاهي عليه، إلى أن مضى.
اللص والعجوز الجلدة أم الصيرفيحدثني أبو جعفر محمد بن الفضل بن حميد الصيمري، مؤدبي، قال: كان في بلدنا عجوز صالحة، كثيرة الصيام والقيام، وكان لها ابن صيرفي منهمك على الشرب واللعب.
وكان يتشاغل بدكانه أكثر نهاره، ثم يعود عشياً إلى منزله، فيخبئ كيسه عند والدته، ويمضي، فيبيت في مواضع يشرب فيها.
فعين بعض اللصوص على كيسه ليأخذه، وتبعه في بعض العشايا، ودخل ورائه إلى الدر، وهو لا يعلم، فاختفى فيها، وسلم هو كيسه إلى أمه، وخرج، وبقيت وحدها في الدار.
وكان لها في دارها، مؤزر بالساج إلى أكثر حيطانه، عليه باب حديد، تجعل قماشها وكل ما تملكه فيه، والكيس، فخبأت الكيس فيه تلك الليلة خلف الباب، وجلست فأفطرت بين يديه.
فقال اللص: هذه الساعة تفطر، وتكسل، وتنام، وأنزل فأفتح الباب وآخذ الكيس والقماش.
قال: فلما أفطرت، قامت إلى الصلاة، فظن اللص أنها تصلي العتمة وتنام.
فانتظرها، فمدت الصلاة، وتطاول عليه الأمر، ومضى نصف الليل.
وتحير اللص مما نزل به، وخاف أن يدركه الصبح، ولا يظفر بشيء.

فطاف بالدار، فوجد إزاراً جديداً، وطلب جمراً فظفر به، ووقع في يده شيء كلن لهم فيه دخنة طيبة، فلبس الإزار، وأشعل ذلك البخور، وأقبل ينزل على الدرجة، ويصيح بصوت غليظ وتعمد أن يجعله جهورياً، لتفزع العجوز.
وكانت معتزلية جلدة، ففطنت لحركته، وأنه لص،فلم تره أنها فطنت.
وقالت: من هذا؟ بارتعاد وفزع شديد.
فقال لها: أنا رسول الله رب العالمين، أرسلني إلى ابنك هذا الفاسق، لأعظه، وأعامله بما يمنعه من ارتكاب المعاصي.
فأظهرت أنها قد ضعفت، وغشي عليها من الجزع، وأقبلت تقول: يا جبريل، سألتك بالله، إلا رفقت به، فإنه واحدي.
فقال اللص: ما أرسلت لقتله.
فقالت: فما تريد؟ وبما أرسلت؟ قال: لآخذ كيسه. وأؤلم قلبه بذلك، فإذا تاب رددته إليه.
فقالت: شأنك، يا جبريل، وما أمرت.
فقال: تنحي من باب البيت.
فتنحت، وفتح هو الباب ودخل ليأخذ الكيس والقماش، واشتغل في تكويره.
فمشت العجوز قليلاً قليلاً، وجذبت الباب بحمية، فردته، وجعلت الحلقة في الرزة، وجاءت بقفل، فقفلته.
فنظر اللص إلى الموت بعينه، ورام حيلة في داخل البيت، من نقب أو منفذ، فلم يجدها.
فقال لها: افتحي الباب لأخرج، فقد اتعظ ابنك.
فقالت: يا جبريل، أخاف أن أفتح الباب، فتذهب عيني من ملاحظتي لنورك.
فقال: إني أطفئ نوري حتى لا تذهب عينك.
فقالت: يا جبريل، إنك رسول رب العالمين، لا يعوزك أن تخرج من السقف أو تخرق الحائط بريشة من جناحك، وتخرج، فلا تكلفني أنا التغرير ببصري.
فأحس اللص بأنها جلدة، فأخذ يرفق بها، ويداريها، ويبذل التوبة.
فقالت له: دع ذا عنك، لا سبيل إلى الخروج إلا بالنهار، و قامت تصلي، وهو يهذي، ويسألها ، وهي لا تجيبه، حتى طلعت الشمس وجاء ابنها، فعرف خبرها، وحدثته بالحديث، فمضى وأحضر صاحب الشرطة وفتح الباب، وقبض على اللص.
من بركة المعتزلة إن صبيانهملا يخافون الجن سمعت جماعة من أصحابنا، يقولون من بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن.
وقد حكي لنا: أن لصاً حصل في دار معتزلي، فأحس به، فطلبه، فنزل إلى بئر في الدار.
فأخذ الرجل حجراً عظيماً ليدليه عليه، فخاف اللص التلف.
فقال له: الليل لنا والنهار لكم، يوهمه أنه من الجن.
فقال له المعتزلي: فزن معي نصف الأجرة، ورمى بالحجر فهمشه.
فقال له: متى يأمن أهلك من الجن ؟ فقال المعتزلي: دع ذا عنك واخرج.
فخرج وخلاه.
محدث قارب المائة يتواجد في مجلس
خاطف المغنيةسمعت أبي، قال: جئت إلى أبي القاسم ابن بنت منيع،لأكبت عنه الحديث، فقال لي في منزله: قد توجه في حاجة له وكان سنه إذ ذاك نحو مائة سنة.
فجلسنا ننتظره، فإذا به قد جاء محمولاً، فألقي كالمغشي عليه، واستراح.
فقلنا له: يا أبا القاسم، ما كان هذا الأمر العظيم حتى خرجت فيه بنفسك، ألا كلفتنا حاجتك؟ فقال: ليس هذا مما أكلفكم إياه، مضيت إلى مجلس ستي خاطف، فسمعتها، وتواجدت من قولها. قال: فعجبنا من شيخ محدث يحضر مجلس امرأة تغني بالقضيب.
وأخبرني جماعة أثق بهم، أنها تدعى إلى هذا الوقت، وتغني بالقضيب وأن لها حول السبعين سنة.
وأخبرني أبو الحسن بن الأزرق، أيضاً في سنة إحدى وستين وثلثمائة، أنها توفيت في منزلها في جواره في هذه السنة.
الباغندي المحدث يخطئ في موضعينحدثني أبو الطيب بن هرثمة : أنه سمع الباغندي المحدث، يقول لجارية كانت تخدمه وقد حرد عليها: ذهب زمانك الذي كنت تخضبين فيه خديك بالكلكين.
يريد : تطلين إلى وجهك الكلكون.
وأنه سمعه قال، في حديث حدث به، في قوله تعالى: " وفاكهة وأبا " ، فقال: فاكهة وأنا.
حكاية تدل على ذكاء القردحدثني أبو الطيب محمد بن أحمد بن عبد المؤمن، أحد الصوفية الطياب من أهل سر من رأى، ثم مر ببغداد، وأقام بالأهواز طويلاً، وتوكل على أبواب القضاة، وعاش نحو السبعين سنة، وكان ماجناً، خفيف الروح، قال: بت ليلة في خان، ومعنا قراد، ومعه قرد، وكنا كلنا في بيت واحد ضيق.
ففسا بعض من كان معنا، وزاد في الفسا.
فلم يزل القرد يجيء إلى فقحة كل واحد منا فيشمها، ويقف عندها ساعة، إلى أن وقع على فقحة الرجل الذي يفسو.

قال: فرأيته، وقد جاء إلى قطن كان مع صاحبه، فاستخرج منه كبة، وأخذها بيده، ثم جاء إلى سراويل الذي يفسو، فخرقه، فلم يزل يدس القطن في حجره.
هذا من تعليم القردوأخبرني أن بعض الصوفية حدثه: أنه اجتمع في بيت واحد من خان، مع قراد أمرد، فراوده عن نفسه، فحين حصل فوقه، التمس منه تمكينه من إتيانه في ذاته، فامتنع.
فأومأ إلي القرد بيده، وأخرج عليها بصاقا ًمن فيه،ولم يزل يضعه بها هكذا إلى نفسه.
قال: فأقحمت على الغلام.
فقال: هذا والله من تعليم القرد، فضحكت.
فلما نزلت عنه، قام إلى القرد، يضربه ويقول: يا فاعل، يا صانع علمته علي.
قال: فلم أزل به حتى خلصته من يده.
القرود والقلانسوأخبرني بعض من سافر في الآفاق، وهو أبو غانم عبد الملك بن علي السقطي البصري: أنه كان في بعض طرقات اليمن، ومعهم رجل معه قفص فيه قلانس. فأصابتهم سماء، فابتلت القلانس، فأخرجها الرجل، فشرها في الشمس، لما نزلوا.
وإذا بقطعة عظيمة من القرود، قد أحاطوا بالقافلة، فلما رأوا القلانس، وكانت خارجة عن القافلة بالقرب منا، وقفوا ينظرون إليها.
فجاء قرد كبير يقدمهم، فلبس في رأسه واحدة، وأخذ كل واحد منهم واحدة فلبسها إلى أن فنيت القلانس.
فتأملت صاحبها يلطم ويقول: إن مضوا هؤلاء، وهي على رؤوسهم، افتقرت، فإني لا أملك غير هذه القلانس.
فقال أهل القافلة: اجلس، واسكت، ولا تهجهم، فجلس.
فلما كان بعد ساعة، وضع القرد الكبير القلنسوة من رأسه، فوضعوا كلهم القلانس، وانصرف، فتبعوه في الانصراف.
وقام الرجل إلى قلانسه فجمعها.
القرود المستأنسة في اليمن تشتري
الحاجات من السوقوحدثني أيضاً، قال: رأيت قروداً عدة مستأنسة ببلدان اليمن، القرد منها يخرج بالزنبيل من منزل صاحبه، ومعه الفضة، فيقف على بائع اللحم، والخبز، وغيرها، ويومئ له بما يريد، ويعطيه ثمنه، ويحمل الحاجة إلى منزل صاحبه.
أبو عبد الله المزابلي والروح الأمين
جبريل رسول رب العالمينوحدثني أبي، قال: كان عندنا بجبل أنطاكية، المعروف بجبل اللكام، رجل يتعبد، يقال له: أبو عبد الله المزابلي. وسمي بذلك، لأنه كان بالليل يدخل إلى البلد، فيتتبع المزابل، فيأخذ ما يجده فيها، فيغسله، ويقات به، لا يعرف قوتاً غير ذلك، وأن يتوغل في جبل اللكام، فيأكل من الأثمار المباحة فيه. وكان صالحاً مجتهداً، إلا أنه كان حشوياً، غير وافر العقل، وكانت له سوق عظيمة في العامة بأنطاكية.
وكان بها موسى بن الزكوري صاحب المجون والسفه في شعره والحماقات وكان له جار يغشى المزابلي.
فجرى بين موسى بن الزكوري، وجاره ذاك شر، فشكاه إلى المزابلي فلعنه المزابلي في دعائه، وكان الناس يقصدونه في كل يوم جمعة غدوة، فيتكلم عليهم ويدعو.
فلما سمعوا لعنه لابن الزكوري، جاء الناس إلى داره أرسالاً لقتله، فهرب، ونهبت داره، وطلبته العامة فاستر.
فلما طال استتاره، قال: إني سأحتال على المزابلي بحيلة أتخلص منه بها، فأعيوني، فقلت: ما تريد؟ فقال: أعطوني ثوباً جديداً، وشيئاً من الند والمسك، ومجمرة، وناراً وغلماناً يؤنسوني الليل في الطريق إلى الجبل.
قال أبي: فأعطيته ذلك كله.
فلما كان في نصف الليل ، مضى، وخرج الغلمان معه إلى الجبل، حتى صعد فوق الكهف الذي يأوي إليه المزابلي، فبخر بالند والمسك، فدخلت الريح إلى كهف أبي عبد الله، وصاح بحلق عظيم: يا أبا عبد الله المزابلي.
فلما شم تلك الرائحة، وسمع الصوت، أنكرهما.
فقال ما لك عافاك الله، ومن أنت؟ فقال ابن الزكوري: أنا الروح الأمين جبريل، رسول رب العالمين، أرسلني إليك.
فلم يشك المزابلي في صدق القول، فأجهش بالبكاء والدعاء، وقال: يا جبريل ، من أنا حتى يرسلك رب العلمين إلي.
فقال:الرحمان يقرؤك السلام، ويقول لك موسى بن الزكوري غداً رفيقك في الجنة.
فصعق أبو عبد الله، وسمع صوت الثياب، وقد كان خرج فرأى بياضها، فتركه موسى ورجع. فلما كان من الغد، كان يوم جمعة، فأقبل المزابلي يخبر الناس برسالة جبريل، ويقول: تمسحوا بابن الزكوري، واسألوه أن يجعلني في حل، واطلبوه لي.
فأقبل العامة أرسالاً إلى دار ابن الزكوري، يطلبونه ليتمسحوا به ويستحلوه للمزابلي، وأمن على نفسه.
عيار بغدادي يحتال على أهل حمصحدثني أبو الطيب بن عبد المؤمن، قال: خرج بعض حذاق المكدين من بغداد إلى حمص، ومعه امرأته.
فلما حصل بها، قال لها: إن هذا بلد حماقة ومال، وإني أريد أن أعمل معيياً - قال: وهذه كلمة لهم إذا أرادا أن يعملوا حيلة كبيرة - فساعديني عليها بالصبر.
قالت: شأنك.
فقال: كوني بموضعك، ولا تجتازين بي البتة، وإذا كان كل يوم خذي لي ثلثي رطل زبيباً، وثلثي رطل لوزاً نياً، فاعجنيه، واجعليه وقت الهاجرة على آجرة نظيفة، لأعرفها، في الميضأة الفلانية، وكانت قريبة من الجامع، ولا تزيديني على هذا شيئاً، ولا تمرين بناحيتي.
فقالت: أفعل.
قال: وجاء هو، وأخرج جبة صوف كانت معه، فلبسها، وسراويل صوف، ومئزراً جعله على رأسه.
واعتمد اسطوانة في الجامع بحيث يجتاز عليها أكثر الناس، فلزمها يصلي نهاره أجمع، وليله أجمع، ولا يستريح إلا في الأوقات المحضورة فيها الصلاة، وإذا جلس للراحة سبح، ولم ينطق بلفظة.
ولم يشعر به أياماً، ثم تنبه على مكانه.
وروعي مدة، وعرف خبره، ووضعت العيون عليه، فإذا هو لا يقطع الصلاة، ولا يذوق الطعام، فتحير أهل البلد في أمره.
وكان لا يخرج من الجامع إلا في الهاجرة، في كل يوم دفعة، حتى يمضي إلى تلك الميضأة، فيبول، ويعمد إلى تلك الآجرة، وقد عرفها، وعليها ذلك المعجون، وقد صار مستحيلاً، وصورته صورة الغائط الناشف المستحيل، فمن يدخل ويخرج، لا يشك أنه غائط، فيأكله، ويقيم أوده، ويرجع، فإذا تمسح لصلاة العتمة في الليل، شرب كفايته من الماء.
وأهل حمص يظنون أنه لا يذوق الطعام، وأنه طاو طول تلك المدة.
فعظم شأنه ومحله عندهم، وقصدوه،وكلموه، فلم يجب، وأحاطوا به، فلم يلتفت، واجتهدوا في خطابه،فلزم لهم الصمت والعمل.
فزاد محله عندهم، حتى أنهم كانوا إذا خرج للطهور، جاءوا إلى موضعه فيتمسحون به، ويأخذون التراب من موضع مشيه، يحملون إليه المرضى فيمسح بيده عليهم.
فلما رأى أن منزلته قد بلغت إلى ذلك، وكان قد مضى على هذا الفعل سنة، اجتمع في الميضأة مع امرأته، وقال: إذا كان يوم الجمعة كما تصلي الناس، فتعالي، فعلقي بي، والطمي وجهي، وقولي لي: يا عدو الله يا فاسق، قتلت ابني ببغداد، وهربت إلى هاهنا، وجئت تتعبد، وعبادتك مضروب بها وجهك.
ولا تفارقيني، وأظهري أنك تريدين قتلي بابنك، فإن الناس يجتمعون عليك، وأمنعهم أنا من أذيتك، وأعترف بأني قتلته، وتبت، وجئت إلى هاهنا، للعبادة والتوبة، والنم على ما كان مني. فاطلبي قودي بإقراري، وحملي إلى السلطان، فسيعرضون لك الدية فلا تقبليها، أو يبذلوا لك عشر ديات، أو ما استوى لك بحسب ما تريدين من زيادتهم، وحرصهم.
فإذا تناهت عطيتهم في ٍافتدائي إلى حد يقع لك أنهم لا يزيدون بعده شيئاً، فاقبلي الفداء منهم، واجمعي المال، وخذيه، واخرجي من يومك عن البلد إلى طريق بغداد، فإني سأهرب، وأتبعك.
فلما كان من الغد جاءت المرأة، فلما رأته، فعلت به ما قال لها، ولطمته وقالت المقالة التي علمها.
فقام أهل البلد ليقتلوها، وقالوا: يا عدوة الله، هذا من الأبدال هذا من قوام العالم، هذا قطب الوقت، هذا صاحب الزمان، هذا، هذا.
فأومأ إليهم أن أبصروا ولا تنالوها بسوء ،فاصبروا، وأوجز صلاته، ثم سلم، وتمرغ في الأرض طويلاً.
ثم قال للناس هل سمعتم لي كلمة منذ أمت فيكم؟ فاستبشروا لسماع كلامه، وارتفعت صيحة عظيمة، وقالوا: لا.
قال: فإني إنما أقمت عندكم تائباً مما ذكرته، وقد كنت رجلاً في زيغ وخسارة، فقتلت ابن هذه المرأة، وجئت إلى هاهنا للعبادة، وكنت محدثاً نفسي بالرجوع إليها، وطلبتها لتقيدني، خوفاً من أن لا تكون توبتي قد صحت، وما زلت أدعو الله تعالى أن يقبل توبتي، ويمكنها مني، إلى أن أجيبت دعوتي، وقبل الله توبتي، لما جمعني وإياها، ومكنها من قودي، فدعوها تقتلني، وأستودعكم الله تعالى.
قال: فارتفعت الصيحة والبكاء.
وقال له هذا: يا عبد الله ادع لي .
وقال له هذا: ادع لي.
وأقبلت المرأة بين يديه، وهو مار إلى والي البلد، وهو يمشي على تأن ورفق، ليخرج من الجامع إلى دار الأمير، فيقتله بابنها.
فقال الشيوخ: يا قوم لم ضللتم عن مداواة هذه المحنة؟ وحراسة بلدكم بهذا العبد الصالح؟ فارفقوا بالمرأة، وسلوها قبول الدية، ونجعلها من أموالنا.

فأطافوا بها، وسألوها فقالت: لا أفعل.
قالوا: خذي ديتين.
فقالت: شعرة من ابني بألف دية.
فما زالوا حتى بلغوا عشر ديات.
فقالت: اجمعوا المال، فإذا رأيته، إن طاب قلبي بقبوله، والعفو عن الدم، فعلت، وإلا قتلت القاتل.
فقالوا: نعم.
فقال الرجل: قومي عافاك الله، ورديني إلى موضعي من الجامع.
قالت: لا أفعل.
قال: فذاك إليك.
فما زالوا يجمعون إلى أن جمعوا مائة ألف درهم، فقالوا: خذيها.
قالت: لا أريد إلا قتل قاتل ابني، فهو آثر في نفسي.
فأقبل الناس يرمون بثيابهم، وأرديتهم، وخواتيمهم، والنساء بحليهن، والرجال كل يرمي بشيء من متاعه، ومن لم يتحمل من ذلك الفداء، كان في أمر عظيم، وكأنه قد خرج من الدنيا. فأخذته، وأبرأته من الدم، وانصرفت.
فأقام الرجل في الجامع أياماً يسيرة، حتى علم أنها قد بعدت، ثم هرب في بعض الليالي، وطلب من غد فلم يوجد، ولا عرف له خبر.
حتى انكشف لهم أنها حيلة عملها، بعد مدة طويلة.
صوفي سمع، فطرب، فتواجد، فماترأيت ببغداد صوفياً يعرف بأبي الفتح، أعور، في مجلس أبي عبد الله ابن البهلول، يقرأ بألحان، قراءة حسنة، وصبي يقرأ " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " .
فزعق الصوفي: بلى، بلى، دفعات، وأغمي عليه طول المجلس، وتفرق الناس عن الموضع. وكان الاجتماع في صحن دار كنت أنزلها، فلم يكن الصوفي أفاق، فتركته مكانه، فما أفاق إلى قرب العصر، ثم قام.
فلما كان بعد أيام، سألت عنه فعرفت أنه حضر عند جارية بالكرخ، تقول بالقضيب، فسمعها تقول الأبيات التي فيها:
وجهك الميمون حجتنا ... حين تأتي الناس بالحجج
فتواجد ودق صدره، إلى أن أغمي عليه، فسقط.
فلما انقضى المجلس، حركوه، فوجدوه ميتاً، فشالوه، ودفنوه، واستفاض الخبر بهذا وشاع. والأبيات لعبد الصمد بن المعذل، وهي في أمالي الصولي عنه بإسناد ثابت في أصول سماعاتي:
يا بدع الدل والغنج ... لك سلطان على المهج
إن بيتاً أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج
لا أتاح الله لي فرجاً ... يوم أدعوا منك بالفرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم تأتي الناس بالحجج
والصوفية، إذا قالوا: وجهك المأمول، يقبلونه إلى ما لهم في ذلك من المعاني.
وكانت قصة هذا الرجل، وموته في سنة خمسين وثلثمائة، وأمره من مفردات الأخبار.
؟
مكديان بغداديان يحتالان على الناسحدثني جماعة من شيوخ بغداد: إنه كان بها في طرفي الجسر سائلان أعميان، يتوسل أحدهما بأمير المؤمنين علي عليه السلام، والآخر بمعاوية، ويتعصب لهما الناس، وتجيئهما القطع دارة.
فإذا انصرفا جميعاً، اقتسما القطع، وإنهما كانا شريكين، يحتالان بذلك على الناس.
كلنا صيادون لكن الشباك تختلفحدثني أبو أحمد عبد السلام بن عمر بن الحارث، قال: جاء رجل من الصوفية إلى بجكم وهو بواسط، فوعظه، وتكلم عليه بالفارسية والعربية، حتى أبكاه بكاء شديداً.
فلما ولى من بين يديه خارجاً، قال بجكم لبعض من بحضرته: احمل معه ألف درهم، وادفعها إليه.
قال: فحملت، فأقبل بجكم على من بين يديه، فقال: ما أظنه يقبلها وهذا محترق بالعبادة، أيش يعمل بالدراهم.
قال: فما كان بأسرع من أن رجع رسوله الذي كان أنفذه بالدراهم، فارغ اليد.
فقال له بجكم: أي شيء عملت؟ قال: أخذت إليه الدراهم، وأعطيته إياها.
قال بجكم: فأخذها؟ قال: نعم.
فعض بجكم على شفتيه، وقال: إنا لله، حيلة تمت على، كلنا صيادون لكن الشباك تختلف.
تاجر يتحدث عن صفقة عقدها
وراء باب الأبوابوحدثني أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، عن رجل من التجار الموغلين في الأسفار، قال: سافرت إلى وراء باب الأبواب بمسافة بعيدة ومعي متاع.
فبلغت أرضاً لها أهل بيض شقر، مرط، دقاق، قصر، عراة، قليلوا الأظفار، لغتهم لغة غير الفارسية والتركية، لا أعرفها، لا أعرفها، لا ورق، في بلادهم، ولا عين، وإنما يتعاملون بالأمتعة، والأغلب عندهم الغنم.
فحملت إلى ملكهم، فعرضت عليه ما معي، فاستحسن منه ثوب ديباج كان معي، منقط، فسألني عن ثمنه، فاستمت مالاً كثيراً.
فقال لي: لا مال عندنا، وإنما هي هذه الأمتعة، فإن صلحت لك، فخذ ما شئت.

فقلت: لا تصلح لي.
فقال: فالغنم؟ فقلت: كم عساك تعطيني؟ فقال: حكمك.
فقلت: بعدد كل نقطة في الثوب شاة.
فقال: قد أجبتك.
فأخذت أعد النقط، فلم ينضبط لي ذلك، وجهد جميع من عنده في هذا، فتعذر عليهم.
فقال لي: ما نعمل الآن، قد تعبنا، وأتعبناك في شيء لا يصح، فهممت بحمل الثوب والانصراف.
ففكر ساعة، ثم قال لترجمانه: قل له يبسط الثوب.
وكان له ترجمانان، يكلم أحدهما بلغته، فيكلم الترجمان، ترجماناً آخر، بلغة أخرى، فيكلمني ذاك بالفارسية، فأفهم.
قال: فبسطت الثوب، وأمر الملك، فأضر كل ما قدر عليه من حصى صغار وأحجار لطيف، فترك على كل نقطة حصاة، حتى امتلأ الثوب بالحصى والحجارة اللطاف، فوق النقط.
ثم أمر بجمع أمر عظيم من الغنم، وأوقفت بحضرته، وأمر رجالاً أن يجلسوا، ورجالاً أن يقوموا، فجلس بعضهم على الثوب.
فكانوا يأخذون حصاة حصاة فيلقونها عن الثوب، فكلما ألقى من الجلوس رجل حصاة، أخذ رجل من القيام، شاة من الموضع الذي فيه الغنم إلى رحلي، وسلمت إلى أصحابي، حتى استوفيت على عدد الحصى الذي كان فوق الثوب، بكل نقطة شاة.
قال: فاستحسنت فطنته لذلك، فقلت للتراجم: قولوا له: ما أنصرف إلى بلدي بشيء أحسن من فطنة الملك، لاستخراج هذا، فكيف وقع له هذا وهو لا يلابس مثله؟ وأنا تاجر، ما وقع لي ، ولا لجميع أهل مملكته.
قال: فأعجبه قولي، وقال: إنك لما أردت الانصراف، تأسفت على ما يفوتني من الثوب، ففكرت، والملوك لا بد أن يدبرهم الملك، ويسير لهم مزية في حيل الرأي في الحوادث التي تطرقهم، ليست لغيرهم، لأن أفكارهم صافية من الاهتمام بما يهتم به غيرهم من المعايش، موقوفة على مصالح المملك، ومداراة الخوارج، أو على الشهوات، قد ما شغلوا به نفوسهم، وليس يتحصل لواحد منهم الملك، إلا لشرفه، ومعنى قد فضل به، وتقدم من أجله، إما بسعادة تخدمه، أو بفضل في نفسه، فلما رأيت أن الثوب يريد أن يفوتني، فكرت، كيف الحيلة في عد النقط، فوقع لي ما رأيت.
فقلت له: أيها الملك، فائدتي بما سمعته منك، من هذا الكلام، أحب إلي من فائدتي بما ربحته عليك من ثمن الثوب.
قال: فأجازني بجائزة سنية، وأصحبني من آنسني، وخدمني في طريقي، وحمل معي تلك الغنم، إلى أن خرجت من أعماله، فبعنها بمال عظيم.
أبو علي الأنباري والطبيب الأنباري
و الطبيب يوحنا الأهوازيحدثني أبو علي الأنباري، قال: كنت بحضرة أبي يوسف البريدي، فكتبت كتباً كثيرة ، وحمي النهار فقمت ضجراً، أمشي في الصحن الأعظم من الدار، فلقيت يوحنا الطبيب الأهوازي النصراني، فقال: يا أبا علي افتصد الساعة، وإلا طعنت.
فقلت: أمس افتصدت.
قال: فحل إزارك، وسراويلك.
قال: فوقفت، وفعلت ذلك.
فقال لي: لو لم يتغير لونك إلى الإسفار، لفصدتك ثانية.
قال: فعجبت من فطنته واجتماع الدم في وجهي، ومعالجته بسرعة.
طبيب يتحدث عن بعض خواص النارنجوحدثني أبو علي، قال: دخل يوحنا يوماً إلى داري، وبحضرتي مطاولات كثيرة، فيها نارنج، فحين رآها، قال يوحنا: منذ كم هذه الأطباق عندك؟ فقلت: منذ أيام.
فقال: إنا لله، تقدم برفعها الساعة، وإلا لم أجلس وهي أمامي.
فقلت: شيلوها.
ثم قلت: ما السبب في هذا؟ فقال: إن النارنج خاصيته أن يرعف، وإنه لا يرعف أحد عقيب إدمانه شمه رعافاً يكون سببه شمه أو بالاتفاق، إلا يدوم رعافه إلى أ، يموت، فلا حيلة فيه.
من شعر أبي القاسم الصرويأنشدني أبو القاسم الصروي لنفسه:
ويوم كيوم البين حراً قطعته ... على سابح طاوي الأياطل سابق
أخوض عليه جمرة القيظ حاسراً ... كأني على الهجران في قلب عاشق
الجزء الثالث
الأمين لا يتهمحدثني أبو العباس محمد بن نصر الشاهد، قال: كان أبو عبد الله جعفر بن قاسم الكرخي، كتب إلى أبي جعفر بن معدان، أن يختار له وكيلاً، ينظر له في ضيعته بالأهواز، فاختار له عمر بن محمد الأشجعي، صاحبه، فنظر في الضيعة سنين.
ثم ولي الكرخي الأهواز، ووردها، فطالب الأشجعي بالحساب، فرفعه، وتتبعه كاتبه، فخرجوا عليه فيه ستة آلاف دينار.
فأمر الكرخي، فلوزم الأشجعي في دهليزه، وطولب بالمال، فكتب إلى ابن معدان بخبره.

قال: وكان رسم الكرخي، أن يستدعي أبا جعفر بن معدان، في كل يوم، إلى طعامه، فاستدعاه في ذلك اليوم، فتأخر، وراسله، بأنه من كان صاحبه، وثقته، واختياره، متهماً، مسلطاً عليه محالات الكتاب، معتقلاً، لا يستدعي للمراكلة.
قال: فامتنع الكرخي من الأكل، وأنفذ إليه الأشجعي، مع كاتب له، والحساب، وقال: والله ما كنت بالذي أدع محالاً يستمر على صاحبك، وما أخرج عليه إلا شيئاً صحيحاً، وقد يجوز أن يكون ضيع ذلك، ولم يتناوله، ولعمري إن من يكون اختيارك، وثقتك، لا يخون، ولم يك ملازماً، وإنما أجلسته انتظاراً لك، لتجيء فتدبر أمره، وإذا كان ذلك قد شق عليك، فمالي لك، وهذا الرجل والحساب، إن شئت أن تستوفي لي ذلك، أو بعضه، أو تدعه جميعه، فافعل، ولا تتأخر عني، فلست آكل، أو تجيء.
قال: فأطلق الأشجعي إلى منزله، وركب هو إلى الكرخي، ثم لم يعاود أحدهما صاحبه في معنى الأشجعي بكلمة، وفاز بالدنانير.
ومضت القصة على ذلك.
يرى مناماً فيمزق كتاباً
حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن مروان، قال: حدثني خالي محمد بن هارون، قال: قال لي بعض أصحابنا: كنت في بعض الليالي، أنظر في كتاب التشريح لجالينوس، فغلبتني عيني، فرأيت هاتفاً، يهتف بي، ويقرأ: " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض، ولا خلق أنفسهم، وما كنت متخذ المضلين عضداً " .
فاستيقظت، ومزقت الكتاب.
القاضي أبو خازم يتأنى في أحكامهوحدثني القاضي أبو بكر، قال: حدثني مكرم بن بكر، قال: كنت في مجلس أبي خازم القاضي، فتقدم رجل شيخ، ومعه غلام حدث، فاستدعى الشيخ عليه ألف دينار عيناً ديناً.
فقال له: ما تقول؟. فأقر.
قال: فقال للشيخ: ما تشاء؟ قال: حبسه.
فقال للغلام: قد سمعت، فهل لك في أن تنقده البعض، وتسأله الإنظار؟ قال: لا.
فقال الشيخ: إن رأى القاضي أن يحبسه.
قال: فتفرس أبو خازم فيهما ساعة، ثم قال: تلازما، إلى أن أنظر بينكما في مجلس آخر.
قال: فقلت لأبي خازم، وكانت بيننا مودة وأنسة: لم أخر القاضي حبسه؟ فقال: ويحك إني أعرف في أكثر الأحوال، في وجوه الخصوم، وجه المحق من المبطل، وقد صارت لي بذلك دربة لا تكاد تخطىء، وقد وقع لي أن سماحة هذا بالإقرار، هي عن بلية، وأمر يبعد عن الحق، وليس في ملازمتهما بطلان حق، ولعله أن ينكشف لي من أمرهما شيء، أكون معه في الحكم على ثقة، أما رأيت قلة تغاضبهما في المناظرة؟ وقلة اختلافهما؟ وسكون جأشهما، مع عظم المال، وما جرت عادة الأحداث بفرط التورع، حتى يقر مثل هذا طوعاً، عجلاً، بمثل هذا المال.
قال: فبينا نحن كذلك نتحدث، إذ استؤذن على أبي خازم، لبعض وجوه تجار الكرخ، ومياسيرهم، فأذن له، فدخل، وسلم عليه، وسبب لكلامه، فأحسن، ثم قال: قد بليت بابن لي حدث، يتلف مالي في القيان والبلاء، عند مقين يعرف بفلان، - وأسماه - فإذا منعته مالي، احتال بحيل تضطرني إلى غرم له، وإن عذلته عن ذلك، وعددت حالي معه، طال، وأقربه اليوم، إنه قد نصب المقين، ليطالبه بألف دينار عيناً، ويجعل ذلك ديناً حالاً، وبلغني أنه قد تقدم إلى القاضي، فيطالبه، فيحبس، وأقع مع أمه في بلية وتنغيص عيش، إلى أن أؤدي ذلك عنه إلى المقين، فإذا قبضه المقين، حاسبه به من الجذور.
ولما سمعت ذلك، بادرت إلى القاضي لأشرح له الأمر، فيداويه بما يشكره الله تعالى عليه، فجئت، فوجدتهما على الباب.
فحين سمع أبو خازم ذلك، تبسم، وقال لي: كيف رأيت؟ قال: فقلت: هذا، ومثله، من فضل الله عز وجل، على مولانا القاضي وجعلت أدعو له.
فقال: علي بالغلام والشيخ، فأدخلا.
فأرهب أبو خازم الشيخ، ووعظ الغلام، فأقر الشيخ أن الصورة كما بلغت القاضي، وأن لا شيء له عليه.
وأخذ الرجل بيد ابنه، وانصرفا.
أبو جدي كنية التيسقال لي القاضي: كان مكرم هذا، من فضلاء الرجال، وعلمائهم، وكنت أرى رجلاً يدعوه: أبا جدي.
فقلت له: ما غرضك؟ فقال: ألست تعلم أن أبا الجدي، هو التيس.
لأبي علي الحاتمي في الأمير سيف الدولةأنشدني أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، قصيدة له في سيف الدولة، وهي:
دنو فراق خلف الصبر نائيا ... ووجد محب غادر الدمع جاريا

وقفت بمغنى الشوق أنشد أهله ... فحاكى بلى جسمي هناك المغانيا
حكى نفسي فيها صباها وأدمعي ... حياها وأعضاي الطلول البواليا
يذكر فيها:
وكفل أرواح العداة إلى الوغى ... حساماً ملياً بالذي رام وافيا
له صفحة تنبو على أن حده ... يبيد أعاديه ويغني المواليا
كذا النار تهدي في الضلالة سارياً ... وتحرق من عادت، وتنفع صاليا
جعلت الظبى كأساً تدير دم العدى ... ووقع الظبى الألحان والحرب ساقيا
فإن كان بيت المال أصبح عاطلاً ... لديك فقد أضحى بك المجد حاليا
ما قاله أحد ملوك الهندأنشدني أحمد بن عبد الله المعروف بالبختري، القاضي، البغدادي، لأبي العلاء صاعد بن ثابت، قال أنشدني لنفسه:
ثنتان من همتي ما ينقضي أسفي ... عليهما أبداً من خيفة الفوت
لم أحب منتجع الدنيا بجملتها ... ولا حميت الورى من صولة الموت
فاجتمعت مع أبي العلاء صاعد، بعد ذلك، بواسط، في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلثمائة، فسألته عن البيتين، فقال: غلط علي، وما أخبرته أنهما لي.
فقلت: فلمن هما؟.
فقال: كان أبو الحسن داود، كاتب الوقف بالبصرة، حدثني، بإسناد ذهب عني: إن ملكاً من ملوك الهند، حارب ملكاً، فقتل في المعركة، فألفاه بعض أصحابه طريحاً بين القتلى، وفيه بقية من الروح، فنزل إليه، فقال: هل لك حاجة؟ فأنشده لنفسه شعراً، فسر، ونقل، فكان هذان البيتان، في جملة الشعر.
من شعر أحد الكتاب في بيمارستان البصرةأخبرني أبو القاسم حسين بن محمد بن نبيل، كهل كان من أولاد الجند ببغداد، فخرج إلى الأهواز، وأقام بها يكتب لعلي بن أحمد الخراساني، حاجب معز الدولة، وكان أديباً سماعة لكتب أهل الأدب، وكان إمامي المذهب، قال: رأيت في بيمارستان البصرة، رجلاً من الكتاب محبوساً، يقول الشعر، فأنشدني لنفسه:
أدافع نفسي بالتعلل والصبر ... وأمنع نفسي بالحديث عن الفكر
وأرجو غداً حتى إذا جاءني غد ... تزايد بي همي فيسلمني صبري
فلا الهم يسليني ولا الغم ينقضي ... ولا فرح يأتي سوى أدمع تجري
إلى الله أشكو ما ألاقي فإنه ... عليم بأني قد تحيرت في أمري
قال: وأنشدني لنفسه أيضاً:
أي شيء يكون أقبح منا ... إن نقضنا عهد الإخاء وخنا
إن في حرمة المودة أن نغ ... ضي جميعاً على الخيانة منا
وإذا ما أصابنا الدهر بالعي ... ن رددناه بالتغافل عنا
قال: وأنشدني لنفسه:
ما بال دمعك، أين الدمع يا عيني ... عسى أصابتك عين الدهر بالعين
إني لأجزع من فقد البكاء كما ... قد كنت أجزع قبل البين للبين
مدائح قيلت في أبي القاسم التنوخي
وا لد المحسنكان يلزم أبي، بالأهواز، شاعر يعرف بأبي الخير، صالح بن لبيب، فدخل إليه يوماً، وأنا حاضر، فأعطاه رقعة صغيرة، فقرأها أبي، وتبسم، وأمر له في الحال بدراهم، وانصرف.
فأخذت الرقعة، فإذا هي بخطه، وفيها:
يا من أراق له السماح ندىً ... أضحى به الأحرار في رق
فضلاً سبقت العالمين به ... والفضل مقصور على السبق
ألزمت نفسك غير لازمها ... وعرفت لي حقين لا حقي
ودخل إليه يوماً شاعر يعرف بالهمذاني، لا أعرف اسمه، ولا نسبه، فدفع إليه رقعة، فيها:
كفى القاضي رضاي بما ارتضاه ... ولم أذمم رضاي ولا رضاه
فأمر له في الحال، بجائزة سنية.
من نظم عضد الدولةأنشدني غير واحد، من الشيرازيين، للأمير عضد الدولة، أبي شجاع بن ركن الدولة، أبي علي:
بهطة قصر عن وصفها ... من يدعي الأوصاف بالزور
كأنها في الجام مجلوة ... لآلىء في ماء كافور
وله أيضاً:
رأيت بساطاً للزبرجد ناضراً ... قد أبرز أطرافاً تعد قحافا
قحافاً من البلور ملأى وفرغاً ... وممزوجة فيه رفعن سجافا

تدير رؤوساً للندامى كؤوسها ... وتترك أحلام الحليم سخافا
وقال أيضاً:
نحرنا بيننا دناً ... فعاد الليل إصباحا
وداجا نحره مثل ال ... غرابين إذا صاحا
من رسالة لأبي القاسم التنوخيحدثني أبو العلاء صاعد بن ثابت، قال: كتب إلي القاضي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي، جواب كتاب كتبته إليه: وصل كتابك.
فما شككت وقد جاء الرسول به ... أن الشباب أتاني بعدما ذهبا
كان قتل أبي يوسف البريدي أبرك الأشياء
على سيف الدولةحدثني أبو يعلى محمد بن يعقوب البريدي الكاتب، قال: لما قصدت سيف الدولة أكرمني، وأنس بي، وأنعم علي، وكنت أحضر ليلاً في جملة من يحضر.
قال: فقل لي ليلة من الليالي: كان قتل أبيك، أبرك الأشياء علي.
فقلت: كيف ذاك، أطال الله بقاء مولانا؟ قال: لما رجعنا من بغداد، اقتصر بي أخي ناصر الدولة، على نصيبين، فكنت مقيماً فيها، ولم يكن ارتفاعها يكفيني، فكنت أدافع الأوقات، وأصبر على مضض من الإضاقة مدة.
ثم بلغتني أخبار الشام، وخلوها إلا من يأنس المؤنسي، وكون ابن طغج بمصر بعيداً عنها، ورضاه بأن يجعل يأنس عليها، ويحمل إليه الشيء اليسير منها، ففكرت في جمع جيش، وقصدها، وأخذها، وطرد يأنس، ومدافعة ابن طغج، إن سار إلي، بجهدي، فإن قدرت على ذلك، وإلا كنت قد تعجلت من أموالها، ما تزول به إضاقتي مدة، ووجدت جمع الجيش لا يمكن إلا بالمال، وليس لي مال، فقلت: أقصد أخي، وأسأله أن يعاونني بألف رجل من جيشه، يزيح هو علتهم، ويعطيني شيئاً من المال، وأخرج بهم، فيكون عملي، زائداً في عمله، وعزه.
قال: وكانت تأخذني حمى ربع، فرحلت إلى الموصل على ما بي، ودخلت إلى أخي، وسلمت عليه.
فقال: ما أقدمك؟ فقلت: أمر أذكره بعد.
فرحب، وافترقنا.
فراسلته في هذا المعنى، وشرحته له، فأظهر من المنع القبيح، والرد الشديد، غير قليل.
ثم شافهته، فكان أشد امتناعاً.
وطرحت عليه جميع من كان يتجاسر على خطابه في مثل هذا، فردهم.
قال: وكان لجوجاً، إذا منع من الأول، شيئاً يلتمس منه، أقام على المنع.
قال: ولم يبق في نفسي، من يجوز أن أطرحه عليه، وأقدر أنه يجيبه، إلا امرأته الكردية، والدة أبي تغلب.
قال: فقصدتها، وخاطبتها في حاجتي، وسألتها مسألته.
فقالت: أنت تعلم خلقه، وقد ردك، وإن سألته عقيب ذلك، ردني أيضاً، فأخرق جاهي عنده، ولم يقض الحاجة، ولكن أقم أياماً، حتى أظفر منه، في خلال ذلك، بنشاط، أو سبب أجعله طريقاً للكلام، والمشورة عليه، والمسألة له.
قال: فعلمت صحة قولها، فأقمت.
قال: فإني جالس بحضرته يوماً، إذ جاءه براج، بكتاب طائر، عرفه سقوطه من بغداد.
فلما قرأه، اسود وجهه واسترجع، وأظهر قلقاً وغماً، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا قوم، المتعجرف، الأحمق، الجاهل، المبذر، السخيف الرأي، الرديء التدبير، الفقير، القليل الجيش، يقتل الحازم، المرتفق، العاقل، الوثيق الرأي، الضابط، الجيد التدبير، الغني، الكثير الجيش؟ إن هذا لأمر عجيب.
قال: فقلت له: يا سيدي ما الخبر؟ فرمى بالكتاب إلي، وقال: قف عليه.
فإذا هو كتاب خليفته ببغداد، بتاريخ يومه، يقول: في هذه الساعة، تناصرت الأخبار، وصحت بقتل أبي عبد الله البريدي، أخاه أبا يوسف واستيلائه على البصرة.
قال: فلما قرأت ذلك، مع ما سمعته من كلامه، مت جزعاً وفزعاً، ولم أشك أنه يعتقدني كأبي عبد الله البريدي، في الأخلاق التي وصفه بها، ويعتقد في نفسه أنه كأبي يوسف، وقد جئته في أمر جيش ومال، ولم أشك أن ذلك سيولد له أمراً في القبض علي، وحبسي، فأخذت أداريه، وأسكن منه، وأطعن على أبي عبد الله البريدي، وأزيد في الاستقباح لفعله، وتعجيز رأيه، إلى أن انقطع الكلام.
ثم أظهرت له، إنه قد ظهرت الحمى التي تجيئني، وإنه وقتها، وقد جاءت، فقمت، فقال: يا غلمان، بين يديه.
فركبت دابتي، وحركت إلى معسكري، وقد كنت منذ وردت، وعسكري ظاهر البلد، ولم أنزل داراً.
قال: فحين دخلت إلى معسكري، وكان بالدير الأعلى، لم أنزل، وقلت لغلماني: ارحلوا، الساعة، الساعة، ولا تضربوا بوقاً، واتبعوني.
وحركت وحدي، فلحقني نفر من غلماني، وكنت أركض على وجهي، خوفاً من مبادرة ناصر الدولة إلي بمكروه.

قال: فما عقلت، حتى وصلت إلى بلد، في نفر قليل من أهل معسكري، وتبعني الباقون.
فحين وردوا، نهضت للرحيل، ولم أدعهم أن يراحوا، وخرجنا.
فلما صرنا على فرسخ من بلد، إذا بأعلام وجيش لا حقين بنا، فلم أشك أن أخي أنفذهم للقبض علي.
فقلت لمن معي: تأهبوا للحرب، ولا تبدؤوا، وحثوا السير.
قال: فإذا بأعرابي، يركض وحده، حتى لحق بي، وقال: أيها الأمير، ما هذا السير المحث؟ خادمك دنحا، قد وافى برسالة الأمير ناصر الدولة، ويسألك أن تتوقف عليه حتى يلحقك.
قال: فلما ذكر دنحا، قلت: لو كان شراً، ما ورد دنحا فيه.
فنزلت، وقد كان السير كدني، والحمى قد أخذتني، فطرحت نفسي لما بي، ولحقني دنحا، وأخذ يعاتبني على شدة السير، فصدقته عما كان في نفسي.
فقال: اعلم أن الذي ظننته انقلب، وقد تمكنت لك في نفسه هيبة، بما جرى، وبعثني إليك برسالة، يقول لك: إنك قد كنت جئتني تلتمس كيت وكيت، فصادفت مني ضجراً، وأجبتك بالرد، ثم علمت أن الصواب معك، فكنت منتظراً أن تعاودني في المسألة، فأجيبك، فخرجت من غير معاودة ولا توديع، والآن، إن شئت فأقم بسنجار، أو بنصيبين، فإني منفذ إليك ما التمست من المال والرجال، لتسير إلى الشام.
قال: فقلت لدنحا: تشكره، وتجزيه الخير، وتقول كذا وكذا، أشياء واقفته عليها، وتقول: إني خرجت من غير وداع، لخبر بلغني في الحال، من طروق الأعراب لعملي، فركبت لألحقهم، وتركت معاودة المسألة تخفيفاً، فإذا كان قد رأى هذا، فأنا ولده، وإن تم لي شيء، فهو له، وأنا مقيم بنصيبين، لأنتظر وعده.
قال: وسرت، ورجع دنحا، فما كان إلا أيام يسيرة، حتى جاءني دنحا، ومعه ألف رجل، قد أزيحت عللهم، وأعطوا أرزاقهم ونفقاتهم، وعرضت دوابهم وبغالهم، ومعهم خمسون ألف دينار، وقال: هؤلاء الرجال، وهذا المال، فاستخر الله، وسر.
قال: فسرت إلى حلب، وملكتها، وكانت وقائعي مع الأخشيدية، بعد ذلك، المعروفة، ولم تزل بيني وبينهم الحرب، إلى أن استقرت الحال بيننا، على أن أفرجوا لي عن هذه الأعمال، وأفرجت لهم عن دمشق، وما وراءها، وأمنت ناصر الدولة، واستغنيت عنه.
وكل ذلك، فسببه قتل عمك لأبيك.
؟
لأبي علي الحاتمي يمدحأنشدني أبو علي الحاتمي، فصلاً من رسالة عملها إلى بعض الرؤساء في صفته:
أفكاره همم إيعاده نقم ... وعوده قسم تأميله عصم
ألفاظه حكم أوطانه حرم ... ألحاظه نعم آلاؤه ديم
تبغي الخلائق أن يحصوا فضائله ... ودون ذلك ما تستنفذ الكلم
ولو أرادوا جميعاً كتم معجزه ... أبى له الله ما يأتون والكرم
تبغي مجاراته في فعله بشر ... قد قصرت منهم عن كعبه القمم
وكيف يسطاع فعل أو يرام علا ... ما ليس تدركه الأوهام والفهم
يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
حدثني بعض الأهوازيين، قال: رأيت أبا الحسن المنبري، الشامي، الطائي، الشاعر، بالأهواز، على باب الحسن بن علي المنجم، وهو عاملها، يتردد مدة، وكان قد امتدحه.
قال: فتذاكرنا شدة تلون أخلاق المنجم، وجنونه، ونواميسه في وقت، وعدوله عن ذلك في وقت آخر.
ثم قلت له: فأين أنت منه؟ فقال: ما آيس من رده، ولا أطمع في وعده.
قلت أنا: وهذا كأنه مأخوذ من الأبيات التي هجي بها الحسن بن رجاء، وهي مشهورة، فلذلك لم أوردها على جملتها.
والأخير من الأبيات هو:
لكنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
بحث في معرفة السارقحكي لي عن بعض الصالحين، في إخراج السرق، قال: تأخذ قدحاً فيه ماء، وتأخذ خاتماً، فتشده فيه بشعرة، وتدليه في القدح، وتكتب خمس رقاع، فيها أسماء المتهمين بالسرقة، وتكتب: السارق، في القدح، وتضع رقعة، تكتب فيها اسم من تتهمه، على حرف القدح، وتقرأ عليه: " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم، خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه، لعلكم تتقون " .
فإذا ضرب الخاتم القدح، نظرت في الرقعة، فإن السارق، هو صاحب الاسم، وإن لم يضرب القدح، فتضع أخرى، فإن السارق هو، إذا ضرب.
آيات لإعادة الآبقوقال لي في الآبق:

تكتب فاتحة الكتاب مدورة، ويكتب في وسطها، " كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج من فوقه موج، من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً. فما له من نور " ، اللهم اجعل الأرض علوها، وسفلها، وسهلها، وجبلها، وبرها، وبحرها، في قلب فلان بن فلان، أضيق من مسك شاة، حتى يرجع.
السرج واللجام في جهاز كل عروستذاكرنا في مجلس ببغداد، حضره أبو علي محمد بن منصور الشاهد، المعروف بابن كردي، حديث غلبة النساء على الرجال، إلا النفر من الرجال.
فقال لي أبو علي: كان لنا شيخ فاضل، من أهل القطيعة، كان يضرب لنا في هذا مثلاً، فيقول: إن في جهاز العروس إلى زوجها، سرجاً ولجاماً، فإذا انقضت أيام العرس، إن سبق الرجل إلى السرج، فأسرج المرأة، ووضع اللجام في رأسها، وركبها، ملك عليها أمرها، وإن تراخى لحظة، وضعت هي السرج على قفاه، واللجام في فيه، وركبته، فلم تنزل عنه، إلا بطلاق أو موت.
الوزير عبيد الله بن سليمان واليهودي
سهل بن نظيرحدثني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان الكاتب الشيرازي، قال: حدثني سهل بن نظير اليهودي الجهبذ، قال: حدثني جدي سهل بن نظير، وكان يتجهبذ للوزير على قديم السنين، منذ أيام الفتنة، وإلى أن مات، قال: لما نكب عبيد الله بن سليمان، بعد كتبته للموفق، النكبة العظيمة، كنت أتوسم فيه الرفعة، وعلو الحال، فكنت أحمل إلى عياله، في كل شهر مائة دينار، وهو في الحبس، ثم أطلق، فكنت أحملها إليه، إلى أن ولي الوزارة، فعرف لي ذلك، وبلغ بي كل مبلغ، وشكرني عليه أتم شكر.
قال: ثم إن عبيد الله، نكب جرادة الكاتب، وكانت قد جرت له علي الرئاسة، وعلى الناس والرؤساء، وكان له إحسان سالف إلي كثير، فكنت أحمل إلى عياله، في كل شهر، مائة دينار، وأحدر به إلى البصرة.
قال: فبلغ ذلك عبيد الله بن سليمان، وأنا لا أعلم، فدخلت إليه يوماً، فقال لي: يا سهل، بارك الله لك في عداوتنا.
قال: فقلت له: أيها الوزير، من أنا حتى أعاديك، وأنا أخس كلب ببابك؟ قال: وأكثرت التنصل، والتهيب، وبكيت، وقلت: يا سيدي، ما هذا الكلام؟ إن كان شيء رقى إلى الوزير أيده الله، عني، واقفني عليه، ولعل عندي فيه، حجة، أو برهاناً، على بطلانه.
قال: فقال لي: تحمل إلى عيال جرادة، في كل شهر مائة دينار.
قال: فقلت: أيها الوزير، أنا ما فعلت هذا، ولا تجاسرت عليه، إنما فعله الرجل الذي كان يحمل إلى عيال الوزير - أيده الله - مائة دينار في كل شهر رعاية لحق إحسانه إليه، فرعى لجرادة أيضاً إحساناً له إليه أيضاً، فحمل إليه، مثل ما كان يحمل، إلى عيال الوزير - أيده الله - .
فاحمر وجهه خجلاً، وأطرق، وسكت ملياً، ثم تصبب وجهه بالعرق، وقلت: قبض والله علي، ونكبني.
قال: فأسقطت.
فرفع رأسه، وقال: أحسنت يا سهل، ما ترى بعد هذا مني إنكاراً، ولا بقي في نفسي عليك شيء، فأجرهم على رسمهم، ولا يوحشك ما خاطبتك به.
عاقبة الظلمحدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الله الأهوازي، قال: حدثني أبو الفضل البلخي الفقيه، قال: حدثني الخليل بن أحمد السجستاني، قاضيها قال: قدم علينا صاحب جيش خراسان، من قبل نصر بن أحمد، ومعه خلق عظيم من الجيش، فملك سجستان، وأكثر أصحابه الفساد في البلد، وامتدت أيديهم إلى النساء في الطرقات قهراً.
قال: فاجتمع الناس إلي، وإلى فلان الفقيه، وقد ذكره البلخي وأنسيته أنا، وشكوا الحال، فمضينا معهم إلى صاحب الجيش، فدخلت إليه، أنا والفقيه، وجماعة من رؤساء البلد، وكان المبتدىء بالخطاب، الفقيه، فوعظه، وعرفه ما يجري.
قال: فقال له: يا شيخ، ما ظننتك بهذا الجهل، معي ثلاثون ألف رجل، نساؤهم ببخارى، فإذا قامت أيورهم، كيف يصنعون؟ ينفذونها بسفاتج إلى حرمهم؟ لا بد لهم أن يضعوها فيمن ها هنا كيف استوى لهم، هذا أمر لا يمكنني إفساد قلوب الجيش بنهيهم عنه، فانصرف.
قال: فخرجنا.
فقالت لنا العامة: أيش قال الأمير؟ قال: وأعاد عليهم الفقيه الكلام بعينه.
فقالوا: هذا القول منه فسق، وأمر بالفسق، ومكاشفة بمعصية الله تعالى، فهل يحل لنا عندك قتاله بهذا القول؟ فقال لهم الفقيه: نعم، قد حل لكم قتاله.
قالوا: فتأذن؟ قال: نعم.

قال: فبادرت العامة، وانسللنا من الفتنة، فلم نصل المغرب من تلك الليلة، وفي البلد أحد من الخراسانية.
قال: لأنه اجتمع من العامة، من لا يضبط عدده، فقتلوا خلقاً عظيماً من الخراسانية، واستحر القتل فيهم، ونهبت دار الأمير، وطلبوه ليقتلوه، فأفلت على فرسه، ومعه كل من قدر على الهرب، ومضوا على وجوههم.
فما جاءنا بعدهم جيش من خراسان، أصلاً.
خراج الأهواز في سنة خمس وثلثمائةحدثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن مهرويه، المعروف بابن أبي علان، قال: حدثني أبي أبو القاسم، قال: كنت أكتب لعبيد الله بن الحسن بن يوسف على كور الأهواز، فكتب علي بن عيسى يطالبنا بالحساب، فتقدم إلى أبو أحمد عبيد الله بن الحسن، بعمله، وبالخروج للمواقفة عليه، وذلك في سنة ست وثلثمائة.
قال: فجمعت الحساب، وعملت جماعة لسنة خمس وثلثمائة، بارتفاع مال الخراج بالأهواز، وكورها، سوى الضياع، فكان مبلغ ذلك، ستة عشر ألف ألف وثمانمائة ألف درهم وكسر، وكلها قد صح في الاستخراج، ولم يبق للسلطان إلا نيف وأربعين ألف درهم.
قال: وكان مال الضياع، يقارب هذا، إلا أنه لم يكن في حسابنا.
خضاب يسود الشعرحدثني عبد الله بن عمر الحارثي، قال: عجل علي المشيب، فغمني ذلك، وفكرت في أن أخضب لحيتي، فنمت، فرأيت في النوم، كأني أشاور طبيباً في خضاب، فقال لي: لا تحتاج إلى خضاب، ولكن أصف لك شيئاً يسود الشعر ويحفظ لونه، ويمنع من السواد أن يبيض، خذ من دهن النارجيل العتيق، وزن خمسة دراهم، ومن الإهليلج الأصفر، وزن نصف درهم، ومن النوشاذر، وزن دانق، واسحق الجميع، ودفه بالدهن حتى يختلط، واطل به الشعر، فإنه يسود.
فانتبهت، وقد حفظت ذلك، فعملته، فاسود شعري، وتأخر الشيب عني دهراً طويلاً.
طلاء يمنع الحبلوحدثني، قال: كنت في شبابي، أتمتع بالجواري والمماليك، فكان العزل يثقل علي جداً، فاشتريت جارية، بدنانير كثيرة، وكنت أخاف أن تحبل، فيذهب ثمنها، فنمت مشغول القلب بذلك، فأريت قائلاً يقول: إذا أحببت أن لا تحمل المرأة، فخذ بنجاً، واسحقه، واعجنه بلبن فرس، وجففه، واجعله في كيمخت، وعلقه على المرأة، فإنها لا تحبل.
فقلت له: ما سمعت هذا من طبيب.
فقال: إن أحببت أن تمتحن صحة ذاك، فخذ هذا الدواء، واجعله في قارورة ما، واجعلها على النار، وأوقد تحتها، فإنه لا يغلي، ولو مكث سنة.
قال: وانتبهت، وجربت ذلك، فوجدته صحيحاً.
الخليفة المعتضد يشهد على نفسه العدولوحدثني أيضاً الحارثي، قال: حدثني أبي، وكان يخدم في دار الموفق، والمعتضد بعده: إن المعتضد أراد أن يشهد على نفسه العدول، في كتاب، صدره: هذا ما شهد عليه العدول جميعاً، أن أمير المؤمنين، عبد الله، أبا العباس المعتضد بالله، أشهدهم على نفسه، في صحة منه، وجواز أمر.
وعرضت النسخة، على عبيد الله بن سليمان، فضرب عليها، وقال: هذا لا يحسن كتبه عن الخليفة، اكتبوا: في سلامة من جسمه، وإصابة من رأيه.
؟
الحارثي يستهدي النبيذقال لي الحارثي: استهديت من صديق لي نبيذاً، فأنفذ إلي نبيذاً حامضاً، فرددته عليه، وكتبت إليه: الجيران، أحق بهذا من الإخوان.
صفة نبيذ لا يسكرووصف لنا مرة، نبيذاً طرياً شربه، فقال: " هو داء الفهم، عمل من ثمر البلاذر " .
أي هو لا يسكر، لضعف فعله.
الكاتب ابن جبير يفاضل بين الوزير
ابن الفرات والوزير علي بن عيسىحدثنا أبو الفتح عبد الله بن محمد المروزي الكاتب، قال: حدثني بعض شيوخ الكتاب، قال: قال ابن الفرات، لأبي منصور بن جبير، كاتبه، أيما أكفأ، أنا، أو علي بن عيسى؟ فقال: الوزير أكفأ وأضبط.
قال: دعني من هذا.
قال: تؤمنني؟ قال: قد أمنتك.
قال: علي بن عيسى، إذا حضر بين يدي الخليفة، فأراد أن يكتب سراً له، لم يحتج إلى غيره، وكتب هو، وسحا، وختم، وخرط بيده وأنفذ العمل، وأنت، لا بد لك من زنجي، ولوطي صاحب دواته يقرأ، فيبطل الأمر بظهور اثنين عليه.
قال: فضلت علياً علينا.
قلت: لا والله يا سيدي، ولكن يكون علي بن عيسى كاتبك.
دناءة نديم، ولؤم أميرحدثني عبد الله بن أحمد بن داسه:

إن أبا القاسم البريدي، أيام تقلده الأمر بالبصرة، شرب يوماً، وعنده جماعة من ندمائه، فافتقد قحف بلور، كان معجباً به، وطلبه الشرابية، فلم يعرف له خبر.
فحلف إنهم إن لم يحضروا، ضربهم بالمقارع.
فقال له أحدهم: لا تعجل، ولكن مر بإحضار كل من كان البارحة حاضراً.
فأمر بإحضارهم، فجلسوا، وأنفذ الغلام إلى منزل كل واحد منهم، برسالة منه، أن أنفذوا القحف البلور، الذي حملته إليكم البارحة.
فعاد أحد الرسل، من دار أحدهم، ومعه القحف.
فافتضح ذلك النديم، وسقط محله.
وهذا، مضاد لما حكي عن بعض الأكاسرة، إنه كان يشرب، فوقعت عينه على غلام من غلمانه، وقد سرق صينية ذهب، مع ما فيها، وحملها، فأمسك الملك، وفاز بها الغلام.
فافتقدها الخزان في الغد، وجاءوا في طلبها، فدعاهم، وقال: لا تتعبوا في طلبها، فقد أخذها من لا يردها، ورآه من لا ينم عليه.
قال: فأمسكوا.
فلما كان بعد سنة، كان الملك يشرب، فدخل ذلك الغلام، فرأى عليه منطقة ذهب حسنة.
فقال له الملك سراً: هذا من ذاك؟ فقال: نعم.
فقال: إن كان ما عندك من الدنانير التي في الصينية، قد نفد، فعرفني، لأدفع إليك أخرى.
ألوان من الحجابوحدثني، قال: وحدثنا أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى، قال: لما قدم حامد بن العباس الأبلة، يريد الأهواز، وهو وزير، خرجت لتلقيه، فرأيت له حراقة، ملاحوها خصيان بيض، وعلى سطحها شيخ، يقرأ القرآن، وهي مظللة، مسترة.
فسألت عن ذلك، فقالوا: هذه حراقة الحرم، لا يحسن أن يكون ملاحوها فحولة.
قال: وقال لي أبو الحسين: دخلت إلى ابن الجصاص في داره ببغداد، فرأيت خصياناً بيضاً مزينين.
جواب لأبي العيناءقال: حدثنا أبو الحسين، قال: رأيت لأبي العيناء، خادمين، خصيين، أسودين، يقودانه.
فقيل له: كيف اتخذت خصيين أسودين؟ فقال: حتى لا يتهما بي، ولا أتهم بهما.
أبو العيناء لا ينسى ما حفظوحدثني، قال: حدثنا أبو الحسين، قال: قدم أبو العيناء البصرة، في سنة نيف وثمانين، بعد الغيبة الطويلة، التي غاب عنها، وخدمته للخلفاء، والوزراء، بسر من رأى.
وكان أبو خليفة، إذ ذاك، عالم البصرة، بالحديث، والأخبار، واللغة، والنحو، ومحمد بن جعفر بن بسام، قاضيها، وكان له محل من الأدب، واللغة، والشعر، كبير، وكنت منقطعاً إليه، ملازماً له، أدرس عليه الفقه، فكان أول من ائتمنني، ورفع شأني.
فقال لي: يا أبا الحسين، قد قدم أبو العيناء، وأحب أن أجمع بينه وبين أبي خليفة، وننظر أثرهما.
فقلت: علي ذلك.
قال: فمضيت، ولقيت أبا العيناء، وعقدت عليه وعداً للحضور، عند ابن بسام، وعلى أبي خليفة، فاجتمعا.
فأخذ أبو العيناء، في الرواية عن الأصمعي، ومشاهداته مع المتوكل، وابن أبي دؤاد، وفلان، وفلان، والشعراء.
قال: فأسكت أبو خليفة، فلم ينجر معه، ولم يلحق به.
قال: فأثنينا على أبي العيناء، وقرظناه.
فقال: يا أيها القاضي، أنا لا أنسى ما كنت أحفظه منذ أربعين سنة.
أبو العيناء وأحمد بن الحسن بن المثنىوحدثنا أيضاً، قال: حدثني أبو عبيد محمد بن علي الآجري، قال: كنت عند أبي العيناء، لما قدم البصرة، سنة نيف وثمانين، بتسبيبات له على عمالها، وكان معنا أصحاب الحديث.
فقيل له: قد دخل إليك ابن المثنى، فقام، وقدر، أن أبا علي الحسن بن المثنى، قصده.
فقال له بعض الحاضرين: إنه أحمد بن الحسن بن المثنى، فجلس، قبل أن يقرب منه أبو الحسين.
ثم استدنى أبا الحسين، وأكرمه، وسأله عن خبر أبيه، فأخبره بوفاته، فترحم عليه، وقال: أنا أسن منه.
فسألناه عن مقدار الزيادة، فقال: لا أدري، كنت يوماً في مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالبصرة، وقد اجتاز بنا، وكان أصحاب الحديث حضوراً، وكان موسى لا يطيق أن يدخل مجلسه غلام أمرد، ليسمع الحديث، فحين رآه موسى، صاح: يا غلام، أخرجه.
فقلنا له: أعز الله القاضي، هذا ابن أخيك، أبو علي بن المثنى.
قال: فرفعه، وقدمه.
أبو خازم القاضي يريد أن يولي أحمد
بن الحسن بن المثنى القضاءوحدثني، قال: حدثني أبو الحسين، قال: لما نشأت، كتب أبو خازم القاضي، إلى أبي، يقول: إنه قد بلغني أنه قد نشأ لك فتى يطلب العلم، ومن حاله، وصفته، - قال، وقرظني - فأنفذه إلي، لأقلده القضاء.

قال: فقال لي أبي: ما تقول؟ فقلت: أنفذني، فإنك، هو ذا، ترى ما نحن فيه من الإضاقة، فلعلي أتسع بالأرزاق، فقال أبي: لا تفعل، فإن الأعمال تفنى، والصيانة تبقى.
أبو العيناء في دار الواثقي أمير البصرةوحدثني، قال: حدثني بعض شيوخنا: إن أبا العيناء، قصد دار الواثقي، وهو الأمير بالبصرة - إذ ذاك - ، فأجلس في الدهليز ساعة، إلى أن استؤذن له.
وجرى الحديث، فقال رجل، في حديث اقتضى ذلك، يا أبا العيناء، أنت صائم اليوم؟ فقال: أما في هذه الدار، فنعم.
فكتب صاحب الخبر، إلى الواثقي، بذلك، فأذن له في الحال، واعتذر إليه، من إجلاس البوابين له في الدهليز، وأنكر ذلك عليهم.
منافرة بين ضريرينقال: واجتمع أبو العيناء، وأبو علي البصير، يوماً في مجلس، فاستطال عليه أبو العيناء، فقال له أبو علي: نحن جميعاً ضريران، فما هذا التطاول؟ فقال: ولا سواء، أنت من عميان العصا، وأنا من عميان المواكب.
المصالحة بين تاجر أفلس وبين دائنيهحدثني محمد بن أحمد بن عثمان بن الحارث الزيات، قال: حدثني أبي، قال: كان لي، ولجماعة من التجار ببغداد، على رجل من البزازين، أربعة آلاف دينار، فقام للناس، فاجتمعنا، ففتحنا دكانه، فوجدنا فيه متاعاً ثمنه أربعمائة دينار.
فقال: إن اخترتم أخذها وإبرائي من الباقي، فخذوا، فإني لا أرجع إلى شيء غير ذلك، وإن اخترتم أن تؤخروني بالدين، وأفتح دكاني، وأعمل بهذه الأربعمائة دينار، دفعت إليكم في كل سنة أربع مائة دينار، فيأخذ كل واحد منكم العشر من ماله، وتستوفون المال في عشر سنين.
فأجبناه، إلا رجلاً، يعيد ويقول: زيدوني على العشر، ولو ديناراً واحداً، في السنة.
فقلنا للرجل: أجبه إلى هذا.
فقال: إن أعطيت هذا الدينار، زيادة، على أربعمائة الدينار، في السنة، مضت الأربع مائة دينار في التسع سنين، وبقيت، بقية دينكم، بحالها.
فعجبنا من ذلك، وقلنا: أوجدنا صحة ما قلت.
فقال: هذه الأربعمائة الدينار، إذا اتجرت فيها سنة، وسلمت، فربحي أربعمائة دينار.
يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلثمائة وتسعة وتسعون ديناراً.
فأتجر فيها، في الحول الثاني، فيحصل معي سبعمائة وثمانية وتسعون ديناراً، يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلاثمائة وسبعة وتسعون ديناراً.
فيحول الحول الثالث، فيصير المال سبعمائة وأربعة وتسعون ديناراً يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلاثمائة وخمسة وخمسون ديناراً.
يحول الحول الرابع، فيصير سبعمائة وستون ديناراً، يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، ويبقى خمسمائة وثمانون ديناراً.
ويحول الحول الخامس، سبعمائة دينار، يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلثمائة وخمسة وثمانون ديناراً.
ويحول الحول السادس، فيخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلثمائة وتسعة وسبعون ديناراً.
ويحول الحول السابع، فيصير سبعمائة وأربعة وخمسين ديناراً، يبقى ثلثمائة وسبعة وخمسين ديناراً.
ثم يحول الحول الثامن، فيصير مائتين وتسعين ديناراً، يخرج منها ثلثمائة دينار، بقي منها مائتين وتسعة وستين ديناراً. والدين دين، ولا يمكن أن أدفع إليكم، إذا كان الأصل أربعمائة، أكثر من أربعمائة.
فأجبناه إلى الاقتصار على الأربعمائة، وفتح دكانه، وعمل، ورزق.
إنفاق بلا دخل، يذهب بالأموالوحدثني، قال: حدثني أبي، فقال: كل كيس يكون فيه ألف درهم، فتخرج منه درهماً واحداً، ولا يدخله درهم آخر، فإن الكيس كله يذهب، إن كان بتجارة، فبنقصان ربحها، وإن كان بنفقة، فليس يحتاج إلى دليل.
وإنما يحفظ الأموال، فضولها، وينستر التاجر بربحه.
بين الجبائي والكرخيحدثني عبد الله بن أحمد بن داسه، قال: حدثني أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن عبيد الله، الفقيه، الحنفي، الأرمني، قال: كان أبو زهير الجبائي، الفقيه، ورعاً، حاذقاً بمذهب أبي حنيفة، فدخل بغداد، فبلغته أخبار أبي الحسن الكرخي، رضي الله عنه، في ورعه.
قال: فلقيه، فقال له: يا أبا الحسن، بلغني أنك تأخذ من السلطان رزقاً في الفقه.
قال: نعم.
قال: ومثلك في علمك، ودينك، يفعل هذا؟

فقال له أبو الحسن: أو ليس قد أخذ الحسن البصري، رضي الله عنه، في زمنه، وفلان، وفلان، فعدد خلقاً من الصالحين والفقهاء، ممن أخذ من بني أمية.
فقال له أبو زهير: ذهاب هذا عليك أطرف، بنو أمية، كانت مصائبهم في أديانهم، وجبايتهم الأموال سليمة، لم يظلموا في العشر، ولا في الخراج، وكان الفقهاء يأخذون من الأموال مع سلامتها، وهؤلاء، مع سلامة أديانهم، أموالهم فاسدة، وجباياتهم بالظلم والغش.
فسكت أبو الحسن، فلما كان وقت قبض جائزته، لم يطالب بها، وتركها، ولم يقبض شيئاً من الجاري، إلى أن مات.
قال لي عبد الله بن داسه: أن أبا زهير هذا، هو أستاذ أبي محمد بن عبدل، الذي علمه الفقه على مذاهب أصحابنا.
وكان أبو محمد بن عبدل، أستاذنا نحن في الفقه، وقد درست عليه، وشاهدته الطويل العريض، وما سمعت منه هذه الحكاية.
الخصال المذمومة في الشيخوحدثني، قال: قال لي بعض شيوخنا: إن الشيخ إذا أسن، صارت فيه ثلاث خصال مذمومة: إذا قام عجن، وإذا مشى زفن، وإذا سعل قرن.
شيخ من أهل المذار يرى مناماً
وحدثني، قال: حدثني عبد الله بن معاذ، قال: حدثني شيخ من أهل المذار، قال: كان لي زرع في ضيعة، وكان حسناً، جيداً، وافراً، وكنت واسع الطمع فيه، فبت ليلة، فرأيت في منامي، كأني بنفسين يطوفان الصحارى المزدرعة، ويقول أحدهما للآخر: اكتب، زرع فلان كر، وفلان كرين.
قال: وأنا أحفظ الأسماء، وبلغ الكيل إلى أن جاء إلى قراحي، فقال: اكتب، وزرع فلان ثلاثة أكرار.
فقلت له: أعزك الله، زرعي - والله - في غاية الجودة، وأنا أؤمل فيه عشرة وأكثر.
فقال لصاحبه: اكتب ثلاثة أكرار.
قال: فلما كان من الغد، انتبهت متعجباً، وقمت.
وما مضت أيام، حتى لحقت الغلة آفة، ونجا بعض الناس، وأصيب بعضهم، وحصد جيراني، وحصدت.
قال: فحصل لي، والله، ثلاثة أكرار، لا تزيد قفيزاً، ولا تنقص قفيزاً.
قال: وعرفت خبر القوم الذين كنت حفظت أسماءهم، ومبلغ كيلهم، فإذا كيل الجميع، قد خرج على ذلك المبلغ سواء.
من أقوال معز الدولةبلغني من جهة وثقت بها، عن معز الدولة، إنه قال: ما نام بين طلوع الفجر، إلى طلوع الشمس، مقبل قط.
وهذا منه، على أنه رجل أعجمي، حسن جداً.
والأصل في ذلك، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " بورك لأمتي في بكورها " .
القاضي أبو عمر ينقذ بعمامته شخصاً من الغرق
حدثنا أبو أحمد بن أبي الحسك الشاهد، قال: كان أبو عمر القاضي، يجتاز بباب دارنا، دائماً، ذاهباً إلى ضيعته المعروفة بالصالحية، وأنا صبي، وبعد ذلك، إلى أن صرت حدثاً.
قال: فسمعت - إذ ذاك - أنه اجتاز، فلما صار على شاطىء نهر عيسى، رأى رجلاً في الماء، وهو يصيح: الغريق، ولم يكن بين يدي أبي عمر، إلا غلام واحد.
قال: فصعد أبو عمر بحماره على تلعة، وصاح بأعلى صوته: يا ناس، يا ناس، دفعات، فلم يجبه أحد، لخلو الموضع، وانقطاع الطريق.
فنزل عن حماره، وخلع عمامة كانت عليه، ورمى بها إلى الرجل، وأخذ طرفها بيده، وأمسك بيده الأخرى شجرة كانت هناك.
وقال للرجل: لا خوف عليك، فاجذب العمامة، بكل قوة.
قال: فما زال الرجل يجذبها، ويقرب، إلى أن قرب من الشط، حتى رقى في الشط، وخر مغشياً عليه.
وجازت جماعة، فرأوا القاضي على تلك الصورة، فدعوا له، وشكروه، وبادروا إلى الرجل، وعصروا جوفه من الماء، ونجا، وعاش.
الإكثار من الغالية يدفىء في الجو الباردحدثني عبد الله بن أحمد بن بكر البصري، قال: كان المهريون بالبصرة، لهم نعم ومروءات، وكانوا في جيراننا، فحدثني شيوخنا: إن فتى منهم، وكان ظريفاً، ركب في يوم شات، شديد البرد، والماء قد جمد، وليس عليه من الحشو شيء، إنما كان عليه قميصان، وعمامة، وطيلسان، وخف، فدخل إلى قوم، فعجبوا من صبره على البرد، فنزع خفه، فإذا هو قد طلا رجليه بالغالية، وحشا منها شيئاً كثيراً، بين أصابعه، وفي سرته، واستعمل منها شيئاً كثيراً في لحيته، وأخذ خرقة، وطلا عليها، ووضعها على رأسه، وتعمم عليها، فحمي حمياً، لم يحتج معه إلى أكثر من قميصين.
الإكثار من الغالية يسبب العمىقال: وحدثني شيوخنا:

أن محمد بن سليمان بن علي الهاشمي، كان في ضيعته التي يقال لها: المحدثة، خارج البصرة، جالساً في مجلس على بستان، وفي بعض زوايا البستان، إجانة صيني كبيرة، مملوءة غالية.
فدخل إليه قوم من العامة، في حاجة لهم، وكان أحدهم، خسيس الحال، فلما رأى الغالية، سرق منها شيئاً كثيراً، اغترفه ملء كفه، فوضعه على رأسه وأطبق عمامته عليه، وأطال القوم الجلوس، وهو معهم، فلما قاموا، قام معهم، فلم يبصر، فقال: خذوا بيدي فقد عميت.
فاغتم محمد بن سليمان، لذلك، وجاء بطبيب في الحال، وقال: ما دهاك! فلم يصدقه.
فأمر الطبيب بكشف رأسه، فرأى الغالية، فصب عليها الماء البارد، حتى لم يبق لها أثر، ثم طلاه بالصندل والماورد، والكافور، وأقامه في الهواء ساعة، فعاد بصره إلى حال الصحة، وانصرف.
مثل من الأمانةوحدثني، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن إسحاق بن عباد النجار، وهو شيخ من وجوه التمارين بالبصرة، طال عمره، وحدث، وكتبت عنه، ولم أسمع هذه الحكاية منه، قال: كان في جوارنا فلان، فتصدق ليلة على ضرير اجتاز به، وهو لا يعرفه، فأراد أن يفتح إحدى صرتين في كمه، في إحداهما دنانير، وفي الأخرى دراهم، فيعطيه درهماً، فأعطاه ديناراً.
وانصرف الضرير، وهو لا يشك أن معه درهماً.
فبكر به إلى بقال يعامله، فقال: خذ هذا الدرهم، واحسب ما لك علي، وأعطني بالباقي كذا وكذا.
فقال له البقال: يا هذا، من أين لك هذا؟ قال: أعطانيه البارحة فلان.
قال: إنه دينار، فخذه.
فأخذه الضرير، وجاء به من الغد إلى الرجل، وقال: إنك تصدقت علي بهذا، وأظنك أردت أن تعطيني درهماً، وغلطت، وما أستحل أخذه مغالطة، فخذه.
فقال له الرجل: قد وهبته لك، وإذا كان في رأس كل شهر، فتعال إلي، أعطيك شيئاً آخر، مجازاة لأمانتك.
وكان يجيئه في رأس كل شهر، فيعطيه خمسة دراهم.
قال: فلم أر أعجب من أمانة البقال والضرير، ولو كان في هذا الوقت، لجرى الأمر بضد ذلك.
لا يعرض القرآن للمسألةقال: وقال لي ابن عباد: وكان يقرأ بالسبعة، فكنت أسمعه طول الليل يقرأ، وكان فقيراً، فإذا كان النهار، خرج يتصدق، فأسمعه ينشد على الطريق، الرقائق والزهديات، لا أسمعه يتصدق بغيرها.
فقلت له يوماً: يا فلان، أنت تحفظ القرآن، وأراك تتصدق بالرقائق، فكيف لا تقرأ وتتصدق كما يفعل الأضراء؟ فقال: والله لا أعرض القرآن للمسألة أبداً.
السورجي وزوجتهحدثني أبو محمد، قال: حدثني السورجي، شيخ كان يجاورنا، مستور، قال: كانت لي امرأة صالحة، فكنت إذا اشتريت لحماً لتطبخه لنا، طبخته، وغرفته جميعه، وجاءتني به، وكنت أكولاً، فكنت آكله جميعه، وتجوع هي، وأولادها.
فقلت لها: يا هذه، إذا طبخت شيئاً، فاقسميه قسمين، وجيئيني بأحدهما، ودعي الآخر، لنفسك، وأولادك.
فقالت: لا والله، لا أفعل هذا، بل أقدمه إليك كله، لتأكل أجوده، فإنك أنت تسأل عنه.
يتمنى أن يمرض ليعوده حبيبهأنشدني أبو الحسن بن أبي الليث، لنفسه:
عصيت الهوى وأطعت العذول ... وكنت كما قال في الحسود
وملكت رقك وهو المنى ... وبعتك للدين فيمن يزيد
لئن لم أكن أتمنى السقام ... لعلي ألقاك فيمن يعود
المعتضد يكتب رقعة في رفع ظلامةحدثني محمد بن أحمد بن عثمان الزيات، قال: حدثني أبو بكر بن حورى - شيخ كان من أهل فامية، من أعمال النهروان، قد أقام ببغداد سنين، وكان مشهوراً بصحبة ابن أبي عوف - قال: كنت ألزم ابن أبي عوف، سنين، لجوار بيننا ومودة، لا أسأله حاجة، لأنها لم تكن تعرض لي، وكنت أتخفف بين يديه في حوائج ينفذني فيها، وكان رسمي في كل ليلة، أجيئه بعد العتمة، وقد صلى ودخل منزله، فحين يراني، يمد رجله في حجري، فأغمزها، وأحادثه، فيسألني عن الأخبار والحوادث ببغداد، وكنت أسأل عنها، وأتطلبها من كل موضع، وأجيئه بها، وأخبره بخبر من قدم البلد، ومن سافر عنه، ومن مات، ومن ولد، ومن خاصم، ومن ورث، ومن يرجف به الناس، وأخبار الجيران، وبكل غث وسمين، إلى أن ينعس، فإذا نعس، قبض رجله، فقمت إلي بيتي، وقد مضى ثلث الليل، أو بعضه، أو أقل.
وجرى الأمر على هذا سنين.
فلما كان ذات يوم، جاءني سقطي كان يعاملني، فقال: قد دفعت إلى شيء إن تم علي، افتقرت.

فقلت: ما هو؟ فقال: رجل كنت أعامله، فاجتمع لي عليه ألف دينار، فطالبته، فرهنني عقد جوهر، قوم بألف دينار، إلى أن يفتكه بعد شهور، أو أبيعه، وأذن لي في ذلك.
فلما كان أمس، وجه مؤنس الفحل، صاحب الشرطة، من كبس دكاني، وفتح صندوقي، وأخذ العقد، وقد استتر الرجل.
فقلت له: لا تفكر في هذا، فإني أخاطب أبا عبد الله بن أبي عوف، فيلزمه رده صاغراً.
قال: وأنا مدل بابن أبي عوف، لمكاني منه، ومكنته من المعتضد.
فلما كان تلك الليلة، جئته، فمد رجله في حجري، على الرسم وحادثته، وعرفته الأخبار، وقلت له في جملتها، أمر السقطي مع مؤنس.
ثم قلت: هذا الرجل جاري، ومعاملي، وأوجب الناس حقاً علي، ولا بد - والله - من تفضلك يا سيدي، واعتنائك في أمره، وإلزام مؤنس، رد العقد. قال: فحين سمع هذا نحى رجله من حجري وقال: ما أنا وهذا؟ أعادي صاحب شرطة الخليفة؟ وكيف استجزت أن تعرضني لمثل هذا، وتسألني فيه؟ كأني بك، وقد قلت: ابن أبي عوف صديقي ألزمه رد هذا، ولم تشفق على جاهي، وكأن صلاح حال السقطي، أحب إليك من صيانة جاهي، ما أنا، عافاك الله، وهذا؟ ولا أليه.
قال: فورد علي من هذا، أعظم مورد، وقلت في نفسي: هذا رجل قد خدمته، كذا وكذا سنة، هذه الخدمة، التي لم تخدمها العبيد، على أني ما سألته ط حاجة، ولا احتجت إليه في شيء، ولا له علي رزق، ولا أفضال، يلقاني في حاجة قد سألته فيها، بمثل هذا؟ شهد الله، لا دخلت له داراً بعدها أبداً.
وأمسكت وجلست لا أتكلم، ثم قمت قبل الوقت الذي كنت أقوم فيه، وعدت إلى منزلي منكسراً مغموماً.
فلما كان من الغد، بكرت، لئلا يجيئني الرجل، بسبب حاجته، فأفتضح عنده، ولم أدخل بيتي إلى وقت المغرب، ثم جئت، فصليت، وطرحت، واعتقدت أنني لا أمضي إليه.
فلما صليت العتمة، جاءني خادم لابن أبي عوف، فقال: الشيخ يقرأ عليك السلام، ويقول: لم تأخرت الليلة؟ إن كنت معافى، فتعال، وإن كنت متشكياً جئناك.
فاستحييت، وقلت: أمضي الليلة، ثم أنقطع.
فحين دخلت إليه، ورآني، مد رجله في حجري، فأخذتها، وغمزتها على الرسم.
فقال: أيش عندك من الأخبار؟ فأقبلت أحدثه، بحديث غث، متكلف، متصنع، فلم يزل يصبر على ذلك ساعة، ثم قبض رجله، فقمت.
فقال: يا أبا بكر، انظر أيش تحت المصلى.
وإذا برقعة في قرطاس، فأخذتها، وتقدمت إلى الشمعة، وإذا فيها: " يا مؤنس، جسرت على قصد دكان رجل تاجر، يعرف بفلان، وفتحت صندوقه، وأخذت منه عقد جوهر قيمته ألف دينار، وأنا في الدنيا؟ والله، لولا أنها أول غلطة غلطتها، ما جرى في ذلك مناظرة، اركب بنفسك إلى دكان الرجل، حتى ترد العقد في الصندوق، بيدك ظاهراً " .
فقلت لأبي عبد الله: أيش هذا يا سيدي؟ فقال: خط المعتضد إلى مؤنس، بما أردته، مثلت بين وجدك وعتبك، مع بقاء الحال مع مؤنس كما هي، وبين رضاك وقضاء حقك، وإيحاش مؤنس، فاخترتك عليه، فأخذت خط أمير المؤمنين، بما تراه، فامض، وأوصله إليه، فإنه يفعل ما أمره به.
فقبلت رأسه، وشكرته، وانصرفت، وأنا من الفرح لا أعقل، وجئت إلى الرجل، وأخذت بيده، ومضينا إلى مؤنس، وسلمت التوقيع إليه، فحين قرأه اسود وجهه، وارتعد حتى سقطت الرقعة من يده، ثم قال: يا هذا، الله بيني وبينك، هذا شيء ما علمت به، وتموه علي، فألا تظلمتم إلي، فإن لم أنصفكم، فإلى الوزير، ما هذا؟ بلغتم الأمر إلى أمير المؤمنين، من أول وهلة؟ قال: وانتشطت، فقلت: بعلمك جرى، والعقد معك.
قال: فأحضر العقد، وقال: خذوا الألف دينار، التي عليه الساعة، واكتبوا على الرجل، بطلان ما ادعاه.
فقلت: لا نفعل.
فقال: خذوا ألفاً وخمسمائة دينار.
فقلت: والله، لو أعطيتنا ألف ألف دينار، ما رضينا، أو تركب بنفسك إلى الدكان، والعقد معك، فترده إلى الصندوق، ولا نكذب أنفسنا، أو ترد التوقيع، فقال: أسرجوا لي.
قال: فركب، والله، في موكبه، حتى وقف على دكان الرجل، ورد العقد بيده إلى الصندوق.
فجاءنا صاحبه، في ذلك اليوم، ودفع الألف دينار، وارتجعه.
ابن أبي دؤاد وكرمه وعلو همته

حدثني عبد الله بن أحمد بن داسه، قال: حدثني أبو أحمد بن أبي الحسك الشاهد، قال: حدثني بمصر، أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر، القاضي، وهو قاضيها يومئذ، قال: حدثني شيخ كان في جوارنا ببغداد، بدرب الرواسين، من باب الشام، قال: كان أبو عبد الله بن أبي دؤاد، ينزل بباب الشام، وهو صغير الحال، فكنا نعرف أحواله.
فباع يوماً منديلاً كان له، بسبعة دراهم، لتعذر القوت عليه.
قال: فاجتاز في طريقه، وهو عطشان، فرأى شارباً، فعدل إلى الموضع، ودعاه، واستسقاه، فكسر الشارب شفة كوز كان معه، وملأه ودفعه إليه.
فقال له ابن أبي دؤاد: لم فعلت ذلك؟ فقال: قد شرب في هذا الموضع قبلك من لم أرض لك، أن تجعل شفتك في موضع شفته، فكسرت الموضع من الكوز لتشرب من موضع، ما وقعت عليه شفة غير شفتك.
قال: فشرب الماء ثم دفع إليه السبعة دراهم، التي لم يكن يملك غيرها.
دعوة الأم لأولادها مستجابةحدثني أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى، قال: كانت أمي قد رأت ليلة القدر، فدعت الله بدعاء كثير، فلما كان من الغد، قال لها أبي: هل دعوت الله لي؟ فقالت: شغلني الدعاء لأولادك، عن الدعاء لك.
قال: فكنا نرى أن ما أفاء الله تعالى علينا من نعمة، بعد ذلك، إنما كان بدعائها.
أبو الهيجاء بن حمدان ومتانة أعصابهحدثني أبو الفضل الشيرازي الكاتب محمد بن عبد الله بن المرزبان، قال: حدثني شيخ من شيوخ النخاسين الجلة ببغداد، قال: كنت أعامل أبا الهيجاء، عبد الله بن حمدان، في الرقيق، فكان يشتري مني، ولا يبيع شيئاً يشتريه بوجه، إما أن يهبه، أو يعتقه.
فجاءني يوماً، إلى حجرتي، ولم تكن عادته جرت بذلك، فوجدته، وهو مستعجل، يريد الخروج إلى القصر، لقتال أعراب بلغه أنهم عاثوا في الطريق، وكان يليه، فقال: بعني الساعة جارية.
فعرضت عليه عدة جوار، فاختار مولدة منهن، وحملها في عماريته، على بغل.
فلما كان بعد شهور أقل من ستة، جاءني بها رجل من الجند، يريد بيعها.
فقلت لها: أليس كان الأمير أبو الهيجاء، اشتراك مني؟ فقالت: بلى، ولكنه وهبني لهذا.
قال: فلم أبعها حتى كاتبته، وعرفته خبرها، لئلا تكون قد هربت، أو وقع بها حيلة.
فلما أعلمني أنه وهبها، شرعت في بيعها في الحال، فتعذر، وأقامت عندي أياماً.
فسألتها عن أخبار أبي الهيجاء، وأمره في داره، فأخبرتني بأشياء من ذلك. فكان من طريف ما أخبرتني به، أن قالت: أخرجني من عندك في العمارية، وسرنا يومنا وليلتنا، إلى قريب من انتصاف الليل، فكدني السير وأتلفني، ثم حط العمارية في الصحراء، ثم ضربت له خيم، ولأصحابه، فصرنا في عسكر، وأشعلت النيران، ونصب له سرير مخلع في خيمة له، واستدعاني، فجئت وهو على فراشه، فلاعبني، ثم نزع سراويله، وجلس مني مجلس الرجل من المرأة، فوقعت صيحة عظيمة، فنهض عني، ولم يكن أولج، وضرب بيده إلى تحت الفراش، وإذا سيف مجرد، فأخذه، وخرج بلا سراويل، وصاح أنا أبو الهيجاء، وسألهم عن سبب الصيحة، فقالوا: سبع أطاف بالخيم.
فخرج يعدو، ومعه خلق من غلمانه وأصحابه، وأهاجوا السبع، وطلبوه، وناصبوه الحرب، وناصبهم، وأنا أسمع الصياح، وزأرات الأسد، وقد تلفت فزعاً، ثم يأتيه هو، من بين الجماعة، فقتله، فحمل رأسه، وجاءني وهو في يده، فلما رأيته صحت، فرمى بالرأس، وغسل يده.
ثم جاءني، فطرحني، وإذا أيره قائم، كما كان في وقت نهوضه، ما تغير، ثم جامعني، ثم نهضت.
فما رأيت قلباً أثبت من قلبه، ولا أيراً أقوى من أيره.
هجاه بالشعر فأجابه بأخذ الشعيرحدثني عبد الله بن أحمد بن داسه، قال: حدثني أبو سهل بن زياد القطان، قال: كان بإسكاف، شاعر له ضويعة، فهجا عاملها، وبلغه ذلك، فأمسك عنه، فلما كان وقت الغلة، ركب العامل إلى البيدر، وقسمه، وحمل غلة الشاعر أصلاً.
فجاء الشاعر إليه يشكو، ويداريه.
فقال: يا هذا ليست بيننا معاملة، أنت هجوتنا بالشعر، ونحن هجوناك بالشعير، وقد استوت الحال بيننا وبينك.
خلف النار الرمادحدثني محمد بن عدي بن حر، وجماعة من البصريين، قالوا: لما نشأ لأبي الحسين محمد بن عبيد الله بن نصرويه، مع فضله، ورجلته، ومحله المشهور من الدهاء والفضل، والعلم والعقل، ابنه الباقي الآن، وأخبر أبو الحسين بتأخره، غمه ذلك.

قال: وكان أبو الحسين، يوماً جالساً، إذ جاء ابنه هذا يسعى إليه، كأنه في مهم، ثم نتف طاقة شعر كانت على أذن أبي الحسين، وسعى، فآلمه ذلك، وغمه بلوغ تخلف الصبي، إلى هذا الحد، ورثينا لما جرى.
قال لنا: خلف النار الرماد
كما تدين تدانوحدثني الحسين بن محمد الجبائي، قال: لما سعى أبو طاهر الحسين بن الحسن، عامل البصرة، على أبي الحسين بن نصرويه، حتى نكب النكبة الثانية، التي ألزمه فيها العباس بن الحسين، ما ألزمه من المال، راسل أبا طاهر، فقال له: اعلم أن الصياد الفاره، لا يذبح شباشه، وأنا كنت لك في هذا البلد، مع التجار والناس، مثل شباش الصياد، فبي إنما ظن الناس أنك عادل، وكنت تأخذ من تريد من الأوساط والأصاغر، ولا ينكشف أمرك، وقد صرت بما عاملتني، مثل الصياد الذي ذبح شباشه، فليس عزمه بعدها أن يصطاد، وستعلم أنك لا تنتفع بنفسك، ولا بالبلد بعدي.
ثم عدل إلى السعاية عليه مع أبي الفضل العباس بن الحسين الوزير، فما خرج من البصرة حتى قبض عليه، ونكبه، وقلد البصرة، أبا القاسم علي بن الحسين بن إبراهيم، ابن أخت أبي الفرج محمد بن العباس بن فسانجس، وألزم مالاً ثقيلاً لم ينهض به، وتلف أبو طاهر في المطالبة، والضرب، ومات في الحبس، وانسحق هو وأهله، إلى آخر دهرهم، وكل ذلك بتدبير أبي الحسين، وترتيبه المكاره عليهم.
الصوفي المتوكل وجام فالوذج حارحدثني محمد بن هلال بن عبد الله، قال: حدثنا القاضي أحمد بن سيار، قال: حدثني رجل من الصوفية، قال: كنت أصحب شيخاً من الصوفية، أنا وجماعة في سفر، فحدثني حديث التوكل، والأرزاق، وضعف النفس فيهما، وقوتهما.
فقال ذلك الشيخ: علي وعلي، لا ذقت مأكولاً، أو يبعث إلي بجامة فالوذج حار، ولا آكل إلا بعد أن يحلف علي.
قال: وكنا نمشي في الصحراء.
فقالت له الجماعة: الآخر جاهل.
ومشى ومشينا، وانتهينا إلى قرية، ومضى عليه يومان، وليلتان، لم يطعم فيهن شيئاً.
ففارقته الجماعة، غيري، فإنه طرح نفسه في مسجد القرية، مستسلماً للموت ضعفاً، فأقمت عليه.
فلما كان في ليلة اليوم الرابع، وقد انتصف الليل، وكاد أن يتلف الشيخ، فإذا بباب المسجد قد فتح، وإذا جارية سوداء، ومعها طبق مغطى.
فلما رأتنا، قالت: أنتم غرباء، أو من أهل القرية؟ فقلنا: غرباء.
فكشفت الطبق، فإذا بجام فالوذج، يفور لحرارته.
فقالت: كلوا، فقلت له: كل، فقال: لا أفعل.
فقلت له: والله لتأكلن، لأبر قسمه، فقال: لا أفعل.
قال: فشالت الجارية يدها، فصفعته صفعة عظيمة، وقالت: والله، لئن لم تأكل لأصفعنك هكذا، إلى أن تأكل.
قال: فقال: كل معي.
فأكلنا، حتى نظفنا الجام، وجاءت الجارية تمضي.
فقلنا لها: مكانك، أخبرينا بخبرك، وخبر هذا الجام.
فقالت: نعم، أنا جارية رجل هو رئيس هذه القرية، وهو رجل أحمق حديد، فطلب منا منذ ساعة، فالوذجاً، فقمنا لنصلحه، وهو شتاء وبرد، فإلى أن تخرج الحوائج من البيت، وتشعل النار، ويعقد الفالوذج، تأخر عنه.
فطلبه، فقلنا: نعم، وطلبه ثانياً، ولم نكن فرغنا منه، وطلبه الثالثة، فحرد وحلف بالطلاق، لا يأكله، ولا أحد من داره، ولا أحد من أهل القرية، ولا يأكله إلا رجل غريب.
فجعلناه في الجام، وخرجنا نطلب في المساجد رجلاً غريباً، فلم نجد، إلى أن انتهينا إلى هذا المسجد، فوجدناكما، ولو لم يأكله هذا الشيخ، لقتلته ضرباً، إلى أن يأكل، لئلا تطلق ستي من زوجها.
قال: فقال الشيخ: كيف ترى، إذا أراد أن يرزق؟
سائل بالأبلة، وسائل بالصينوحدثني، قال: حدثني القاضي أحمد بن سيار، قال: حدثني شيخ من التجار بعمان، قال: كنت بالأبلة، أريد الخروج إلى البحر، فرأيت سائلاً بباب الجامع، فصيح اللسان، مليح المسألة، فرققت له، وأعطيته دراهم صالحة.
وخطفت في الوقت إلى عمان، فأقمت بها شهوراً، ثم قضي لي أن مضيت إلى الصين، فدخلتها سالماً، فإذ أنا يوماً أطوف، فإذا الرجل بعينه قائماً في السوق يتصدق.
فتأملته، فعرفته، فقلت له: ويحك، سائلاً بالأبلة، وسائلاً بالصين.
فقال: قد دخلت إلى هذا البلد، ثلاث دفعات، وهذه الرابعة، لطلب المعيشة، فلا أجدها إلا من الكدية، فأرجع إلى الأبلة، ثم ارجع إلى ها هنا.
قال: فعجبت من شدة حرمانه.
تاجر يتمدح بتجسسه على رسائل التجار

وحدثني، قال: حدثني قاضي القضاة أبو محمد بن معروف، رضي الله عنه، قال: حدثني بعض أهل بغداد، عن أبي عبد الله بن أبي عوف، إنه قال: ضاق صدري، في وقت من الأوقات، ضيقاً شديداً، لا أعرف سببه، فتقدمت إلى من حمل لي طعاماً كثيراً، وفاكهة، وعدة من جواري، إلى بستان لي على نهر عيسى، وأمرت غلماني، وأصحابي، أن لا يجيئني أحد منهم بخبر يشغل قلبي، ولو ذهب مالي كله، ولا يكاتبوني، وعملت على أن أقيم في البستان بقية أسبوعي، أتفرج مع أولئك الجواري.
قال: وركبت حماري، وقد تقدمني كلما أمرت بحمله.
فلما قربت من البستان، استقبلني فيج، معه كتب.
فقلت له: من أين وردت؟ فقال: من الرقة.
فتتبعت نفسي، أن أقف على كتبه، وأخبار الرقة، وأسعارها.
فقلت له: تعرفني؟ فقال: نعم.
فقلت: أنت قريب من بستان لي، فتعال معي، حتى أهب لك دنانير، وأغير حالك، وأطعمك، وتستريح الليلة في البستان، وتدخل بغداد غداً.
فقال: نعم.
ومشى معي راجعاً، حتى دخل البستان، فأمرت من فيه، أن يدخله حماماً فيه، ويغير ثيابه ببعض ثيابي غلماني، ويطعمه.
فابتدوا معه في ذلك.
وتقدمت إلى غلام لي فاره، فسرق كتبه، وجاءني بها، ففتحتها، وقرأت جميع ما فيها، وعرفت من أسرار التجار الذين يعاملوني شيئاً كثيراً، وتفرجت بذلك.
ووجدت جميع الكتب، محشوة إلى التجار، بأن يتمسكوا بما في أيديهم من الزيت، ولا يبيعوا منه شيئاً، فإنه قد غلا عندهم وعز، ويوصونهم بحفظ ما في أيديهم.
فأنفذت إلى وكلائي في الحال، فاستدعيتهم، فجاءوا، فقلت لهم: خذوا من فلان الناقد، وفلان الناقد، كل ما عندهم من العين والورق الساعة، ولا ينقضي اليوم إلا وتبتاعون كلما تقدرون عليه من الزيت، واكتبوا إلي، عند انقضاء النهار، بالصورة.
فمضوا، فلما كان العشاء، جاءني خبرهم، بأنهم قد ابتاعوا زيتاً، بثلاثة آلاف دينار، فكتبت إليهم بقبض ألوف دنانير أخر، وبشرى كل ما يقدرون عليه من الزيت.
وأصبحنا، فدفعت إلى الفيج ثلاثة دنانير، وقلت له: إن أقمت عندي، دفعت إليك ثلاثة دنانير أخرى.
فقال: أفعل.
وجاءتني رقعة أصحابي، بأنهم ابتاعوا زيتاً بأربعة آلاف دينار، وأنه قد تحرك سعره لطلبهم إياه، فكتبت بأن يبتاعوا كل ما يقدرون عليه، وإن كان قد زاد.
وشاغلت الرسول، اليوم الثالث، ودفعت إليه في اليومين، ستة دنانير، وأقام ثلاثة أيام، وابتاع أصحابي بثلاثة آلاف دينار أخرى.
وجاءوني عشياً، فقلوا: كان ما ابتعناه اليوم زائداً على ما قبله، في كل عشرة، نصف درهم، ولم يبق في السوق شيء يفكر فيه.
فصرفت الرسول، وأقمت في بستاني أياماً، ثم عدت إلى داري، وقد قرأ التجار الكتب، وعرفوا خبر الزيت بالرقة، فجاءوني يهرعون، ويبذلون في الزيت، زيادة اثنين في العشرة، فلم أبع، فبذلوا زيادة ثلاثة في العشرة، فلم أبع.
ومضى على ذلك، نحو من شهر، فجاءوني يطلبون زيادة خمسة، وستة، فلم أفعل.
فجاءوا بعد أيام، فبذلوا للواحد الواحد.
فقلت في نفسي: ترك هذا خطأ، فبعته بعشرين ألف دينار.
فنظرت، فلم يكن لضيق صدري، وانفرادي في البستان، ذلك اليوم سبب، إلا ما أحبه الله تعالى، أن يوصل إلي ربح عشرة آلاف دينار.
صائغ يتمدح بأنه اؤتمن فخانوحدثني، قال: حدثني صائغ كان يخدم في خزانة الأمير معز الدولة، يعرف بطاهر، قال: كنت أشرب يوماً في منزلي، وعندي جماعة من إخواني، فانقطع بنا النبيذ، فخرجت أحتال لهم شيئاً من ذلك، فلقيني ركابي، فقال: الأمير يطلبك.
فقلت: قل إنك لم ترني.
قال: لا أفعل.
فقلت: خذ مني ديناراً، وقل إنك لم تجدني.
قال: وأنا معه، إذ جاء ركابي آخر، فبذلت لهما دينارين، فأبيا، وجاء الثالث، فمضيت، وحملت معي غلاماً كان لي.
فحين دخلت إلى الأمير، قال لي: امض، فانظر ما يقول لك علي المغني، في الخزانة، فافعله.
فجئت إلى الخزانة، فقلت لعلي: أيش تريد؟ فأخرج إلي، مناطق كثيرة ذهباً، موكدة بلا سيوف، مما أخذه معز الدولة، من تركة أخته، وكانت الأخت، تشدها في أوساط الجواري، وتلبسهن القراطق والخفاتين، وتلك المناطق فوقها، ويخدمنها كذلك، فلما حصلت لمعز الدولة، لم يستحسنها، فأمر بكسرها، وصياغتها مراكب، وسيوفاً، ومناطق أعجمية.
فقال لي: اجلس واقلعها، حتى ننظر كم يجتمع منها، ويصاغ.

فقلت: ليس معي آلتي التي تستعمل.
فقال: أنفذ من يحضرها.
فأنفذت غلامي، فأحضر بعض الآلة، فما زلت أقلع، وأغتفل المغني، وأسرق، وأجعل ذلك في كمي، وتحت عمامتي، وأرمي إلى غلامي، فإذا حصل معه شيء، قلت له: هات المبرد، هذا قد كل، فامض، وجئني بغيره، أو هات الآلة الفلانية، فيمضي، ويحصل ما قد سرقناه، ويجيء بالآلة، وأسرق، وأعطيه، وأطلب آلة أخرى، على هذا، إلى أن جاء المساء، فجمع علي المغني، تلك المناطق، وأخذ الوعد علي، في الحضور في غد، ومعي الصناع، وشريكي المرسوم معي بالخدمة في الخزانة، فانصرفت، فوزنت ما قد حصل عندي، وكان أربعمائة وثمانين مثقالاً.
فقلت لعيالي: هذا، حملت إليه كرهاً، حتى أخذته، بعد أن بذلت، أن أعطي دينارين جعلاً، ولا أمضي، وحدثتهم القصة.
فلما كان من الغد، حضر الصناع، وشريكي، وجلسنا نفكك الباقي، وأحضرنا شيئاً آخر، فما استوى لنا أن نسرق إلا مائة وستين مثقالاً، قاسمته عليها، وعجبت من رزقي في ذلك.
من مكارم أخلاق الأمير الموفقحدثني أبو الحسن ثابت بن إبراهيم بن زهرون، الحراني، الصابىء، الطبيب، قال: حدثني أبي، قال: كنت، بين يدي الموفق، يوماً، فقال لي: يا إبراهيم، أنا أشتهي شهوة منذ سنين، وهو ذا، أستقبح أن أطلبها، وقد عن لي الساعة مواضعتك على طلبها.
قال: فقلت: يأمر الأمير.
قال: ويحك، أنا والله، منذ سنين كثيرة، أشتهي كبود الدجاج، وقوانصها مطبهجة، وأستقبح أن أطلبها، فيظن صاحب المائدة، أن نفسي قد تتبعته، شحاً به عليهم، لأن رسمهم جار، بأن يرتفقوا بأخذه وبيعه، وأريد إذا قدمت المائدة، وجلست معي للأكل، أن تتشهى ذلك علي، وتشير به من طريق الطب، لأتقدم إليهم باتخاذ شيء منه يسير، فيصير ذلك القدر رسماً في كل يوم، لا يؤثر عليهم قدره، ويبيعون هم الباقي، فإنه كثير، وأكون قد قضيت شهوتي.
قال: فعجبت من كرمه، وفرط حيائه من خدمه، حتى يلفق الحيلة في الوصول إلى شهوته، من غير إيحاشهم، أو تعرض لذمهم.
وقدمت المائدة، فجلس يأكل عليها وحده، وجلست مع الندماء، آكل، على مائدة بين يديه.
فلما أكل بعض أكله، قلت: لم لا يأمر الأمير الناصر، بأن يتخذ له شيء يسير في زبديات، من كبود الدجاج المسمن، وقوانصه، بالبيض، والمري، فيطجن بعضه، فيولع منه بالشيء اليسير، فإن في ذلك كذا وكذا، وأخذت أصف ما حضرني في الوقت، ونحن أيضاً نشتهي أن نأكل منه.
فقال: يصلح لنا من غد، كذا وكذا زبدية، مطجن، وكذا وكذا زبدية، من كبود الدجاج المسمنة، وقوانصها.
فأصلحوا ذلك، وصار رسماً جارياً، ولم يفطن أحد منهم لما جرى.
بحث في الأمانةحدثني عبيد الله بن أحمد بن بكير، قال: حدثني أبو جعفر الضبي، الفقيه الحنفي، وقد شاهدته أنا، وكان من شيوخ التجار المستورين، فقيهاً، يحضر مجلس أبي للخلاف، ويناظر، ولم أسمع منه هذه الحكاية، قال: حدثني شيخ من التجار، بسيراف، قال: كان عندنا نفسان، يمشيان في طريق، فرأيا صرة دراهم ملقاة في الطريق، فقال أحدهما للآخر: خذها واحفظها لصاحبها.
فقال الرجل: لا أفعل.
فقال: لكني آخذها، وأحفظها، فإن وجدت صاحبها، رددتها عليه.
قال: فأخذها ومشى. فإذا برجل يصيح.
فقالا له: ما لك؟ فقال: صرة صفتها كذا وكذا، فيها دراهم لي، سقطت مني الساعة.
فقال الذي هي معه: خذها، فإنها هذه.
فسلمها إليه، ثم قال لصاحبه: أليس لو كان الناس كلهم على مذهبك، في أن لا يحفظوا على الناس، لضاعت أموالهم.
فقال له الآخر: أليس لو كان الناس كلهم على مذهبي، ما ضاعت الصرة، ولكانت تبقى في الطريق مكانها، حتى يرجع صاحبها، فيأخذها.
الخوارج يقطعون السارق من المرفقحدثني أبو الحسين علي بن لطيف، المتكلم على مذهب أبي هاشم، قال: كنت مجتازاً بناحية قزدار، مما يلي سجستان ومكران، وقد كان يسكنها الخليفة من الخوارج، وهي بلدهم ودارهم، فانتهيت إلى قرية لهم، وأنا عليل، فرأيت قراح بطيخ، فابتعت واحدة، فأكلتها، فحممت في الحال، ونمت يومي وبقية ليلتي، في قراح البطيخ، ما عرض لي أحد بشيء.
وكنت قبل ذلك، قد دخلت القرية، فرأيت شيخاً خياطاً في مسجد، فسلمت إليه رزمة ثيابي، وقلت له: تحفظها لي.
فقال: دعها في المحراب.

فتركتها، ومضيت إلى القراح، فلما أفقت من الغد، عدت إلى المسجد، فوجدته مفتوحاً، ولم أر الخياط، ووجدت الرزمة بشدها في المحراب.
فقلت: ما أجهل هذا الخياط، ترك ثيابي وحدها، وخرج، ولم أشك في أنه قد حملها بالليل إلى بيته، وردها في الغد إلى المسجد، انتظاراً لي.
فجلست أفتحها، وأخرج شيئاً شيئاً، فإذا بالخياط.
فقلت له: كيف خليت ثيابي؟ فقال: أفقدت منها شيئاً؟ قلت: لا.
فقال: ما سؤالك؟ قلت: أحببت أن أعلم.
قال: تركتها البارحة في موضعها، ومضيت إلى بيتي.
فأقبلت أخاصمه، وهو يضحك.
وقال: أنتم قد تعودتم أخلاق الأرذال، ونشأتم في بلاد الكفر، التي فيها السرق والخيانة، وهذا لا نعرفه ها هنا، لو بقيت ثيابك مكانها، إلى أن تبلى، ما أخذها أحد غيرك، ولو مضيت إلى المشرق والمغرب، ثم عدت لوجدتها مكانها، فإنا نحن، لا نعرف لصاً، ولا فساداً، ولا شيئاً مما عندكم، ولكن، ربما لحقنا في السنين الطويلة، شيء من هذا، فنعلم أنه من جهة غريب قد اجتاز بنا، فنركب وراءه، ولا يفوتنا، فندركه، فنقتله، إما نتأول عليه بكفره، وسعيه في الأرض بالفساد، أو نقطعه كما يقطع السراق عندنا من المرافق، فلا نرى شيئاً من هذا.
قال: وسألت عن سيرة أهل البلد، بعد ذلك، فإذا الأمر كما ذكره، وإذا هم لا يغلقون أبوابهم بالليل، وليس لأكثرهم أبواب، إنما هي شرائج ترد الكلاب والوحوش.
الأمير معز الدولة يطوف في قصور دار الخلافةحدثني أبو الحسن، علي بن أحمد الحاجب، المعروف بابن الخراساني، وكان يحجب معز الدولة، قال: كنت مع معز الدولة يوماً في دار الخلافة، بحضرة المطيع لله، فلما انفض الموكب، قال لي: قل له: إني أريد أن أطوف في الدار، فأراها وأشاهد بساتينها، وصحونها، فيأمر من يطيفني فيها.
قال: فقلت ذلك للخليفة، بالعربية.
فأمر الخليفة، شاهك خادمه، وابن أبي عمرو حاجبه، أن يطيفاه فيها، فلما مشيا بين يديه، وأنا وراءهما أمشي، وبعدنا عن حضرة الخليفة، وقفا، فقالا: أيها الأمير إنه لا يصلح أن تطوف الدار، إلا ومعك نفسان، أو ثلاثة، أو نحو هذا، فاختر لنفسك من تريد، ورد أصحابك.
قال: فأخذ الصيمري كاتبه، معه، ونحو عشرة غلمان، من حجابه، وغلمانه، وترك باقي غلمانه، وجيشه، في صحن السلام.
فتوقفت أشد منطقتي، فسبقني، ودخل مع ساهك، وابن أبي عمرو، ولم ينتظروني، وأسرع في مشيه.
فشددت منطقتي ولحقته، وجذبت ثيابه من ورائه، فالتفت، فقلت بالفارسية: في أي موضع أنت؟ ما لك تعدو على وجهك؟ وليس تعلم أنك في دار قد قتلت ألف أمير ووزير، أيش كان غرضك في طوف هذه الدار وحدك؟ ما كان يؤمنك، لو وقف لنا عشرة من الخدم، أو عشرون نفساً، في هذا الممر الضيق، فتقتل.
قال: فكنت أكلمه بالفارسية، وأصحاب الخليفة لا يفهمون.
فقال له الصيمري، بالفارسية: قد صدقك.
فقال لنا: إن أنا رجعت الساعة، علموا أني قد فزعت، فضعفت هيبتي في نفوسهم، ونظروا إلي بعين جبان، ولكن التفوا حولي، فإن مائة من هؤلاء، لا يقاومونا، ولا صاحبهم يجسر أيضاً، على الحيلة علي.
وتسرع في مشيته، حتى أننا لم نثبت ما شاهدناه، حق تثبيته.
حتى انتهينا إلى دار فيها صنم من صفر، على صورة امرأة، وبين يديها أصنام صغار، على صور الوصائف، فما رأينا شيئاً قط، أحسن من ذلك، وخاصة المرأة.
قال: فتحير معز الدولة، وسأل عن ذلك، وقالوا: هذا صنم يقال له: شغل، حمل إلى المقتدر من بلد من بلدان الهند، وكان يعبده أهل ذلك البلد، ففتحه صاحب عمان، وملكه، وحمل الصنم.
فقال معز الدولة: قد والله عشقت هذا الصنم، لحسنه، ولو كان جارية، مع زهدي في الجواري، لاشتريتها بمائة ألف دينار، وأريد أطلبه من الخليفة، ليكون قريباً مني، فأراه في كل وقت.
فقال له الصيمري: لا تفعل، فإنك تنسب في ذلك، إلى أخلاق الصبيان.
قال: وأسرعنا الطوف، والخروج، فما عقلنا، ولا رجعت نفوسنا إلينا، حتى صار مع معسكره، وغلمانه.
فلما نزل إلى طياره، التفت إلى الصيمري، وقال: يا أبا جعفر، قد زادت محبتي للخليفة، لأنه لو كان يضمر لي سوءاً، وكان فيه شر، لكان قد قتلني اليوم بأسهل حيلة.
فقال له الصيمري: الأمر كذلك، فاحمد الله.

قال: فلما رجع إلى داره، أمر أن يحمل إلى نقيب الطالبيين عشرة آلاف درهم، ليفرقها فيهم، شكراً لله عز وجل، على سلامته.
ففرقت، ولم يعرفوا سبب ذلك.
أجر الطبيب عن سقي دهن الخروعحدثني أبو محمد عبد الله بن داسه، قال: حدثنا أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى، قال: حدثنا أبي، قال: كان في بني منقر، بالبصرة، طبيب يختلف إلى عيسى بن أبان القاضي، أيام مقامه بالبصرة، يسقيه في كل سنة، دهن الخروع، أياماً متوالية من كل سنة، فإذا فرغ، وقع له وكيله بمائتي درهم.
قال: فغلط سنة من السنين، فوقع له بمائتي دينار.
فلما عرض الطبيب الرقعة على الوكيل، استراب بها، وقال: حتى أستأذنه.
وجاء إليه فأراه التوقيع، فقال: ما أردت هذا، ما أردت إلا المائتي درهم التي هي رسمه، ولكن هذا شيء أجراه الله على يدي، لا أرجع عنه، أعطه إياه.
فأعطاه.
ابن الوزير علي بن عيسى يمنع والديه
من الاجتماعوحدثني أبو محمد، قال: حدثني أبو سهل بن زياد القطان، قال: كان علي بن عيسى، يدخل في كل أسبوع، يوماً، إلى زوجته، والدة أبي القاسم، ابنه.
وكان أبو القاسم، قد نشأ وترجل.
فلما كان يوم النوبة، أدخل أبو القاسم أمه إلى حجرة، وقفلها عليها، وأخذ المفتاح.
فوافى علي بن عيسى، فأنكر قفلها.
فقال له الجواري: إن أبا القاسم ابنه، فعل ذلك.
فاستحيا، وعرف غرضه، فلم يدخل إلى أمه بعد ذلك، إلا لعيادة، أو حال ظاهرة.
الوزير أبو علي بن مقلة يثني على القاضي
أبي عمروحدثني، قال: حدثني أبو الفرج منصور بن القاسم القنائي الكاتب، قال: دخل أبو عمر القاضي، على أبي علي بن مقلة، وهو وزير، وعلي بن عيسى عنده جالس، فرفع أبا عمر عليه، فامتنع، فرفعه ثانية، فامتنع، وجلس دون أبي الحسن.
فانصرف، فراسله إلى طياره، واستدعى ابنه أبا الحسين، فجاء إليه، فقال: تقول لأبي عمر، إني ما رفعتك على علي بن عيسى، لتخالف أمري، وتمتنع من ذلك. وتجلس دونه.
فعاد إليه أبو الحسين، فقال له ما جرى.
فقال له: ارجع إليه، وقل له: هذا رجل رأس علي، ثم أدال الزمان منه، فكرهت أن أرتفع عليه، فيتصورني الوزير، بصورة من يرتفع على رؤسائه، وما فعلت ذلك، إلا لك، وإعظاماً للرياسات.
فعاد أبو الحسين، إلى ابن مقلة، وأعاد عليه ذلك.
فقال: قل له: أحسن الله جزاءك، فمنك يتعلم العقل.
الخليفة المعتضد يبحث عن حجة لقتل وزيرهحدثنا أبو محمد، قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن عبيد الله بن نصرويه، عن شيوخه.
إن المعتضد، لما قبض على إسماعيل بن بلبل، أحضر إسماعيل بن إسحاق القاضي، وقال له: بلغني أنك تعلم أن إسماعيل بن بلبل، زنديق، فما تقول في قتله؟ فقال: ما أقول في رجل تكنى، وسمي أبوه بالطيور.
فعلم المعتضد أنه يدافع، فقال ليوسف القاضي: هل عندك من أمره شيء؟ فقال: نعم. أمرني الموفق بالنفقة على الموسم، وتقدم إلى إسماعيل، أن يعطيني المال، فكنت ألزم مجلسه، أطالبه بذلك.
فلزمته يوماً من الغداة إلى المغرب، ما رأيته صلى، ولا نهض من موضعه.
ثم لزمته أياماً متتابعة، وكان هذا حكمه، فقلت لعله يقضيها ليلاً.
فقال لي في آخر يوم: بت عندي الليلة لأعطيك المال، وجلس يتحدث، وأنا بين يديه، إلى أن نعس، فأراد إكرامي، فأمرني بالنوم بحضرته، فنمت، وما رأيته خلال ذلك صلى.
فقال له المعتضد: انصرف، فقد أخبرتني بما أردته منك.
وقتله.
عمرو بن الليث الصفاريعاقب واحداً من حرسه
حدثنا أبو محمد، قال: حدثنا أبو الحسن بن أبي نصر، أن ابن أبي الوليد بن أبي عبد الله بن أبي دؤاد، قال: حدثني أبي: أن عمرو بن الليث، كان له بيت ينام فيه، ويحرسه غلمان له ليلاً، فانتبه ليلة، فوجد بعض الغلمان، قد استند إلى الحائط، ونام قائماً، فجعل مرفقه، على صماخه، وغمز عليه، حتى قتله.
فما رؤي في داره، نائماً، ممن كان يحرسه، بعد ذلك.
حميد الطوسي يأمر بقتل الطباخ
لأنه لم ينضج دجاجةحدثنا أبو محمد، قال: حدثني أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: قال ابن عياش:

كنت آكل مع حميد الطوسي، فضربت يدي إلى دجاجة مشوية، ثم رغبت عنها شبعاً، فلم أكسرها، وانقضى الطعام، وغسلت يدي، وخرجت، فإذا بضوضاء في الدهليز، وإذا برجل يبكي.
فقام إلي، وقال: يا رجل، أحي نفساً، كنت أنت سبب قتلها.
فقلت: ما الخبر؟ فقال: أنا طباخ حميد، وإنك مسست دجاجة، ثم لم تكسرها، فقدر حميد أنني شويتها، ولم أنضجها، فأمر بقتلي.
فعدت إلى حميد، فحين رآني، قال: والله لا شفعتك في الطباخ.
قلت: يسمع الأمير ما أقوله، ويعمل ما يراه، قال: قل.
فحلفت بالأيمان المغلظة، إن الدجاجة كانت نضيجة، وإنما رغبت عنها، لأن الشبع صدني، ثم اتبعت المسألة في أمر الطباخ.
فقال: أهب لك ذنبه، على أن لا يدخل داري، إننا قد أيسنا من الآخرة، وإنما هي الدنيا، فلا نحتمل، والله، لأحد، تنغيصها علينا.
إسحاق المصعبي تحركه رقاع
أصحاب الأرباع في بغدادوحدثني، قال: حدثني أبو يحيى بن مكرم، القاضي البغدادي، قال: حدثني أبي، قال: كان في جواري شيخ يعرف بأبي عبيدة، حسن الأدب، كثير الرواية للأخبار، وكان ينادم إسحاق بن إبراهيم المصعبي.
فحدثني: إن إسحاق استدعاه ذات ليلة، في نصف الليل، بعدة رسل.
قال: فهالني ذلك، وأوحشني، لما أعرفه من زعارة أخلاقه، وشدة إسراعه إلى القتل، وخفت أن يكون قد نقم علي شيئاً في العشرة، أو بلغه عني باطل، فأحفظه، فيقتلني.
فخرجت طائر العقل، حتى أتيت داره.
فأدخلت من دار إلى أخرى، إلى أن أدخلت دار الحرم، فاشتد جزعي، ثم أدخلت إلى حجرة لطيفة، فسمعت في دهليزها، بكاء امرأة، متخافتاً، وهو جالس على كرسي، وبين يديه سيف مسلول.
فذهب علي أمري، وسلمت، ووقفت.
فقال: اجلس يا أبا عبيدة، فسكن روعي، وجلست.
فرمى إلي قصصاً، فإذا هي رقاع أصحاب الشرط في الأرباع، يخبر كل واحد منهم، بخبر يومه، وفي أكثرها، كبسات وقعت، بنساء من بنات الوزراء، والرؤساء من الكتاب، وبنات القواد والأمراء، مع رجال على ريب، وإنهن محصلات في الحبوس، ويستأذن في أمرهن.
فقلت: قد وقفت على هذه الرقاع، فما يأمرني الأمير؟ فقال: إن هؤلاء، كلهن، أجل آباء مني، وأكثر حسباً ومالاً، وقد أفضى بهن الدهر، إلى ما قد رأيت، وقد وقع لي أن بناتي سيبلغن إلى هذا، وقد جمعتهن - وهن خمس - بالقرب من هذا الموضع، لأقتلهن كلهن الساعة، وأستريح، فماذا ترى في هذا؟ .
فقلت: أيها الأمير، إن آباء هؤلاء المحبسات، أخطئوا في تدبيرهن، لأنهم خلفوا عليهن النعم، ولم يحفظوهن بالأزواج، فخلون بأنفسهن، ففسدن، ولو كانوا علقوهن على الأكفاء، ما جرى هذا منهن.
والذي أراه، أن تستدعي فلاناً، القائد، فله خمسة بنين، كلهم جميل الوجه حسن النشوة، فتزوج كل واحدة منهن، بواحد، فتكفي العار، والنار.
فقال: أحسنت يا أبا عبيدة، أنفذوا الساعة إليه، وافرغ لي من هذا.
قال: فراسلت الرجل، فما طلع الفجر، حتى حضر وأولاده، وعقدت النكاح لهم، على بنات إسحاق، في خطبة واحدة، وحمل إسحاق بين يدي كل واحدة، خمسة آلاف دينار، عيناً، وشيئاً كثيراً من الطيب، والثياب، والدواب، والبغال، والغلمان.
فأعطاني كل واحد من الأزواج شيئاً مما وصل إليه، وأنفذ لي أمهات الأولاد، هدايا في الحال، وشكرنني على تخليص بناتهن، وانقلبت الحال إلى السرور.
فخرجت، وقد حصل لي ثلاثة آلاف دينار عيناً، وشيء كثير، من الطيب والثياب.
شغف المتوكل بالعود الهنديحدثني الحسين بن محمد الجبائي، قال: حدثني أبو القاسم عمرو بن زيد البزاز الشيرازي، المقيم ببغداد، قال: حدثني ابن حمدون النديم، عن آبائه، أن أحدهم أخبره: إن المتوكل، كان مشغوفاً بالعود الهندي، فشكا إليه ذات ليلة، إعوازه، قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين، الملوك لا تستقبح أن تستهدي من الملوك، طرائف ما في بلادها، فلو أنفذت إلى ملك الهند، هدية حسنة، واستهديت منه عوداً هندياً، ما كان ذاك عيباً.
قال: فتكون أنت الرسول.
فأبيت.
فألزمني، إلى أن أجبت، فتمنيت أني لم أكن أشرت عليه بالرأي، وإن كان صحيحاً، لأجبر على الخطر بالنفس، وقلت في نفسي: قد كان يسعني السكوت.
وأعد المتوكل الهدايا، وتأهبت للخروج، ووصيت، لإيآسي من الرجوع.

فلما أجد بي الخروج، قلت: ليس إلا أن أحمل معي شراباً كثيراً، فإذا اشتدت الأمواج، شربت، وسكرت، ولا أعقل إن غرقت، ولا أحس بعظم الأمواج، مع السكر.
فاستكثرت من الشراب القطربلي والغناء الحسن، والتفاح الشامي، وجعلت بعضه في العسل، ليبقى.
وخرجت، فأقمت بالبحر شهوراً، وعانيت أهوالاً عظيمة، إلى أن وصلت إلى الساحل من بلد الهند، فأركبت الظهر، وسرت من بلد إلى آخر، إلى أن دخلت بلهوار، دار الملك الأعظم من ملوك الهند، وهو اسم الملك الأعظم هنالك.
فوصلت إلى البلد، مع أصحابه، وقد تلقيت، وأكرمت، وخدمت، وأنزلت داراً حسنة، من دورهم.
ثم جلس مجلساً عاماً، فدخلت إليه، وهو في حفله، وتأهبه، وجيشه، ورعيته، وقد جلس على سرير ملكه، وعليه مئزران حرير صيني، وقد اتشح بأحدهما، واتزر بالآخر، وفي حلقه خيط فيه صرة من ذلك الحرير، لا أدري ما فيها.
وكلمني بترجمانه، وقال: يقول لك الملك، لأي شيء قصدت؟ فقلت له: إن أمير المؤمنين أحب صلة الحال والمودة بينه وبينه، فبعثني لذلك، وحمل على يدي هداياه، وسألت أن يأمر بتسلمها.
فأعاد الترجمان عنه، جواباً حسناً جميلاً، وإنه أمر بقبض الهدية، وانصرفت، ورسله معي، فتسلمها.
وترددت إلى المجالس العامة، دفعات.
فلما كان بعد أيام، استدعاني في نصف نهار، وكان الزمان حاراً، فدخلت دار العامة التي كنت أصل إليه فيها، فلم أجد فيها كثير أحد، فأدخلت من موضع إلى آخر، حتى أدخلت إليه، وهو جالس في حجرة في غاية الحسن، والسرو، والظرف، والملاحة، وفاخر الآلات، كأنها من حجر دار الخلافة، ودست طبري في نهاية الحسن، والملك جالس فيه، وعليه قميص قصب في نهاية الخفة والحسن، وسراويل دبيقي، بتقطيع بغدادي، وعلى مسورته رداء قصب فاخر جداً، وبين يديه آلات ذهب، وفضة، وصياغات كثيرة عراقية، كلها حسنة، مملوءة بالكافور والماورد، والعنبر، والند، والتماثيل.
فلما دخلت، كلمني بالعربية، بلسان طلق ذلق، وقال: كيف أنت من قشف بلادنا؟ فشكرت إنعامه، وقرظت بلاده، وذكرت له أني في ريف من تفقده، وبره.
فباسطني، وطاولني، واستطاب حديثي، وأفضت معه في فنون من الأمور، حتى تكامل انبساطه إلي.
وتأملت أمره كله، فإذا رجل عراقي، متأدب.
فسقاني من شراب بين يديه، أصفر، في قدح، في صينية، وقال: اشرب هذا، وقل لي، هل عندكم مثله؟ فقبلت يده، وقبلت القدح، وشربته، وقلت: هذا، في نهاية الطيب والحسن والجودة.
فقال: أصدقني، هل عندكم مثله؟ فوصفت له الشراب القطربلي، وذكرت منافعه، وفضائله، وطيبه، وزدت في الوصف، وبسطته، فرأيت في عينه، استبعاداً لقولي.
فقلت له: إني كنت استصحبت منه شيئاً في طريقي، وقد فضل منه فضلة، لا أرضاها لحضرة الملك، ولكن إن أمر بإحضارها، ليعتبر بها صحة ما ذكرته له، أحضرتها.
فقال: افعل.
فقلت لغلامي: احمل كلما بقي عندنا من الشراب، فجاء الغلام بأدن يسيرة.
وقلت له: أن يحمل شيئاً من التفاح الشامي.
فحمل مما كان في العسل، عدة تفاحات، ومسحها من العسل، وكان في بعضه قد بقيت منه بقية صالحة.
فلما وضعت الدنان بين يديه، أمرت غلامي، ببزلها في قدح، وشربت منه أولاً، ثم دفع إليه، فاستحسن ذلك.
ثم أخذ التفاح، فلما رأى لونه، رأى شيئاً غير ما عنده، وشمه، فكاد أن يشهق استطابة، وشربه، وتقدح بشيء من التفاح، وقد كنت كسرت واحدة، وأكلت نصفها في حال شربه، وتركت النصف الآخر بين يديه، فتنقل به، ومسح فاه.
ثم قال لي: ما ظننت أن في الدنيا مثل هذا الشراب، ولا مثل هذا النقل، ولقد بعد في نفسي ما أخبرتني به، فلما شاهدته صدقتك، وعظم في نفسي بلد يكون مثل هذا فيه مبتذلاً، ولم أصدق ذلك لو لم أشاهده.
ثم قال لي: ويحك، تشربون مثل هذا، وتتنقلون بمثل هذا، وتموتون؟ إن هذا لأمر عجيب.
ثم صار يستدعيني، كل يوم، إلى تلك الحجرة، فآكل معه، ونشرب، ويخرج إلي بالأحاديث.
فلما أنست به، قلت له: أيها الملك، أتأذن لي، أن أسأل عن شيء؟ قال: قل.
قلت: إن الله عز وجل، قد جمع لك من الملك العظيم، أنك جالس في هذه الحجرة في قطعة من دار الخلافة بالعراق، بلا فرق ولا شك، وقد أعطاك من حسن الرأي والفهم، واللسان العربي، ما جعلك به، كأنك رجل من أهل بغداد، فمن أين لك هذا؟

فقال: ويحك، إن أبي كان من أولاد الملوك، وقتل أبوه، وانتزى على ملكه بعض قواده، ثم خرج عليه، ولم يكن من أهل بيت الملك، فهرب أبي خوفاً على دمه، إلى عمان، فدخلها مستخفياً، وتنقل في البلدان، إلى أن وقع ببغداد، في زي التجار، ومعه من يخدمه، ويكتم أمره، وطاف بلدان العراق، وكانت المادة تحمل إليه من ها هنا.
فأقام بالعراق سنين، حتى تفصح بالعربية، وعاشر أهل العراق، ونكح منهم، وخالطهم، وتطاولت السنون به، ومات ذلك الخارجي، الذي قتل أباه، وغصبه الملك، فأوقف أهل المملكة الملك عليه، وكاتبوه بالصورة، واستقدموه، وأمدوه بالأموال، فاستصحب قوماً من العراقيين، من أهل الأدب والعشرة، وأهل الصنائع، فقدم، فملك الأمر، وجعل غرضه، طلب العراقيين، وأسنى لهم العطايا، فكثروا عنده، فبنوا له هذه الحجرة، وخدموه بهذه الآلات.
فكان يجلس لأهل المملكة في زيهم، لئلا يشيع عليه مخالفتهم في الزي، وينقص بين ملوكهم، فيهون أمره عندهم، ويجلس في خلواته هكذا.
فلما ولدت، أسلمني إلى العراقيين، والهنديين، فكلموني باللغتين، فنشأت أتكلم بهما، ثم أدبني العراقيون، وغلبوا علي.
فلما مات، سلم الملك إلي، فاتبعت طرائقه في الجلوس العام لأهل المملكة بزيهم، والانفراد عنهم في الخلوة بهذا الزي.
قال: فقلت له: فما ذلك الذي تعلقه في حلقك في الصرة؟ فقال: هذه الصرة، فيها عظم من عظام الرجل الذي جاء بعبادة البد وأقام هذه الشريعة لهم، وله كذا وكذا ألف سنة، وذكر عشرات ألوف سنين.
وقال: إن الرجل، لما مات، وصى، بأن يجعل في تابوت، بعد تابوت، كذا وكذا ألف سنة، فما يزال، كلما بلي شيء من عظامه، احتفظوا بالباقي، ونحوا البالي، لئلا يسرع الفساد إلى الصحيح، إلى أن لم يبق منه إلا هذا العظم الواحد، فخافوا أن يبلى أيضاً، فجعلوه في حق من ذهب، وجعلوهما في صرة، وصارت الملوك تعلقه في حلوقها، في خيط، تعظيماً، وتبركاً به، وتشرفاً بمكانه، وصيانة له عن البلى، فقد علق في حلق كذا وكذا ملك، مدة أيام ملكهم كذا وكذا سنة، وذكر أمراً عظيماً، وقد صار عندنا كالبردة التي لصاحبكم، يلبسها خلفاؤكم.
قال: فلما طال مقامي، وضجرت، سألته الإذن في تسريحي، وأعلمته إعجاب الخليفة، بالعود الهندي، وأشرت عليه بالاستكثار منه، وقلت: هو أحب إليه من جميع ما تهديه إليه، من غيره.
فأنفذ منه شيئاً عظيماً، هائلاً، كثيراً، وفيه من الطرائف ما لم يسمع بمثله.
وأنفذ معه من الجواهر، واليواقيت، والتوتيا، وطرائف بلاده، ما يكون قيمته مالاً جليلاً، وأضعاف ما حملناه إليه.
فلما أردت توديعه، قال: اصبر، ثم دعا بصندوق، ففتحه، وأخرج منه مفتاح ذهب، وأخرج منه قطع عود هندي لطافاً، فأعطانيها، وقد كان قد ما أعطانيه نصف رطل، ودعا بدرج، وجعله فيه، وقفله، وسلمه ومفتاحه إلي، وقال: هذا خاصة، توصله من يدك إلى يده.
قال: فأنكرت ذلك في نفسي، وقلت: أبت الهندية فيه إلا الحمق.
قال: فبان له التنكر في وجهي. فقال: أظنك احتقرته؟ فقلت: وما هذا حتى توصيني فيه بمثل هذا.
فقلت: الملك يقول.
فقال: يا غلام، هات مجمرة، وناراً.
فأتى بهما، ودعا بمنديل لطيف للكم، فأتى به، وأخرج من ذلك العود شظية، مقدار أقل من نصف دانق فضة، فطرحها في النار، وبخر بها المنديل، ثم قال: شم.
فشممت شيئاً، لم أدر ما هو، لا يشبه الند، ولا العود، ولا شيئاً طيباً نتبخر به، ما شممت مثله قط.
فقلت: يحق لهذا أن يوصيني به الملك بما وصى.
فقال: اصبر، حتى أريك منه أعجب مما رأيت.
ودعى بطشت وماء، فأحضرهما، وأمر بغسل المنديل بالصابون، فغسل بين يديه، ثم أمر بأن يجفف في الشمس، ويحضر.
قال: ففعل.
ثم قال: شمه.
فشممت الرائحة بعينها، لم تتغير، ولا نقصت.
فأعاد الغسل بالصابون، والتجفيف، دفعات تقارب العشرة، إلى أن انقطعت الرائحة في الأخيرة.
فهالني ذلك.
فقال: اعرف الآن قدر ما معك، واعلم أنه ليس في خزائن ملوك الهند كلها، من هذا، رطل واحد، غير ما أعطيتك، وعرف صاحبك فضيلته.
قال: فودعته، وانصرفت.

ورزق الله السلامة، ودخلت على المتوكل، فسر بقدومي، وأكرمني، وسلمت إليه الهدايا، فحسن موقعها منه، وأعدت عليه أكثر حديثي مع الملك، إلى أن بلغت خبر النصف رطل عود، وأخرجته، فسلمته إليه، ولم أشرح له خبر الخرقة. فاستحمق الرجل، كما استحمقته، فقصصت عليه الشرح، وأخرجت المجمرة، والنار، وخرقة، وفعلت كما فعل الملك، فهاله ذلك، أمراً عظيماً، وسر به سروراً شديداً، وقال: هذا النصف رطل بسفرتك.
قال الحسين: فقال لي عمرو بن زيد: استبعدت أمر هذا العود، إلى أن حدثني بعض التجار الثقات، المشهورين بدخول الهند دفعات، بحديث هذا العود، ووصفه لي، فخرج الحديثان واحداً على اتفاق.
فقلت: هل سمعت ما سبب قلته؟ فقال: سألتهم عن سبب ذلك، فقالوا: ليس ينبت إلا في موضع واحد، في قلة جبل، بيننا وبينه مشاق، وغرر، وأخطار، ووحوش ضارية كثيرة، فالملوك تتكلف إنفاق الأموال العظيمة، على مرور الأيام، والشهور، والأعوام، حتى يصل أصحابهم إلى ذلك الجبل، ويصعدون منه إلى حيث يمكن، فيبلغون إلى حيث لا طريق فيه، ولا حيلة، ويرون تيوساً، كالتيوس الجبلية التي ها هنا، ترعى في تلك الأشجار من بعد، فربما اتفق أن يروا الواحد، وهو في الذروة، وفي فيه قطعة من هذا العود يأكله، فيرمونه بالسهام، فإذا اتفق أن يصيبه السهم، فيسقط التيس إليهم بحمية السهم، وفي فمه ذلك العود، فيتناولوه من فيه، وإلا فلا سبيل إلى الحصول على شيء من العود البتة.
ففي سنين طوال، تتفق هذه القطعة اليسيرة، بعد المشقة العظيمة، على مراصدة الرجال بذلك.
فبهذا السبيل يقل.
الكاتب بشر بن هارون
النصراني يهجو وزيراً
أنشدنا أبو علي عبد الله بن الحجاج، لأبي نصر النصراني، الكاتب، يهجو أبا الفضل الشيرازي - الوزير كان - من أبيات:
ما كل من طول عثنونه ... ينال فضلاً يا أبا الفضل
طولت عثنونك تبغي العلى ... أي علىً في ذنب البغل
ولست أحصي كم رأيت امرأ ... ألحى ولكن كوسج العقل
رأي الوزير ابن الفرات في سياسة المملكةحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري، الشاهد، قال: حدثنا الحسين بن فلان، الكاتب، النصراني، الملقب ببظر أم الدنيا، قال: قال لي ابن الفرات: أول أمور السلطان مخرقة، فإذا استحكمت، وتمت، صارت سياسة.
الخليفة لا يخاتلوحدثنا، قال: حدثنا قاضي القضاة أبو محمد بن معروف، قال: كنت مع المطيع لله، في طياره، وقد ركب، وأنا واقف بين يديه، مع حاجبه، وكلما دعت له طائفة، سألني عنها، فأخبره بها، حتى دعت له طائفة من الطالبيين.
فقال: من هؤلاء؟ فقلت: الطالبيون.
فأعرض عنهم، وأطرق ساعة، وعبس، إلى أن جازهم.
ثم قال: يا عبيد الله.
قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: العلوية أهلي، وأقرب الناس إلي، ووالله إني أحبهم، ولكني أعلم، أنهم يبغضوني، ومثلي لا يخاتل، ولا يجوز أن أعاملهم إلا بما رأيت.
علم الخرق وعلم الورقوسمعته يقول: سمعت جعفر الخلدي الصوفي، يقول: لو تركني الصوفية، لجئتكم بإسناد الدنيا.
مضيت إلى عباس الدوري، وأنا حدث، فكتبت عنه مجلساً واحداً، وخرجت من عنده، فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية، فقال: أيش هذا معك؟ فأريته إياه.
فقال: ويحك، تدع علم الخرق، وتأخذ علم الورق.
قال: ثم خرق الأوراق.
ودخل كلامه في قلبي، فلم أعد عباس.
المواساة بخل، إنما هو الإيثاروسمعته يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت جنيداً الصوفي، يقول: سمعت سري السقطي الصوفي، يقول: أعرف قوماً يرون المواساة بخلاً، إنما هو الإيثار.
الجنيد والسائلوسمعته يقول: سمعت جعفر الخلدي، يقول: وقف سائل على الجنيد، ونحن في حلقته، فسأله.
فرد عليه، فقال: يا هذا، الصناعة واحدة، ولكنا أظرف، انصرف أغناك الله.
فانصرف.
جعفر الخلدي يحج على التوكلوسمعته يقول: سمعت جعفراً الخلدي يقول: حججت ستاً وخمسين حجة، منها عشرون حجة على المذهب، يعني على التوكل بلا زاد ولا راحلة.
كتم رويم حب الدنيا أربعين سنةوسمعته يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول: من أراد أن يستكتم سراً له، فليستكتم رويم، فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة.
فقيل له: كيف؟

قال: كان يتصوف أربعين سنة، فولي بعد ذلك، إسماعيل بن إسحاق القاضي، قضاء بغداد، وكانت بينهما مودة وكيدة، فجذبه إليه، وجعله وكيلاً على بابه، فترك الصوفية، والتصوف، والتوكل، ولبس الخز، والقصب، والدبيقي، والمروي، وركب الحمير والبغال، وأكل الطيبات، وبنى الدور.
وإذا هو كان يكتم حب الدنيا، لما لم يجدها، فلما وجدها، أظهر ما كان يكتم من حبها.
البريء جريء والخائن خائفوسمعته يقول: سمعت أبا القاسم البزاز الصوفي يقول: سمعت الجنيد يقول: قال لنا السري السقطي: البريء جريء، والخائن خائف، والجاني مستوحش.
ومن الشعر الجيد في هذا المعنى:
أمستوحش أنت لما أسأت ... فأحسن إذا شئت واستأنس
الجاهل ميت، والعاصي سكرانحدثنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، القاضي، قال: حدثنا أبو القاسم البزاز، قال: حدثني بعض أصحاب سهل بن عبد الله التستري الزاهد، قال: قال لنا سهل: الجاهل ميت، والعاصي سكران، والمصر هالك.
كن صحيحاً تكن فصيحاً
من أمثال العامة: كن صحيحاً، تكن فصيحاً.
ومن أمثالهم في هذا المعنى: إذا كان بولك صحيحاً، فاضرب به وجه الطبيب.
أي إذا كنت سليماً، فلا تبال ما صنعت.
حسن الأدب بين يدي اللهسمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري، يقول: سمعت جعفراً الخلدي، يقول: سمعت جنيداً، يقول: سمعت سرياً السقطي، يقول: الناس في الأعمال يتقاربون، وإنما قارب من قارب، بحسن الأدب بين يدي الله تعالى.
ابن نصرويه يشاور شاباً
وحدثني، قال: كان أبو الحسين بن نصرويه، ربما شاورني في الشيء يجري، فأستعظم ذلك منه، وأقول: مثلك أنت والشيخ المجرب، المحنك، المدرب، المهذب، تشاور مثلي، وأنا ولدك، هذا مما يوحشني منك، ويقع لي أنك تجريه مجرى الهزل.
فيقول لي: قد رفعك الله عن هذا، وإنما كان هذا يجري كما قلت، لو كنت لا أناقضك الرأي، وتناقضني، وأحاجك وتحاجني، إلى أن يتقرر الشيء بيننا، فأعمل بما يتقرر، فأما وأنت تراني أفعل هذا، فلا مظنة فيه، وأمثل ما عندك في نفسي أنك شاب، ولعمري إن علم الشباب محقور.
الوزير المهلبي ينعى على أبي تمام الزيني
نقص مروءتهوحدثني، قال: سمعت أبا الحسين بن نصرويه يقول: وافى أبو محمد المهلبي، لما كتب لمعز الدولة، البصرة، فاعتقل القاضي أبا القاسم جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، ليغض منه، ويشفي أبا تمام الزيني الهاشمي، لأجل ما كان بينهما من المصاهرة، وعداوته لابن عبد الواحد، ولم يكن بين ابن عبد الواحد، والمهلبي، شيء يختص به من عداوة.
فدخل أبو تمام إلى المهلبي مسلماً، فلما خرج، قال المهلبي لغلمانه: انظروا إلى أين بلغ؟ .
فعادوا، وقالوا: قد خرج من الدهليز، وانصرف.
فقال: أقبض على مثل ابن عبد الواحد، لا لشيء إلا لأجله، ويدخل إلي، وهو معتقل عندي، فلا يكون فيه من المروءة، ما يدخل إليه، ويعرض نفسه عليه، ويتكفل بأمره، ويسألني فيه، ويكون سبب إطلاقه، ويسترقه بذلك؟ قم يا أبا الحسن فخذ بيد ابن عبد الواحد إلى منزله، فقد أطلقته.
قال: فمضيت إلى ابن عبد الواحد، وهو في الحبس، فحدثته بما جرى، وجئت به إلى المهلبي حتى شكره، وانصرف إلى منزله.
الوزير المهلبي يفاضل بين ابن عبد الواحد والزينيوحدثني، قال: سمعت أبا الحسين نصرويه، يقول: حضرت مجلس المهلبي، وقد دخل إليه جعفر بن عبد الواحد، فلقيه بوجه مقطب، وقصر به، ثم جلس، وأخرج من كمه رقعة، فتأملت التثاقل والتكره في وجهه، فقرأها، ووقع فيها، ثم أخرج أخرى، وأخرى، إلى أن عرض عليه عدة رقاع، فوقع، وكلما وقع في واحدة، انبسط وجهه في وجه ابن عبد الواحد، إلى أن تكاملت الرقاع.
ثم قام ابن عبد الواحد، ودخل أبو تمام الزيني، فرفعه المهلبي، أتم رفعة، واهتش له، وأقبل عليه بوجهه، فأخرج رقعة فعرضها عليه، فوقع له، وأخرج عدة رقاع، وكان كلما أخرج رقعة، ووقع فيها، ظهر في وجهه الكراهية والتثاقل، إلى أن فرغ من الرقاع. فأخذها أبو تمام، وقام.

فأقبل المهلبي، وقال: يا أبا الحسين، شتان بين الرجلين، دخل إلي ابن عبد الواحد فعملت على أن أقصيه، بما عاملته من قلة الرفع والتقرب، فعرض علي أول رقعة، فاعتقدت قبل قراءتها أن أردها، فلما قرأتها، وجدتها لحاجة غيره، فاستحييت أن يكون أكرم مني، وقد بذل جاهه لمن سأله سؤالي، مع ما يعلمه بما له عندي، فما منعه ذلك أن يستميح بجاهه للسائل، وأبخل أنا بما أقدر عليه، فيكون أكرم مني، فأنفت من ذلك، ووقعت له، ثم توالت رقاعه، فوجدت جميعها في حوائج الناس، ما له ولا لأحد ممن يخصه شيء منها، فوقعت في جميعها، ونفسي سمحة بذلك، وقد نبل في عيني، وتذممت من رده.
وقد دخل هذا، فعاملته من الأكرام بما رأيت، لما بيني وبينه، فعرض رقاعه، فوجدت أولها في شيء يخصه، فوقعت له، وكلما عرض رقعة تطلبت أن يكون فيها شيء لغيره، فأقضيه له، وأجعل له محمدة عليه، فما وجدت الجميع إلا له، وفيما يخصه، فكرهت ذلك منه، وانحط من عيني، ولم أستحسن رده، لما بيننا، فوقعت له، فكيف يمكنني أن أرفع ممن هذا سبيله، وأضع ممن ذلك سبيله.
الغيبة فاكهة القراءسمعت أبا إسحاق، يقول: سمعت جعفراً الخلدي، يقول: سمعت الجنيد، يقول: سمعت السري السقطي، يقول: فاكهة القراء الغيبة.
سري السقطي يشتهي أكلةوسمعته يقول: سمعت جعفر الخلدي، يقول: سمعت الجنيد، يقول: سمعت السري السقطي، يقول: أشتهي منذ ثلاثين سنة، شهوة ما قدرت عليها.
فقيل له: ما هي؟ قال: أشتهي آكل أكلة، لا يكون فيها لله عز وجل علي تبعة، ولا لمخلوق، فما وجدت ذلك.
من مكارم أخلاق أبي عمر القاضيوسمعت أبا إسحاق، يقول: سمعت بعض شهود الحضرة القدماء، يقول: كنت بحضرة أبي عمر القاضي، وجماعة من شهوده، وخلفائه الذين يأنس بهم، فأحضر ثوباً يمانياً، قيل له في ثمنه خمسون ديناراً، فاستحسنه كل من حضر المجلس.
فقال: يا غلام، هات القلانسي، فجاء.
فقال: اقطع جميع هذا الثوب، قلانس، واحمل إلى كل واحد من أصحابنا قلنسوة.
ثم التفت إلينا، وقال: إنكم استحسنتموه بأجمعكم، ولو استحسنه واحد، لوهبته له، فلما اشتركتم في استحسانه، لم أجد طريقاً، إلا أن يحصل لكل واحد منكم، واحدة منها.
تعليق المهلبي على كتاب القنائي الكاتبحدثني أبو الحسين محمد بن محمد بن إسماعيل بن شانده الواسطي، قال: كان أبو قرة، الحسين بن محمد القنائي الكاتب، قد كتب لأبي علي كتاب ابن العباس الديلمي، المعروف بالكوسج، ضامن واسط، برسالة الوزير أبي محمد المهلبي، ومشورته عليه بذلك، ثم استوحش منه، فاستتر منه، يومين، أو ثلاثة، وراسله، فأمنه، وظهر، فكتب أبو قرة، إلى المهلبي، بخبره، بعد ظهوره، بسبب استتاره، لئلا يهجن أخباره عند أبي علي.
قال: فوقع بخطه على ظهر الكتاب، توقيعاً قرأته، فكان: أحسن الله إليك، كما أحسن توفيقك، فلتسكن نفسك، فإني عونك، ومن ورائك، إن شاء الله.
الوزير المهلبي يستولي على غلات بالبصرة
دون رضى أصحابهاوحدثني أيضاً، قال: كان المهلبي، في بعض انحداراته إلى البصرة، وهو وزير، أضاق، فأخذ غلة عظيمة، بعشرة آلاف دينار، لأبي علي، وجدها بالبصرة، وأخذ غلات التجار المحدورة من دستميسان، وواسط، وغلات خلق كثير، وباعها، وصرفها، في دخل وخرج المملكة.
فأشير على أبي علي، بالإصعاد إلى سبكتكين الحاجب، ومسألته ليخبر معز الدولة بذلك، فيأمر بارتجاعها منه.
فخالف أبو علي، وانحدر إلى المهلبي، فتلقاه بالأبلة.
قال: فلما صعدت إليه، هش بي، وسر سروراً عظيماً، وقال: ما جاء بك؟ فقلت: بلغني أن الوزير أيده الله، أخذ غلة وجدها لي بالبصرة، فسررت بذلك، لتقديري أنه شرفني بهذه الحال، وبسط يده في مالي، كما يبسطها في مال نفسه، وأوليائه، إذا احتاج إلى أموالهم، وتشرفت بذلك، إلى أن بلغني أنه أخذ مع مالي، أموال التجار، وأصحاب الضياع، وأصاغر الناس، من أهل دستميسان، وواسط، فأقلقني ذلك، وعلمت أن هذا، لو كان على سبيل الأنس، لخصني به سيدنا الوزير، ولم يشرك فيه معي، هذه الطبقة، التي لا يجوز لمثله أن يأنس بها في قرض ولا استعانة، وإنما هم للمصادرات فقط، فخفت أن يكون جميل رأيه في، استحال، في تخليطي بهذه الطائفة، فجئت مستصلحاً لرأيه، وواقفاً تحت أمره.

قال: فأعجبه قولي جداً، فقال لي: يا أبا علي، أنت والله مقبل، - وكررها مراراً - ، قبل أن تدخل بلحظة، حضرني من قال: إنك قد أصعدت إلى الحاجب سبكتكين، لتشاكيني إليه، فاعتقدت لك كل قبيح، وعملت على نصرة فعلي، إن جرى فيه كلام، بكل ما يجوز أن ينصر به مثله، فأنا أفكر في ذلك، إذ استؤذن لك علي، فدخلت، فسحرتني، ووالله، لا خرجت من هذا الموضع، أو أوصلك إلى مالك، أو أكثره، وأقيم لك بالباقي وجوهاً ناضة.
وجذب الدواة، فكتب الوجوه، بما يعجل، ويسبب، وفرغ من ذلك، وأمر بإنشاء الكتب، وسبب لي بالباقي، على سباشي الخوارزمي، مولى معز الدولة، ضامن البصرة.
فأخذته في مدة قريبة، وأصعدت إلى واسط.
وشديد عادة منتزعةحدثني أبو بكر بن جعفر السواق، أحد تجار الكرخ ببغداد، المشهورين باليسار والستر، وحفظ القرآن، ووجه من وجوههم، قال: كان علي وعد بنقدة، لابن عبدان الصيرفي، وهذا رجل باق إلى الآن، من وجوه الصيارف، بدرب عون، من المياسير، فأخرت إنجازه، لضرورة لحقتني، ولم تكن عادتي جارية معه بمثل ذلك.
فجاءني يقتضيني، وقال في عرض الخطاب: أقول لك يا أبا بكر، كما قال الله: وشديد عادة منتزعة.
فقلت: إنا لله، إنا لله، ما قال الله عز وجل هذا.
قال: فاستحيا مني، وقام، فما عاد إلي أياماً.
فلما حضرت الدراهم، أنفذتها إليه.
صلاة التجاروكان عندنا بالبصرة، رجل من التجار، مستور، يعرف بأبي علي بن سعدان، أحد الباعة في دار البطيخ، موسر، يركب، وينبسط في المجالس، وفي الكلام.
فأخبرني أبو طلحة الأزدي، صاحب بني المثنى، شيخ مستور، قال: رأيته مرة، ونحن جلوس في دهليز جعفر بن عبد الواحد القاضي، ننتظر الإذن عليه، وقد حضرت العصر، فقام كل واحد منا، فصلى، وقام ابن سعدان، فصلى صلاة، لم أر قط أسخف منها.
فقلت له: يا أبا علي، هذه ليست صلاة، فأحسن صلاتك، فإن هذه الصلاة، كما قال ابن المعتز:
صلاتك بين الملا نقرة ... كما اختلس الجرعة الوالغ
فقال لي: يا أبا طلحة، أعزك الله، هذا فضول لا نعرفه، نحن نصلي صلاة التجار.
فقلت له: هذا أعجب، كأن الله عز وجل، فرض على التجار صلاة غير الصلاة التي فرضها على سائر عباده؟ وتمام الشعر، لابن المعتز، مشهور، وكان النميري، نديمه، صلى بحضرته، صلاة سخيفة، ثم سجد بعدها، سجدة طويلة.
فقال ابن المعتز، ارتجالاً، البيت الأول، وتمامه:
وتسجد من بعدها سجدة ... كما ختم المزود الفارغ
من بز يوماً بز به
حدثني محمد بن عدي بن زحر البصري، جارنا بها، قال: رأيت أبا إسحاق ياسين، وهو رجل كان ينزل بالقرب من الجامع بالبصرة، وقد حدث في آخر عمره، يناظر رجلاً في الجامع، وهو يقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
من بز يوماً بز به ... والدهر لا يغتر به
القاضي ابن بهلول يوصي القاضي
التنوخي لما نصبه للقضاءحدثني أبي، قال: كان أول شيء قلدته، القضاء بعسكر مكرم، وتستر، وجنديسابور والسوس، وأعمال ذلك، من قبل القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي. وكنت في السنة الثالثة والثلاثين من عمري، وذلك في شهور إحدى عشرة وثلاثمائة، لأن مولدي في ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين ومائتين.
فلما سلم إلي أبو جعفر العهد، أوصاني بتقوى الله عز وجل، وبأشياء من أمور العمل، وسياسته في الدنيا والدين، وبأمر جاريه، أتنجزه من العامل هناك، لأنه كان مسبباً عليه، فودعته، ونهضت.
فقال: اجلس، فقد أنسيت مهماً.
فجلست، فقال: إنك شاب، وفضلك تام، وعملك وافر، وإنك سترد على قوم فيهم شر، وسيحسدونك على فضلك، أو يطلبون معايبك، إذا حكمت عليهم بالحق، فلا يجدون طريقاً إلى الغض منك، إلا بنسبتك إلى الحداثة، وقلت حنكتها، ولن تعدم منهم ذلك، فإن صدقت حققوا ما يريدون، والكذب لا يجوز، فإياك أن تخبر بسنك على حقيقتها، ولكن إذا سئلت عنها، فقل: دون الأربعين سنة، فلو كانت عشرين، أو أقل، لكنت صادقاً، وفي فزعك إلى الأربعين ستر عليك، لأنها الأسد، وحد التكهل والحنكة، فإن بليت بمن يطول معك، فيقول: دون الأربعين بكم؟ فقل: لست أذكر، وانو أنك لست تخبر، ليقطع الخطاب، ويقع للسائل، أنك ناس حقيقة سنك.

قال: فخرجت، واتفق أن شعرة واحدة، ابيضت في لحيتي، في مسافة الطريق، فلما دخلت الأهواز، تعملت لإخراجها بالمشط، إلى حيث يلحقها النظر، تجملاً بها.
واستقبلني محمد بن جعفر بن معدان الشاهد، وكان يخلف أبا جعفر، على الوقوف، وقد كاتبه بإعظامي، وتلقي، فجاءني بمركوب إلى الشط، وركبته إلى دار اتخذت لي، وكان يغشاني في كل يوم.
فلما أردت الخروج إلى عملي، قال لي: قد هالني ما رأيته من فضل القاضي أيده الله، فكم سنوه؟ فذكرت، وصية أبي جعفر، فقلت: دون الأربعين سنة.
فقال: دونها بكم؟ فقلت: لست أذكر.
فلم يشك أني ناس لتحققها، فأمسك عني.
وهذا ضد ما نشاهده الآن، فإني قد رأيت ببغداد، قاضيين، هاشميين خطيبين، شاهدين، أحدهما أجل وأنبه، وإليهما أعمال جليلة، وأحدهما قد تقلد من جهة الخليفة جلائل الأعمال، ووهل نفسه، لقضاء القضاة، وخطب ذلك فما تم له، وهما يخضبان لحيتهما، ظاهراً، بالسواد، وأحدهما ترك ذلك، قبل موته بسنين، وهو الأدون محلاً، والآخر باق مقيم على الخضاب، إلى الآن، ونسأل الله ستراً جميلاً، فإن الخضاب، وإن كانت فيه روايات، فإنما يعذر فيه الجند، والكتاب، ومن لا يتصدى للحكم والشهادة، فأما من نصب نفسه، فلا عذر له فيه.
ابن شاهويه القاضي يبحث في قضية شرعيةحدثني أبو القاسم عبد الرحيم بن جعفر، الفقيه المعروف، بابن السماك، السيرافي، قال: كنت بحضرة أبي بكر محمد بن أحمد بن علي بن شاهويه، القاضي بأرجان، فتقدم إليه نفسان، ادعى أحدهما على الآخر ألف درهم.
فسأله: فأنكر.
فقال للمدعي: لك بينة؟ فقال: لا، ولكن استحلفه لي.
فقال للمدعى عليه: أتحلف؟ قال: قد كان قدمني إلى القاضي الذي كان قبلك، واستحلفني له، على هذه الدراهم.
فقال للمدعي: ما تقول؟ فقال: نعم، قد كان حلف لي كاذباً.
فقال: انصرف، فلا مطالبة لك عليه.
فانصرفا.
ثم التفت إلي، وإلى أبي الوعد الفقيه على مذهبنا، يعني مذهب أبي حنيفة، وجماعة من الفقهاء كانوا قعوداً، والجماعة حنفيون، فقال: أرأيتم إن ادعى هذا المدعي الألف، إنه قد حلف المدعى عليه، وإني ما حلفته، وأردنا أن نعرض اليمين عليه، فذكر أنه قد حلف على هذا المعنى، ولم يزل ذلك يتردد بينهما، في دعوى كل واحد على صاحبه، كيف نفصل الحكم بينهما؟ قال: ففكرنا جميعاً ساعة، ثم جرى خوض لم يتقرر له معنى، ولم يتضح لنا وجه الفتوى.
فقلت له: إن رأى القاضي، أن يذكر ما عنده.
فقال: حكى لنا القاضي أبو طاهر الدباس، عن أبي خازم القاضي، في هذه المسألة بعينها إنه قال: للحاكم أن يستحلف الذي ادعيت عليه الألف في الابتداء، إن هذا المدعي عليك الألف درهم، لم يستحلفك عليها عند حاكم آخر.
الدليل على تحليل نبيذ التمرسئل بعض غلمان أبي الحسن الكرخي، عن الدليل على تحليل النبيذ التمري المعمول بالداذي، الشديد، المسكر، فقال: قد وجدنا، أن الله تعالى، لما وعدنا بالجنة، ووصفها لنا، أباح لنا في الدنيا من جنس ما وعدنا به، وحلل لنا تناولها، لنعرف بذلك فضل ما وعدنا به في الجنة، ودوام ذلك، وانقطاع هذا.
فلما وعدنا بالخمر في الجنة، وقد حرمها علينا في الدنيا، ولا طريق إلى علم فضلها، لنحرص على الأعمال التي توجب دخول الجنة، وشربها فيها، فوجب أن يبيح لنا في الدنيا، شيئاً من جنسها هكذا، نستدل به على طيبها، فكان النبيذ.
دليل آخر على تحليل النبيذوكان قد سئل عن مثل هذا مرة أخرى، فقال: إن الله تعالى، خلق المنثور الذي ليس بخيري، والله لا يخلق ما لا فائدة فيه، وليس فيما عدا الخيري من المنثور فائدة، إلا أن يشرب عليه النبيذ.
وكان يخرج هذا القول، مخرج الجد، لمن يستضعفه، ومخرج الهزل، مع أهل العلم.
الجبائي وتحليل النبيذوأصحاب الحديث، والحفاظ، يقولون: إنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث في تحريم النبيذ، ولا في تحليله.
فذهب أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، في مسألة أملاها في تحليل النبيذ، مشهورة، إلى أن الأصل في الأشياء، أنها على الإباحة، إلى أن يثبت حظرها.
فلما كان العقل، لا يدل على تحريم النبيذ، ولم ينقطع العذر عن تحريمه، وجب أن يكون على الأصل من الإباحة.

ثم نصر ذلك، بأشياء أوردها، واعترض أدلة المحرمين له، وبين فسادها، وأورد زيادات على نفسه، وانفصل عنها بما يطول شرحه، ويخرج عما نحن فيه، إن أوردناه.
الوزير المهلبي يناظر بعض دعاة الفتنة ببغدادحضرت مجلس أبي محمد المهلبي، وكانت العامة ببغداد، قد هاجت في أيام وزارته، وعظمت الفتنة، وقبض على جماعة من العيارين وحملة السكاكين، وجعلهم في زوارق مطبقة، وحملهم إلى بيروذ، وحبسهم هناك.
فاستهانوا بالقصة، وكثف أمرهم، وكثر كلام القصاص في الجوامع، ورؤساء الصوفية، فخاف من تجديد الفتنة، فقبض على خلق منهم، وحبسهم، وأحضر أبا السائب، قاضي القضاة إذ ذاك، وجماعة من القضاة، والشهود، والفقهاء، وكنت فيهم، لمناظرتهم، وأصحاب الشرط، لنأمن مضرتهم، إذا قامت الحجج عليهم.
فاتفق أن بدىء برجل من رؤساء الصوفية، يعرف بأبي إسحاق بن ثابت، ينزل بباب الشام، أحد الربانيين، عند أصحابه، فقال له: بلغني أنك تقول في دعائك: " يا واحدي بالتحقيق، يا جاري اللصيق " ، فمن لا يعلم بأن الله لا يجوز أن يوصف بأنه لصيق على الحقيقة، فهو كافر، لأن الملاصقة من صفات الأجسام، ومن جعل الله جسماً كفر، فمن يكون محله في العلم هذا، يتكلم على الناس؟ وقل لي: ما معنى ما بلغني عنك، أنك تقول في جملة كلامك: " أخذتني مني، ولم تبقني علي، فها أنا بلا أنا " .
حصلنا على أنكم تهذوا، وتوهموا الناس، على أنكم ربانيين، وتستدعونهم، بالجهالات، إلى الضلالات، وتفتنون حضرة السلطان عليه.
السياط يا غلام.
فلم يزل يسأل في أمره، حتى كف عنه، وكتب عليه أن لا يتكلم على الناس، ولا يحلق حلقة.
لماذا كنى نفسه أبا البيانكان يجيء - بالبصرة - إلى معلمي، معلم يكنى أبا الحسن، وكنى نفسه، أبا البيان.
فسمعت معلمي يعاتبه على ذلك، ويقول: يا هذا، غيرت كنيتك، وهي مقبولة، وكنية أمير المؤمنين.
فقال له: يا أبا جعفر، كم رأيت في عمرك من كنيته أبو الحسن؟ قال: لا أحصي.
قال: فهل رأيت أبا البيان غيري؟ قال: لا.
قال: خذ بيدك، هذه واحدة من فضائلها، ومن ذلك أني أشتهر بها، ولا أشارك فيها.
ومن فضائلها: أن تسقط عني التلقيب، وأن يشتغل الناس بها، عما سوى ذلك من عيوبي.
طريقة أبي البيان المؤدب في التدريسورأيته يوماً عند معلمي، في مكتبي، وقد حضر وقتاً كان فيه المعلم يأخذ علينا الشعر، وكانت عادته أن يقيم الصبيان صفاً، فيطالبهم بإنشاد القصيدة.
فأقامهم في تلك العشية، وقد حضر أبو البيان، فقال له: يا أبا جعفر، ما هذا التفريط؟ قال: وكيف؟ قال: إن لي عادة في سياسة الصبيان، لا أرخص لهم فيها، إن سألتني علمتك إياها.
فقال: افعل.
قال: تقدم إلى صبيانك، أن يمتثلوا أمري، لأريك ذلك.
فقال لهم أبو جعفر: انظروا ما يأمركم به أبو البيان، فافعلوه.
فأقبل عليهم يخاطبهم في كلامه، فقال: لكم أقول أيها الصبيان، ولمن يجاوركم من الغلمان، إلى حدود الأحداث والفتيان، اسمعوا وعوا، فمن خالف بعد البرهان، أنزلت به غليظ الامتحان، تراصوا في صفوفكم، والزقوا أقدامكم، وأقيموا ألواحكم، وأقبلوا علي بألحاظكم، وأحضروا فيما تنشدون قلوبكم، وارفعوا أصواتكم، وقولوا قول صبي واحد:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وصاح بالشعر مطرباً.
فما ملك الصبيان الضحك، وضحك معلمي معهم.
فقال: يا أبا جعفر، التراب والجندل بفيك وعلى رأسك، والويل والويح محيطان بك، أتطمع أن تعلمهم بهذه الهيبة؟ حفت بك اللعنة والخيبة، أسبابك أفسدت، أمن قدري بضحكك وضعت؟ أم سترك عند هؤلاء الأنكاد هتكت؟ أشهد الله، لا أكلمك، أو تعتذر.
وأخذ أبو جعفر، يداريه، ويعتذر إليه، حتى رضي لوقته.
وكان يقول الشعر، وينشده أبا جعفر دائماً، وما حفظت منه شيئاً.
ولولا أن هذه الألفاظ، تعاودناها في المكتب ونحن صبيان، لم تعلق بحفظي، فلما ترعرعت، كتبتها في موضع، وأنسيتها، ثم نقلتها منه، إلى هذا الموضع، وبقيت عندي إلى الآن.
مؤدب يتشاتم مع التلاميذوسمعت، وأنا في الكتاب، أنه جاء إلى معلمي، فأسلم إليه ابنه، فقال له: لم نقلته من عند المعلم الأول؟ قال: لأنني جزت به يوماً، والصبيان يتشاتمون، وهو لا يمنعهم بأكثر من أن يقول: قيدوا ألفاظكم، أخزى الله حرماتكم، لا تتشاتموا يا بني البظر.

وإذا هو، ليس يمنعهم من سوء الأدب، ويدخل في جملة المتشاتمين، فنقلته.
رقية للمرأة كي لا تسقط حملهاحدثني عبد الله بن عمر بن الحارث، قال: كان أبي يكتب آي الرقى، على أصل وقع إليه في ذلك.
وكان مما يكتبه رقية للمرأة، إذا خافت أن تسقط ولدها، وتعلق في وسطها، فلا تسقط.
قال: وجربنا عليه ذلك، على طول السنين، فلم يخطىء.
يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا " ، الآية، " وما قدروا الله حق قدره " ، الآية " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " ، إلى آخر السورة، " ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة " ، الآية.
رقية لإعادة الآبققال: وكان يكتب رقية الآبق، ما رأيتها أخلفت، وهي أن تأخذ رقاً فتكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، " وذا النون إذ ذهب مغاضباً، فظن أن لن نقدر عليه " ، إلى: " ننجي المؤمنين " ، " أو كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج " ، إلى آخر قوله تعالى: " فما له من نور " ، " فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم " ، أدركه بآيات الله، يرده رب السموات والأرض، فاجعل ما بينهما أضيق على فلان - يعني الآبق - من مسك حمل، حتى تمكن منه، فإنه من فضلك وعطائك.
ويدفن الرق في عتبة باب.
رقية لإمساك الرعافقال: وكان يكتب للرعاف، في ورقة، ويعلقه على جبهة المرعوف: بسم الله الرحمن الرحيم، " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي " إلى قوله تعالى: " للقوم الظالمين " . " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده، ولوا على أدبارهم نفورا " .
رقية للخراجوكان يكتب للخراج على ورقة سلق، وتوضع على الخراج: " ما أصابك من حسنة فمن الله ... " الآية.
القطيعي الطبيب وذكاؤه ومكارم أخلاقهحدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أبي محمد الصلحي الكاتب، قال: رأيت بمصر طبيباً كان بها، مشهوراً، يعرف بالقطيعي، وكان يقال: إنه كان يكسب في كل شهر ألف دينار، من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء العسكر، ومن السلطان، ومما يأخذ من العامة.
قال: وكان له دار، قد جعلها شبيه البيمارستان، من جملة داره، يأوي إليها ضعفاء الأعلة، يعالجهم، ويقوم بأودهم، وأدويتهم، وأغذيتهم، وخدمتهم، وينفق أكثر كسبه في ذلك.
قال أبو الحسن: فأسكت بعض فتيان الرؤساء بمصر - وأسماه لي، فذهب عني اسمه - وكنت هناك، فحمل إليه أهل الطب، وفيهم القطيعي، فأجمعوا على موته، إلا القطيعي.
وعمل أهله على غسله، ودفنه.
فقال القطيعي: دعوني أعالجه، فإن برىء، وإلا ليس يلحقه أكثر من الموت، الذي قد أجمع عليه هؤلاء.
فخلاه أهله معه.
فقال: هاتم غلاماً جلداً، ومقارع، فأتي بذلك.
فأمر به فمدد، فضربه عشر مقارع، من أشد الضرب، ثم مس مجسه، وضربه عشراً أخرى شديدة، ثم مس مجسه، وضربه عشراً أخرى. ثم مس مجسه، فقال للطب: أيكون للميت، نبض يضرب؟ فقالوا: لا.
قال: فجسوا.
فجسوه، فقالوا: قد زاد نبضه.
فضربه عشراً أخرى، فقوي النبض.
فضربه عشراً أخرى، فتحرك الميت.
فضربه عشراً أخرى، فصاح.
فقطع عنه الضرب، فجلس العليل يجس بدنه، ويتأوه، وقد ثابت قوته إليه.
فقال: ما تجد؟ فقال: أنا جائع.
فقال: أطعموه الساعة.
فجاءوه بما أكل، ورجعت قوته، وقمنا، وقد برىء.
فقال له الطب: من أين لك هذا؟ قال: كنت مسافراً في قافلة فيهم أعراب يخفروننا، فسقط منهم فارس عن فرسه، فأسكت، فقالوا: قد مات، فعمد شيخ منهم، فضربه ضرباً عظيماً كثيراً، وما رفع الضرب عنه، حتى أفاق، فعلمت أن الضرب، جلب إليه حرارة أزالت سكتته.
فقست عليه أمر هذا العليل.
مهاترة بين رجلين من الخاصةحدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد الأزدي، قال: حدثني أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، قال: كنت، وأنا حدث، أوقع بين يدي، أبي محمد دلويه، وهو، إذ ذاك، يكتب للمؤتمن سلامة - أخي نجح الطولوني - حاجب القاهر.

فجاءه يوماً أبو علي الحسين بن القاسم بن عبيد الله، وأبو جعفر الكرخي مسلمين، فحبسهما للأنس، وأجلست في دست، في صدر قبة كانت له، وجلس دونهما على مطرح، وفرش في بيت إلى جانب القبة، له باب إليها، واجلس فيه ابنه، وأجلسني معه، وكأنه رفع الرجلين عن معاشرتهما لنا، ونحن أحداث، وأراد بذلك سماع كلامهما، والأنس بسماع الغناء.
وكان إلى جانب القبة، بيت آخر، فأجلس الغناء فيه، ومدت ستارة على بابه.
وأخذوا في الشراب، ونحن نسمع الغناء، وما يجري من كلامهم، ولا نرفع أصواتنا بالكلام، لئلا يسمعوا ذلك.
فلما توسطوا الشراب، أحضر باكورة، فقبلها، ثم أقبل عليهما، وقال: الإنصاف أن أقسمها أثلاثاً، ولكني قد وفرت قسمي عليكما يا سيدي، فاقتسماها أنتما.
فأخذها الحسين بن القاسم، فقال: يا سيدي، يا أبا جعفر، هذه تحب أن آخذ أنا ثلثيها، وأعطيك ثلثها؟ فقال الكرخي: فعلام يا سيدي؟ فقال: لأنك، أنت وأخوك، ولدتما توأماً، فأنت نصف توأم، وأنا تام لأني ولدت وحدي، ولو كان أخوك حاضراً، لكان لي ولك وله أثلاثاً، ومع غيبته، فأنت لا تستحق أكثر من الثلث.
فقال له أبو جعفر: ما أعجب هذا، أنت رجل كان جدك نصرانياً، يعتقد أن الله ثالث ثلاثة، ونشأ أبوك فصار ثنوياً، وترك مرتبة، ونشأت أنت فكان القياس أن تترك مرتبة واحدة أخرى، ولكنك تركت مرتبتين، فنشأت ملحداً، لا تعتقد شيئاً أصلاً، ولم نعيرك بذلك، تعيرنا أنت بالتوأم، ولا ذنب لنا فيه، وما هو عار على الحقيقة.
فغضب الحسين بن القاسم، وابتدر ليجيب.
فقام دلويه، وقال: الطلاق ثلاثاً، لازم لي، وكل ما أملكه صدقة، إن أجبت يا سيدي بشيء، ولا تكلمت أنت يا سيدي، يا أبا جعفر بشيء، فإن هذا يخرج الآن عن المزاح إلى العربدة، والأحقاد، والوحشة التي تبقى، وقدركما يرتفع عن هذا.
قال: فسكتا ساعة واجمين، ولم يزل أبو محمد، يداريهما، ويبسطهما، ويستعطف كل واحد منهما لصاحبه، حتى اصطلحا.
ابن سكرة الهاشمي يهجو
القاضي ابن أبي الشواربأنشدني محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي، وهو من ولد عبد الله بن علي بن المهدي، المعروف بابن ريطة، غلب عليه اسم أمه، كما غلب على إبراهيم بن المهدي، اسم أمه شكلة، يهجو أبا العباس بن أبي الشوارب، وهو من ولد خالد بن أسيد الأموي، أخي عباد بن أسيد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، لما تقلد قضاء القضاة، وكانت العامة تلقبه بحدندل:
خلعت على حدندل من مديحي ... قميصاً لا اكتسى رجل كساه
على نفسي دعوت لأن جهلي ... دعاني أن شرهت إلى نداه
وكيف رجوت جوداً من عدوي ... ولم أغسل حسامي من دماه
من مختار شعر أبي فراسلأبي فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون العدوي التغلبي، قصيدة أولها:
وقوفك في الديار عليك عار ... وقد رد الشباب المستعار
ويقول فيها:
وطال الليل بي ولرب دهر ... نعمت به لياليه قصار
وندماني السريع إلى ندائي ... على عجل وأقداحي الكبار
عشقت بها عواري الليالي ... أحق الخيل بالركض المعار
إذا انحسر الظلام امتد آل ... كأنا دره وهو البحار
يموج على النواظر فهو ماء ... ويلفح بالهواجر فهو نار
فكم بلد شتتناهن فيه ... ضحى وعلى منابره المغار
وكن إذا أغرن على ديار ... رجعن ومن طرائدها الدمار
وكم ملك نزعنا الملك منه ... وجبار بها دمه جبار
وله قصيدة أولها:
عذيري من طوالع في عذاري
يقول فيها:
أرى نفسي تطالبني بأمر ... قليل دون غايته اصطباري
وما يغنيك من همم طوال ... إذا قرنت بأحوال قصار
وقيل لي انتظر زمناً ومن لي ... بأن الموت ينتظر انتظاري
للشاعر الببغاء يصف شراباً
أنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي، المعروف بالببغاء، الكاتب، لنفسه، يصف شراباً في قدح أبيض، أبياتاً ثابتة في ديوانه، اختصرت منها قوله:
بالقفص للقصف منزل كثب ... ما للتصابي في غيره أرب

دارت نجوم الكؤوس في فلك ... منه له من فتوتي قطب
من كل جسم كأنه عرض ... يكاد لطفاً باللحظ ينتهب
نور وإن لم يغب ووهم ولو ص ... ح وماء لو كان ينسكب
لا عيب فيه سوى إذاعته الس ... ر الذي في حشاه يحتجب
كأنما صاغه النفاق فما ... يخلص منه صدق ولا كذب
فهو إلى لون ما يجاوره ... على اختلاف الطباع ينتسب
إذا ادعاه اللجين أكذبه ... بالراح في صبغ جسمه الذهب
جلت عروس المدام حالية ... فيه علينا الأدوار والنخب
فالراح بدر والجام هالته ... والأفق كفي والأنجم الحبب
زمان الهوى ألذ زمانوأنشدني لنفسه مقطوعة:
فليالي الصبا أسر ليال ... وزمان الهوى ألذ زمان
وأسر البلاد ما حمد السا ... كن فيها خلائق الجيران
مريض بالاستسقاء تشفيه أكلة جرادحدثني بعض المتطببين، قال: حدثنا أبو منصور بن مارية، كاتب أبي مقاتل، صالح بن مرداس الكلابي، صاحب حلب، وكان أبو منصور من رؤساء أهل الصراة، الذين يضرب بهم المثل، في كل فن، وكان أديباً، وقد شاهدته، ولم أسمع منه هذه الحكاية، قال: أخبرني أحد شيوخنا، قال: كان بعض أهلنا قد استسقى، وأيس من الحياة، فحمل إلى بغداد، فشوور الطب فيه، فوصفوا له أدوية كثاراً، فعرفوا أنه قد تناولها بأسرها، فلم تنجع، فأيسوا منه، وقالوا: لا حيلة لنا في برئه، وهذا تالف.
فسمع العليل ذلك، فقال لمن كان معه: دعوني الآن أتزود من الدنيا، وآكل ما أشتهي، ولا تقتلوني بالحمية قبل أجلي.
فقالوا: كل ما تريد.
فكان يجلس على دكان باب الدار التي نزلها ببغداد، فمهما رآه يجتاز على الطريق، اشتراه، وأكله.
فمر به رجل يبيع الجراد مطبوخاً، فأجلسه، واشترى منه عشرة أرطال، وأكلها بأسرها.
فلما كان بعد ساعة من أكله، انحل طبعه، وتواتر قيامه، حتى قام في ثلاثة أيام أكثر من ثلثمائة مجلس، وضعف، وأيس منه.
ثم انقطع القيام، وقد زال كل ما كلن في جوفه، وأنابت إليه قوته، وبرأ.
فخرج برجليه، في اليوم الخامس، يتصرف في حوائجه، فرآه أحد الطب، وعجب من أمره، وسأله عن الخبر، فعرفه.
فقال: ليس من شأن الجراد، أن يفعل هذا الفعل، ولا بد أن يكون في الجراد الذي فعله، خاصية، فأحب أن تدلني على بائع الجراد.
قال: فما زالوا في طلبه، حتى اجتاز بالباب، دفعة ثانية، ورآه الطبيب، فقال: ممن اشتريت هذا الجراد؟.
فقال: ما اشتريته، أنا أصيده، وأجمع منه شيئاً كثيراً، وأطبخه على الأيام، وأبيعه.
فقال: من أين تصطاده؟ قال: فذكر قرية على فراسخ يسيرة من بغداد.
فقال له الطبيب: أعطيك دنانير، وتدع شغلك، وتجيء معي إلى الموضع الذي اصطدت منه الجراد.
قال: نعم.
فخرجا، وعاد الطبيب من غد، ومعه من الجراد شيء، وحشيشة.
قالوا له: ما هذا؟ فقال: صادفت الجراد الذي يصيده هذا الرجل، يرعى في صحراء جميع نباتها حشيشة يقال لها: مازريون، وهي من دواء الاستسقاء، وإذا دفع إلى العليل منها وزن درهم، أسهله إسهالاً يزيل الاستسقاء، ولكن لا يؤمن أن ينضبط، ولا يقف، فيقتله بالذرب، فالعلاج بها خطر جداً، وهي مذكورة في الكتب، ولفرط غررها، لا يكاد أن يصفها الطب، فلما وقع الجراد على هذه الحشيشة، وأنضجتها معدته، ثم طبخ الجراد، فضعف فعلها، بطبخين اجتمعا عليها، وقصر، وتناولها هذا، وقد تعدلت بمقدار ما أبرأته، ولم تدفع طبعه دفعاً لا ينقطع، فبرأ.
مريض بالاستسقاء يبرأ بعد أن طعم لحم أفعىحدثنا محمد بن أحمد بن طوطو الواسطي، أبو الحسين، قال: سمعت أبا علي عمر بن يحيى العلوي الكوفي، يقول: كنت في بعض حججي، في طريق مكة، فاستسقى رجل كان معنا، من أهل الكوفة، وثقل في علته.
وسل الأعراب قطاراً من القافلة، وكان العليل على جمل منه، فلما افتقد، جزعنا عليه، وعلى القطار، وكنا راجعين إلى الكوفة.
فلما كان بعد مدة، جاءنا العليل إلى الكوفة، معافى.

فسألته عن قصته، وسبب عافيته، فقال: إن الأعراب، لما سلوا القطار ساقوه إلى خيمهم، وكانت قريبة من المحجة، على فراسخ يسيرة، فأنزلوني، ورأوا صورتي، فطرحوني في آخر بيوت الحي، وتقاسموا ما كان في القطار.
وكنت أزحف، وأتصدق بين البيوت ما آكله، فأطعم، فتمنيت الموت، وسهل علي، وكنت أدعو الله تعالى، به.
فرأيتهم يوماً، وقد عادوا من ركوبهم، فأخرجوا أفاعي قد اصطادوها، وقطعوا رؤوسها وأذنابها، واشتووها، وأكلوا.
فقلت: هؤلاء يأكلون هذه الأفاعي، ولا تضرهم للعادة التي تربوا عليها، ولعلي أنا، إن أكلت شيئاً منها، تلفت، فأستريح مما أنا فيه.
فقلت لبعضهم: أطعمني من هذه الحيات، فرمى إلي بواحدة، فيها أرطال، مشوية، فأكلتها بأسرها، وأمعنت، طلباً للموت، فأخذني نوم عظيم، وانتبهت، وقد عرقت عرقاً عظيماً، واندفعت طبيعتي، فقمت في بقية يومي وليلتي، أكثر من مائتي مجلس، إلى أن سقطت طريحاً، والطبع يجري، فقلت: هذا طريقي إلى الموت، فأقبلت أتشهد، وأدعو بالمغفرة.
فلما أضاء الصبح، تأملت بطني، وإذا هي قد ضمرت جداً، وزال عنها ما كان بها، فقلت: أيش ينفعني هذا، وأنا ميت؟ فلما أضحى النهار، انقطع القيام، ووجبت الظهر، فلم أحس بقيام، وجعت، فجئت لأزحف على العادة، فوجدت نفسي خفيفاً، وقوتي صالحة، فتحاملت، وقمت، ومشيت، وطلبت منهم مأكولاً، فأطعموني، فقويت، فبت تلك الليلة الثانية معافى، ما أنكرت شيئاً من أمري.
فأقمت أياماً، إلى أن وثقت من نفسي، بأني إن مشيت نجوت، فأخذت الطريق مع بعضهم، إلى أن صرت على المحجة، ثم سلكتها منزلاً، منزلاً، إلى الكوفة مشياً.
ابن نصرويه يجيز شاعراً مدحه بثلاثة دراهم
حدثني أبو أحمد الفضل بن محمد، ابن بنت المفضل بن سلامة البصري، قال: كنت عند أبي الحسين محمد بن عبيد الله بن نصرويه فدخل إليه شاعر غريب، ورد إلى البصرة، يعرف بالمطرف الحميري، فامتدحه بقصيدة حسنة، فأمر غلامه أن يعطيه عطية، ساره بها، فلما قام الشاعر معه، أعطاه إياها، فإذا بالشاعر، قد رجع من الدهليز، فرمى بالقرطاس، في حجر ابن نصرويه، فكان فيه ثلاثة دراهم، ثم استخف به، بكلام قبيح، وأنشده ثلاثة أبيات هجاء له باسمه، ونسبه، طيبة، ارتجلها، ورده، وترضاه، وابذل له عني مائة درهم، وأن لا يعيد في هجائي شيئاً.
فتبعته، وسعيت على أثره، حتى لحقته، وما زلت أداريه، إلى أن بذلت له المائة درهم، فقال:
لا ألبس النعماء من رجل ... ألبسته عاراً على الدهر
وانصرف، فلا أدري، الشعر له، أو لغيره.
بحث في شكوى الزمانوحدث أبو العباس الحسين بن علي بن الفضل بن سليمان الواسطي، قال: كنت جالساً ببغداد، في سنة ثماني عشرة، عند صديق لي بباب الطاق، فتشاكينا الهم والغم، وفساد الزمان، إذ ذاك، ولو كان لنا ذاك الفساد الآن، لكان غاية الصلاح.
فقال لي: يا أبا العباس، هون عليك، فلو وقف الإنسان في هذه السوق العظيمة، وأشار بيده إلى باب الطاق، وصاح: يا مكروب، لما بقي فيها أحد، إلا قال له: لبيك.
توقيع للقاضي ابن معروفلما تقلد الطائع لله، أمير المؤمنين، الخلافة، طالب القاضي أبا محمد، عبيد الله بن أحمد بن معروف، أن يتولى له الوزارة، فامتنع عليه من ذلك، وبذل له أن يتدبر أمره، ويقوم له بترتيب الأمور إلى أن يستكتب من يراه.
فكان يحضر دائماً، ويعينه بنفسه، ويدبر الأمور، وربما لم يكن في الدار كاتب، فيوقع بخطه في الأمور.
وأما أول يوم، فكان نظر الوزراء، فمن ذلك، أنه وقع بتوقيع نسخته: ليكتب للحسين بن موسى الهاشمي، من الحضرة بالمظالم، وتسيير الحجيج أيام المواسم، ونقابة الطالبيين من بني هاشم.
وكتب عبيد الله بن أحمد في يوم كذا من شهور كذا.
كتاب كتبه أبو إسحاق الصابيقرأت كتاباً كتبه أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، الكاتب، في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلثمائة عن ابن بقية، وهو إذ ذاك وزير إلى أبي المظفر حمدان بن ناصر الدولة، وهو بحلوان متقلداً لها ولطريق خراسان، وقد أنزل عياله في دار أبيالعلاء صاعد ببغداد، يسأله تفريغها، وخط أبو إسحاق نسخته، نقلتها من خطه:

كتابي أطال الله بقاء سيدي الأمير، وأدام تأييده ونعمته، يوم كذا، عن سلامة، وسيدي الأمير، أدام الله عزه، يعرف مذهبي في رعاية الحقوق التي تضعف أسبابها، ويصغر أصحابها، فما عنده فيما تناهى عندي، يزيد تأكداً ووجوباً، وتقدماً وتمهيداً، وما منزلة أبي العلاء صاعد بن ثابت، عندي، تخفى على سيدي الأمير أدام الله عزه، فأذكرها، وهو بضعة مني لا تتميز، وكاللحمة التي لا تنفصل، وليس ما تحدثه أحوال الزمان والتصرف، من شوائب تشوب، وتوائب تنوب، مغيراً للأصول، ولا قادحاً في الاعتقاد، وما كانت صورته في الوحشة التي لحقته، وأخلت منه داره، موجبة للرخصة في أن تنزل، ولو رام ذلك منها غير سيدي الأمير أدام الله عزه، لعز عليه أن يناله، وإنما سمحت له بذلك، لثقتي بطاعته لي، وعلمه بأن ذلك المنزل منزلي، وأنني أعيره وأسترده، وأتصرف فيه تصرف من يملكه، وقد قبح بي أن يكون أبو العلاء، مع أواصره الوكيدة، وملازمته لي المتصلة، ممنوعاً منه، وأسبابه منتقلين عنه، وتردد مني في ذلك، مراسلات ومكاتبات، أحمدت نتاجها، الحكاية عن الحرة - يعني امرأة حمدان - أيدها الله، في التذمم، ومعرفة الحق، وإيثار الانتقال، وأنكرت أن يقف الأمر مع هذه الحال، فالأعراض كثيرة مبذولة، وأنا أسأل سيدي الأمير أيده الله، أن يوجب ما أوجبت، ويعرف ما عرفت، ويراعيني أولاً، ثم حقوق أبي العلاء ثانياً، ويكتب إلى من ينوب عنه، بقبول ما يعرضه، والانتقال إليه، ويسلم الدار، فلو كانت له، لاستنزلته - والعياذ بالله - عن ملكها، ولم أقنع بخروجها عن اليد، فكيف إذاً، وهي مستعارة، والحكم فيها الرد، وسيدي الأمير ولي ما يراه في هذا الأمر الخاص بي، وحاشاي أن أعيد فيه قولاً أو كتاباً، أو أتجشم من أجله قصداً أو إعادة، فقد أنفذت بكتابي هذا، قاصداً يوصله أبو الفتح قرة بن دنحا، في معناه، ما يعرفه الأمير من جهته إن شاء الله.
ونسخة التوقيع بخط الوزير: أنا راغب إلى الأمير، أدام الله عزه، في هبة هذه الدار لي، ولا أقول أكثر من هذا، والسلام.
أبو العلاء صاعد يفتخرحدثني أبو العلاء صاعد بن ثابت، قال: لما كثر دخولي إلى الملك عضد الدولة، ببغداد، سنة أربع وستين وثلثمائة، وكان إذا رآني، يقول لي سائلاً: يا أبا العلاء، ما أنحل جسمك؟ فلما كثر ذلك علي، عملت أبياتاً، وأنشدته إياها، وهي:
يقول مليك الأرض جسمك ناحل ... على ذاك عرضي والثناء جميل
وأحسن ما في الهندواني أنه ... نحيف رقيق الشفرتين صقيل
فإن أك معروق العظام فإنني ... نهوض بأعباء الأمور حمول
أقوم أغصان الخطوب إذا التوت ... برفقي ومثلي في الكفاة قليل
أرى الملك المنصور أنكر مضربي ... وأي حسام ليس فيه فلول
وكم لك عندي من يد وصنيعة ... أقصر عن شكري لها فتطول
ومن لفظة تسري إلي ونظرة ... عليها من الرأي الجميل دليل
إذا صح لي من حسن رأيك لمحة ... فليس لمقدور إلي سبيل
كظم الغيظ من مكارم الأخلاقحدثني إبراهيم بن عيسى بن نصر السوسي، النصراني، الكاتب، قال: قال أبي: قام في نفسي حقد على رجل، لقبيح عاملني به، أربعين سنة، ما كافأته عليه إلى أن مات.
الأمير سيف الدولة يصفح عن أحد أتباعه
ويعيد إليه نعمتهحدثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن معروف، أخو قاضي القضاة، أبي محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، قال: كنت بمصر، وكان بها رجل يعرف بالناظري، من تناء حلب، وقد قبض سيف الدولة ضيعته، وصادره، فهرب منه إلى كافور الإخشيدي، فأجرى عليه جراية في كل شهر، سائغة، كما كان يجري على جميع من يقصده، من الجرايات التي سماها: الراتب، وكان مالاً عظيماً، مقداره في كل شهر خمسون ألف دينار، لأرباب النعم، وأجناس الناس، وليس فيها لأحد من الجيش ولا من الحاشية، ولا من المتصرفين في الأعمال شيء.
قال: فجرى ذكر هذا الناظري، بحضرة كافور، وقيل إنه بغاء، وكثرت الحكايات عنه بحضرته، فأمر بقطع جرايته.

فرفع إليه، يشكو انقطاع المادة، ويسأل التوقيع، بإجرائه على رسمه، فأمر، فوقع على ظهر الرقعة: قد صح عندنا أنك رجل تصرف ما نجريه عليك، فيما يكره الله عز وجل، من فساد نفسك، وما نرى أن نعينك على ذلك، فالحق بحيث شئت، فلا خير لك عندنا.
قال: وخرج التوقيع إلى الرجل، فأعضل به، فعمل محضراً، وأخذ فيه خطوط خلق كثير، ممن يعرفه بالستر، وأنه ما عرف قط ببغاء، ولا صحبة الأحداث، وجعله طي رقعة إلى الأستاذ كافور، يحلف فيها بالطلاق والعتاق، والأيمان المغلظة، أنه ليس ببغاء، واحتج بالمحضر، وتركه في طي الرقعة.
وقال: إنه لم يكن يدفع إليه ما دفع، لأجل حفظ فرجه، أو هتكته، وإنما كان ذلك، لأنه منقطع، وغريب، وهارب، ومفارق نعمة، ويسأل رده إلى رسمه.
ورفع القصة إلى كافور.
قال: فلا أدري إلى أين انتهى أمره، إلا أنه صار فضيحة، وتحدث الناس بحديثه.
واتفق خروجي من مصر، عقيب ذلك، إلى حضرة سيف الدولة، بحلب، وجرت أحاديث المصريين، وكان يتشوق إلى أن يسمع حديثهم، فقلت: أمر عجب، جرى بها اتفاقاً، إنه كان بها رجل يقال له الناظري، فقصصت القصة عليه.
فاستضحك من ذلك ضحكاً عظيماً، وقال: هذا المشؤوم بلغ إلى مصر؟ قال: فقال لي محمد الأسمر، علمت أن هذا الرجل، صديقي جداً، وقد هلك، وافتقر، وفارق نعمته، فأحب أن تخاطبه في أمره، عقيب ما جرى، لأعاونك، فلعل الله أن يفرج عنه.
قال: فقلت: افعل.
قال: فأخذ يسألني عن الأمر، فأعدت عليه شرحه، فعاد يضحك.
فقلت له: أطال الله بقاء مولانا، قد سررت، وضحكت، فيجب أن يكون لذلك ثمرة، إما لي، أو للرجل الذي قد صيرته فضيحة بحلب، بما أخبرت بحديثه.
فقال: أما لك، فنعم، وأما له، فما يستحق، فإنه فعل، وصنع، وأخذ يطلق القول فيه.
قال: فقلت له: فوائدي من مولانا متصلة، ولست أحتاج مع إنعامه، ودوام إحسانه، إلى التسبب إلى الفوائد، ولكن، إن رأى أن يجعلها لهذا المفتضح المشؤوم.
قال: فقال: تنفذ إليه سفتجة بثلاثة آلاف درهم.
قال: فشكرته، والجماعة، وخاطبته بأن يأذن له بالعود إلى وطنه، ويؤمنه.
فقال: ويكتب له أمان، ويؤكد، ويؤذن له في العود إلى وطنه.
قال: فغمزني الأسمر في الاستزادة، فقلت: أطال الله بقاء مولانا، إن الثلاثة آلاف درهم، لو نفذت إليه، إلى مصر، من غير أن يؤذن له في العود، ما كفته لمن يحمله على نفسه، لأن أكثر أهل مصر بغائين، وقد صافوه في الناكة، وغلبوه باليسار، فلا يصل هو إلى شيء، إلا بالغرم الثقيل.
قال: فأعجبه ذكري لأهل مصر بذلك، فقال: كيف قلت أيها الأخ؟ فقلت: المياسير من أهل مصر، لهم العبيد العلوج، يأتونهم، لكل واحد منهم عدة غلمان، والمتوسطين يدعون العلوق والزنوج المشهورين بكبر الأيور، فينفقون أموالهم عليهم، ولا يصل الفقير والمتجمل إليهم.
ولقد بلغني آنفاً، وأنا بمصر، أن رجلاً من الفقراء، اشتد عليه حكاكه، فطلب من يأتيه، فلم يقدر عليه، فخرج إلى الموضع الفلاني - قرية ذكرها، قريبة من مصر - فأقام بها، فكان إذا اجتاز بها المجتازون، استغوى منهم من يمتاز بهذا الحال، فحمله على نفسه، وكان يعيش بالمجتاز بعد المجتاز، ويتمكن من إرضائه بما لا يمكن بمصر، فعاش بذلك برهة، حتى جاءه يوماً بغاء آخر، فسكن معه في الموضع، فكان إذا جاء الغلام الذي يصلح لهذه الحال، تنافسا عليه، فأفسده على الأول أمره، فجاء إلى الثاني، فقال له: بيني وبينك، شيخنا ابن الأعجمي الكاتب، رئيس البغائين فجذبه إلى مصر، واحتكما إليه.
فقال: إني كنت لما اشتد بي أمري الذي تعرفه، ومنعني فقري من اتخاذ الناكة بمصر، عدلت إلى الموضع الفلاني، فعملت كذا، وقص عليه القصة، فجاء هذا، وصنع، وقص عليه القصة، وشرح له أمره، فإن رأيت أن تحكم بيني وبينه، فاحكم.
فحكم بينهما ابن الأعجمي، ومنع الثاني من المقام في الناحية، وقال: ليس لك أن تفسد عليه عمله، وناحيته، اطلب لنفسك موضعاً آخر.
فيمكن الناظري - أيد الله مولانا الأمير سيف الدولة - أن يستشفي بثلاثة آلاف درهم، أمرت له بها، في بلد هذه عزة الناكة فيه، وكثرة البغائين؟ . هذا لو كان مقيماً، فكيف وقد أنعمت عليه بالمسير، ويحتاج إلى بغال يركبها في الطريق بأجرة، وديون عليه يقضيها، ومؤن.

قال: فضحك ضحكاً شديداً، من حكاية البغائين، وحكم ابن الأعجمي بينهما، وكان هذا من مشهوري كتاب مصر، فقال: اجعلوها خمسة آلاف درهم.
قال: فقلت له، أنا والجماعة: فيرد أطال الله بقاء الأمير مولانا، بخمسة آلاف درهم، قد أنفقها في الطريق، إلى سوء المنقلب؟ .
قال: وكان يعجبه أن يماكس، فيجود مع المسألة، والدخول عليه مدخل المزاح في ذلك، والطيبة، واقتضاء الغرماء بعضهم لبعض، وما أشبه هذا.
قال: فقال: قد طولتم علي، في أمر هذا الفاعل الصانع، أطلقوا له عن ضيعته بأسرها، ووقعوا له بذلك إلى الديوان، وعن مستغله، وانقلوا من في داره عنها، وتقدموا بأن تفرش أحسن من الفرش الذي كان نهب له منها، لما سخط عليه.
قال: فأكبت الجماعة، تقبل يده ورجله، وتحلف أنها ما رأت مثل هذا الكرم قط، هذا، مع سوء الرأي فيه، وسوء حديثه، ويقولون: ما على الأرض بغاء أبرك على صاحبه منه.
فضحك، ونفذت الكتب، والتوقيعات، بما رسمه.
فلما كان بعد مدة، جاء الرجل، وعاد إلى نعمته، وخلع عليه سيف الدولة، ونظر في حوائجه.
سخاء الأمير سيف الدولةحدثنا أبو القاسم بن معروف، قال: دخلت إلى حلب، إلى أبي محمد الصلحي الكاتب، وأبي الحسن المغربي، أسلم عليهما، وكانا في خدمة سيف الدولة، وهما في دار واحدة نازلان لضيق الدور، وكان وكيل كل واحد منهما، يبكر يوماً، فيقيم لهما، ولغلمانهما، ما يحتاج إليه، للمادة والوظائف، فإذا كان من الغد، بكر الآخر، فأقام الوظائف، لهما، ولغلمانهما، على هذا.
قال: فلما استقررت عندهما، دخل إليهما رجل ضرير، فسلم، وجلس، ثم قال: إن لي بالأمير سيف الدولة، حرمة قديمة، وجواراً، واختصاصاً، أيام مقامه بالموصل، وقد قصدته، ومعي رقعة، فإن رأيتما أن توصلاها إليه، وأخرج رقعة عظيمة، هائلة جداً، فلما رأياها، قالا له: هذه عظيمة ولا ينشط الأمير أن يقرأها، فغيرها، واختصرها، وعد في وقت آخر، فإنا نأخذها، ونوصلها إليه.
فقال: الذي أحب، أن تتفضلا بعرض هذه الرقعة.
فدفعاه عن ذلك، فقام كالآيس، يجر رجله، منكسر القلب، فداخلتني عليه رقة.
وركبت، فدخلت على سيف الدولة، وهو جالس، وكان رسمه، أن لا يصل إليه بتة، أحد، إلا برقعة، يكتبها الحاجب باسم من حضر، واحداً كان أو أكثر، فإذا قرأ اسم الرجل، فإن شاء دعا به، وإن شاء أمر بصرفه.
فلما استقررت، عرض عليه الحاجب، رقعة، فيها: فلان بن فلان الموصلي، الضرير.
فقال: وهذا يعيش؟ أين هو؟ فقال: بالباب.
قال: يدخل، فما أظنه - مع ما أعرفه من زهده في الطلب - قصدنا إلا لجهد حقه.
قال: فدخل، فإذا الشيخ الذي رأيته عند الصلحي والمغربي.
فلما قرب منه، استدناه، وبش به، وقال: يا هذا، ما سمعت بأنا في الدنيا؟ ما علمت مكاننا على وجه الأرض؟ ما جاز لك أن تزورنا، مع ما بيننا من الحرمة الأكيدة، والسبب الوكيد؟ لقد أسأت إلى نفسك، وأسأت الظن بنا.
قال: فجعل الرجل، يدعو له، ويشكره، ويعتذر، فقربه، وأجلسه.
فجلس ساعة، ثم قام، فسلم إليه الرقعة بعينها، فأخذها، وقرأها إلى آخرها، وقال: يا بونس بن بابا - وكان خازنه - فحضر، فأوعز إليه بشيء، ثم استدعى حاجب الكسوة، فساره بشيء، واستدعى رئيس الإصطبل، فأمره بشيء.
وانصرفت الجماعة، وجاء ابن بابا، فوضع بين يديه، صرتين عظيمتين، فيهما دنانير تزيد على خمسمائة دينار.
وجاء حاجب الكسوة، بثياب كثيرة صحاح، من ثياب الشتاء والصيف، منثرة بطيب كثير، وصياغات، من ربع، ومرآة، وما جرى مجرى ذلك.
وجاء عريف الفراشين ببسط، وزلالي، وثياب ديباج للفرش، وسبنيات، وأشياء كثيرة من أنواع الفرش بألوف الدنانير، فصار ذلك كالتل بين يديه.
وكان يعجبه، إذا أمر لإنسان بشيء، أن يحضره إلى حضرته، بحيث يراه، ثم يعطيه لمن وهبه له.
قال: فأخرج ذلك، والضرير لا يعلم، وعنده، أنه قد تغافل عنه، فهو في الريب وأخذ لا يسار الضرير، ولا يقول له شيئاً.
وجاء صاحب الكراع، ومعه بغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، بمركب ثقيل حسن.
وجاء الخادم، ومعه خادم بثياب جدد، فسلمت البغلة إليه، فأمسكها في الميدان أسفل الدكة التي عليها سيف الدولة.
ثم قال للخادم: كم جرايتك؟ قال: عشرون ديناراً في الشهر.

قال: قد جعلتها لك ثلاثين دينارأً، وخدمتك لهذا الشيخ خدمة لنا، فلا تقصر فيها ولا ينكسر قلبك، وأحسن خدمته، ادفعوا له جرايته لسنة، فدفعت في الحال إليه.
ثم قال: فرغوا الدار الفلانية. فتقدم بتفريغها.
ثم تقدم: أن يحمل إلى عياله، زورق من تل فافان، إلى الموصل، فيه كران حنطة، وكر شعير، ويملأ ببقولة الشام، ومآكلها.
ففعل ذلك كله.
ثم استدعى أبا إسحاق بن شهرام، المعروف بابن ظلوم المغنية، وكان يكتب له، ويترسل، إلى ملك الروم، ويبعثه في صغير أموره، وكبيرها، فساره بشيء.
فأخذ أبو إسحاق، الشيخ، وجعل يخاطبه من الأمير سيف الدولة، باعتذار طويل، ويقول: إنك جئتنا في وقت، هو آخر السنة، وقد تقسمت أموالنا الحقوق، والزوار، والجيوش، وببابنا خلق من الرؤساء، ونحتاج أن نواسيهم، ولولا ذلك، لأوفينا على أملك، وقد أمرنا لك بكذا . . .
قال: وجعل ابن شهرام، يقرأ عليه من فهرست قد عمل، ثبتاً للمجموع الذي أمر له به، من صنوف الثياب والفرش، وغير ذلك.
قال: فقلت للأمير سيف الدولة: يا مولانا، لا تورد على هذا الشيخ، هذه الجائزة، جملة، عقب اليأس العظيم الذي قد لحقه، فتنشق مرارته.
قال: فلما استوفى الشيخ الكلام، بكى بكاء شديداً، وقال: أيها الأمير قد والله زدت على أملي بطبقات، وأوفيت على غناي بدرجات، وقضيت حقي، وما هو أعظم من حقي، وما أحسن أن أشكرك، ولكن الله يتولى عني شكرك، ومجازاتك، فتمن علي بتقبيل يدك، فإنه أفضل من كل عطية.
فأذن له في ذلك، فدنا الشيخ، فقبل يده دفعات، فجذبه إليه سيف الدولة، وشاوره بشيء، فضحك الشيخ وقال: إي والله، إي والله، أيها الأمير.
قال: فاستدعى خادم حرمه، وساره بشيء.
وانصرف الشيخ إلى الدار التي أخليت له، وقال له: أقم فيها، إلى أن أنظر في أمرك، وتخرج إلى عيالك.
قال: فسألت عما ساره خادم حرمه، فقال: أخرج إليه جارية من وصائف أخته، في نهاية الحسن، بثياب، وزي، تزيد قيمتها على عشرة آلاف درهم. فحملت إليه.
قال: فقمت قائماً، وقلت: والله، أيها الأمير، ما سمع بهذا الفعل، عن البرامكة ولا غيرها.
فقال: دعني من هذا، ما معنى قولك لأبي إسحاق بن شهرام، لا تورد عليه هذا، عقيب اليأس، فتنشق مرارته؟ فقلت: كنت منذ ساعة، عند أبي محمد الصلحي، وأبي الحسن المغربي، فجرى كذا وكذا، وقصصت عليه القصة، وانصرف هذا الشيخ، أخزى منصرف، ثم جاء بنفسه، فعامله مولانا، بمثل هذا الفعل العظيم، فخفت أن يعرفه فجأة، فتنشق مرارته.
فقال: هاتم الساعة، الصلحي، والمغربي، فجاء أحدهما قبل الآخر، فجلس، ولم يخاطبه حتى حضر الآخر، ثم أقبل عليهما، فقال: ويحكما، أخبراني، ألم أحسن إليكما، وأصطنعكما، وأنوه بكما، وأسن أرزاقكما، وأعل مرتبتكما، وأخفف الخدمة عليكما، وأتناه بجهدي، في قضاء حقوقكما؟ فأخذا يشكرانه.
فقال: ما أريد هذا، إما أن تقولا: نعم، أو لا.
فقالا: بلى، والله، وزيادة.
قال: فمن حقي عليكما، ومكافاة هذا، وشكره، أن تقطعا عني رجاء الناس؛ وتصدانهم عن أملي، وتؤيسانهم من بري، وتنسباني عندهم إلى الضجر برقاع المؤملين، والبخل على المستحقين؟ . ما كان عليكما، لو أخذتما رقعة الرجل، فإن أجرى الله على يدي خيراً، كنتما فيه شريكين، وإن ضجرت، كان الضجر إلي منسوباً، وأنتما منه بريئان، وقد قضيتما حق قصد الرجل لكما، فلا حقه قضيتما، ولا حق الله عز وجل، فيما أخذه على عباده من بذل الجاه، ولا حق إنعامي.
قال: وأسرف في لومهما، وتوبيخهما، حتى كأنهما قد جنيا أعظم جناية.
قال: فأقبلا يعتذران، ويحلفان أنهما ما أرادا إلا التخفيف عنه بقراءة شيء طويل، وأرادا أن يخفف الرجل الرقعة، فتخف قراءتها، وتكون أنجع لحاجته، وإنهما ما قدرا أنه قد أيس، وانصرف مغموماً، ولو علما بذلك، لقصداه، حتى يرتجعا رقعته، ويوصلانها.
قال: فأقبلت الجماعة تدعو له، وتحلف، أن هذا التأديب، والتفضل، والنية في الجود والكرم، أحسن من الفعل الذي عمله مع الرجل، على عظم حسنه، وأنه ليس على وجه الأرض من يعمله غيرك.
الوزير حامد بن العباس يعذبالمحسن بن الفرات حدثنا أبو الحسين الحارثي النهرسابسي، قال: حدثني شيخ من شيوخنا:

إن أبا جعفر بن الشلمغاني، كان في نهاية الاختصاص بحامد بن العباس، فلما وزر اجتذبه معه إلى بغداد، وكان يدخله في آرائه، ويشاوره في مهماته، ويوسطه في كبار الأمور.
قال: فلما جرى من حامد على المحسن بن الفرات، تلك القضية الشديدة، كتب إلى ابن الشلمغاني، يسأله، مسألة حامد الرفق به، والتقدم إلى المستخرج بالتوقف عن ضربه، وإذلاله، ليؤدي على مهل.
فتكفل ابن الشلمغاني بأمره، وخاطب حامد بن العباس في ذلك، فرده، فعاوده في مجلس حافل، ولج حامد، ولج ابن الشلمغاني، إلى أن قال حامد: هاتم المحسن، ابن كذا وكذا، وهاتم الغلمان والمقارع.
قال: فقبل ابن الشلمغاني يده، فلم يقنع، وحلف أنه لا بد أن يصفعه، ويضربه في ذلك المجلس، وتوجه الغلمان ليجيئوا به.
فلما عادوا، ومعهم المحسن، قام ابن الشلمغاني، من قبل أن يدخل المحسن، وانصرف، فاستشاط حامد، وجن، وكاد أن يقبض على ابن الشلمغاني، ويوقع به، ثم استرجع، وأخرج غيظه على المحسن، وصفعه الصفع المشهور، الذي كان سبب قتل المحسن له، لما ولي أبوه الوزارة الثالثة.
قال: ونهض ابن الشلمغاني، فدخل إلى دار حجبة حامد، مغموماً، وأخذ يشكو ما يجده إلى الحاجب، ويتشاكيان، ويقول: هذا الرجل يريد أن يقتلنا كلنا بعده، وأن لا يبقي لنا باقية، يا قوم، أي شيء يعمل بنفسه؟ قال: فهو كذلك، إذ دعا حامد بحاجبه، وقد قام عن مجلسه، ورد حامد المحسن إلى محبسه بعد ما جرى، وقال للحاجب: ويحك، أين ابن الشلمغاني؟ فقال: عندي في الحجرة.
قال: فما قال؟ قال: لم يقل شيئاً.
فأمسك كالخجل، ثم قال: هاته.
فلما جاء، قال: يا أبا جعفر، من حق مودتي لك، أن تتوافى لأعدائي، وتقوم عن مجلسي، إذا رأيتني أوقع بأعدائي؟ فقال: ننصف؟ أو نقول: صدق الأمير؟ قال: أسمع وأنصف.
قال: أيها الوزير، هذا رجل سألتك فيه، فاعمل أنه كان بقالاً، لابن وزير أنت تعلم حالته، وقديم رياسته، فما كان يحسن أن تردني فيه، ولا إن رددتني، أن تسومني الجلوس، وحضور عذاب من شفعت فيه، ثم أنت تعلم، أن الأيام دول، وأن لهذا الفعل عاقبة، يكفيك الله إياها، فأي شيء يضرك من سلامة مهجتي، في حال العافية، وإفلات نعمتي من شر هؤلاء؟ وأن يقولوا غداً: دهننا، ولم يشفع لنا، ولو كان نصحنا ما خالفه الوزير، مع ما بينهما، وما قعد ليشاهد صفعنا، إلا تشفياً منا، وأي شيء أحسن بك من أن تنسب حاشيتك، ومن اخترته لمودتك وأنسك، إلى الخير، وبعدهم من الشر، فيقال: إنه لو لم يكن خيراً، لما استصحب الأخيار، وإنما يحمله على ما فعله، الغضب، والحاجة إلى المال، وإلا فالخير طبعه، والغالب عليه، ولا يقال: إنه شرير جمع الأشرار حواليه، واعلم أني ما قمت من مجلسك، إلا وقد وضعت في نفسي، أنك تنكبني، وعلمت أني قد أسأت أدبي، وأني غير آمن من عجلتك في نكبتي، ولكن قلت: أكون على حق، ومتمسكاً بحجة وحزم، وإن جنى علي، وإن سلمت، فبفضل الله، وإن هلكت فالله يخلصني.
قال: فخجل حامد، واعتذر إليه وقال: اخرج الآن، وخذ بيد المحسن، وتوسط أمره، وخفف محنته.
من شعر المهلبي الوزيروجدت بخط المهلبي الوزير، كتاباً إلى أبي سلمة، أهداه إلي، وقال: هذا كتابه إلي، وهو بالخط الذي أعرفه، وفيه لنفسه:
وصل الكتاب طليعة الوصل ... بغرائب الأفضال والفضل
فشكرته شكر الفقير إذا ... أغناه رب المال بالبذل
وحفظته حفظ الأسير إذا ... ورد الأمان له من القتل
ووجدت بخط أبي محمد، كتاباً، إلى أبي القاسم بن بلبل، كتب إليه به، وهو صغير الحال جداً، وفيه:
طلع الفجر من كتابك عندي ... فمتى بالقاء يبدو الصباح
ذاك إن تم لي فقد عذب العي ... ش ونيل المنى وريش الجناح
وله إلى غيره:
جاد لي بالعتاق من صرف دهري ... بكتاب يسرني أو رسول
فعلى قدر ما تكلف من وص ... لي لعلمي بقطعه للوصول
أشكر البذل من جواد وأزدا ... د إذا البذل جاءني من بخيل
وله أيضاً:
أمثلي يا أخي وشقيق روحي ... يفارق عهده عند الفراق
ويسلو سلوة من بعد بعد ... وينسبه الشقيق إلى الشقاق
وأقسم بالعناق، وتلك أوفى ... وأشفي من يميني بالعتاق

لقد ألصقت بي ظناً ظنيناً ... تجافى جانباه عن التصاق
وله أيضاً:
فديت أخاً يواصلني بكتب ... أسر من البشارة حين تأتي
أخ لم يرض لي بالوصل حتى ... حباني بالبقية من حياتي
وله أيضاً:
ورد الكتاب فديته من وارد ... فيه لقلبي من حياتي مورد
فرأيته كالدر نضد عقده ... في كل فصل منه، فصل مفرد
قال الخليفة المقتدر ما ظننتأن في الدنيا من يأكل طعاماً بلا حلوى بعده
حدثنا أبو منصور القشوري، وكان من الجند المولدين، قال: كنت أخدم وأنا حدث، في دار نصر القشوري، المرسومة بالحجبة من دار المقتدر بالله.
فركب المقتدر بالله يوماً، على غفلة، وعبر إلى بستان الخلافة، المعروف بالزبيدية، وأنا مشاهد لذلك، في نفر من الخدم والغلمان، وتشاغل أصحاب الموائد، والطباخون، بحمل الآلات، والطعام، وتعبيتها في الجون، فانفلت، وأعجل هو في طلب الطعام، فقيل له: لم يحمل بعد.
فقال: انظروا ما كان.
فخرج الخدم، محتارين، ليس يجسروا يعودوا، فيقولوا: ما جا شي، وهم يتشاورون فيما يفعلونه.
فسمعهم جعفر، ملاح طيار المقتدر، الرئيس على الملاحين الذين برسم الخدمة، فنادى عليهم، وقال: معي طعام.
قال: فهاتم ما معه.
فأخرج من تحت الطيار، جونة مليحة، خيازر، لطيفة، فيها جدي بارد، وسكباج مبرد، وبزماورد، وإدام، وقطعة مالح ممقور طيبة، وأرغفة سميذ جيدة، وكل ذلك نظيف، وإذا هي جونة تعمل له في منزله، في كل يوم، وتحمل إليه، فيأكلها في موضعه في الطيار، ويلازم الخدمة.
فلما حملت إلى المقتدر، استنظفها، وأكل منها، واستطاب المالح، والإدام، فكان أكثر أكله منه.
ولحقته الأطعمة من مطبخه، فقال: ما آكل اليوم، إلا من طعام جعفر الملاح، فأتم أكله منه، وأمر بتفريق الطعام على من حضر.
ثم قال: قولوا له: هات الحلوى.
فقال: نحن لا نعرف الحلوى.
فقال المقتدر: ما ظننت أن في الدنيا من يأكل طعاماً، بلا حلوى بعده.
فقال الملاح: حلوانا التمر، والكسب، فإن تنشط له أحضرته.
قال: لا، هذا حلو صعب، لا أطيقه، فأحضروا من حلوانا.
فأحضرت عدة جامات، فأكل، وجلس للشرب.
ثم قال لصاحب المائدة: اعمل في كل يوم جونة، تنفق عليها، ما بين عشرة دنانير، إلى مائتي درهم، وسلمها إلى جعفر الملاك، تكون برسم الطيار أبداً، فإن ركبت يوماً على غفلة، كما ركبت اليوم، كانت معدة، وإن حان المغرب، ولم أركب، كانت لجعفر.
فعملت، إلى أن قتل المقتدر، وكان جعفر يأخذها، وربما حاسب عليها الأيام، وأخذها دراهم.
وما ركب المقتدر بعدها، على غفلة، ولا احتاج إليها.
الخليفة المعتضد يأمر بصنع جزوريةويشبه هذا، ما بلغني عن المعتضد، أنه طلب يوماً لوناً من طعام، فقيل له: ما عمل اليوم.
فأنكر ذلك، وقال: يجب أن لا يخلو المطبخ من كل شيء، حتى إذا طلب لم يتعذر.
ووقع إلى ديوان النفقات بإقامة ذلك اللون، إلى أن يرد التوقيع بقطعه، فكان يصلح، وينفق عليه دراهم كثيرة، ولا يحضر المائدة، توقعاً أن يطلبه، فيقدم عند الطلب، كما رسم.
فمضى على ذلك سنة، ولم يطلبه.
ثم رفعت إليه حسبة، وكان يقف بنفسه على حسباناته، فرأى ما أنفق على ذلك اللون في طول السنة، فاستهوله، وقال: أستغفر الله، ينفق لي من مال المسلمين، على لون لم آكله، هذا كله، إن هذا لعين السرف، اقطعوا عمله، ولا تقع معاودة لمثل هذا، في هذا ولا في غيره.
وقالوا: كان اللون جزورية، فكان يذبح له الطباخ في كل يوم قلوصاً، فلذلك عظمت النفقة.
وقالوا: بقرية، فكان يذبح في كل يوم عجلاً.
وقالوا: مضيرة بفراريج، كل ذلك سمعته.
اللهم أنقذنا من ذل الطمعحدثنا أبو إسحاق، إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد، الشاهد، المعروف بالطبري، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن صالح الأبهري، الفقيه المالكي، وهو باق إلى الآن، ومحله مشهور في الورع والعلم، قال: رأيت في المنام، رجلاً من الزهاد، ذكره لي، وكأني أطلبه، فخرج علي، من بين نخل، وعليه فوطتان، متزر بإحداهما، متشح بالأخرى، كأنه سندي.
فقلت له: قل لي شيئاً، أو عظني بشيء.
فقال: قل: اللهم قصر أملي، وحسن عملي، واستنقذني من ذل الطمع.
آلى على نفسه أن لا يأكل لحم فيل أبداً

وحدثنا، قال: حدثنا جعفر الخلدي، قال: حدثني الخواص الصوفي، قال: ركبت في البحر، مع جماعة من الصوفية، فلما أوغلنا فيه كسر بنا، وركبنا خشباً من خشب المركب، ونجا منا جماعة، فوقعنا إلى ساحل لا ندري أين هو، ولا ما هو، فأقمنا فيه أياماً، لا نجد ما نقتاته، وأحسسنا بالهلاك.
فاجتمعنا، وقال بعضنا لبعض: تعالوا حتى نجعل لله عز وجل، على أنفسنا، إن هو خلصنا من هذا المكان، وأحياناً، أن ندع له شيئاً.
فقال بعضنا: لا أفطر الدهر.
وقال بعضنا: أصلي كل يوم كذا وكذا ركعة.
وقال بعضنا: أدع الكذب.
إلى أن قال كل واحد من الجماعة شيئاً، وقالوا لي: ما تقول أنت؟ فقلت: لا آكل لحم فيل أبداً.
فقالوا: ما هذا الهزل في مثل هذا الموضع؟ فقلت: والله، ما تعمدت الهزل، ولكني منذ بدأتم، أعرض على نفسي شيئاً، أدعه لله عز وجل، فلا تطاوعني نفسي، إلى غير هذا الذي لفظت به، وما قلت إلا ما اعتقدته.
فقالوا: لعل هذا أمراً.
وتفرقنا بعد ساعة، نطوف تلك الأرض، نطلب شيئاً للأكل، فوقعنا على فرخ فيل، في نهاية السمن، فأخذه أصحابنا، واحتالوا فيه، حتى ذبحوه، وشووه.
وقالوا: تقدم، فكل.
فقلت: منذ ساعة، تركته لله عز وجل، ولعل ذلك الذي جرى على لساني من ذكره، إنما هو سبب موتي، لأني لم آكل منذ أيام شيئاً، ولا أطمع في شيء آخر آكله، وما يراني الله أنقض عهده، فكلوا، واعتزلتهم.
فأكلوا، وشبعوا، وعاشوا، وأقبل الليل، فتفرقوا في مواضعهم التي كانوا يبيتون فيها، وأويت إلى أصل شجرة، كنت أبيت عندها.
فلم يكن إلا ساعة، وإذا بفيل، أقبل من الموضع الذي استخرجنا منه الفرخ، وهو ينعر، والصحراء قد امتلأت بنعيره، وشدة وطأته، وهو يطلبنا.
فقال بعضنا لبعض: قد حضر الأجل، فاستسلموا، وطرحوا أنفسهم إلى الأرض، على وجوههم.
فجاء الفيل، وجعل يقصد واحداً واحداً، فيشمه من أول جسده، إلى آخره، فإذا لم يبق منه موضع إلا شمه، شال إحدى قوائمه، فوضعها على الرجل، حتى يفسخه، فإذا علم أنه قد تلف، شال قائمته، وقصد الآخر، ففعل به، مثل فعله بالأول.
وظل على هذا، إلى أن لم يبق غيري، وأنا جالس منتصب، أشاهد ما يجري، وأدعو وأستغفر، ما طرحت نفسي، ولا هربت، إلى أن قصدني، فحين قرب مني، طرحت نفسي على ظهري، فجاء حتى تشممني من سائر أعضائي، أو أكثرها، كما فعل بأصحابي، ثم أعاد تشممي مرتين، أو ثلاثاً، ولم يكن فعل ذلك بهم، ثم لف خرطومه علي، وشالني في الهواء، فقلت: هذه قتلة أخرى، يريد أن يقتلني بها، فما نحى خرطومه عني، حتى جعلني فوق ظهره، فانتصبت جالساً، وحفظت نفسي، وحمدت الله سبحانه على تأخر القتل، وجعلت أعجب مرة، وأتوقع القتل أخرى، والفيل يهرول، ويسرع، إلى أن أضاء الفجر، فوقف، وأصعد خرطومه إلي، فقلت: حضر الأجل، فلفه علي، وأنزلني على رفق إلى الأرض، وتركني عليها، وجعل يسعى في الطريق التي جاء منها، وأنا لا أصدق.
فلما بعد عني، حتى لم أره، أقبلت أدعو وأصلي، وتأملت موضعي، وإذا أنا على محجة، فمشيت عليها نحو فرسخين، فإذا بلد عظيم، قد لاح لي، فقصدته، ودخلته، فإذا هو بلد من بلدان الهند العظيم، وذكر اسمه.
قال: فعجب أهله مني، وسألوني عن قصتي، فأخبرتهم بها، فزعموا أن الفيل، قد سار في هذه الليلة الواحدة، مسيرة أيام.
وتسببت إلى الخروج من عندهم، والنقلة من بلد إلى بلد، حتى حصلت في بلدي سالماً.
يا جامع الناس ليوم لا ريب فيهقال: حدثني جعفر، قال: ودعت في بعض حجاتي، المزين الكبير الصوفي، وقلت له: زودني شيئاً.
فقال: إن ضاع منك شيء، وأردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان، فقل: " يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا " ، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء، أو ذلك الإنسان.
طلسم لإزالة الغمقال: فجئت إلى الكتاني الكبير الصوفي، فودعته، وقلت له: زودني شيئاً، فأعطاني فصاً عليه نقش كأنه طلسم، وقال: إذا اغتممت فانظر إلى هذا، فإن غمك يزول.
قال: وانصرفت، فما دعوت الله بتلك الدعوة في شيء، إلا استجيبت، ولا رأيت الفص، وقد اغتممت، إلا وزال غمي.

فأنا ذات يوم أعبر، قد توجهت إلى الجانب الشرقي من بغداد، حتى هاجت ريح عظيمة، وأنا في السميرية، والفص في جيبي، فأخرجته لأنظر إليه، فلا أدري كيف ذهب مني، في الماء، أو في السفينة، أو في ثيابي.
فاغتممت غماً عظيماً، فدعوت الله تعالى، وعبرت، وما زلت أدعو الله تعالى بها يومي وليلتي، ومن غد، وأياماً.
فلما كان بعد ذلك، أخرجت صندوقاً فيه ثيابي، لألبس شيئاً منها، ففرغت الصندوق، فإذا أنا بالفص، في أسفل الصندوق.
فأخذته، وشكرت الله عز وجل.
رقية تنفع من لسعة العقربوحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن البهلول التنوخي، قال: حدثني أحمد بن الطيب، قال: كنت بحضرة المعتضد، فجاء رجل يصيح بالباب: نصيحة، فأخبر بذلك، فقال: اخرجوا إليه، وقولوا له يذكرها.
فعادوا، وقالوا: قد قال: لا أذكرها إلا لأمير المؤمنين.
فقال: قولوا له: إن لم تكن نصيحة، بالغت في عقوبتك، فخرجوا، وعادوا، فقالوا: قد قال: رضيت.
فأدخل، وأنا حاضر، فسلم على الخليفة.
فقال: ما نصيحتك؟ فقال: رقية وقعت إلي، تحبس السم عن الملسوع، في الحال.
فقال المعتضد: هاتوا عقرباً.
قال: فكأنها كانت معدة، فأتي بها في أسرع وقت، فأومى إلى الخادم بحضرته، فطرحت عليه، فلسعته، فصاح.
فقال له الرجل: أرني موضع اللسعة، فأراه، فأخرج حديدة، لا حد لها، وجعل يمسح بها من أعلى موضع اللسعة والسم، إلى أسفل، ويقول: " بسم الله، أوم سرا، ومربهل، بني تعبه، كرواري، أنهج أنهج، بهشتن، يهوذا، له مهر، أستروم، لوبه، قرقر، سعلهه " .
ويكرر ذلك دفعات، إلى أن قال الخادم: قد سكن الوجع عن يدي كلية، إلا موضع اللسعة، فإني أحس منه ببقية.
قال: أعطوني إبرة.
فجاءوه بها، ففتح الموضع، فخرج منه شيء أصفر، وقام الخادم معافى.
فأمر المعتضد، فكتبت الرقية، وخلدت في الخزانة.
وأمر للرجل بجائزة سنية.
والرقية تنفع أيضاً في لسعة الزنبور
قال لي أبو الحسن؛ وقد جربت، على الزنبور، فصحت، وسبيلها أن تجرب على الحية، لأن قوله: تحبس السم، يدخل كل ذلك تحته.
وأنا رأيت أحمد بن يوسف، يرقي بهذه الرقية، على هذا الموضع، فيقوم الملسوع من بين يديه، يمشي وهو معافى.
حدثني أبو الفرج، المعافى بن زكريا، الفقيه على مذهب أبي جعفر الطبري، أحد خلفاء قاضي القضاة على بعض السواد، قال: حدثني أبو طالب بن البهلول القاضي، عن رجل، عن ابن الطيب، بهذه الحكاية، هذا وأنسي أبو الفرج اسم الرجل، ولا أشك - والله أعلم - أنه أبو أحمد الرازي.
هذه الحكاية منتشرة جداً في آل البهلول، عن هذا الرجل، عن ابن الطيب، وجميعهم يرقى بها، وينقلها قولاً وعملاً.
لأبي الحسن بن المنجم، يعاتب صديقاً له
أنشدني أبو الحسن، علي بن هارون بن يحيى المنجم لنفسه، وكتب بها إلى علي بن هارون بن خلف بن طناب، في غيبة كان غابها، وتأخرت عنه كتبه، وفيه صنعة لأبي الحسن بن طرخان:
بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يمحه الإعتاب
يا غائباً بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب
ما غاب من لم ينأ صفو وداده ... والحاضرون وإن دنوا غياب
لولا التعلل بالرجاء تقطعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من روح الإله فإنه ... يصل القطوع فيقدم الغياب
فإذا دنوت مواصلاً فهو المنى ... سعد المحب وساعد الأحباب
وإذا نأيت فليس لي متعلل ... إلا رسول بالرضا وكتاب
لأبي الفتح بن المنجم في الغزلأنشدني أبو الفتح، أحمد بن علي بن يحيى بن المنجم، لنفسه، والقافية في الأبيات كلها لفظة واحدة، باختلاف المعنى:
سيدي أنت ومن عادته ... باعتداء أو بجور جاريه
وهذه الأبيات قد مضت في غير هذا الجزء من الكتاب.
لأبي أحمد بن سليمان متغزلاً
أنشدني الأستاذ أبو أحمد الحسين بن محمد بن سليمان، لنفسه:
أيا من قده ألف ... ويا من صدغه لام
لقد أكثرت لوامي ... ولو أنصفت ما لاموا
أشهدوا العدول على الخليفة المطيع لما خلع نفسه

وأخبرني شاهد من الشهود المقبولين ببغداد، وسألني أن لا أذكر اسمه وهو حي، فلذلك لم أسمه، قال: كنت أحد الشهود الأربعة، الذين أدخلوا مع قاضي القضاة، أبي محمد، وهو إذ ذاك، غير متقلد شيئاً من الأعمال، ومعنا أبو بكر الأصبهاني، صاحب سبكتكين التركي، مولى معز الدولة، لما وثب على الأمر، وتسمى بالإمارة.
فأدخلونا، وليس معنا سابع، حتى شهدنا على المطيع لله، بأنه قد خلع نفسه، وقرأنا عليه رقعة الخلع، وقررناه بما فيها، وخرجنا.
فأدخلنا إلى دار أخرى، من دور الخلافة، حتى حصلنا بحضرة الأمير أبي بكر عبد الكريم بن المطيع، فبايعناه بالخلافة، وسلمنا عليه بها، وخرجنا، فجلسنا في مجلس قريب من مجلسه، لنوقع خطوطنا بالشهادة في كتاب الخلع.
قال: واستسقى أمير المؤمنين الطائع، ماءً، فجاء بعض الخدم، بكوز فيه ماء، فشرب، وخرج، فرأيت الكوز، وكنت عطشاناً، فقلت له: يا أستاذ، اسقني، فجاءني بماء في ذلك الكوز بعينه، فشربت منه.
وكتبنا خطوطنا، وخرجنا.
الأمير الراسبي يأمر بقتل أحد المجرمين
على مائدتهكان أبو محمد المهلبي، يكثر الحديث على طعامه، ويكون أطيب الحديث، وأكثره مذاكرة بالأدب، وضروب الحديث، على المائدة، لكثرة من يجمعهم عليها من العلماء والكتاب والندماء، وكنت كثيراً ما أحضر.
فقدم إليه في بعض الأيام طيهوج، فقال: أذكرني هذا، حديثاً طريفاً.
فسئل: ما هو؟ فقال: أخبرني بعض من كان يعاشر الراسبي الأمير، قال: كنت آكل معه يوماً، وعلى المائدة خلق عظيم، فيهم رجل من رؤساء الأكراد المجاورين لعمله، وكان ممن يقطع الطريق، فاستأمن إليه، فأمنه، واختصه، وطالت أيامه معه.
فكان في ذلك اليوم على مائدته، إذ قدم حجل، فألقى الراسبي منه واحدة إلى الكردي، كما يلاطف الرؤساء مواكليهم، فأخذها الكردي، وجعل يضحك.
فتعجب الراسبي من ذلك، وقال: ما سبب هذا الضحك؟ وما نرى ما يوجبه.
فقال: خبر كان لي.
فقال: أخبرني به.
فقال: شيء طريف، ذكرته، لما رأيت هذه الحجلة.
قال: ما هو؟ فقال: كنت أيام قطعي الطريق، وقد اجتزت في بعض المحجة الفلانية، في الجبل الفلاني، وأنا وحدي، في طلب من آخذ ثيابه، حتى استقبلني رجل وحده، فاعترضته، وصحت عليه، فاستسلم إلي، ووقف، فأخذت ما كان معه، وطالبته أن يتعرى، ففعل، ومضى لينصرف، فخفت أن يلقاه في الطريق، من يستنفره على طلبي، فأطلب، وأنا وحدي، فأؤخذ، فقبضت عليه، وعلوته بالسيف، لأقتله.
فقال: يا هذا، أي شيء بيني وبينك، قد أخذت ثيابي، وعريتني، ولا فائدة لك في قتلي.
فكتفته، ولم ألتفت إلى قوله، وأقبلت أقنعه بالسيف.
فتلفت، كأنه يطلب شيئاً، فرأى حجلة قائمة، وهي على الجبل، فقال: يا حجلة، اشهدي لي عند الله تعالى أني أقتل مظلوماً.
فما زلت أضربه، حتى قتلته، وسرت، فما ذكرت هذا الحديث، حتى رأيت هذه الحجلة، فذكرت حماقة ذلك الرجل، فضحكت.
قال: فانقلبت عين الراسبي حرداً، وقال: لا جرم إن شهادة الحجلة عليك لا تضيع اليوم، في الدنيا قبل الآخرة، وما أمنتك إلا على ما كان منك من فساد السبيل، فأما الدماء، فما أسقطها الله عنك بالأمان، وقد أجرى الله على لسانك الإقرار عندي، يا غلام، اضرب عنقه.
قال: فبادر الغلام إليه، وغيره، بسيوفهم يخبطونه، وضرب كل واحد منهم قفاه، فكأن رأسه قثاءة قطعت نصفين.
فتدحرج رأسه بين أيدينا، ونحن على المائدة، وجرت جثته.
ومضي الراسبي في الأكل.
رقعة إلى رجل تزوجت أمهأملى علي أبو إسحاق، إبراهيم بن هلال الكاتب، الصابىء، نسخة رقعة إلى رجل زوج أمه، كتبها إليه: قد جعلك الله، وله الحمد، من أهل التحصيل، والرأي الأصيل، وصحة الدين، وخلوص اليقين، كما أنك لا تتبع الشهوة في محظور تحله، فكذلك لا تطيع الأنفة في مباح تحظره، وتأدى إلينا من إيقاعك العقد، بين الوالدة - نفس الله لها في مدتك - وبين فلان، ما علمنا أنك بين طاعة للديانة توخيتها، ومشقة فيها تجشمتها، فإنك جدعت أنف الغيرة لها، وأضرعت خد الحمية فيها، وأسخطت نفسك لرضاها، وعصيت هواك لرأيها، فنحن نهنئك بعزيمة صبرك، ونعزيك عن فائت مرادك، ونسأل الله الخيرة لك، وأن يجعلها أبداً معك، فيما شئت وأبيت، وتجنبت وأتيت، والسلام.
رقعة الصابي إلى الوزير ابن بقية

وأنشدني لنفسه، قال: وكتبت بها وأنفذتها إلى الوزير ابن بقية وهو في حضرة الأمير، وقد كان وعدني بتخليصي، فأخر ذلك:
أيا ناصراً للدين والدولة التي ... رددت إليها العز إذ فات رده
أيعجزك استخلاص عبدك بعدما ... تخلصت مولاك الذي أنت عبده
تملكت يا مهجتي مهجتيأنشدني رجل مصري، قال: أنشدني أبو الفتح الكاتب ابن البكتمري، رجل باق بالشام، من أهلها، لنفسه:
تملكت يا مهجتي مهجتي ... وأسهرت يا ناظري ناظري
وما كان ذا أملي يا ملول ... ولا خطر الهجر في خاطري
وفيك تعلمت نظم الكلام ... فلقبني الناس بالشاعر
لا فكك اللهأنشدني ابن غسان المتطبب البصري:
أفدي من السوء مولىً بات معتنقي ... وقد أمال إلي طائعاً فاه
وكلما قلت يا مولاي أوثقني ... لك الهوى قال لي: لا فكك الله
كيف كان الأبزاعجي صاحب شرطة بغداد
يحقق مع المتهمينحدثني أبو القاسم بهلول بن أبي طالب القاضي وهو محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي، قال: حدثني صاحب الربع، بباب الشام، وأسماه لي، قال: كنت أعمل في أصحاب الشرط، مع أبي الحسن الأبزاعجي، صاحب الشرطة ببغداد، فأخرج لصوصاً من الحبس، واستأذن معز الدولة في صلبهم، وقتلهم عند الجسر، فأذن في صلبهم عشياً، وكانوا عشرين رجلاً، ووكل بهم جماعة كنت فيهم، والرئيس علينا فلا،.
وقال: كونوا عند خشبهم بقية يومكم وليلتكم، حتى إذا كان من غد، ضربت أعناقهم هنا.
وقضينا الليل نوماً، فثقل رئيسنا في نومه، وجماعتنا.
فاحتال بعض اللصوص، في أن قطع الحبل، ونزل من الخشبة، فما انتبهنا، إلا بصوت وقعه، وعدوه.
فعدا رئيسنا خلفه، وأنا معه، فما لحقناه.
وخفنا أن يتشوش الرجالة الباقون، فيفلت إنسان آخر، فرجعنا مسرعين، وجلسنا مغمومين، مفكرين ماذا نعمل.
فقال رئيسنا: إن الأبزاعجي لا يقيل لي عثرة، ولا يقبل مني عذراً، ويقع له أنني قد أخذت من أحد اللصوص مالاً وأفلته، فيضربني للتقرير، فلا أقر، فيقع له، أنني أتجلد عليه، فيمر الضرب علي، إلى أن أتلف، فما الرأي؟ فقلت: تهرب.
قال: فمن أين أعيش؟ فقلت: هذا نصف الليل، ولم يعلم بما جرى أحد، فقم حتى نطوف، فلا يخلو أن يقع بأيدينا مشؤوم، قد حانت منيته، فنوثقه، ونصلبه، ونقول له: سلمت إلينا عشرين رجلاً، فإنه ما أثبت حلاهم.
فقال: هذا صواب.
فقمنا نطوف، وسلكنا طريق الجسر، لنعبر إلى الجانب الغربي، فرأينا في أسفل كرسي الجسر رجلاً يبول، فعدلنا إليه، فقبضنا عليه.
فصاح: يا قوم ما لكم؟ أنا رجل ملاح، صعدت من سميريتي أبول، وهذه سميريتي - وأومأ إليها - أي شيء بيني وبينكم؟ فضربناه، وقلنا: أنت اللص الذي هرب من الخشبة، وجبناه، ورقيناه إلى الخشبة، وصلبناه مكان اللص الهارب، وهو يصيح طول الليل، ويبكي.
فتقطعت قلوبنا رحمة له، وقلنا: مظلوم، ولكن ما الحيلة؟ فلما كان من الغد، ركب الأبزاعجي إلى الحبس، وجاء، وقد اجتمع الناس، ليضرب أعناق القوم.
فصاح به الملاح: أيها الأستاذ - وكذا كان يخاطب، وهو رسم لكل من يتقلد رئاسة الشرطة ببغداد - بوقوفك بين يدي الله، أدعني، واسمع مني كلامي، فلست من اللصوص الذين أخرجتهم، وأمرت بصلبهم، وأنا مظلوم، وقد وقعت بي حيلة.
فأنزله، وقال له: ما قصتك؟ فشرح له حديثه على حقيقته.
فدعا بنا، وقال: ما هذا الرجل؟ فقلنا: ما نعرف ما يقول، سلمت إلينا عشرين رجلاً، وهؤلاء عشرون رجلاً.
فقال: قد أخذتم من أحد اللصوص دراهم، وأطلقتموه، واعترضتم هذا، من الطريق، رجلاً، غريباً، بريئاً، فأخذتموه.
فقلنا: ما فعلنا هذا، اللص الذي سلمته إلينا، هو هذا.
فضرب أعناق الجماعة، وترك الملاح، وقال: هاتم السجانين، والبوابين.
فجاءوا، فقال لهم: هذا من جملة العشرين الذين أخذناهم؟ فتأملوه، بأجمعهم، وقالوا: لا.
ففكر ساعة، ثم أمر بإطلاقه.
ثم قال: هاتموه إلي، فرددناه.
فقال: اشرح لي قصتك، فأعاد عليه الحديث.
فقال له: في نصف الليل، أي شيء كنت تعمل هناك، في ذلك الموضع؟ فقال: كنت قد بت في سماريتي، فأخذتني بولة، فصعدت أبول.

قال: ففكر ساعة، ثم قال له: اصدقني على الحقيقة، حتى أطلقك، أي شيء كنت تعمل هناك؟ فلم يخبره بغير ذلك.
قال: وكان من رسمه، إذا أراد أن يقرر إنساناً، قرره وهو قائم بين نفسين، ووراءه جماعة بمقارع، فإذا حك رأسه، ضرب المقرر، واحدة جيدة عظيمة، فيقول للذي ضربه: قطع الله يدك ورجلك، يا فاعل، يا صانع، من أمرك بضربه؟ ولم ضربته؟ تقدم يا هذا، لا بأس عليك، اصدق، فقد نجوت.
فإن أقر، وإلا حك رأسه ثانية، وثالثة، أبداً على هذا، وكذا كانت عادته في جميع الجناة، وهو رسم له معروف، عند المتصرفين بحضرته.
قال: فلما أطال عليه الملاح، حك رأسه، فضرب قفاه بعض القائمين، بمقرعة ضربة عظيمة.
فصاح الملاح.
فقال الأبزاعجي: من أمرك بهذا، يا فاعل، يا صانع، قطع الله يديك.
ثم قال للملاح: اصدق، وانج بنفسك.
فقال له الملاح: أيها الأستاذ، الله شاهد عليك، أني آمن على نفسي وأعضائي، حين أصدق؟ فقال له: نعم.
قال: أنا رجل ملاح، أعمل في المشرعة الفلانية، يعرفني جيراني بالستر، وقد كنت سرحت سماريتي، إلى سوق الثلاثاء، البارحة بعد العتمة، أتفرج في القمر، فنزل خادم من دار لا أعرفها.
فصاح: يا ملاح؟ فقدمت.
فسلم إلي امرأة، نظيفة، حسنة، ومعها صبيتان، وأعطاني دراهم صحاحاً، وقال: احمل هؤلاء إلى المشرعة الفلانية، بباب الشماسية.
فصعدت بهم قطعة من الطريق، فكشفت المرأة وجهها، فإذا هي من أحسن الناس وجهاً، كالقمر، فاشتهيتها، فعلقت مجاذيفي في الكرك، وأخرجت السفينة إلى وسط دجلة، وتقدمت إلى المرأة، فراودتها عن نفسها، فأخذت تصيح.
فقلت لها: والله، لئن صحت، لأغرقنك الساعة.
فسكتت، وأخذت تمانعني عن نفسها، واجتهدت بأن أقدر عليها، فما قدرت.
فقلت لها: من هاتان الصبيتان منك؟ فقالت: بناتي.
فقلت لها: أيما أحب إليك، تمكنيني من نفسك، أو أغرق هذه؟ وقبضت على واحدة منهم.
فقالت: أما أنا، فلا أطيعك، اعمل ما شئت.
فرميت إحدى الصبيتين في الماء، فصاحت، فضربت فاها، وصحت معها: والله لا أطلقك ولو قتلتني، ليشتبه ذلك، على من عساه يسمع الصياح في الليل.
فسكتت، وأخذت تبكي، ثم تركتها ساعة، وقلت لها: دعيني أفعل بك وإلا غرقت الأخرى.
فقالت: والله، لا فعلت.
فأخذت الصبية الأخرى، فرميت بها في الماء، فصاحت، وصحت معها، ثم قلت لها: ما بقي الآن إلا قتلك، فدعيني، وإلا قتلتك، وأخذت بيدها، وشلتها لأرمي بها في الماء.
فقالت: أدعك.
فرددتها إلى السمارية، فمكنتني من نفسها، فوطئتها.
وسرت، لأمضي بها إلى المشرعة، فقلت في نفسي: هذه الساعة تصعد إلى دارها، أو إلى الموضع الذي تأوي إليه، فتنذر بي، فأؤخذ، وأقتل، وليس الوجه إلا تغريقها، فجمعت يديها، ورجليها، ورميت بها إلى الماء.
فحين غرقت، فكرت فيما ارتكبته، وعظم ما جنيته، فندمت، وكنت كرجل كان سكراناً، فأفاق.
فقلت: أي شيء أعمل؟ ليس إلا أن أنحدر إلى البصرة، وأغوص في أنهارها، فلا أعرف.
فانحدرت، فلما صرت حذاء الجسر، أخذتني بطني، وقلت: أصعد، وأتفسح، وأعود إلى سماريتي.
فصعدت، فأنا جالس أتغوط، فما أحسست حتى قبض هؤلاء علي.
قال: فقال له الأبزاعجي، مطابياً: يا هذا، أي معاملة بين مثلك وبيني، انصرف بسلام.
فظن لجهله، أن ذلك حقيقة، فولى ينصرف.
فصاح به، وقال: يا فتى، هو ذا تنصرف، وتدعنا من حقا؟ فلا أقل من أن ترجع لنحلفك، أنك لا تعود إلى مثل هذا.
فرجع.
فقال: خذوه، فأخذوه.
فقال: اقطعوا يده.
فقال: يا سيدي، أليس قد أمنتني؟ فقال: يا كلب، وأي أمان لمثلك؟ قد قتلت ثلاثة أنفس، وزنيت، وأخفت السبيل.
قال: فقطعت يداه، ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وأحرق جسده بالنار في مكانه.
لماذا لقب بالأبزاعجيأخبرني من أثق إليه من أهل بغداد، أن الأبزاعجي، إنما لقب بذلك، لأنه كان يخدم قائداً من غلمان الموفق، تركياً، وكان يسمى أبزاعج، فلقب بالأبزاعجي لذلك.
وكيل دعاوى يحرم من أجره
فيعرقل حسم الدعوىحدثني أبو بكر بن عثمان الصيرفي، الشاعر، قال: سمعت عمر بن أكثم، يقول: كان قوم يريدون تثبيت وفاة، وعدد ورثة، عند أبي عمر القاضي، وكانوا قد ضمنوا للوكيل خمسين ديناراً على ذلك.

فلما ثبت عند القاضي، عدد الورثة، بشهادة شاهدين، ساموه أن يأخذ منهم البعض، ويدع عليهم البعض.
فأخذ ما عفوا به، وتقدم إلى القاضي، وخصومهم في المجلس، وقال: قد وكلني هؤلاء - أعز الله القاضي - وقد أخرجت نفسي من الأولين.
فقال: تكلم.
فقال: شهد الشاهدان، عند القاضي، أنهما لا يعلمان وارثاً، غير من ذكروه، وعندي شاهدان عدلان، يعلمان وارثاً آخر.
فقال: أحضرهما.
فقاموا، ودافع بالحكم، ولم يزل يدفع بهم شهراً، إلى أن جاءه الورثة، فقالوا: قد أهلكتنا.
فقال: بما كسبت أيديكم، والله لأدفعن بأمركم سنة، أو تعطوني خمسين ديناراً مستأنفة، لأمسك.
وأعطوه ما طلب، وتقدم، فقال: لا بينة لي.
فحكم القاضي لهما.
إذا صرف الأمين زائداً
عن الحاجة ألزم بتعويضه من مالهوحدثنا أبو بكر، قال: حدثنا عمر بن أكثم، قال: تقدم يتيم كان في حجر أمين من أمناء القاضي أبي جعفر بن البهلول، إليه، وقد بلغ وفك حجره، فقال: أيها القاضي، إن فلاناً الأمين، ضيع من مالي هذا، كذا وكذا، وأنا أطالبه به.
فقال: هاه، هاه، أتقول هذا لأمين ثابت الأمانة عندي؟ فقال: أيها القاضي، لم أقل خان فيه، ولكنه أنفق علي أكثر مما كنت أحتاج إليه، بكذا وكذا، وهذا تضييع.
فدعا أبو جعفر الأمين، فسأله، فأقر بذلك.
فألزمه المال في ذمته.
رؤيا عبد الملك بن مران وتفسيرهاحدثنا أبو القاسم بن بشر الآمدي، قال: قال لي أبو أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، يوماً، وقد تجاذبنا على خلوة، الحديث فيما بينه وبين أبي القاسم البريدي، وتدبير كل واحد منها على صاحبه في القبض عليه، وأنا أشير عليه أن يهرب عن البصرة، ولا يقيم، وأنه لا يجب أن يغتر.
قال: لست أفكر في هذا الرجل، لألوان كثيرة، منها رؤيا رأيتها منذ ليال كثيرة.
فقلت: ما هي؟ قال: رأيت ثعباناً عظيماً، قد خرج علي من هذا الحائط - وأومأ بيده إلى حائط في مجلسه - وهو يريدني، فطلبته، وضربته، فأثبته في الحائط، فتأولت أن ذلك الثعبان، البريدي، وأني أغلبه.
قال: فحين قال: فأثبته في الحائط، سبق إلى قلبي، أن البريدي، هو الثابت، وأن الحائط، حائطه، دون أبي أحمد، فأردت أن أقول له: إن الخبر مستفيض، بما كان عبد الملك رأى في منامه، كأنه وابن الزبير، قد اصطرعا في صعيد من الأرض، فطرح ابن الزبير عبد الملك تحته على الأرض، وأوتده بأربعة أوتاد فيها، وإنه أنفذ راكباً إلى البصرة، فلقي ابن سيرين، فقص عليه الرؤيا، كأنها لها، وكتم ذكر ابن الزبير.
فقال له ابن سيرين: هذه الرؤيا ليست رؤياك، ولا أفسرها لك.
فألح عليه.
فقال: يجب أن تكون رؤيا عبد الملك، فإن صدقتني، فسرتها لك.
فقال: هو كما وقع لك.
فقال: قل له: إن صحت رؤياك هذه، فستغلب ابن الزبير على الأرض، ويملك الأرض من صلبك، أربعة ملوك.
فمضى الرجل إلى عبد الملك، فأخبره، فعجب من فطنة ابن سيرين، وقال: ارجع إليه، وقل له: من أين قلت هذا؟ فرجع الرجل إليه.
فقال له: إن الغالب في النوم مغلوب، وتمكنه على الأرض غلبة عليها، والأوتاد الأربعة، التي أوتدها في الأرض، هم ملوك يتمكنون في الأرض، كما تمكنت الأوتاد.
قال أبو القاسم الآمدي: فأردت أن أقول لأبي أحمد، هذا، وما وقع لي من القياس عليه، في تعبير رؤياه، فكرهت ذلك، لأنه كان يكون سوء أدب، وقباحة عشرة، ونعياً لنفسه.
فما مضت الأيام، حتى قبض البريدي عليه، وكان من أمره ما كان.
أبو أحمد بن المثنى ومناماته التي لا تخطىءوكان ممن حضر عندي، لما حدثني أبو القاسم بهذا الخبر، أبو القاسم عمر بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحسن بن المثنى، فقال: كانت لجدي، منامات طريفة لا تخطىء، فمنها: إني كنت بحضرته، وأنا صبي، في تربة جدي لأمي، وعم أبي، أبي الحسين، فقال لنا: إني رأيت البارحة مناماً، فقد أبصرت ثلاثة قبور قد احتفرت، أولها لحسان، والثاني لأبي الحسين أخي، والثالث لي من بعده، وقد أبصرت حسان نائماً في قبره، وأبصرت أبا الحسين قاعداً في القبر، أما أنا فقد كنت أقعد في القبر وأقوم في حركة دائبة، وكأن هاتفاً يهتف بي، إن عمرك وعمر أخيك واحد، وقد توفي أخي منذ سنة وما أظن بيني وبين أخي إلا سنة.
قال: فقال له من حوله: يبقي الله الشيخ، ويفعل به ويصنع.

قال: فانصرف من التربة، فلما كان في اليوم السابع من ذلك الحديث، قبض عليه أبو القاسم البريدي، في يوم الخميس، غرة شعبان، سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، فأقام في يده دون ثلاثة أشهر، ثم قتله في حبسه، في شوال، بحيلة احتالها له، عبدان المتطبب، لعنه الله، في شيء سقاه.
فقال أبو القاسم الآمدي: كنت حاضراً ابتداء المجلس، ولما أخبر رؤياه، تأولها تأولاً غير ما وقع، وهو: إن نوم حسان في قبره سلامة متينة، وإن قعود أبي الحسين، لأن الحال التي مات بها، أشد من حال حسان، لأنه فلج سنين، فعاش مبتلي، قد نقص من صحته، ورأى في نفسه ما لا يحبه، وإن وفاة أبي أحمد تكون بحال هي أشد من ذلك كله، بحسب قعوده وقيامه في المشقة، وفرق ما بين القعود والنوم والراحة.
فمات أبو أحمد، مقتولاً، بعد الحبس والنكبة، والفقر والذلة.
قاضي شيراز يحكم بين صوفي وصوفيةحدثني أبو القاسم عبد الرحيم بن جعفر السيرافي، الفقيه، المتكلم، المعروف بابن السماك رحمه الله، قال: حضرت بشيراز، عند قاضيها أبي سعد بشر بن الحسن الداودي، وقد ارتفع إليه صوفي وصوفية.
قال: وأمر الصوفية هناك مفرط جداً، حتى يقال إن عددهم ألوف، رجال ونساء.
قال: فاستعدت المرأة على زوجها إلى القاضي، فلما حضرا، قالت له: أيها القاضي، هذا زوجي يريد أن يطلقني، وليس له ذلك، فإن رأيت أن تمنعه.
قال: فأخذ أبو سعد، يعجبني من هذا الكلام، وينبهني على مذاهب الصوفية فيه.
ثم قال لها: كيف ليس له ذلك؟ قالت: لأنه تزوج بي، ومعناه قائم، والآن يذكر أن معناه قد انقضى مني، وأن معناي قائم فيه ما انقضى، فيجب أن يصبر، إلى أن ينقضي معناي فيه، كما انقضى معناه مني.
فقال لي أبو سعد: كيف ترى هذا الفقه؟ ثم أصلح بينهما، وخرجا من غير طلاق.
ابن خفيف شيخ الصوفية بشيراز يتكلم
على الخطرات والوساوسأخبرني جماعة من أهل العلم: أن بشيراز رجلاً يعرف بابن خفيف البغدادي، شيخ الصوفية هناك، يجتمعون إليه، فيتكلم على الخطرات والوساوس، ويحضر حلقته ألوف من الناس، وأنه فاره، فهم، حاذق، وأنه قد استغوى الضعفى من الناس، إلى هذا المذهب.
قال: فمات رجل صوفي من أصحابه، وخلف زوجة صوفية، فاجتمع النساء الصوفيات - وهن خلق كثير - ولم يختلط بمأتمها غيرهن.
فلما فرغوا من دفنه، دخل ابن خفيف، وخواص أصحابه - وهم عدد كثير - إلى الدار، وأخذ يعزي المرأة، بكلام من كلام الصوفية، إلى أن قالت: قد عزيت.
فقال لها: ها هنا غير؟ فقالت: لا غير.
قال: فما معنى التزام النفوس، آفات الهموم، وتعذيبها بعذاب الغموم؟ ولأي معنى نترك الامتزاج، لتلقي الأنوار، وتصفو الأرواح، وتقع الإخلافات، وتنزل البركات؟ قال: فقالت النساء: إذا شئت.
قال: فاختلط جماعة الرجال، بجماعة النساء، طول ليلتهم، فلما كان سحراً خرجوا.
قوله: ها هنا غير؟ ، أي: ها هنا غير موافق في المذهب؟ فقالت: لا غير، أي ليس من مخالف.
قوله: نترك الامتزاج، كناية عن الوطء، من الممازجة.
وقوله: لتلقي الأنوار، على أصلهم إن في كل جسم نوراً إلهياً.
وقوله: الإخلافات، أن يكون خلف لكل من مات أو غاب من أزواجكن.
وهذا عندي عظيم، ولولا أن جماعة أخبروني، يبعدون عندي عن الكذب، ما حكيته، لعظمه عندي، واستبعاد مثله أن يجري في دار الإسلام.
وبلغني أن هذا ومثله، شاع، حتى بلغ الأمير عضد الدولة، فقبض على جماعة منهم، وضربهم بالسياط، وشرد جماعة منهم، وشتت جموعهم، فكفوا.
من شعر أبي فراس الحمدانيلأبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان، لما أسر:
ما للعبيد من الذي ... يقضي به الله امتناع
ذدت الأسود عن الفرا ... ئس ثم تفرسني الضباع
وله إلى سيف الدولة، قصيدة اخترت منها قوله:
أيدرك ما أدركت إلا ابن همة ... يمارس في كسب العلى ما أمارس
يضيق مكاني عن سواي لأنني ... على قبة المجد المؤثل جالس
وقال، وقد حضر العيد، وهو ببلد الروم أسير:
يا عيد ما جئت بمحبوب ... على معنى القلب مكروب
يا عيد قد عدت على ناظر ... عن كل حسن فيك محجوب
يا وحشة الدار التي ربها ... أصبح في أثواب مربوب
=============================ج44444444------------
ج444444.


كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

قد طلع العيد على أهلها ... بوجه لا حسن ولا طيب
ما لي وللدهر وأحداثه ... لقد رماني بالأعاجيب
وله في الأسر قصيدة أولها:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
ويقول فيها:
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوعد والموت دونه ... إذا مت عطشاناً فلا نزل القطر
وإني لنزال بكل مخوفة ... كثير إلى نزالها النظر الشزر
وأصدى إلى أن ترتوي الأرض والقنا ... وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ولا أصبح الحي الخلوف بغارة ... ولا الجيش ما لم يأته قبلي النذر
ويا رب دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وحي رددت الجيش حتى ملكته ... هزيماً وردتني البراقع والخمر
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى ... ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره ... إذا لم أفر عرضي فلا وفر الوفر
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرىء ... فليس له بر يقيه ولا بحر
ويقول فيها:
وقال أصيحابي الفرار أو الردى ... فقلت هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولا خير في دفع الردى بمذلة ... كما ردها يوماً بسوءته عمرو
أبو سعيد الشيباني يتغزلأنشدني في ربيع الآخر من سنة ست وستين وثلثمائة، أبو سعيد مساعد بن الجهم الشيباني، لنفسه: قال: وقلتها منذ سبعين سنة، وذكر لي أن له في الوقت ستاً وتسعين سنة.
يا مقلة لحظها عقاربها ... سماء عيني دمعي كواكبها
تجول في حلبة مشهرة ... تكبو بركبانها ركائبها
كأنها والدماء تتبعها ... شهب خيول شقر جنائبها
أنشدني من هذه الأبيات، شعراً جيداً، في سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وقال: شهب جنائبها. وهذا أصح، لأنه أراد به، أنه يبكي دمعاً، ثم يتبعه دماً، والدليل على قوله: كأنها والدماء تتبعها
القاضي أبو الحسين بن أبي عمر
يحزن لموت يزيد المائيحدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان، الشيرازي، الكاتب، قال: حدثني أبو بكر الجعابي الحافظ، قال: دخلت يوماً على القاضي أبي الحسين بن أبي عمر، وهو مغموم حزين، فقلت له: لا يغم الله القاضي، فما الذي آذاه؟ فقال: مات يزيد المائي.
فقلت: يبقي الله قاضي القضاة أبداً، ومن يزيد، حتى إذا مات اغتم عليه قاضي القضاة، هذا الغم كله؟ فقال: ويحك، مثلك يقول هذا، في رجل أوحد في صناعته، قد مات ولا خلف له، ولا أحد يقاربه في حذقه؟ وهل فخر البلد، إلا بكثرة كون رؤساء الصناع، وحذاق أهل العلم فيه؟ فإذا مضى رجل، لا مثل له في صناعته، ولا بد للناس منها، فهل يدل هذا، إلا على نقصان العالم، وانحطاط البلدان؟ ثم قال بعد ذلك: وأخذ يعدد فضائله، والأشياء الطريفة التي عالج بها، والعلل الصعبة التي زالت بتدبيره، وذكر من ذلك أشياء كثيرة، لم يعلق أكثرها بحفظي.
قال: وكان منها، أن قال: لقد أخبرني، منذ مدة طويلة، رجل من جلة أهل هذا البلد، أنه كان قد حدث بابنة له علة طريفة، فكتمتها عنه، ثم أطلعته عليها، فكتمها هو مدة، ثم انتهى أمر البنت إلى حد الموت.
قال: فقلت: لا يسعني كتمان هذا أكثر من هذا.
قال: فكانت العلة، أن فرج الصبية، يضرب عليها ضرباً عظيماً، لا تنام منه الليل، ولا تهدأ النهار، وتصرخ من ذلك أعظم صراخ، ويجري في خلال ذلك، منه دم يسير، كماء اللحم، وليس هناك جرح يظهر، ولا ورم كبير يزيد.
قال: فلما خفت المأثم، أحضرت يزيد، فشاورته.
فقال: تأذن لي في الكلام، وتبسط عذري فيه؟ قلت: نعم.
فقال: لا يمكنني أن أصف شيئاً، دون أن أشاهد الموضع، وأفتشه بيدي، وأسائل المرأة عن أسباب، لعلها كانت الجالبة للعلة.
قال: فلعظم الضرورة، وبلوغها التلف، مكنته من ذلك.

فأطال مساءلتها، وحديثها، بما ليس من جنس العلة، بعد أن جس الموضع من ظاهره، وعرف بقعة الألم، حتى كدت أن أثب به. ثم تصبرت ورجعت إلى ما أعرفه من ستره، فصبرت على مضض.
إلى أن قال: تأمر من يمسكها؟ ففعلت.
ثم أدخل يده إلى الموضع، دخولاً شديداً، فصاحت الامرأة، وأغمي عليها، وانبث الدم، وأخرج في يده حيواناً، أقل من الخنفساء، فرمى به.
فجلست الجارية في الحال، واستترت، وقالت: يا أباه، استرني فقد عوفيت.
قال: فأخذ الحيوان في يده، وخرج من الموضع.
فلحقته، وأجلسته، وقلت: أخبرني ما هذا؟ فقال: إن تلك المساءلة، التي لم أشك أنك أنكرتها، إنما كنت أطلب شيئاً، أستدل به على سبب العلة، إلى أن قالت لي: إنها في يوم من الأيام، جلست في بيت دولاب بقر في بستان لكم، ثم حدثت العلة بها، من غير معرفة، من ذلك اليوم، فخلت، أنه قد دب إلى فرجها من القراد الذي يكون على البقر، وفي بيوت البقر، قراد قد تمكن من أول داخل الفرج، فكلما امتص الدم من موضعه ولد الضربان، وأنه إذا شبع، نقط من الجرح الذي يمتص منه إلى خارج الفرج، هذه النقط اليسيرة من الدم.
فقلت: أدخل يدي وأفتش.
فأدخلت يدي، فوجدت القراد، فأخرجته، وهو هذا الحيوان، قد كبر، وتغيرت صورته، لكثرة ما يمتص من الدم، على طول الأيام.
قال: وأراني الحيوان، وإذا هو قراد.
قال: وبرأت الصبية.
قال: فقال لي أبو الحسين القاضي: فهل ببغداد اليوم، من له من الصناعة مثل هذا، أو ما يقاربه؟ ، فكيف لا أغتم بموت من هذا بعض حذقه؟
أبو المغيرة الشاعر يروي خبراً ملفقاً
حدثنا أبو المغيرة، محمد بن يعقوب بن يوسف، الشاعر، البغدادي، الأسدي، قال: حدثني أبو موسى عيسى بن عبيد الله البغدادي، قال: حدثني صديق لي، قال: كنت قاصداً للرملة وحدي، فانتهيت إليها، وقد نام الناس، ليلاً، فعدلت إلى المقبرة، ودخلت بعض القباب التي على القبور، وطرحت درقة كانت معي، فاتكأت عليها، وعلقت سيفي أريد النوم، لأدخل إلى البلد نهاراً، فاستوحشت من الموضع، وأرقت.
فلما طال أرقي، أحسست بحركة، فقلت: لصوص يجتازون، فإن قصدت لهم، لم آمنهم، ولعلهم أن يكونوا جماعة، فلا أطيقهم، فانخزلت مكاني، ولم أتحرك، وأخرجت رأسي من بعض أبواب القبة، على تخوف شديد، فرأيت دابة كالدب، يمشي، فأخفيت نفسي، فإذا به قد قصد قبة حيالي، قريبة مني، فما زال يتلفت طويلاً، ويدور حولها، ويتلفت، ساعة، ثم دخلها.
فارتبت به، وأنكرت فعله، وتطلعت نفسي إلى علم ما هو عليه.
فدخل القبة، وخرج غير متثبت، ثم دخل وخرج، بسرعة، دفعات، ثم دخل، وعيني عليه، فضرب بيده إلى قبر في القبة ليحفر.
فقلت: نباش، لا شك فيه.
وتأملت يحفر بيديه، فعلمت أن فيها آلة حديد يحفر بها.
فتركته إلى أن اطمأن، وأطال، وحفر شيئاً كثيراً، ثم أخذت سيفي ودرقتي، ومشيت على أطراف أناملي، حتى دخلت القبة، فأحس بي، وقام إلي بقامة إنسان، وأومأ إلي ليلطمني بكفه، فضربت يده بالسيف، فأبنتها، وطارت.
فصاح: أواه، قتلتني، لعنك الله.
وعدا من بين يدي، وعدوت وراءه، وكانت ليلة مقمرة، حتى دخل البلد، وأنا وراءه، ولست ألحقه، إلا أنه بحيث يقع بصري عليه، إلى أن اجتاز في طرق كثيرة، وأنا في خلال ذلك أعلم الطرق، لئلا أضل، حتى إذا جاء إلى باب دار، فدفعه، ودخل، وغلقه، وأنا أتبع.
فعلمت الباب، ورجعت أقفو الأثر، والعلامات التي علمتها في طريقي، حتى انتهيت إلى القبة التي كان فيها النباش، فطلبت الكف، فوجدتها، وأخرجتها إلى القمر، فبعد جهد، انتزعت الكف المقطوع من الآلة الحديد، فإذا هي كف كالكف، وقد أدخل أصابعه في الأصابع، وإذا هي كف فيها نقش حناء، وخاتمان ذهب.
فحين علمت أنها امرأة، اغتممت، وتأملت الكف، وإذا أحسن كف في الدنيا، نعومة، ورطوبة، وسمناً وملاحة، فمسحت الدم منها، ونمت في القبة التي كنت فيها.
ودخلت البلد، من غد، أطلب العلامات، حتى انتهيت إلى الباب.
فسألت: لمن الدار؟ فقالوا: لقاضي البلد.
واجتمع عليها خلق، وخرج منها رجل شيخ بهي، فصلى الغداة بالناس، وجلس في المحراب.
فازداد عجبي من الأمر، وقلت لبعض الحاضرين: بم يعرف هذا القاضي؟ فقال: بفلان.
فأطلت الحديث في معناه، حتى عرفت أن له ابنة عاتقاً، وزوجة، فلم أشك، أن النباشة ابنته.

فتقدمت إليه، وقلت له: بيني وبين القاضي - أعزه الله - حديث، لا يصلح إلى على خلوة.
فقام إلى داخل المسجد، وخلا بي، وقال: قل.
فأخرجت إليه الكف، وقلت: أتعرف هذه؟ فتأملها طويلاً، وقال: أما الكف فلا، وأما الخواتيم، فخواتيم ابنة لي، عاتق، فما الخبر؟ فقصصت عليه الحديث بأسره.
فقال: قم معي، وأدخلني داره، وغلق الباب، واستدعى طبقاً، وطعاماً، واستدعى امرأته.
فقال له الخادم: تقول لك: كيف أخرج ومعك رجل غريب؟ فقال: لا بد من خروجها تأكل معنا، فهنا من لا أحتشمه.
فأبت عليه، فحلف بالطلاق لتخرجين، فخرجت باكية، فجلست معنا.
فقال لها: أخرجي ابنتك.
فقالت: يا هذا، قد جننت، فما الذي حل بك؟ فقد فضحتني، وأنا امرأة كبيرة، فكيف تهتك صبية عاتقاً؟ فحلف بالطلاق لتخرجنها، فخرجت.
فقال: كلي معنا.
فرأيت صبية كالدينار المنقوش، ما مقلت مقلتاي مثلها، ولا أحسن منها، إلا أن لونها أصفر جداً، وهي مريضة، فعلمت أن الذي لحق يدها، قد فعل بها ذلك.
فأقبلت تأكل بيمينها، وشمالها مخبوءة.
فقال: اخرجي اليسرى.
فقالت: قد خرج فيها خراج عظيم، وهي مشدودة.
فحلف لتخرجنها.
فقالت امرأته: يا رجل، استر على نفسك، وعلى ابنتك، فوالله - وحلفت بأيمان كثيرة - ما اطلعت لهذه الصبية على سوء قط، إلا البارحة، فإنها جاءتني، بعد نصف الليل، فأيقظتني، وقالت: يا أمي، الحقيني، وإلا تلفت.
فقلت لها: ما لك؟ فقالت: قد قطعت يدي، وهو ذا أنزف الدم، والساعة أموت، فعالجيني، وأخرجت يدها مقطوعة.
فلطمت، فقالت: لا تفضحيني ونفسك بالصياح، عند أبي والجيران، وعالجيني.
فقلت: لا أدري بما أعالجك.
فقالت: خذي زيتاً، فاغليه، واكوي به يدي.
ففعلت ذلك، وكويتها، وشددتها، وقلت: الآن حدثيني ما دهاك.
فامتنعت.
فقلت: والله، لئن لم تحدثيني، لأكشفن أمرك إلى أبيك.
قالت: إنه وقع في نفسي منذ سنتين، أن أنبش القبور، فتقدمت إلى هذه الجارية، فاشترت لي جلد ماعز غير محلوق الشعر، واستعملت لي كفين من حديد، وكنت إذا نمتم، أفتح الباب، وآمرها أن تنام في الدهليز ولا تغلق الباب، وألبس الجلد، والكفين الحديد، وأمشي على أربع، فلا يشك من لعله يراني من سطح أو غيره، أني كلب.
ثم أخرج إلى المقبرة، وقد عرفت من النهار، خبر من يموت من الجلة، وأين قد دفن، فأقصد قبره، فأنبشه، وآخذ الأكفان، فأدخلها في الجلد، وأمشي مشيتي، وأعود والباب غير مغلق، فأدخل، وأغلقه، وأنزع تلك الآلة، وأدفعها إلى الجارية، مع ما قد أخذته، فتخبئه في بيت لا تعلمون به، وقد اجتمع ثلثمائة كفن، أو ما يقاربها، لا أدري ما أصنع بها، إلا أني كنت أجد لذلك الخروج، والفعل، لذة لا سبب لها، أكثر من أن أصابتني بهذه المحنة.
فلما كان الليلة، تسلط علي رجل، أحس بي، وكان كأنه جالس، أو حارس لذلك القبر، فحين بدأت أنبشه، جاءني، فقمت لأضرب وجهه بكفي الحديد، فأشغله بها عني، وأعدو، وأنجو، فداخلني بالسيف، فضربني، فتلقيت الضربة بشمالي، فأبان كفي.
فقلت لها: أظهري أنه قد خرجت على كفك خراج، وتعاللي، فإن الذي بك من صفار، يصدق قولك، حتى إذا مضت أيام، قلنا لأبيك: لا بد أن تقطع يدك، وإلا خبث جميع بدنك، فتلفت، فيأذن لنا في قطعها، فنوهم أنا قطعناها من جديد، وينستر أمرك.
فعملنا على هذا، بعد أن استتبتها، فتابت، وحلفت بالله، لا عادت.
وكنت على بيع هذه الجارية، وأراعي فيما بعد مبيت الصبية، وأبيتها جانبي، ففضحتني أنت، وفضحت نفسك.
فقال لها القاضي: ما تقولين؟ فقالت: صدقت أمي، ووالله، لا عدت أبداً، وتابت.
فقال لها القاضي: هذا صاحبك الذي قطع يدك، فكادت أن تتلف جزعاً.
ثم قال: يا فتى، من أين أنت؟ فقلت: رجل من أهل العراق.
قال: ففيم وردت؟ قلت: أطلب الرزق.
فقال: قد جاءك حلالاً، هنيئاً، نحن قوم مياسير، ولله علينا ستر، فلا تهتكه، والله، ما علمت هذا من حال ابنتي، فهل لك أن تتزوجها، وأغنيك بمالي عن الناس، وتكون معنا، وفي دارنا؟ قلت: نعم.
فرفع الطعام، وخرجنا إلى المسجد والناس مجتمعون، ينتظرونه.
فخطب، وزوجني، وقام رجع، فأدخلني إلى الدار.

ووقع حب الصبية في نفسي، حتى كدت أموت عشقاً لها، وافترعتها، وأقامت معي شهوراً، وهي نافرة عني، وأنا أونسها، وأبكي حسرة على يدها، وأعتذر إليها، وهي تظهر قبول عذري، وأن الذي بها غماً على يدها.
إلى أن نمت ليلة، وانبسطت في نومي، على رسمي، فأحسست بثقل على صدري شديد، فانتبهت جزعاً، فإذا بها باركة على صدري، وركبتها على يدي، مستوثقة، وفي يدها موسى، وقد أهوت لتذبحني، فاضطربت ورمت الخلاص فتعذر، وخشيت أن تبادرني، فسكنت.
فقلت لها: كلميني، واعملي ما شئت، ما الذي يدعوك إلى هذا؟ قالت: أتظن أنك قطعت يدي، وهتكتني، وتزوجت بي، وتنجو سالماً؟ والله لا كان هذا.
فقلت: الذبح قد فاتك، ولكنك تتمكنين من جراحات توقعينها بي، ولا تأمنين أن أفلت فأذبحك، أو أهرب وأكشف هذا عليك، ثم أسلمك إلى السلطان، فيكشف جنايتك الأولى، والثانية، ويتبرأ منك أهلك، وتقتلين.
فقالت: افعل ما شئت، فلا بد من ذبحك، وقد استوحش كل منا من صاحبه.
فنظرت، وإذا الخلاص منها يبعد علي، ولا آمن أن تجرح موضعاً من بدني، فيكون فيه تلفي، فقلت: الحيلة أعمل فيها.
فقلت: أو غير هذا.
فقالت: قل.
فقلت: أطلقك الساعة، وتفرجين عني، وأخرج من البلد، فلا تريني، ولا أراك أبداً، ولا ينكشف لك حديث في بلدك، ولا فضيحة، وتتزوجين من شئت، فقد شاع عند الناس، أن يدك قطعت لخراج خبثها، وتربحين الستر.
فقالت: تحلف أنك لا تقيم في البلد، ولا تفضحني فيه أبداً؟ قال: فحلفت بالأيمان المغلظة.
فقامت عن صدري، تعدو، خوفاً من أن أقبض عليها، حتى رمت الموسى بحيث لا أدري، وعادت، فأخذت تظهر بأن الذي فعلته، مزاح، وتلاعبني.
فقلت: إليك عني، فقد حرمت علي، ولا تحل لي ملامستك، وفي غد، أخرج عنك.
فقالت: الآن علمت صدقك، ووالله، لو لم تفعل، لما نجوت من يدي.
وقامت، فجاءتني بصرة، وقالت: هذه مائة دينار، خذها نفقة، واكتب رقعة بطلاقي، ولا تفضحني، واخرج.
فخرجت في سحرة ذلك اليوم، بعد أن كتبت إلى أبيها، أني قد طلقتها، وأني خرجت حياء منه.
ولم ألتق بهم إلى الآن.
من شعر أبي المغيرةأبو المغيرة، راوي هذا الخبر، شاعر طويل اللسان، مطبوع، هجاء، ولم مدائح كثيرة، وديوان واسع، وأنشدني لنفسه أشياء، منها:
عرضني للردى هواه ... من معدن السحر مقلتاه
وقد لوى نحوه فؤادي ... صدغ على الخد قد لواه
كأنه عقرب ولكن ... يلسع كل الورى سواه
يا عاذلي في هواه رفقاً ... عذري من الحسن ما تراه
أبو أحمد الدجلي يرى مناماً صادقاً
حدثني الأستاذ أبو أحمد الحسين بن محمد بن سليمان، الكاتب المعروف بالدلجي، قال: رأيت في المنام ذات ليلة - وأنا إذ ذاك أخلف سهل بن بشر على أعمال الأهواز - كأني قد خرجت إلى بعض الصحارى، فصعدت جبلاً شاهقاً، فلما بلغت ذروته، قربت من القمر، أو قرب القمر مني، حتى لمسته بيدي، وكأن في يدي خشبة، قد أدخلتها فيه، وأنا أخضخضها فيه، حتى نقبته، وقطعته قطعاً، ثم أخذت بتلك الخشبة، غيماً، كان قريباً من القمر، فما زلت ألطخه، حتى طينته كله، وكأن صاحباً لي يقول: ما تصنع؟ فقلت له: قد قتلت القمر، وأنا أطينه بهذا الغيم.
وانتبهت، فاشتغل بذلك قلبي، فبكرت إلى أبي الحسن أحمد بن عمر الطالقاني، الكاتب، فلما رآني، قال: رأيت لك البارحة مناماً طريفاً، وأردت أن أجيئك الساعة، فأفسره لك.
فقلت: فإني رأيت البارحة مناماً قد شغل قلبي، فجئت لأحدثك به.
فقال: ما رأيت؟ فقصصت عليه الرؤيا. فقال: لا تشغل قلبك بها، فستلي مكان سهل بن بشر، وتحتوي على منزله، عن قريب.
فقلت: من أين لك هذا؟ وما الذي رأيت أنت؟ فقال: رأيت البارحة في منامي، كأني مجتمع مع رجل صالح، قد هجس في نفسي أنه بعض الصحابة، أسأله أن يدعو الله عز وجل لي، فقال لي: الدلجي صديقك؟ فقلت: نعم.
فقال: قل له: الأهواز وقف عليك، فاتق الله، ولا تؤذي زوجتك، ولا شك أن هذا المنام تفسير منامك.
فاستكتمه المنام، وافترقنا، وعدت.
وما كنت أرى أنني أؤذي زوجتي في شيء، إلا في تسري الجواري، وكانت عندي واحدة منهن، قد أقامت نحو سنة، وكادت أن تغلبها علي، فبعتها على مشتر في الحال، ووهبت ثمنها لزوجتي، وكان ألوف دراهم.

فلما كان بعد ذلك بسنة - أكثر أو أقل - ورد الوزير ابن بقية، الأهواز، مع عز الدولة، وقبض على القائد بختكين آزاذرويه، والأتراك، وسهل بن بشر، ثم أطلق القائد، وسمي بالحاجب الأجل، وردت الضمانات إليه، وقلدني مكان سهل بن بشر.
فما زال في حبس أبي أحمد، مدة، ثم أخذ من يده، وحمل إلى بغداد، وحدث من ملك الأمير عضد الدولة بغداد ما حدث، فأطلق، وقلد عسكر مكرم، وتستر، وجنديسابور وأعمال ذلك، ونكب أبا أحمد، وألزمه مالاً، فلزم منزله بالأهواز، وكان يؤدي المال، إلى أن خالف سهل بن بشر، ودخل الأهواز بالجيش داعياً إلى عضد الدولة، ومعهم أبو أحمد خوفاً على مهجته من سهل بن بشر.
وأقام بأرجان، سنة وشهراً، ثم واطأ الديلم بالأهواز، على أن يشغبوا، ويقولوا: إنهم لا يرضون بالوزير وزيراً، ولا يقنعون إلا بصرفه، وتقليد غيره الوزارة، وإلا لم يرضوا بإمارة الأمير عز الدولة، واستحلف القواد، وسائر الجيش بكور الأهواز، وبايعوه، وحلفوا له، وأظهر أنه يريد المسير إلى بغداد، للمطالبة بذلك، وذلك في شعبان سنة خمس وستين وثلثمائة.
فأنكر ذلك، الأمير عز الدولة، وأنفذ إبراهيم بن إسماعيل، من أجل حجابه، برسالة إلى الديلم، فندموا على ما فعلوا، وأذعنوا بالطاعة، فقبض على سهل بن بشر، وحمله إلى بغداد، إلى الأمير عز الدولة، فخلع عليه، وضمنه الأهواز، والياً لها ولكورها.
فصارت الأهواز، كالوقف عليه، لا يصلح لها غيره، ولا يعرف فيها عند الحاجة سواه.
أبو مسلم الأصبهاني الكاتبيرى مناماً صادقاً
حدثنا أبو مسلم محمد بن أحمد بن مهدي، الأصبهاني، الكاتب، قال: رأيت في المنام - وقت استحلاف سهل بن بشر، القواد، والديلم، على الشغب، والمطالبة بصرف الوزير الناصح نصير الدولة - كأني قد خرجت إلى صحراء عظيمة، فرأيت معسكراً هائلاً، بالخيم، والشرع، والفازات، وفي وسطه نهر يسقيه، وعلى حافتي ذلك النهر غائط عظيم، وجميع أهل ذلك المعسكر، من القواد وغيرهم، قد اجتمعوا، يأكلون من تلك العذرة، فجاء الحاجب الأجل من بينهم، وقد أكل من تلك العذرة، فغسل فاه، وما حواليه بالماء، وتمضمض، وركب، ولم يفعل الباقون ذلك.
وكأني أعجب من هذا، إذ وقعت عيني على شراع فوق سطح، فقلت: لمن هذا؟ للدلجي؟ ، قال: وأبو أحمد الدلجي إذ ذاك بأرجان.
فقالوا: هذا له، وقد قدم.
فقلت: أمضي، وأراه، وأسلم عليه.
فتوجهت، إلى أن بلغت إلى أسفل الموضع الذي فيه الشراع، فهبت ريح عظيمة، فقلعت تلك الخيم التي كانت في المعسكر، فما رأيت منها شيئاً باقياً، فنظرت فإذا نساء، وصبيان، ورجال، وشيوخ، يمسكون الشراع.
فقلت: من هؤلاء؟ فقال لي قائل: هؤلاء الطالبيون، يمسكون شراع الدلجي، حتى لا تقلعه الريح.
وانتبهت، فقصصت من غد، الرؤيا على سيما الدرعي، صاحب الشرط، وقلت: هذا الذي فيه هؤلاء، لا يجيء منه شيء، سيلي الدلجي، ويجيء من أرجان.
فقال: ويحك ما تقول؟ فقصصت عليه الرؤيا.
فقال: إحسان الدلجي إلى الطالبيين، هو الذي يأخذ بيده.
فما كانت إلا أيام، حتى ورد إبراهيم الحاجب، فقبض على سهل بن بشر، وحمله مقيداً، وسار بالجيش إلى بغداد.
فأما الحاجب الأجل بختكين، فقد كاتب الأمير والوزير بالخبر، وأشار بمعاجلة سهل بن بشر، والقبض عليه، وذكر أنه وافقه، إشفاقاً من وثوب الديلم عليه، فنجا من المحنة بذلك الفعل، وكان ذلك تأويل مضمضته، وغسله فاه من العذرة.
وأما الباقون، الذين غمرهم ذلك الأمر، فكانوا: الحسين بن أحمد بن بختيار، القائد الديلمي، وتكيدار بن سليمان، القائد الجيلي، فلما حصلا بواسط، قبض عليهما، ونفيا، وأخذت نعمتهما.
وورد أبو أحمد الدلجي، الحضرة، فتقلد الأهواز وكورها.
فكان يحدثنا بهذا، بحضرة أبي أحمد، بعد دخوله الأهواز بمدة.
الوزير المهلبي يطالب أحد عماله بحمل الخراجسمعت أبا محمد المهلبي، يملي كتاباً، إلى سعد بن عبد الرحمن - وهو إذ ذاك، ضامن عمالة البصرة منه، في شركة أبي الحسين أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين الأهوازي، وأبي علي الحسن بن علي بن مهدي الأصبهاني، ابن أخت سعد بن عبد الرحمن - يخاطبه في معنى المال، وتأخره، وحثه بخطاب جميل بين اللين والخشن.
وقال في آخره:

لو سكت عن مطالبتك بالمال، ما سكت الأمير معز الدولة، فيجب أن تؤديه محموداً، خيراً من أن تؤديه مذموماً، فاعمل على أني صديق أشرت بأدائه، ومدافعته عنك، بهذا القدر، ما كنت أغلو عليه به، فإن من أرضى أصدقاءه في أيام النعم، أرضوه في أيام المحن، واعلم أنه ليس بين مخاطبتي هذه لك، وبين أن أخاطبك بضدها، مما يخاطب به العمال المطالبون، الملطون، والمعاملة بما يقتضي ذلك، إلا أن يرد جواب كتابي فارغاً من ذكر حمل المال، وأعوذ بالله، فاختر لنفسك، أو فدع، والسلام.
أبو محمد المهلبي الوزير يتحدث عن الكرمسمعت أبا محمد المهلبي، يقول يوماً، في شيء جرى بحضرته، من ذكر الكرم والكرام، بين جماعة من الناس: كرم الكريم يستر عليه، ما تكشفه النوائب من سوءاته.
إعظام من لا دين له ولا دنيا عنده، حمقحدثني أبو محمد بن داسة، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن إسحاق الآمدي، ويعرف بابن أبي صفوان، شيخ كان يخلف القاضي أبا القاسم التنوخي، على القضاء بواسط وأعمالها، وعلى أعمال كور الأهواز، في أوقات متفرقة، قال: أخبرني من حضر مجلس أبي عمر القاضي، وقد دخل إليه ابن غسان، صهره.
فقال له: من أين أقبلت؟ فقال: من عند فلان.
فقال أبو عمر: إعظام من لا دين له، ولا دنيا عنده، حمق
البخل خير من مسألة البخيلحدثنا أبو القاسم عمر بن حسان بن الحسين، الشاهد، البغدادي - وقد تولى القضاء بديار مضر من قبل قاضي القضاة، وهو مشهور المحل - قال: كنت عند سلامة، أخي نجح الطولوني، وأنا شاب، وفي مجلسه جماعة يذمون البخل، وكان سلامة ينسب إلى البخل، وما كان بخيلاً، وإنما كان محصلاً لحاله، مصلحاً لماله.
فلما انصرفوا، قال: يا أبا القاسم، لا تسمع هذا الكلام، ولا تعول عليه، فتهلك، واعلم أن البخل خير من مسألة البخيل.
سلامة الحاجب يلوم قوماً طعنوا في العدول
قال: وكنت عنده في آخر كونه ببغداد، وقبيل دخول الديلم إليها، وبحضرته قوم يطعنون على الشهود، ويعيبونهم.
فقال لهم سلامة: ما رأيت أعجب من أمركم، من فيكم يطمئن أن يشتري من ابنه، أو من أخيه، ضيعة بعشرة آلاف دينار، ولا يشهد عليه العدول؟ فقالوا: ما فينا أحد بهذه الصورة.
قال: أفتستظهرون لأنفسكم، وأعقابكم، في هذا القدر الكثير من المال، وما هو أكثر منه، إلا بالشهادة، وتعتاضون بخطوطهم في جلد يساوي دانق فضة، من ذلك المال العظيم، حتى تأخذوا الصك، بدلاً من المال، فتجعلونه تحت رؤوسكم، لشدة حفظه.
قالوا: نعم.
قال: فمن كان هذا حكمه عندكم، لم تطعنون فيه؟ .
أبو علي بن مقلة الوزير يزيل أثر الحلوى بالحبرحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك، وكان يعرف بالديناري، لأن أمه دينارية، تقرب إلى امرأة أبي علي بن مقلة، المعروفة بأم الفضل الدينارية.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن علي بن مقلة، يحدث بهذا الحديث، واللفظ مقارب، قالا: كان أبو علي بن مقلة، يوماً، يأكل، فلما شيلت المائدة، وغسل يده، رأى على ثوبه نقطة صفراء من الحلوى الذي أكله، ففتح الدواة، واستمد منها بيده، ونقطها على الصفرة، حتى لم يبق لها أثر، وقال: ذاك عيب، وهذا أثر صناعة، ثم أنشد:
إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدوي عطر الرجال
من نظم ابن أبي الضحاكأنشدني لنفسه:
وأشجار نارنج كأن ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدر
تطالعنا بين الغصون كأنها ... خدود العذارى في ملاحفها الخضر
أتت كل مشتاق بريا حبيبه ... فهاجت له الأحزان من حيث لا يدري
وأنشدني لنفسه أيضاً في النارنج:
شجر كأيام الشبا ... ب تعجلت قبل المشيب
وكأنما نارنجها ... وجه الحبيب على رقيب
تهدي إليك جميع ما ... أرضاك من حسن وطيب
لم لا تحن لها القلو ... ب وقد غدت مثل القلوب
للبديهي البغدادي في وصف النارنجأنشدني أبو الحسن، أحمد بن عبيد الله البغدادي، المعروف بالبديهي، لنفسه:
أنظر إلى النارنج في أغصانه ... نزهاً لأعيننا وعطراً في اليد

ككباب نار في قباب زبرجد ... متوقد بالطيب أي توقد
ورق كآذان الجياد قدودها ... قد أثقلت بقلائد من عسجد
أبو الحسن بن جميل يستخلف متخلفاً
حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين الأهوازي، الكاتب، قال: كنا خمسة كتاب، قد نشأنا بين يدي أبي الحسن بن جميل، في الديوان بالأهواز، وتعلمنا عليه، وكان فينا رجل متخلف في صناعته، فأراد ابن جميل، أن يغيب عن صاحبه، واستخلف ذلك المتخلف، فاغتممنا لتقديمه علينا.
وكان الرجل، يدخل إلى الصاحب، فإذا سأله عن شيء لم يفهمه، وإن فهمه لم يحسن أن يجيب عنه، وإن أجاب عنه، اضطرب ولم يقم بالحجة.
فلما طال ذلك على الصاحب، قال: قد أضرت بنا غيبة ابن جميل عنا، اكتبوا إليه، حتى يبادر.
قال: فعلمنا - حينئذ - أنه استخلفه، ليكتب لصاحبه، إذا غاب، في موضعه، ولا يطمع في أن ينوب عنه.
أبو الفضل عامل أرجان يقدم نوبة الحمىحدثنا أبو علي محمد بن الحسن بن جمهور، العمي، الكاتب، الصلحي، البصري، صاحب الستارة، المشهور بالأدب، والشعر، وتصنيف الكتب، قال: كنت أكتب لأبي الفضل غيلان بن إسماعيل، وهو بأرجان يتقلدها.
فقيل له: قد قدم أبو المنذر النعمان بن عبد الله، يريد فارس، والوجه أن تلقاه في غد.
وكان أبو الفضل يحم حمى الربع، فقال: كيف أعمل، وغداً يوم حماي، ولا أتمكن من لقاء الرجل، ولكن الوجه أن أحم اليوم، حتى أقدر أن ألقاه غداً، يا غلام، هات الدواج حتى أحم الساعة.
وإذا عنده، أنه إذا أراد أن يقدم نوبة الحمى، ويحم، تأخرت عنه الحمى في غد، وصح.
ابن الجريح يقتل أسداً
حدثني الأستاذ أبو أحمد الحسين بن محمد الدلجي، قال: كنت بنواحي المذار، في جماعة، منهم رجل من الشاكرية، يعرف بابن الجريح، فخرج علينا أسد، فابتدر له هذا الرجل، بسيفه ودرقته، يحاربه، ودخل معه الأجمة، فلم نعرف له خبراً، حتى خرج علينا، وقد قتل الأسد، وحمله على ظهره، وكان بيننا وبين الأجمة مسافة صالحة، فلما انتهى إلينا، طرحه عن ظهره.
فما درينا من أي شيء نعجب، من رجل قتل سبعاً وحده، أو من حمله إياه، على ظهره، طول تلك المسافة.
الخليفة المعتضد يقتل أسداً
وحدثنا، قال: بلغني عن خفيف السمرقندي، أنه قال: كنت مع مولاي المعتضد، في بعض متصيداته، وقد انقطع عن العسكر، وليس معه غيري، فخرج علينا أسد، فقصدنا.
فقال لي المعتضد: يا خفيف، أفيك خير؟ فقلت: لا، يا مولاي.
فقال: ولا حتى تمسك فرسي، وأنزل أنا إلى الأسد؟ فقلت: بلى.
فنزل، وأعطاني فرسه، وشد أطراف منطقته، واستل سيفه، ورمى القراب إلي، فأخذته، وأقبل يمشي إلى الأسد، واستقبله بضربة، وثناه المعتضد بأخرى، ففلق هامته، فخر صريعاً، ودنا منه وقد تلف، فمسح السيف في صوفه، حتى نظفه، ورجع إلي، فأغمد السيف، وركب.
ثم عدنا إلى المعسكر، وصحبته، فإلى أن مات، ما سمعته يتحدث بحديث الأسد، ولا لفظ فيه بلفظة.
فلم أدر من أي شيء أعجب، من شجاعته وشدته، أم من قلة حفله بما صنعه، وكتمانه، أم من كرمه وعفوه عني، وما عاتبني على ضني بنفسي.
لا جزاك الله من طارق خيراً
حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن أم المكاتب البغدادي، المعروف والده بأبي الليث الهمذاني، قال: حدثني محمد بن بديع العقيلي، أحد قوادهم ووجوههم في الحي، وكان ورد إلى معز الدولة، فأكرمه وأحسن إليه، قال: رأيت رجلاً من بني عقيل، وفي ظهره كله شرط كشرطات الحجام، إلا أنها أكبر، فسألته عن ذلك.
فقال: إني كنت هويت ابنة عم لي، فقالوا: لا نزوجك إلا أن تجعل في الصداق الشبكة، فرس سابقة كانت لبعض بني بكر بن كلاب، فتزوجتها على ذلك.
وخرجت في أن أحتال في سلب الفرس من صاحبها، لأتمكن من الدخول بابنة عمي.
فأتيت الحي الذي فيه الفرس، في صورة حدار، وما زلت أداخلهم، ومرة أجيء الخباء الذي هي فيه كأني سائل، إلى أن عرفت مبيت الفرس من الخباء.
واحتلت حتى دخلت البيت من خلفه، وحصلت خلف النضد، تحت عهن كانوا نفشوه ليغزل.
فلما جاء الليل، وافى صاحب الخباء، وقد زاولت لك المرأة عشاء، وجلسا يأكلان، وقد استحكمت الظلمة، ولا مصباح لهم، وكنت ساغباً، فأخرجت يدي، وأهويت إلى القصعة، وأكلت معهم.

فأحس الرجل بيدي، فأنكرها، فقبض عليها، فقبضت على يد المرأة، فقالت له المرأة: ما لك ويدي؟ ، فظن أنه قابض على يد امرأته، فخلى يدي، فخليت يد المرأة.
وأكلنا، فأنكرت المرأة يدي، فقبضت عليها، فقبضت يد الرجل، فقال لها: ما لك؟ فخلت عن يدي، فخليت عن يده.
وانقضى الطعام، واستلقى الرجل نائماً، فلما استثقل، وأنا مراصدهم، والفرس مقيدة في جانب البيت، فأثبتها، والمفتاح تحت رأس المرأة.
فوافى عبد له أسود، فنبذ حصاة، فانتبهت المرأة، فقامت إليه، وتركت المفتاح في مكانه، وخرجت من الخباء إلى ظاهر البيت، ورمقتها بعيني، فإذا هو قد علاها.
فلما حصلا في شأنهما، دبيت، وأخذت المفتاح، وفتحت القفل، وكان معي لجام شعر، فأوجرته الفرس، وركبتها، وخرجت عليها من الخباء.
فقامت المرأة من تحت العبد، ودخلت الخباء، وصاحت.
فذعر الحي، وأحسوا بي، وركبوا في طلبي، وأنا أكد الفرس، وخلفي خلق منهم.
فأصبحت، وليس ورائي إلا فارس واحد برمح، فلحقني وقد طلعت الشمس، وأخذ يطعنني، فلا تصل إلي طعناته، ولا فرسي تنجيني، إلى حيث لا يمسني من الرمح شيء.
حتى وافينا إلى نهر عظيم، فصحت بالفرس، فوثبته، وصاح الفارس بالفرس التي تحته، فقصرت، ولم تثب.
فلما رأيته عاجزاً عن العبور، وقفت، لأريح الفرس وأستريح، فصاح بي، فأقبلت عليه بوجهي.
فقال: يا هذا، أنا صاحب الفرس التي تحتك، وهذه ابنتها، فإذ ملكتها، فلا تخدع عنها، فإنها تساوي عشر ديات، وعشر ديات، وعشر ديات، وما طلبت عليها شيئاً قط، إلا لحقته، ولا طلبني عليها أحد إلا فته، وإنما سميت الشبكة، لأنها لم ترد قط شيئاً إلا أدركته، فكانت كالشبكة في صيده.
فقلت له: إذ نصحتني، فوالله لأنصحنك، كان من صورتي البارحة، كيت وكيت، وقصصت عليه قصة امرأته، والعبد، وحيلتي في الفرس.
فأطرق، ثم رفع رأسه، وقال: ما لك، لا جزاك الله من طارق خيراً، طلقت زوجتي، وأخذت قعدتي، وقتلت عبدي.
؟
دكين البدوي يسل فرس معز الدولةوحدثنا ابن أبو الليث الكاتب، قال: حدثني رجل من بني النمر بن قاسط، يسمى دكين، بدوي، شاهدته بالأنبار، قال: كان معز الدولة، لما حصل بسنجار، يشد فرساً له جليل القيمة، بين يديه، في أقرب المواضع إلى مبيته. فعينت عليه، وطمعت في سله، وأعملت الحيلة في ذلك، فلم أتمكن.
إلى أن جئت ليلة من الليالي، فوجدت بعض السواس، وقد نزع جبة صوف عليه، وهو نائم، وقد طرحها إلى جنبه، فلبستها، وجئت إلى الفرس، وأخذت المخلاة من رأسه، لأحله، وأركبه.
فلما طرحت المخلاة، استيقظ معز الدولة، وأحسست بحركته، فأخذت الغربال، وطرحت به باقي الشعير الذي كان في المخلاة، وسردته، وأعدته إلى المخلاة، وأوهمته أني أحد السواس، وقد فعلت ذلك متفقداً للفرس.
فلما رآني أفعل ذلك، صاح بالفارسية، بكلام فهمت معناه: حسبه من الشعير، لا ترده إلى رأسه.
فتركت المخلاة، ومرح الفرس يطلبها.
فقال معز الدولة بالفارسية: قصر عليه.
فتمكنت من الحيلة، وأهويت إلى الرسن، فحللته، موهماً له أني أقصره، واستويت على ظهره وصحت به، فخرجت من العسكر.
وصاح الأمير معز الدولة، وركب سرعان العسكر في طلبي، فما زلت أركض، وخلفي جماعة، حتى حصلت في شعب طويل، وهم ورائي.
فاستقبلني قوم من العلافة، رأيتهم على بعد، من ضوء مشاعلهم، ومعهم عسكر.
فقلت في نفسي: يا دكين، اليوم يومك، وراءك عسكر، وأمامك عسكر، فإن ملكوك، لم يوصلوك إلى معز الدولة، إلا ميتاً، وليس غير الإقدام على ما تقدر فيه النجاة.
فقام في نفسي أن أحمل على من هو أمامي، وليس لهم علم بخبري، فسللت سيفاً كان معي، فوق ثيابي، وتحت الجبة التي لبستها من ثياب سواس معز الدولة، وحركت وهم لا يروني، لأنهم في الضوء، وأنا في الظلمة.
فلما قربت منهم، صحت بهم صياحاً عظيماً، فقدروني ابتداء خيل قد كبستهم، تريدهم.
وأقبلت أحمل على واحد، واحد، وأنا أضرب، فيتوقاني، وأحذره، إلى أن تخلصت منهم، وجريت.
ولحقت بهم الخيل التي كانت خلفي، وتشاغلوا بمساءلتهم عني قليلاً، ففت الفريقين.
وحملت الفرس إلى الشام، فبعته على سيف الدولة، بثلاثة آلاف درهم، ودحت في البلاد، إلى أن صرت إلى بغداد، ومعز الدولة، يطلب قوماً من العرب، ليفرض لهم وينفذهم إلى بعث.

فحملني المسيب بن رافع العقيلي، في جماعة، إليه، عرضهم عليه، فأثبتني.
فلما وقفت بين يديه، اقتحمتني عينه، لأني دميم. فقال: بيست دينار.
فعلمت أنه أراد، عشرين ديناراً.
فكلمه المسيب، والمهنا، العقيليان، فزادهما ثلاثة دنانير.
فقالا له: رجل له فضل، ومنزلة، وهو من أصله، ومن شجاعته.
فقال: لو كان هذا كله حقاً، ما كان يقدر أن يصنع؟ فقلت لبعض النقباء: أي شيء قال؟ ففسره لي.
قال: فقلت: أيها الأمير، أقدر أضع نفسي على فرس بين يدي ملك مثلك، فأحتال في أمره، حتى آخذه سائساً، ثم أركبه، وقصصت عليه قصته مع فرسه بسنجار، وذكر بيعه وثمنه.
فقال: وأنت صاحب الفرس بسنجار؟ فقلت له: نعم.
فضحك، وقال: نزلوه أربعين ديناراً.
ففعلوا.
مختارات من الشعرحدثني أبو الحسن، قال: اجتزت بطريق سر من رأى، فدخلت القصر المعروف بالأحمدي، لأشاهد آثاره، فلما توسطته، رأيت مكتوباً على حائط فيه:
في الأحمدي لمن يأتيه معتبر ... لم يبق من حسنه عين ولا أثر
غارت كواكبه وانهد جانبه ... ومات صاحبه واستفظع الخبر
وأنشدني لنفسه:
رفقاً أقيك بمقلة ... كلفتها طول السهاد
أصبحت منها في السوا ... د وفي السواد من الفؤاد
وأنشدني أبو القاسم الصروي، قال: أنشدني أبو الحسن الموسوي، العلوي، لنفسه:
يا نازلاً في السواد ... من مقلتي وفؤادي
رجال الدولة يتآمر بعضهم على بعضحدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله، قال: أخبرني جماعة من شيوخ الكتاب ببغداد: إن القاسم بن عبيد الله، كان قد أوجس في نفسه من اختصاص الحسين بن عمرو النصراني، كاتب المكتفي، فوضع عليه من يأتيه بأخباره، حتى أظهر لمغنية كان ابن الحسين بن عمرو يتعشقها، أنه يعشقها، وملأ عينها، وكان يتسقطها أحاديث الحسين بن عمرو وابنه، لكثرة ملازمتها له، حتى غلبه عليها، فاضطر ابن الحسين بن عمرو، أن يداخل القاسم من أجلها، واجتذبه، وصار كالنديم له، فملأ عينه بالإحسان، وضرب بينه وبين أبيه، وكان يأتيه بأخباره.
فجاء يوماً، فأعلمه، أنه قد شرع مع المكتفي في الوزارة، وضمن القاسم وأسبابه، بمال عظيم، ذكر مبلغه، وأنه تقرر الأمر مع الخليفة أن يستوزر إبراهيم بن حمدان الشيرازي، كاتب الحسين بن عمرو - قال أبو الفضل، وهو جد أبي القاسم علي بن الحسين بن إبراهيم المعروف بالمشرف - على ما كان ينظر فيه للمكتفي، ويلبسه السواد، ويخاطب بالوزارة، لأنه لم يرغب هو في الإسلام، ولم يجز استيزاز ذمي، وأن تكون الدواوين، والأمور، كلها إليه، ويؤمر الوزير أن يصدر عن أمره، ولا يصل إلا في أيام المواكب، والمجالس الحافلة، للعرض فقط، وإقامة الرسم، ويلبس السواد، والسيف، والمنطقة، وأن فارس - داية المكتفي - هي التي قررت ذلك مع الخليفة، وأنه قد وعدهم ليوم بعينه، قريب، ذكره، ليقبض على القاسم وأسبابه، ويسلمون إلى الحسين بن عمرو.
وشاور القاسم أبا العباس بن الفرات، كيف يصنع؟ فقال له: عندي ما يكفيك هذا الأمر.
قال: وما هو؟ قال: كتاب بخط الحسين بن عمرو، الذي يعرفه الخليفة، إلى أبيك، كتبه إليه من بعض الوجوه التي خرج إليها المكتفي، في أيام المعتضد، وهو إذ ذاك كاتبه، يخبر أباك، عن بخل المكتفي، وسقوط نفسه، وعيوبه، وفواحشه، وضعفه، ونقصه، بكل عظيمة، ويشير على أبيك، أن ينهي ذلك إلى المعتضد، وأن يسرع في استدعائه إلى الحضرة، لئلا يفتضح الملك.

والوجه لك، أن تعمل ثبتاً بجميع أملاكك، وما تحويه يدك، ودارك، وملكك من جميع الأشياء، وتصير إلى الخليفة، وتستخليه، فإذا خلا، طرحت نفسك بين يديه على الأرض، وبكيت، وأخرجت الثبت، وسألته أن يقبل جميعه منك، عفواً حلالاً، ويقرك على خدمته، أو أن يؤمنك على جسمك، ونفسك، وأن لا يسلمك إلى الحسين بن عمرو، فإنه غير مأمون عليك، فإذا سألت عن سبب ذاك، أعلمته أن الحسين بن عمرو، أظهر السر، فبلغك، وأخرجت الكتاب إليه، وقلت له: يا أمير المؤمنين، كيف تأمن على نفسك، ودولتك، من هذا اعتقاده فيك؟ فإنه إذا قرأه، مع ما قد سمعه منك، انحل، ورجع لك، وانقلب على الحسين بن عمرو، وإذا سألك عن الكتاب، عرفته أنه كان في خزائن أبيك، يحفظه على الحسين بن عمرو لك، ويسلمه إليك، وكان المعتضد يخافه حتى هلك، وأنك أنسيت أمره إلى الآن، فأظهرته، واضمن الحسين بن عمرو، وإبراهيم الشيرازي، وأسبابهما، كذا وكذا ألوفاً، تقدر على استخراجها منهم، فإن الخليفة يجيبك، وإذا وعدك، فعرفه أن هذا أمر قد ظهر وفشا، وتحدث به الناس، وكثرت معه الأراجيف، وأنه إن أخر تسليمهم إليك، وقفت الأمور على العمال، وطمع فيها كل أحد، فأضر ذلك به، ووقفت أمور الوزارة، وسخفت من تأخر تسليمهم إليك، فإنه يسلمهم.
قال: فركب القاسم في الحال، إلى المكتفي، وعمل جميع ما قاله له أبو العباس، فجرى الأمر على ما ظنه.
وعاد القاسم، وقد أذن له الخليفة في القبض على الحسين بن عمرو وأسبابه، فقبض عليهم، واستصفى أموالهم، فلما أحس بنفادها، أنفذ الحسين بن عمرو، وإبراهيم الشيرازي، إلى الأهواز، على سبيل النفي، ووكل بهما، فلما حصلا بالأهواز، قتلهما الموكلون، وقيل أنهما جعلا في بيت، وسد، ومنع من دخول الماء إليهما، والغذاء، فلما علم بموتهما، فتح الباب، ونقلا إلى بيت آخر، وأظهر إن أجلهما أدركهما.
قال: فلما خرج القاسم، وقد ظفر، وتم له التدبير، قبل رأس أبي العباس بن الفرات، وعينيه، وشكره، وقال: أنت أبي، وعضدي، وما أشبه ذلك من القول.
فحسده ابن فراس، على ذلك، وقال للقاسم: أيها الوزير، سل أبا العباس من أين له هذا الكتاب؟ فسأله.
فقال أبو العباس: كنت منذ دهر، مجتازاً في بعض الطرقات، فرأيت في دكان نطاف رفاً عليه ظهور معلقة، ليجعل فيها ما يبيعه من الناطف على الناس، وما رأيت قط شيئاً مكتوباً، إلا أحببت قراءته، وقد أفدت من ذلك، دفعات كثيرة، فوائد كباراً.
قال: فلحظت الظهور، فوقعت عيني منها، على عنوان هذا الكتاب، فعرفت خط الحسين بن عمرو، فتتبعت نفسي قراءة الكتاب، فقلت لغلامي: امض، فاشتر هذا الناطف، في ذلك الظهر، وأومأت إلى هذا الكتاب، ففعل، وجاءني به، فقرأته، فوجدت فيه العظائم، فقلت في نفسي: هذا أشر الناس، يكتب لرجل، ويتخلفه بمثل هذا الكتاب، فلعله أن يلحقني يوماً، شر من هذا الرجل، فأدفعه بهذا الكتاب، أو أنعى عليه عيوبه، فمسحت آثار الناطف منه، واحتفظت بالكتاب، فهو عندي منذ كذا وكذا سنة، فلما حدثني الوزير الآن بهذا الحديث، علمت أنه موضع إظهار الكتاب، فأظهرته.
فلما انصرف ابن الفرات عن المجلس، قال ابن فراس، للقاسم - وكان يشنعه عنده دائماً، فلا يلتفت إليه - : قد بان لك مقدار شر ابن الفرات، هذا شر عليك من الحسين بن عمرو، لأنه عدو مدغل، مندس بين ثيابك، والحسين، كان عدواً مكاشفاً، وأنت على اتقائه أقدر، ما يؤمنك أن يكون ابن الفرات، قد تحفظ عليك، في مدة استرسالك إليه، ما هو أكثر من هذا، أو قد حصل خطك بألوان من الذم، وأنت ناس، كما فعل بالحسين ابن عمرو؟ ما يؤمنك أن يكون عنده من خطوطك، أو خطوط أبيك، ما يجري هذا المجرى؟ فإن الناس، ربما سخطوا على أصحابهم، واستأمنوا إلى بثهم عند نصائحهم، وإنما يترقب منك ابن الفرات، إعراضاً، أو أدنى خلاف عليه في شيء لا يؤثره، وتؤثره أنت، فيظهر للخليفة عنك، وعن أبيك، ما هو أعظم من هذا، فتهلك، وإن أمسكت عنه، فأنت ربيب في حجره، وعنده أنه قد ردك إلى الوزارة برأيه، ويقتطع الدنيا، ويفوز بها، وبفائدتها، وتكون التبعة عليك، وإن أوحشته، قتلك بمثل هذا الفعل، فاقبل رأيي، وعاجله، واحتل عليه، بسم تدسه إليه، وتتخلص منه.
قال: فوقع ذلك في نفس القاسم. وما زال ابن فراس يقوي رأيه، إلى أن عمل له سماً في تفاحة، وأشمه إياها، فأتلفته.

وكان هذا الكتاب، أشأم كتاب سمع به.
أبو جعفر بن بسطام له قصة في رغيفوحدثني أبو محمد، قال: حدثني بعض شيوخ الكتاب ببغداد، عمن حدثه: إنه سمع أبا الحسن بن الفرات، يقول لأبي جعفر بن بسطام - وكان سيء الرأي فيه - : ويحك يا أبا جعفر، لك قصة في رغيف، ما هي؟ فقال: ما لي قصة في رغيف.
فلم يزل به أبو الحسن، إلى أن قال له: إن أخبرتني بذلك، كان خيراً لك، قال: نعم، إن أمي، كانت عجوزاً صالحة، وعودتني - منذ ولدت - أن تجعل تحت مخدتي التي أنام عليها، في كل ليلة، رغيفاً فيه رطل، فإذا كان من غد، تصدقت به عني، وأنا أفعل هذا إلى الآن.
قال: فقال ابن الفرات، ما سمعت بأعجب من هذا، اعلم أنني من أسوأ الناس رأياً فيك لأمور أوجبت ذلك، وعدد بعضها، وأنا منذ أيام مفكر في القبض عليك، ومطالبتك بمال، فأرى منذ ثلاث ليال، في منامي، كأني قد استدعيتك لأقبض عليك، فتحاربني، وتمتنع علي، فأتقدم بمحاربتك، فتخرج إلى من يحاربك، وبيدك رغيف، كالترس، فتتقي به السهام، فلا يصل إليك منها شيء، وأشهد الله عز وجل، أنني قد وهبت لله تعالى، ما في نفسي عليك، وأن رأيي لك، أجمل رأي، من الآن، فانبسط.
قال: فأكب أبو جعفر، على يديه ورجليه، يقبلها.
ما يرد في المرافق يذهب في المصادرةحدثني أبو طاهر المحسن بن محمد بن الحسن، الجوهري، الشيرازي، المعروف بابن المقتفي، وهو أحد الشهود بمدينة السلام، قال: قال لي أبو الفضل العباس بن فسانجس: كسبت في مدة تصرفي مع السلطان، بفارس، خمسين ألف ألف درهم، وصادرني علي بن بويه، في مدة مقامي بشيراز، على ستمائة ألف دينار، متفرقة، سوى ما استخرجه من خراج ضيعتي، ثم اقتطعها بالحقين.
وأنا أقول: لو لم نعتبر في الزمان، إلا بهذه الحكاية، لكفى، لأن أبا الفضل، ما تقلد أكثر من كتابة فارس، وخلافة العمال بها، عليها، أو على بعضها، في بعض الأوقات، فظفر بهذا المال.
وقد تقلد أبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس، دواوين العراق مجموعة، ثماني وعشرين سنة، ثم الوزارة ثلاثة عشر شهراً، وبلغ المبالغ التي لم يبلغ إليها أبوه قط.
فلما أرهق بالمطالبات، في وقت النكبة، واستقصي عليه، بلغت مصادرته ألف ألف ومائتي ألف درهم، تكشف بأدائها.
الخليفة المعتضد يتخبر على وزيرهحدثني أبو محمد، يحيى بن محمد بن فهد، قال: حدثني بعض المشايخ: إن القاسم بن عبيد الله، كان يخاف المعتضد، ويخفي شربه، ولعبه، لئلا يتصوره بصورة حدث، متوفر على لذاته، يخل بالعمل، فيفسد رأيه فيه، وكان مع ذلك، بالشباب، والحداثة، يشتهي اللعب، فإذا أمكنه أن يخفيه جداً، استرق الليلة، أو اليوم، من عمره، فشرب.
قال: فأراد الشراب ليلة من الليالي، على الورد، فاحتال في جمع شيء كثير منه، وحصله خفياً، وجمع من المغنيات جمعاً كثيراً، وفيهن واحدة كان يشتهيها، ويتحظاها.
وجلس وليس معه غيرهن، فشرب، وخلط بالورد الدراهم الخفاف، ونثر عليه، والناس يسمون ذلك شاذكلى، ولبس ثياب قصب مصبغات، من ثياب النساء، وأدخل تلك المغنية معه، لشدة شغفه بها، ومضت ليلة طيبة، فقطع الشرب في نصف الليل، خوفاً من الخمار، ونام.
وركب إلى المعتضد من غد، وأقام في الخدمة، إلى حين وقت انصرافه.
فلما أراد الانصراف، دخل ليراه المعتضد، وينصرف، فاستدناه المعتضد، إلى أن صار بحيث لا يسمع كلامه غيره، فقال له: يا قاسم لو دعوتنا البارحة، فكنا نلعب معك شاذكلى، ولكنك احتشمت، لأجل المصبغات التي لبستها أنت وعشيقتك.
قال: فكاد القاسم أن يموت جزعاً.
فقال له: ما لك قد جزعت؟ وأي شيء في هذا؟ لو علمنا أنه يلحقك هذا، ما أخبرناك بشيء، ولا آذيت قلبك، امض في ودائع الله.
قال: فعاد القاسم إلى داره كئيباً، وجمع نصحاءه، وأخبرهم الخبر، وقال: ما أراد المعتضد بهذا، إلا ليعرفني أن هذا القدر من أخباري ليس يخفى عليه، وإن كان على الحقيقة قد علم هذا القدر، فكيف تخفى عليه مرافقي، وما هو أظهر من هذا من أخباري؟ وكيف يكون عيشي؟ وأنه لا ينستر عليه مثل هذا؟ وما تروني أصنع؟ فأخذوا يطيبون قلبه، ولا يزداد إلا جزعاً، إلى أن قال لهم: إن لم أعرف من رقى هذا الخبر، انشقت مرارتي، وقتلت نفسي.
فقالوا له: نحن نبحث ونتعرف.
فابتدر أحدهم، وقال: أنا أكفيك، أيها الأمير، هذا.

قال: وجعل ذلك الصاحب، يطوف حوالي دار الخليفة، ليجد من يشبه صاحب خبر، فيخمن عليه، فما ظفر بشيء يومه ذلك.
فلما كان من الغد، طاف الدواوين، ومجالس أصحاب البريد والخبر، يومه أجمع، فما ظفر بشيء.
فلما كان اليوم الثالث، طاف دار الوزارة، ومقاصيرها، فلم يظفر بشيء.
فلما كان في اليوم الرابع، وقف على دابته في باب العامة، متحيراً، لا يدري، ينتظر أن يخرج الوزير راكباً، فيركب معه في الموكب، فيتفقد الوجوه، إذ كان لم يبق له شيء يجده، وإذا هو برجل شاب يحبو على ركبتيه زمانة، كما يكون الزمن الذي يتصدق، وقد جاء قبل طلوع الشمس بشيء كثير، فزحف، ودخل على البوابين، فلم يمنعوه.
قال الرجل: فحين بلغ العتبة، وقف مع البوابين، يحدثهم ساعة، وأنا أصغي إليه، ويسألهم عن أخبارهم، ويدعو لهم، وهم على بشاشة، إلى أن أخذ بهم في غير ذلك الحديث.
إلى أن قال: من بكر اليوم إلى الدواوين، ومن دخل؟ ومن حجب؟ فقالوا له: فلان وفلان.
فحين سمعت ذلك، علمت أنه صاحب خبر، فأتبعته بصري، إلى أن جاز البوابين، ودخلت وراءه، فبلغ إلى أصحاب الستور، فكانت صورته معهم كصورته مع أولئك، فأخبروه بما لم أكن أعلم، مع اختصاصي بخدمة الوزير، من وصول الناس إليه، وحجبهم عنه.
وتجاوز إلى دهليز العامة، فنزلت عن دابتي، وهو لا يفطن لي، فبلغ إلى موضع الحجاب، فولع به الحجاب، ولم يحدثهم بشيء ولم يحدثوه، ودعا لهم، وتصدق منهم، فأعطوه.
فتجاوزهم إلى الصحن، وأنا أراه، فلم يزل يحبو، ويطوف، على خزانة، خزانة، من خزائن الفرش، والشرب، والكسوة، وحجر الغلمان، والخدم، ويبحث عن الأخبار، ويحدث بكل شيء، وأنا أسمع، حتى استفدت ما لم أكن أعرفه من تخبر دار الوزير.
ثم جاء إلى باب الحرم، فدعا للخادم الموكل بالباب، فتصدق عليه، وأعطاه، وجلس هناك يتطايب، وكل من دخل وخرج، من جارية، أو خادم، يسأله عن خبره، ويولع به، ويهب له شيئاً، ويستخرجهم أخبار الدار، وينقل ما فيه، ويقول: قولوا لستنا فلانة تهب لي ما وعدتني به، وقولوا لستي فلانة، تتصدق علي، وسلوا ستي القهرمانة الفلانية عن خبراها، وأقرؤوها سلامي، وأنا أشاهده، وأتعجب منه، حتى استنفذ من أخبار جواري القاسم، ومبيته، وعند من بات منهم البارحة، وما بين الجواري من السرور والأنس، وأخبار كسوتهم، وأشياء من هذا الجنس، كل شيء طريف.
ثم زحف، ودخل دار الخلوة التي يخلو فيها الوزير، وكان يركب منها، فهش به فراشو الحجرة، والخاصة، والخدم، والغلمان الأصاغر، وضاحكوه، ودعا لهم، وأخذ من بعضهم براً، وسألهم عن خبر الوزير في خلوته تلك، وشربه.
وقال له بعضهم: هو مغموم غماً شديداً منذ يومين، لا نعرف سببه، فما يشرب، ولا يأكل، ولا نام، ولا خلا.
وكل ذلك، وهو يظهر في مسائلته التطايب، وأنه كالمتغير المعتوه، ويحمل أولئك ألفاظه على هذا، فيخبره منهم الضعيف العقل، والمزاح، والأخرق، وهو يحتمله، إلى أن فرغ من أهل حجرة الخلوة.
ثم خرج، فزحف أشد زحف، على هيأته، لا يعرج على شيء، حتى جاء إلى مجلس الكاتب، فأقام هناك طويلاً، ففعل كفعله.
ثم خرج من الباب، وقد ملأ زنبيلاً كان معه، من الخبز والحلوى والطعام، وملأ جيبه من الدراهم.
فلما صار على باب الدار، قلت للبوابين: تعرفون هذا؟ فقالوا: رجل زمن أبله، يجيء فيتصدق، وخلقه طيب، فكل من في الدار، يستطيبه، ويبره.
قلت: قد رحمته، واشتهيت آخذ له شيئاً، ففيكم من يعرف بيته؟ فقالوا: لا.
فركبت، واتبعته، ولحقت به، ووقفت كأنني أحدث غلامي، وأسير خلفه على تؤدة، حتى جاء إلى الجسر، فعبره زاحفاً، وأنا وراءه، ودخل الخلد، ودخلت معه، وولج في خان، فقلت لغلامي: اتبعه، فاعرف بيته في الخان، ففعل، وعاد إلي، فوصفه لي.
فوقفت متحيراً، لا أدري ما أعمل، ولا من أسأل عنه، وأخاف أن أنفره، فيهرب.
وطال وقوفي، وهممت بالانصراف، فإذا به قد خرج بريئاً، نظيفاً، بثياب مروية ولحية بيضاء، وطيلسان، وعمامة قد جعلها فوق حاجبيه، فلولا قرب عهدي به، وبرؤيته، لما عرفته، وإذا هو يمشي لا قلبة به.
فتأملت لحيته، وإذا هي ملبسة فوق لحيته، وقد أخفاها بعمامته، وإنما فطنت لذلك، لشدة تأمله، وصرف اهتمامي إلى ذلك، مع قرب عهدي برؤيته.

ومشى، فدخلت إلى مسجد، وغيرت عمامتي، وأمرت غلامي أن يأخذ دابتي ويقف لي عند الجسر بها، ونزعت خفي، ولبست تمشك غلامي، ومشيت، فاتبعته، بسرعة مشيته.
ومضى حتى أتى دار ابن طاهر، فخرج إليه الخادم، فما منهما من كلم صاحبه، بأكثر من أنه أخرج رقعة لطيفة، فسلمها إلى الخادم، ودخل الخادم، ورجع هو، فلم أتبعه، وامتددت إلى درجة يعقوب، فركبت في سميرية، وصعدت إلى دار الوزير.
فدخلت إليه، وهو يطلبني للأكل، فأكلت معه، وقام الناس، فجلست.
فقال لي: قل.
فقلت: فعلت البارحة كذا وكذا، وجرى في دار حرمك كذا، وقالت فلانة كذا، وقالت جاريتك الفلانية وخاطبتك بكذا، وفلان الخادم الصغير فعل كذا.
قال: وكنت قد سمعت في خلال ذلك، أخبار الحاشية، بعضهم من بعض، لا أظن صاحب الخبر عرفها، ولكن كما انجرت الأحاديث، فأخبرته بذلك كله.
فقال لي: ويحك، أيش تقول؟ من أين لك هذه الأحاديث؟ فقلت: من حيث خرج حديث الشاذكلى.
فقال: أخبرني.
فقلت: الجائزة.
فقال: احتكم.
فأخبرته بخبر الزمن، على جهته.
فجذبني، وقبل بين عيني، وأمر لي بمال جليل.
وقال: أريد أن تحصله، من حيث لا يعرف خبره.
فقلت: أنا على ذلك، فتقدم إلى بعض الغلمان الخاصة، أن يطيعني، فجمع بيني وبين غلام منهم، وتقدم إليه بذلك.
فلما كان من الغد، باكرت الدار، وجلست أنتظر الرجل، فإذا به قد جاء على زي أمس، في البزة والزمانة، ودخل، فلم أعرض له، حتى دخل حجرة الخلوة، فاتبعته.
وقلت للغلام: خذ هذا، فأخذه، وقفلنا عليه باباً من الحجرة، فاضطرب، وبكى.
ونزل الوزير، فأسررت إليه الخبر، ففض شغله، ودخل الحجرة، واستدعى به، فجاء يزحف، فوكزت عنقه، وقلت له: قم يا عاض، فامش مشياً صحيحاً، كما رأيتك تمشي بالأمس.
فقال: أنا رجل زمن.
فأحضرت له مقارع، فلما رأى المصدوقة، قام، فمشى.
فقال له القاسم: اصدقني عن خبرك، وإلا قتلتك الساعة.
فقال: أنا صاحب خبر المعتضد عليك، منذ كذا وكذا شهراً، أفعل كذا، وأصنع كذا، وذكر مثل ما أخبرته به، وأنه يجمع الأخبار، ويكتب بها في كل نصف نهار، من كل يوم، ويوصل رقعة لطيفة بذلك إلى الخادم الموكل بدار ابن طاهر، فيمضي بها ذلك الخادم إلى المعتضد، فإن الخادم، هو الواسطة بينهما، وإنه إذا كان في رأس كل شهر، سلم إليه الخادم ثلاثين ديناراً عيناً.
قال: فعرفني، أي شيء أنهيت من أخباري، طول هذه المدة؟ فذكر له أشياء كثيرة، منها خبر الشاذكلى.
فحبسه القاسم في ذلك البيت، فلما كان في الليل قتل، ودفن، فانقطع خبره عن المعتضد.
فلما كان بعد شهر، وأكثر، قال لي القاسم: استرحت من ذلك الكلب، ما أرى عند المعتضد من خبري شيئاً، ولا أرى عليه أثراً يدل على وقوفه على شيء من أمري.
أبو بكر بن رائق وإعجابه بغناء ابن طرخانحدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، قال: حدثني أبي، قال: كان أبو بكر بن رائق، شديد الإعجاب، بغناء أبي القاسم بن طرخان، وكان أهلاً لذلك، وكان أطيب الناس حلقاً، وأحسنهم صنعة، وكان يجس الطنبور جساً، أطيب من الضرب، تكاد القلوب إذا سمعته، أن تخرج من أضلاعها، استطابة له.
وكان إذا ابتدأ يجس، ابتدأ ابن رائق، يشرب أقداحاً، إلى أن يجيء الغناء.
فقال لي يوماً: يا أبا الحسن، ما ترى هذا الجس الذي ليس على وجه الأرض أطيب منه، أي شيء يشبه عندك؟ فقلت: أيها الأمير، يشبه رسول الحبيب، يستأذن لزيارته.
فأعجبه ذلك.
ثم حدثت بهذا الحديث، عبيد الله بن محمد الصروي، فعمل بحضرتي، في ذلك شعراً، وأنشدنيه:
قامت تذود كرى المح ... ب وقد غفا عن مقلتيه
وتجس قبل الصوت مث ... نى عودها شوقاً إليه
فكأنه في قلبه ... إذ نبهته ومسمعيه
نغم الرسول مبشراً ... بقدوم من يهوي عليه
علي بن هارون المنجميلقي على المغني درساً في الغناء
وحدثني أبو الفتح، قال: كنت بحضرة أبي، وبحضرته مغن يغني، فمر في بعض لحنه بميم فبينها.
فقال له أبي: إذا مررت في ألحانك، بميم، أو نون، فزمها، واعصرها، وأنا ضامن لك طيبة ذلك، غارم لك كلما يجني عليك.
قال: فأعاد الصوت، وزم الميم زماً شديداً، فتضاعفت طيبته.
من شعر الوزير المهلبي

سمعت الوزير أبا محمد المهلبي، يتحدث يوماً في مجلس أنس حضرته، قال: كنت قد خرجت من الأهواز، مع أبي جعفر الصيمري، نريد السوس، وهو إذ ذاك عاملها لمعز الدولة، وكانت والدة أبي الغنائم - إذ ذاك - بالسوس، وأنا في عنفوان استهتاري بها، وقد اشتد شوقي إليها، يعني تجني جاريته.
فلما صرنا في الرمل الذي في الطريق، هاجت ريح عظيمة، فسفت علينا تلك الرمال، فذكرت بيتي الفرزدق، وهما:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها سلباً من جذبها بالعصائب
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار من كل جانب
فعملت:
وريح تغيم الجو مما تثيره ... وتستلب الركبان ريط العصائب
نصبت لها نفسي وأنصبت صاحبي ... إلى أن نزلنا في ديار الحبائب
قال: وأنشدني لنفسه:
أتحسب العين أنها طرحت ... على فؤادي ثقلاً من الشغف
ما أبله العين في توهمها ... بأنها عريت من التلف
بين القاضي الإيذجي والمفجع الشاعرأخبرني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجي، وكان يخلف أبي على القضاء بإيذج، وعلى رامهرمز، ثم لم يزل على الحكم، ونادم أبا محمد المهلبي في وزارته، فغلب عليه، وعلا محله عنده، وتخالع، وتهتك، بما لا يجوز للقضاة، وكان يدعى بالقضاء، ويخاطبه أبو محمد، في الوزارة، في كتبه، بسيدي القاضي، وكان له محل مكين في الأدب، قال: وردت البصرة، وأنا حديث السن، لأكتب العلم، وأتأدب، فلزمني أبو عبد الله المفجع، وكنت أقتصر عليه، فكتب إلي يوماً، وقد قرص الهواء:
يا أيهذا الفتى وأنت فتى الده ... ر إذا عز أن يقال فتى
طوبى لمن كان في الشتاء له ... كأس وكيس وكسرة وكسا
وكتب في الرقعة: قد بقيت كاف أخرى، لولا أني أحب تقليل المؤونة، عليك، لذكرتها، يعني الكس.
فبعثت إليه، بجميع ما التمسه.
أبو خليفة يصطفي شعر عمران بن حطانوحدثني أبو علي الإيذجي، قال: كان أبو خليفة، صديقاً لأبي وعمي، منذ أيام وفد إلى كور الأهواز، في فتنة الزنج.
فلما قدمت البصرة، قدمتها مع أبي، فأنزلنا أبو خليفة داره، وأكرمنا، ومكنني من كتبه، فكنت أقرأ عليه، كلما أريد، وأسمع كيف شئت وأحب، وأكتب وانسخ لنفسي أصوله.
فإذا كان الليل، جلسنا، وتحادثنا، فربما رمت القراءة عليه، فيجيبني، فإذا أضجرته بكثرة القراءة عليه، يقول: يا بني، روحني، فأقطع القراءة.
وإذا استراح، أخرج من كمه دفتراً، من ورق أصفر، من الورق العتيق، فيقول: اقرأ علي من هذا، فإنه خطي، وما تقرأه علي، فهو غير خطي.
فكنت أقرأ عليه منه، وكان فيه ديوان عمران بن حطان، وكان يبكي، على مواضع منه.
فأنشدته ليلة، القصيدة التي منها:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أحظى البرية عند الله ميزانا
فبكى عليهما، لما انتهيت إليهما، حتى كاد أن يغمى عليه، فاستطرفت ذلك، وعجبت منه.
فلما كان من الغد، اجتمعت مع المفجع، فحدثته بذلك، واغتررت به، للأدب، واستكتمته إياه، فأشاعه، وعمل:
أبو خليفة مطوي على دخن ... للهاشميين في سر وإعلان
ما زلت أعرف ما يخفي وأنكره ... حتى اصطفى شعر عمران بن حطان
وأنشدنيها لنفسه، وأنشدها غيري، فكتبها عنه بعض أهل الأدب، في رقعة لطيفة، وجعلها في مقلمته.
وحضرنا عند أبي خليفة في مجلس عام، فنفض الرجل مقلمته ليرى ما فيها، فسقطت الرقعة، وانصرف، فوجدها أبو خليفة، وقرأها، فاشتد ذلك عليه، وقال: إن الإيذجي، قبحه الله، وترحه، شاط بدمي، علي بأبي العباس الساعة - يعني والدي - فجاءه، فحدثه الحديث، فوقعت في ورطة، وكادت الحال أن تنفرج، بيني وبين أبي، ومنعني أبو خليفة القراءة، واحتشمني، فحملت إليه ثياباً لها قدر، وأهديت إليه من مآكل الهند، واعتذرت إليه، فرجع، وقبل عذري، وعاود تدريسي، ومكنني من القراءة عليه، فقرأت كتاب الطبقات، وغيره، مما كان عنده.
وقال: فلا أظهر الرضى عنك، أو تكذب نفسك. ففعلت ذلك، وأعطيت المفجع ثوباً دبيقياً، حتى كف عن إنشاد الأبيات، وجحدها، واعتذر إلى أبي خليفة.

وقال لي أبو علي عقيب هذا: أكثر رواة علم العرب، فيما بلغني عنهم، إما خوارج، أو شعوبية، كأبي حاتم السجستاني، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وفلان، وفلان، وعدد جماعة.
الجزء الرابع
أبو العباس ثعلبيقول لما لا يدري، لا أدري قال القاضي أبو علي المحسن التنوخي، في كتابه أخبار المذاكرة ونشوار المحاضرة: حدثني علي بن محمد الفقيه المعروف بالمسرحي، أحد خلفاء القضاة ببغداد، قال: حدثني أبو عبد الله الزعفراني، قال: كنت بحضرة أبي العباس ثعلب يوماً، فسئل عن شيء، فقال: لا أدري. فقيل له: أتقول لا أدري، وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد.
فقال للسائل: لو كان لأمك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت.
فقال القاضي أبو علي: ويشبه هذه الحكاية ما بلغنا عن الشعبي، أنه سئل عن مسألة فقال: لا أدري.
فقيل له: فبأي شيء تأخذون رزق السلطان.
فقال: لأقول فيما لا أدري، لا أدري.
بين خالد الكاتب وإبراهيم بن المهديأخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن أبي علي قال: حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن السقاء، قال: حدثني جحظة، قال: قال لي خالد الكاتب: أضقت حتى عدمت القوت أياماً، فلما كان في بعض الأيام، بين المغرب وعشاء الآخرة، إذا بأبي يدق.
فقلت: من ذا؟.
فقال: من إذا خرجت إليه عرفته.
فخرجت، فرأيت رجلاً راكباً على حمار، عليه طيلسان أسود، وعلى رأسه قلنسوة طويلة، ومعه خادم.
فقال لي: أنت الذي تقول:
أقول للسقم عد إلى بدني ... حباً لشيء يكون من سببك
قال: قلت: نعم.
قال: أحب أن تنزل عنه.
فقلت: وهل ينزل الرجل عن ولده؟ فتبسم، وقال: يا غلام، أعطه ما معك، فرمى إلى صرة، في ديباجة سوداء مختومة.
فقلت: إني لا أقبل عطاء ممن لا أعرفه، فمن أنت؟ قال: أنا إبراهيم بن المهدي.
أبو الفرج الأصبهاني يجمع شعره
بين إتقان العلماء وإحسان الشعراءقال التنوخي: ومن المتشيعين الذين شاهدناهم، أبو الفرج الأصبهاني كان يحفظ من الشعر، والأغاني، والأخبار، والآثار، والأحاديث المسندة، والنسب، ما لم أر قط من يحفظ مثله.
ويحفظ دون ذلك من علوم أخر، منها اللغة، والنحو، والخرافات، والسير، والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً، مثل علم الجوارح، والبيطرة، ونتف من الطب، والنجوم، والأشربة، وغير ذلك.
وله شعر يجمع بين إتقان العلماء، وإحسان الظرفاء الشعراء.
إجازة برواية قصيدةقال أبو القاسم التنوخي: حدثني أبو إسحاق الطبري، غلام الزاهد، غلام ثعلب، وكان منقطعاً إلى بني حمدون، وقرأت بخطه قصيدة شبيل بن عزرة الضبعي، وقد قرأها على أبي عمر الزاهد، وتناولها من أبي محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه.
قد دفعت إليك كتابي بخطي من يدي إلى يدك، وقد أجزت لك القصيدة، فاروها عني، فإن هذا ينوب عن السماع والقراءة، فقبلت ذلك منه.
وكتب إبراهيم بن محمد الطبري الروياني بخطه.
أبو رياش القيسي وأبو محمد المافروخيوكثرة ما يحفظان قال أبو علي المحسن بن علي التنوخي: ومن رواة الأدب الذين شاهدناهم، أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، وكان يقال إنه يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة، وعشرين ألف بيت شعر.
إلا أن أبا محمد المافروخي أبر عليه، لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة، فتذاكرا أشعار الجاهلية، وكان أبو محمد يذكر القصيدة، فيأتي أبو رياش على عيونها، فيقول أبو محمد: لا، إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها، فينشد معه، ويتناشدانها إلى آخرها، ثم أتى أبو محمد، بعده، بقصائد لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها، وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة.
حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما.
أبو رياش القيسي يغضب من نسبةبيت شعر إليه وجدت في موضع آخر من كتاب نشوار المحاضرة، للقاضي التنوخي: كان أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي اليمامي، رجلاً من حفاظ اللغة، وكان جندياً في أول أمره، مع المسمعي، برسم العرب، ثم انقطع إلى العلم والشعر، وروايته، لنا بالبصرة، وأنا حديث مع عمي، حتى صرت رجلاً، وكتبت عنه، وأخذت منه علماً صالحاً، وكان يتعصب على أبي تمام الطائي.

وقال بعض الحاضرين لأبي: إن من عيون شعر أبي رياش قوله من أبيات، عند ذكر امرأة شبب بها:
لها فخذا بختية تعلف النوى ... على شفة لمياء أحلى من التمر
فغضب أبو رياش، ونهض، فأمر أبي بإجلاسه، وقال للحاضر القائل: ولا كل ذا، وترضاه، ووهب له دراهم صالحة القدر.
أبو محمد المافروخي الفأفاءيفأفيء له ابن أحد خلفائه حدث التنوخي: أن أبا محمد المافروخي، وكان فأفاءاً، اعترض جملاً فسير في صحن الدار بحضرته، ووقف ليخاطب عليه، فلم يرضه، فقال: أخرجوه عني، وكرر أخ أخ، لأجل عقلة لسانه، فبرك الجمل، لأنه ظن أنه يقال له ذلك، كما يقال إذا أريد منه البروك.
قال: وكان إذا أنشد الشعر ، أو قرأ القرآن، قرأه، وأورده، على أحسن ما يكون من حسن الأداء وطيب الحنجرة.
فقيل له: لو كان كلامك كله شعراً، أو كقراءة القرآن، تخلصت من هذه الشدة، فقال: يكون ذلك طنزاً.
قال: وكان أحد خلفائه، قد خرج إلى بعض الأعمال، واستخلف بحضرته ابناً له، كان مثل المافروخي في الفأفأة.
فخاطبه المافروخي أول ما دخل إليه، في أمر شيء قال فيه " ووو " مراراً. فأجابه ذلك الابن بمثل كلامه.
فقال: يا غلمان قفاه، كأنه يحكيني.
فصفع صفعاً محكماً، حتى حضره أقوام، وحلفوا له أن ذلك عادته، فأخذ يعتذر إليه، وقال: الذنب ذنب أبيه، لما ترك في حضرتي مثله.
بين القاضي أبي عمرو الأزدي والقاضي
أبي جعفر بن البهلولحدث أبو نصر، يوسف بن عمر بن القاضي أبي عمر محمد بن يوسف قال: كنت أحضر دار المقتدر بالله، وأنا غلام حدث، بالسواد، مع أبي الحسين، وهو يومئذ، قاضي القضاة.
فكنت أرى في بعض المواكب، القاضي أبا جعفر، يحضر بالسواد، فإذا رآه أبي، عدل إلى موضعه، فجلس عنده، فيتذاكران الشعر والأدب والعلم، حتى يجتمع عليهما من الخدم عدد كثير لا يحصى، كما يجتمع على القصاص، استحساناً لما يجري بينهما.
فسمعته يوماً، وقد أنشد بيتاً لا أذكره الآن، فقال له أبي: أيها القاضي، إني أحفظ هذا البيت بخلاف هذه الرواية.
فصاح عليه صيحة عظيمة، وقال: اسكت، ألي تقول هذا؟ أنا أحفظ لنفسي، من شعري خمسة عشر ألف بيت، وأحفظ للناس أضعاف ذلك، وأضعافه، وأضعافه، يكررها مراراً.
وفي رواية ابن عبد الرحيم عن التنوخي، قال: قال له: هاه، ألي تقول هذا؟ وأنا أحفظ من شعري نيفاً وعشرين ألف بيت، سوى ما أحفظه للناس.
قال: فاستحيا أبي منه، لسنه ومحله، وسكت.
بين القاضي أبي جعفر بن البهلول
وأبي جعفر الطبريحدثني القاضي أبو طالب محمد بن القاضي أبي جعفر البهلول، قال: كنت مع أبي في جنازة بعض أهل بغداد من الوجوه، وإلى جانبه في الحق جالس، أبو جعفر الطبري.
فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة، ويسليه، وينشد أشعاراً، ويروي له أخباراً، فداخله الطبري في ذلك، وذنب معه، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم، استحسنها الحاضرون، وعجبوا منها، وتعالى النهار، وافترقا.
فلما حصلت أسير خلفه، قال: يا بني، هذا الشيخ الذي داخلنا اليوم في المذاكرة، من هو؟ أتعرفه؟ قلت: يا سيدي كأنك لم تعرفه؟ فقال: لا.
فقلت: هذا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
فقال: إنا لله، ما أحسنت عشرتي يا بني.
فقلت: كيف يا سيدي؟ فقال: ألا قلت لي في الحال، فكنت أذاكره غير تلك المذاكرة؟ هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في فنون من العلم، وما ذاكرته بحسبها.
قال: ومضت على هذا مدة.
فحضرنا في حق لآخر، وجلسنا، وإذا بالطبري يدخل إلى الحق.
فقلت له، قليلاً، قليلاً: أيها القاضي، هذا أبو جعفر الطبري، قد جاء مقبلاً.
قال: فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه، فأوسعت له، حتى جلس إلى جنبه، وأخذ أبي يجاريه، فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتاً، قال أبي: هاتها يا أبا جعفر، فربما مر، وربما تلعثم، فيمر أبي في جميعها حتى يسفها.
قال: فما سكت أبي يومه ذاك إلى الظهر، وبان للحاضرين تقصير الطبري، ثم قمنا.
فقال لي أبي: الآن شفيت صدري.
القاضي أبو جعفر بن البهلول
لا يخشى في القول الحق لوم لائم

حدث أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو الحسن علي بن هشام بن عبد الله، المعروف بابن أبي قيراط، كاتب ابن الفرات، وأبو محمد عبد الله بن علي دلويه، كاتب نصر القشوري، وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني، كاتب ابن الفرات، قالوا: كنا مع أبي الحسن بن الفرات في دار المقتدر، في وزارته الثالثة، في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادى الآخرة من سنة 311 ه، وقد استحضر ابن قليجة، رسول علي بن عيسى إلى القرامطة في وزارته الأولى، فواجه علي بن عيسى في المجلس بحضرتنا، بأنه وجهه إلى القرامطة مبتدئاً، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وعدة حوائج، فأنفذ جميع ذلك إليهم.
وأحضر ابن الفرات معه خطه، أي خط علي بن عيسى، في نسخة أنشأها ابن ثوابة، إلى القرامطة، جواباً على كتابهم إليه، وقد أصلح علي بن عيسى فيها بخطه، ولم يقل إنكم خارجون عن ملة الإسلام بعصيانكم أمير المؤمنين، ومخالفتكم إجماع المسلمين، وشقكم العصا، ولكنكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد، وداخلون في جملة أهل العناد والفساد.
فهجن ابن الفرات علياً بذلك، وقال: ويحك، تقول: القرامطة مسلمون، والإجماع قد وقع على أنهم أهل ردة لا يصلون، ولا يصومون، وتوجه إليهم الطلق، وهو الذي إذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار.
قال: أردت بهذا المصلحة، واستعادتهم إلى الطاعة بالرفق، وبغير حرب.
فقال ابن الفرات، لأبي عمر القاضي: ما عندك في هذا يا أبا عمر؟ اكتب به.
فأفحم، وجعل مكان ذلك، أن أقبل على علي بن عيسى، فقال له: يا هذا لقد أقررت بما لو أقر به إمام لما وسع الناس طاعته.
قال: فرأيت علي بن عيسى، وقد حدق إليه تحديقاً شديداً، لعلمه بأن المقتدر، في موضع يقرب منه، بحيث يسمع الكلام، ولا يراه الحاضرون.
فاجتهد ابن الفرات بأبي عمر، أن يكتب بخطه شيئاً، فلم يفعل، وقال: قد غلط غلطاً، وما عندي غير ذلك، فأخذ خطه بالشهادة عليه، بأن هذا كتابه.
ثم أقبل على أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي، فقال: ما عندك يا أبا جعفر في هذا؟ فقال: إن أذن الوزير، أن أقول ما عندي فيه، على شرح، قلته.
قال: افعل.
قال: صح عندي عن هذا الرجل - وأومأ إلى علي بن عيسى - أنه افتدى بكتابين كتبهما إلى القرامطة، في وزارته الأولى ابتداء، وجواباً، ثلاثة آلاف رجل من المسلمين، كانوا مستعبدين، وهم أهل نعم وأموال، فرجعوا إلى أوطانهم، ونعمهم.
فإذا فعل الإنسان مثل هذا الكتاب على جهة طلب الصلح، والمغالطة للعدو، لم يجب عليه شيء.
قال: فما عندك فيما أقر به، أن القرامطة مسلمون؟ قال: إذا لم يصح عنده كفرهم، وكاتبوه بالتسمية بالله، ثم الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وانتسبوا إلى أنهم مسلمون، وإنما ينازعون في الإمامة فقط، لم يطلق عليهم الكفر.
قال: فما عندك في الطلق، ينفذ إلى أعداء الإمام، فإذا طلي به البدن أو غيره، لم تعمل فيه النار؟ وصاح بها كالمنكر على أبي جعفر.
فأقبل ابن البهلول على علي بن عيسى، فقال له: أنفذت الذي هذه صفته إلى القرامطة؟ فقال علي بن عيسى: لا.
فقال ابن الفرات: هذا رسولك وثقتك ابن قليجة، قد قرأ عليك بذلك. فلحق علي بن عيسى دهشة، فلم يتكلم.
فقال ابن الفرات، لأبي جعفر بن البهلول: احفظ إقراره، بأن ابن قليجة ثقته ورسوله، وقد أقر عليه بذلك.
فقال: أيها الوزير، لا يسمى هذا مقراً، هذا مدعي، وعليه البينة.
فقال ابن الفرات: فهو ثقته بإنفاذه إياه.
قال: إنما وثقه في حمل كتاب، فلا يقبل قوله عليه في غيره.
فقال ابن الفرات: يا أبا جعفر أنت وكيله، ومحتج عنه، لست حاكماً.
فقال: لا، ولكني أقول الحق في هذا الرجل، كما قلته في حق الوزير، أيده الله لما أراد حامد بن العباس في وزارته، ومن ضامه، الحيلة على الوزير أعزه الله، بما هو أعظم في هذا الباب، فإن كنت لم أصب حينئذ، فلست مصيباً في هذا الوقت.
فسكت ابن الفرات، والتفت إلى علي بن عيسى، وقال: يا قرمطي.
فقال له علي بن عيسى: أيها الوزير، أنا قرمطي؟ أنا قرمطي؟ يعرض به.
القاضي أبو جعفر بن البهلول
يطلب بين الصدر والقبر فرجةقال ابن عبد الرحيم، حدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، وله بأمره الخبرة التامة لما يجمعهما من النسب والصناعة، قال:

كان أبو جعفر من جلة الناس وعظمائهم وعلمائهم، وتقلد قضاء الأنبار وهيت والرحبة وسقي الفرات في أيام المعتمد، بعد كتبة الموفق أبي أحمد سنة 270 ه، وأقام يليها إلى سنة 316 ه.
وأضيف له إليها الأهواز وكورها السبع، وخلفه عليها جدي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي في سنة 311 ه.
وقلد ماه الكوفة وماه البصرة، مضافات إلى ما تقدم ذكره.
ثم رد عليه مدينة المنصور وطسوج مسكن وقطربل بعد فتنة ابن المعتز في سنة 296.
ولم يزل على هذه الولايات إلى سنة 316 ه. وأسن وضعف.
فتوصل أبو الحسين الأشناني إلى أن ولي قضاء المدينة، فكانت له أحاديث قبيحة، وقيل إن الناس سلموا عليه بالقبا إيماء إلى البغاء. وكان إليه الحسبة ببغداد.
فصرف في اليوم الثالث، وأعيد العمل إلى أبي جعفر، فامتنع من قبوله، ورفع يده عن النظر في جميع ما كان إليه، وقال: أحب أن يكون بين الصدر والقبر فرجة، ولا أنزل من القلنسوة إلى الحفرة.
وقال في ذلك:
تركت القضاء لأهل القضاء ... وأقبلت أسمو إلى الآخره
فإن يك فخراً جليل الثناء ... فقد نلت منه يداً فاخره
وإن كان وزراً فأبعد به ... فلا خير في إمرة وازره
فقيل له: فابذل شيئاً، حتى يرد العمل إلى ابنك أبي طالب.
فقال: ما كنت لأتحملها حياً وميتاً، وقد خدم ابني السلطان، وولاه الأعمال، فإن استوثق خدمته، قلده، وإن لم يرتض مذاهبه، صرفه، وهذا يفتضح ولا يخفى، وأنشدهم:
يقولون همت بنت لقمان مرة ... بسوء، وقالت: يا أبي ما الذي يخفى
فقال لها: ما لا يكون، فأمسكت ... عليه ولم تمدد لمنكرة كفا
وما كل مستور تغلق دونه ... مصاريع أبواب ولو بلغت ألفا
بمستتر والصائن العرض سالم ... وربتما لم يعدم الذم والقرفا
على أن أثواب البريء نقية ... ولا يلبث الزور المفكك أن يطفا
قال: ولست أعلم هذا الشعر له، أو تمثل به.
قال التنوخي، وكان أبو جعفر، يقول الشعر تأدباً، وتطرباً، وما علمت أنه مدح أحداً بشيء منه، وله قصيدة طردية مزدوجة طويلة، وحمل الناس عنه علماً كثيراً، ومن شعره:
رأيت العيب يلصق بالمعالي ... لصوق الحبر في يقق الثياب
ويخفى في الدنيء فلا تراه ... كما يخفى السواد على الإهاب
وله في الوزير ابن الفرات:
قل لهذا الوزير قول محق ... بثه النصح أيما إبثاث
قد تقلدتها مراراً ثلاثاً ... وطلاق البتات عند الثلاث
وكان الأمر على ما قاله، فإن ابن الفرات قتل، بعد الوزارة الثالثة في محبسه.
وله أيضاً:
أقبلت الدنيا وقد ولى العمر ... فما أذوق العيش إلا كالصبر
لله أيام الصبا إذ تعتكر ... لاقت لدينا لو تؤوب ما تسر
وله أيضاً:
ويجزع من تسليمنا فيردنا ... مخافة أن نبغي نداه فيبخلا
وما ضره أن يجتبينا ببشره ... فنقنع بالبشر الجميل ونرحلا
وله أيضاً:
وحرقة أورثتها فرقة دنفاً ... حيران لا يهتدي إلا إلى الحزن
في جسمه شغل عن قلبه وله ... في قلبه شغل عن سائر البدن
وله أيضاً:
أبعد الثمانين أفنيتها ... وخمساً وسادسها قد نما
ترجي الحياة وتسعى لها ... لقد كاد دينك أن يكلما
وله أيضاً:
إلى كم تخدم الدنيا ... وقد جزت الثمانينا
لئن لم تك مجنوناً ... فقد فقت المجانينا
القاضي أبو جعفر بن البهلول
يكشف عن براءة الوزير ابن الفرات مما اتهم بهحدث أبو الحسين علي بن هشام بن أبي قيراط، قال: دخلت مع أبي، إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، عقيب عيد، لنهنئه به.
وتطاول الحديث، فقال له أبي: قد كنت أكاتب الوزير، أيده الله، إلى محبسه، يعني ابن الفرات - لأنه هو كان الوزير إذ ذاك، الوزارة الثالثة - وأعرفه ما عليه القاضي، من موالاته في كذا وكذا، والآن، هو على شكر القاضي، والاعتداد به.

قال: فلما سمع ذلك، فرق الغلمان، ومن كان في مجلسه من أصحابه، حتى خلا، وقال: ليس يخفى علي التغير في عين الوزير، وإن كان لم ينقصني من رتبة ولا عمل، وبالله أحلف، لقد لقيت حامد بن العباس، بالمدائن، لما جيء به للوزارة، فقام لي في حراقته قائماً، وقال لي: هذا الأمر لك ولولدك، وسيبين لك ما أفعله من زيادتك في الأعمال والأرزاق، ثم لقيته يوم الخلع عليه، بعد لبسه إياها، فتطاول، فلما فعلت به، في أمر الوزير أيده الله، ما فعلته، بحضرة أمير المؤمنين، عاداني، وصار لا يعير لي طرفه، وتعرضت منه لكل بلية، فكنت خائفاً منه، حتى أراح الله منه، بتفرد علي بن عيسى بالأمور، واشتغاله هو بالضمان، وسقوط حاجتنا إلى لقائه، وما لي إلى هذا الوزير - أيده الله - ذنب يوجب انقباضه، إلا أنني أديت الوديعة التي كانت له عندي، وبالله، لقد رويت عن ذكرها جهدي، ودافعت بما يدافع به مثلي، ممن لا يمكنه الكذب، فلما جاء ابن حماد، كاتب موسى بن خلف، فأقر بها، وأحضر الدليل بإحضار المرأة التي حملتها، لم أجد بداً من أدائها، وقد فعل مثلي أبو عمر، في الوديعة التي كانت له عنده، إلا أن أبا عمر، فعل ما قد علمته من حيلة، بشراء فص بنصف درهم، نقش عليه علي بن محمد، ووضع مالاً من عنده، في أكياس ختمها به، وقال للوزير: وديعتك عندي بحالها، وإنما غرمت ما أديت عنك من مالي، وأراد التقرب إليه، ففعل هذا، وأنت تعلم فرق ما بيني وبين أبي عمر، في كثرة المال، فأريد أن تسل سخيمته، وتستصلح لي نيته، وتذكره بحقي القديم عليه، ومقامي له بين يدي الخليفة إذ ذاك، وأن مثل ذلك، لا ينسى بتجن لا يلزم.
فقال له أبي: أنا أفعل ولا أقصر، وقد اختلفت الأخبار علينا، فيما جرى ذلك اليوم، فإن رأى القاضي - أعزه الله - أن يشرحه لي، فعل.
فقال أبو جعفر: كنت أنا، وأبو عمر، وعلي بن عيسى، وحامد بن العباس بحضرة الخليفة، مع جماعة من خواصه، وكلهم منحرف عن الوزير - أيده الله - ومحب لمكروهه، إذ أحضر حامد، الرجل الجندي، الذي ادعى أنه وجده راجعاً من أردبيل، إلى قزوين، ثم إلى أصبهان، ثم إلى البصرة، وأنه أقر له عفواً، أنه رسول ابن الفرات، إلى ابن أبي الساج، في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين المقيمين بطبرستان، ليقويه ابن أبي الساج، ويسيره إلى بغداد، ويعاونه ابن الفرات بها، وأنه مخبر أنه تردد في ذلك دفعات، وخاطبه بحضرة الخليفة في أن يصدق عما عنده من ذلك.
فذكر الرجل، مثل ما أخبر عنه حامد، ووصف أن موسى بن خلف، كان يتخبر لابن الفرات، لأنه من الدعاة الذين يدعون إلى الطالبيين، وأنه كان يمضي في كل وقت من الأوقات إلى ابن أبي الساج في شيء من هذا. فلما استتم الخليفة سماع هذا الكلام، اغتاظ غيظاً شديداً، وأقبل على أبي عمر، وقال: ما عندك فيما فعله هذا؟ فقال: لئن كان فعل ذلك، لقد أتى أمراً فظيعاً، وأقدم على أمر يضر بالمسلمين جميعاً، واستحق كذا، كلمة عظيمة لا أحفظها.
قال أبو جعفر: وتبينت في علي بن عيسى كراهية لما جرى، والإنكار للدعوى، والطنز بما قيل فيها، فقويت نفسي بذلك.
وأقبل الخليفة علي، فقال: ما عندك يا أحمد، فيمن فعل هذا؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين، أن يعفيني.
فقال: ولم؟.
فقلت: لأن الجواب ربما أغضبت به من أنا محتاج إلى رضاه، أو خالف ما يوافقه من ذلك ويهواه، ويضر بي.
فقال: لا بد أن تجيب.
فقلت: الجواب، ما قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " ، ومثل هذا يا أمير المؤمنين لا يقبل فيه خبر واحد، والتمييز يمنع من قبول مثل هذا على ابن الفرات، أتراه يظن به أنه رضي أن يكون تابعاً لابن أبي الساج، ولعله ما كان يرضى، وهو وزير، أن يستحجبه؟ ثم أقبلت على الرجل، فقلت له: صف لي أردبيل، عليها سور أم لا؟ فإنك على ما تدعيه من دخولها، لا بد أن تكون عارفاً بها، واذكر لنا صفة باب دار الإمامة، هل هو حديد أم خشب؟ فتلجلج.
فقلت له: كاتب ابن أبي الساج، ابن محمود، ما اسمه؟ وما كنيته؟ فلم يعرف ذلك.
فقلت له: فأين الكتب التي معك؟ فقال: لما أحسست بأني قد وقعت في أيديهم، رميت بها خوفاً من أن توجد معي، فأعاقب.

قال: فأقبلت على الخليفة، وقلت: يا أمير المؤمنين، هذا جاهل، متكسب، مدسوس من قبل عدو غير محصل.
فقال علي بن عيسى، مؤيداً لي: قد قلت هذا للوزير، فلم يقبل قولي، وليس يهدد هذا، فضلاً عن أن ينزل به مكروه، إلا أقر بالصورة.
فأقبل الخليفة على نذير الحرمي، وعدل عن أن يأمر نصراً الحاجب بذلك، لما يعرفه بينه وبين ابن الفرات، وقال: بحقنا عليك، لما ضربته مائة مقرعة، أشد الضرب، إلى أن يصدق عن الصورة.
فعدي بالرجل، عن حضرة الخليفة، ليبعد ويضرب.
فقال: لا، إلا هاهنا.
فضرب بالقرب منه، دون العشرة، فصاح: غررت، وضمنت لي الضمانات، وكذبت، والله، ما دخلت أردبيل قط.
فطلب نزار بن محمد الضبي أبو معد، وكان صاحب الشرطة، وقد انصرف، فقال الخليفة، لعلي بن عيسى: وقع إليه، بأن يضرب هذا، مائة سوط، ويثقله بالحديد، ويحبس في المطبق.
فوالله، لقد رأيت حامداً، وقد كاد يسقط، انخذالاً، وانكساراً، ووجداً، وإشفاقاً.
وخرجنا، وجلسنا في دار نصر الحاجب، وانصرف حامد، وأخذ علي بن عيسى ينظر في الحوائج، وأخر أمر الرجل.
فقال له حاجبه ابن عبدوس، قد وجه نزار، بالمضروب المتكذب.
فقلت له: إنه وإن كان قد جهل، فقد غمني ما لحقه، خوفاً من أن أكون سببه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه، أو بعضه، أجرت.
فقال: ما هذا - لعنه الله - أجر، ولكني أقتصر على خمسين مقرعة، وأعفيه من السياط.
ثم وقع بذلك إلى نزار، وانصرفنا.
فصار حامد من أعدى الناس لي.
من شعر أبي الفتح بن المنجمقال التنوخي أبو علي: أنشدني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن يحيى المنجم في الوزير أبي الفرج محمد بن العباس بن فسانجس في وزارته، وقد عمل على الانحدار إلى الأهواز لنفسه:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم
ومن يداه معاً تجدي ندىً وردىً ... يجريهما عدل حكم السيف والقلم
ومن إذا هم أن تمضي عزائمه ... رأيت ما تفعل الأقدار في الأمم
ومن عوارفه تهمى وعادته ... في رب بدأته تنمى على القدم
لأنت أشهر في رعي الذمام وفي ... حكم التكرم من نار على علم
والعبد عبدك في قرب وفي بعد ... وأنت مولاه إن تظعن وإن تقم
فمره يتبعك أو لا فاعتمده بما ... تجري به عادة الملاك في الخدم
قال: وأنشدني لنفسه، وذكر أنه لا يوجد لها قافية رابعة من جنسها في الحلاوة:
سيدي أنت ومن عادته ... باعتداء وبجور جاريه
أنصف المظلوم وارحم عبرة ... بدموع ودماء جاريه
ربما أكني بقولي سيدي ... عند شكواي الهوى من جاريه
قال: وأنشدني لنفسه، والقافية كلها عود باختلاف المعنى:
العيش عافية والراح والعود ... فكل من حاز هذا فهو مسعود
هذا الذي لكم في مجلس أنقٍ ... سجاره العنبر الهندي والعود
وقينة وعدها بالخلف مقترن ... بما يؤمله راج وموعود
وفتية كنجوم الليل دأبهم ... إعمال كأس حداها الناي والعود
فاغدوا علي بكأس الراح مترعة ... عوداً وبدأً فإن أحمدتم عودوا
غلام يقتضي أن يكون أخاً وصديقاً
قال أبو علي: سمعت أبا محمد المهلبي يتحدث، وهو وزير، في مجلس أنس: أن رجلاً كان ينادم بعض الكتاب الظراف، وأحسبه قال ابن المدبر، قال: كنت عنده ذات يوم، فرجع غلام له أنفذه في شيء لا أدري ما هو، فقال له رب الدار: ما صنعت؟ فقال: ذهبت، ولم يكن، فقام يجيء، فجاء، فلم يجيء، فجئت، قال: فتبينت في رب الدار تغيراً، وهماً، ولم يقل للغلام شيئاً، فعجبت من ذلك.
ثم أخذ بيدي، وقال: قد ضيق صدري، ما جاء به هذا الغلام، فقم حتى ندور في البستان الذي في دارنا ونتفرج، فلعله يخف ما بي.
فقلت: والله، لقد توهمت أن صدرك قد ضاق بانغلاق كلام الغلام عليك، وقد فهمته، وهذا ظريف.
فقال: إن هذا الغلام، أحصف وأظرف غلام يكون، وذاك أنني ممتحن بعشق غلام أمرد، وهو ابن نجار من جيراننا، والغلام يساعدني عليه، وأبوه يغار عليه، ويمنعه مني.

فوجهت هذا الغلام، وقلت: إن لم يكن أبوه هناك، فقل له يصير إلينا.
فرجع، فلما رآك عندي، قدر أني لا أريد أن تفطن للأمر، فرد هذا الجواب الظريف الذي سمعته.
فقلت: أعده علي أنت لأفهمه.
فقال: إنه يقول: ذهبت إلى الغلام ولم يكن أبوه هناك، فقام الغلام يجيء، فجاء أبوه، فلم يجيء الغلام، فجئت أنا.
فقلت له: هذا الغلام يجب أن يكون أخاً وصديقاً، لا غلاماً.
جحظة البرمكي يفت لبنات وردانقال أبو علي: حدثني أبو القاسم الحسين بن علي البغدادي، وكان أبوه ينادم ابن الحواري، ثم نادم البريديين بالبصرة، وأقام بها سنين، قال: كان جحظة خسيف الدين، وكان لا يصوم شهر رمضان، وكان يأكل سراً.
فكان عند أبي يوماً في شهر رمضان، مسلماً، فأجلسته.
فلما كان نصف النهار، سرق من الدار رغيفاً، ودخل المستراح، وجلس على المقعدة.
واتفق أن دخل أبي فرآه، فاستعظم ذلك، وقال: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال: أفت لبنات وردان ما يأكلون، فقد رحمتهم من الجوع.
أبو بكر بن الجراح عالم فارسأخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب، قال: حدثنا التنوخي، قال: كان أبو بكر بن الجراح يقول: كتبي بعشرة آلاف درهم، وجاريتي بعشرة آلاف درهم، وسلاحي بعشرة آلاف درهم، ودوابي بعشرة آلاف درهم.
قال التنوخي: وكان أحد الفرسان، يلبس أداته، ويركب فرسه، ويخرج إلى الميدان، ويطارد الفرسان فيه.
أبو عبد الله بن ثوابة نهاية
في الكتبة وحسن الكلامقال أبو علي المحسن التنوخي: رأيت أنا، أبا عبد الله هذا في سنة 409 وإليه ديوان الرسائل، وكان نهاية في حسن الكلام، والكتبة.
فرات غاض من آل الفراتقال القاضي أبو علي التنوخي: أنشدني أبو الحسين، علي بن هشام، لنفسه، لما قتل أبو الحسن بن الفرات:
فرات غاض من آل الفرات ... ففاض عليه دمع المكرمات
سماء غودرت في بطن أرض ... وبحر غاض في بعض الفلاة
عسى الأيام آخذة بثار ... فتأخذ لي بثار المأثرات
عضد الدولة غلام أبي علي الفارسي في النحوأخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: قال التنوخي: ولد أبو علي الحسن بن أحمد النحوي الفارسي، بفسا، وقدم بغداد، فاستوطنها، وسمعنا منه في رجب سنة خمس وسبعين وثلثمائة.
وعلت منزلته في النحو، حتى قال قوم من تلامذته، هو فوق المبرد، وأعلم منه.
وصنف كتباً عجيبة حسنة، لم يسبق إلى مثلها، واشتهر ذكره في الآفاق.
وبرع له غلمان حذاق، مثل عثمان بن جني، وعلي بن عيسى الشيرازي، وغيرهما.
وخدم الملوك، ونفق عليهم، وتقدم عند عضد الدولة، فسمعت أبي يقول: سمعت عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي النحوي في النحو.
زورق ابن الخواستيني
يحمل ثلثمائة ألف رطلوحدث ابن نصر، قال: حدثني يوماً أبو الفرج الببغاء الشاعر: أن أبا الفرج منصور بن بشر النصراني الكاتب، كان منقطعاً إلى أبي العباس بن ماسرجس، فأنفذه مرة إلى أبي عمر إسماعيل بن أحمد، عامل البصرة، في بعض حاجاته، فعاد من عنده مغضباً، لأنه لم يستوف له القيام عند دخوله.
وأراد أبو العباس إنفاذه بعد أيام، فأبى، وقال: لو أعطيتني زورق ابن الخواستيني، مملوءاً كيمياء، كل مثقال منه إذا وضع على ألف مثقال صفراً، صار ذهباً ابريزاً، ما مضيت إليه.
فأمسك عنه مغيظاً.
وهذا زورق معروف بالبصرة، وحمله ثلاثمائة ألف رطل.
ابن أبي علان ومبالغاتهوقد رأيت دواتي أبي العباس سهل بن بشر، وقد حكي له، أن ابن أبي علان قاضي القضاة بالأهواز، ذكر أنه رأى قبجة وزنها عشرة أرطال.
فقال: هذا محال.
فقيل له: ترد قول ابن أبي علان؟ قال: فإن قال ابن أبي علان، أن على شاطئ جيحون نخلاً يحمل غضار صيني مجزع بسواد، أقبل؟
التنوخي يتحدث عن الحسن بن بشر الآمديأخبرني القاضي أبو القاسم التنوخي، عن أبيه، أبي علي المحسن: أن مولد أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي بالبصرة، وأنه قدم بغداد فحمل عن الأخفش، والحامض، والزجاج وابن دريد، وابن السراج، وغيرهم، اللغة، وروى الأخبار في آخر عمره بالبصرة.

وكان يكتب بمدينة السلام لأبي جعفر هارون بن محمد الضبي خليفة أحمد بن هلال صاحب عمان، بحضرة المقتدر، ووزرائه، ولغيره من بعده.
وكتب بالبصرة لأبي الحسن أحمد، وأبي أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، وبعدهما لقاضي البلد أبي القاسم جعفر بن عبد الواحد الهاشمي على الوقوف التي تليها القضاة، ويحضر به في مجلس حكمه، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد، لما ولي قضاء البصرة، ثم لزم بيته إلى أن مات.
وكان كثير الشعر، حسن الطبع، جيد الصنعة، مشتهراً بالتشبيهات.
لعن الله الدنياقال أبو علي: كنت في سنة 352 ببغداد، فحضر أول يوم شهر رمضان فاصطحبنا أنا وأبو الفتح عبد الواحد بن أبي علي الحسين بن هارون، الكاتب في دار أبي الغنائم، الفضل بن الوزير أبي محمد المهلبي، لتهنئته بالشهر، عند توجه أبيه إلى عمان.
وبلغ أبو محمد إلى موضع من أنهار البصرة يعرف بعلياباذ، ففترت نيته عن الخروج إلى عمان.
واستوحش معز الدولة منه، وفسد رأيه فيه.
واعتل المهلبي هناك، ثم أمره معز الدولة، بالرجوع من علياباذ، وأن لا يتجاوزه، وقد اشتدت علته، والناس بين مرجف بأنه يقبض عليه إذا حصل بواسط، أو عند دخوله إلى بغداد، وقوم يرجفون بوفاته.
وخليفته إذ ذاك على الوزارة ببغداد، أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد الله، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس.
فجئنا إلى أبي الغنائم، ودخلنا إليه وهو جالس في عرضي في داره التي كانت لأبيه على دجلة، على الصراة، عند شباك في دجلة، وهو في دست كبير عال، جالس، وبين يديه الناس على طبقاتهم، فهنأناه بالشهر وجلسنا، وهو إذ ذاك صبي غير بالغ، إلا أنه محصل.
فلم يلبث أن جاء أبو الفضل وأبو الفرج، فدخلا إليه وهنآه بالشهر، فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، على طرف دسته، في الموضع الذي فيه فضلة المخاد إلى الدست، ما تحرك لأحدهما، ولا انزعج، ولا شاركاه في الدست.
وأخذا معه في الحديث، وزادت مطاولتهما، وأبو الفضل يستدعي خادم الحرم، فيساره، فيمضي ويعود، ويخاطبه سراً.
إلى أن جاءه بعد ساعة، فساره، فنهض.
فقال له أبو الفرج: إلى أين يا سيدي؟ فقال: أهنيء من يجب تهنئته وأعود إليك، وكان أبو الفضل زوج زينة، أخت أبي الغنائم، من أبيه وأمه تجني.
فحين دخل واطمأن قليلاً، وقع الصراخ، وتبادر الخدم والغلمان، ودعي الصبي، وكان يتوقع أن يرد عليه خبر موت أبيه، لأنه كان عالماً بشدة علته، فقام، فمسكه أبو الفرج، وقال: اجلس، اجلس، وقبض عليه. وخرج أبو الفضل وقد قبض على تجني، أم الصبي، ووكل بها خدماً، وختم الأبواب، ثم قال للصبي: قم يا أبا الغنائم إلى مولانا - يعني معز الدولة - فقد طلبك، وقد مات أبوك.
فبكى الصبي، وسعى إليه، وعلق بدراعته، وقال: يا عم، الله، الله، فيّ، يكررها.
فضمه أبو الفضل إليه، واستعبر، وقال: ليس عليك بأس ولا خوف، وانحدروا إلى زبازبهم، فجلس أبو الفرج في زبزبه، وجلس أبو الفضل في زبزبه، وأجلس الغلام بين يديه، وأصعدت الزبازب، تريد معز الدولة بباب الشماسية.
فقال أبو الفتح بن الحسين: ما رأيت مثل هذا قط، ولا سمعت، لعن الله الدنيا، أليس الساعة، كان هذا الغلام في الصدر معظماً، وخليفتا أبيه، بين يديه، وما افترقا حتى صار بين أيديهما ذليلاً حقيراً.
ثم جرى من المصادرات على أهله وحاشيته، ما لم يجر على أحد.
نعوذ بالله من الخيبة والخذلانحدث أبو القاسم التنوخي: أن نقفور لما فتح طرسوس، نصب في ظاهرها علمين، ونادى مناديه، من أراد بلاد الملك الرحيم، وأحب العدل والنصفة، والأمن على المال، والأهل، والنفس، والولد، وأمن السبل، وصحة الأحكام، والإحسان في المعاملة، وحفظ الفروج، وكذا وكذا، وعد أشياء جميلة، فليصر تحت هذا العلم، ليقفل مع الملك إلى بلاد الروم.
ومن أراد الزنا، واللواط، والجور في الأحكام والأعمال، وأخذ الضرائب، وتملك الضياع عليه، وغصب الأموال، وعد أشياء من هذا النوع غير جميلة، فليحصل تحت هذا العلم إلى بلاد الإسلام.
فصار تحت علم الروم خلق من المسلمين، ممن تنصر، وممن صبر على الجزية.

ودخل الروم إلى طرسوس، فأخذ كل واحد من الروم، دار رجل من المسلمين، بما فيها، ثم يتوكل بابها، ولا يطلق لصاحبها إلا حمل الخف، فإن رآه قد تجاوز، منعه، حتى إذا خرج منها صاحبها، دخلها النصراني، فاحتوى على ما فيها.
وتقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم، لما رأين أهاليهن، وقالت أنا الآن حرة، لا حاجة لي في صحبتك، فمنهن من رمت بولدها على أبيه، ومنهن من منعت الأب من ولده، فنشأ نصرانياً، فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم، فيودع ولده، ويبكي، ويصرخ، وينصرف على أقبح صورة، حتى بكى الروم رقة لهم.
وطلبوا من يحملهم، فلم يجدوا غير الروم، فلم يكروهم إلا بثلث ما أخذوه على أكتافهم أجرة، حتى سيروهم إلى أنطاكية.
هذا وسيف الدولة حي يرزق بميافارقين، والملوك كل واحد مشغول بمحاربة جاره من المسلمين، وعطلوا هذا الفرض، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان، ونسأله الكفاية من عنده.
ابن الماشطة صاحب كتاب جواب المعنتقال أبو علي التنوخي، حدثنا أبو الحسين علي بن هشام، قال: سمعت علي بن الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة، وهو صاحب الكتاب المعروف: بجواب المعنت، في الكتابة، وعاش حتى بلغ المائة سنة، وكان قد تقلد مكان أبي، في أيام حامد لما غلب علي بن عيسى على الأمور، قال: سمعت الفضل بن مروان وزير المنتصر بالله ابن المتوكل، وذكر خبراً... .
من طريف أخبار العاداتحدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة، قال: ومن طريف أخبار العادات، أني كنت أرى أبا الفرج علي بن الحسين الأصبهاني الكاتب نديم أبي محمد المهلبي، صاحب الكتب المصنفة في الأغاني والقيان، وغير ذلك، دائماً إذا ثقل الطعام في معدته - وكان أكولاً نهماً - ، يتناول خمسة دراهم، فلفلاً مدقوقاً، فلا تؤذيه، ولا تدمعه.
وأراه يأكل حمصة واحدة، أو يصطبغ بمرقة قدر فيها حمص، فيتشرى بدنه كله من بعد ذلك، وبعد ساعة أو ساعتين يفصد، وربما فصد دفعتين، وأسأله عن سبب ذلك، فلا يكون عنده علم منه.
وقال لي غير مرة: إنه لم يدع طبيباً حاذقاً على مر السنين إلا سأله عن سببه، فلا يجد عنده علماً ولا دواء.
فلما كان قبل فالجه بسنوات، ذهبت عنده العادة في الحمص، فصار يأكله فلا يضره، وبقيت عليه عادة الفلفل.
خطيب يموت على المنبرذكر صاحب كتاب النشوار أبو علي المحسن بن علي القاضي: أنه حضر مجلس أبي الفرج الأصبهاني، صاحب كتاب الأغاني، فتذاكروا موت الفجاءة.
فقال أبو الفرج: أخبرني شيوخنا أن جميع أحوال العالم قد اعترت من مات فجأة، إلا أنني لم أسمع من مات على منبر.
قال أبو علي المحسن: وكان معنا في مجلس أبي الفرج، شيخ أندلسي، قدم من هناك لطلب العلم، ولزم أبا الفرج، يقال له: أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ، وكنت أرى أبا الفرج يعظمه ويكرمه ويذكر ثقته. فأخبرنا أبو زكريا: أنه شاهد في مسجد الجامع ببلدة من الأندلس، خطيب البلد، وقد صعد يوم الجمعة ليخطب، فلما بلغ يسيراً من خطبته، خر ميتاً فوق المنبر، حتى أنزل منه، وطلب في الحال من رقي المنبر، فخطب وصلى الجمعة بنا.
أبو الفرج بن هندو كاتب الإنشاء
في ديوان عضد الدولةقال أبو علي التنوخي: كان أبو الفرج علي بن الحسين بن هندو، أحد كتاب الإنشاء في ديوان عضد الدولة، وقد شاهدت عدة كتب كتبها بخطه.
أبو الحسن الصائغ النحوي أستاذ الجبائيقال القاضي أبو علي التنوخي، حدثني أبو عمر أحمد بن محمد بن حفص الخلال، قال: كان أبو الحسن الصائغ النحوي الرامهرمزي واسع العلم والأدب، مليح الشعر وهو صاحب القصيدة التي أولها: " بياض في الأصل " ، وفيها تجوز كثير وأمر بخلاف الجميل، قالها على طريق التخالع، والتطايب.
وكان صالحاً معتقداً للحق، لا عن اتساع في العلم، يعني علم الكلام، ولكنه كان واسع المعرفة بالنحو واللغة والأدب.
وأبو الحسن الصائغ هذا، هو أستاذ أبي هاشم بن أبي علي الجبائي، بعد أبي بكر المبرمان في النحو، قرأ عليه لما ورد البصرة، واستفاد منه حتى بلغ أعلى مراتب النحو.
هذا بلاغ للناس ولينذروا بهقال التنوخي: إن أبا الحسن الوراق يعرف بالإخشيذي.

وقال أيضاً: وممن ذهب في زماننا إلى أن علياً عليه السلام، أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المعتزلة، أبو الحسن علي بن عيسى النحوي، المعروف بابن الرماني الإخشيذي.
وقرأت بخط أبي سعد، سمعت أبا طاهر السبخي، قال: سمعت أبا الكرم بن الفاخر النحوي، قال: سمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، يقول، وقد سئل، فقيل له: لكل كتاب ترجمة، فما ترجمة كتاب الله عز وجل.
فقال: هذا بلاغ للناس ولينذروا به.
بين الوزير ابن مقلة والشاعر ابن بسامقال التنوخي: حدثني ابن أبي قيراط، علي بن هشام، قال: حدثني أبو علي بن مقلة، قال: كنت أقصد ابن بسام لهجائه إياي، فخوطب ابن الفرات في وزارته الأولى، في تصريفه، فاعترضت، وقلت: إذا صرف، فلا يحتبس الناس على مجالسنا وقد افترقت، فإذا لم يضره الوزير فلا أقل من أن لا ينفعه.
فامتنع من تصريفه، قضاء لحقي.
فبلغ ذلك ابن بسام، فجاءني، وخضع لي، ثم لازمني نحو سنة، حتى صار يختص بي، ويعاشرني على النبيذ، ومدحني فقال:
يا زينة الدنيا وما جمعا ... والأمر والنهي والقرطاس والقلم
إن ينسيء الله في عمري فسوف ترى ... من خدمتي لك ما يغني عن الخدم
أبا علي لقد طوقتني منناً ... طوق الحمامة لا تبلى على القدم
فاسلم فليس يزيل الله نعمته ... عمن يبث الأيادي في ذوي النعم
بين ابن الفرات وخالد الكاتبحدث القاضي أبو علي، قال: حدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات، يتحدث في مجلسه، قال: كنا بعد وفاة أبينا، وقبل تصرفنا مع السلطان نقدم إلى بغداد، من سر من رأى، فنقيم بها المدة بعد المدة، ونتفرج، ثم نعود، وننزل، إذا وردنا، شارع عمرو بن مسعدة، بالجانب الغربي.
فبكرنا يوماً، نريد بستاناً، فإذا بخالد الكاتب، والصبيان يولعون به، وقد اختلط، وهو يرجم، ويشتم.
ففرقناهم عنه، ومنعناه منهم، ورفقنا به، وسألناه أن يصحبنا، وأنزلنا أحد غلماننا من مركوبه، وأركبناه، وحملناه إلى البستان.
فلما أكل، وسكن، وجدناه متماسك العقل، بخلاف ما رأيناه عليه، وظنناه به، وسمعناه عنه.
فقلنا له: ما الذي يلحقك؟ فقال: أكثر آفتي هؤلاء الصبيان، فإنهم يشدون علي، حتى أعدم بقية عقلي، وأصير إلى ما شاهدتموه مني، وأخذ ينشدنا لنفسه، ويورد من شعره، وطاب لنا يومنا معه.
وأحب أخي أن يمتحنه في قول الشعر، وهل هو على ما كان، أم قد اختل، فقال له: أريد أن تعمل شيئاً في الفراق الساعة.
فأخذ الدواة، وفكر، وقال:
عيني، أكنت عليك مدعياً ... أم حين أزمع بينهم خنت
إن كنت فيما قلت صادقة ... فعلى فراقهم ألا بنت
رسالة كتبها والد المؤلفقال أبو علي التنوخي في النشوار: حدثني أبو العلاء صاعد بن ثابت، قال: كتب إلي القاضي التنوخي أبو القاسم علي بن محمد جواب كتاب كتبته إليه: وصل إلي كتابك:
فما شككت، وقد جاء البشير به، ... أن الشباب أتاني بعدما ذهبا
وقلت نفسي تفدي نفس مرسله ... من كل سوء ومن أملى ومن كتبا
وكاد قلبي، وقد قلبته، قرماً ... إلى قراءته أن يخرق الحجبا
قال: والشعر له، وأنشدنيه بعد ذلك لنفسه.
قال أبو علي: ولست أعرف له ذلك، ولا وجدته في كتبه منسوباً إليه، ويجوز أن يكون مما قلته ولم يثبته، أو ضاع فيما ضاع من شعره، فإنه أكثر مما حفظ.
من شعر أبي الفتح بن المنجمكان لعلي بن هارون بن المنجم، ولد يقال له أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، كان أديباً فاضلاً، إلا أني لم أقف له على تصنيف، فلم أفرده بترجمة، والمقصود ذكره، وقد ذكر هاهنا، روى عنه أبو علي التنوخي في نشواره، فأكثر، وقال: أنشدني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون لنفسه:
ما أنس منها لا أنس موقفها ... وقلبها للفراق ينصدع
وقولها إذ بدا الصباح لها ... قول فزوع أظله الجزع
ما أطول الليل عند فرقتنا ... وأقصر الليل حين نجتمع

قال التنوخي: وأنشدني أبو الفتح لنفسه، وكتب بها إلى أبي الفرج محمد بن العباس بن فسانجس في وزارته، وقد عمل على الانحدار إلى الأهواز:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم
أبو معشر وعلم التنجيموحدث أبو علي التنوخي في نشواره، قال: حدثني أبو الحسن بن أبي بكر الأزرق قال: حدثني أبي، قال: كان بكركر من نواحي القفص، ضيعة نفيسة، لعلي بن يحيى بن المنجم، وقصر جليل فيه خزانة كتب عظيمة، يسميها: خزانة الحكمة، يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها، ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى.
فقدم أبو معشر المنجم من خراسان، يريد الحج، وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شيء من النجوم، فوصفت له الخزانة، فحضر ورآها، فهاله أمرها، فأقام بها، وأضرب عن الحج، وتعلم فيها علم النجوم، وأغرق فيه حتى ألحد.
وكان ذلك آخر عهده بالحج، وبالدين، والإسلام أيضاً.
من إخوانيات الجاحظقال أبو علي التنوخي، حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأخباري، قال: حدثني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني الحسن بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني عبد الله بن جعفر الوكيل، قال: كنت يوماً عند إبراهيم بن المدبر، فرأيت بين يديه رقعة يردد النظر إليها.
فقلت له: ما شأن هذه الرقعة، كأنه استعجم عليك شيء منها؟ فقال: هذه رقعة أبي عثمان الجاحظ، وكلامه يعجبني، وأنا أردده على نفسي، لشدة إعجابي.
فقلت: هل يجوز أن أقرأها؟ قال: نعم، وألقاها إلي، فإذا فيها: ما ضاء لي نهار، ولا دجا ليل، مذ فارقتك، إلا وجدت الشوق إليك قد حز في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشىً خافقة، ودمعة مهراقة، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد بليت بما تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض، ممنوع من لذة الإغماض، قول الشاعر:
إذا هتف القمري نازعني الهوى ... بشوق فلم أملك دموعي من الوجد
أبى الله إلا أن يفرق بيننا ... وكنا كماء المزن شيب مع الشهد
لقد كان ما بيني زماناً وبينها ... كما كان بين المسك والعنبر الورد
فانتظم وصف ما كنا نتعاشر عليه، ونجري في مودتنا إليه، في شعره هذا، وذكرت أيضاً، ما رماني به الدهر، من فرقة أعزائي من أخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصائي الذين أنت أحبهم وأخلصهم، ويجرعنيه من مرارة نأيهم، وبعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك، وقلت أبياتاً تقصر عن صفة وجدي، وكنه ما يتضمنه قلبي، وهي:
بخدي من قطر الدموع ندوب ... وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفس تحت الدجى يصدع الحشا ... ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضر نفسي وسقمه ... يخبر عني أنني لكئيب
كأني لم أفجع بفرقة صاحب ... ولا غاب عن عيني سواك حبيب
فقلت لابن المدبر: هذه رقعة عاشق، لا رقعة خادم، ورقعة غائب، لا رقعة حاضر.
فضحك، وقال: نحن ننبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أرق من هذا وألطف، فأما الغيبة، فإننا نجتمع في كل ثلاثة أيام، وتأخر ذلك لشغل عرض لي، فخاطبني مخاطبة الغائب، وأقام انقطاع العادة، مقام الغيبة.
الوزير علي بن عيسى يقر بأنه
صنيعة الوزير ابن الفراتحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال: لما حمل علي بن عيسى إلى ابن الفرات في وزارته الثالثة، رآه ابن الفرات، وهو مقبل إليه، فبدأ يكتب كتاباً.
وجاء علي بن عيسى، وهو كالميت، خوفاً وجزعاً، فوقف قائماً، وابن الفرات يكتب، وعند علي بن عيسى، والحاضرين، أنه لم يره.
وبقي واقفاً، نحو ساعة، إلى أن فرغ ابن الفرات من كتابته، ثم رفع رأسه، وقال: اقعد، بارك الله عليك.
فأكب علي بن عيسى عليه، يقبل يده، وهو يقول: أنا عبد الوزير، وخادمه، وصنيعته القديم، وصنيعة أبي العباس أخيه، رحمه الله تعالى، ومن لا يعرف صاحباً، ولا أستاذاً غيره.

فقال: هو كذلك، وأنت فيه صادق، وإني لأرعى لك حق خدمتك القديمة، لي، ولأخي رحمه الله، وما عليك بأس في نفسك، ولولا طاعة السلطان، ما أفسدنا صنيعتنا عندك.
وقرر عليه من المصادرة، ما قرره.
وعمل المحسن بن علي بن الفرات، على قتل علي بن عيسى، فلم يدعه أبوه، واستقر الأمر على نفيه، وإبعاده عن الحضرة.
واختار هو الخروج إلى مكة، وأظهر أنه يريد الحج والمجاورة.
وخرج بعد أن ضم إليه موكلون، ووصاهم المحسن بسمه في الطريق، إن تمكنوا، أو قتله بمكة.
وعرف علي بن عيسى ذلك، فتحرز، في مأكله ومشربه.
ووصل إلى مكة وفيها رجل يعرف بأحمد بن موسى الرازي، وكان داهية ذا مكر وخبث، وقد اصطنعه علي بن عيسى في وزارته، وقلده القضاء هناك.
فلما اجتمع علي بن عيسى معه، حدثه بحديثه، وسأله إعمال الحيلة في تخليصه، وحراسة نفسه.
فتلطف في ذلك، بأن واضع أهل البلد، وقد كانوا قدموه، وأطاعوه، على أن اجتمعوا، وثاروا بالموكلين.
وخاف أن يجري ما يلحقه فيه إثم، أو إنكار من السلطان، فطرح نفسه عليهم، حتى خلصهم، وأخرجهم ليلاً إلى بغداد، بعد أن أعطاهم نفقة. وأقام بمكة.
وقد كان أبو العباس، أحمد بن محمد بن الفرات، في خلافة عبيد الله بن سليمان، على الأمور، عمل ديواناً سماه: ديوان الدار، وجمع إليه سائر الأعمال، ودبره بنفسه، وكتابه، واستناب أخاه أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات فيه، واصطنع كتاباً، قلدهم مجالسه، منهم أبو الحسن علي بن عيسى، وأبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح، عمه، فكانا يجلسان بحضرة أبي الحسن، ويأمرهما وينهاهما، ويسميانه أستاذنا، على رسم أصحاب الدواوين إذ ذاك.
وجرى الأمر على هذا الترتيب، إلى أن عزم المعتضد بالله، على إخراج المكتفي بالله، إلى الجبل، ومعه عبيد الله بن سليمان، والخروج بنفسه إلى آمد والثغور، ومعه القاسم بن عبيد الله.
فقال عبيد الله، لأبي العباس بن الفرات: أريد كاتباً يصحبني، ويتصفح أعمال كل بلد نفتحه، ويقرر معاملاته، على ما يدل عليه الديوان القديم من رسومه.
فقال: ذاك محمد بن داود، وإليه في ديوان الدار، مجلس ما فتح من أعمال المشرق، وفيه الحسبانات العتيقة.
وقال القاسم: وأنا أريد آخر يكون معي إلى المغرب.
فقال: يكون علي بن عيسى.
وخرج محمد بن داود، وعلي بن عيسى، في جملة عبيد الله، والقاسم، فنفق محمد على عبيد الله، وقرب منه، واختص به، ورأى من فضله، وصناعته، ما أعجبه، وانتهى أمره معه إلى أن زوجه عبيد الله بنته، وانتزع مجلس المشرق، من ديوان الدار، وجعله ديواناً مفرداً، وقلده محمد بن داود، رئاسة.
وحصلت لعلي بن عيسى حرمة بالقاسم، وشاهد من كفايته، وسداده، وكتابته، ونفاذه، ما عظم به في عينه، فقدمه، وتوفر عليه، وفعل مثل فعل أبيه مع محمد بن داود، في انتزاع مجلس المغرب من ديوان الدار، وتقليده علي بن عيسى رئاسة، ولم يجعلا لأبي العباس بن الفرات، بعد ذلك، عليهما يداً.
وكان قول علي بن عيسى، لابن الفرات، ما قاله: من أنني عبدك، وصنيعتك، وعبد وصنيعة أبي العباس أخيك، وقبول ابن الفرات ذلك منه، وتصديقه إياه فيه، على هذا الأصل.
ابن دريد يكتب دروسه لتلامذتهومن خط أبي علي المحسن، قال: سألت القاضي أبا سعيد السيرافي رحمه الله، عن الأخبار التي يرويها عن أبي بكر بن دريد، وكنت أقرأها عليه، أكان يمليها من حفظه؟ فقال: لا، كانت تجمع من كتبه وغيرها، ثم تقرأ عليه.
وسألت أبا عبيد الله محمد بن عمران المرزباني رحمه الله، عن ذلك، فقال: لم يكن يمليها من كتاب ولا حفظ، ولكن كان يكتبها، ثم يخرجها إلينا بخطه، فإذا كتبناها خرق ما كانت فيه.
القاضي التنوخي وقاطع الطرققال المحسن، وحدثني أبي، قال: لما كنت أتقلد القضاء بالكرخ، كان بوابي بها رجل من أهل الكرخ، وله ابن عمره حينئذ عشر سنين أو نحوها، وكان يدخل داري بلا إذن، ويمتزج مع غلماني، وأهب له في الأوقات الدراهم والثياب، كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم.
ثم خرجت عن الكرخ، ورحلت عنها، ولم أعرف للبواب ولا لابنه خبراً.
ومضت السنون، وأنفذني أبو عبد الله البريدي من واسط، برسالة إلى ابن رائق، فلقيته بدير العاقول، ثم انحدرت أريد واسطاً، فقيل لي إن في الطريق لصاً يعرف بالكرخي، مستفحل الأمر.

وكنت خرجت بطالع اخترته على موجب تحويل مولدي لتلك السنة.
فلما عدت من دير العاقول خرج علينا اللصوص في سفن عدة بسلاح شاك في نحو مائة رجل، وهو كالعسكر العظيم.
وكان معي غلمان يرمون بالنشاب، فحلفت أن من رمى منهم سهماً ضربته إذا رجعت إلى المدينة، مائتي مقرعة، وذلك أنني خفت أن يقتل أحد منهم، فلا يرضون إلا بقتلي.
وبادرت فرميت بجميع ما كان معي، ومع الغلمان، من السلاح، في دجلة، واستسلمت طلباً لسلامة النفس.
وجعلت أفكر في الطالع الذي خرجت به، فإذا ليس مثله مما يوجب عندهم قطعاً، والناس قد أديروا إلى الشاطيء، وأنا في جملتهم، وهم يضربون، ويقطعون بالسيوف.
فلما انتهى الأمر إلي، جعلت أعجب من حصولي في مثل ذلك، والطالع لا يوجبه.
فبينا أنا كذلك، وإذا بسفينة رئيسهم قد دنت، وطرح علي كما صنع بسائر السفن، ليشرف على ما يؤخذ.
فحين رآني زجر أصحابه عني، ومنعهم من أخذ شيء من سفينتي، وصعد بمفرده إلي، وجعل يتأملني، ثم أكب على يدي يقبلهما، وهو متلثم.
فارتعت، وقلت: يا هذا، ما شأنك؟ فأسفر عن لثامه، وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ فتأملته، فلجزعي لم أعرفه، فقلت: لا والله.
فقال: بلى، أنا عبدك ابن فلان الكرخي، بوابك هناك، وأنا الصبي الذي تربيت في دارك.
قال: فتأملته، فعرفته، إلا أن اللحية قد غيرته في عيني.
فسكن روعي قليلاً، وقلت: يا هذا، كيف بلغت إلى هذه الحال؟ فقال: يا سيدي، نشأت، فلم أتعلم غير معالجة السلاح، وجئت إلى بغداد أطلب الديوان فما قبلني أحد، وانضاف إلي هؤلاء الرجال، فطلبت قطع الطريق، ولو كان أنصفني السلطان، وأنزلني بحيث أستحق من الشجاعة، وانتفع بخدمتي، ما فعلت بنفسي هذا.
قال: فأقبلت عليه، أعظه، وأخوفه الله، ثم خشيت أن يشق ذلك عليه فيفسد رعايته لي، فأقصرت.
فقال لي: يا سيدي لا يكون بعض هؤلاء أخذ منك شيئاً.
قلت: لا، ما ذهب مني إلا سلاح رميته أنا في الماء، وشرحت له الصورة. فضحك، وقال: قد والله أصاب القاضي، فمن في الكار ممن تعتني به؟ فقلت: كلهم عندي بمنزلة واحدة في الغم بهم، فلو أفرجت عن الجميع.
فقال: والله، لولا أن أصحابي قد تفرقوا ما أخذوه، لفعلت ذلك، ولكنهم لا يطيعونني إلى رده، ولكني أمنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن، مما لم يؤخذ بعد.
فجزيته الخير، فصعد إلى الشاطيء، وأصعد جميع أصحابه، ومنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن، مما لم يؤخذ، ورد على قوم أشياء كثيرة، كانت أخذت منهم، وأطلق الناس.
وسار معي إلى حيث أمن علي، وودعني، وانصرف راجعاً.
ابن سكرة الهاشمي يهجو غلاماً
قال أبو علي: وكنت مع أبي الحسن بن سكرة على المائدة، فحمل بعض الغلمان غضارة فيها مضيرة، فاضطربت يده، وانقلب منها شيء على ثياب أبي الحسن، فادعى عليه أنه ضرط، وهجاه بأبيات، لم يبق من حفظي منها غير بيتين، وهما:
قليل الصواب كثير الغلط ... شديد العثار قبيح السقط
جنى بالمضيرة ما قد جنى ... ولم يكفه ذاك حتى ضرط
عناية الوزير أبي محمد المهلبي
بالتنوخي المؤلفقرأت في كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس، فقصدته للسلام عليه، وتجديد العهد بخدمته.
فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز.
قلت: نعم.
قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده، وأنت ولدي، وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: إلا أن الشهادة عنده، مع الحداثة، جمالاً، وكانت سني يومئذ عشرين سنة.
قال: وجب أن تجيء إلى الحضرة، لأتقدم إلى أبي السائب، قاضي القضاة، بتقليدك عملاً، تقبل أنت فيه شهوداً. قلت: ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب.
فضحك، وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه، كيف اغتنمها؟ ثم قال لي: اخرج معي إلى بغداد. فقبلت يده، ودعوت له، وسار من السوس إلى بغداد.
ووردت بغداد في سنة 349 ه، فتقدم إلى أبي السائب في أمري بما دعاه إلى أن قلدني عملاً بسقي الفرات.
وكنت ألازم الوزير أبا محمد، وأحضر طعامه، ومجالس أنسه.
واتفق أن جلس يوماً مجلساً عاماً، وأنا بحضرته، وقيل له: أبو السائب في الدار.

قال: يدخل، ثم أومأ إلي بأن أتقدم إليه، فتقدمت ومد يده ليسارني، فقبلتها.
فمد يدي، وقال: ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب، فيراك تسارني في مثل هذا المجلس الحافل، فلا يشك أنك معي في أمر من أمور الدولة، فيرهبك، ويحشمك، ويتوفر عليك، ويكرمك، فإنه لا يجيء إلا بالرهبة، وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك.
وأخذ يواصل معي في مثل هذا الفن من الحديث، إلى أن دخل أبو السائب.
فلما رآه في سرار، وقف، ولم يحب أن يجلس إلا بعد مشاهدة الوزير له، تقرباً إليه، وتلطفاً في استمالة قلبه، فإنه كان إذ ذاك فاسد الرأي فيه.
فقال الحاجب لأبي السائب: يجلس قاضي القضاة.
وسمعه الوزير، فرفع رأسه، وقال له: اجلس يا سيدي.
وعاد إلى سراري، وقال لي: هذه أشد من تلك، فامض إليه في غد، فسترى ما يعاملك به.
وقطع السرار، وقال لي ظاهراً: قم فامض فيما أنفذتك فيه، وعد إلي الساعة بما تعمله.
فوهم أبو السائب بذاك أننا في مهم.
فقمت، ومضيت إلى بعض الحجر، وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب، ثم عدت إليه، وقد قام عن ذلك المجلس.
وجئت من غد إلى أبي السائب، فكاد يحملني على رأسه، وأخذ يجاذبني بضروب من المحادثة والمباسطة.
وكان على ذلك دهراً طويلاً.
التنوخي المؤلف في مجلس أنس عضد الدولةحدث أبو علي، قال: كنت جالساً بحضرة عضد الدولة في مجلس أنسه، بنهاوند، فغناه محمد بن كاله الطنبوري، شيخ كان يخدمه في جملة المغنين، باق إلى الآن:
ذد بماء المزن والعنب ... طارقات الهم والكرب
قهوة لو أنها نطقت ... ذكرت قحطان في العرب
وهي تكسو كف شاربها ... دستبانات من الذهب
فاستحسن الشعر والصنعة، وسأل عنها، فقال له ابن كاله: هذا شعر غنت به مولانا، سلمة بنت حسينة، فاستعاده منها استحساناً له، فسرقته منها.
قال التنوخي: فقلت له: أما الشعر، فللخباز البلدي، وأظن أبا الحسن بن طرخان قال لي: إن الصنعة فيه لأبيه، والمعنى حسن، ولكنه مسروق.
فقال: من أين؟ فقلت: أما البيت الثاني، فمن قول أبي نؤاس:
عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان صادق وفم
لاحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصت قصة الأمم
ووصفها بالعتق والقدم، كثير في القوم، وأبلغ من هذا البيت، ولكن التشبيه في البيت الثالث، هو الحسن، وقد سرقه مما أنشدناه أبو سهل بن زياد القطان، قال أنشدنا يعقوب بن السكيت، ولم يسم قائلاً:
أقري الهموم إذا ضاقت معتقة ... حمراء يحدث فيها الماء تفويفا
تكسو أصابع ساقيها إذا مزجت ... من الشعاع الذي فيها تطاريفا
وقد كشف - أطال الله بقاء مولاي - هذا المعنى من قال:
كأن المدير لها باليمين ... إذا قام للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار
وكان أبو علي، أحمد بن علي المدائني، المعروف بالهائم الراوية، قائماً في المجلس، فقال: قد كشف معنى الأبيات الفائية، السري الرفاء، حيث يقول في صفة الدنان:
ومستسلمات هززنا لها ... مداري القيان لسفك الدماء
وقد نظم الصبح أجسامها ... مع الجدر نظم صفوف اللقاء
تمد إليها أكف الرجال ... فترجع مثل أكف النساء
وكشف المعنى الثاني في الأبيات بقوله:
إزدد من الراح وزد ... فالغي في الراح رشد
يديرها ذا غنة ... أغيد يثنيه الغيد
مد إليها يده ... فالتهبت إلى العضد
قال القاضي التنوخي: فقلت له: فأين أنت عما هو خير من هذا؟ وهو قول ابن المعتز:
تحسب الظبي إذا طاف بها ... قبل أن يسقيكها مختضبا
قال الهائم: فقد قال بكارة الرسعني:
وبكر شربناها على الورد بكرة ... فكانت لنا ورداً إلى ضحوة الغد
إذا قام مبيض اللباس يديرها ... توهمته يسعى بكم مورد
وقول أبي النضر النحوي:
فلو رآني إذا اتكأت وقد ... مددت كفي للهو والطرب
لخالني لابساً مشهرة ... من لازورد يشف عن ذهب

فبدأت أذكر شيئاً، فقال الهائم: اصبر، اصبر، فهاهنا ما لا يلحقه شعر أحد كان في الدنيا قط، حسناً وجودة، وهو قول مولانا الملك من أبيات:
وشرب الكأس من صهباء صرف ... تفيض على الشروب يد النضار
فقطعت المذاكرة، وأقبلت أعظم البيت، وأفخم أمره، وأفرط في استحسانه، والاعتراف بأني لا أحفظ ما يقاربه في الحسن والجودة فأذاكر به.
أبيات من نظم عضد الدولةقال التنوخي: كنت بحضرة الملك عضد الدولة في عشية من العشايا في مجلس الأنس، وكان هذا بعد خدمتي له في المؤانسة بشهور يسيرة، فغني له من وراء ستارته الخاصة، صوت، وهو:
نحن قوم من قريش ... ما هممنا بالفرار
وبعده أبيات، بعضها ملحون، وبعضها جيد.
فاستملح اللحن، وقال: هو شعر ركيك جداً، فتعلمون لمن هو، ولمن اللحن؟.
فقال له أبو عبد الله المنجم: بلغني أن الشعر للمطيع لله، وأن اللحن له أيضاً.
فقال لي: اعمل أبياتاً تنقل هذا اللحن إليها، في وزنها وقافيتها.
فجلست ناحية، وعملت:
أيهذا القمر الطا ... لع من دار القمار
رائحاً من خيلاء ال ... حسن في أبهى إزار
والذي يجني ولا يت ... بع ذنباً باعتذار
أنا من هجرك في بعد ... على قرب المزار
أوضح العذر عذارا ... ك على خلع العذار
وعدت فأنشدته إياها في الحال، فارتضاها، وقال: لولا أنه قد هجس في نفسي أن أعمل في معناها، لأمرت بنقل اللحن إليها.
ثم أنشدنا بعد أيام لنفسه:
نحن قوم نحفظ العه ... د على بعد المزار
ونمر السحب سحباً ... من أكف كالبحار
أبداً ننجز للضي ... ف قدوراً من نضار
وأمر جواريه بالغناء فيه.
وأما أبياتي فقد تممتها قصيدة، ومدحته بها وهي مثبتة في ديوان شعري.
عضد الدولة يحتفل بتحول سنة
شمسية من يوم مولدهقال التنوخي: وجلس عضد الدولة، وقد تحولت له سنة شمسية، من يوم مولده، على عادة له في ذلك.
وكانت عادته، أنه إذا علم أنه قد بقي بينه وبين دخول السنة الجديدة ساعة أو أقل أو أكثر، أن يأكل، ويتبخر، ويخرج في حال التحويل، إلى مجلس عظيم، قد عبى فيه آلات الذهب والفضة، وليس فيه غيرهما، وفيها أنواع الفاكهة والرياحين، ويجلس في دست عظيم القيمة.
ويجيء المنجم، فيقبل الأرض بين يديه، ويهنئه بتحويل السنة، وقد حضر المغنون، وأخذوا مواضعهم، وجلسوا، وحضر الندماء، وأخذوا مواقفهم قياماً.
ولم يكن أحد منهم يجلس بحضرته، غيري، وغير أبي علي الفسوي، وأبي الحسين الصوفي المنجم، وأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف، صاحب ديوان الرسائل، فإنه كان يجلس ليوقع بين يديه.
ويستدعي لع إذا نشط، نبيذ، فيجعل بين يديه، ويشرب منه، ومن قبل أن يشرب، يوقع بمال، ثم يجيء المهنون من أهل المجلس، مثل رؤساء دولته، ووجوه الكتاب، والعمال، وكبار أهل البلد من الأشراف وغيرهم، فيدخلون إليه، فيهنئونه، والشعراء، فيمدحونه.
فلما جلس ذلك اليوم، على هذه الصفة، قيل له: إن الناس قد اجتمعوا للخدمة، وفيهم أبو الحسن بن أم شيبان قد حضر.
فعجب من هذا، ثم قال: أبو الحسن رجل فاضل، وليس هذا من أيامه، وما حضر إلا لفرط موالاته، وأنه ظن أنه يوم لا شرب فيه، وإن حجبناه غضضنا منه، وإن أوصلناه فلعله لا يحب ذلك لأجل الغناء والنبيذ. ولكن اخرج إليه يا فلان - لبعض من كان قائماً من الندماء - واشرح له صفة المجلس، وما قلته في أمره، وأد الرسالة إليه ظاهراً، ليسمعها الناس، فإن أحب الدخول فأدخله قبلهم، وإن أراد الانصراف، فلينصرف، والناس يسمعون، وقد علموا منزلته منا.
فخرج الحاجب، وأبلغ ذلك.
فدعا، وشكر، وآثر الانصراف، فانصرف، وهم جلوس يسمعون.
ثم قال لحاجب النوبة: اخرج، وأدخل الناس، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس، وأخوه أبو محمد علي بن العباس، يتقدمان الناس جميعهم، لرئاستهم القديمة، حتى دخلوا، وقبلوا الأرض على الرسم في ذلك، وأعطوه الدينار والدرهم، ووقفوا.

وابتدأ الشعراء، فكان أول من ينشد من الشعراء السلامي، أبو الحسن محمد بن عبد الله، إلا أنه يريد مني أن أنشده في الملأ شيئاً، فإنه كان يأمرني بذلك في الليل، فأحضر، وأبتديء، فأنشده، أو يحضر رجل علوي ينشد شعراً لنفسه، فيجعل عقيبي، ثم ينشد السلامي أبو الحسن، ثم أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي الشامي، من أهل معرة النعمان، يعرف بابن جلباب، ثم يتتابع الشعراء.
فلما انصرف الناس، وتوسط الشرب، جاءه الحاجب، فقال: قد حضر أبو بكر بن عبد الرحيم الفسوي، وكان هذا شيخاً، قد أقام بالبصرة، وشهد عند القاضي بها، وقد وفد إلى باب عضد الدولة، قبل ذلك، وأقام، وكان خادماً له، فيما يخدم فيه التجار، يختصه بعض الاختصاص.
فأقبل، وكان بين يدي، الدست التمري، الذي يوضع بين يدي في كل يوم، وفيه من الأشربة المحللة، ما جرت عادتي بشرب اليسير منه بين يدي عضد الدولة، على سبيل المنادمة والمؤانسة والمباسطة، وكان قد سامني وألزمني ذلك، بعد امتناعي منه شهوراً، حتى تهددني وأخافني.
فقال لي: يا قاضي، إن هذا الرجل الذي استؤذن له، عامي، جاهل بالعلم، وإنما استخدمته رعاية لحرمات له علي، ولأنه كان يخدم أمي في البز، ويدخل إليها بإذن ركن الدولة، لتقاه وأمانته، فلا تستتر عنه، وهذا قبل أن أولد، فلما ولدت كان يحملني على كتفه، إلى أن ترجلت، ثم صار يشتري البز، ويبيعه علي، واستمرت خدمته لحرمته، وهو قاطن بالبصرة، ولعله يدخل فيرى ما بين يديك، فيظنه خمراً، فيرجع إلى البصرة، فيخبر قاضيها وشهودها بذلك، فيقدح فيك، ومحله يوجب أن يكشف لك عذرك، ولكن أزح الدست الذي بين يديك حتى يصير بين يدي أبي عبد الله بن المنجم - وكان أبو عبد الله بن إسحاق بن المنجم، يجلس دوني بفسحة في المجلس - فإذا دخل رأى الدست بين يديه دونك، فلم يقدر على حكاية يطعن بها عليك.
فقبلت الأرض شكراً لهذا التطول في الإنعام، وباعدت الدست إلى أبي عبد الله.
ثم قال: أدخلوه، فأدخلوه، وشاهد المجلس، وهنأ، ودعا، وأعطى ديناراً ودرهماً كبيرين، فيهما عدة مثاقيل، وانصرف.
قال أبو علي، ويقرب من هذا ما عاملني به الوزير أبو محمد المهلبي، وذكر الحكاية التي سبق ذكرها آنفاً مع قاضي القضاة أبي السائب، وحديث تقريبه منه، ومسارته إياه في المحفل ليعظم بذلك قدره، وتكبر منزلته، في عين قاضي القضاة أبي السائب.
ولله در القائل:
لولا ملاحظة الكبير صغيره ... ما كان يعرف في الأنام كبير
لماذا سخط عضد الدولة على التنوخي المؤلفقال الرئيس أبو الحسين هلال: في شهر ربيع الأول سخط عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي، وألزم منزله، وصرف عما كان يتقلده، وقسم ذلك على أبي بكر بن أبي موسى، وأبي بكر بن المحاملي، وأبي محمد بن عقبة، وأبي تمام بن أبي حصين، وأبي بكر الأزرق، وأبي محمد بن الجهرمي.
وكان السبب في ذلك، ما حدثني به أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثني القاضي أبو علي، والدي، قال: كنت بهمذان مع الملك عضد الدولة، فاتفق أن مضيت يوماً إلى أبي بكر بن شاهويه رسول القرامطة والمتوسط بين عضد الدولة، وبينهم، وكان لي صديقاً، ومعي أبو علي الهائم، وجلسنا نتحدث، وقعد أبو بكر علي بباب خركاه كنا فيه، وقدم إليه ما يأكله.
فقال: اجعل أيها القاضي في نفسك المقام في هذه الشتوة في هذا البلد.
فقلت: ولم؟ فقال: إن الملك مدبر في القبض على الصاحب أبي القاسم بن عباد، - وكان قد ورد إلى حضرته بهمذان - وإذا كان كذلك، تشاغل بما تتطاول معه الأيام، وانصرفت من عنده.
فقال أبو علي الهائم: قد سمعت ما كنتما فيه، وهذا أمر ينبغي أن تطويه، ولا تخرج به إلى أحد، ولا سيما إلى أبي الفضل بن أبي أحمد الشيرازي.
فقلت: أفعل.
ونزلت إلى خيمتي، وجاءني من كانت له عادة جارية بملازمتي، ومواصلتي، ومؤاكلتي، ومشاربتي، وفيهم أبو الفضل بن أبي أحمد الشيرازي.
فقال لي: أيها القاضي، أنت مشغول القلب، فما الذي حدث؟ فاسترسلت على أنس كان بيننا، وقلت: أما علمت أن الملك مقيم، وقد عمل على كذا في أمر الصاحب، وهذا دليل على تطاول السنة.
فلم يتمالك أن انصرف، وأستدعى ركابياً من ركابيتي، وقال له: أين كنتم اليوم؟ فقال: عند أبي بكر بن شاهويه.
قال: وما صنعتم؟

قال: لا أدري، إلا أن القاضي أطال عنده الجلوس، وانصرف إلى خيمته، ولم يمض إلى غيره.
فكتب إلى عضد الدولة، رقعة، يقول فيها: كنت عند القاضي أبي علي التنوخي، فقال كذا وكذا، وذكر أنه قد عرفه من حيث لا يشك فيه، وعرفت أنه كان عند أبي بكر بن شاهويه، وربما كان لهذا الحديث أصل، وإذا شاع الخبر به، وأظهر السر، فسد ما دبر في معناه.
فلما وقف عضد الدولة على الرقعة، وجم وجوماً شديداً، وقام من سماط كان قد عمله في ذلك اليوم على منابت الزعفران للديلم، مغيظاً.
واستدعاني، وقال لي: بلغني أنك قلت كذا وكذا، حاكياً عن أبي بكر بن شاهويه، فما الذي جرى بينكما في ذلك؟ قلت: لم أقل من ذلك شيئاً، فجمع بيني وبين أبي الفضل بن أبي أحمد، وواقفني، وأنكرته، وراجعني، وكذبته.
وأحضر أبو بكر بن شاهويه، وسئل عن الحكاية، فقال: ما أعرفها، ولا جرى بيني وبين القاضي قول في معناها.
وثقل على أبي بكر هذه الموافقة، وقال: ما نعامل الأضياف هذه المعاملة.
وسئل أبو علي الهائم عما سمعه، فقال: كنت خارج الخركاه، وكنت مشغولاً بالأكل، وما وقفت على ما كانا فيه.
فمد، وضرب مائتي مقرعة، وأقيم، فنفض ثيابه.
وخرج أبو عبد الله بن سعدان، وكان لي محباً، فقال لي: الملك يقول لك، ألم تكن صغيراً فكبرناك، ومتأخراً فقدمناك، وخاملاً فنبهنا عليك، ومقتراً فأحسنا إليك؟ فما بالك جحدت نعمتنا، وسعيت في الفساد على دولتنا؟ قلت: أما اصطناع الملك لي، فأنا معترف به، وأما الفساد على دولته، فما علمت أنني فعلته، ومع ذلك، فقد كنت مستوراً فهتكني، ومتصوناً ففضحني، وأدخلني من الشرب والمنادمة بما قدح في.
فقال أبو عبد الله: هذا قول لا أرى الإجابة به، لئلا يتضاعف ما نحن محتاجون إلى الاعتذار والتخلص منه، ولكني أقول عنك كذا وكذا، بجواب لطيف، فاعرفه، حتى إذا سئلت عنه، وافقتني فيه، وتركني وانصرف.
وجلست مكاني طويلاً، وعندي أنني مقبوض علي، ثم حملت نفسي على أن أقوم وأسبر الأمر.
وقمت، وخرجت من الخيمة، فدعا البوابون دابتي على العادة، ورجعت إلى خيمتي منكسر النفس، منكسف البال.
فصار الوقت الذي أدعى فيه للخدمة، فجاءني رسول ابن الحلاج على الرسم، وحضرت المجلس، فلم يرفع الملك إلي طرفاً، ولا لوى إلي وجهاً، ولم يزل الحال على ذلك خمسة وأربعين يوماً.
ثم استدعاني، وهو في خركاه، وبين يديه أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وعلى رأسه أبو الثناء شكر الخادم.
فقال: ويلك، اصدقني عما حكاه أبو الفضل بن أبي أحمد. فقلت: كذب منه، ولو ذكرت لمولانا ما يقوله، لما أقاله العثرة.
فقال: أومن حقوقي عليكم، أن تسيئوا غيبتي، وتتشاغلوا بذكري.
فقلت: أما حقوق النعمة فظاهرة، وأما حديثك فنحن نتفاوضه دائماً. فالتفت إلى أبي القاسم، وقال: اسمع ما يقول.
فقال له بالفارسية، وعنده أنني لا أعرفها: هؤلاء البغداديون مفتونون، ومفسدون، ومتسوقون.
فقال شكر: الأمر كذلك، إلا أن التسوق على القاضي، لا منه. ثم قال لي عضد الدولة: عرفنا ما قاله أبو الفضل.
قلت: هو ما ينطلق به لساني.
فقال: هاته، وكان يحب أن تعاد الأحاديث، والأقاويل، على وجهها، من غير كناية عنها، ولا احتشام فيها.
فقلت: نعم، إنك عند وفاة والدك بشيراز، أنفذت من كرمان، وأخذت جاريته زرياب، وإن الخادم المخرج في ذاك، وافى ليلة الشهر، فاجتهدت به أن يتركها تلك الليلة، لتوفي أيام الحق، فلم يفعل، ولا رعى للماضي حقاً ولا حرمة.
فقال: والله، لقد أنكرنا على الخادم إخراجه إياها على هذا الإعجال، ولو تركها يوماً، وأياماً، لجاز، وبعد فهذا ذنب الخادم، ولا عمل لنا فيه، ولا عيب علينا به، ثم ماذا؟ قلت: قال: إن مولانا يعشق كنجك المغنية، ويتهالك في أمرها، وربما نهض إلى الخلاء، فاستدعاها إلى هناك، وواقعها.
فقال: إنا لله، لعنكما الله، ولا بارك فيكما، ثم ماذا؟ فأوردت عليه أحاديث سمعتها من غير أبي الفضل، ونسبتها إليه.
وقلت: لم أعلم أنني أقوم هذا المقام، فأحفظ أقواله، وقد ذكر أيضاً هذا الأستاذ، وأومأت إلى أبي القاسم، وأبا الريان، وجماعة الحواشي.
فقال: ما قال في أبي القاسم؟

قلت: قال: إنه ابتاع من ورثة ابن بقية، ناحية الزاوية من راذان بأربعة آلاف درهم، بعد أن استأذنك استئذاناً سلك فيه سبيل السخرية والمغالطة، واستغلها في سنة واحدة، نيفاً على ثلاثين ألف درهم، وإنه أعطى فلاناً، وفلاناً، ثمانية آلاف درهم على ظاهر البضاعة والتجارة، فأعطياه نيفاً وستين ألف درهم.
فمات عند سماعه ذلك، وأوردت ما أوردته عنه، على ما ذكرني به.
قلت: وقال في أبي الريان كذا وكذا، لأمور ذكرتها.
وحضرت آخر النهار المجلس في ذلك اليوم على رسمي، فعاود التقريب لي، والإقبال علي.
واتفق أنه سكر في بعض الأيام، وولع بكنجك ولعاً قال لي فيه: وهذا من حديث أبي الفضل، وأشار إليه.
فقلق أبو الفضل، وقرب مني، وكنت أقعد، ويقوم، وقال لي: ما الذي أومأ إلي الملك فيه.
قلت: لا أدري، فسله أنت عنه.
ثم رحلنا عائدين إلى بغداد، فرآني الملك في الطريق، وعلي ثياب حسنة، وتحتي بغلة بمركب وجناغ جداد، فقال لي: من أين لك هذه البغلة؟.
قلت: حملني عليها الصاحب أبو القاسم، بمركبها وجناغها، وأعطاني عشرين قطعة ثياباً، وسبعة آلاف درهم.
فقال: هذا قليل مع ما تستحقه عليه.
فعلمت أنه اتهمني به، وبأني خرجت بهذا الحديث إليه، وما كنت حدثته به.
ووردنا إلى بغداد، فحكى لي أن الطائع متجاف عن ابنته المنقولة إليه، وأنه لم يقربها إلى تلك الغاية، فثقل ذلك عليه.
وقال لي: تمضي إلى الخليفة، وتقول له عن والدة الصبية: إنها مستزيدة لإقبال مولانا عليها، وإدنائه إليها، ويعود الأمر إلى ما يستقيم به الحال، ويزول معه الانقباض، فقد كنت وسيط هذه المصاهرة.
فقلت: السمع والطاعة، وعدت إلى داري، لألبس ثياب دار الخلافة، فاتفق أن زلقت، ووثئت رجلي، فانفذت إلى الملك أعرفه عذري في تأخري عن أمره، فلم يقبله، وأنفذ إلي يستعلم خبري.
فرأى الرسول لي غلماناً روقة وفرشاً جميلاً، فعاد إليه وقال له: هو متعالل، وليس بعليل، وشاهدته على صورة كذا وكذا، والناس يغشونه ويعودونه.
فاغتاظ غيظاً مجدداً، حرك ما في نفسي مني أولاً، فراسلني: بأن الزم بيتك ولا تخرج عنه، ولا تأذن لأحد في الدخول عليك فيه، إلا نفر من أصدقائي استأذنت فيهم، فاستثنى بهم.
ومضت الأيام، وأنفذ إلي أبو الريان، فطالبني بعشرة آلاف درهم، كنت استسلفتها من إقطاعي، فأديتها إليه.
واستمر علي السخط، والصرف عن الأعمال، إلى حين وفاة عضد الدولة.
أبو العباس النحوي يمدح أبا القاسم
التنوخي والد المؤلفأنشدني أبو القاسم التنوخي، عن أبيه، لأبي العباس النحوي، من قصيدة مدح بها جده أبا القاسم، أولها:
والجفون المضانيات المراض ... والثنايا يلحن بالإغماض
والعهود التي تلوح بها الص ... ف خلاف الصدود والإعراض
قد برتني الخطوب حتى نضتني ... حرضاً بالياً من الأحراض
وجدتني والدهر سلمي سليمى ... لم ينلني بنابه العضاض
بين برد من الشباب جديد ... ورداء من الصبا فضفاض
ومنها في المديح:
ومدير عرى الأمور برأي ... يقظ الحزم مبرم نقاض
دق معنى وجل قدراً فجادت ... في معانيه نهية الأغراض
وأنشد له أيضاً:
لو قد وجدت إلى شفائك منهجا ... جبت الصباح إليه أو حلك الدجى
لكن وجدتك لا يحيك العتب في ... ك ولا العتاب ولا المديح ولا الهجا
فاذهب سدى ما فيك شر يتقى ... يوماً وليس لديك خير يرتجى
وإذا امرؤٌ كانت خلائق نفسه ... هذه الخلائق فالنجا منه النجا
المفجع الشاعر يلاطف القاضي
أبا القاسم التنوخيدخل المفجع يوماً إلى القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي، فوجده يقرأ معاني الشعر على العبيسي، فأنشد:
قد قدم العجب على الرويس ... وشارف الوهد أبا قبيس
وطاول البقل فروع الميس ... وهبت العنز لقرع التيس
وادعت الروم أباً في قيس ... واختلط الناس اختلاط الحيس
إذ قرأ القاضي حليف الكيس ... معاني الشعر على العبيسي
وألقى ذلك إلى التنوخي، وانصرف.
المفجع الشاعر يعاتب القاضي


أبا القاسم التنوخيومدح المفجع، أبا القاسم التنوخي، فرأى منه جفاء، فكتب إليه:
لو أعرض الناس كلهم وأبوا ... لم ينقضوا رزقي الذي قسما
كان وداد فزال وانصرما ... وكان عهد فبان وانهدما
وقد صحبنا في عصرنا أمماً ... وقد فقدنا من قبلهم أمما
فما هلكنا هزلاً ولا ساخت الأر ... ض ولم تقطر السماء دما
في الله من كل هالك خلف ... لا يرهب الدهر من به اعتصما
حر ظننا به الجميل فما ... حقق ظناً ولا رعى الذمما
فكان ماذا؟ ما كل معتمد ... عليه يرعى الوفاء والكرما
غلطت والناس يغلطون وهل ... تعرف خلقاً من غلطة سلما
من ذا الذي أعطي السداد فلم ... يعرف بذنب ولم يزل قدما
شلت يدي لم جلست عن ثقة ... أكتب شجوي وأمتطي القلما
يا ليتني قبلها خرست فلم ... أعمل لساناً ولا فتحت فما
يا زلة ما أقلت عثرتها ... أبقت على القلب والحشى ألما
من راعه بالهوان صاحبه ... فعاد فيه فنفسه ظلما
من شعر أبي النضر الكنديحدثنا الببغاء قال: كان يجتمع معنا في خدمة سيف الدولة، شيخ من أهل الأدب، والتقدم في النحو، وعلم المنطق، ممن درس على الزجاج، وأخذ عنه، يكنى بأبي النضر، وهو محمد بن إسحاق بن أسباط الكندي المصري، وحكى أنه كان حسن الشعر.
وأخبرنا: أن الأبيات التي ينسبها قوم إلى أبي المغيرة، وآخرون إلى أبي نضلة - قلت أنا: وجدتها أنا، في ديوان أبي القاسم التنوخي، معزوة إلى أبي القاسم - وتروى لغيرهم أيضاً، أنها لأبي النضر، من قديم شعره، وأنشدها لنفسه، وهي:
وكأس من الشمس مخلوقة ... تضمنها قدح من نهار
هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جار
فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذا النهاية في الاحمرار
وما كان في الحكم أن يوحدا ... لفرط التنافي وفرط النفار
ولكن تجاور سطحاهما ال ... بسيطان فاجتمعا بالجوار
كأن المدير لها باليمين ... إذا طاف للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار
وقد أورد التنوخي هذه الحكاية، في كتاب النشوار، وحكى: أن أبا النضر، كان عالماً بالهندسة، قيماً بعلوم الأوائل.
ولأبي النضر أيضاً:
هات اسقني بالكبير وانتخب ... نافية للهموم والكرب
فلو تراني إذا انتشيت وقد ... حركت كفي بها من الطرب
لخلتني لابساً مشهرة ... من لازورد يشف عن ذهب
وقال أبو علي التنوخي: أنشدني أبو عمر بن حفص الخلال، لأبي النضر المصري النحوي من قصيدة، يذكر فيها رجلاً مدحه، وقال: وكان متسعاً في الشعر الجيد المستحسن:
ورأيت أحمدنا وسيدنا ... متصدراً للورد والصدر
خلت النجوم خلقن دائرة ... موصولة الطرفين بالقمر
أبو مسلم الأصبهاني
يكتب لمحمد بن زيد الداعيقال أبو علي التنوخي، وقد ذكر محمد بن زيد الداعي، فقال: وهو الذي كان أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني، الكاتب المعتزلي الشهير، العالم بالتفسير، وبغيره من صنوف العلم - وقد صار عامل أصبهان، وعامل فارس، للمقتدر - يكتب له، ويتولى أمره.
الصلت بن مالك الشاري يدعو الله
أن يوقف المطرحدث أبو علي المحسن، قال: حدثني أبو القاسم الحسن بن علي بن إبراهيم بن خلاد الشاهد العكبري، أمام الجامع فيها، قال: حدثني أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال: كنت بعُمان مع الصلت بن مالك الشاري، وكانت الشراة تدعوه: أمير المؤمنين.
وكانت السنة كثيرة الأمطار، ودامت على الناس، فكادت المنازل أن تتهدم، فاجتمع الناس، وصاروا إلى الصلت، وسألوه أن يدعو لهم.
فأجل بهم أن يركب من الغد إلى الصحراء، ويدعو.
فقال لي بكر لتخرج معي في غد، فبت مفكراً، كيف يدعو.

فلما أصبحت، خرجت معه، فصلى بهم، وخطب، ودعا، فقال: اللهم إنك أنعمت فأوفيت، وسقيت فأرويت، فعلى القيعان ومنابت الشجر، حيث النفع لا الضرر.
فاستحسنت ذلك منه.
من شعر ابن جمهور العميقال أبو علي التنوخي: كان محمد بن الحسن بن جمهور العمي الكاتب من شيوخ أهل الأدب بالبصرة، وكثير الملازمة لأبي، وحرر لي خطي، لما قويت على الكتابة، لأنه كان جيد الخط، حسن الترسل، كثير المصنفات لكتب الأدب، فكثرت ملازمتي له، وكان يمدح أبي.
فأنشدني لنفسه، وهو من مشهور شعره:
إذا تمنع صبري ... وضاق بالهجر صدري
ناديت والليل داج ... وقد خلوت بفكري
يا رب هب لي منه ... وصال يوم بعمري
وأنشدني أيضاً لنفسه:
كثرت عندي أياديك ... فجل الوصف عنها
فأحاطت بجميع الف ... هم حتى لم أبنها
فمتى ازددتك منها ... كنت كالناقض منها
إنه الله تبارك وتعالىأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثني أبي، قال: حدثن القاضي محمد بن صالح الهاشمي قال: حدثني القاضي أبو عمر، يعني محمد بن يوسف، وأبو عبد الله المحاملي القاضي وأبو الحسن علي بن العباس النوبختي، قالوا: حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن سليمان قال: كنت أكتب لموسى بن بغا، وكنا بالري، وكان قاضيها إذ ذاك أحمد بن بديل الكوفي.
فاحتاج موسى أن يجمع ضيعة كانت هناك، كانت له فيها سهام، وأن يعمرها، وكان فيها سهم ليتيم.
فصرت إلى أحمد بن بديل، أو قال: استحضرت أحمد بن بديل، وخاطبته في أن يبيع علينا حصة اليتيم، ويأخذ الثمن.
فامتنع، وقال: ما باليتيم حاجة للبيع، ولا آمن أن أبيع ماله وهو مستغن عنه، فيحدث على المال حادثة، فأكون قد ضيعته عليه.
فقلت: أنا أعطيك في ثمن حصته ضعف قيمتها.
فقال: ما هذا لي بعذر في البيع، والصورة في المال إذا كثر، مثلها إذا قل.
فأدرته بكل لون وهو يمتنع، فأضجرني، فقلت له: أيها القاضي، إلا تفعل، فإنه موسى بن بغا.
فقال لي: أعزك الله، إنه الله تبارك وتعالى.
قال: فاستحييت من الله أن أعاوده بعد ذلك، وفارقته.
ودخلت على موسى، فقال: ما عملت في أمر الضيعة؟ فقصصت عليه الحديث.
فلما سمع " إنه الله " بكى، وما زال يكررها.
ثم قال: لا تعرض لهذه الضيعة، وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح، فإن كانت له حاجة فاقضها.
قال: فأحضرته، وقلت له: إن الأمير قد أعفاك من أمر الضيعة، وذلك أني شرحت له ما جرى بيننا، وهو يعرض عليك قضاء حوائجك.
قال: فدعا له، وقال: هذا الفعل أحفظ لنعمته، وما لي حاجة إلا إدرار رزقي، فقد تأخر منذ شهور، وقد أضر بي.
فأطلقت له جارية.
بشرك الله بالنارحدثنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا القاضي أبو القاسم عمر بن محمد بن إبراهيم البجلي - من لفظه وحفظه - قال: حدثنا محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، قال: كنت بسر من رأى، وكان عبد الله بن أيوب المخرمي يقرب إلي، فخرج توقيع الخليفة بتقليده القضاء، فانحدرت في الحال من سر من رأى إلى بغداد، حتى دققت على عبد الله بن أيوب، بابه، فخرج إلي.
فقلت: لك البشرى.
فقال: بشرك الله بخير، وما هي؟ قال: قلت: خرج توقيع السلطان بتقليدك القضاء، لأحد البلدين، إما سر من رأى، أو بغداد - أبو القاسم البجلي الشك منه - .
قال: فأطبق الباب، وقال: بشرك الله بالنار.
وجاء أصحاب السلطان إليه، فلم يظهر لهم، فانصرفوا.
أبو بكر الآدمي القاريء
يقرأ لابن أبي الساجأنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو السري عمر بن محمد القاريء، قال: حدثني أبو بكر الآدمي، قال: لما أدخل مؤنس، أبا القاسم بن أبي الساج أسيراً، خرجت إلى تلقيه على فراسخ، ودخلت بغداد معه.
فقال لي لما قربنا: إذا كان غداً، فإني سأركب مع ابن أبي الساج وأشهره، فاركب بين يديه، واقرأ.
فقلت: السمع والطاعة.
فلما كان من الغد شهر ابن أبي الساج ببرنس، فبدأت، فقرأت، " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " وأتبعتها بكل ما في القرآن من هذا الجنس.

قال: وحانت مني التفاتة، فوجدت ابن أبي الساج يبكي.
ومضى ذلك اليوم.
فلما كان بعد أيام، رضي عنه السلطان، بشفاعة مؤنس، فأطلقه إلى داره.
فأنا كنت يوماً بحضرة مؤنس أقرأ، إذ استدعاني وقال لي: قد طلبك اليوم ابن أبي الساج، فامض إليه.
فقلت: أيها الأستاذ، الله، الله، في، لعله وجد في نفسه من قراءتي ذلك اليوم.
فضحك، وقال: امض إليه.
فمضيت إليه، فرفعني، وأجلسني، وقال: أحب أن تقرأ تلك الآيات التي قرأتها بين يدي يوم كذا.
فقلت: أيها الأمير، تلك حالة اقتضت ذلك، وليس مثلك بمؤاخذ مثلي عليها، وقد كشفها الله الآن، ولكن أقرأ لك غيرها.
فقال: لا، إلا تلك، فإنه تداخلني لها خشوع وخوف، أحب أن أكسر به نفسي، فردد سماعها علي.
قال: فاستفتحت، فقرأتها، فما زال يبكي وينتحب، إلى أن قطعت القراءة.
ثم قال: تقدم إلي.
فخفته والله أن يبطش بي، ثم قلت في نفسي: هذا محال، فتقدمت، فأخرج من تحت مصلاه دنانير كثيرة، وقال: افتح فاك.
ففتحته بكل ما استطعته، فما زال يملأه حتى لم يبق في فمي موضع.
ثم قال للغلام: هات، فجاء بكيس في ألفا درهم، فجعلها في كمي.
ثم خرجت، فقدمت إلي بغلة فارهة مسرجة، فحملت عليها، وأصحبني ثياباً، وقال: إذا شئت فعد إلينا، ولا تنقطع عنا، ما دمنا مقيمين.
فكنت أجيئه في كل أسبوع أقرأ في داره، فيعطيني في كل شهر مائة دينار، إلى أن خرج من مدينة السلام.
إبراهيم بن شبابة يشكو فلا يجابأنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، عن علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني عبد الله بن أبي نصر المروزي، قال: حدثني محمد بن عبد الله الطلحي، قال: حدثني سليمان بن يحيى بن معاذ، قال: قدم على نيسابور إبراهيم بن شبابه الشاعر البصري، فأنزلته علي، فجاء ليلة من الليالي، وهو مكروب قد هاج، فجعل يصيح بي: يا أبا أيوب.
فخشيت أن يكون قد غشيته بلية، فقلت: ما تشاء؟ فقال: أعياني الشادن الربيب.
فقلت: بماذا؟ فقال: إليه أشكو فلا يجيب.
فقلت: داره وداوه.
فقال:
من أين أبغي دواء دائي ... وإنما دائي الطبيب
فقلت: إذن يفرج الله عز وجل.
فقال:
يا رب فرج إذن وعجل ... فإنك السامع المجيب
قال: ثم انصرف.
عضد الدولة وإيمانه بالمناماتحدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي، قال: حدثني عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو ببغداد، وذلك في سنة 370 قال: حدثتني أمي رحمها الله: أنها ولدت للأمير ركن الدولة، ولداً قبلي، كناه أبا دلف، وعاش قليلاً ومضى لسبيله.
قالت: فحزنت عليه حزناً شديداً، أسفاً على فقده، وإشفاقاً من أن ينقطع ما بيني وبين الأمير بعده.
فسلاني مولاي، وسكنني، وأقبل علي، وقربني، ومضت الأيام، وتطاول العهد، وسلوت.
ثم حملت بك، بأصبهان، فخفت أن أجيء ببنت، فلا أرى مولاي، ولا يراني، لما أعرف من كراهيته للبنات، وضيق صدره بهن، وطول إعراضه عنهن، ولم أزل على جملة القلق والجزع، إلى أن دخلت في شهري، وقرب ما أترقبه من أمري، وأقبلت على البكاء والدعاء، ومداومة الصلاة والأدعية إلى الله، في أن يجعله ولداً، ذكراً، سوياً، محظوظاً.
ثم حضرت أيامي، واتفق أن غلبني النوم، فنمت في مخادعي، ورأيت في منامي، رجلاً شيخاً، نظيف البزة، ربعة، كث اللحية، أعين، عريض الأكتاف، وقد دخل علي، وعندي أنه مولاي ركن الدولة، فلما تبينت صورته ارتعت منه، وقلت: يا جواري، من هذا الهاجم علينا؟ فتساعين إليه، فزبرهن، وقال: أنا علي بن أبي طالب.
فنهضت إليه، وقبلت الأرض بين يديه، فقال: لا. لا.
وقلت: قد ترى يا مولاي ما أنا فيه، فادع الله لي بأن يكشفه، ويهب لي ذكراً سوياً محظوظاً.

فقال: يا فلانة، وسماني باسمي - وكذا كنى الملك عضد الدولة عن الاسم - قد فرغ الله مما ذكرت، وستلدين ذكراً، سوياً، نجيباً، ذكياً، عاقلاً، فاضلاً، جليل القدر، سائر الذكر، عظيم الصولة، شديد السطوة، يملك بلاد فارس وكرمان، والبحر وعمان، والعراق والجزيرة، إلى حلب، ويسوس الناس كافة، ويقودهم إلى طاعته بالرغبة والرهبة، ويجمع الأعمال الكثيرة، ويقهر الأعداء، ويقول بجميع ما أنا فيه - يقول الملك ذاك - ويعيش كذا وكذا سنة، لعمر طويل، أرجو بلوغه - ولم يبين الملك قدره - ويملك ولده من بعده، فيكون حالهم كذا وكذا لشيء طويل، هذه حكاية لفظه.
قال الملك عضد الدولة: وكلما ذكرت هذا المنام، وتأملت أمري، وجدته موافقاً له حرفاً بحرف.
ومضت على ذلك السنون، ودعاني عمي عماد الدولة إلى فارس، واستخلفني عليها، وصرت رجلاً، وماتت أمي.
واعتللت علة صعبة، أيست فيها من نفسي، وأيس الطبيب مني، وكانت سنتي المتحولة فيها، سنة رديئة الدلائل، موحشة الشواهد، وبلغت إلى حد أمرت فيه، بأن يحجب الناس عني، حتى الطبيب، لضجري بهم، وتبرمي بأمورهم، وما أحتاج إلى شرحه لهم، ولا يصل إلي إلا حاجب النوبة.
وبينما أنا على ذلك، وقد مضت علي فيه ثلاثة أيام، أو أربعة، ولا شغل لي إلا البكاء على نفسي، والحسرة على مفارقة الحياة، إذ دخل حاجب النوبة، فقال: أبو الحسين الصوفي في الدار، منذ الغداة، يسأل الوصول، وقد اجتهدت به في الانصراف، فأبى إلا القعود، وترك القبول، وهو يقول: لا بد لي من لقاء مولانا، فإن عندي بشارة، ولا يجوز أن يتأخر وقوفه عليها، وسماعه إياها، فلم أحب أن أجد به في المنع والصرف، إلا بعد المطالعة وخروج الأمر.
فقلت له - على مضض غالب، وبصوت خافت - قل له: كأنني بك، وأنت تقول قد بلغ الكوكب الفلاني، إلى الموضع الفلاني، وتهذي علي في هذا المعنى، هذياناً لا يتسع له صدري، ولا يحتمله قلبي وجسمي، وما أقدر على سماع ما عندك، فانصرف.
فخرج الحاجب، وعاد متعجباً، وقال: إما أن يكون أبو الحسين قد اختل، وإما أن يكون عنده أمر عظيم، فإني أعدت عليه ما قاله مولانا، فقال: ارجع، وقل له: والله، لو أمرت بضرب رقبتي، لما انصرفت أو أراك، ومتى أوردت عليك في معنى النجوم حرفاً، فحكمك ماض في، وإذا سمعت ما أحدثك به، عوفيت في الوقت، وزال ما تجده.
فعجبت من هذا القول، عجباً شديداً، مع علمي بعقل أبي الحسين، وشدة تحقيقه، وقلة تحريفه، وتطلعت نفسي إلى ما عنده، فقلت: هاته.
فلما دخل، قبل الأرض، وبكى، وقال: أنت والله يا مولاي في عافية، ولا خوف عليك، اليوم تبل، وتستقل، ومعي دلالة على ذلك.
قلت: وما هي؟ ولم أكن حدثته من قبل بحديث المنام الذي رأته أمي، ولا سمعه أحد مني.
فقال: رأيت البارحة في منامي، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والناس يهرعون إليه، ويجتمعون عليه، ويفاوضونه أمورهم، ويسألونه حوائجهم، وكأني تقدمت إليه، وقلت له: يا أمير المؤمنين، أنا رجل في هذا البلد غريب، تركت نعمتي وتجارتي بالري، وتعلقت بخدمة هذا الأمير الذي أنا معه، وقد بلغ في علته، إلى حد آيس فيه من عافيته، وأخاف أن أهلك بهلاكه، فادع الله له بالسلامة، قال: تعني فناخسرو بن الحسن بن بويه؟ فقلت: نعم، يا أمير المؤمنين.
فقال: امض إليه غداً، وقل له: أنسيت ما أخبرتك به أمك عني في المنام الذي رأته وهي حامل بك؟ ألم أخبرها مدة عمرك، وأنك ستعتل إذا بلغت كذا وكذا سنة، علة يأيس فيها منك اهلك، وطبك، ثم تبرأ منها؟ وفي غد يبتديء برؤك، ويتزايد إلى أن تركب، وتعود إلى عاداتك كلها، في كذا وكذا يوماً، ولا قاطع على أجلك إلى الوقت الذي أخبرتك به أمك عني.
قال الملك عضد الدولة: وقد كنت أنسيت أن أمي ذكرت ذلك في المنام، وأني إذا بلغت هذه السنة من عمري، اعتللت هذه العلة التي ذكرها، فذكرت ذلك عند قول أبي الحسين ما قاله.
فحين سمعت ما سمعت، حدثت لي في الحال قوة نفس لم تكن من قبل وقلت: أقعدوني.
فجاء الغلمان وأجلسوني.
فلما استقللت على الفراش، وقلت لأبي الحسين: اجلس، وأعد الحديث.

فجلس، وأعاد، وتولدت بي شهوة الطعام، واستدعيت الطب، فأشاروا بتناول غداء عمل، في الوقت، وأكلته، ولم يتصرم الوقت، حتى أحسست بالصلاح الكثير، وتدرجت العافية، فركبت، وعاودت عاداتي، في اليوم الذي قاله أبو الحسين.
وكان الملك يشرح هذا الشرح، وأبو الحسين حاضر، يقول: كذا والله قلت لمولانا، وأعيذه بالله، فما أحسن حفظه وذكره.
ثم قال لي: بقي في نفسي من هذا المنام شيء.
قلت: يبلغ الله مولانا آماله، ويزيل عنه كل ما يهوله، ويصرم عنه كل ما يخشاه.
ولم أتجاوز الدعاء، لعلمي بأن سؤاله عن ذلك، سوء أدب، فعلم ما في نفسي، وقال: وقوفه على أنني أملك حلب، ولو كان عنده أنني أتجاوزها، لقال، حتى أنه لما ورد الخبر بإقامة ابن شيخ الدعوة لي بها، ذكرت المنام فتنغص علي أمرها، إشفاقاً من أن تكون آخر حدود مملكتي في ذلك الصقع.
فدعوت له، وانقطع المجلس.
أبو العلاء الكاتب ووفاؤه للمهلبيوروي أيضاً عن أبي علي التنوخي، والحكاية التي وردت في إرشاد الأريب، وقال أيضاً: وكان المهلبي، قد اصطنع أبا العلاء، عيسى بن الحسين بن أبرونا النصراني الكاتب، واستكتبه على خاصته، وأطلعه على أموال وذخائر دفنها.
فأخذ أبو العلاء في جملة المأخوذين، وعوقب أشد عقوبة، وضرب أبرح ضرب، وهو لا يقر بشيء، ولا يعترف بذخيرة.
فعدل أبو الفضل، وهو العباس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفرج وهو محمد بن العباس بن الحسين بن فسانجس إلى تجني وهي أم أبي الغنائم الفضل بن الوزير المهلبي، وأمرا بضرب ابنها أبي الغنائم بين يديها.
فبكى من عرفها من الذي يتم عليها، وقالت لهم: إن مولاي المهلبي فعل هذا بي، حين استدعى آلات العقوبة لزوجة أبي علي الطبري، لما قبض عليها بعد وفاته.
ثم قالت: أحضروني أبا العلاء بن أبرونا، فأحضروه، وحمل في سبنية بين أربع فراشين، فطرح بين يديها.
فجعلت تسأله عن شيء شيء، وهو يخبرها بمكانه، حتى كان في جملة ذلك ثلاثون ألف دينار.
فقال له من حضر: ويلك، ألست من الآدميين، تقتل هذا القتل، ويفضي حالك إلى التلف، وأنت لا تعترف.
فقال: يا سبحان الله، أكون ابن أبرونا الطبيب الفصاد على الطريق، بدانق ونصف دانق، يأخذني الوزير أبو محمد، ويصطنعني، ويجعلني كاتب سره، وأعرف بخدمته، وأطلع الناس على ذخيرة ذخرها لولده؟ والله ما كنت لأفعل هذا ولو هلكت.
فاستحسن فعله، وكان ذلك سبباً لإطلاقه، وتقدم بذلك عند أبي الفضل، وأبي الفرج، وابن بقية.
وتوفي سنة 369 في أيام عضد الدولة.
المعتضد والملاح القاتلأنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، عن جده، قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، قال: حدث أحد خدم المعتضد المختصين بخدمته، قال: كنا حول سرير المعتضد، ذات يوم نصف النهار، وقد نام بعد أن أكل، وكان رسمنا أن نكون عند سريره، أوقات منامه، من ليل أو نهار.
فانتبه منزعجاً، وقال: يا خدم، يا خدم.
فأسرعنا الجواب.
فقال: ويلكم، أعينوني، والحقوا الشط، فأول من ترونه منحدراً في سفينة فارغة، فاقبضوا عليه، وجيئوني به، ووكلوا بسفينته.
فأسرعنا، فوجدنا ملاحاً في سميرية، فأصعدناه، فحين رآه الملاح، كاد يتلف.
فصاح عليه صيحة واحدة عظيمة، كادت روحه تخرج معها، قال: أصدقني يا ملعون، عن قصتك مع المرأة التي قتلتها وسلبتها اليوم، وإلا ضربت عنقك.
قال: فتلعثم، وقال: نعم، كنت اليوم سحراً في المشرعة الفلانية فنزلت امرأة لم أر مثلها، عليها ثياب فاخرة، وحلي كثيرة، فطمعت فيها، واحتلت عليها، حتى سددت فاها، وغرقتها، وأخذت جميع ما كان عليها، ولم أجتريء على حمل سلبها إلى بيتي، لئلا يفشو الخبر، فعملت على الهرب، وانحدرت الساعة، لأمضي إلى واسط، فعوقني هؤلاء الخدم، وحملوني.
فقال: وأين الحلي والسلب؟ فقال: في صدر السفينة تحت البواري.
فقال المعتضد للخدم: جيئوني به، فمضوا، وأحضروه.
وقال: خذوا الملاح فغرقوه، ففعلوا.
ثم أمر أن ينادى في بغداد كلها، على امرأة خرجت إلى المشرعة الفلانية سحراً، وعليها ثياب وحلي، يحضر من يعرفها، ويعطي صفة ما كان عليها ويأخذه، فقد تلفت المرأة.
فحضر في اليوم الثاني، أو الثالث، أهل المرأة، فأعطوه صفة ما كان عليها، فسلم إليهم.
فقلنا: يا مولاي أوحي إليك؟

فقال: رأيت في منامي كأن شيخاً أبيض الرأس واللحية والثياب، وهو ينادي: يا أحمد خذ أول ملاح ينحدر الساعة، فاقبض عليه، وقرره خبر المرأة التي قتلها اليوم، وسلبها، وأقم عليه الحد.
فكان ما شهدتم.
المدائني يثني على إسحاق الموصليوأخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا عمر بن محمد بن سيف - إجازة - وحدثنا أحمد بن عبد الله الدوري الوراق، عنه، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني أحمد بن زهير بن حرب، قال: كان أبي، ويحيى بن معين، ومصعب الزبيري يجلسون بالعشيات على باب مصعب، قال: فمر عشية من العشيات، رجل على حمار فاره، وبزة حسنة، فسلم، وخص بمسألته يحيى بن معين.
فقال له يحيى: إلى أين يا أبا الحسن؟ فقال: إلى هذا الكريم الذي يملأ كمي من أعلاه إلى أسفله دنانير ودراهم.
فقال: ومن هو يا أبا الحسن؟ فقال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
قال: فلما ولى، قال يحيى بن معين: ثقة، ثقة، ثقة.
قال: فسألت أبي، فقلت: من هذا الرجل؟ قال: المدائني.
لو رضيته لما بعتهأخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن عيسى بن علي الرماني، قال: حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا العكلي، قال: حدثني شيخ من أهل البصرة، قال: رأيت محمد بن واسع الأزدي، بسوق مرو، يعرض حماراً.
فقال له رجل: يا عبد الله، أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لما بعته.
أبو سعيد القرمطي يبعث برسالة إلى المتعضدأنبأنا محمد بن أبي ظاهر، قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، قال: سمعت العباس بن عمرو الغنوي يقول: لما أسرني أبو سعيد القرمطي، وأسر العسكر الذي كان بعثه معي المعتضد إلى قتاله، وحصلت في يده، يئست من الحياة.
فأنا يوماً على هذه الصورة، إذ جاءني رسوله، فأخذ قيودي، وغير ثيابي، وأدخلني إليه، فسلمت عليه، وجلست.
فقال: أتدري لم استدعيتك؟ قلت: لا.
قال: أنت رجل عربي، ومن المحال إذا استودعتك أمانة أن تخفرها.
قلت: هو كذلك.
فقال: إني فكرت، فإذا لا طائل في قتلك، وفي نفسي رسالة إلى المعتضد، لا يجوز أن يؤديها غيرك، فرأيت إطلاقك، وتحميلك إياها، وإن حلفت أنك إذا سيرتك إليه، تؤديها.
فحلفت له.
فقال: قل للمعتضد، يا هذا، لم تخرق هيبتك، وتقتل رجالك، وتطمع أعداءك في نفسك، وتبعث في طلبي الجيوش، وأنا رجل مقيم في فلاة، لا زرع فيها ولا ضرع، وقد رضيت لنفسي بخشونة العيش، والعز بأطراف هذه الرماح، وما اغتصبتك بلداً، ولا أزلت سلطانك عن عملك، ومع هذا، فوالله، لو أنفذت إلي جيشك كله، ما جاز أن يظفر بي، لأني رجل نشأت في العسف فاعتدته، أنا ورجالي، لا مشقة علينا فيه، وأنت تنفذ جيوشك من الخيوش والثلج والريحان، فيجيئون من المسافة البعيدة الشاقة، وقد قتلهم السفر قبل قتالنا، وإنما غرضهم أن يبلغوا غرضاً من موفقتنا ساعة، ثم يهربون، وإن هم هزموني، بعدت عشرين فرسخاً، أو ثلاثين، وجلت في الصحراء شهراً أو شهرين، ثم كبستهم على غرة، فقتلتهم، وإن كانوا محترسين، فما يمكنهم أن يطوفوا خلفي في الصحاري، ولا تحملهم الإقامة في أماكنهم، فأنت تنفق الأموال، وتكلف الرجال الأخطار، وأنا سليم من ذلك، وهيبتك تنخرق في الأطراف، كلما جرى عليك هذا، فإن اخترت بعد هذا محاربتي فاستخر الله، وإن أمسكت، فذاك إليك.
ثم سيرني، وأنفذ معي عدة إلى الكوفة، وسرت منها إلى الحضرة. ودخلت على المعتضد، فأخبرته بما قال، في خلوة، فرأيته يتمعط في جلده غيظاً، حتى ظننت أنه سيسير إليه بنفسه، وخرجت.
فما رأيته بعد ذلك ذكره.
الوزير عبيد الله بن خاقان يقلد
علي بن محمد قضاء القضاةأخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما مات إسماعيل بن إسحاق، مكثت بغداد بغير قاض، ثلاثة أشهر، وستة عشر يوماً، فاستقضي في يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين، علي بن محمد بن عبد الملك، على قضاء المدينة، مضافاً إلى ما كان يتقلده من القضاء بسر من رأى وأعمالها.
قال: وقبل هذا كان أخوه الحسن على قضاء القضاة بسر من رأى في أيام المعتز والمهتدي.

فلما توفي الحسن، وجه المعتمد بعبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى علي بن محمد، فعزاه بأخيه، وهنأه بالقضاء، فامتنع من قبول ذلك.
فلم يبرح الوزير عبيد الله من عنده حتى قبل، وتقلد قضاء القضاة، ومكث يدعى بذلك، إلى أن توفي.
وهو رجل صالح، ضيق الستر، عظيم الخطر، ثقة، أمين، على طريق الشيوخ المتقدمين، حمل الناس عنه حديثاً كثيراً.
ابن أبي زيد يثني على علي بن عيسى الربعيسمعت التنوخي يقول: كان أبو علي، يقول: سمعت ابن أبي زيد - وكان ابن أخت أبي علي الفارسي النحوي - يقول: قولوا لعلي البغدادي: لو سرت من الشرق إلى الغرب، لم تجد أنحى منك.
أبو خازم القاضي وشدته في الحكمأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، قال: قال لي ابن حبيب الذراع: كنا ونحن أحداث مع أبي خازم، وكنا نقعده قاضياً، ونتقدم إليه في الخصومات.
قال: فما مضت الأيام والليالي، حتى صار قاضياً.
قال أبو الحسين: وبلغ من شدته في الحكم، أن المعتضد، وجه إليه بطريف المخلدي، فقال له: إن لي على الضبعي - بيع كان للمعتضد ولغيره - مالاً، وقد بلغني أن غرماءه، أثبتوا عندك، وقد قسطت لهم في ماله، فاجعلنا كأحدهم.
فقال له أبو خازم: قل له: أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - ذاكر لما قال لي وقت ما قلدني، أنه قد أخرج الأمر من عنقه، وجعله في عنقي، ولا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة.
فرجع إليه طريف، فأخبره.
فقال: قل له فلان وفلان يشهدان، يعني رجلين جليلين كانا في ذلك الوقت.
فقال: يشهدان عندي، واسأل عنهما، فإن زكيا، قبلت شهادتهما، وإلا أمضيت ما ثبت عندي.
فامتنع أولئك من الشهادة، فزعاً.
ولم يدفع إلى المعتضد شيئاً.
أبو خازم القاضي أدب شخصاً
فمات فوداه من بيت المالأخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا التنوخي قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو الفرج طاهر بن محمد الصلحي، قال: حدثني القاضي أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر، قال: بلغني أن أبا خازم القاضي جلس في الشرقية، وهو قاضيها، للحكم، فارتفع إليه خصمان، فاجترأ أحدهما بحضرته إلى ما يوجب التأديب، فأدب، فمات في الحال.
فكتب إلى المعتضد من المجلس: أعلم أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، أن خصمين، حضراني، فاجترأ أحدهما إلى ما وجب عليه معه الأدب عندي، فأمرت بتأديبه، فمات.
فإذ كان المراد بتأديبه، مصلحة المسلمين، فمات في الأدب، فديته واجبة في بيت مال المسلمين.
فإن رأى أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، أن يأمر بحمل الدية، لأحملها إلى ورثته، فعل.
فعاد الجواب إليه: بأنا قد أمرنا بحمل الدية إليك، وحمل إليه عشرة آلاف درهم.
فأحضر ورثة المتوفى، ودفعها إليهم.
القاضي أبو الحسن بن أبي الشوارب
يتقلب بين التولية والعزلأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استخلف المستكفي بالله في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، واستقضى على مدينة المنصور والشرقية أبا الحسن محمد بن الحسن بن أبي الشوارب.
وذكر طلحة: أنه كان رجلاً واسع الأخلاق، كريماً، جواداً، طلابة للحديث، قال: ثم قبض عليه في صفر سنة أربع وثلاثين.
فلما كان في رجب في هذه السنة، قبض على المستكفي بالله واستخلف المطيع، فقلد أبا الحسن الشرقية والحرمين واليمن ومصر وسر من رأى وقطعة من أعمال السواد وبعض أعمال الشام وسقي الفرات وواسط.
ثم صرف عن جميع ذلك في رجب سنة خمس وثلاثين.
قاض متهم بالاسترشاءأخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أنبأنا إبراهيم بن مخلد، قال: أخبرنا إسماعيل، عن علي بن أبي علي، قال: عزل محمد بن الحسن بن أبي الشوارب عن جميع ما كان يتقلده من أمر القضاء، وأمر المستكفي بالقبض عليه، ففعل ذلك يوم الثلاثاء لخمس خلون من صفر سنة أربع وثلاثين، وكان قبيح الذكر فيما يتولاه من الأعمال، منسوباً إلى الاسترشاء في الأحكام، والعمل فيها بما لا يجوز، وقد شاع ذلك عنه، وكثر الحديث به.


الناشيء يشغف برقيبةحدثنا علي بن أبي علي - لفظاً - قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثني الصولي، قال: حدثني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: اجتمع عندي أحمد بن أبي طاهر، والناشيء، ومحمد بن عروس، فدعوت لهم مغنية، فجاءت ومعها رقيبة لم ير الناس أحسن منها قط.
فلما شربوا، أخذ الناشيء رقعة، وكتب فيها:
فديتك لو أنهم أنصفو ... ك لردوا النواظر عن ناظريك
تردين أعيننا عن سوا ... ك وهل تنظر العين إلا إليك
وهم جعلوك رقيباً علي ... نا فمن ذا يكون رقيباً عليك
ألم يقرأوا ويحهم ما يرو ... ن من وحي حسنك في وجنتيك
قال: فشغفنا بالأبيات.
فقال ابن أبي طاهر: أحسنت - والله - وأجملت، قد والله حسدتك على هذه الأبيات، والله، لا جلست.
وقام، وخرج.
المقتدر والقرية الفضيةأنبأنا محمد بن أبي طاهر، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون، قال: حدثني أبي، قال: كان ابن عمي أبو القاسم يوسف بن يحيى بن علي، حسن الإقبال، محظوظاً.
وكانت له داية تسمى نظم، فخدمت السيدة أم المقتدر، واختصت بها، حتى صارت إحدى قهارمتها، التي تجري على يديها الصغير والكبير، فرفعت أبا القاسم، وانتهت به إلى أسنى الأرزاق، وأوسع الأحوال، وأخرجت له الصلات، حتى تأثلت حاله بذلك، وصار صاحب عشرات ألوف دنانير، وخلطته بخدمة السيدة.
فعزم أبو القاسم على تطهير ابنه، فأنفق في وليمته ما لم يسمع بمثله، حتى إنه أفرد عدة دور للحلواء، وعدة دور للفاكهة، وأنفق ألوف دنانير.
وبلغ نظماً خبره، فجاءته من عند السيدة بأموال عظيمة، معونة له على التطهير، وحملت له من عندها، من الفرش والآنية، والثياب، والمخروط بألوف.
فلما مضت أيام، قالت لها: يا نظم، أيش خبر طهر ابن يوسف؟ قالت: يا ستي، قد بقيت له أشياء يريدها.
فقالت: خذي ما تريدين، واحمليه إليه.
فجاءت نظم إليه، فقالت: إن كان شيء قد بقي في نفسك، فعرفني.
فقال لها: الطهر غداً، وما بقي في نفسي شيء إلا وقد بلغته بك، وقد بقي في نفسي شيء، لست أجسر على مسألته.
فقالت: قل ما في نفسك، فإن أمكن، وإلا ليس يضرك.
فقال: أشتهي، إعارة القرية الفضية، التي عملت لأمير المؤمنين، ليراها الناس في داري، ويشاهدون ما لم يشاهدوا مثله، فيعلمون حالي من الاختصاص والعناية.
فوجمت، وقالت: هذا شيء عمله الخليفة لنفسه، ومقداره عظيم، وفي هذه القرية، مئين ألف دراهم، ولا أحسب جاهي يبلغ إليها، وكيف يستعار من خليفة شيء، ومتى سمع بخليفة يعير، ولكن أنا أسأل السيدة في هذا، فإن كان مما يجوز، وإلا عرفتك، ومضت.
فلما كان الليل، جاءتني، وقالت: إن إقبالك قد بلغ إلى أن تحمد الله عليه.
فقلت: ما الخبر؟.
فقالت: كل ما تحب، قد جئتك بالقرية هبة لا عارية، وجئتك معها بصلة ابتدأك بها أمير المؤمنين من غير مسألة من أحد.
فقلت: ما الخبر؟ قالت: مضيت، وأنا منكسرة القلب، آيسة من أن يتم هذا، فدخلت على هيأتي تلك على السيدة.
فقالت: من أين؟.
قلت: من عند عبدك يوسف، وهو على أن يطهر ابنه غداً.
قالت: أراك منكسرة.
قلت: ببقائك، ما أنا منكسرة.
قالت: ففي وجهك حديث، فقلت: خير.
قالت: بحياتي، ما ذاك؟ قلت: قد شكر ما عومل به، ودعا، وقال: إني كنت أحب أن أتشرف بما لم يتشرف به أحد قبلي، ليعلم موضعي من الخدمة.
قالت: وما هو؟ قلت: يسأل أن يعار القرية ليتجمل بها، ويردها في غد.
فأمسكت، ثم قالت: هذا شيء عمله الخليفة لنفسه، كيف يحسن أن يرى في دار غيره؟ وهذا فضيحة، وليس يجوز أن أسأله هبتها له، لأني لا أدري هل ملها وشبع منها، أم لا، فإن كان قد ملها، فقيمتها أهون عليه، من أن يفكر في إعارتها، وإن كان لم يملها لم آمن أن أفجعه بها، وسأسبر ما عنده في هذا.
ثم دعت بجارية، فقالت: اعرفوا خبر الخليفة.
فقيل لها: هو عند فلانة.
فقالت: تعالي معي، وقامت، وأنا معها، وعدة جوار حتى دخلت.
وكانت عادته إذا رآها أن يقوم لها قائماً، ويعانقها، ويقبل رأسها، ويجلسها معه في دسته.

قالت: فحين رآها، قام، وأجلسها معه، وقال: يا ستي - وهكذا كان يخاطبها - ليس هذا من أوقات تفضلك وزيارتك.
فقالت: ليس من أوقاتي.
ثم حدثته ساعة، وقالت: يا نظم، متى عزم ابنك يوسف، على تطهير ابنه؟ قلت: غداً يا ستي.
فقال الخليفة: يا ستي إذا كان يحتاج إلى شيء آخر، أمرت به.
فقالت: هو مستكف، داع، ولكن قد التمس شيئاً، ما أستحسن خطابك فيه، قال: أريد أن أشرف على أهل المملكة كلهم، ويرى عندي ما لم ير في العالم مثله.
قال: وما هو؟ قالت: يا سيدي، يلتمس أن تعيره القرية، فإذا رآها الناس عنده، ارتجعت.
فقال: يا ستي، والله هذه ظريفة، يستعير خادم لنا شيئاً، وتكونين أنت شفيعه، فأعيره، ثم أرتجعه؟ هذا من عمل العوام، لا الخلفاء، ولكن إذا كان محله من رأيك هذا، حتى حملت نفسك على خطابي فيه، وتجشمت زيارتي، وأنا أعلم أنه ليس من أوقات زيارتك، فقد وهبت له القرية، فمري بحملها، بجميع آلاتها إليه، وقد رأيت أن أشرفه بشيء آخر.
قالت: وما هو؟ قال: يحمل إليه من غداً جميع وظائفنا، ولا يطبخ لنا شيء البتة، بل يوفر عليه، ويؤخذ لنا سمك طري فقط.
فأمرت بنقل القرية، وقالت: قولي ليوسف، ما تصنع بالوظيفة؟.
فقال: والله ما أحتاج إلى ملح إلا وقد حصلته، فإن حملت إلي، لم أنتفع بها، فخذي لي ثمنها من الوكلاء، فأخذت، وكان مبلغ ذلك ألف وخمسمائة دينار، وهي وظيفة كل يوم.
وقالت: اقتصر الخليفة لأجلك اليوم على السمك، فاشتري له سمك بثلثمائة دينار.
وكانت القرية، على صفة قرية، فيها مثال البقر والغنم والجمال والجواميس والأشجار والنبات والمساحي والناس، وكل ما يكون في القرى.
ما هو حد السكر؟
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا علي بن أبي علي القاضي، قال: حدثنا أبو الحسن الداودي، قال: لما جلس محمد بن داود بن علي الأصبهاني، في حلقة أبيه بعد وفاته، بفتي، استصغروه عن ذلك، فدسوا إليه رجلاً، وقالوا: سله عن حد السكر ما هو؟ فأتاه الرجل، فسأله عن حد السكر ما هو؟ ومتى يكون الإنسان سكراناً؟ فقال محمد: إذا عزبت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم.
فاستحسن ذلك منه، وعلم موضعه من العلم.
القاضي ابن أبي الشوارب
يصاب بالفالج فيخلفه ابنهأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لم يزل عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، والياً على القضاء بالجانب الشرقي من بغداد، وعلى الكرخ أيضاً، من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، إلى ليلة السبت لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين، فإن الفالج ضربه فيها، فأسكت، فاستخلف له ابنه محمد على عمله كله في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين، وكان سرياً جميلاً، واسع الأخلاق، ولم تكن له خشونة، فاضطربت الأمور بنظره، ولبست عليه في أكثر أحواله، وكانت أمور السلطان كلها قد اضطربت، ولم يزل على خلافة أبيه إلى سنة إحدى وثلثمائة، وتوفي.
ابن الراونديقال القاضي أبو علي التنوخي: كان أبو الحسين بن الراوندي، يلازم أهل الإلحاد، فإذا عوتب في ذلك، قال: إنما أريد أن أعرف مذاهبهم، ثم إنه كاشف، وناظر.
ويقال: إن أباه كان يهودياً، فأسلم.
وكان بعض اليهود يقول لبعض المسلمين: لا يفسدن عليكم هذا كتابكم. كما أفسد أبوه التوراة علينا.
ويقال: إن أبا الحسين، قال لليهود: قولوا إن موسى قال: لا نبي بعدي.
القاضي أبو خليفة واللصقرأت في كتاب هراة، للفامي قال: روي عن محمد بن إبراهيم بن عبد ربه بن سدوس بن علي أبي عبد الله المسندي، أنه قال: كنا عند أبي خليفة القاضي بالبصرة، فدخل عليه اللص داره، فصاح ابنه باللص، فخرج أبو خليفة إلى صحن الدار، فقال: أيها اللص، ما لك، وما لنا، إن أردت المال فعليك بفلان، وفلان، إنما عندنا قمطران، قمطر فيه أحاديث، وقمطر فيه أخبار، إن أردت الحديث، حدثناك عن أبي الوليد الطيالسي وأبي عمر الجوصي، وابن كثير وهو محمد، وإن أردت الأخبار أخبرناك عن الرياشي عن الأصمعي ومحمد بن سلام.
فصاح به ابنه: إنما كان كلباً.
فقال: الحمد لله الذي مسخه كلباً، ورد عنا حرباً.

وذكر التنوخي هذه الحكاية، وقال في آخرها: فقال له غلامه: يا مولاي، ليس إلا الخير، إنما هو سنور.
فقال أبو خليفة، الحمد لله الذي مسخه هراً، وكفانا شراً.
كلبة ترضع طفلاً
ذكر أبو عبد الله، عن أبي عبيدة النحوي، وأبي اليقظان سحيم بن حفص، وأبي الحسن علي بن محمد المدائني، عن محمد بن حفص بن سلمة بن محارب. وقد حدثنا بهذا الحديث، أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، بإسناد ذكره، وهو حديث مشهور: إن الطاعون الجارف، أتى على أهل دار، فلم يشك أحد من أهل المحلة، أنه لم يبق فيها صغير ولا كبير، وكان قد بقي في الدار صبي رضيع صغير، يحبو ولا يقوم، فعمد من بقي من أهل تلك المحلة، إلى باب الدار فسدوه.
فلما كان بعد ذلك بأشهر، تحول إليها بعض ورثة القوم، فلما فتح الباب، وأفضي إلى عرصة الدار، إذا هو بصبي يلعب مع جرو كلبة كانت لأصحاب الدار، فلما رآها الصبي حبا إليها، فأمكنته من لبنها.
فعلموا أن الصبي بقي في الدار، وصار منسياً، واشتد جوعه، ورأى جرو الكلبة يرضع، فعطف عليها، فلما سقته مرة، أدامت له، وأدام لها الطلب.
قاض ولايته ثلاثة أيامأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: صرف المقتدر بالله أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلثمائة، عن القضاء بمدينة المنصور، واستقضى في هذا اليوم، أبا الحسين عمر بن الحسن بن علي بن مالك بن أشرس بن عبد الله بن منجاب الشيباني، المعروف بابن الأشناني، وخلع عليه.
ثم جلس يوم السبت، لثمان بقين من هذا الشهر للحكم، وصرف من غد في يوم الأحد لسبع بقين منه، فكانت ولايته ثلاثة أيام.
وهذا رجل من جلة الناس، ومن أصحاب الحديث المجودين، وأحد الحفاظ له، وحسن المذاكرة بالأخبار، وكان قبل هذا يتولى القضاء بنواحي الشام، ويستخلف الكفاة، ولم يخرج عن الحضرة، وتقلد الحسبة ببغداد.
وقد حدث حديثاً كثيراً، وحمل الناس عنه قديماً وحديثاً.
استخلف على القضاء وله عشرون سنةأخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضى المقتدر بالله، في يوم النصف من رمضان سنة عشر وثلثمائة، أبا الحسين عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، وكان قبل هذا يخلف أباه على القضاء بالجانب الشرقي، والشرقية، وسائر ما كان إلى قاضي القضاة أبي عمر، وذلك أنه استخلفه وله عشرون سنة.
ثم استقضى بعد استخلاف أبيه له، على أعمال كثيرة.
ثم قلد مدينة السلام في حياة أبيه.
من مكارم أخلاق حامد بن العباس
عامل واسطقال المحسن، وحدثني أبو عبد الله الصيرفي، قال: حدثني أبو عبد الله القنوتي قال: ركب حامد، وهو عامل واسط، إلى بستان له، فرأى بطريقه داراً محترقة، وشيخاً يبكي ويولول، وحوله صبيان ونساء على مثل حاله.
فسأل عنه، فقيل: هذا رجل تاجر، احترقت داره وافتقر.
فوجم ساعة، ثم قال: أين فلان الوكيل؟ فجاء.
فقال: أريد أن أندبك لأمر، إن عملته كما أريد، فعلت بك وصنعت - وذكر جميلاً - وإن تجاوزت فيه رسمي، فعلت بك وصنعت - وذكر قبيحاً - .
فقال: مر بأمرك.
فقال: ترى هذا الشيخ، وقد آلمني قلبي له، وقد تنغصت علي نزهتي بسببه، وما تسمح نفسي بالتوجه إلى بستاني، إلا بعد أن تضمن لي أنني إذا عدت العشية من النزهة، وجدت الشيخ في داره وهي كما كانت، مبنية، مجصصة، نظيفة، وفيها صنوف المتاع، والفرش، والصفر، كما كانت، وتبتاع له ولعياله، كسوة الشتاء، والصيف، مثل ما كان لهم.
فقال الوكيل: تتقدم إلى الخازن، بأن يطلق ما أريده، وإلى صاحب المعونة، أن يقف معي، وأن يحضر من أطلبه من الصناع.
فتقدم حامد بذلك.
وكان الزمان صيفاً، فتقدم بإحضار أصناف الروز جارية، فكانوا ينقضون بيتاً ويقيمون فيه من يبنيه.
وقيل لصاحب الدار: اكتب جميع ما ذهب منك، حتى المكنسة والمقدحة.
وصليت العصر، وقد سقفت الدار، وجصصت، وعلقت الأبواب، ولم يبق غير الطوابيق.
فأنفذ الوكيل إلى حامد، وسأله التوقف في البستان، وأن لا يركب منه إلا أن يصلي العشاء.

فبيضت الدار، وكنست، وفرشت، ولبس الشيخ وعياله الثياب، ودفعت إليهم الصناديق والخزائن، مملوءة بالأمتعة.
فاجتاز حامد والناس قد اجتمعوا كأنه يوم عيد، يضجون بالدعاء له.
فتقدم حامد إلى الجهبذ بخمسة آلاف درهم، يدفعها إلى الشيخ، يزيدها في بضاعته.
وسار حامد إلى داره.
حديث العلوية الزمنةسجل القاضي التنوخي، في النشوار، قصة العلوية الزمنة، وكيف شفيت من دائها، وقال إنها كانت عاتقاً.
ولما نقل القصة إلى كتابه الفرج بعد الشدة، ذكر أن العلوية الزمنة تزوجت، وأن آخر معرفته بخبرها في السنة 373.
ثم وجدت في مخطوطة المكتبة الظاهرية، وكذلك في مخطوطة مكتبة جون رايلند، من كتاب الفرج بعد الشدة، أن القاضي التنوخي، أضاف إلى قصة العلوية الزمنة، إضافة أخرى، تدل على أنه أبصرها في السنة 377، واستنطقها، ودون أجوبتها، وهذه هي الإضافة: قال مؤلف الكتاب: وحدثني بعد هذا جماعة أسكن إليهم من أهل شارع دار الرقيق، بخبر هذه العلوية، على قريب من هذا، وهي باقية إلى حين معرفتي بخبرها في سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
ثم كنت في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، عند أبي الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، فرأيت في داره، بدرب سليمان، في شارع دار الرقيق، وأنا عنده، امرأة عجوزاً، قد دخلت، فأعظمها.
فقلت: من هذه؟ فقال: العلوية الزمنة، صاحبة المنام.
وكانت تمشي بخفها وإزارها.
فسألتها أن تجلس، ففعلت، واستخبرتها، فحدثتني، قالت: اعتللت من برسام، وأنا في حدود عشرين سنة من عمري، ثم انجلى عني، وقد لحق حقوي شيء أزمنني، فكنت مطروحة على الفراش، سبعاً وعشرين سنة، لا أقدر أقعد، ولا أن أقوم أصلاً، وأنجو في موضعي، وأغسل، وكنت مع ذلك لا أجد ألماً.
ثم بعد سنين كثيرة من علتي، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في منامي، وأنا أقول له: يا جدي، ادع الله عز وجل، أن يفرج عني.
فقال: ليس هذا وقتك.
ثم رأيت أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقلت له: أما ترى ما أنا فيه؟ فسل رسول الله أن يدعو لي، أو ادع لي أنت، فكأنه قد دافعني.
ثم توالت علي بعد ذلك، رؤيتي لهما في النوم، فجرى بيني وبينهما، قريب من ذلك.
ورأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكأني أسأل كل واحد منهما الدعاء بالعافية، فلا يفعل.
فلما مضت سبع وعشرون سنة، لحقني ألم شديد، أياماً في حقوي، فقاسيت منه شدة شديدة، فأقبلت أبكي، وأدعو الله بالفرج.
فرأيت ليلة في منامي النبي صلى الله عليه وسلم، فعرفته، لأني كنت أراه طول تلك السنين على صورة واحدة، وكأني أقول له: يا جدي، متى يفرج الله عني؟ فكأنه أدخل يده في طرف كمي، وجس بدني، من أوله إلى آخره، حتى بلغ حقوي، فوضع يده عليه، وتكلم بكلام لا أفهمه، ثم ردني على قفاي، كما كنت نائمة، وقال: قد فرج الله عنك، فقومي.
فقلت: كيف أقوم؟ فقال: هاتي يدك.
فأعطيته يدي، فأقعدني، ثم قال: قومي على اسم الله، فقمت، ثم خطا بي خطوات يسيرة، وقال: قد عوفيت.
فانتبهت، وأنا مستلقية على ظهري، كما كنت نائمة، إلا أنني فرحانة، فرمت القعود، فقعدت لنفسي وحدي، ودليت رجلي من السرير، فتدلتا، فرمت القيام عليهما، فقمت، ومشيت.
فقلت للمرأة التي تخدمني: لست آمن، أن يشيع خبري، فيتكاثر الناس علي، فيؤذوني، وأنا ضعيفة من الألم الذي لحقني، إلا أني كنت لما انتبهت، لم أحس بشيء من الألم، ولم أجد غير ضعف يسير، فقلت: اكتمي أمري يومين، إلى أن صلحت قوتي فيهما.
وزادت قدرتي على المشي والحركة، وفشا خبري، وكثر الناس علي، فلا أعرف إلى الآن إلا بالعلوية الزمنة.
فسألتها عن نسبها، فقالت: أنا فاطمة بنت علي بن الحسن بن القاسم بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
ولم تذكر لي غير هذا، ولا سألتها عنه.
مائدة الوزير حامد بن العباس
ينفق عليها كل يوم مائتي دينارحكى أبو علي التنوخي، عن بعض الكتاب، قال: حضرت مائدة حامد، وعليها عشرون نفساً، وكنت أسمع أنه ينفق عليها كل يوم مائتي دينار، فاستقللت ما رأيت.
ثم خرجت، فرأيت في الدار، نيفاً وثلاثين مائدة منصوبة، على كل مائدة ثلاثون نفساً، وكل مائدة كالمائدة التي بين يديه، حتى البوارد والحلوى.

وكان لا يستدعي أحداً إلى طعامه، بل يقدم الطعام إلى كل قوم في أماكنهم.
مبلغ ما صودر عليه الوزيرأبو الحسن بن الفرات أنبأنا محمد بن أبي طاهر، عن أبي القاسم التنوخي، عن أبيه، قال: خبرني بعض الكتاب، قال: كان ابن الفرات قد صودر على ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار، فأدى جميعها في مدة ستة عشر شهراً، من وقت أن قبض عليه.
أبو بكر بن السراج يتمثلبأبيات من الشعر حسنة أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا علي بن أبي علي، عن علي بن عيسى بن علي النحوي، قال: كان أبو بكر بن السراج يقرأ عليه كتاب الأصول الذي صنفه، فمر فيه باب، فاستحسنه بعض الحاضرين، فقال: هذا والله أحسن من كتاب المقتضب.
فأنكر عليه أبو بكر ذلك، وقال: لا تقل هذا، وتمثل بيت، وكان كثيراً ما يتمثل في ما يجري له من الأمور بأبيات حسنة، فأنشد حينئذ:
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها وقلت الفضل للمتقدم
قال: وحضر في يوم من الأيام بني له صغير، فأظهر من الميل إليه والمحبة له، فأكثر.
فقال له بعض الحاضرين: أتحبه؟ فقال متمثلاً:
أحبه حب الشحيح ماله ... قد كان ذاق الفقر ثم ناله
تفسير الآية " ومن دخله كان آمناً "
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال حدثنا أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش القاضي، قال: أخبرني بعض أصحابنا: أنه كان بمكة في الوقت الذي دخلها أبو طاهر القرمطي ونهبها، وسلب البيت، وقلع الحجر الأسود، والباب، وقتل المسلمين في الطواف، وفي المسجد، وعمل تلك الأعمال العظيمة.
قال: فرأيت رجلاً قد صعد البيت ليقلع الميزاب، فلما صار عليه سقط، فاندقت عنقه.
فقال القرمطي: لا يصعد إليه أحد، ودعوه، فترك الميزاب، ولم يقلع.
ثم سكنت النائرة، بعد يوم أو يومين.
قال: فكنت أطوف بالبيت، فإذا بقرمطي سكران، وقد دخل المسجد بفرسه، فصفر له، حتى بال في الطواف، وجرد سيفه ليضرب به من لحق، وكنت قريباً منه، فعدوت، فلحق رجلاً كان إلى جنبي، فضربه، فقتله.
ثم وقف، وصاح: يا حمير، أليس قلتم في هذا البيت، " من دخله كان آمناً " ، فكيف يكون آمناً، وقد قتلته الساعة بحضرتكم؟ قال: فخشيت من الرد عليه أن يقتلني، ثم طلبت الشهادة، فجئت حتى لصقت به، وقبضت على لجامه وجعلت ظهري مع ركبته، لئلا يتمكن من ضربي بالسيف، ثم قلت: اسمع.
قال: قل.
قلت: إن الله عز وجل لم يرد: أن من دخله كان آمناً، وإنما أراد: من دخله فأمنوه، وتوقعت أن يقتلني.
فلوى رأس فرسه، وخرج من المسجد، وما كلمني.
قرمطي يتحدث عن اعتقادات القرامطةقال المحسن، وحدثني أبو أحمد الحارثي، قال: أخبرني رجل من أصحاب الحديث أسرته القرامطة، سنة الهبير، واستعبدته سنين، ثم هرب منا لما أمكنه، قال: كان يملكني رجل منهم، يسومني سوء العذاب، ويستخدمني أعظم خدمة، ويعربد علي إذا سكر، فسكر ليلة، وأقامني حياله، وقال: ما تقول في محمد هذا صاحبكم؟ فقلت: لا أدري، ولكن ما تعلمني أيها المؤمن، أقوله.
فقال: كان رجلاً سائساً، فما تقول في أبي بكر؟ قلت: لا أدري.
قال: كان رجلاً ضعيفاً مهيناً، فما تقول في عمر؟.
قلت: لا أدري.
قال: كان والله فظاً غليظاً، فما تقول في عثمان؟ قلت: ما أدري.
قال: كان جاهلاً أحمق، فما تقول في علي؟ قلت: لا أدري.
قال: كان منحرفاً، أليس يقول: إن هاهنا علماً لو أصبت له حملة، أما كان في ذلك الخلق العظيم بحضرته من يودع كل واحد منهم كلمة يفرغ ما عنده، هل هذه إلا مخرقة؟ ونام.
فلما كان من الغد، دعاني، وقال: ما قلت لك البارحة؟ فأريته أني لم أفهمه، فحذرني من إعادته، والإخبار عنه بذلك.
فإذا القوم زنادقة، لا يؤمنون بالله، ولا يفكرون في أحد من الصحابة.
قال المحسن: ويدل على هذا أن أبا طاهر القرمطي، دخل الكوفة دفعات، فما دخل إلى قبر علي عليه السلام، واجتاز بالحائر فما زار الحسين.
وقد كانوا يمخرقون بالمهدي، ويوهمون أنه صاحب المغرب، ويراسلون إسماعيل بن محمد، صاحب المهدية المقيم بالقيروان.

ومضت منهم سرية مع الحسن بن أبي منصور بن أبي سعيد في شوال سنة ستين وثلثمائة، فدخلوا دمشق في ذي القعدة من هذه السنة، فقتلوا خلقاً، ثم خرجوا إلى مكة فقتلوا، واستباحوا.
وأقاموا الدعوة للمطيع لله، في كل فتح فتحوه، وسودوا أعلامهم، ورجعوا عما كانوا عليه من المخرقة ضرورة.
وقالوا: لو فطنا لما فطن له ابن بويه الديلمي لاستقامت أمورنا، وذلك أنه ترك المذاهب جانباً، وطلب الغلبة والملك، فأطاعه الناس.
وكان من مخاريقهم، قبة ينفرد فيها أميرهم، وطائفة معه، فلم يقاتلوا، فإذا كل المقاتلون، حمل هو بنفسه، وتلك الطائفة، على قوم قد كلوا من القتال.
وكانوا يقولون: إن النصر ينزل من هذه القبة، وقد جعلوا فيها مدخنة وفحماً، فإذا أرادوا أن يحملوا، صعد أحدهم إلى القبة، وقدح، وجعل النار في المجمرة، وأخرج حب الكحل فطرحه على النار، فتفرقع فرقعة شديدة، ولا يكون له دخان، وحملوا، ولا يثبت لهم شيء، ولا يوقد ذلك، إلا أن يقول صاحب العسكر، قد نزل النصر.
فكسر تلك القبة، أصحاب جوهر الذي ملك مصر.
ابن العلاف الشاعر يجيز بيتاً نظمه المعتضد
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي بكر الشاعر، قال: حدثني أبي، قال: كنت ذات ليلة في دار المعتضد وقد أطلنا الجلوس بحضرته، ثم نهضنا إلى مجلسنا، في حجرة كانت مرسومة بالندماء.
فلما أخذنا مضاجعنا، وهدأت العيون، أحسسنا بفتح الأبواب، والأقفال بسرعة، فارتاعت الجماعة لذلك، وجلسنا في فرشنا.
فدخل إلينا خادم من خدم المعتضد، فقال: إن أمير المؤمنين يقول لكم: أرقت الليلة بعد انصرافكم فعملت:
ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذا الدار قفر والمزار بعيد
وقد أرتج علي تمامه، فأجيزوه، ومن أجازه بما يوافق غرضي، أجزلت جائزته.
وفي الجماعة كل شاعر مجيد، مذكور، وأديب فاضل مشهور، فأفحمت الجماعة، وأطالوا الفكر.
فقلت مبتدراً:
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالاً طارقاً سيعود
فرجع الخادم إليه بالجواب، ثم عاد إلي، فقال: أمير المؤمنين، يقول لك، أحسنت، وما قصرت، وقد وقع بيتك الموقع الذي أريده، وقد أمر لك بجائزة، وها هي.
فأخذتها، وازداد غيظ الجماعة مني.
القاضي أبو عمر وعنايته في إصدار الأحكامأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن عبيد الدقاق، قال: قال لي أبو إسحاق بن جابر الفقيه: لما ولي أبو عمر طمعنا في أن نتبعه بالخطإ، لما كنا نعلم من قلة فقهه، فكنا نستفتى، فنقول: امضوا إلى القاضي، ونراعي ما يحكم به، فيدافع عن الأحكام، مدافعة، أحسن من فصل الحكم، ثم تجيئنا الفتاوى في تلك القصص، فنخاف أن نحرج، إن لم نفت، فتعود الفتاوى إليه، فيحكم بما يفتي به الفقهاء.
فما عثرنا عليه بخطإ.
جزاء الخيانةوأنبئت عن المؤيد قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن هبة الله الخازن، قال: حدثنا الحسين بن علي الكوفي، قال: حدثنا المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي، قال: حدثنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي.
وأنبئت، عن المؤيد، وعبد الوهاب الأمين، وغيرهما، عن محمد بن عبد الباقي، عن علي بن المحسن، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرني أحمد بن يوسف الأزرق التنوخي، مناولة، قال: أخبرني أبو الحسن علي بن الفتح الكاتب، المعروف بالمطوق، مناولة، من كتابه " كتاب مناقب الوزراء، ومحاسن أخبارهم " وفيه ذكر كثير من الحوادث، فقال فيه: وفي رجب سنة خمس عشرة وثلثمائة، أن رجلاً أمسى، في بعض محال الجانب الغربي من مدينة السلام، ومعه دراهم لها قدر، فخاف على نفسه من الطائف، ومن بلية تقع عليه، فصار إلى رجل من أهل الموضع، أراد أن يبيت عنده، فأدخله.
فلما تيقن أن معه مالاً، حدثته نفسه بقتله، وأخذ ماله.
وكان له ابن شاب، فنومه مع الرجل في بيت واحد، ولم يعلم أحداً بما نفسه، وخرج، وقد عرف مكانهما، وطفى المصباح.
فقدر الأمر، أن الابن انتقل من موضعه إلى موضع آخر، وانتقل الضيف إلى موضع الابن، وجاء أبوه، ليطلب الضيف، فصادف ابنه، وهو لا يشك، أنه الضيف، فخنقه.

وانتبه الضيف باضطرابه، وعرف ما أريد به، فخرج هارباً من الدار، وصاح في الطريق.
ووقف الجيران على خبره، فأغاثوه، وأخذوا الرجل، فقرر، فأقر بقتل ابنه، فحبس، وأخذ المال من داره، فرد على الضيف، وسلم.
تاجر بغدادي آلى على نفسه
أن يغسل يده أربعين مرة إذا أكل ديكبريكةأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزاز عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو الفرج أحمد بن عثمان بن إبراهيم، الفقيه المعروف بابن النرسي، قال: كنت جالساً بحضرة أبي، وأنا حدث، وعنده جماعة، فحدثني حديث وصول النعم إلى الناس بالألوان الطريفة، وكان ممن حضر، صديق لأبي، فسمعته يحدث أبي، قال: حضرت عند صديق لي من التجار، كان يحزر بمائة ألف دينار، في دعوة، وكان حسن المروءة.
فقدم مائدته، وعليها ديكبريكة، فلم يأكل منها، فامتنعنا.
فقال: كلوا، فإني أتأذى بأكل هذا اللون.
فقلنا: نساعدك على تركه.
فقال: بل أساعدكم على الأكل، وأحتمل الأذى، فأكل، فلما أراد غسل يديه أطال، فعددت عليه، أنه قد غسلها أربعين مرة.
فقلت: يا هذا، وسوست؟ فقال: هذه الأذية التي فرقت منها.
فقلت: وما سببها؟ فامتنع من ذكر السبب.
فألححت عليه، فقال: مات أبي، وسني عشرون سنة، وخلف لي نعمة صغيرة، ورأس مال، ومتاعاً في دكانه، وكان خلقانياً في الكرخ.
فقال لي لما حضرته الوفاة: يا بني، إنه لا وارث لي غيرك، ولا دين علي، ولا مظلمة، فإذا أنا مت، فأحسن جهازي، وصدق عني بكذا وكذا، وأخرج عني حجة بكذا وكذا، وبارك الله لك في الباقي، ولكن احفظ وصيتي.
فقلت: قل.
فقال: لا تسرف في مالك، فتحتاج إلى ما في أيدي الناس ولا تجده، واعلم أن القليل مع الإصلاح كثير، والكثير مع الفساد قليل، فالزم السوق، وكن أول من يدخلها، وآخر من يخرج منها، وإن استطعت أن تدخلها سحراً بليل، فافعل، فإنك تستفيد بذلك فوائد، تكشفها لك الأيام.
ومات، وأنفذت وصيته، وعملت بما أشار به، وكنت أدخل السوق سحراً، وأخرج منها عشاء، فلا أعدم أن يجيئني من يطلب كفناً، فلا يجد أحداً قد فتح غيري، فأحكم عليه، ومن يبيع شيئاً، والسوق لم تقم، فأبيعه له، وأشياء من الفوائد.
ومضى على لزومي السوق سنة وكسر، فصار لي بذلك جاه عند أهلها، وعرفوا استقامتي، فأكرموني.
فبينا أنا جالس يوماً، ولم يتكامل السوق، إذا بامرأة راكبة حماراً مصرياً، وعلى كفله منديل دبيقي، وخادم، وهي بزي القهرمانة.
فبلغت آخر السوق ثم رجعت، فنزلت عندي، فقمت إليها، وأكرمتها وقلت: ما تأمرين؟ وتأملتها فإذا امرأة لم أر قبلها، ولا بعدها، إلى الآن، أحسن منها، في كل شيء.
فقالت: أريد كذا ثياباً، طلبتها. فسمعت نغمة، ورأيت شكلاً قتلني، وعشقتها في الحال، أشد العشق.
فقلت: اصبري حتى يخرج الناس، فآخذ لك ذلك، فليس عندي إلا القليل مما يصلح لك.
فأخرجت الذي عندي، وجلست تحادثني، والسكاكين في فؤادي من عشقها. وكشفت عن أنامل، رأيتها كالطلع، ووجه كدارة القمر.
فقمت لئلا يزيد علي الأمر، فأخذت لها من السوق ما أرادت، وكان ثمنه مع ما لي نحو خمسمائة دينار، فأخذته، وركبت، ولم تعطني شيئاً.
وذهب عني، لما تداخلني من حبها، أن أمنعها من أخذ المتاع إلا بأداء المال، أو أن أستدل على منزلها، ومن دار من هي؟.
فحين غابت عني، وقع لي أنها محتالة، وأن ذلك سبب فقري، فتحيرت في أمري، وقامت قيامتي، وكتمت خبري لئلا افتضح بما للناس علي.
وعملت على بيع ما في يدي من المتاع، وإضافته إلى ما عندي من الدراهم، ودفع أموال الناس إليهم، ولزوم البيت، والاقتصار على غلة العقار الذي ورثته عن أبي، وظننت نفسي على المحنة، وأخذت أشرع في ذلك مدة أسبوع.
وإذا هي قد نزلت عندي، فحين رأيتها، أنسيت جميع ما جرى علي، وقمت إليها.
فقالت: يا فتى، تأخرنا عنك، لشغل عرض لنا، وما شككنا في أنك لم تشك أننا احتلنا عليك.
فقلت: قد رفع الله قدرك عن هذا.
فقالت: هات التخت والطيار، فأحضرته.
فأخرجت دنانير عتقاً، فوفتني المال بأسره. وأخرجت تذكرة بأشياء أخر.
فأنفذت إلى التجار أموالهم، وطلبت منهم ما أرادت، وحصلت أنا في الوسط ربحاً جيداً.
وأحضر التجار الثياب، فقمت وثمنتها معهم لنفسي، ثم بعتها عليها بربح عظيم.

وأنا في خلال ذلك أنظر إليها نظر تالف من حبها، وهي تنظر إلي، نظر من قد فطن لذلك، ولم تنكره، فهممت بخطابها، ولم أقدم.
فاجتمع المتاع، وكان ثمنه ألف دينار، فأخذته، وركبت، ولم أسألها عن موضعها.
فلما غابت عني، قلت: هذا الآن، هو الحيلة المحكمة، أعطتني خمسة آلاف درهم، وأخذت ألف دينار، وليس إلا بيع عقاري الآن، والحصول على الفقر المدقع، ثم سمحت نفسي برؤيتها مع الفقر.
وتطاولت غيبتها نحو شهر، وألح علي التجار في المطالبة، فعرضت عقاري على البيع، ولازمني بعض التجار، فوزنت جميع ما أملكه، ورقاً وعيناً.
فأنا كذلك، إذ نزلت عندي، فزال عني جميع ما كنت فيه برؤيتها، فاستدعت الطيار والتخت، فوزنت المال، ورمت إلي تذكرة يزيد ما فيها على ألفي دينار بكثير.
فتشاغلت بإحضار التجار، ودفع أموالهم، وأخذ المتاع منهم، وطال الحديث بيننا، فقالت: يا فتى، لك زوجة؟ فقلت: لا، والله، ما عرفت امرأة قط.
وأطمعني ذلك فيها، وقلت: هذا وقت خطابها والإمساك عنها عجز، ولعلها لا تعود.
وأردت كلامها فهبتها، وقمت كأني أحث التجار على جمع المتاع، وأخذت يد الخادم، وأخرجت له دنانير، وسألته أن يأخذها، ويقضي لي حاجة.
فقال: أفعل، وأبلغ محبتك، ولا آخذ شيئاً.
فقصصت عليه قصتي، وسألته توسط الأمر بيني وبينها.
فضحك، وقال: إنها لك أعشق منك لها، ووالله ما بها حاجة إلى أكثر هذا الذي تشتريه، وإنما تجيئك محبة لك، وتطريقاً إلى مطاولتك، فخاطبها بظرف، ودعني، فإني أفرغ لك من الأمر.
فجسرني بذلك عليها، فخاطبتها، وكشفت لها عشقي، ومحبتي، وبكيت.
فضحكت، وتقبلت ذلك أحسن تقبل، وقالت: الخادم يجيئك برسالتي.
ونهضت، ولم تأخذ شيئاً من المتاع، فرددته على الناس، وقد حصل لي مما اشترته أولاً وثانياً، ألوف دراهم ربحاً.
ولم يحملني النوم تلك الليلة، شوقاً إليها، وخوفاً من انقطاع السبب.
فلما كان بعد أيام جاءني الخادم، فأكرمته، وسألته عن خبرها.
فقال: هي والله عليلة من شوقها إليك.
فقلت: اشرح لي أمرها.
فقال: هي مملوكة السيدة أم المقتدر، وهي من أخص جواريها بها، واشتهت رؤية الناس، والدخول، والخروج، فتوصلت حتى جعلتها قهرمانة، وقد والله حدثت السيدة بحديثك، وبكت بين يديها، وسألتها أن تزوجها منك.
فقالت السيدة: لا أفعل، أو أرى هذا الرجل، فإن كان يستأهلك، وإلا لم أدعك ورأيك.
ويحتاج إلى إدخالك الدار بحيلة، فإن تمت، وصلت بها إلى تزويجها، وإن انكشفت ضرب عنقك.
وقد أنفذتني إليك في هذه الرسالة، وهي تقول لك: إن صبرت على هذا، وإلا فلا طريق لك والله إلي، ولا لي بعدها.
فحملني ما في نفسي أن قلت: أصبر.
فقال: إذا كان الليل، فاعبر إلى المخرم، فادخل إلى المسجد، وبت فيه، ففعلت.
فلما كان السحر، إذا أنا بطيار قد قدم، وخدم قد رقوا صناديق فرغ، فحطوها في المسجد، وانصرفوا.
وخرجت الجارية، فصعدت إلى المسجد، ومعها الخادم الذي أعرفه، فجلست، وفرقت باقي الخدم في حوائج.
واستدعتني، فقبلتني، وعانقتني طويلاً، ولم أكن نلت قبل ذلك منها قبلة.
ثم أجلستني في بعض الصناديق، وأقفلته.
وطلعت الشمس، وجاء الخدم بثياب وحوائج، من المواضع التي كانت أنفذتهم إليها، فجعلت ذلك بحضرتهم في باقي الصناديق، ونقلتها وحملتها إلى الطيار، وانحدروا.
فلما حصلت فيه، ندمت، وقلت: قتلت نفسي لشهوة، وأقبلت ألومها تارة، وأشجعها أخرى، وأنذر النذور على خلاصي، وأوطن نفسي مرة على القتل.
إلى أن بلغنا الدار، وحمل الخدم الصناديق، وحمل صندوقي، الخادم الذي يعرف الحديث، وبادرت بصندوقي أمام الصناديق وهي معه، والخدم يحملون الباقي، ويلحقونها.
فكل ما جازت بطبقة من الخدم والبوابين قالوا: نريد نفتش الصندوق، فتصيح عليهم، وتقول: متى جرى الرسم معي بهذا؟ فيمسكون، وروحي في السياق.
إلى أن انتهت إلى خادم خاطبته هي بالأستاذ، فعلمت أنه أجل الخدم.
فقال: لا بد من تفتيش الصندوق الذي معك، فخاطبته بلين وذل فلم يجبها، وعلمت أنها ما ذلت له ولها حيلة، وأغمي علي.
وأنزل الصندوق للفتح، فذهب علي أمري وبلت فزعاً. فجرى البول في خلل الصندوق.

فصاحت: يا أستاذ أهلكت علينا متاعاً بخمسة آلاف دينار في الصندوق، وثياباً مصبغات، وماء ورد قد انقلب على الثياب، والساعة تختلط ألوانها، وهو هلاكي مع السيدة.
فقال لها: خذي صندوقك إلى لعنة الله، أنت وهو، ومري.
فصاحت بالخدم: احملوه، وأدخلت الدار، فرجعت إلي روحي.
فبينا نحن نمشي إذ قالت: ويلاه، الخليفة، والله.
فجاءني أعظم من الأول، وسمعت كلام خدم وجواري، وهو يقول من بينهم: ويلك يا فلانة أيش في صندوقك؟ أريني هو؟ فقالت: ثياب لستي يا مولاي، والساعة أفتحه بين يديها، وتراه.
وقالت للخدم: أسرعوا ويلكم، فأسرعوا.
وأدخلتني إلى حجرة، وفتحت عني، وقالت: اصعد تلك الدرجة، إلى الغرف، واجلس فيها، وفتحت بالعجلة، صندوقاً آخر، فنقلت بعض ما كان فيه إلى الصندوق الذي كنت فيه، وقفلت الجميع.
وجاء المقتدر وقال لها: افتحي، ففتحته، فلم يرض منه شيئاً، وخرج.
فصعدت إلي، وجعلت ترشفني، وتقبلني، فعشت، ونسيت ما جرى.
وتركتني، وقفلت باب الحجرة يومها، ثم جاءتني ليلاً، فأطعمتني، وسقتني، وانصرفت.
فلما كان من غد، جاءتني فقالت: السيدة، الساعة تجيء، فانظر كيف تخاطبها.
ثم عادت بعد ساعة مع السيدة، فقالت: انزل، فنزلت.
فإذا بالسيدة جالسة على كرسي، وليس معها إلا وصيفتان، وصاحبتي.
فقبلت الأرض، وقمت بين يديها، فقالت: اجلس.
فقلت: أنا عبد السيدة وخادمها، وليس من محلي أن أجلس بحضرتها.
فتأملتني، وقالت: ما اخترت يا فلانة إلا حسن الوجه والأدب، ونهضت.
فجاءتني صاحبتي بعد ساعة، وقالت: أبشر، فقد أذنت لي والله في تزويجك، وما بقي الآن عقبة إلا الخروج.
فقلت: يسلم الله.
فلما كان من الغد، حملتني في الصندوق، فخرجت كما دخلت، بعد مخاطرة أخرى، وفزع نالني.
ونزلت في المسجد، ورجعت إلى منزلي، فتصدقت، وحمدت الله على السلامة.
فلما كان بعد أيام، جاءني الخادم، ومعه كيس فيه ثلاثة آلاف دينار عيناً.
وقال: أمرتني ستي بإنفاذ هذا إليك من مالها، وقالت: تشتري به ثياباً، ومركوباً، وخدماً، وتصلح به ظاهرك، وتعال يوم الموكب إلى باب العامة، وقف، حتى تطلب، فقد واقفت الخليفة على أن تزوجك بحضرته.
فأجبت على رقعة كانت معه، وأخذت المال، واشتريت ما قالوا بيسير منه، وبقي الأكثر عندي.
وركبت إلى باب العامة في يوم الموكب بزي حسن، وجاء الناس، فدخلوا إلى الخليفة.
ووقفت إلى أن استدعيت، فدخلت، فإذا أنا بالمقتدر جالس، والقواد، والقضاة، والهاشميون، فهبت المجلس، وعلمت كيف أسلم، وأقف، ففعلت.
فتقدم المقتدر إلى بعض القضاة الحاضرين، فخطب لي، وزوجني، وخرجت من حضرته.
فلما صرت في بعض الدهاليز، قريباً من الباب، عدل بي إلى دار عظيمة مفروشة، بأنواع الفرش الفاخرة، وفيها من الآلات، والخدم، والأمتعة، والقماش، كل شيء لم أر مثله قط.
فأجلست فيها، وتركت وحدي، وانصرف من أدخلني.
فجلست يومي، لا أرى من أعرفه، ولم أبرح من موضعي إلى الصلاة، وخدم يدخلون ويخرجون، وطعام عظيم ينقل، وهم يقولون: الليلة تزف فلانة - اسم صاحبتي - إلى زوجها البزاز، فلا أصدق، فرحاً.
فلما جاء الليل، أثر في الجوع، وأقفلت الأبواب، ويئست من الجارية، فقمت أطوف الدار، فوقفت على المطبخ، ووجدت الطباخين جلوساً فاستطعمتهم، فلم يعرفوني، وقدروني بعض الوكلاء، فقدموا إلي هذا اللون من الطبيخ، مع رغيفين، فأكلتهما، وغسلت يدي بأشنان كان في المطبخ، وقدرت أنها كانت قد نقيت، وعدت إلى مكاني.
فلما جن الليل، إذا طبول، وزمور، وأصوات عظيمة، وإذا بالأبواب قد فتحت، وصاحبتي قد أهديت إلي، وجاءوا بها، فجلوها علي، وأنا أقدر أن ذلك في النوم، فرحاً.
وتركت معي في المجلس، وتفرق الناس.
فلما خلونا، تقدمت إليها فقبلتها، وقبلتني، فشمت لحيتي، فرفستني، فرمت بي عن المنصة، وقالت: أنكرت أن تفلح، يا عامي يا سفلة، وقامت لتخرج.
فقمت، وتعلقت بها، وقبلت الأرض، ورجليها، وقلت: عرفيني ذنبي، واعملي بعده ما شئت.
فقالت: ويحك، أكلت فلم تغسل يدك.
فقصصت عليها قصتي، فلما بلغت إلى آخرها، قلت: علي وعلي، وحلفت بطلاقها، وطلاق كل امرأة أتزوجها، وصدقة مالي، وجميع ما أملكه، والحج ماشياً على قدمي، والكفر بالله، وكل ما يحلف به المسلمون، لا أكلت بعدها ديكبريكه، إلا غسلت يدي أربعين مرة.

فأشفقت، وتبسمت، وصاحت: يا جواري، فجاء مقدار عشر جواري ووصائف.
وقالت: هاتوا شيئاً نأكل.
فقدمت ألوان طريفة، وطعام من أطعمة الخلفاء، فأكلنا، وغسلنا أيدينا.
ومضى الوصائف، ثم قمنا إلى الفراش، فدخلت بها، وبت بليلة من ليالي الخلفاء، ولم نفترق أسبوعاً.
وكانت يوم الأسبوع، وليمة هائلة، اجتمع فيها الجواري.
فلما كان من غد، قالت: إن دار الخلافة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا، فلولا أنه استؤذن، فأذن بعد جهد، لما تم لنا هذا، لأنه شيء لم يفعل قبل هذا مع جارية غيري، لمحبة سيدتي لي.
وجميع ما تراه، فهو هبة من السيدة لي، وقد أعطتني خمسين ألف دينار، من عين وورق، وجوهر ودنانير، وذخائر لي خارج القصر كثيرة من كل لون، وجميعها لك.
فاخرج إلى منزلك، وخذ معك مالاً، واشتر داراً سرية، واسعة الصحن، فيها بستان كثير الشجر، فاخر الموقع، وتحول إليها، وعرفني، لأنقل هذا كله إليك، فإذا حصل عندك، جئتك.
وسلمت إلي عشرة آلاف دينار عيناً، فحملها الخادم معي.
فابتعت الدار، وكتبت إليها بالخبر، فحملت إلي تلك النعمة بأسرها، فجميع ما أنا فيه منها.
فأقامت عندي كذا وكذا سنة، أعيش معها عيش الخلفاء، ولم أدع مع ذلك التجارة.
فزاد مالي، وعظمت منزلتي، وأثرت حالي، وولدت لي هؤلاء الفتيان، وأومأ إلى أولاده، ثم ماتت رحمها الله.
وبقي علي من مضرة الديكبريكه حاضراً، ما شاهدته.
الشيخ بويه والرؤيا التي هالتهأنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه قال: حدثنا علي بن حسان الأنباري الكاتب، قال: لما أنفذني معز الدولة، من بغداد إلى ديلمان، لأبني له دوراً في بلدة منها، قال لي: سل عن رجل من الديلم، يقال له أبو الحسين بن شيركوه، فأكرمه، واعرف حقه، واقرئه سلامي، وقل له: سمعت وأنا صبي، بحديث منام كان أبي رآه، وفسره هو وأنت، على مفسر بديلمان، ولم أقم عليه للصبا، فحدثني به، واحفظه لتعيده علي.
فلما جئت إلى ديلمان، جاءني الرجل مسلماً، فعلمت بأنه كان بينه وبين بويه، والد الأمير، صداقة، فأكرمته، وعظمته، وأبلغته رسالة معز الدولة.
فقال لي: كانت بيني وبين بويه مودة وكيدة، وهذه داره وداري، متحاذيتان، كما ترى، وأومأ إليهما.
فقال لي ذات يوم: إني قد رأيت رؤيا هالتني فاطلب لي إنساناً يفسرها لي.
فقلت: نحن هاهنا في مفازة، فمن أين لنا من يفسر؟ ولكن اصبر حتى يجتاز بنا منجم أو عالم، فنسأله، ومضى على هذا الأمر شهور.
فخرجت أنا وهو في بعض الأيام إلى شاطئ البحر، نصطاد سمكاً، فجلسنا، فاصطدنا شيئاً كثيراً، فحملناه على ظهورنا، أنا وهو، وجئنا.
فقال لي: ليس في داري من يعمله، فخذ الجميع إليك ليعمل عندك.
فأخذته، وقلت له: فتعال إلي، لنجتمع عليه، ففعل.
فقعدنا أنا وعيالي ننظفه، ونطبخ بعضه، ونشوي الباقي.
وإذا رجل مجتاز، يصيح، منجم، مفسر للرؤيا.
فقال لي: يا أبا الحسين، تذكر ما قلته لك، بسبب المنام الذي رأيته؟ فقلت: بلى، فقمت، وجئت بالرجل.
فقال له بويه: رأيت ليلة في منامي، كأني جالس أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة كالعمود، ثم تشعبت يمنة ويسرة، وأماماً وخلفاً، حتى ملأت الدنيا، وانتبهت، فما تفسير هذا؟ فقال له الرجل: لا أفسره لك بأقل من ألف درهم.
قال: فسخرنا منه، وقلنا له: ويحك، نحن فقراء، نخرج نصيد سمكاً لنأكله، والله ما رأينا هذا المبلغ قط، ولا عشره، ولكنا نعطيك سمكة من أكبر هذا السمك.
فرضي بذلك، وقال له: يكون لك أولاد يفترقون في الدنيا، فيملكونها ويعظم سلطانهم فيها، على قدر ما احتوت النار التي رأيتها في المنام عليه من الدنيا.
قال: فصفعنا الرجل، وقلنا: سخرت منا، وأخذت السمكة حراماً.
وقال له بويه: ويلك، أنا صياد فقير، كما ترى، وأولادي هم هؤلاء، وأومأ إلى علي بن بويه، وكان أول ما اختط عارضه، والحسن، وهو دونه، وأحمد، وهو فوق الطفل قليلاً.
ومضت السنون، وأنسيت المنام، حتى خرج بويه إلى خراسان، وخرج علي بن بويه، فبلغنا حديثه، وأنه قد ملك أرجان، ثم ملك فارس كلها.
فما شعرنا إلا بصلاته، قد جاءت إلى أهله، وشيوخ بلد الديلم، وجاءني رسوله يطلبني، فخرجت، ومشيت إليه، فهالني ملكه، وأنسيت المنام، وعاملني من الجميل والصلات بأمر عظيم.

وقال لي، وقد خلونا: يا أبا الحسين، تذكر منام أبي الذي ذكرتموه للمفسر، وصفعتموه لما فسره لكم؟ فاستدعى عشرة آلاف دينار، فدفعها إلي، وقال: هذا من ثمن تلك السمكة، خذه، فقبلت الأرض.
فقال لي: تقبل تدبيري؟ فقلت: نعم.
قال: أنفذها إلى بلد الديلم، واشتر بها ضياعاً هناك، ودعني أدبر أمرك بعدها، ففعلت، وأقمت عنده مدة، ثم استأذنته في الرجوع.
فقال: أقم عندي، فإني أقودك، وأعطيك أقطاعاً بخمسمائة ألف درهم في السنة.
فقلت له: بلدي أحب إلي، فأحضر عشرة آلاف دينار أخرى، فأعطاني إياها.
وقال: لا يعلم أحد بها، فإذا حصلت في بلد الديلم، فادفن منها خمسة آلاف، استظهاراً على الزمان، وجهز بناتك بخمسة آلاف، ثم أعطاني عشرة دنانير، وقال: احتفظ بهذه، ولا تخرجها من يدك، فأخذتها، فإذا في كل واحد مائة دينار وعشرة دنانير.
فودعته، وانصرفت.
قال أبو القاسم: فحفظت القصة، فلما عدت إلى معز الدولة، حدثته بالحديث، فسر به وتعجب.
بين جحظة البرمكي ومحبرة بن أبي عباد الكاتبأخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثني أبي، قال: أبو الفرج الأصبهاني قال: حدثني جحظة، قال: اتصلت علي إضاقة أنفقت فيها كل ما أملك، حتى بقيت وليس في داري غير البواري.
فأصبحت يوماً وأنا أفلس من طنبور بلا وتر، ففكرت كيف أعمل فيه، فوقع لي أن أكتب إلى محبرة بن أبي عباد الكاتب، وكنت أجاوره، وكان قد ترك التصرف قبل ذلك بسنين، ولزم بيته، وحالفه النقرس، فأزمنه، حتى صار ى يتمكن من التصرف إلا محمولاً على الأيدي، أو في محفة، وكان مع ذلك، على غاية الظرف، وكبر النفس، وعظم النعمة، وأن أتطايب عليه ليدعوني، فآخذ منه ما أنفقه مدة، فكتبت إليه:
ماذا ترى في جدي ... وبرمة وبوارد
وقهوة ذات لون ... يحكي خدود الخرائد
ومسمع ليس يخطي ... من نسل يحيى وخالد
إن المضيع لهذا ... نزر المروءة بارد
فما شعرت إلا بمحفة محبرة يحملها غلمانه إلى داري، وأنا جالس على بابي.
فقلت له: لم جئت؟ ومن دعاك؟.
قال: أنت.
قلت: إنما قلت لك: ماذا ترى في هذا؟ وعنيت في بيتك، وما قلت لك إنه في بيتي، وبيتي والله أفرغ من فؤاد أم موسى.
فقال: الآن قد جئت ولا أرجع، ولكن أدخل إليك، وأستدعي من داري ما أريد.
قلت: ذاك إليك.
فدخل، فلم ير في بيتي إلا بارية.
فقال: يا أبا الحسن، هذا والله، فقر مفظع، هذا ضر مدقع، ما هذا؟ فقلت: هو ما ترى.
فأنفذ إلى داره فاستدعى فرشاً، وقماشاً، وجاء فراشه، ففرشه، وجاءوا من الصفر والشمع، وغير ذلك مما يحتاج إليه، وجاء طباخه بما كان في مطبخه، وجاء شرابيه بالصواني، والمخروط، والفاكهة، والبخور، وجلس يومه ذاك عندي.
فلما كان في غد، سلم إلي غلامه كيساً فيه ألفا درهم، ورزمة من فاخر الثياب، واستدعى محفته، فجلس فيها، وشيعته هنية.
فلما بلغ آخر الصحن، قال: مكانك يا أبا الحسن، احفظ بابك، فكل ما في الدار لك.
وقال للغلمان: اخرجوا.
فأغلقت الباب على قماش بألوف كثيرة.
ذنب جحظة إلى الزمانأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا: علي بن المحسن، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: حدثنا جحظة، قال: أنشدت عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، قولي:
قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر واريته ... وجامع بذرت ما يجمع
فقال لي: ذنبك إلى الزمان الكمال.
المجنون الشاعرأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أبو علي الحسن بن صالح، قال: قال مساور الوراق: قلت لمجنون كان عندنا، وكان شاعراً، ويقال إن عقله ذهب لفقد ابنة عم كانت له.
فقلت له يوماً، أجز هذا البيت:
وما الحب إلا شعلة قدحت بها ... عيون المها باللحظ بين الجوانح
قال: فقال على المكان:
ونار الهوى تخفى وفي القلب فعلها ... كفعل الذي جاءت به كف قادح
المقتدر يستقضي الحسن بن عبد الله


على مدينة المنصورأخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: بعد الثلاثة أيام التي تقلد فيها ابن الأشناني، مدينة المنصور، اسقتضى المقتدر على مدينة المنصور، الحسن بن عبد الله بن علي، في يوم الاثنين لست بقين في ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلثمائة.
وهذا رجل حسن الستر، جميل الطريقة، قريب الشبه من أبيه وجده، في باب الحكم والسداد.
فلم يزل والياً على المدينة إلى نصف رمضان سنة عشرين وثلثمائة، ثم صرفه المقتدر.
وتوفي يوم عاشوراء من سنة خمس وعشرين.
ثلاثة متقدمون لا يزاحمهم أحدأخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري، قال: رأيت ثلاثة يتقدمون ثلاثة أصناف من بني جنسهم، فلا يزاحمهم أحد.
أبو عبد الله الحسين بن أحمد الموسوي، يتقدم الطالبيين، فلا يزاحمه أحد.
وأبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي، يتقدم العباسيين، فلا يزاحمه أحد.
وأبو بكر الأكفاني، يتقدم الشهود، فلا يزاحمه أحد.
من شعر أبي نضلة مهلهلبن يموت بن المزرع وأخبرنا التنوخي، قال: أنشدنا أبو الحسن بن الأخباري، قال: أنشدني أبو نضلة لنفسه، ونحن في مجلس أبي بكر الصولي:
وخمرة جاء بها شبهها ... ظلمت لا بل شبهه الخمر
فبات يسقيني على وجهه ... حتى توفي عقلي السكر
في ليلة قصرها طيبها ... بمثلها كم بخل الدهر
قال: وأنشدني أبو نضلة لنفسه:
ولما التقينا للوداع ولم يزل ... ينيل لثاماً دائماً وعناقا
شممت نسيماً منه يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
خصومة بين قاض وشاهد انتهت بالمصالحة1 - أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما كان يوم الخميس لخمس بقين من شعبان سنة 328، خلع الراضي على أبي نصر يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، وقلده الحضرة بأسرها، الجانب الشرقي، والغربي، والمدينة، والكرخ، وقطعة من أعمال السواد، وخلع على أخيه أبي محمد الحسين بن عمر، لقضاء أكثر السواد.
ثم صرف الراضي أبا نصر عن مدينة المنصور، بأخيه الحسين في سنة تسع وعشرين، وأقره على الجانب الشرقي.
وفي يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، أشهد أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي على نفسه ثلاثين شاهداً من العدول بأنه لا يشهد عند القاضي أبي نصر يوسف بن عمر ببغداد، وأخذ خطوط الشهود أنه عدل مقبول الشهادة.
وفي يوم الاثنين لثمان بقين من ذي الحجة أسجل القاضي أبو نصر، يوسف بن عمر، بأن أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشمي، ساقط الشهادة، بشهادة عشرين عدلاً عليه بذلك.
2 - في ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، قلد القاضي أبو السائب عتبة بن عبيد الله القضاء في الجانب الشرقي، وأقر القاضي أبو نصر على الجانب الشرقي.
وقلد أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي، قضاء مدينة أبي جعفر.
وفي هذه السنة، جمع القاضي أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي، أبا عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي، وأبا نصر يوسف بن أبي الحسين عمر بن محمد القاضي في منزله، حتى اصطلحا، وتعاقدا على التصافي، وأخذ كل واحد منهما خط صاحبه بتزكيته، وبما تأكد من الصلح بينهما، وكانا قد خرجا إلى أقبح المباينة، حتى أشهد أبو نصر، وهو والي قضاء مدينة السلام على نفسه، بإسقاط أبي عبد الله، وأنه غير موضع للشهادة، وسعى أبو عبد الله في صرفه، ومعارضته بما يكره، حتى تهيأ له في ذلك ما أراد.
كلب يحرم نفسه من قوتهويؤثر صاحبه على نفسه أخبرني علي بن محمد، قال: حدثني الحسين بن شداد، قال: ولاني القاسم، خلافة أحمد بن ميمون بنيسابور، فنزلت في بعض منازلها، فوجدت في جواره جندياً من أصحابه، يعرف بنسيم، كان برسم تنظيف كلابه.
وإذا كلب له يخرج بخروجه، ويدخل بدخوله، وإذا جلس على بابه قربه، وغطاه بدواج كان عليه.
فسألت الراسبي عن محل الغلام، وكيف يقنع الأمير منه، بدخول الكلب عليه، ويرضى منه بذلك، وليس بكلب صيد؟

قال أبو الوليد: سله عن حديثه، فإنه يخبرك بشأنه.
فأحضرت الغلام، وسألته عن السبب الذي استحق به هذه المنزلة منه؟ فقال: هذا خلصني - بعد الله عز وجل - من أمر عظيم.
فاستبشعت هذا القول منه، وأنكرته عليه، فقال لي: اسمع حديثه فإنك تعذرني.
كان يصحبني رجل من أهل البصرة، يقال له محمد بن بكر، لا يفارقني، يواكلني، ويعاشرني على النبيذ وغيره منذ سنين.
فخرجنا إلى الدينور، فلما رجعنا وقربنا من منزلنا، كان في وسطي هميان فيه جملة دنانير، ومعي متاع كثير أخذته من الغنيمة، قد وقف عليه بأسره.
فنزلنا إلى موضع، فأكلنا، وشربنا.
فلما عمل الشراب، عمد إلي، فشد يدي إلى رجلي، وأوثقني كتافاً، ورمى بي في واد، وأخذ كل ما معي، وتركني ومضى، وأيست من الحياة.
وقعد هذا الكلب معي، ثم تركني ومضى، فما كان بأسرع من أن وافاني، ومعه رغيف، فطرحه بين يدي، فأكلته، ولم أزل أحبو إلى موضع فيه ماء، فشربت منه، ولم يزل الكلب معي، باقي ليلي يعوي إلى أن أصبحت، فحملتني عيناي، وفقدت الكلب.
فما كان بأسرع من أن وافاني ومعه رغيف، فأكلت، وفعلت فعلي في اليوم الأول.
فلما كان اليوم الثالث غاب عني، فقلت مضى يجيئني بالرغيف، فلم ألبث إلا أن جاء ومعه الرغيف، فرمى به إلي، فلم استتم أكله، إلا وابني على رأسي يبكي.
فقال: ما تصنع هاهنا، وما هي قصتك؟ ونزل فحل كتافي، وأخرجني.
فقلت له: من أين علمت بمكاني، ومن دلك علي؟ فقال: كان الكلب يأتينا في كل يوم، فنطرح له الرغيف على رسمه، فلا يأكله. وقد كان معك، فأنكرنا رجوعه، ولست أنت معه، فكان يحمل الرغيف بفيه، ولا يذوقه ويخرج يعدو، فأنكرنا أمره، فاتبعته حتى وقفت عليك.
فهذا ما كان من خبري وخبر الكلب، فهو عندي أعظم مقداراً من الأهل والقرابة.
قال: ورأيت أثر الكتاف في يده، قد أثر أثراً قبيحاً.
الأمير جعفر بن ورقاء يعاتب القاضيينأبا عمر وأبا الحسين أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا التنوخي، قال: حدثنا محمد بن عبيد الله النصيبي، قال: إن جعفر بن ورقاء حدثهم، قال: عدت من الحج أنا وأخي، فتأخر عن تهنئتي القاضي أبو عمر وابنه أبو الحسين، فكتبت إليهما:
أأستجفي أبا عمر وأشكو ... وأستجفي فتاه أبا الحسين
بأي قضية وبأي حكم ... ألحا في قطيعة واصلين
فما جاءا ولا بعثا بعذر ... ولا كانا لحقي موجبين
فإن نمسك ولا نعتب تمادى ... جفاؤهما لأخلص مخلصين
وإن تعتب فحق غير أنا ... نجل عن العتاب القاضيين
فوصلت الأبيات إلى أبي عمر، وهو على شغل، فأنفذها إلى أبي الحسين، وأمره بالجواب عنها، فكتب إلي:
تجن واظلم منتقلاً ... عن خالص الود أيها الظالم
ظننت بي جفوة عتبت لها ... فخلت أني لحبلكم صارم
حكمت بالظن والشكوك ولا ... يحكم بالظن في الهوى حاكم
تركت حق الوداع مطرحاً ... وجئت تبغي زيارة القادم
أمران لم يذهبا على فطن ... وأنت بالحكم فيهما عالم
وكل هذا مقال ذي ثقة ... وقلبه من جفائه سالم
الخليفة الراضي يبكي حزناً
على قاضي القضاة أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: توفي قاضي القضاة، يعني أبا الحسين عمر بن محمد بن يوسف، في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، وصلى عليه ابنه أبو نصر، ودفن إلى جانب أبي عمر في دار إلى جانب داره.
وقال أبو بكر الصولي: كان هذا القاضي قد بلغ من العلم مبلغاً عظيماً، وقرأ علي من كتب اللغة والأخبار، ما يقارب عشرة آلاف ورقة، وتوفي ابن سبع وثلاثين سنة.
ووجد عليه الراضي وجداً شديداً، حتى كان يبكي بحضرتنا، وقال: كنت أضيق بالشيء ذرعاً، فيوسعه علي.
وكان يقول: لا بقيت بعده.
أبو بكر الأنباري يملي من حفظهأنبأنا محمد بن عبد الباقي قال: أنبأنا علي بن أبي علي البصري عن أبيه، قال:

أخبرني غير واحد ممن شاهد أبا بكر الأنباري، أنه كان يملي من حفظه، لا من كتاب، وأن عادته في كل ما كتب عنه من العلم، كانت هكذا، ما أملى قط من دفتر.
اجتمعت في أيام المتقي إسحاقات سحقت خلافتهأخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال حدثني أبي، قال: قال لي أبو الحسين بن عياش: اجتمعت في أيام المتقي بالله إسحاقات كثيرة، فانسحقت خلافة بني العباس في أيامه، وانهدمت قبة المنصور الخضراء التي كان بها فخرهم.
فقلت له: ما كانت الإسحاقات؟ قال: كان يكنى أبا إسحاق، وكان وزيره القراريطي يكنى أبا إسحاق، وكان قاضيه ابن إسحاق الخرقي، وكان محتسبه أبو إسحاق بن بطحاء، وكان صاحب شرطته أبو إسحاق بن أحمد، وكانت داره القديمة، دار إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكانت الدار نفسها دار إسحاق بن كنداج.
الخليفة المتقي يستسقيأخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثنا أبو محمد الصلحي الكاتب، قال: نادى منادي المتقي في زمن خلافته، في الأسواق: إن أمير المؤمنين يقول لكم معشر رعيته، إن امرأة صالحة رأت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها، فشكت احتباس القطر، فقال لها: قولي للناس يخرجون في يوم الثلاثاء الأدنى ويستسقون، ويدعون الله، فإنه يسقيهم في يومهم، وإن أمير المؤمنين يأمركم معاشر المسلمين بالخروج، في يوم الثلاثاء كما أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تدعوا وتستسقوا بإصلاح من نياتكم، وإقلاع عن ذنوبكم.
قال: فأخبرني الجم الغفير أنهم لما سمعوا النداء، ضجت الأسواق بالبكاء والدعاء.
فشق ذلك علي، وقلت: منام امرأة لا يدرى كيف تأويله، وهل يصح أم لا، ينادي به خليفة في أسواق مدينة السلام؟ فإن لم يسقوا كيف يكون حالنا مع الكفار؟ فليته أمر الناس بالخروج ولم يذكر هذا.
وما زلت قلقاً حتى أتى يوم الثلاثاء، فقيل لي: إن الناس قد خرجوا إلى المصلى مع أبي الحسن أحمد بن الفضل بن عبد الملك، إمام الجامع، وخرج أكثر أصحاب السلطان، والفقهاء، والأشراف.
فلما كان قبل الظهر، ارتفعت سحابة، ثم طبقت الآفاق، ثم أسبلت عزاليها بمطر جود.
فرجع الناس حفاة من الوحل.
وتقدرون فتضحك الأقدارأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني علي بن أبي علي البصري، قال: أخبرني أبي، قال: حدثني أبو بكر عمر بن عبد الملك السقطي قال: سمعت أبا بكر بن يعقوب بن شيبة يحدث، قال: لما ولدت، دخل أبي على أمي، فقال لها: إن المنجمين قد أخذوا مولد هذا الصبي، وحسبوه، فإذا، هو يعيش كذا وكذا، وقد حسبتها أياماً، وقد عزمت على أن أعد له لكل يوم ديناراً، مدة عمره، فإن ذلك يكفي الرجل المتوسط، له ولعياله، فأعدي له حباً فارغاً، فأعدته، وتركته في الأرض، وملأه بالدنانير.
ثم قال: أعدي حباً آخر، أجعل فيه مثل هذا استظهاراً، ففعلت، وملأه.
ثم استدعى حباً آخر، وملأه بمثل ما ملأ به كل واحد من الحبين، ودفن الجميع، فما نفعني ذلك، مع حوادث الزمان، فقد احتجت إلى ما ترون.
قال أبو بكر السقطي: ورأيناه فقيراً يجيئنا بلا إزار، ونقرأ عليه الحديث، ونبره بالشيء بعد الشيء.
الأمير معز الدولة يشجعالسعي والصراع والسباحة أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: من أعجب الأشياء المتولدة في زمن معز الدولة، السعي، والصراع، وذلك إن معز الدولة، احتاج إلى السعاة، ليجعلهم فيوجاً بينه وبين أخيه ركن الدولة، إلى الري، فيقطعون تلك المسافة البعيدة، في المدة القريبة، وأعطى على جودة السعي الرغائب.
فحرص أحداث بغداد وضعفاؤهم على ذلك، حتى انهمكوا فيه، وأسلموا أولادهم إليه.
فنشأ ركابيان لمعز الدولة، يعرف أحدهما بمرعوش، والآخر بفضل، يسعى كل واحد منهما، نيفاً وثلاثين فرسخاً في يوم، من طلوع الشمس إلى غروبها، يترددون ما بين عكبرا وبغداد.
وقد رتب على كل فرسخ من الطريق، قوماً يحضون عليهم، فصاروا أئمة السعاة ببغداد، وانتسب السعاة إليهم، وتعصب الناس لهم.

واشتهى معز الدولة الصراع، فكان يعمل بحضرته حلقة في ميدانه، ويقيم شجرة يابسة تنصب في الحال، ويجعل عليها الثياب الديباج، والعتابي، والمروزي، وتحتها أكياس فيها دراهم، ويجمع على سور الميدان المخانيث بالطبول والزمور، وعلى باب الميدان الدبادب، ويؤذن للعامة في دخول الميدان، فمن غلب، أخذ الثياب والشجرة والدراهم.
ثم دخل في ذلك أحداث بغداد، فصار في كل موضع صراع، فإذا برع أحدهم، صارع بحضرة معز الدولة، فإن غلب، أجريت عليه الجرايات، فكم من عين ذهبت بلطمة، وكم من رجل اندقت.
وشغف بعض أصحاب معز الدولة بالسباحة، فتعاطاها أهل بغداد، حتى أحدثوا فيها الطرائف.
فكان الشاب يسبح قائماً، وعلى يده كانون فوقه حطب يشتعل تحت قدر، إلى أن تنضج، ثم يأكل منها، إلى أن يصل إلى دار السلطان.
فرار الناس من بغداد لما دخلها الديلمأنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف، قال: لما دخل الديلم من الجانب الغربي، إلى الجانب الشرقي، وخاف الناس السيف، هربوا على وجوههم، وكانت العذراء، والمخبأة المترفة من ذوات النعم، والصبية، والأطفال، والعجائز، وسائر الناس، يخرجون على وجوههم، يتعادون يريدون الصحراء، وكان ذلك اليوم حاراً، فلا يطيقون المشي.
قال أبو محمد الصلحي: انهزمنا يومئذ مع ناصر الدولة، نريد الموصل، من بين يدي معز الدولة، وقد عبر من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فرأيت ما لا أحصي من أهل بغداد، قد تلفوا بالحر والعطش، ونحن نركض هاربين، فما شبهته إلا بيوم القيامة.
قال: فأخبرني جماعة: أنهم شاهدوا امرأة لم ير مثلها في حسن الثياب والحلي، وهي تصيح: أنا ابنة فلان، ومعي جوهر وحلي بألف دينار، رحم الله من أخذه مني وسقاني شربة ماء، فما يلتفت إليها أحد، حتى خرت ميتة، وبقيت متكشفة، والثياب عليها والحلي، وما يعرض له أحد.
الوزير علي بن عيسى يقولليتني تمنيت المغفرة أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن قريعة، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن داسه، قالا: حدثنا أبو سهل بن زياد القطان، صاحب علي بن عيسى، قال: كنت مع علي بن عيسى، لما نفي إلى مكة، فلما دخلناها، دخلنا في حر شديد، وقد كدنا نتلف.
فطاف علي بن عيسى، وسعى، وجاء فألقى نفسه، وهو كالميت من الحر والتعب، وقلق قلقاً شديداً.
وقال: أشتهي على الله شربة ماء مثلوج.
فقلت له: يا سيدي تعلم أن هذا مما لا يوجد بهذا المكان.
فقال: هو كما قلت، ولكن نفسي ضاقت عن ستر هذا القول، فاستروحت إلى المنى.
قال: وخرجت من عنده، ورجعت إلى المسجد الحرام، فما استقررت فيه، حتى نشأت سحابة، فبرقت، ورعدت، وجاءت بمطر يسير، وبرد كثير.
فبادرت إلى الغلمان، فقلت: اجمعوا.
فجمعنا منه شيئاً عظيماً، وملأنا جراراً كثيرة، وجمع أهل مكة منه شيئاً عظيماً.
وكان علي بن عيسى صائماً، فلما كان وقت المغرب، خرج إلى المسجد الحرام ليصلي المعرب.
فقلت له: أنت والله مقبل، والنكبة زائلة، وهذه علامات الإقبال، فاشرب الثلج كما طلبت.
وجئته بأقداح مملوءة من أصناف الأسوقة والأشربة، مكبوسة بالبرد.
فأقبل يسقي ذلك من قرب منه، من الصوفية، والمجاورين، والضعفاء، ويستزيد، ونحن نأتيه بما عندنا، وأقول له: اشرب، فيقول: حتى يشرب الناس.
فخبأت مقدار خمسة أرطال، وقلت له: إنه لم يبق شيء.
فقال: الحمد لله، ليتني كنت تمنيت المغفرة، فلعلي كنت أجاب.
فلما دخل البيت لم أزل أداريه حتى شرب منه، وتقوت ليلته بباقيه.
الزاهدة ابنة أبي الحسن المكيأنبأنا محمد بن أبي طاهر البزاز، قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني عبيد الله بن أحمد بن بكير، قال: كان لأبي الحسن المكي، ابنة مقيمة بمكة، أشد ورعاً منه، وكانت لا تقتات إلا ثلاثين درهماً ينفذها إليها أبوها في كل سنة، مما يستفضله من ثمن الخوص الذي يسفه ويبيعه.
فأخبرني ابن الرواس التمار، وكان جاره، قال: جئته، أودعه للحج، وأستعرض حاجته وأسأله أن يدعو لي.

فسلم لي قرطاساً، وقال: تسأل بمكة في الموضع الفلاني عن فلانة، وتسلم هذا إليها.
فعلمت أنها ابنته، فأخذت القرطاس، وجئت، فسألت عنها، فوجدتها بالعبادة والزهد، أشد اشتهاراً من أن تخفى.
فطمعت نفسي في أن يصل إليها من مالي شيء يكون لي ثوابه، وعلمت أنني إن دفعت إليها ذلك لم تأخذه، ففتحت القرطاس، وجعلت الثلاثين درهماً، خمسين درهماً، ورددته كما كان، وسلمته إليها.
فقالت: أي شيء خبر أبي؟ فقلت: على السلامة.
فقالت: قد خالط أهل الدنيا، وترك الانقطاع إلى الله؟ فقلت: لا.
قالت: أسالك بالله، وبمن حججت له، عن شيء فتصدقني؟ قلت: نعم، فقالت: خلطت في هذه الدراهم شيئاً من عندك؟ فقلت: نعم، فمن أين علمت هذا؟ فقالت: ما كان أبي يزيدني على الثلاثين شيئاً، لأن حاله لا تحتمل أكثر منها، إلا أن يكون ترك العبادة، فلو أخبرتني بذلك، ما أخذت منه أيضاً شيئاً.
ثم قالت لي: خذ الجميع فقد عققتني، من حيث قدرت أنك بررتني، ولا آخذ من مال لا أعرف كيف هو، شيئاً.
فقلت: خذي منها ثلاثين، كما أنفذ إليك أبوك، وردي الباقي.
فقالت: لو عرفتها بعينها من جملة الدراهم لأخذتها، ولكن قد اختلطت بما لا أعرف جهته، فلا آخذ منها شيئاً، وأنا الآن أقتات إلى الموسم الآخر من المزابل، لأن هذه كانت قوتي طول السنة، فقد أجعتني، ولولا أنك ما قصدت أذاي، لدعوت عليك.
قال: فاغتممت، وعدت إلى البصرة، وجئت إلى أبي الحسن، فأخبرته، واعتذرت إليه.
فقال: لا آخذها وقد اختلطت بغير مالي، وقد عققتني وإياها.
قال: فقلت ما أعمل بالدراهم؟ قال: لا أدري.
فما زلت مدة أعتذر إليه، وأسأله ما أعمل بالدراهم.
فقال لي بعد مدة: صدق بها.
ففعلت.
أبو عمر غلام ثعلب من الرواةالذين لم ير أحفظ منهم أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن أبي علي، عن أبيه، قال: من الرواة الذين لم ير أحفظ منهم، أبو عمر غلام ثعلب، أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة، لغة، فيما بلغني.
وجميع كتبه التي في أيدي الناس، إنما أملاها بغير تصنيف، ولسعة حفظه اتهم بالكذب.
وكان يسأل عن الشيء الذي يقدر السائل أنه قد وضعه، فيجيب عنه، ثم يسأله غيره بعد سنة، على مواطأة، فيجيب بذلك الجواب بعينه.
أخبرنا بعض أهل بغداد، قال: كنا نجتاز على قنطرة الصراة، نمضي إليه، مع جماعة، فتذاكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أصحف له القنطرة، وأسأله عنها.
فلما صرنا بين يديه، قال له: أيها الشيخ ما الهرنطق عند العرب؟ فقال: كذا، وذكر شيئاً قد أنسيته أنا.
قال: فتضاحكنا، وأتممنا المجلس، وانصرفنا.
فلما كان بعد أشهر، ذكرنا الحديث، فوضعنا رجلاً غير ذلك، فسأله، وقال: ما الهرنطق؟ فقال: أليس قد سئلت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا شهراً، فقلت هي كذا؟.
قال: فما درينا من أي الأمرين نعجب، من ذكائه، وإن كان علماً فهو اتساع ظريف، وإن كان كذباً في الحال، ثم قد حفظه، فلما سئل عنه ذكر الوقت والمسألة، فأجاب بذلك الجواب، فهو أظرف.
قال أبي: وكان معز الدولة، قد قلد شرطة بغداد، مملوكاً تركياً يعرف بخواجا.
فبلغ أبا عمر الخبر، وكان يملي الياقوتة، فلما جاءوه، قال: اكتبوا ياقوتة خواجا، الخواج في اللغة الجوع، ثم فرع على هذا باباً، فأملاه، فاستعظم الناس ذلك، وتتبعوه.
فقال أبو علي الحاتمي: أخرجنا في أمالي الحامض، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، الخواج: الجوع.
كلب يحمي صاحبه ممن أراد أن يخنقهأخبرني بعض الشيوخ من أهل الجبل، قال: كنت أنا مع جماعة خارجين إلى أصبهان، فلما صرنا إلى بعض الطريق، مررنا بخان قديم خراب، ليس فيه أحد، وإذا صوت كلب ينبح، وإذا حركة شديدة.
فدخلنا بأجمعنا الخان، فإذا نحن برجل من أصحابنا نعرفه، من الفيوج، كان معه كلب لا يفارقه حيث كان، وإذا بعض المبنجين قد وقع عليه، وكان الفيج فطناً، فلما رأى أن حيلته ليست تنفذ له عليه، طرح في عنقه وتراً ليخنقه به.
فلما رأى الكلب ذلك، ثار إلى المبنج، فخمش وجهه، وعض قفاه، وطرح منه قطعة لحم، فسقط المبنج مغشياً عليه.
فخلصنا من عنق صاحبنا الوتر، وكان قد أشرف على التلف، وقبضنا على المبنج، فكتفناه بوتره، ودفعناه إلى السلطان.
لص يموت على النقب الذي نقبه

أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز عن أبي القاسم علي بن المحسن، عن أبيه قال: أخبرني أبو الفرج الأصبهاني: أن لصاً نقب ببغداد في زمن الطاعون الذي كان في سنة ست وأربعين وثلثمائة، فمات مكانه وهو على النقب.
وأن إسماعيل القاضي، لبس سواده، ليخرج إلى الجامع، فيحكم، ولبس أحد خفيه، وجاء ليلبس الآخر، فمات.
لا آمرك، ولكني شفيعأخبرنا القاضيان، أبو الحسين أحمد بن علي التنوخي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا الحسن بن مكرم بن حسان، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أعتقت بريرة، وكان زوجها حبشياً، خيرت، فاختارت فراقه، فكان يطوف حولها، ودموعه تسيل على خديه حباً لها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعمه العباس: أما ترى شدة حبه لها، وشدة بغضها له؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لو تزوجته.
قالت: إن أمرتني.
قال: لا آمرك، ولكني شفيع.
فلم تفعل.
القاضي أبو جعفر بن البهلول
يلي قضاء مدينة المنصور عشرين سنةأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن جعفر الشاهد قال: لم يزل أحمد بن إسحاق بن البهلول على قضاء المدينة - يعني مدينة المنصور - من سنة ست وتسعين ومائتين إلى ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلثمائة.
وكان ربما اعتل، فيخلفه ابنه أبو طالب محمد، وهو رجل جميل الأمر، حسن المذهب، شديد التصون، وممن كتب العلم، وحدث بعد أبيه بسنين.
أبو بكر الآدمي واجتماع الناس
عليه عندما يقرأ القرآنأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله الأسدي، قال: سمعت أبي يقول: حججت في بعض السنين، وحج في تلك السنة، أبو القاسم البغوي وأبو بكر الآدمي، القاريء.
فلما صرنا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، جاءني أبو القاسم البغوي، فقال لي: يا أبا بكر، هاهنا رجل ضرير، قد جمع حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعد يقص، ويروي الكذب من الأحاديث الموضوعة، والأخبار المفتعلة، فإن رأيت أن تمضي بنا إليه، لننكر عليه ونمنعه.
فقلت له: يا أبا القاسم إن كلامنا لا يؤثر مع هذا الجمع الغفير، والخلق العظيم، ولسنا ببغداد، فيعرف لنا موضعنا، ولكن هاهنا، أمر آخر، هو الصواب.
فأقبلت على أبي بكر الآدمي، وقلت له: استعذ، واقرأ.
فما هو إلا أن ابتدأ بالقراءة، حتى انجفلت الحلقة، وانفض الناس جميعاً، فأحاطوا بنا يستمعون قراءة أبي بكر، وتركوا الضرير وحده.
فسمعته يقول لقائده: خذ بيدي، هكذا تزول النعم.
أبو بكر الآدمي يقرأ القرآن
في بغداد فتسمع قراءته في كلواذىأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال: حدثني درة الصوفي، قال: كنت بائتاً بكلواذى، على سطح عال، فلما هدأ الليل، قمت لأصلي، فسمعت صوتاً ضعيفاً يجيء من بعد، فأصغيت إليه، وتأملته، فإذا هو صوت أبي بكر الآدمي القاريء، فقدرته منحدراً في دجلة، وأصغيت، فلم أجد الصوت يقرب، ولا يزيد، وظل على ذلك ساعة، ثم انقطع.
فتشككت في الأمر، وصليت، ونمت، وبكرت، فدخلت بغداد على ساعتين من النهار، أو أقل.
وكنت مجتازاً في السماوية، فإذا بأبي بكر الآدمي ينزل إلى الشط من دار أبي عبد الله الموسوي التي تقرب من فرضة جعفر على دجلة.
فصعدت إليه، وسألته عن خبره، فأخبرني بسلامته.
وقلت: أين كنت البارحة؟ فقال: في هذه الدار.
فقلت: قرأت؟ قال: نعم.
قلت: أي وقت؟ قال: بعد نصف الليل إلى قريب من الثلث الآخر.
قال: فنظرت، فإذا هو الوقت الذي سمعت فيه صوته بكلواذى.
فعجبت من ذلك عجباً شديداً، بان له في، فقال: ما لك؟ فقلت: إني سمعت صوتك البارحة، وأنا على سطح بكلواذى، وتشككت، فلولا أنك أخبرتني الساعة على غير اتفاق، ما صدقته.
قال: فاحكها عني.
فأنا أحكيها دائماً.


أبو جعفر بن برية يرى أبا بكر الآدمي في النومأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدثني علي بن أبي علي المعدل، قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي موسى القاضي، وأبو إسحاق الطبري، وغيرهما، قالوا سمعنا أبا جعفر عبد الله بن إسماعيل بن برية، يقول: رأيت أبا بكر الآدمي في النوم بعد موته بمديدة، فقلت له: ما فعل الله بك؟.
فقال لي: أوقفني بين يديه، وقاسيت شدائد وأموراً صعبة.
فقلت له: فتلك الليالي والمواقف والقرآن؟ فقال: ما كان شيء أضر علي منها، لأنها كانت للدنيا.
فقلت له: فإلى أي شيء انتهى أمرك؟ قال: قال لي تعالى، آليت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين.
بين الأول والثاني مائة سنة
وهما في القعدد إلى المنصور سواءأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن أبي علي، قال: سمعت القاضي أبا بكر بن أبي موسى الهاشمي، وأبا إسحاق الطبري، ومن لا أحصي من شيوخنا، يحكمون: أنهم سمعوا أبا جعفر المعروف بابن برية الإمام، يقول: رقى هذا المنبر - يعني منبر مسجد جامع المدينة - الواثق في سنة ثلاثين ومائتين، ورقيت هذا المنبر في سنة ثلاثين وثلثمائة وبين الرقيتين مائة سنة، وأنا وهو في القعدد إلى المنصور سواء، هو الواثق ابن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، وأنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن المنصور.
إن الله لا يعذب من جاوز الثمانينأخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الذهبي المعروف بابن القطان، قال: رأيت أبا السائب عتبة بن عبيد الله قاضي القضاة بعد موته، فقلت: ما فعل الله بك، مع تخليطك؟ - بهذا اللفظ - .
قال: غفر لي.
فقلت: فكيف ذاك؟ فقال: إن الله تعالى عرض علي أفعالي القبيحة، ثم أمر بي إلى الجنة، وقال: لولا أني آليت على نفسي أن لا أعذب من جاوز الثمانين، لعذبتك، ولكني قد غفرت لك، وعفوت عنك، اذهبوا به إلى الجنة.
فأدخلتها.
شقيقان ملتزقان من جانب واحدأخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، وأبو عمر أحمد بن محمد الخلال، قالا: حدثنا جماعة كثيرة العدد من أهل الموصل وغيرهم، ممن كنا نثق بهم، ويقع لنا العلم بصحة ما حدثوا به، لكثرته، وظهوره، وتواتره، أنهم شاهدوا بالموصل، سنة نيف وأربعين وثلثمائة، رجلين أنفذهما صاحب أرمينية إلى ناصر الدولة، للأعجوبة فيهما.
وكان لهما نحو من ثلاثين سنة، وهما ملتزقان من جانب واحد، ومن حد فويق الحقو إلى دوين الإبط، وكان معهما أبوهما، فذكر لهم أنهما ولدا كذلك.
وكنا نراهما يلبسان قميصين، وسراويلين، كل واحد منهما لباسه مفرد، إلا أنه لم يكن يمكنهما - لالتزاق كتفيهما، وأيديهما - المشي، لضيق ذلك عليهما، فجعل كل واحد منهما يده التي تلي أخاه، من جانب الالتزاق خلف ظهر أخيه، ويمشيان كذلك، وأنهما كانا يركبان دابة واحدة، ولا يمكن أحدهما التصرف، إلا إذا تصرف الآخر معه، وإذا أراد أحدهما الغائط، قام الآخر معه، وإن لم يكن محتاجاً.
وإن أباهما حدثهم، أنه لما ولدا، أراد أن يفرق بينهما، فقيل له إنهما يتلفان، لأن التزاقهما من جانب الخاصرة، وإنه لا يجوز أن يفصلا، فتركهما، وكانا مسلمين.
فأجازهما ناصر الدولة، وخلع عليهما.
وكان الناس بالموصل يصيرون إليهما، فيتعجبون منهما، ويهبون لهما.
قال أبو محمد: وأخبرني جماعة: أنهما خرجا إلى بلدهما، فاعتل أحدهما ومات، وبقي أياماً حتى أنتن، وأخوه حي، لا يمكنه التصرف، ولا يمكن الأب، دفن الميت، إلى أن لحقت الحي، علة من الغم والرائحة، فمات أيضاً، فدفنا جميعاً.
وكان ناصر الدولة قد جمع لهما الأطباء، وقال: هل من حيلة في الفصل بينهما؟ فسألهما الأطباء عن الجوع، هل تجوعان في وقت واحد.
فقال: إذا جاع الواحد منا تبعه جوع الآخر بشيء يسير من الزمان، وإن شرب أحدنا دواء مسهلاً، انحل طبع الآخر بعد ساعة، وقد يلحق أحدنا الغائط، ولا يلحق الآخر، ثم يلحقه بعد ساعة.

فنظروا فإذا لهما جوف واحد، وسرة واحدة، ومعدة واحدة، وكبد واحد، وطحال واحد، وليس في موضع الالتصاق، أضلاع، فعلموا أنهما إن فصلا تلفا.
ووجدوا لهما ذكرين، وأربع بيضات.
وكان ربما وقع بينهما خلاف وتشاجر، فتخاصما أعظم خصومة، حتى ربما حلف أحدهما لا كلم الآخر، أياماً، ثم يصطلحان.
القاضي عمر بن أكثم جلس يقضيفي الموضع الذي جلس فيه جد أبيه قبل مائة عام أخبرنا علي بن المحسن، أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما فتح المطيع لله، والأمير معز الدولة أحمد بن بويه، البصرة، في شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، خرج القاضي أبو السائب عتبة بن عبيد الله، إلى البصرة، مهنئاً لهما، وكان يكتب له على الحكم، أبو بشر عمر بن أكثم بن أحمد بن حبان بن بشر الأسدي.
وحبان رجل من جلة المسلمين، تقلد القضاء في نواحي كثيرة، وتقلد أصبهان، ثم قلد الشرقية.
وأبو بشر رجل من سروات الرجال، نشأ نشوءاً حسناً، على حال صيانة تامة، ومعرفة ثاقبة، فقبل الحكام شهادته، ثم كتب للقضاة.
فاستخلفه القاضي أبو السائب، عند خروجه، على الجانب الشرقي، ثم جمع البلد لأبي السائب، وهو بالبصرة مع المطيع، فكتب بذلك إلى الحضرة واستخلفه على بغداد بأسرها.
فتجمل القضاء بموضعه، وأجرى الأمور مجاريها، وأصدرها مصادرها، وواصل الجلوس، ولم يحتجب عن الخصوم، وأجهد نفسه في الصبر على كبار الأمور، غير برم، ولا ضجر، فظهر منه خشونة، فانحسم عنه الطمع، واعتقد أهل الأقدار مودته، وبثوا في الناس شكره وذكره.
ثم أصعد القاضي أبو السائب إلى الحضرة، ونظر في الأمور بنفسه، وعاد أبو بشر إلى كتابته.
قال طلحة: نظرت في التاريخ، فإذا القاضي أبو بشر عمر بن أكثم بن أحمد بن حبان قد جلس في الشرقية، في الموضع الذي جلس فيه، حبان بن بشر، جد أبيه، قبل مائة سنة.
قلت: لم يزل عمر بن أكثم على كتابة أبي السائب، إلى أن مات أبو السائب، وذلك في شهر ربيع الآخر من سنة خمسين وثلثمائة، فأقر عمر بن أكثم على خلافته، إلى أن قلد قضاء القضاة أبو العباس بن أبي الشوارب في شعبان من هذه السنة، ثم عزل في سنة اثنتين وخمسين، وقلد أبو بشر، قضاء القضاة، في رجب من سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، فلم يزل يتولاه إلى أن صرف عنه، في شعبان في سنة ست وخمسين، ولازم منزله إلى أن توفي.
فكانت مدة تقلده قضاء القضاة، إلى أن صرف عنه، أربع سنين وأياماً.
ذكر لي ذلك التنوخي.
الشاعر المتنبي لا يفصح عن نسبهقال المحسن: سألت المتنبي عن نسبه، فما اعترف لي به، وقال: أنا رجل أخبط القبائل، وأطوي البوادي وحدي، ومتى انتسبت، لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينها وبين القبيلة التي أنتسب إليها.
وما دمت غير منتسب إلى أحد، فأنا أسلم على جميعهم.
المتنبي يحفظ كتاباً
من ثلاثين ورقة قرأه مرة واحدة أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن يحيى العلوي قال: كان المتنبي، وهو صبي، ينزل في جواري بالكوفة، وكان أبوه يعرف بعبدان السقاء، يستقي لنا ولأهل المحلة.
ونشأ هو محباً للعلم والأدب، وصحب الأعراب، فجاءنا بعد سنين بدوياً قحاً، وكان تعلم الكتابة والقراءة، وأكثر من ملازمة الوراقين.
فأخبرني وراق كان يجلس إليه، قال لي: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى ابن عبدان.
قلت له: كيف؟ قال: كان اليوم عندي، وقد أحضر رجل كتاباً من كتب الأصمعي، نحو ثلاثين ورقة، ليبيعه، فأخذ ينظر إليه طويلاً.
فقال له الرجل: يا هذا أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك، وإن كنت تريد حفظه، فهذا إن شاء الله يكون بعد شهر.
فقال له: فإن كنت قد حفظته في هذه المدة، ما لي عليك؟ قال: أهب لك الكتاب.
قال: فأخذت الدفتر من يده، فأقبل يتلوه علي إلى آخره، ثم استلمه، فجعله في كمه.
فقام صاحبه وتعلق به، وطالبه بالثمن.
فقال: ما إلى ذلك سبيل قد وهبته لي.
فمنعناه منه، وقلنا له: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام.
فتركه عليه.
المتنبي وادعاؤه النبوةقال المحسن: اجتمعت بعد موت المتنبي بسنين، مع القاضي أبي الحسن بن أم شيبان الهاشمي، وجرى ذكر المتنبي، فقال:

كنت أعرف أباه بالكوفة، شيخاً يسمى عبدان، يستقي على بعير له، وكان جعفياً صحيح النسب.
قال: وكان المتنبي لما خرج إلى كلب، فأقام فيهم، ادعى أنه علوي حسني، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي، إلى أن شهد عليه بالشام، بالكذب في الدعوتين، وحبس دهراً طويلاً، وأشرف على القتل، ثم استتيب، وأشهد عليه بالتوبة، وأطلق.
كيف قتل المتنبيأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ، قال: حدثني علي بن أيوب، قال: خرج المتنبي من بغداد إلى فارس، فمدح عضد الدولة، وأقام عنده مديدة، ثم رجع من شيراز يريد بغداد، فقتل بالطريق بالقرب من النعمانية، في شهر رمضان، وقيل في شعبان، من سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وفي سبب قتله ثلاثة أقوال: أحدها: إنه كان معه مال كثير، فقتله العرب لأخذ ماله، فذكر بعض العلماء، إنه وصل إليه من عضد الدولة، أكثر من مائتي ألف درهم، بقصيدته التي قال فيها:
ولو أني استطعت حفظت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
وفي آخرها:
وأنى شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاحاً أو هلاكا
فجعل قافية البيت " الهلاك " فهلك.
وذلك أنه ارتحل عن شيراز، بحسن حال، وكثرة مال، ولم يستصحب خفيراً، فخرج عليه أعراب، فحاربهم، فقتل هو، وابنه محسد، وبعض غلمانه، وفاز الأعراب بأمواله، وكان قتله، بشط دجلة، في موضع يعرف بالصافية، يوم الأربعاء لثلاث بقين من رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة.
واسم قاتله: فاتك بن أبي جهل الأسدي.
والقول الثاني: إن سبب قتله، كلمة قالها عن عضد الدولة، فدس عليه من قتله.
وذكر مظفر بن علي الكاتب، قال: اجتمعت برجل من بني ضبة، يكنى أبا رشيد، فذكر أنه حضر قتل المتنبي، وكان صبياً، حين راهق حينئذ.
وكان المتنبي قد وفد على عضد الدولة، وهو بشيراز، ثم صحبه إلى الأهواز، فأكرمه ووصله بثلاثة آلاف دينار، وثلاث كسى، في كل كسوة سبع قطع، وثلاثة أفراس، بسروج محلاة، ثم دس عليه من سأله: أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة ابن حمدان؟ فقال المتنبي: هذا أجزل إلا أنه عطاء متكلف، وكان سيف الدولة يعطي طبعاً.
فاغتاظ عضد الدولة، لما نقل إليه هذا، وأذن لقوم من بني ضبة، في قتله، إذا انصرف.
قال: فمضيت مع أبي، وكنا في ستين راكباً، فكنا في واد، فمر في الليل، ولم نعلم به، فلما أصبحنا، تبعنا أثره، فلحقناه، وقد نزل تحت شجرة كمثرى، وعندها عين، وبين يديه سفرة طعام.
فلما رآنا قام، ونادى: هلموا وجوه العرب، فلم يجبه أحد، فأحس بالداهية، فركب ومعه ولده، وخمسة عشر غلاماً له، وجمعوا الرحال، والجمال، والبغال، فلو ثبت مع الرجالة لم نقدر عليه، ولكنه برز إلينا يطاردنا.
قال: فقتل ولده، وأحد غلمانه، وانهزم يسيراً، فقال له غلام له: أين قولك؟ :
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم
فقال له: قتلتني، قتلك الله، والله، لا انهزمت اليوم، ثم رجع كاراً علينا، فطعن زعيمنا في عنقه، فقتله، واختلفت عليه الرماح، فقتل.
فرجعنا إلى الغنائم، وكنت جائعاً، فلم يكن لي هم إلا السفرة، فأخذت آكل منها.
فجاء أبي، فضربني بالسوط، وقال: الناس في الغنائم، وأنت مع بطنك؟ اكفأ ما في الصحاف، وأعطنيها، فكفأت ما فيها، ودفعتها إليه، وكانت فضة، ورميت الفراخ والدجاج في حجري.
والقول الثالث: إن المتنبي هجا ضبة الأسدي، فقال:
ما أنصف القوم ضبة ... وأمه الطرطبة
فبلغته، فأقام له في الطريق من قتله، وقتل ولده، وأخذ ما معه، وكان ضبة يقطع الطريق.
بحث في آل الكرخيحدث أبو علي المحسن قال: القاسم بن علي بن محمد الكرخي، وأخوه أبو أحمد، وابناه جعفر ومحمد، تقلدوا الدنيا.
لأن القاسم تقلد كور الأهواز، وتقلد مصر والشام، وتقلد ديار ربيعه.
وتقلد ابنه جعفر كور الأهواز، وتقلد فارس وكرمان وتقلد الثغور، وأشياء أخر.
وتقلد أبو جعفر محمد بن القاسم الجبل، وديوان السواد، دفعات، وقطعة من المشرق كبيرة، وتقلد البصرة والأهواز مجموعة، ثم تقلد عدة دواوين كبار جليلة بالحضرة، ثم تقلد الوزارة للراضي، ثم الوزارة للمتقي.

وإذا أضيف إليهم من تقلد من وجوه أهلهم وكبارهم، لم يخل بلد جليل، من أن يكون واحد منهم تقلده.
وإنما سموا الكرخيين، لأن أصلهم من ناحية الرستاق الأعلى بالبصرة من عراص المفتح تعرف بالكرخ باقية إلى الآن، إلا أنها كالخراب، لشدة اختلالها.
وقد تقلد البصرة غير واحد منهم، وقطعاً من الأهواز، تقلد البصرة أبو أحمد أخو القاسم الكرخي، وتقلد مصر أيضاً.
وتقلد قطعة من الأهواز، في أيام السلطان، أبو جعفر الكرخي المعروف بالجرو، وهذا الرجل مشهور بالجلالة فيهم قديماً، وكان مقيماً بالبصرة، وشاهدته أنا، وهو شيخ كبير، وقد اختلت حاله، فصار يلي الأعمال الصغار، من قبل عمال البصرة.
وكان أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي، لما ملك البصرة، صادره على مال أفقره، وسمر يديه في حائط، وهو قائم على كرسي، فلما سمرت يداه بالمسامير في الحائط، نحي الكرسي من تحته، وسلت أظافيره، وضرب لحمه بالقصب الفارسي، ولم يمت، ولا زمن، ورأيته بعد ذلك بسنين صحيحاً.
ولا عيب فيهم، إلا ما كانوا يرمون به من الغلو، فإن القاسم وولديه، استفاض عنهم، أنهم كانوا مخمسة، يعتقدون أن علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين، ومحمد صلوات الله عليه، خمسة أشباح أنوار قديمة، لم تزل، ولا تزال، إلى غير ذلك من أقوال هذه النحلة، وهي مقالة مشهورة.
وكان القاسم ابنه، من أسمح من رأينا في الطعام، وأشدهم حرصاً على المكارم، وقضاء الحاجات.
وكان لأبي جعفر، محمد بن القاسم، على ما بلغني، في غير عمل تقلده وخرج إليه، ستمائة دابة وبغل، ونيف وأربعون طباخاً.
ثم آلت حاله في آخر عمره إلى الفقر الشديد، ومات بعد سنة 340 في منزله ببغداد.
ما شاهدنا أحفظ من أبي بكر الجعابيأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن أبي علي، عن أبيه، قال: ما شاهدنا أحفظ من أبي بكر الجعابي، وسمعت من يقول: إنه يحفظ مائتي ألف حديث، ويجيب في مثلها، إلا أنه كان يفضل الحفاظ، بأنه كان يسوق المتون بألفاظها، وأكثر الحفاظ يتسمحون في ذلك، وكان يزيد عليهم بحفظ المقطوع، والمرسل، والحكايات، ولعله يحفظ من هذا، قريباً مما يحفظ من الحديث المسند.
وكان إماماً في المعرفة بعلل الحديث، وثقات الرجال، ومعتلهم، وضعفائهم، وأساميهم، وأنسابهم، وكناهم، ومواليدهم، وأوقات وفاتهم، ومذاهبهم، وما يطعن به على كل واحد، وما يوصف به من السداد.
وكان في آخر عمره قد انتهى هذا العلم إليه، حتى لم يبق في زمانه من يتقدمه فيه في الدنيا.
من شعر أبي نصر القاضيأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: حدثني التنوخي، قال: أنشدني أبو الحسن أحمد بن علي البتي، قال: أنشدني أبو نصر يوسف بن عمر القاضي لنفسه:
يا محنة الله كفي ... إن لم تكفي فخفي
ما آن أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي
ذهبت أطلب بختي ... فقيل لي قد توفي
ثور ينال الثريا ... وعالم متخفي
الحمد لله شكراً ... على نقاوة حرفي
من شعر الزاهيأنشدنا التنوخي، قال: أنشدنا محمد بن عبيد الله بن حمدان الكاتب النصيبي، قال: أنشدني علي بن إسحاق بن خلف، الزاهي البغدادي القطان، لنفسه، وكان دكانه في قطيع الربيع:
قم نهني عاشقين ... أصبحا مصطلحين
جمعا بعد فراق ... فجعا منه وبين
ثم عادا في سرور ... من صدود آمنين
فهما روح ولكن ... ركبت في جسدين
قال لي التنوخي: مات الزاهي بعد سنة ستين وثلثمائة.
من شعر أبي فراس الحمدانيأخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أنشدنا القاضي علي بن المحسن التنوخي، قال أنشدنا أبو الفرج بن الببغاء، قال: أنشدنا أبو فراس، وكتب بها إلى غلامين له، وهو مأسور:
هل تحسان لي رفيقاً رفيقا ... يحفظ الود أو صديقاً صديقا
لا رعى الله يا حبيبيّ دهراً ... فرقتنا صروفه تفريقا
كنت مولاكما وما كنت إلا ... والداً محسناً وعماً شفيقا ====

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق