المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
والأخرس يرى النَّاس يصفِّقون بأيديهم عند دعاءِ إنسانٍ أو عند الغضب والحَدِّ فيعرف صورة تلك الحركةِ لطول تَرْدادِها على عينيه كما يعرف سائِر الإشارات وإذا تعجَّبَ ضربَ فالنّعامة تعرفُ صورةَ إشارة الرِّئلان وإِرادتها فتعقل ذلك وتجاوبها بما تعقل عنها من الإشارة والحركة وغدت لحركتها أصواتٌ ولو كانا يسمعان لم تزد حالهما في التّفاهُم على ذلك .
شم النعامة والعرب تقول : أَشَمُّ مِنْ نَعامةٍ وأَشَمُّ مِنْ ذَرّةٍ قال الرَّاجز : أشمُّ مِنْ هَيْقٍ وَأَهْدَى مِنْ جَمَلْ وقال الحِرْمازيُّ في أرجُوزته : وهو يَشْتَمُّ اشتِمامَ الهَيْقِ قال : وأخبرنا ابنُ الأعرابيِّ أنَّ أعرابيّاً كلم صَاحِبَهُ فرآه لا يفهَمُ عنه ولا يسمعُ فقال : أَصَلَخٌ كَصلَخِ النَّعَامَةِ .
شم الفرس والذئب والذر وقد يكون الفرَسُ في الموكِب وخلفه على قاب غلوتين حِجْرٌ أو رَمكة فَيَتَحَصَّنُ تحتَ راكبِه من غير أن تكونَ صهلَتْ .
والذِّئب يشتَمُّ ويستروحِ منْ مِيلٍ والذّرَّة تَشْتمُّ ما ليس لَهُ ريحٌ ممّا لو وضعْتَهُ على أنفكَ ما وجَدْتَ لَهُ رائحة وإن أجَدْتَ التشمُّمَ كرِجْل
الجرادة تَنْبِذُهَا من يدك في موضعٍ لم تر فيه ذرَّة وقال الشَّاعر وهو يصف استرواح الناس : ( وجاءَ كمِثْلِ الرَّأْلِ يَتْبَعُ أَنْفَهُ ** لِعَقْبَيْهِ مِنْ وَقْعِ الصُّخورِ قعاقعُ ) فإنَّ الرَّألَ يشتم رائحة أبيه وأمِّه والسَّبعُ والإنْسَانِ من مكانٍ بعيد وشبَّهَ به رَجُلاً جاءَ يتَّبع الرِّيح فيَشتمُّ . )
استطراد لغوي وقال الآخر : ( والمرء لم يغضَبْ لمطْلَبِ أَنْفِهِ ** أو عِرْسِه لكَريهةٍ لم يَغْضَبِ ) ومطْلَب أنفه : فَرْجُ أمِّه لأنَّ الولد إذا تمَّتْ أيَّامهُ في الرّحم قَلا مَكانَهُ وكرهَه وضاق به موضِعُهُ فطلبَ بأنفه مَوضع المخرَجِ مِمَّا هو فيه من الكرب حتَّى يَصِير أَنفه ورأسُهُ على فم الرَّحم تِلقاءَ فم المخرج فالأَناء والمكانُ يرفعانه في تلك الجهة والولد يلتمِسُ تلك الجهةَ بأنْفه
ولولا أنَّه يطلبُ الهواءَ من ذاته ويكرهُ مكانَه من ذاته ثمَّ خرج إلى عالَمٍ آخَرَ خلافِ عالمه الذي رُبِّي فيه لَمَاتَ كما يموت السَّمَكُ إذا فارقه الماء ولكنَّ الماءَ لمّا كانَ قابلاً لطباع السمك غاذياً لها والسَّمكُ مريداً له كان في مفارقته له عطبُه وكان في مفارقة الولد لجَوْف البطن واغتذائه فضلاتِ الدَّم مَا لاَ يَنْقُصُ شيئاً من طباعِه وطباع المكان الذي كان له مَرَّةً مَسْكناً فلذلك قال ( والمرءُ لم يغضب لمطْلَبِ أنفه ** أو عِرسه لكريهةٍ لَمْ يغضَبِ ) يقول : متى لم يَحْمِ فرجَ أمِّه وامرأته فليس مِمّن يغضب من شيءٍ يؤُول إليه . ( قول المتكلِّمين في صمم الأخرس ) وزعم المتكلِّمون أنَّ الأخرسَ أصمُّ وأنّه لم يُوتَ من العجْز عن المنطق لشيءٍ في لسانه ولكنّه إنّما أُتي في ذلك لأنّه حين لم يسمع صوتاً قطُّ مؤلَّفاً أو غير مؤلَّف لم يعرف كيفيَّته فيقصدَ إليه وأنّ جميعَ الصُّمِّ ليس فيهم مُصْمَت وإنما يتفَاوَتُون في الشِّدَّةِ واللِّين فبعضهم يسمع الهدّة والصَّاعقة ونَهِيق الحمار إذا كان قريباً منه
والرَّعد الشّديدَ لا يسمَعُ غير ذلك ومنهم من يَسمع السِّرار وإذا رفَعْت له الصَّوتَ لم يسمَعْ ومتى كلَّمته وقرَّت الشِّكاية في أذنه فهِمَ عنك كلَّ الفهم وإن تكلَّمْت على ذلك المقدار في الهواءِ ولم يكن ينفذُ في قناةٍ تحصُرُه وتجمعُه حتّى تُؤَدِّيه إلى دِماغه لم يفهمه .
فالأصمُّ في الحقيقة إنَّما هو الأخرس والأخرس إنَّما سمِّي بذلك على التشبيه والقرابة ومتى ضَرَب الأصمُّ من النَّاس إنساناً أو شيئاً غيرَه ظنَّ أنَّه لم يبالِغْ حتّى يسمعَ صوتَ الضربة قال الشّاعر : وقال الأسَدِيّ : ( وَأُوصِيكُمُ بطِعَانِ الكُمَاةِ ** فقَدْ تعلمُونَ بأنْ لا خُلودَا )
( وَضَرْبِ الجماجمِ ضَرْبَ الأصَمِّ ** حَنْظَلَ شَابَةَ يَجنى الهبيدا ) وقال الهذلي : ( فالطعْنُ شَغْشَغَةٌ وَالضَّرْبُ مَعْمَعَةٌ ** ضَرْبَ المُعَوِّل تَحْتَ الدِّيَمةِ العَضَدا ) وإنَما جعله تحتَ الدِّيمة لأنّ الأغصانَ والأشجارَ تصير ألْدَنَ وأعْلَك فيحتاج الذي يضربُ تلك الأُصولَ قبل المطر إلى عشْر ضَرَباتٍ حتَّى يقطع ذلك المضروب فإِذا أصابه المطَرُ احتاج إلى أكثرَ من ذلك .
تحقيق معنى شعري وأنشدني يحيى الأغر : ( كَضَرْبِ القُيونِ سَبِيك الحدي ** دِ يومَ الجنائب ضرباً وَكيدا ) فلم أعرفه فسألتُ بعضَ الصَّياقلة فقال : نعم هذا بَيِّنٌ معروف إذا أَخْرَجْنا الحديدةَ من الكِيرِ في يومِ شَمَال واحتاجت في القطْع إلى مائة ضربةٍ احتاجَت في قطْعها يومَ الجَنُوب إلى أكثر من ذلك وإلى أشدّ من ذلك الضَّرب لأَنّ الشمالَ يُيَبِّسُ ويقصِف والجنوب يرطِّب ويلدِّن .
والإنسان أبداً أَخْرسُ إذا كان لا يسمع ولا يتبيَّن الأصوات التي تخرج من فيه على معناه ويقال في غير الإنسان على غير ذلك قال كثيِّر : ( ألم تَسْألي يا أمّ عَمْرٍ و فَتُخْبَرِي ** سَلِمْتِ وأسقَاكِ السّحَابُ البوارقُ ) ( بكياً لِصَوْتِ الرَّعدِ خرس روائح ** ونعق ولم يُسْمَعْ لهن صواع )
وتقول العرَب : مازلت تحت عينٍ خرساء والعين : السحابة تبقى أيّاماً تمطر وإذا كثر ماؤها وكثُف ولم يكن فيها مخارق تُمدحْ ببرق .
سرعة الضوء وسرعة الصوت ومتى رأيتَ البرقَ سَمِعتَ الرَّعْدَ بعدُ والرَّعدُ يكون في الأصل قبلَه ولكنَّ الصَّوتَ لا يصل إليك في سرعة البرق لأنَّ البارقَ والبصر أشدُّ تقارباً من الصَّوتِ والسَّمْع وقد ترى الإنسانَ وبينك وبينه رحْلهُ فيضرب بعصاً إمَّا حجراً وإمّا دَابَّةً وإمَّا ثوباً فترى الضَّرْب ثمّ تمكثُ وقتاً إلى أن يأتيَك الصَّوت .
السحابة الخرساء فإذا لم تصوِّت السَّحابةُ لم تبشِّر بشيءٍ وإذا لَمْ يكن لها رِزٌّ سمِّيت خَرْساءَ .
وإِذا كانت الصَّخرةُ في هذه الصِّفة سمِّيت صماءَ قال الأعشَى : ( وإذا تجيءُ كتيبةٌ ملمُومَةٌ ** مَكْرُوهَةٌ يخشى الكُمَاةُ نِزَالهَا ) وعلى غير هذا المعنى قال كثيِّر : ( كأني أنادي صَخْرَةً حين أعْرَضَتْ ** من الصُّمِّ لو تمشي بها العصْمُ زَلَّتِ )
ومن هذا الشّكل قولُ زُهير : ( وَتَنُوفَةٍ عَمْياءَ لا يَجْتازُها ** إلا المشيَّعُ ذُو الفُؤَاد الهادي ) ( قَفْرٍ هَجَعْتُ بها ولستُ بنائِمٍ ** وذِراعٌ مُلْقِيَةِ الجِرَانِ وسِادِي ) ( وَوَقَعْتُ بَيْنَ قُتُودِ عنْس ضَامِرٍ ** لَحَّاظةٍ طَفَلَ العشيِّ سِنَادِ ) فجعل التَّنُوفَةَ عَمْياءَ حين لَمْ تكن بها أمارات .
الزبابة ودابَّة يقال لها الزَّبابَة عمياء صَمَّاء تشبه الفأرة وليست
بالخُلْد لأنَّ الخُلْدَ أعمى وليس بأصمّ والزبَاب يكون في الرَّمل وقال الشاعِر : ( وَهمُ زَبَابٌ حائر ** لا تَسْمَعُ الآذَانُ رَعْدَا ) وكلُّ مولودٍ في الأَرض يُولد أعمَى إن كان تأويل العمى أنّهُ لا يُبصر إلاّ بعد أيام فمنه ما يفتح عينيه بعد أيَّامٍ كالجِرْوِ إلاّ أولادَ الدّجاج فإنَّ فراريجها تخرُج كاسِيَة كاسِبة .
شعر فيه مجون وقال أبو الشمقمق وجعل الأيْر أعمى أصمَّ على التشبيه فقال : ( فسلِّمْ عليه فاتِرَ الطرْفِ ضاحكاً ** وصوِّت له بالحارثِ بن عُبادِ )
( بأصْلَعَ مِثْلِ الجرْوِ جَهْمٍ غَضَنْفَرٍ ** مُعَاوِدِ طَعْنٍ جَائفٍ وسناد ) ( أصمّ وأعْمَى يُنْغِضُ الدَّهْرَ رَأسَهُ ** يسير على مَيْلٍ بغير قيادِ ) قول لمن زعم أن النعامة تسمع وقال مَنْ زعَم أنَّ النَّعامة تسمع : يدلُّ على ذلك قول طَرَفَة : ( هَلْ بِالدِّيارِ الغَدَاةَ من خَرَسِ ** أمْ هَلْ بِرَبْع الجميعِ مِنْ أَنَسِ ) ( سِوَى مَهاة تَقْرُو أَسِرَّتَه ** وَجُؤذَُرٍ يَرْتَعِي على كَنَسِ ) ( أو خضابٍ يرتعي بهِقْلَتِهِ ** متى تَرُعْهُ الأَصْوَاتُ يهتَجِسِ ) فقد قال طَرَفة كما ترى : متى ترُعْهُ الأصوات يهتجس فكاهة
وروى الهيثم بنُ عديٍّ وسمعه بعضُ أصحابنا من أبي عبيدة قال : تضارَط أعرابيَّان عند خالد بن عبد اللّه أحدُهما تميميٌّ والآخر أزْديٌّ فضَرَط الأزْديُّ ضَرْطَةً ضئيلة فقال التميميّ : ( حَبَقْتَ عَجِيفاً مُحْثَلاً ولَوَ أنَّنِي ** حَبَقْتُ لأَسْمَعْتُ النّعَامَ المشَرَّدَا ) ( فمرَّ كمٍّ ر المنْجَنِيق وصَوْتُهُ ** يبذُّ هَزيمَ الرَّعْدِ بدءَا عَمرّدَا ) من لقبه : نعامة وزعم أبو عمرو الشَّيبانيُّ عن بعض العرب أنَّ كلّ عربيّ وأعرابيّ كان يلقَّب نَعامة فإنما يلقَّب بذلك لشدّة صَمَمِه وأنّهُ سأله عن الظليم : هل يسمع فقال : يَعرِفُ بأنفه وعينِه ولا يحتاج معهما إلى سمْع وَأَنْشَدَنِي : ( فجئْتُكَ مِثْلَ الهِقْلِ يشتمُّ رَأْلَهُ ** ولا عَرْفَ إلاّ سَوْفُهَا وَشَمِيمُها )
وزعم أَنَّ لَقَبَ بيهس نَعامةٌ وأنه لقِّب بذلك لأَنّه كان في خُلُق نعامة وكان شديدَ الصَّمَم مائقًا فأنْشَدَ لعديِّ بن زَيد : ( وَمِنْ حَذَرِ الأَيَّامِ مَا حَزّ أَنْفهُ ** قَصِيرٌ وَخاضَ المَوْتَ بالسَّيْفِ بَيْهَسُ ) ( نعامةٌ لَمَّا صرّع القومُ رَهْطَهُ ** تَبَيَّنَ في أَثْوَابهِ كيفَ يَلْبسُ ) ( مُنْتَخَبُ اللّبِّ لهُ ضَرْبَة ** خَدْباءُ كالعَطِّ من الخِذْعِلِ )
يقول : هذا السَّيف أهوجُ لا عَقْل له والخَدَب في هذا الموضوع : الهوَجُ وتهاوِي الشيءِ لا يَتَمَالك ويقال للسِّيف لا يُبالِي ما لَقِيَ .
شعر في النعام والتشبيه به وقال الأعشى في غير هذا الباب : ( كَحَوْصَلة الرَّالِ في جَرْيِهَا ** إذا جُلِيَتْ بَعْدَ إقْعَادِها ) كحوصلة الرَّأل يصف الخَمْرَ بالحمرة جليت : أخرجت وهو مأخوذ من جَلوة العروس القاعدة )
إذا قَعَدَت عن الطَّلَب ومثله في غَير الخمر قولُ علقمة : ( تأوي إلى حِسْكِلٍ حُمْرٍ حواصِلُه ** كأَنَّهُنَّ إذا بَرَّكْنَ جُرثومُ ) وقال الأخنس بن شهاب : ( تظِلُّ بها رُبْدُ النَّعامِ كأنَّهَا ** إمَاءٌ تُزَجِّي بالمسَاءِ حَواطبُ )
تُزجِّي : تَدْفَعُ وذلك أَنَّهُ يثقل ِحِملها فتمشي مِشْيَة النَّعامةِ وقال الرَّاجز : ( وإذا الرِّياحُ تَرَوَّحَتْ بِعَشِيَّةٍ ** رَتَكَ النَّعامُ إلى كَثِيفِ العَرْفَجِ ) والرّتَكُ : مشْيٌ سريع يقول تبادِرُ إلى الكثيف تستتر به من البَرْد وقال :
استقبال الظليم للريح وليسَ لقولِ مَنْ زعَم أنَّ الظليم إذا عدا استقْبَل الرِّيح وإنّمَا ذلك مخافَةَ أن تكونَ الرِّيحُ من خلفه فتَكبِتَه معنى لأنَّا نجدُهم يصفون جميع ما يستدعونه باستقبال الرِّيحِ قال عَبْدة بن الطَّبِيب يصف الثَّور : ( مستقبل الرِّيح يهفُو وَهوَ مُبْتَرِكٌ ** لسانُه عَنْ شِمالِ الشِّدْقِ مَعْدُولُ ) ووصف الذِّيبَ طُفيلٌ الغَنَويُّ فقال : ( كسيدِ الغَضَا العادِي أضَلَّ جِرَاءَهُ ** عَلَى شَرَفٍ مُسْتَقْبلَ الرِّيح يلحَب )
استطراد ويُلحَقُ بموضع ذِكْر الضَّربِ الشديد قولهم في المثَل : ضَرَبْنَاهُمْ ضَرْبَ غَرَائبِ الإبِلِ قال أبو حيّة : ( جَدِيرُونَ يَوْمَ الرَّوْعِ أَنْ يخْضِبُوا القَنَا ** وَأَنْ يترُكُوا الكَبْشَ المدجَّجَ ثاويا ) ( ضَرَبْنَاهُمُ ضرب الجنابَى على جبًى ** غرائب تغشاهُ حِراراً ضواريا ) وإذا جاءت عِطاشاً قَدْ بَلَغ منها العطشُ واليُبْسُ قيل : جاءَتْ تَصِلُّ
أجوافُها صَليلاً قال الرَّاعي : قال : وأنشدنا أبو مَهديَّة لمزاحمٍ العُقَيليّ : ( غَدَتْ مِنْ عَليه بعدَ مَا تمّ ظِمْؤُهَا ** تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَِيزاء مَجْهَل ) قال الزَّيزاءُ : المكان الغليظ .
وقال آخر : ) ( ألمْ تَعلمي يا أمَّ حَسَّانَ أَنَّنِي ** إِذا عَبْرَةٌ نَهنَهتُها فَتَجلَّتِ ) ( رجَعت إلى صَدْرٍ كجرَّةِ حَنْتمٍ ** إذا قُرِعَتْ صِفْراً مِنَ الماءِ صلَّتِ )
اختبار أمير المؤمنين المننصور لأحد الحواء وزعَمَ ابن أبي العجوز الحَوّاءُ أنَّ الأفاعيَ صُمٌّ فلذلك لا تُجيب الرُّقَى ثُمَّ زعم لي في ذلك المجلس أنَّ أميرَ المؤمِنينَ المنصورَ أراد امتحان رُقَى حَيَّةٍ وأنْ يتعرّف صحَّتها من سُقْمها وأنَّهُ أَمَرَ فصاغوا له أَفْعًى من رَصاص فجاءَت ولا يشكُّ النَّاظر فيها وأنَّهُ أمر بإلزاقها في موضعٍ من السَّقف وَأَنَّهُ أحضرهُ وقال له : إنَّ هذه الأفعى قد صارَتْ في هذه الدّارِ وقد كرِهْتُهَا لمكانِهَا فإِن احْتَلْتَ لي برُقْيَةٍ أو بما أحببْتَ أحسنتُ إليك قال : إن أَرَدْتُ أَنْ آخذها هَرَبَتْ ولكنْ أرقيها حتى تنزل فرقاها فلما رآها لا تتحرَّكُ زادَ في رفْع صوتِه وألقى قِنَاعَهُ فلما رآها لا تتحرَّكُ نزعَ عِمامَتَهُ وزاد في رفعِ صوتِه فلما رآها لا تتحرَّك نزَعَ قلنسُوتَهُ وزادَ في رفْعِ صوتِه فلما رآها لا تتحرَّك نَزَعَ ثِيابَهُ وزادَ في رَفْعِ صَوْتِهِ حَتَّى أزْبَد وتمرّغَ
في الأرض فلما فعل ذلك سال ذلك الرّصاصُ وذابَ حتى صار بينَ أيديهم فأقرّ عند ذلكَ المنصورُ بجودَةِ رُقيته .
فقلت له : ويلك زعمتَ قُبَيْلُ أَنَّ الأَفَاعِيَ لا تُجيب الرُّقَى لأنها لا تسمع وهي حيوان ثمَّ زعمتَ أَنَّها أجابت وهي جماد .
شعر وخبر في نفار النعامة وقال الشَّاعِرُ : ( وربداء يَكِفيها الشَّميمُ وما لَها ** سِوَى الرُّبْدِ من أنْسٍ بتلك المجاهِلِ ) يخبر أنَّ النّعامة لا تستأنسُ بشيءٍ من الوحْش وَأَنَّ الشَّمّ يغنيها في فهم ما تحتاج إليه وهي مع ذلك إذا صارتْ إلى دور النّاس فليس معها من الوحْشة منهم على قدر ما يذكرون وفي الوحش ما يأنس وفيها ما لا يأنس وقال كثيِّر : ( فأقْسَمْتُ لاَ أَنْسَاكِ ما عِشْتُ لَيْلَةً ** وَإنْ شَحَطَتْ دارٌ وَشَطّ مَزَارُها ) ( وما استَنّ رَقراقُ السّرَابِ وما جَرَتْ ** بِبيض الرُّبا أنسيُّها وَنَوَارُهَا )
ووصف بلاداً قفاراً غيرَ مأنوسة فقال : خصّها بالذِّكْر لأنها أَنْفَرُ وأشرَد وَأَقَلُّ أنْساً من جميع الوحش . )
وقال الأحيمر : كنتُ آتي الظَّبْيَ حتى آخُذَ بذراعيه وما كان شيءٌ من بهائِم الوحْش ينكرُني إلاّ النّعام وَأَنْشَدَ قَوْلَ ذي الرُّمّة : ( وكلّ أَحَمِّ المقْلتين كأنّهُ ** أخو الإنْسِ من طُول الخَلاءِ المغفّلِ )
نقار الوحش وهربها من الصحارى يدلّ على ذلك في قَدْرِ ما شاهدنا أنّهم يخرجون إلى الصّحارى الأغفال التي لم يُذْعَر صيدُها ولا يطَؤُها النَّاس فيأتون الوحْشَ فوضَى هَمَلاً ومعهم كلابُهم وفهودُهم تتلوى بأيديهم فيتقدّمون إلى المواضع التي لو كانوا ابتدؤوا الصّيْدَ مِنْ جهتها لأخَذُوا ما أخذوا فإذا نفرَتْ وحوش هذه الأرْضِ ومرَّت بالأرْضِ المجاوِرَةِ لها نفرت سُكّانُ تلك الأرضِ مع هذه النّوافر ولا تعودُ تلك الصحارى إلى مثل ما كانت عليه مِنْ كثْرَة الوَحْشِ حيناً .
ومتى لم تنفِّرها الأعرابُ بالكلابِ والقِسيِّ ونصْب الحبائل رتَعتْ بقُربهم ثمَّ دنتْ منهُمْ أوَّلاً فأوَّلاً حتى تطأ أكنافَ بيوتهم وهي اليوم في حَيْرِ المعتصم باللّه والواثق باللّه على هذه الصِّفة .
هجرة الظباء إلى الناس
وخبّرني إبراهيم بْنُ السِّنديِّ قال خبرني عبدُ الملك بنُ صالح وإسحاق بن عيسى وصالحٌ صاحب الموصِل أَنّ خالدَ بنَ بَرْمَكَ بينا هو على سطحٍ من سُطوح القُرى مع قَحْطَبَةَ وهم يتغدّون وذلك في بَعض منازلهم حين فصلوا من خُراسَانَ إلى الجبل قال : وبين قَحْطَبَةَ وبين الأعداء مَسِيرَةُ أيَّامٍ وليال قال : فبينا خالدٌ يتغدَّى معه وذلك حين نزلوا وبهم كَلاَلُ السَّير وحينَ عَلّقُوا على دوابِّهم ونصبوا قُدُورَهُمْ وَقَرَّبُوا سُفَرَهُمْ .
قال فَنَظَرَ خالدٌ إِلى الصَّحراءِ فرأى أقَاطيع الظِّباءِ قد أقبَلتْ من جهة الصَّحَارَى حتى كادت تخالِطُ العَسْكَر فقال لِقَحْطَبَةَ : أَيُّهَا الأمير نَادِ في النَّاس : يا خَيلَ اللّه ارْكَبي فإنّ العدوّ قد حثّ إليكَ السَّير وغاية أصحابك أنْ يسرِجوا ويُلجموا قبل أن يروا سَرَعان الخيل فقام قحطبة مذْعوراً فلما لم ير شيئاً يَرُوعه وَلَمْ يَرَ غُباراً قال لخالد : ما هذا الرّأيُ قال : أيُّها الأمير لا تتشاغل بي وبكلامي وَنَادِ في النَّاس أما تَرَى أقاطيعَ الوحْش قد أقبلت فارقت مواضعَها حتَّى خالطت الناس إنّ وَرَاءَهَا جَمْعاً عظيماً قال : فواللّه ما ألجموا وَأَسْرَجُوا حتى رَأَوْا ساطِعَ الغُبَار ولا تلبَّسوا وتسلَّحوا حَتَّى رأوا الطليعة فما التأموا حَتى استوى أصحابُ قحطبة على ظُهورِ خيولهم ولولا نَظْرَةُ خالد بنِ برمَكَ وُفِراستُهُ لقد كان ذلك الجيش اصطُلِم .
قصة في قوة الشمّ )
قصة في قوة الشم
وكان إِبراهيم بنُ السِّنديِّ يُحَدِّثُنا مِنْ صدقِ حِسِّ أبيه في الشَّمِّ بشيءٍ ما يُحكى مثلُهُ إلاَّ عن السِّباع والذَّرّ والنَّعام وزعم أنَّ أباه قال ذات يوم : أجدُ ريحَ بولِ فأرة ثمَّ تَشَمّمَ وأَجَالَ أَنْفَهُ في المجلس فقال : هو في تلك الزّاوية فنظروا فإذا على طرف البِساط من البلَلِ بقدْر الدِّرْهم أو أَوْسَعُ شيئاً فقضَوْا أَنَّهُ بولُ فأرة .
قال : وَشَهِدْتُهُ مَرَّةً وَأَشْرَاطُهُ قيامٌ على رأسِه في السِّمَاطين فقال : أجدُ رِيحَ جَوْرَبٍ عَفِنٍ مُنْتن فتشمَّمْنا بأجمعنا فلم نَجِدْ شَيْئاً ثمَّ تشمَّمَ وقال : انزَعُوا خُفَّ ذاك فنزعوا خُفّه فكلَّما مدَّ النازعُ له شيئاً بدا من لِفافَته فما زَال النَّتْنُ يَكْثُفُ ويزدادُ حتى خَلَعَ خُفَّهُ ونزَعَهُ مِنْ رِجْله فَظَهَرَ من نَتْنِ لِفَافَتِهِ ما عُرِفَ به صِدْقُ حسِّه ثمَّ قال : انزَعُوا الآنَ أَخْفَافَكُمْ بأجمعكم فلا بُدَّ من ألاَّ يكونَ في جميع اللَّفائفِ مُنْتِنٌ غيرُ لِفافته أو تكونَ لِفافتُه أنتَنها فَنَزَعُوا فلم يَجِدُوا في جميعها لِفافةً منتنةً غيرها . وَأَنْشَدُوا : ( غزا ابْنُ عُميرٍ غَزوةً تركت لنا ** ثَناءً كنَتْنِ الجوربِ المتخرِّقِ )
أقوى درجات التشمم وليس الذي يُحكَى من صِدق الحسِّ في الشَّم عن بعض النَّاس وعن النَّعام والسِّباع والفأر والذَّرّ وضروبٍ من الحشرات من شكل ما نطق به القرآنُ العظيمُ من شأن يعقوبَ ويوسفَ عليهما الصلاة والسَّلام حين يقول تعالى : قَالَ أَبُوهُمْ إنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالوا تَاللّهِ إنَّكَ لفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ وكان هذا من يعقوبَ بعد أنْ قال يوسف : اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ولذلك قال : وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ ثمَّ قال : فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً .
وإنّمَا هذا علامةٌ ظهرَتْ له خاصة إذ كان النَّاسُ لا يشتمُّون أرواحَ أولادِهم إذا تباعَدُوا عن أنوفهم وما في طاقة الحصان الذي يجدُ ريح الحِجْر ممَّا يجوزُ الغَلوتين والثَّلاث فكيف يجِدُ الإنسانُ وهو بالشَّام ريحَ ابنه في قميصه ساعَةَ فَصَلَ من أرض مصر ولذلك قال : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ .
بعض المجاعات )
بعض المجاعات
وقد غَبَرَ موسى وهو يَسِيرُ أَرْبَعِينَ عَاماً لا يذوق ذَوَاقاً وجاع أهل المدينة في تلك الحُطْمَةِ حتى كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يشدُّون الحَجَرَ على بُطُونِهِمْ من الجُوعِ والجَهْد وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيِّبين الطاهرين يقول : إنِّي لَسْتُ كأَحَدِكُمْ إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِيني .
حجاج في ذبح الحيوان وقتله ورجَالٌ مِمَّنْ ينتحل الإسلام يُظهِرُونَ التقذُّرَ من الصَّيدِ وَيَرَوْنَ أنَّ ذلكَ من القَسوة وَأنَّ أصحابَ الصَّيدِ لَتُؤَدِّيهم الضَّراوةُ التي اعترتهم
مِنْ طرُوقِ الطَّيرِ في الأوكار وَنَصْبِ الحبائل للظِّباء التي تنقطع عن الخشْفَانِ حتى تموتَ هُزْلاً وجُوعاً وإشلاء السِّباعِ على بهائِم الوحش وًسَتُسْلِمُ أهلَها إلى القَسْوة وإلى التهاوُن بدماء النَّاس .
والرَّحْمةُ شكلٌ واحد وَمَنْ لم يَرْحَمِ الْكَلْبَ لم يَرْحَمِ الظَّبيَ وَمَنْ لَمْ يرْحَم الظَّبيَ لَمْ يَرْحَمِ الجَدْيَ وَمَنْ لَمْ يَرْحَمِ الْعُصْفُوُرَ لَمْ يَرْحَمِ الصَّبيَّ وصِغارُ الأمور تؤدِّي إلى كبارها .
وليسَ ينبغي لأحدٍ أن يتهاونَ بشيءٍ ممَّا يؤدي إلى القَسْوة يَوماً مَا وأكثَرُ ما سمعت هذا البابَ مِنْ نَاسٍ من الصُّوفِيّة ومن النَّصَارَى لمضَاهاة النَّصارى سبيلَ الزَّنَادِقَة في رفضِ الذبائح وَالْبُغْضِ لإراقة الدِّماءِ وَالزُّهدِ في أكل اللُّحْمَانِ .
وقد كان يرحَمُك اللّه على الزِّنديق ألاَّ يأتي ذلك في سِبَاع الطَّيرِ وذواتِ الأربع من السّباع فأما قتْلُ الحَيَّةِ والعقرب فما كان ينبغي لهم الْبَتَّةَ أَنْ يَقِفُوا في قتلهما طَرْفَةَ عَينٍ لأنَّ هذه الأمورَ لا تخلو مِنْ أن تكونَ شرًّا صِرْفاً أو يكون ما فيها من الخير مغْموراً بما فيها من الشرِّ والشَّرُّ شيطانٌ والظُّلمة عدُوُّ النُّور فاستِحْياءُ الظلمة وأنتَ قادرٌ على إماتتها لا يكونُ من عمل النُّور بل قد ينبغي أن تكونَ رحمة النُّورِ لجميعِ الخلائِقِ والنَّاس إلى استنقاذهما من شُرور
وكما ينبغي أن يكون حَسَناً في العقْل استحياءُ النُّور والعمَلُ في تخليصه والدَّفْعُ عنه فكذلك ينبغي أنْ يكونَ قتْلُ الظُّلْمة وإماتتُها وَالعَوْنُ على إهلاكها وتوهينِ أمرها حسناً .
والبهيمة التي يَرَوْنَ أن يدفعُوا عنها أيضاً ممزُوجة إلاَّ أنَّ شَرّهَا أقلُّ فهم إذا استَبْقَوْها فقد استبْقَوا الشُّرورَ المخالطَة لها .
فإنْ زَعموا أنَّ ذلك إنَّما جاز لهم لأنَّ الأغلب على طِباعها النُّور فلْيغتفروا في هذا الموضعِ إدخالَ الأذى على قليل ما فيها من أجزاء الشَّرِّ كما اغتفروا ما في إدخال الروح والسُّرور على ما )
في البهيمة من أجزاء الظُّلْمة لدفعهم عن البهيمة إذْ كان أكثر أجزائها من النُّور .
وإِنَّما ذكرتُ ما ذكرت لأنَّهم قالوا : الدَّليلُ على أنَّ الذي أنتم فيه مِنْ أكل الحيوان كلَّ يومٍ من الذبائِح مكروهٌ عِنْدَ اللّهِ أَنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا قطُّ ذبّاحي الحيوان ولا قَتَّالي الإنسان ولا الذين لا يقْتاتون إِلاَّ اللّحْمَان يفلحون أبداً ويستغنون كنحو صيَّادِي السّمك وصيَّادي الوحْش وأصناف الجزَّارِين والقَصَّابين والشَّوّائين والطهَّائين
والفهَّادِين والبيَازِرة والصَّقَّارِينَ والكلابين لا ترى أَحَداً منهم صار إلى غِنًى وَيُسْرٍ ولا تراهُ أبداً إلا فقيراً مُحَارَفاً وعلى حالٍ مشبهَةٍ بحاله الأولى .
وكذلك الجلادون ومن يضرِبُ الأعناقَ بين يَدَي المُلوكِ وكذلك أصحابُ الاستخراج والعذَابِ وإن أصابوا الإصابات وجميع أهل هذه الأصناف . نَعَمْ وَحَتَّى ترى بعضَهم وإن خَرَجَ نَادِراً خارجيّاً ونال منهم ثَروةً وَجَاهاً وسُلطاناً فإمَّا أن يقْتَلَ وإمّا يُغْتَصَبَ نَفْسَهُ بميتَةٍ عاجلة عندَ سرورِه بالثَّروة أو يبعث اللّه عليه المحق فلا يَنْمُو له شيء وإما ألاَّ يجعل مِنْ نسلهم عَقِباً مذكوراً ولا ذِكْراً نبيهاً وَذُرِّيَّةً طَيبةً مثل الحجّاج بن يوسف وأبي مسلم ويزيد بن أبي
مسلم ومثل أبي الوعد ومثل رجَالٍ ذكروهم لا نحبُّ أن نسميهم .
قال : فإنَّ هؤلاءِ مع كثرة الطَّرُوقَةِ وظُهُورِ القدْرة ومع كثرة الإنسال قد قَبَحَ اللّه أمرَهم وأخْمَلَ أولادَهم فهم بين مَنْ لم يُعقِبْ أو بَيْنَ مَنْ هُوَ في معنى مَن لم يُعقب .
فقلت للنّصَارَى بديّاً : كيف كان النّاسُ أيَّامَ الحُكم بما في التَّوْراة أيَّامَ موسى وَدَاودَ وهما صاحبا حُروبٍ وَقَتْلٍ وَسِبَاءٍ وذبائحَ نعم حتى كان القُربان كُله أو عَامَّتُهُ حيواناً مذبوحاً لذلك سَمَّيتم بيت المَذْبحِ . وَلَسْنَا نسألكم عن سِيرَة النَّصارَى اليومَ ولكِنَّا نسألُكُمْ عَنْ دينِ مُوسى وَحُكْمِ التَّوْراةِ وَحُكْمِ صاحب الزَّبور وما زالوا عندكم إلى أن أنكروا رُبُوبِيّةَ المسيح على أكثَرَ من حالنا اليومَ في الذبَائح وأنتم في كثيرٍ من حالاتكم تُغْلُونَ علينا السَّمَكَ حتى نتوخَّى أيّاماً بأعيانها فلا نشترِي السَّمَكَ إلا فيها طلباً للإمكانِ والاسْتِرْخَاصِ وهي يومُ الخَميسِ ويوم السّبْتِ ويومُ الثُّلاثاء لأنَّ شراءكم في ذلك
اليومِ يَقِلُّ على أنَّكم تُكْثِرُونَ مِنَ الذَّبائِح في أيَّام الفِصْح وهلْ تَدَعُونَ أكْلَ الحيوانِ إلاّ أيّاماً معدودةً وساعاتٍ مَعْلومةً .
فإذا كانت الحِرْفةُ والمحن إنَّما لزِمَا القصَّابين والجزَّارِين والشَّوَّائين وأَصنافَ الصّيَّادين من جهة )
العقوبة فأنتمْ شركاءُ صيَّادِي السَّمَكِ خَاصّةً لأنَّكم آكَلُ الخلْقِ له وأنتم أيضاً شُرَكَاءُ القصَّابين في عامَّة الدّهْرِ فلا أنتم تَدِينُونَ للإسلام فتعرفوا ما عليكم ولكم وفصْل ما بين الرّحمةِ والقَسوة وما الرَّحمة وفي أيِّ موضعٍ ِ يكونُ ذلك القتلُ رحمَةً فقد أجمعوا على أنّ قَتْلَ الْبَعْضِ إحياءٌ للجميع وَأنّ إصلاح النَّاس في إقامةِ جزاءِ الحسنة والسيئة وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ . وَالْقَوَدُ حَيَاةٌ وهذا شيءٌ تَعْمَلُ به الأممُ كلها غَيْرَ الزَّنَادِقَةِ وَالزَّنَادِقَةُ لَمْ تَكُنْ قَطُّ أُمَّةً ولا كان لها مُلْكٌ وَمَمْلَكَةٌ وَلَمْ تزَلْ بَيْنَ مَقْتُولٍ وهاربٍ ومنافق فلا أنتم زَنَادِقَةٌ ولا ينكر لمن كان ذلك مَذْهَبَهُ أن يقول هذا القَوْلَ .
فأنتم لا دهْرِيَّة ولا زَنَادِقَةَ ولا مُسلمون ولا أنتم رَاضُونَ بِحُكْمِ اللّهِ أيّامَ التّوراة .
فإن كانَ هذا الحكْمُ قد أمرَ اللّه به وهو عَدْلٌ فليس بين الزَّمَانَيْنِ فرق .
وَبَعْدُ فَإنَّا نَجدُكم تَأْكُلونَ السَّمك أكْلاً ذَريعاً وتتقذرون من اللُّحمانَ أفِلأنَّ السّمكَ لا يألَمُ الْقَتْلَ أم لأنَّ السَّمكَ لَمَّا قتلتُمُوه بلاَ سِكِّين لم يُحِسَّ قَتلهُ فالجميع حيوانٌ وكلُّ مقتول يألَمُ وكلٌّ يُحِسّ فكيف صار أكْلُ اللَّحْمِ قَسْوَةً وَأَكْلُ السَّمَكِ لَيْسَ بقَسوة وكيف صار ذبْح البهائمِ قسوة ولا تَكون تفرِقَةُ ما بين السَّمَكِ والماءِ حَتَّى تَموت قسوة وكيف صار ذبح الشَّاةِ قَسوَةً وصيدُ السمكِ بالسَّنَانير المذَرّبة المعقّفة ليس لها شعائِر تخالف العقاف المنصوص في جهاتها وكيف وهي وإنْ لم تنشَبْ في أجوافها وتَقْبِضْ على مجامع أرواحِها لم تقدِرْ على أخْذِها .
وكيف صار وَجْء اللَّبَّة من الجزور أقسى من ضَرْب النبائل أم كيف صار طَعْن العَير بالرُّمح ونصْبُ الحبائل للظِّباء وإرسالُ الكلابِ عليها أشَدَّ مِنْ وقع النَّبائل في ظَهْرِ السّمَك .
ولأنَّكُمْ تكْثِرونَ قَولَكُمْ : لا نأكل شيئاً فيه دمٌ أيّامَ صومِنا فللسَّمك دمٌ ولا بدَّ لجميع الحيوان من دمٍ أو شيءٍ يُشاكِلُ الدَّم فما وجْهُ اعتلالِكم بالدَّم ألأَنَّ كلَّ شيءٍ فيه دمٌ فهو أشدُّ ألماً فكيف نعلم ذلك وما الدَّليلُ عليه .
فإن زعمتم أنَّ ذلك داخلٌ في باب التعبُّدِ والمصْلَحة لا في باب القِياسِ والرَّحمَةِ والقَسْوة فهذا باب آخر إلاَّ أنْ تَدَّعُوا أنَّ ذَواتِ الدِّماء أقوى للأبدان وآشَرُ للنُّفوس فأردتم بذلك قلَّة الأشَرِ وضَعْفَ البدن فإنْ كان ذلك كذلك فقد ينبغي أن يكونَ هذا المعنى مُستبيناً في آكلي السَّمَكِ من البحريين .
وأمّا ما ذكَرْتُم مِنْ مُلازَمةِ الحِرْفَة لهؤلاء الأصْناف فإنَّ كلَّ مَنْ نزلَتْ صِناعَتُه ودَقّ خَطَرُ )
وأحلُّ الكَسْبِ كُلِّه وأطْيَبُهُ عِنْدَ جَمِيعِ النّاس سَقْيُ الماء إمَّا على الظَّهر وإمَّا على دَابَّة ولم أرَ سَقَّاءً قَطُّ بَلَغَ حالَ اليَسارِ والثّروة وكذلك ضَرَّابُ اللّبِنِ والطَّيّانُ والحَرَّاثُ وكذلك ما صَغُرَ من التِّجاراتِ والصِّناعاتِ .
ألا ترون أنَّ الأمْوالَ كثيراً ما تكونُ عند الكُتَّاب وعندَ أصْحَابِ الجَوهرِ وعندَ أصحابِ الوَشْيِ والأنماط وعند الصّيارِفَةِ
والحنَّاطين وعند البحْريِّين والبصريين والجُلاَّبُ أبداً والبيازِرَة أيسر ممّنْ يَبْتَاع منهم .
وجُمَلُ الأموالِ حَقٌّ بأنْ تُربحَ الجُمَلَ مِنْ تفاريق الأموال وكذلك سبيل القصّاب والجزّار والشَّوّاءِ والبازيار والفَهَّاد .
وأمّا ما ذكرتم من انقطاعِ نَسْلِ القُساةِ وخمولِ أولادِهم كانقطاع نَسْل فِرعَونَ وهامان ونُمرُود وبُخْت نَصّر وأشباههم فإنّ اللّه يقول : وَلاَ تزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .
وإن شئتم أن تعدّوا من المذكورين بالصَّلاحِ أكثَرَ مِن هؤلاء ممّن كان عقيماً أو كان ميناثاً أو يكونُ مِمّنْ نَبَتَ لهم أَوْلاَدُ سَوءٍ عقّوهُمْ في حياتهم وعرّضوهُمْ للسَّبِّ بعد موتهم لوجَدْتمُوهُمْ .
وعلى أني لم أَنْصِبْ نَفسي حَرْباً لِلْحَجّاجِ بن يوسف ويزيد
بن أبي مسلم أتحرى بهما وهما وعلى أنّكُمْ ليسَ الْقَصّابينَ أَرَدْتُمْ وَلكِنَّكُمْ أَرَدْتُمْ دِينَ المسلِمين . وَقَدْ خَرَجَ الحَجَّاجُ من الدُّنْيَا سَلِيماً في بَدَنِهِ وظَاهِرِ نعمته وعليِّ مرتَبَتِهِ من الملْك وَمَكانِهِ من جَوازِ الأمْرِ وَالنَّهْي .
فإِنْ كان اللّه عِنْدَكُمْ سَلَّمَهُ وَعاقَبَ أولاَده وكان ذلك دينَكم فإنّ هذا قولٌ إن خاطبتم به الجبْريّةَ فعسى أن تتعلّقُوا منهمْ بسبب فأمّا مَنْ صَحَّحَ القَوْلَ بالْعَدْل فإنّ هذا القولَ عِنْدَه من الخطأ الفاحش الذي لاَ شُبهَةَ فيه .
شعر في القانص وفقره وكان ممَّا أنشدُوا من الدَّلِيل على أنّ القانِصَ لا يزالُ فقيراً قَوْلُ ذي الرّمةِ :
( حَتَّى إذَا مَا لَهَا فِي الجَدْرِ وَاتَّخَذَتْ ** شَمْسُ النَّهَار شُعَاعاً بينها طِبَبُ ) ( وَلاحََ أَزْهَرُ مَشْهُورٌ بِنُقْبَتِهِ ** كَأَنّهُ حِينَ يَعْلُو عَاقِراً لَهَبُ ) ( هَاجَتْ بِهِ جُوّعٌ طُلْسٌ مُخَصَّرَةٌ ** شَوَازبٌ لاَحَهَا التَّغْريث وَالجَنِبُ ) ( جُرْدٌ مُهَرَّتَةُ الأشْدَاقِ ضَارِيَةٌ ** مثلُ السَّرَاحِينِ في أعناقهَا الْعَذَبُ )
( وَمُطعَمُ الصَّيْدِ هَبّالٌ لِبُغْيَتِهِ ** ألفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الْكَسْبِ يكتَسبُ ) ( مقزَّعٌ أَطْلسُ الأطمَارِ لَيْسَ له ** إلاّ الضِرَاءَ وَإلاّ صَيْدَهَا نَشَبُ ) قال : فجعله كما ترى مقزَّعاً أطلسَ الأطمار وخَبَّرَ أنّ كِلاَبَه نشَبُه وأنَّه ألفَى أباه كذلك وأنشَدُوا في ذلك قول الآخر :
( وأعصم أنسته المنية نفسه ** رعى النبع والظيان في شاهقٍ وعر ) ( موارده قلتٌ تصفقه الصبا ** بنيقٍ مزلٍ غير كدرٍ ولا نزر ) ( قرته السحاب ماؤها وتهدلت ** عليه غصونٌ دانياتٌ من السمر ) ( أتيح له طلحٌ إزاه بكفه ** هتوفٌ وأشباه تخيرن من حجر ) ( أو صبيةٍ لا يستدر إذا شتا ** لقوحاً ولا عنزاً وليس بذي وفر )
( له زوجةٌ شمطاء يدرج حولها ** فطيم تناجيه وآخر في الحجر ) ( مشوهةٌ لم تعب طيباً ولم تبت ** تقتر هندياً بليلٍ على جمر ) ( محددة العرقوب ثلم نابها ** تعرقها الأوذار من فقر الحمر ) ( مسفعة الخدين سود درعها ** تقدرها بالليل والأخذ بالقدر ) ( كغول الفلاة لم تخضب بنانها ** ولم تدر ما زي الخرائد بالمصر ) ( فأرسل سهماً أرهف القين حده ** فأنفذ حصينه فخر على النحر )
مساءلة المنانية وذلك أنَّ المنانيَّةَ تزعُمُ أنَّ العَالمَ بما فيه من عشرةِ أجناس : خمسةٌ منها خيرٌْ ونورٌ وخمسةٌ منها شرٌّ وظُلْمَة وكلُّها حاسَّةٌ وَحارَّة .
وأنَّ الإنسانَ مركَّبٌ مِنْ جميعِها على قدْر ما يكونُ في كلِّ إنسانٍ من رُجْحانِ أجناس الخير على أجناس الشَّرِّ ورُجْحانِ أجْنَاسِ الشَّرِّ على أجناسِ الخير .
وأنَّ الإنسانَ وإن كان ذا حَواسَّ خمسةٍ فإنَّ في كُلِّ حاسَّةٍ متوناً من ضدِّه من الأجْناس الخمسة فمتى نَظَرَ الإنسانُ نظْرَةَ رحمةٍ فتلك النَّظْرَةُ من النُّور ومن الخير ومتى نَظَرَ نَظْرَةَ وعيدٍ فتلك النَّظْرَةُ من الظلمة وكذلك جميع الحواسِّ .
وأنَّ حاسَّة السَّمعِ جنسٌ على حِدَةٍ وأنَّ الذي في حاسَّة البصر من الخير والنُّور لا يعين الذي )
في حاسَّة السَّمع من الخيرِ ولكنه لا يضادُّهُ
ولا يُفاسِدُهُ ولا يمنعه فهو لا يعينه لمكان الخِلاف والجِنس ولا يعين عليه لأنَّهُ ليس ضِدّاً .
وأنَّ أجناسَ الشَّرِّ خلافٌ لأجناس الشَّرِّ ضِدٌّ لأجناس الخير وأجناسَ الخيرِ يخالفُ بعضُها بَعْضاً ولا يضادُّ وأنَّ التَّعاونَ والتآدِي لا يقعُ بين مختلِفها ولا بين متضادِّها وإنما يقع بين متفقها .
قال : فيقال للمنانيِّ : ما تقول في رَجُلٍ قال لرجُلٍ : يا فلان هل رأيت فلاناً فقال المسؤول : نعم قد رأيتُه أليسَ السَّامعُ قد أدَّى إلى النَّاظِرِ والنَّاظِرُ قد أدّى إلى الذَّائِق وإلاَّ فِلمَ قال اللِّسَانُ : وهذه المسألة قصيرةٌ كما ترى ولا حِيلةَ له بأنْ يَدْفَعَ قَوْلَهُ . مُساءَلَة زنديق ومسألةٌ أخرى سأل عنها أميرُ المؤمنين الزِّنديقَ الذي كان يكنى بأبي عليٍّ وذلك عندما رأَى من تطويلِ مُحَمَّدِ بن الجهم وعجْز العُتبِي وسوءِ فهم القاسم بن سَيَّار فقال له المأمون : أَسألُكَ عن حَرفين
فقط خبِّرني : هل ندِم مُسيءٌ قَطّ على إساءته أو نكون نحنُ لم نندَمْ على شيءٍ كان منّا قط قال : بل ندِم كثيرٌ من المسِيئينَ على إساءتهم قال : فَخَبِّرْنِي عن النَّدَم على الإساءَة إساءَةٌ أو إحسان قال : إحسان قال : فالذي ندم هو الذي أساءَ أو غَيْرُهُ قال : الذي نَدِم هو الذي أساءَ قال : فأُري صاحبَ الخير هو صاحب الشَّرِّ وقد بطل قولكم : إنّ الذي ينظر نَظَرَ الوعيد غيرُ الذي ينظر نَظَرَ الرحمة قال : فإني أزعم أنّ الذي أساءَ غَيرُ الذي ندِم قال : فندم على شيءٍ كان منه أو على شيءٍ كان من غيره فقطعه بمسألته ولم يتُبْ ولم يرجِعْ حتى مات وأصْلاَه اللّه نارَ جَهنَّمَ .
شعر في هجو الزنادقة وقد ذكر حمَّادُ عجردٍ ناساً في هجائه لبشار فقال : ( لو كنت زنديقاً عمار حبوتني ** أو كنت أعبد غير رب محمد ) ( أو كابن حمادٍ ربيئة دينكم ** جبل وما جبل الغوى بمرشد ) ( لكنني وحدت ربي مخلصاً ** فجفوتني بغضاً لكل موحد )
وحبوت من زعم السماء تكونت والأرض خالقها لها لم يمهد ( والنسيم مثل الزرع آن حصاده ** منه الحصيد ومنه ما لم يحصد ) وحمّادٌ هذا أشهر بالزّنْدَقَةِ من عُمارَة بن حربية الذي هجاه بهذه الأبيات . )
وأمَّا قوله : وَحَبَوْتَ مَنْ زَعَمَ السَّمَاءَ تَكَوَّنَتْ فليس يقول أحدٌ : إنّ الفلكَ بما فيه من التّدْبير تكوَّنَ بنفسه ومِنْ نفسه فَجَهْلُ حمّادٍ بهذا المقدارِ من مقالة القَوْم كأَنّهُ عندي ممّا يعرفه من براءَته الساحة فإن كان قد أجابَهُمْ فإنما هو من مقلِّديهم .
وهجا حمّادُ بن الزِّبرقان حماداً الراوية فقال : ( نِعْمَ الفَتَى لَوْ كَانَ يَعْرِفُ رَبَّهُ ** ويقيمُ وقْتَ صَلاَتِهِ حَمَّادُ ) ( هدَلَتْ مَشَافرَهُ الدِّنَانُ فأَنْفُهُ ** مِثْلُ الْقَدُومِ يَسُنّها الحدّادُ ) ( وَابْيَضّ مِنْ شُرْبِ المُدَامَةِ وَجْهُهُ ** فبيَاضُه يوم الحسابِ سَوَادُ ) ( هدَلَتْ مَشَافِرَهُ الدنَانُ فأنفهُ ** مثلُ القدوم . . . ) فقد رأيتُ جماعةً ممَّنْ يُعاقرُِون الشَّراب قد عظمت آنُفهُمْ وصارتْ لهم خراطيمُ منهُمْ رَوْحٌ ُ الصّائغ وعبدُ الواحد صاحب اللؤلويّ
وجماعة من نَدْمانِ حمّاد بن الصّباح وعبد اللّه أخو نهر ابن عسكر وناس كثيرٌ .
ويدلُّ على ذلك من المنافرَةِ قولُ جَرِيرٍ للأَخطل : ( وشَرِبتَ بعد أبي ظهير وابنه ** سكَرَ الدِّنَانِ كأَنَّ أَنْفكَ دُمّلُ ) وكان منهم يُونس بن فروة وفي يونس يقول حمّادُ عجرد : ( أما ابن فروة يونسٌ فكأنه ** من كبره أير الحمار القائم ) ( ما الناس عندك غير نفسك وجدها ** والخلق عندك ما خلاك بهائم ) ( إن الذي أصبحت مفتوناً به ** سيزول عنك وأنف جارك راغم ) ( فتعض من ندمٍ يديك على الذي ** فرطت فيه كما يعض النادم )
( فلقد رضيت بعصبةٍ آخيتهم ** وإخاهم لك بالمعرة لازم ) ( فعلمت حين جعلتهم لك دخلة ** أني لعرض في إخائك ظالم ) ذكر بعض الزنادقة وكان حمّادُ عجرد وَحَمَّاد الرّاوية وحمّادُ بن الزّبرقان ويونس بن هارون وعلي بن الخليل ويزيد بن الفيض وعُبادة وجميل بن محفوظ وقاسم ومطيع ووالبة بن الحباب وأبانُ بن عبد )
بن عبد الحميد وعمارة بن حربية يتواصلون وكأنهم نفس واحدة وكان بشّارٌ ينكر عليهم .
ويونس الذي زعم حمادُ عجْردٍ أنّهُ قد غَرََّ نفسه بهؤلاءِ كانَ أشهَرَ بهذا الرّأي منهم وقد كان كتبَ كتاباً لملك الرُّومِ في مثالب العرب وعيوب الإسلام بزعمه .
هجاء في أبان والزنادقة وذكر أبو نواسٍ أبانَ بْنَ عبد الحميد اللاّحقي وبعضَ هؤلاء ذِكْرَ إنسانٍ يَرَى لهم قَدْراً وخطراً في هجائيّةٍ لأبان وهو قوله : ( جالست يوماً أباناً ** لادر در أبان ) ( ونحن حضر رواق ال ** أمير بالنهروان )
( حتى إذا ما صلاة الأ ** ولى أتت لأذان ) ( فقام ثم بها ذو ** فصاحةٍ وبيان ) ( فكل ما قال قلنا ** إلى انقضاء الأذان ) ( فقال كيف شهدتم ** بذا بغير عيان ) ( فقلت سبحان ربي ** فقال سبحان ماني ) ( فقلت عيسى رسولٌ ** فقال من شيطان ) ( فقلت موسى كليم ال ** مهيمن المنان )
( فقال ربك ذو مق ** لةٍ إذاً ولسان ) ( فنفسه خلقته ** أم من فقمت مكاني ) ( عن كافرٍ يتمرى ** بالكفر بالرحمن ) ( يريد أن يتسوى ** بالعصبة المجان ) ( بعجردس وعبادٍ ** والوالبي الهجان ) ( وقاسمٍ ومطيعس ** ريحانة الندمان ) وتَعَجُّبي من أبي نواس وقد كان جالسَ المتكلمين أشدُّ من تعجُّبي من حَمَّادٍ حين يَحكي عن قومٍ من هؤلاء قَولاً لا يقولهُ أحد وهذه قُرَّة عَينِ المهجُوّ والذي يقول : سبحانَ ماني يعظم أمر عيسى تعظيماً شديداً
فكيف يقول : إنَّه من قِبَلِ شيطان .
وأما قوله : فنفسه خلقَتْه أم من فإنَّ هذه مسألةٌ نجدُها ظاهرةً على ألْسُنِ العوامّ والمتكلمون لا )
يحكُون هذا عن أحد .
والعجب أنَّه يقول في أبان : إنَّه ممَّن يتشبه بعَجْرد ومُطيعٍ ووالبةَ بن الحباب وعلي بن الخليل وأصبغ وأبان فَوقَ ملء الأرضِ مِنْ هؤلاء ولقد كان أبان وهو سكرانُ أصحَّ عَقلاً من هؤلاء وهم صحاةٌ فأمَّا اعتقادُه فَلاَ أدري ما أقول لك فيه : لأنَّ النَّاس لم يُؤْتَوْا في اعتقادهم الخطأَ المكشوفَ من جهة النظر ولكنْ للِنَّاس تأسٍّ وعاداتٌ وتقليدٌ للآباء والكُبراء ويعملون على الهوى وعلى ما يسبق إلى القلوب ويستثقلون التَّحصيلَ ويُهمِلون النَّظَرَ حتى يصيروا في حالٍ متى عاودوه وأرادوه نظروا بأبصار كليلة وأذهان مدخُولة ومع سوء عادَة والنّفسُ لا تجيبُ وهي مُسْتَكرَهةٌ وكان
يقال : العقلُ إذا أكرِه عَمِي ومتى عَمِي الطِّباعُ وجَسَا وغلط وأهمل حتَّى يألف الجهل لم يكد يفهم ما عليه وله فلهذا وأشباهه قاموا على الإلف والسَّابق إلى القلب . 4
شعر لحماد عجرد وقال حمَادُ عجْرَد : ( اعلَمُوا أَنَّ لوُدِّي ** ثمناً عندي ثَمينَا ) ( لَيْتَ شِعْرِي أَيَّ حُكْمٍ ** قَدْ أراكُمْ تَحْكُمُونَا ) ( ابْنِ لُقْمَانَ بنَ عادٍ ** في اسْتِ هذا الدِّينِ دينا ) وما رأيت أحداً وضع لقمانَ بنَ عاد في هذا الموضع غيرَه .
وقال حَمَّادُ عجردٍ في بشار : ( اعلموا أن لودي ** ثمناً عندي ثمينا ) ( ليت شعري أي حكمٍ ** قد أراكم تحكمونا ) ( أن تكونوا غير معطي ** ن وأنتم تأخذونا ) ( ابن لقمان بن عادٍ ** في است هذا الدين دينا ) وما رأيت أحداص وضع لقمان بن عاد في هذا الموضع غيره وقال حماد عجردٍ في بشار : ( يا ابن الخبيثة إن أم ** ك لم تكن ذات اكتتام ) ( وتبدلت ثوبان ذا ال ** أير المضبر والعرام )
( ثوبان دقاق الأزز ** بأرواث حسام ) ( عرد كقائمة السر ** ير يبيلها عند الرطام ) ( وأتت سميعة بعدها ** بالمصمئلات العظام ) وقال حَمَّاد يذكر بشاراً : ( غزالة الرجسة أو بنتها ** سُمَيعة الناعية الفهرا ) وقال وذكر أمّه : ( أبَني غَزَالة يا بنِي جُشَمِ اسْتها ** ليَحقكُمْ أنْ تفرَحوا لا تَجزعُوا ) 4
حماد عجرد وبشار وما كان ينبغي لبشَّارٍ أنْ يناظِرَ حماداً من جهة الشعرِ وما يتعلَّقُ
بالشِّعر لأنَّ حمَّاداً في الحَضِيَض وَبشَّاراً مع العَيُّوق وليس في الأرض مولّد قَرَوِيٌّ يُعَدُّ شعرُه في المحدث إلاّ وبَشَّارٌ أشعرُ منه .
شعر في هجو بعض الزنادقة وقال أبو الشمقمق في جميل بن محفوظ : ( وهذا جميلٌ على بغله ** وَقَدْ كانَ يعدُو عَلَى رِجْلِهِ ) ( يَرْوحُ ويغدو كأَيْرِ الحمارِ ** وَيرْجعُ صِفْراً إلى أهلِه ) ( وقدْ زَعموا أَنَّه كافرٌ ** وأنَّ التَّزَنْدُقَ من شَكْلِهِ ) غلو أبي النواس في شعره وأمّا أبو نُواسٍ فقد كان يتعرّضُ لِلْقَتْلِ بجهْدِه وقد كانوا يعجَبون من قوله : ( كيف لا يُدْنيك مِنْ أمَلٍ ** مَنْ رسُولُ اللّهِ مِنْ نَفَرِه )
فلما قال : ( فاحْبِبْ قُريشاً لحبّ أحَمدِهَا ** واشكُرْ لها الجَزْلَ مِنْ مواهبها ) جاء بشيء غطَّى على الأوَّلِ .
وأنكروا عليه قولَه : لو أكثر التَّسْبيح ما نجَّاه
فلما قال : ) ( يا أحْمَدَ الْمرْتَجَى في كُلِّ نائبةٍ ** قُمْ سَيِّدي نَعْصِ جَبَّارَ السَّموَاتِ ) غَطّى هذا على الأوَّل وهذا البيت مع كفره مَقِيتٌ جداً وكان يُكثِرُ في هذا الباب .
وأما سوى هذا الفنِّ فلم يعِرفُوا له من الخطإ إلاَ قولّه : ( أَمستخبرَ الدّارِ هلْ تنطِقُ ** أنا مكان الدار لا أنطقُ ) ( كأنها إذْ خَرِسَتْ جَارِمٌ ** بينَ ذَوي تَفْنِيدِهِ مُطْرِقُ ) فعابوه بذلك وقالوا : لا يقول أحد : لقد سكت هذا الحَجَرُ كَأَنَّهُ
إنسانٌ ساكت وإنما يُوصَف خَرَسُ الإنسانِ بخَرَسِ الدَّارِ ويشبَّهُ صممه بصمَمِ الصَّخر .
وعابوه بقوله حين وصف عَينَ الأسد بالجُحوظِ فقال : ( كأَنَّ عَيْنَهُ إذا التهبَتْ ** بارِزَةَ الجفْنِ عينُ مخنوقِ ) وَهُمْ يَصِفُونَ عينَ الأسد بالغؤورِ قال الرَّاجز : كأنما يَنْظُرُ من جَوْفِ حَجَرْ وقال أبو زُبَيد : ( كأَنَّ عَينيه في وَقْبَين من حَجَرٍ ** قِيضَا اقتياضاً بأطراف المناقير ) ومع هذا فإنَّا لا نعرف بَعْدَ بَشَّارٍ أشعَرَ منه .
وقال أبو زُبَيد : ( وَعَينانِ كالوَقْبين في ملء صَخْرَةٍ ** ترى فيهما كالجَمْرَتَينِ تَسَعَّرُ ) قصة راهبين من الزَّنادقة وحدَّثني أبو شُعيب القَلاَّلُ وهو صُِفْرِيٌّ قال : رُهبان ُالزَّنادقَةِ
سَيّاحون كأنهم جعلوا السِّياحَةَ بدلَ تعلقِ النَّسطوري
في المطامير .
قال : ولا يَسِيحون إلا أَزواجاً ومتى رأيتَ منهم واحداً فالتفتَّ رأيتَ صاحبَه والسِّياحة عندهم ألاَّ يبيت أَحَدُهم في منزل ليلتَين قال : ويسِيحون على أربع خصال : على القُدْس والطّهر والصِّدق والمسكنَة فأمَّا المسكنة فأَنْ يأكلَ من المسألة وممَّا طابت به أنفُسُ النَّاس له حَتَّى لا يأكلُ إلاَّ من كسْبِ غيره الذي عليه غُرْمُهُ ومأثمه وأمَّا الطهر فترك الجِمَاعِ وأمّا الصِّدق فعلى ألاّ يكذبَ وأما القُدْس فعلى أن يكتُمَ ذنبَه وإن سئل عنه .
قال : فدخل الأهوازَ منهم رجلان فمضى أحَدُهما نحو المقابرِ للغائط وجلس الآخَرُ بقربِ )
حانوتِ صائغٍ وخرجت امرأةٌ من بعض تلك القُصُور ومعها حُقٌّ فيه أحْجارٌ نَفيسة فلما صَعِدَت من الطَّريق إلى دكان الصَّائغ زلقت فسقَطَ الحقُّ من يدها وظَليمٌ لِبعضِ أهل تلك الدُّور يتردَّدُ فلما سقَطَ الحُقُّ وبايَنَهُ الطّبََق تبدّدَ ما فيه مِنَ الأحْجار فالتَقَمَ
ذلك الظَّليمُ أعظَمَ حَجرٍ فيه وَأَنْفَسهُ وذلك بِعَيْنِ السّائح ووثب الصّائغُ وغلمانهُ فجمَعُوا تلك الأحْجَارَ وَنَحّوا النَّاسَ وصاحُوا بهم فلم يَدْنُ منهم أحَدٌ وفقدوا ذلك الحجَر فصرخت المرأةُ فكشفَ القَوْمُ وتناحَوْا فلم يصيبوا الحَجَرَ فقال بعضهم : واللّهِ ما كان بقربنا إلاّ هذا الرّاهبُ الجالسُ وما ينبغي أن يكون إلاّ معه فسألوه عن الحجر فكِره أنْ يخبرَهم أنه في جوف الظليم فَيُذْبَحَ الظليمُ فيكونَ قد شاركَ في دَم بعضِ الحيوان فقال ما أخذْتُ شيئاً وبحثُوه وفَتّشُوا كلّ شيء معه وألحُّوا عليه بالضّرب وأقبل صاحِبُهُ وقال : اتَّقُوا اللّهَ فأخذُوهُ وقالوا : دفعتَه إلى هذا حَتَّى غَيَّبَهُ فقال : ما دفعتُ إليه شيئاً فضرَبوهما ليموتَا فبينما هما كذلك إذْ مَرَّ رَجُلٌ يَعْقِلُ ففهم عنهُمُ القِصَّة ورأى ظَليماً يتردّدُ فقال لهم : أكان هذا الظليمُ يتردَّد في الطريق حِينَ سقَطَ الحجر قالوا : نعمْ قال : فهو صاحبكم فعوَّضُوا أصحابَ الظليم وذبحوه وشقُّوا عن قانصته فوجدوا الحجَر وقد نَقَصَ في ذلك المقدارِ من الزَّمانِ شَبيهاً بِشَطْره إلاّ أنها أعطتْهُ لَوْناً صارَ الذي استفادُوه من جهةِ اللَّوْنِ أربحَ لهم من وزْنِ ذلك الشَّطر أنْ لَوْ كانَ لم يَذْهَبْ .
ونارُ القانصةِ غيرُ نارِ الحجَر .
( القول في النِّيران وأقسامها ) ونحنُ ذاكرِون جُمَلاً من القَول في النِّيرانِ وأجناسها ومواضِعِها وأيَّ شيء منها يضافُ إلى العجَم وأيِّ شيء منها يضاف إلى العرَب ونُخبِرُ عن نيران الدِّيانات وغير الدِّيانات وعمَّن عظَّمها وعمَّن استهانَ بها وعمَّنْ أفرَطَ في تعظيمها حتَّى عَبَدَها ونُخبِرُ عن المواضعِ التي عُظّمَ فيها مِنْ شأن النَّار .
نار القربان فمن مواضعها التي عُظِّمَتْ بها أنَّ اللّه عزَّ وجلّ جعلها لبني إسرائيلَ في موضعِ امتحان إخلاصهم وَتَعَرُّفِ صدق نياتهم فكانوا يتقرَّبون بالقرْبان فَمَنْ كانَ منهم مُخلِصاً نزلتْ نارٌ من قِبَلِ السّماء حَتَّى تُحيطَ به فتأكُلَهُ فإذا فَعَلَتْ ذلك كان صاحبُ القُرْبَان مُخْلِصاً في تَقَرُّبِه ومَتَى لَمْ يَرَوْهَا وَبَقِيَ القُرْبَانُ على حَاله قَضَوْا بأنَّه كانَ مدخولَ القلْب فاسِدَ النِّيةِ ولذلك قال اللّه تعالى في كتابه : الَّذينَ قَالوا إنَّ اللّه عَهِدَ إلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تأْكُلُه النّارُ قُلْ
قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مَنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبالّذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .
والدَّليل على أنّ ذلك قَدْ كَانَ معلوماً قولُ اللّه عزّ وجلّ : قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بالْبَيِّنَاتِ وَبالذِي قُلْتمْ ثمَّ إنّ اللّه سَتَرَ على عبادِه وجعَلَ بيانَ ذلك في الآخرة وكان ذلك التّدبيرَ مصلحةَ ذلك الزّمانِ ووفق طبائعهم وعللهم وقد كانَ القوم من المعاندةِ والغَباوة على مقدارٍ لم يكنْ لينجع فيهم وَيَكمُلَ لمصلحتهم إلا ما كان في هذا الوزْن فهذا بَابٌ من عِظَم شأنِ النَّار في صُدور النَّاس .
وممَّا زاد في تعظيم شأنِ النَّار في صدور النَّاس قولُ اللّه عزَّ وجلَّ : وَهَلْ أَتَاكَ حَديثُ مُوسَى إذْ رَأَى نَاراً فَقَال لأَهْلِهِ امْكُثوا إنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بقَبَسٍ أَوْ أجِدُ عَلَى النَّار هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى إنِّي أنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْليْكَ إنَّكَ بِالْوَادِي المُقَدَّسِ طُوًى وقال عزّ وجلّ : إذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَها نُوِديَ أنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ الْعالَمِينَ .
وكان ذلك مما زاد في قَدْرِ النّار في صدور النَّاس .
ومن ذلك نار إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم وقال اللّه عزّ وجلّ : قَالُوا سَمِعْنَا فتًى يَذْكُرُهُمْ ) يُقَالُ لَهُ إبرَاهيمُ قَالوا فَأْتُوا بِه عَلَى أَعْيُنِ النَّاس لَعَلَّهمْ يَشْهَدُونَ ثم قالَ : قَالوا حَرِّقُوهُ وَاْنصُرُوا آلهَتكُمْ إنْ كُنْتُمْ فاَعِلينَ فلما قال اللّه عزّ وجلّ : قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيم كانَ
تنويه القرآن الكريم بشأن النار وهو قوله عزَّ وجلَّ : الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإذَا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ .
والنَّار مِنْ أكْبَر الماعون وأعظَمِ المنافع المرافق في هذه الدنيا على عباده ولو لم يكنْ فيها إلاّ أنَّ اللَّه عزّ وجلّ قد جَعَلهَا الزاجرةَ عن المعاصي لكان ذلك ممّا يزيدُ في قَدْرِها وفي نَباهة ذِكْرها .
وقال تعالى : أَفَرَأَيْتمُ النّار الَّتي تُورُونَ أأنتمْ أَنْشَأتمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ . ثم قال : نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ فقف عند قوله : نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتاعاً
فإنْ كنت بهذا القول مؤمناً فتذكَّرْ ما فيها من النعمة أولاً ثم آخراً ثم توهَّمْ مقادير النعم وتصاريفها .
وقد علمنا أَنَّ اللّه عذَّب الأممَ بالغَرقَ والرِّياحِ وبالحاصِب والرُّجُمِ وبالصّواعق وبالخسْف والمسخ وبالجُوع وبالنقص من الثمرات ولم يبعث عليهم نَاراً كما بعث عليهم ماءً وَريحاً وحجارة وإنما جعلها من عقاب الآخرة وعذاب العُقبَى ونهى أن يُحرق بها شيء من الهوامّ وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تُعَذِّبُوا بِعَذَاب اللّه فَقَدْ عَظَّمَهَا كما ترى .
فتفهَّمْ رَحِمَك الله فقد أرادَ اللّهُ إفهَامك .
وقال اللّه تعالى لِلثَّقَلَيْنِ : يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فلاَ تَنْتَصِرَانِ فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فجعل الشُّواظ والنُّحَاسَ وهما النّارُ وَالدُّخانُ من الآية ولذلك قال على نَسَق الكلام : فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ولم يَعْنِ أن التّعْذيبَ بالنّار نعمةٌ يومَ القيامة ولكِنه أرادَ التّحذيرَ بالخوفِ والوَعِيدِ بها غيرَ إدخالِ النَّاس فيها وإحراقهم بها .
شعر في بعض النبات وقال المرَّار بن منقذ : ( وكأَنَّ أرحُلنا بجوٍّ مُحْصِبٍ ** بِلِوَى عُنَيزةَ مِنْ مَقيلِ التُّرمُسِ ) ( في حيثُ خالطت الخزامى عَرْفَجاً ** يأتيك قابسُ أهْلهَا لم يُقْبَسِ ) أراد خصْبَ الوادي ورطوبَتَهُ وإذا كان كذلك لم تَقْدَح عيدانُهُ فإنْ دَخَلها مستقبسٌ لم يُوِر ناراً وقال كُثَيِّر : ) ( له حسبٌ في الحيِّ وارِ زِنَادُهُ ** عَفَارُ وَمَرْخٌ حَثَّهُ الوَرْيُ عاجلُ )
والعَفار والمَرْخ من بين جميع العِيدان التي تُقْدَحُ أَكثَرُها في ذلك وأسرعُها .
قال : ومن أمثالهم : في كُلِّ الشَّجَرِ نارٌ واستمجَدَ المَرْخُ والعَفار .
ونارٌ أخرى وهي النّار التي كانوا يَسْتَمْطِرُونَ بها في الجاهليَّةِ الأولى فإنهم كانوا إذا تتابعت عليهم الأزَمَات ورَكَدَ عليهم البلاءُ واشتدّ الجَدْب واحتاجوا إلى الاستِمْطار استجمعوا وَجَمعُوا ما قَدَرُوا عليه من البَقَر ثم عقَدُوا في أذنَابها وبينَ عَراقِيبها السَّلَعَ والعُشَر ثمَّ صعدوا بها في جبلٍ وعْرٍ وأشعَلُوا فيها النِّيرانَ وضجُّوا بالدُّعاء والتضرُّع فكانوا يَرَوََْن أنّ ذلك من أسبابِ الشُّقيا ولذلك قال أُمَيَّةُ : ( سنةٌ أزمةٌ تخيل بالنا ** س ترى للعضاه فيها صريرا )
( إذ يسفون بالدقيق وكانوا ** قبل لا يأكلون شيئاً فطيرا ) ( ويسوقون باقراً يطرد السه ** ل مهازيل خشيةً أن يبورا ) ( عاقدين النيران في شكر الأذ ** ناب عمداً كيما تهيج البحورا ) ( فاشتوت كلها فهاج عليهم ** ثم هاجت إلى صبيرٍ صبيرا ) ( فرآها الإله ترشم بالقط ** ر وأمسى جنابهم ممطور ) ( فسقاها نشاصه واكف الغي ** ث منه إذ رادعوه الكبيرا ) ( سلعٌ ما ومثله عشرٌ ما ** عائلٌ ما وعالت البنقورا )
هكذا كان الأصمعيُّ ينشِدُ هذه الكلمة فقال له علماءُ بَغدادَ : صحفْتَ إنما هي البيقور وأنشد القحذمي للوَرَلِ الطائيّ : ( لا دَرّ درُّ رِجَالٍ خاب سَعْيُهُمُ ** يَسْتمْطِرونَ لَدَى الأَزْمَاتِ بالعُشَرِ ) ( أجاعلٌ أنتَ بيْقُوراً مُسَلَّعَةً ** ذَريعةً لك بين اللّهِ والمَطَرِ )
استطراد لغوي قال : ويقال بقر وبَقِير وبَيقور وباقر ويقال للجماعة منها قطيع وإجْل وكَوْر وأنشد : ( فسكَّنتهم بالقَولِ حتى كأنَّهم ** بواقِرُ جُلْحٌ أسكنَتها المراتعُ ) وأنشد : ( ولا شَبُوبٌ مِنَ الثيران أفْرَدَهُ ** عَنْ كَوْرهِ كَثْرَةُ الإغْراء والطَّرَدُ )
نار التحالف والحلف ونار أخرى هي التي توقَدُ عند التَّحالُف فلا يعقِدُونَ حِلفهُمْ إلاَّ عندَها فيذكرون عند ذلك منافعها ويَدْعُونَ إلى اللّه عزَّ وجلَّ بالحرمان والمنع من منافعها على الذي يَنْقُضُ عَهْدَ الحِلف ويَخيس بالعهد .
ويقولون في الحلف : الدَّمُ الدَّمُ والهدَمُ الهدَمُ يحرِّكون الدّالَ في هذا الموضع لا يزيده طلوعُ الشمس إلا شَدًّا وطولُ اللَّيالي إلاَّ مَدّاً ما بلَّ البحر صوفة وما أقام رضوى في مكانه إن كان جبلهم رَضْوَى .
وكلُّ قومٍ يذكرون جبلهم والمشهورَ من جبالهم . وَربّما دَنَوْا منها حتى تكاد تحرقهم ويهوِّلون على من يُخافُ عليه الغَدْرُ بحقوقها ومنافعها والتَّخويفِ مِنْ حِرْمانِ منفعتها وقال الكُمَيت : ( كهُولةِ ما أوقد المحلفُو ** ن للحالِفينِ وما هَوّلوا ) وأصل الحِلْف والتَّحالف إنما هو من الحَلِفِ والأيمان ولقد تحالفت قبائلُ من قبائل مُرَّةَ بنِ عَوف فتحالفوا عندَ نارٍ فَدَنَوْا منها وعشُوا بها حَتَّى مَحَشَتهم فَسُمُّوا : المحاشَ .
وكان سيدَهم والمطاعَ فيهم أبو ضمرة يزيد بن سنان بن أبي حارثة ولذلك يقول النَّابغة : ( جَمِّعْ محَاشَكَ يا يزيدُ فإنَّني ** جَمَّعْتُ يرْبُوعاً لكم وتميما )
( ولحِقتُ بالنَّسَبِ الذي عَيّرتَني ** وتركْتَ أصلاً يا يزيدُ ذَميما ) وقوله : تميم يريد : تميمة فحذف الهاء .
التحالف والتعاقد على الملح وربّما تحالفوا وتعاقدوا على الملح والملحُ شيئان : أحدهما المرَقة والأخرى اللَّبَن وأنشدوا لشُتيم بن خُويلدٍ الفَزاريّ : ( لا يبعد اللّهُ رَبُّ العباد ** والمِلْحُ ما وَلدَت خَالدَهْ )
وأنشدوا فيه قول أبي الطَّمَحَانِ : ( وإني لأَرْجُو مِلْحَهَا في بطونِكم ** وما بَسَطتْ مِنْ جِلْدِ أشْعَثَ أَغْبَرَا ) وذلك أَنَّهُ كان جاورهم فكان يَسقيهم اللَّبن فقال : أرجو أن تشكروا لي رَدَّ إبِلي عَلَى ما ) شَربتم من ألبانها وما بَسَطَتْ من جِلْدِ أَشْعَثَ أغبر كأنَّهُ يقول : كنتم مهازيل والمهزولَ يتقشَّف جِلْدُهُ وينقبض فَبَسَطَ ذلك من جُلودِكم .
نار المسافر ونار أخرى وهي النّار التي كانوا ربَّما أوقدوها خَلْفَ المسافر
وَخَلفَ الزَّائرِ الذي لا يحبُّونَ رُجُوعَه وكانوا يقولون في الدُّعاءِ : أبعده اللّه وأسحقه وَأَوْقَدَ نَاراً خلفَه وفي إثره وهو معنى قولِ بشار وضرَبَهُ مثلاً : ( صَحوتَ وأوقَدْتَ للجهل نَارَا ** وردَّ عليك الصِّبَا ما اسْتَعارا ) ( وجَمَّةِ أقوامٍ حَمَلْتَ ولم تكنْ ** لتوقِدَ نَاراً إثرهم للتندُّمِ ) والجَمَّة : الجَمَاعة يمشون في الصلح وقال الراجز في إبله : تقسَمُ في الحقِّ وَتُعْطَى في الجُمَمْ يقول : لا تندم على ما أعطيت في الحمالة عند كلام الجَماعة فتوقد خلفهم ناراً كي لا يعودوا
نار الحرب ونار أخرى وهي النَّار التي كانوا إذا أرادوا حرْباً وتوقَّعُوا جيشاً عظيماً وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلاً على جبلهم نَاراً ليبلغ الخبرُ أصحابَهم .
وقد قال عمرُو بنُ كلثومٍ : ( ونحنُ غَدَاةَ أُوقِدَ في خَزَازٍ ** رَفَدْنَا فَوْقَ رَِفْدِ الرَّافدينَا ) وإذا جَدُّوا في جَمْعِِ عشائرهم إليهم أوْقَدْوا نَارَيْنِ وهو قول الفرزدق : ( لولا فوارِسُ تَغْلِبَ ابنَةِ وائِلٍ ** سَدّ العدوُّ عليكَ كلَّ مكانِ ) ( ضربُوا الصَّنائِع والملوكَ وَأوقَدوا ** نارَينَ أشرفَتَا على النِّيرانِ )
( نار الحرَّتين ) ونار أخرى وهي نار الحرّتين وهي نار خالد بن سنان أحد بني مخزوم من بني قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْس ولم يكن في بني إسماعيل نبيٌّ قبلَهُ وهو الذي أطفأ اللّه به نار الحَرَّتَينِ وكانت ببلاد بني عبس فإذا كان اللَّيلُ فهي نارٌ تسطَعُ في السَّماء وكانت طيِّئٌ تُنْفِشُ بها إبلها من مسيرةِ ثلاث وربّما ندَرَتْ منها العُنُق فتأتي على كلِّ شيء فتحرقُه وإذا كان النهارُ فإنما هي دخانٌ يفور فبعث اللّه خالدَ بنَ سنانٍ
فاحتفَرَ لها بئراً ثمّ أدخلها فيها والنَّاس ينظرون ثمّ اقتحم فيها حتى غيَّبها وسمع بعض القوم وهو يقول : هَلَكَ الرَّجُلُ فقال خالدُ بن سنِانٍ : كذب ابنُ راعية المعز لأخرجنَّ منها وجبيني يَنْدَى فلمَّا حضَرَتْهُ الوفاة قال لقومه : إذا أنا متُّ ثمَّ دفنتموني فاحضُروني بعدَ ثلاثٍ فإنَّكم تَرَوْنَ عَيراً أَبتَرَ يطوفُ بقبري فإذا رأيتم ذلك فانبشوني فإني أخبرُكم بما هو كائن إلى يوم القيامة فاجتمعوا لذلك في اليوم الثالث فلما رأوا العَيْرَ وذهبوا ينبشونه اختلفوا فصاروا فرقتين وابنُه عبد اللّه في الفِرقة التي أَبَتْ أن تنبشه وهو يقول : لا أفْعَلُ إني إذاً أُدْعَى ابنَ المنبوش فتركوه .
وقد قدِمَتْ ابنَتُهُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فَبَسطَ لها ردِاءهُ وقال : هذه ابنةُ نَبِيٍّ ضيَّعهُ قومُهُ .
قال : وسَمِعتْ سورَةَ : قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ فقالت : قدكان أبي يتلو هذه السورة .
نبوة خالد بن سنان
والمتكلّمون لا يؤمنون بهذا ويزعمون أنَّ خالداً هذا كان أعرابيّاً وبَرِيّاً من أهل شَرْجٍ ونَاظِرَة ولم يبعث اللّه نبيًّا قطُّ من الأعرابِ ولا من الفدَّادِينَ أهلِ الوَبَرِ وإنما بعثهم من أهل القرَى وسُكَّانِ المُدُنِ .
وقال خُلَيْدُ عَيْنَيْن : ( وأي نبيٍّ كانَ في غير قَوْمِهِ ** وَهَلْ كانَ حُكْمُ اللّهِ إلاّ مَع النَّخْلِ ) وأنشدُوا : ( كَنَارِ الحرَّتَينِ لها زفيرٌ ** يُصِمُّ مَسَامِعَ الرَّجُلَ السّمِيعِ )
عبادة النار وتعظيمها وما زالَ النَّاسُ كافَّةً والأممُ قاطبةً حتى جَاءَ اللّه بالحقّ مُولَعين بتعظيم النَّار حتى ضلَّ كثيرٌ من النَّاس لإفراطهم فيها أنهم يعبدونها .
فأما النار العُلويَّة كالشمس والكواكب فقد عُبدت البتَّة قال اللّه تعالى : وَجَدتُها وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للِشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّه .
وقد يجيء في الأثرِ وفي سُنَّةِ بعض الأنبياء تعظيمها على جهة التعبُّد والمحنة وعلى إيجاب ويزعم أهلُ الكِتاب أنَّ اللّه تعالى أوصاهُمْ بها وقال : لا تُطفئوا النِّيران مِنْ بُيوتي فلذلك لا تجد الكنائس والبيَع وبيوت العبادات إلاَّ وهي لا تخلو من نارٍ أبداً ليلاً ولا نهاراً حتَّى اتَّخذت للنِّيرانِ البُيُوتَ وَالسَّدَنَةَ ووقَفُوا عليها الغَلاَّتِ الكثيرة .
إطفاء نيران المجوس أبو الحسن عن مسلمة وقحدم أنَّ زياداً بعث عَبد اللّه بنَ أبي بَكرة وأمرهُ أن يطفئ النيران فأراد عبد اللّّه أنْ يَبْدَأَ بنارِ
جُور فيطفِئَها فقيل له : ليست للمجوس نَارٌ أعْظََمُ من نار الكارِيانِ من دار الحارث فإن أطفأتها لم يمتنع عََليْكَ أحدٌ وإنْ أطفأت سافِلَتَهَا استعدُّوا للحَرْب وامتَنَعُوا فابْدَأ بها فخرجَ إلى الكاريان فتحصَّنَ أهلُها في القَلعة وكان رَجُلٌ من الفرس من أهل تلك البلاد معروف بالشدّة لا يقدِرُ عليه أحد وكان يمرُّ كلّ عشيَّةٍ ببابِ منزله استخفافاً وإذلالاً بنفسه فغمَّ ذلك عبدَ اللّه فقال : أما لِهذا أحدٌ وكان معَ عبد اللّه بن أبي بكْرة رجلٌ من عبد القيس مِنْ أشدِّ النَّاس بطشاً وكان َجباناً فقالوا له : هذا العبدي هو شديدٌ جَبان وإن أَمَرْتَهُ به خافَ القتالَ فلم يَعْرِضْ له فاحتل له حيلةً فقال : نعم .
قال : فبينا هو في مجلسه إذْ مرَّ الفارسِيُّ فقال عبد اللّه : مارأيتُ مِثلَ خلْقِ هذا وما في الأرض كما زعموا أشدُّ منه بطشاً ما يقوى
عليه أحد فقال العبدي : ما تجعلون لي إن احتملتُه حتَّى أدْخِلَه الدَّارَ وأكْتِفَهُ فقال له عبد اللّه : لك أربعةُ آلافِ درهم فقال : تَفُونَ لي بألفٍ قال : نَعَمْ فلمّا كان الغُد مرَّ الفارسيُّ فقام إليه العبديُّ فاحتمله فيما امتَنَع ولا قَدَرَ أن يتحرّك حتَّى أدخَله الدَّار وَضربَ به الأرض ووثَبَ عليه النَّاسُ فقتلوه وغُشِيَ على العبدي حين قتلوه فلما قُتِلَ أعْطَى أهلُ القلعةَ بأيديهم فقتل ابنُ أبي بَكْرةَ الهرابذةَ وأطفأ النَّارَ ومضى يُطفئُ النِّيرانَ حتَّى بَلَغَ سِجِسْتَان . )
تعظيم المجوس للنار والمجوسُ تقدّم النّارَ في التَّعظيم على الماء وتقدِّم الماءَ في التَّعظيم على الأرض ولا تكاد تذكر الهواء .
نار السعالي والجن والغيلان ونار أخرى التي يحكونها من نيران السَّعالِي والجنِّ وهي غَيرُ نار الغِيلان وأنشد أبو زيد لسَهم بن الحارث :
( وَنَارٍ قد حضأتُ بُعيْد هُدءٍ ** بدارٍ لا أريدُ بها مُقامَا ) ( سوَى تحليلِ رَاحلةٍ وعَيْنٍ ** أكالئُها مخافَة أنْ تَنَامَا ) ( فقلت : إلى الطّعامِ فقال منهم ** زَعيمٌ : نحسُدُ الإنْسَ الطعامَا ) وهذا غلط وليس من هذا الباب وسنضعه في موضعه إن شاء اللّه تعالى بل الذي يقع ههنا قول أبي المطراب عُبيدِ بنِ أيُّوبَ :
( فَللّه درُّ الغُول أيُّ رَفيقةٍ ** لصاحِب قفرٍ خائفٍ متقفِّرِ ) ( أرَنّتْ بِلَحْنٍ بَعْدَ لْحنٍ وأوقَدَت ** حَوَالَيَّ نِيرَاناً تبوخُ وَتَزْهَرُ )
نار الاحتيال وما زالت السَّدَنَة تحتالُ للنَّاس جهةَ النِّيران بأنواع الحيل كاحتيال رُهبانِ كَنيسةِ القُمامةَ ببيت المقدس بمصابيحها وأنَّ زَيْتَ قناديلها يَسْتَوْقِدُ لهم من غير نَارٍ في بعض ليالي أعيادِهم .
قال : وبمثل احتيال السَّادنِ لخالد بن الوليد حين رماه بالشَّرَر
ليوهمه أنَّ ذلك من الأوثان أو عقوبةٌ على ترك عبادتها وإنكارها والتعرُّض لها حتى قال : ( يا عُزُّ كُفْرَانَكِ لا سُبْحَانَكِ ** إنِّي وَجَدْتُ اللّهَ قد أهَانَكِْ ) حتى كشف اللّه ذلك الغطاءَ من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
نار الصيد والبيض ونار أخرى وهي النَّار التي تُوقدُ للظباء وصيدها لتعشى إذا أدامت النَّظر وتُخْتَل من ورائها ويطلب بها بيض النعام في أفاحيصها ومكناتها .
ولذلك قال طُفيلٌ الغنوي : ( عوازب لم تسمع نُبُوحَ مَقامَةٍ ** وَلَمْ تَرَ نَاراً تِمَّ حَوْلٍ مُجَرَّمِ ) ( سِوى نَار بَيْض أو غَزَالٍ بقَفرَة ** أغنَّ مِنَ الخُنْسِ المَناخِرِ تَوْأَمِ )
وقد يُوقدون النِّيران يُهَوِّلون بها على الأُسْد إذا خافوها والأسَدُ إذا عايَنَ النَّار حدقَ إليها وتأمَّلها فما أكْثَرَ ما تَشْغلهُ عن السَابلة .
قصة أبي ثعلب الأعرج وَمرَّ أَبُو ثعلب الأعرج على وادي السّباع فَعَرََض له سبع فقال لَهُ المُكارِي : لو أمرت غِلمانَكَ فأوْقدوا ناراً وضَربوا على الطَّساس الذي معهم ففعلوا فأحْجَمَ عنها فأنشدني لهُ ابن أبي كريمة في حُبّه بعد ذلك للنّار وَمَدْحِهِ لها وللصوتِ الشَّديد بَعد بُغْضِه لهمَا وهو قوله : ( فأحْبَبْتها حُباً هويتُ خِلاَطَهَا ** ولو في صَميمِ النَّار نَار جَهنَّمِ ) ( وصِرْتُ أَلذُّ الصَّوتَ لو كان صاعِقاً ** وأطْربُ من صَوْت الحمار المرقَّم ) وروي أنَّ أعرابيَّاً اشتدَّ عليه البردُ فأصاب ناراً فدنا منها ليصطلي بها وهو يقول : اللّهم لا
حيرة الضفدع عند رؤية النار وممّا إذا أبصر النّار اعترَتْهُ الحيرةُ الضّفدعُ فإنَّهُ لا يزالُ يَنِقُّ فإذا أبْصَر النّار سَكَتَ .
نار الحباحب ومن النِّيران نار الحُباحِب وهي أيضاً نارُ أبي الحباحب وقال أبو حَيّة : ( يُعَشِّرْ في تقريبهِ فإذا انحنى ** عليهنّ في قفٍّ أَرَنَّتْ جنادِلُهْ ) ( وَأوْقَدْنَ نيرانَ الحباحب والتقى ** غَضاً تتراقى بينهنَّ ولاوِلُهْ ) وقال القُطاميُّ في نار أبي الحُباحب : ( تُخَوِّدُ تخْويدَ النّعامةِ بَعْدَما ** تَصَوَّبَتِ الجَوْزَاءُ قَصْدَ المغَارِبِ )
( ألا إنما نِيرَانُ قيْسٍ إذا اشْتوت ** لطارقِ ليْلٍ مثلُ نارِ الحباحبِ ) ويصفون ناراً أخرى وهي قريبةٌ من نار أبي الحباحب وكلُّ نار تراها العينُ ولا حقيقة لها عند التماسها فهي نار أبي الحباحب ولم أسمعْ في أبي حباحب نفسِهِ شيئاً .
نار البرق وقال الأعرابيُّ وذَكَرَ البرْق :
يقول : كلُّ نار في الدُّنيا فهي تحرِقِ العِيدانَ وتُبْطلها وتُهلكها إلاَّ نار البرق فإنَّها تجيء بالغيث وإذا غِيثَتِ الأرضُ ومُطِرَتْ أحدَثَ اللَّه للِعى دَانِ جِدَّةً وللأَشْجارِ أغصاناً لم تكن .
نار اليراعة ونارٌ أخرى وهي شبيهةٌ بنار البرق ونار أبي حباحب وهي نار اليراعة واليراعة : طائر صغير إنْ طار بالنَّهار كان كبعض الطَّير وإن طار باللَّيل كان كأنَّهُ شهابٌ قُذِفَ أو مصباحٌ يطير .
الدفء برؤية النار وفي الأحاديث السَّائرة المذكورة في الكتب أنَّ رَجُلاً أُلقيَ في ماء راكِدٍ في شتاء بارد في ليلةٍ من الحنادِس لا قمر ولا ساهور وإنما ذكر ذلك لأنَّ ليلة العَشْر والبدر والطَّوق الذي يستدير حول القمر يكون كاسِراً من بَرْد تلك الليلة قالوا : فما زال الرجُل حيّاً
وهو في ذلك تَارِزٌ جامِد ما دام ينظر إلى نَارٍ كانت تُجاهَ وجهه في القرية أو مصباحٍ فلما طَفئتْ انْتَفَضَ . ( نار الخلعاء والهُرَّاب ) وقال الشَّاعر : يقول : بادرت اللَّيل لأنَّ النَّارَ لا تُرى بالنهار كأنه كان خليعاً أو مطلوباً .
وقال آخر : ( وَدَوِّيّةٍ لا يثقب النَّار سَفْرُهَا ** وَتُضْحِي بها الوَجْناءَ وَهْيَ لَهيدُ ) كأَنَّهم كانوا هُرّاباً فمِنْ حثهم السّيرَ لا يُوقدون لبُرْمَةٍ ولا مَلَّة
لأنّ ذلك لا يكون إلاّ بالنزول والتمكثِ وإنما يجتازون بالبَسيسَةِ أو بأدنى عُلقة وقال بعض اللُّصوص : ( ملساً بذَوْدِ الحدَسِيّ مَلْسَا ** نبَّهْتُ عنهن غلاماً غُسَّا ) ( لمَّا تَغَشَّى فَرْوَةً وَحِلْسا ** مِنْ غُدْوَةٍ حتَّى كأنّ الشّمسَا ) ( بالأفُق الغربيِّ تكْسَى وَرْسَا ** لا تخبزا خَبْزاً وَبُسّا بَسّا )
( ولا تُطيلا بمُناخٍ حَبْسَا ** وَجَنِّباها أسَداً وَعَبْسا ) قال : والبَسيسة : أن يبلّ الدَّقيق بشيء حتى يجتمع ويؤكل . ( نار الوشْم ) ونار أخرى وهي
نار الوشمِ والمِيسَمِ يقال للرجل : ما نار إبلِك فيقول : عِلاط أو خِبَاط أو حَلْقة أو كذا وكذا .
وقرّب بعضُ اللُّصوص إبلاً من الهُواشة وقد أغار عليها من كلِّ
جانب وجَمعها من قبائلَ شتى فقرّبها إلى بعض الأسواق فقال له بعض التّجار : ما نارك وإنما يسأله عن ذلك لأنهم يعرفون بميسم كل قومٍ كرََمَ إبلهِمْ من لؤمها فقال : ( تَسْألُني البَاعَةُ ما نِجَارُها ** إذْ زعزعُوها فَسَمَتْ أبصارُها ) ( فكلُّ دارٍ لأناسٍ دَارُها ** وكلُّ نَارِ العَالمينَ نارها ) وقال الكردوس المرادي : ( تسائلني عن نارها وَنِتَاجها ** وذلك عِلْمٌ لا يُحيط به الطّمْشُ ) والطّمْشُ : الخلقُ وَالوَرَى : النَّاس خاصّة .
الجزء الخامس
( بِسم اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ )
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم نبدأ في هذا الجزءِ بتمام القول في نيران العربِ والعجَمِ ونيرانِ الدِّيانة ومبلغِ أقدارِها عند أهلِ كلِّ مِلَّةٍ وما يكون منها مَفْخَراً وما يكونُ منها مذموماً وما يكون صاحبها بذلك مهجوراً .
ونبدأ بالإخبار عنها وبدئها وعن نفس جوهرها وكيفَ القولُ في كُمونها وظهورها إن كانت النارُ قد كانت موجودةَ العينِ قبلَ ظهورها وعن كونها على المجاورة كان ذلك أم على المداخَلة وفي حدوث عَينها إن كانت غيرَ كامنة وفي إحالة الهواء لها والعودِ جَمْراً إن كانت الاستحالةُ جائزة وكانت الحجّة في تثبيت الأعراض صحيحة وكيف
القولُ في الضِّرام الذي يظْهر من الشجر وفي الشَّرَر الذي يظهر من الحجَر وما القولُ في لون النار في حقيقتها وهل يختلفُ الشَّرَار في طبائعها أم لا اختلافَ بين جميعِ جواهرها أم يكون اختلافها على قدْر اختلافِ مخارجِها ومَداخلها وعلى قدر اختلافِ ما لاقاها وهَيّجها
قول النظام في النار ونبدأ باسم اللّه وتأييده بقول أبي إسحاق .
قال أبو إسحاق : الناس اسمُ للحَرِّ والضِّياء فإذا قالوا : أحْرَقَتْ أو سخّنَتْ فإنما الإحراقُ والتسخينُ لأحدِ هذين الجنسين المتداخِلين وهو الحرُّ دون الضياء .
وزعمَ أن الحرَّ جوهَر صعَّادٌ وإنما اختلفا ولم يكن اتِّفاقهما على الصعود موافقاً بين جواهرهما لأنهما متى صارا من العالَم العُلويِّ إلى مكانٍ صار أحدهما فوقَ صاحبِه .
وكان يجزِم القولَ ويُبْرِم الحُكم بأنّ الضياءَ هو الذي يَعْلو إذا انفردَ ولا يُعْلَى .
قال : ونحنُ إنما صِرْنا إذا أطفأنا نارَ الأتُّون وجَدْنا أرضه وهواهُ وحيطانه حارّة ولم نجدْها مضيئة لأن في الأرض وفي الماء الذي قد لابسَ الأرض حَرّا كثيراً وتداخلاً مُتشابِكاً وليس فيهما ضياء وقَدْ كانَ حَرُّ النارِ هَيَّجَ تِلْكَ الحَرَارَةَ فَأَظْهَرَهَا ولَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضِياءٌ من مُلاَبِس فَهَيَّجهُ الضياءُ وأظهره كما اتصل الحرُّ بالحرِّ فأزاله من موضعهِ وأَبرزهُ من مكانه فلذلك وجدْنا أرضَ الأتُّون وحيطانها وهواها حارَّةً ولم نجِدْها مضيئة .
وزعم أبو إسحاقَ أنَّ الدليل على أن في الحجر والعود ناراً مع اختلاف الجهات أنه يلزَمُ من )
ومن قال ذلك لزِمهُ أنْ يقولَ : أنْ ليس في الإنسان دَم وأنَّ الدَّمَ
إنّما تَخَلَّقَ عند البطّ وكان ليس بين مَن أنكرَ أن يكون الصَّبِرُ مرّ الجوهر والعسلُ حُلْوَ الجوهر قبل ألاّ يذاقا وبين السمسمِ والزيتون قبلَ أن يُعصرا فَرْق .
وإنْ زَعَم الزاعم أنّ الحلاوة والمرارةَ عَرَضانِ والزيتَ والخلّ جوهر وإذا لزم مَنْ قال ذلك في حلاوة العسل وحموضة الخلِّ وهما طعمان لزمه مثلُ ذلك في ألوانهما فيزعم أنَّ سوادَ السَّبَج وبياضَ
الثلجِ وحُمْرَةَ العُصْفُر وصُفرة الذهب وخُضْرَةَ البقْل إنما تحدُث عندَ رؤية الإنسان وإن كانت المعاينةُ والمقابلة غيرَ عاملتين في تلك الجواهر .
قال : فإذا قاسَ ذلك المتكلِّم في لَوْنِ الجسم بعد طعمه وفي طوله وعرضه وصورته بعد رائحته وفي خفتِه وثقل وزنه كما قاس في رخاوته وصلابته فقد دخل في باب الجهالات ولِحق بالذين زعموا أن القِرْبة ليس فيها ماء وإنْ وجدوها باللمس ثقيلة مزكورة وإنما تخلَّق عند حلِّ رِباطها وكذلك فليقولوا في الشمسِ والقمرِ والكواكب والجبال إذا غابتْ عن أبصارهم .
قال : فمن هرب عن الانقطاع إلى الجهالات كان الذي هرب إليه أشدَّ عليه .
وكان يضرِبُ لهما مثلاً ذكرته لِظَرَافته : حُكِيَ عن رجل أحدبَ سقطَ في بئر فاستوت حدَبتُهُ وحَدَثَتْ له أُدْرَةٌ في خُصيته فهَنَّاه
رد النظام على ضرار في إنكار الكمون وكان أبو إسحاق يزعُم أن ضِرَارَ بنَ عَمرو قد جَمعَ في إنكاره القولَ بالكُمُونِ الكفرَ والمعاندةَ لأنه كان يزعُمُ أن التوحيدَ لا يصحُّ إلا مع إنكار الكمون وأن القولَ بالكمون لا يصحُّ إلا بأنْ يكون في الإنسان دمٌ وإنما هو شيءٌ تَخَلَّق عند الرُّؤية .
قال : وهو قد كان يعلمُ يقيناً أنَّ جوفَ الإنسانِ لا يخلو من دم .
قال : ومن زعَمَ أن شيئاً من الحيوان يعيشُ بغير الدمِ أو شيءٍ
يشبهُ الدمَ فواجبٌ عليه أن يقول بإنكار الطبائع ويدفع الحقائقَ بقول جَهْم في تسخين النار وتبريد الثلج وفي الإدراك والحسِّ والغذاء والسُّمِّ وذلك بابٌ آخر في الجهالات .
ومن زعم أن التوحيدَ لا يصلحُ إلا بألاّ يكون في الإنسان دم وإلا بأن تكونَ النارُ لا توجب الإحراق والبصرُ الصحيحُ لا يوجبُ الإدراك فقد دَلّ عَلى أنه في غاية النقص والغباوة أو في غاية التكذيب والمعاندة .
وقال أبو إسحاق : وجدنا الحطب عند انحلال أجزائه وتفرُّق أركانِهِ التي بُني عليها ومجموعاته التي رُكّبَ منها وهي أربع : نارٌ ودخان وماءٌ ورَمَاد ووجدنا للنار حرّاً وضياءً ووجدنا للماء صوتاً ووجدنا للِدُّخان طعماً ولوناً ورائحة ووجدنا للرَّمَادِ طعماً ولوناً ويُبْساً ووجدنا
ووجدنا الحطب رُكِّبَ على ما وصفنا فَزَعمنا أنه رُكِّب من المُزْدَوِجَاتِ ولم يُرَكَّبْ من المفردات .
قال أبو إسحاق : فإذا كان المتكلمُ لا يعرف القياسَ ويُعطيه حقه فرأى أنَّ العُود حين احتكَّ بالعودِ أحدث النار فإنه يلزَمُه في الدخان مثلُ ذلك ويَلزَمُه في الماء السائل مثلُ ذلك وإنْ قاس قال في الرّماد مثلَ قوله في الدخان والماء وإلا فهو إما جاهلٌ وإمّا متحكم .
وإن زَعَمَ أنه إنما أنكرَ أنْ تكون النارُ كانت في العودِ لأنه وَجَدَ النارَ أعظم من العود ولا يجوز أن يكون الكبيرُ في الصغير وكذلك الدخان فليَزْعُمْ أن الدخانَ لم يكنْ في الحطبِ وفي الزَّيت وفي النِّفْطِ .
فإن زعم أنهما سواءٌ وأنه إنما قال بذلك لأن بَدَنَ ذلك الحطَب لم يكن يسعُ الذي عاين من بَدَن النارِ والدخان فليس ينبغي لمنْ أنكر كُمونَهَا من هذه الجهة أَنْ يزعُمَ أنّ شَرَرَ القَدَّاحَةِ والحجَرِ لم يكونا كامنين في الحجَر والقدَّاحَة . )
وليس ينبغي أن يُنْكِرَ كُمونَ الدم في الإنسان وَكمونَ الدُّهْن في السمسم وكمون الزيت في الزيتون ولا ينبغي أن يُنْكِرَ من ذلك إلا ما لا يكون الجسمُ يَسَعُه في العين .
فكيف وهم قد أجْرَوْا هذا الإنكارَ في كلِّ ما غابَ عن حواسّهم من الأجسام المستَتِرة بالأجسام حتى يعود بذلك إلى إبطال الأعراض
كنحو حموضة الخلّ وحلاوة العسلِ وعذوبة الماء ومَرارة الصبر .
قال : فإن قاسوا قولهم وزعموا أن الرمادَ حادثٌ كما قالوا في النار والدُّخان فقد وجبَ عليهم أن يقولوا في جميعِ الأجسام مثلَ ذلك كالدقيق المخالفِ للبُرِّ في لونه وفي صلابَتهِ وفي مساحته وفي أمورٍ غير ذلك منه فقد ينبغي أن يزعم أن الدقيقَ حادثٌ وَأن البُرّ قد بطَلَ .
وإذا زعم ذلك زعم أنّ الزُّبْدَ الحادثَ بعد المخْضِ لم يكن في اللبنِ وأنَّ جُبْنَ اللبنِ حادث وقاسَ ماءَ الجُبْن على الجبن وليس اللبنُ إلا الجُبْنَ والماءَ .
وإذا زعم أنهما حادثان وَأن اللبن قد بَطَلَ لزمَه أن يكون كذلك الفَخَّارُ الذي لم نجِده حتى عَجَنَّا الترابَ اليابسَ المتهافتَ على حِدَته بالماءِ الرَّطْبِ السّيال على حِدَتِهِ ثم شوَيناهُ بالنار الحارَّةِ الصَّعَّادَةِ على حِدَتِها ووجدنا الفخار في العينِ واللمس والذَّوق والشَّمّ وعند النَّقْر والصّكِّ على خلاف ما وجدنا عليه النارَ وحدها والماءَ وحده والتُّرابَ وَحْدَهُ
فإنّ ذلك الفخار هو تلك الأشياءُ والحطبَ هو تلك الأشياءُ إلا أن أحدَها من تركيب العِباد والآخرَ من تركيب اللّه .
والعبد لا يقلبُ المَركَّباتِ عن جواهرها بتركيبه ما ركب منها .
فإن زعموا أن الفخار ليس ذلك التُّرابَ وذلك الماءَ وتلك النار وقالوا مثل ذلك في جميعِ الأخبصة والأنبذة كان آخرُ قياسهم أن يُجِيبوا بجواب أبي الجهجاه فإنه زعم أن القائمَ غيرُ القاعد والعجينَ غيرُ الدقيق وزعم ولو أنه لم يقل ذلك أن الحبَّة متى فلقت فقد بطل الصحيح وحدثَ جِسْمان في هيئةِ نصفَي الحبَّة وكذلك إذا فلقت بأربعِ فلق إلى أن تصيرَ سَويقاً ثم تصيرَ دقيقاً ثم تصير عجيناً ثم تصير خُبزاً ثم تعودَ رجيعاً وزبْلاً ثم تعودُ رَيحاناً وبَقلاً ثم يعود الرجيع أيضاً لبناً وزُبداً لأن الجلاَّلة من البهائم تأكله فيعودُ لحماً ودماً .
وقال : فليس القولُ إلا ما قال أصحابُ الكُمونِ أو قولَ هذا .
ردّ النظام على أصحاب الأعراض قال أبو إسحاق : فإن اعترض علينا مُعترضٌ من أصحاب الأعراض فزعم أن النارَ لم تكن كامنةً وكيفَ تكمُنُ فيه وهي أعظم منه ولكنّ العودَ إذا احتكّ بالعود حَمِيَ العودان وحمي من الهواءِ المحيط بهما الجزءُ الذي بينهما ثم الذي يَلي ذلك منهما فإذا احتدم رقّ ثم جفّ والتهب فإنما النارُ هواءٌ استحالَ .
والهواءُ في أصل جوهرهِ حارٌّ رقيق وهو جسم رقيق وهو جسمٌ خَوَّارٌ جيِّد القبول سريع الانقلاب .
والنار التي تراها أكثرَ من الحطب إنما هي ذلك الهواءُ المستحيل وانطفاؤها بطلان تلك الأعراضِ الحادثة من النارية فيه فالهواءُ سريعُ الاستحالة إلى النار سريعُ الرجوع إلى طبعهِ الأول وليس أنها إذا عُدِمَتْ فقد انقطعتْ إلى شكل لها عُلْوِيٍّ واتصلت وصارتْ إلى تِلادها ولا أنَّ أجزاءَها أيضاً تفرقتْ في الهواء ولا أنها كانت كامنةً
في الحطَب متداخلةً منقبضة فيه فلما ظهرت انبسطت وانتشرت وإنما اللهبُ هواءٌ استحال ناراً لأن الهواءَ قريبُ القرابةِ من النار والماءَ هو حجازٌ بينهما لأنَّ النار يابسةٌ حارة والماءَ رطبٌ بارد والهواءَ حارٌّ رطب فهو يُشبه الماء من جهة الرطوبة والصفاء ويُشبه النار بالحرارةِ والخفة فهو يخالفهما ويوافقهما فلذلك جازَ أن ينقلبَ إليهما انقلاباً سريعاً كما ينعصر الهواء إذا استحال رطباً وحدث له كثافة إلى أن تعود أجزاؤه مطراً فالماء ضدُّ النار والهواء خلافٌ لهما وليس بضِدٍّ ولا يجوز أن ينقلب الجوهر إلى ضده حتى ينقلب بَديّاً إلى خلافه فقد يستقيم أن ينقلبَ الماء هواءً ثم ينقلبَ الهواءُ ناراً وينقلبَ الهواءُ ماء ثم ينقلبَ الماءُ أرضاً فلا بدّ في الانقلاب من الترتيبِ والتدريج وكلُّ جوهر فله مقدمات لأن الماءَ قد يحيل الطين صخراً وكذلك في العكس فلا يستحيل الصخرُ هواءً والهواءُ صخراً إلا على هذا التنزيل والترتيب .
وقال أبو إسحاق لمن قال بذلك من حُذَّاق أصحاب الأعراض : قد زعمتم أن النار التي عاينّاها لم تخرج من الحطَب ولكنَّ الهواءَ المحيط بهما احتدَمَ واستحالَ ناراً فلعلّ الحطب الذي يسيل منه الماءُ الكثيرُ أن يكون ذلك الماءُ لم يكن في الحطَب ولكنَّ ذلك المكان من الهواءِ
استحالَ ماء وليس ذلك المكان من الهواء أحقَّ بأن يستحيل ماءً من أن يكون سبيلُ الدخان في الاستحالةِ سبيلَ النار والماء . )
فإن قاسَ القومُ ذلك فزعموا أن النار التي عاينَّاها وذلك الماء والدخان في كثافة الدخَان وسَوادِه والذي يتراكمُ منه في أسافل القدور وسُقف المطابخ إنما ذلك هواء استحال فلعلَّ الرماد أيضاً هواءٌ استحالَ رماداً .
فإِن قلتم : الدُّخان في أول ثقله المتراكم على أسافل القدور وفي بُطونِ سُقُفِ مواقِدِ الحمامات الذي إذا دُبِّرَ ببعض التدبير جاء منه الأنقاسُ العجيبةُ أحق بأن استحال أرضيّاً فإن قاسَ صاحب العَرَضِ وزعم أن الحطب انحلَّ بأسرِه فاستحال بعضه رماداً كما قد كان
بعضُه رماداً مرةً واستحال بعضه ماءً كما كان بعضه ماءً مرة وبعضه استحال أرضاً كما كان بعضه أرضاً مرة ولم يقلْ إن الهواءَ المحيطَ به استحالَ رماداً ولكنَّ بعضَ أخلاطِ الحطبِ استحالَ رماداً ودُخاناً وبعض الهواء المتصل به استحال ماءً وبعضه استحال ناراً على قدرِ العوامل وعلى المقابِلات له وإذا قال صاحبُ العرض ذلك كان قد أجاب في هذه الساعةِ على وهذا باب من القول في النار وعلينا أن نستقصيَ للفريقَين واللّه المعين . ( ردٌّ على منكري الكُمون ) وبابٌ آخرُ وهو أن بعض من ينكرُ كُمونَ النار في الحطب قالوا : إن هذا الحرّ الذي رأيناه قد ظهرَ من الحطب لو كان في الحطب لكان واجباً أن يجده مَنْ مَسّه كالجمر المتوقد إذا لم يكن دونه مانعٌ منه ولو كان هناك مانعٌ لم يكن ذلك المانعُ إلا البردَ لأن اللونَ والطعمَ والرائحة لا يفاسِد الحرَّ ولا يُمانعه إلا الذي يُضادُّه دون الذي يخالفه ولا يضاده .
فإِن زعم زاعمٌ أنه قد كان هناكَ من أجزاء البرد ما يعادلُ ذلك الحرَّ ويُطاوله ويكافيه ويوازيهِ فلذلك صرنا إذا مَسَسْنَا الحطبَ لم نجدْه مؤذياً وإنما يظهر الحرْقُ ويُحْرِقُ لزوال البرد إذا قام في مكانه وظهر الحرُّ وحْده فظهر عمله ولو كان البردُ المعادلُ لذلك الحرِّ مقيماً في العود على أصلِ
كمونه فيه لكانَ ينبغي لمن مَسَّ الرَّمادَ بيده أن يجده أبرد من الثلج فإذا كان مسه كمسِّ غيره فقد علمنا أنه ليس هناك من البرد ما يعادلُ هذا الحرَّ الذي يُحرق كلّ شيءٍ لَقِيَه .
فإن زعم أنهما خرجا جميعاً من العود فلا يخلو البردُ أن يكونَ أَخَذَ في جهته فلِمَ وجدنا الحرّ وحده وليس هو بأحق أن نجده من ضِدّه وإن كان البردُ أَخَذَ شَمَالاً وأخذَ الحرُّ جنوباً فقد قالوا : فلما وجدنا جميعَ أقسامِ هذا البابِ علمنا أن النار لم تكن كامنة في الحطبِ .
قال أبو إسحاق : والجواب عن ذلك أنا نزعم أن الغالبَ على العالَم السفليِّ الماءُ والأرض وهما )
جميعاً باردانِ وفي أعماقهما وأضعافهما من الحر ما يكون مغموراً ولا يكون غامراً ويكون مقموعاً ولا يكون قامعاً لأنه هناك قليل والقليلُ ذليل والذليلُ غريب والغريبُ محقور فلما كان العالَمُ السفلي كذلك اجتذبَ ما فيه من قوة البرد وذلك البرد الذي كان في العود عند زوالِ مانعه لأن العودَ مقيمٌ في هذا العالم ثم لمْ ينقطع ذلك البردُ إلى برد الأرض الذي هو كالقُرْص
له إلا بالطَّفرة والتخليف لا بالمرور على الأماكن والمحاذاةِ لها وقام بَرْدَ الماء منه مقام قرصِ الشمسِ من الضياء الذي يدخل البيتَ للخَرْق الذي يكون فيه فإذا سُدَّ فمع السَّدِّ ينقطعُ إلى قُرْصه وأصلِ جوهره .
فإذا أجابَ بذلك أبو إسحاق لم يجد خصمُه بُدّاً من أن يبتدئ مسألة في إفساد القول بالطفرة والتخليف .
ولولا ما اعترض به أبو إسحاق من الجواب بالطفرة في هذا الموضع لكان هذا مما يقع في باب الاستدلالِ على حدوثِ العالم .
قول النظام في الكمون وكان أبو إسحاق يزعُمُ أن احتراق الثوب والحطب والقطن إنما هو خروجُ نيرانه منه وهذا هو تأويل الاحتراق وليس أن ناراً جاءت من مكانٍ فعملت في الحطب ولكن النار الكامنة في الحطب لم تكن تقوى على نفي ضدِّها عنها فلما اتصلت بنار أخرى واستمدَّت منها
قوِيَتَا جميعاً على نفي ذلك المانع فلما زال المانع ظهرت فعند ظهورها تجزَّأ الحطبُ وتجففَ وتهافتَ لمكان عملها فيه فإحراقك للشيء إنما هو إخراجك نيرانه منه .
وكان يزعم أن حرارة الشمس إنما تحرق في هذا العالم بإخراج نيرانها منه وهي لا تُحرق ما عقد العَرضُ وكَثَّفَ تلك النداوة لأن التي عقدت تلك الأجزاء من الحر أجناس لا تحترق كاللون والطعم والرائحة والصوت والاحتراقُ إنما هو ظهورُ النار عند زوال مانِعها فقط .
وكان يزعم أن سمَّ الأفعى مقيماً في بدن الأفعى ليس يَقْتُل وأنه متى مازَجَ بدناً لا سمَّ فيه لم يقتل ولم يُتْلِفْ وإنما يتلفُ الأبدان التي فيها سموم ممنوعة مما يُضَادُّها فإذا دخل عليها سم الأفعى عاون السم الكامنُ ذلك السمَّ الممنوعَ على مانعهِ فإذا زال المانعُ تلف البدن فكان المنهوشُ عند أبي إسحاقَ إنما كان أكثرُ ما أتلفه السمّ الذي معه .
وكذلك كان يقول في حرِّ الحمَّام والحر الكامنِ في الإنسان : أَنَّ الغَشْيَ الذي يعتريه في الحمام ليس )
من الحر القريب ولكن من الحر الغريب حرّك الحرَّ الكامن في الإنسانِ وأمَدّهُ ببعض أجزائه فلما قوِيَ عند ذلك على مانِعِهِ فأزاله صار ذلك العملُ الذي كان يُوقعه بالمانع واقعاً به وإنما ذلك كماءٍ حار يحرِقُ اليَد صُبَّ عليه ماءٌ
باردٌ فلما دخل عليه الماء البارد صار شُغْله بالداخل وصار من وضَعَ يده فيه ووضع يدَه في شيء قد شُغِل فيه بغيره فلما دفع اللّه عزّ وجلّ عنه ذلك الجسم الذي هو مشغولٌ به صار ذلك الشُّغْل مصروفاً إلى من وضع يده فيه إذ كان لا ينفكُّ من عمله .
وكان مع ذلك يزعم أنك لو أطفأتَ نارَ الأتُّون لم تجدْ شيئاً من الضوء ووجدت الكثير من الحر لأن الضياء لما لم يكن له في الأرض أصلٌ ينسب إليه وكان له في العلوِّ أصلٌ كانَ أولَى به .
وفي الحقيقة أنهما جميعاً قد اتصلا بجوهرهما من العالم العلويِّ وهذا الحر الذي تجده في الأرض إنما هو الحرُّ الكامن الذي زال مانعه .
هكذا كان ينبغي أن يقول وهو قياسُه .
وكان يزعم أنك إن أبصرتَ مصباحاً قائماً إلى الصُّبح أن الذي رأيته في أول وهلةٍ قد بَطلَ من هذا العالَم وظَفِر من الدهن بشيء من وزنه وقدره بلا فضل ثم كذلك الثالث والرابع والتاسع فأنت إن ظننتَ أن هذا المصباحَ ذلك فليس به ولكن ذلك المكان لما كان لا يخلو من أقسامٍ متقاربة متشابهة و لم يكن في الأول
شِيةٌ ولا علامة وقع عندك أن المصباحَ الذي رأيته وكان يزعم أن نار المصباح لم تأكل شيئاً من الدُّهن ولم تشربْه وأن النار لا تأكل ولا تشرب ولكن الدهن ينقص على قدرِ ما يخرجُ منه من الدخان والنار الكامنَين اللذَينِ كانا فيه وإذا خرج كلُّ شيء فهو بُطْلاَنه .
المجاز والتشبيه الأكل وقد يقولون ذلك أيضاً على المثل وعلى الاشتِقاق وعلى التشبيه .
فإن قلتم : فقد قال اللّه عزّ وجلّ في الكتاب : الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللّه عَهِدَ إلَيْنا أَنْ لاَ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تأْكُلُهُ النَّارُ علِمْنَا أن اللّه عزّ وجلّ إنما كلمهم بلغتهم .
وقد قال أوسُ بنُ حَجَر : ( فأشْرَط فيها نفسَه وهْو مُعْصِمٌ ** وألقى بأسبابٍ له وتوكَّلاَ )
( وقد أكَلَتْ أظْفَارُه الصَّخْرُ كلما ** تَعَايا عليه طولٌ مَرْقًى تَوَصَّلاَ ) فجعل النحتَ والتَّنَقُّصَ أكلاً .
وقال خفَافُ بن نَدْبَة : ( أبا خُرَاشَةَ أَمَّا كنْتَ ذَا نَفَرٍ ** فإنَّ قوْمِيَ لمْ تَأْكلْهُمُ الضبُعُ )
باب آخر مما يسمونه أكلاً . وقال مِرْداسُ بن أُدَيّة : ( وأدّتِ الأرضُ مِنِّي مِثْلَ مَا أَكَلَتْ ** وقرّبُوا لحِسَابِ القِسْطِ أعمالي ) وأكْلُ الأرض لما صارَ في بطنها : إحالتها له إلى جَوْهَرِها .
باب آخر في المجاز والتشبيه بالأكل وهو قول اللّه عزّ وجلّ : إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظلْماً وقوله تعالى عزَّ اسمُه : أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وقد يقال لهم ذلك وإن شربوا بتلك الأموال الأنبذة ولبسوا الحُللَ وركبوا الدوابَّ ولم ينفقوا منها دِرْهَماً واحداً في سبيل الأكل .
وقد قال اللّه عزّ وجلّ : إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونهمْ ناراً وهذا مجازٌ آخر .
وقال الشاعر في أخذ السِّنِينَ من أجزاء الخمر : ( أكَلَ الدَّهْرُ ما تجسَّمَ منها ** وتَبَقَّى مُصَاصَهَا المكنونا )
وقال الشاعر : ( مَرّتْ بِنَا تَخْتَالُ فِي أرْبَعٍ ** يأكُلُ منها بعضُهَا بعضَا ) وهلْ قوله : وقد أكَلَتْ أظْفَارَه الصَّخْرُ إلا كقوله :
وإذا قالوا : أكلَهُ الأسَد فإنما يذهبون إلى الأكل المعروف وإذا قالوا : أكَلَهُ الأسْوَد فإنما يعنون النَّهْشَ واللَّدْغَ والعضَّ فقط .
وقد قال اللّه عزّ وجلّ : أيُحبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ويقال : هم لحوم الناس .
وقال قائلٌ لإسماعيل بن حماد : أيّ اللُّحْمَانِ أطيب قال : لحومُ الناس هي واللّهِ أطيبُ من الدجاج ومن الفراخ والعُنُوز الحُمْر .
ويقولون في باب آخر : فلانٌ يأكل الناس وإن لم يأكلْ من طعامهم شيئاً .
وأما قولُ أوس بن حَجَر : ( وذو شُطباتٍ قَدّهُ ابنُ مجدِّعٍ ** له رَونقٌ ذرِّيُّهُ يتأكَّلُ )
فهذا على خلاف الأول وكذلك قول دُهْمان النهري : ( سألْتِني عنْ أُنَاسٍ أَكلُوا ** شَرِبَ الدَّهْرُ عليهمْ وأكَلْ ) فهذا كله مختلف وهو كله مجاز .
باب آخر في مجاز الذوق وهو قول الرَّجل إذا بالغ في عقوبةِ عبده : ذُقْ و : كيف ذقته و : كيف وجدتَ طعمَه
وأما قولهم : ما ذقْت اليوم ذَواقاً فإنه يعني : ما أكلتُ اليوم طعاماً ولا شربتُ شراباً وإنما أراد القليل والكثير وأنه لم يذقه فضلاً عن غير ذلك .
وقال بعض طبقات الفقهاء ممن يشتهي أن يكون عند الناس متكلماً : ما ذقت اليوم ذواقاً على وجهٍ من الوجوه ولا على معنًى من المعاني ولا على سبب من الأسباب ولا على جهةٍ من الجهات ولا على لون من الألوان .
وهذا من عجيب الكلام .
قال : ويقول الرجل لوكيله : اِيتِ فلاناً فذُقْ ما عنده .
وقال شمّاخ بن ضِرار : ( فذاق فأعطَتْه من اللِّين جانباً ** كَفى ولَهَا أن يُغرِقَ السهمَ حاجزُ ) وقال ابن مُقْبِل : ( أو كاهتزازِ رُدَيْنِيٍّ تَذَاوَقهُ ** أَيْدِي التِّجَارِ فَزَادُوا مَتْنَهُ لِينَا )
وقال نَهْشَلُ بن حَرِّيٍّ : ( وعَهْدُ الغَانِيَاتِ كَعَهْدِ قَيْن ** وَنَتْ عنهُ الجعائلُ مستذاقِ ) الجعائلُ : من الجُعْل .
وتجاوزوا ذلك إلى أن قال يزيدَ بن الصّعِق لبني سُليم حين صنعوا بسيِّدهم العباسِ ما صنعوا وقد كانوا توّجوه ومَلَّكوه فلما خالفَهُم في بعض الأمر وثَبوا عليه وكان سببَ ذلك قلة رَهْطِه وقال يزيد بن الصّعِق : ( وإن اللّه ذاق حُلُوم قَيْسٍ ** فلما ذاق خِفَّتَهَا قَلاَها )
( رآها لا تطيعُ لها أميراً ** فخلاَّها تردَّدُ في خلاها ) فزعم أن اللّه عزَّ وجلَّ يذوق .
وعند ذلك قال عباس الرِّعلي يخبر عن قلَّتِهِ وكثرتهم فقال : ( وأمُّكمُ تُزْجي التُّؤَام لِبَعْلِهَا ** وأمُّ أخيكم كَزَّة الرِّحمِ عاقرُ ) وزعم يونس أنَّ أسلم بن زرعة لما أُنشدَ هذا البيت اغرَوْرَقَتْ عيناه . )
وجعل عباسٌ أمّه عاقراً إذْ كانت نَزَوراً وقد قال الغنويّ : ( وتحدثوا مَلأً لِتُصْبِحَ أمُّنَا ** عَذْرَاءَ لا كَهْلٌ وَلا مَوْلُودُ ) جَعَلَهَا إذْ قلَّ ولدُها كالعذراء التي لم تلد قَطُّ لما كانت كالعذراء جعلها عذراء .
وللعربِ إقدام على الكلام ثقةً بفهمِ أصحابهم عنهم وهذه أيضاً فضيلةٌ أخرى .
وكما جوَّزُوا لقولهم أكل وإنما عضَّ وأكَلَ وإنما أفْنَى وأكلَ وإنما أحاله وأكل وإنما أبطلَ عينه ( وإنْ شِئْتُ حَرَّمتُ النساءَ سِوَاكمُ ** وإن شئتُ لم أطعمْ نُقاخاً ولا بَرْدَا ) وقال اللّه تعالى : إنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَربَ مِنْهُ فلَيْسَ مِنِّي ومَنْ لَمْ يَطْعَمْه فإنهُ مِنِّي يريد : لم يذقْ طعمه .
وقال عَلقمة بن عَبَدَةَ : ( وقد أُصاحِبُ فتياناً طعامُهُمُ ** حُمْرُ المَزاد ولحمٌ فيه تنشيمُ )
يقول : هذا طعامهم في الغزو والسفرِ البعيد الغايةِ وفي الصيف الذي يُغَيِّرُ الطعام والشراب والغزوُ على هذه الصفةِ من المفاخر ولذلك قال الأول : ( لا لا أعقُّ ولا أحُو ** بُ ولا أُغيرُ عَلَى مُضَرْ ) ( لَكِنّما غَزْوي إذا ** ضجَّ المَطِيُّ من الدَّبَرْ ) وعلى المعنى الأولِ قولُ الشاعر : ( قالت ألاَ فاطْعِمْ عُمَيْراً تمرا ** وكان تَمْري كهرةً وزَبرا ) وعلى المعنى الأولِ قال حاتم : هذا فَصْدِي أنَهْ
ولذلك قال الرّاجز : لعامراتِ البيتِ بالخرابِ ( تأويل النظام لقولهم : النار يابسة ) وكان أبو إسحاق يتعجبُ من قولهم : النار يابسة قال : أما قولهم : الماء رَطْب فيصح لأنا نراه سيَّالاً وإذا قال الأرض يابسة فإِنما يريد الترابَ المتهافتَ فقط فإن لم يُرِدْ إلا بَدَنَ الأرض الملازمَ بعضُه لبعض لما فيها من اللُّدُونة فقط فقد أخطأ لأن أجزاءَ الأرض مخالطةٌ لأجزاءِ الماء فامتنعتْ من التهافتِ على أقدار ذلك .
ومتى حفرنا ودخلنا في عُمْق الأرض وجدنا الأرض طيناً بل لا تزال تجدُ الطين أرطبَ حتى )
تصيرَ إلى الماء والأرض اليوم كلها أرضٌ وماء والماء ماءٌ وأرض وإنما يلزمها من الاسم على قدر الكثرة والقلة فأما النار فليست بيابسة البدن ولو كانت يابسة البدنِ لتهافتتْ تهافت التراب ولتَبَرّأ بعضها من بعض كما أن الماء لما كان رطباً كان سيَّالاً .
ولكن القوم لما وجدوا النار تستخرج كل شيء في العودِ من النار فظهرت الرطوباتُ لذلك السببِ ووجدوا العودَ تتميزُ أخلاطه عند
خروج نيرانه التي كانت إحدى مراتعها من التمييز فوجدوا العودَ قد صار رماداً يابساً مُتهافتاً ظنوا أن يُبْسَهُ إنما هو مما أعطته النار وولَّدتْ فيه .
والنارُ لم تُعْطِهِ شيئاً ولكن نار العودِ لما فارقَتْ رطوباتِ العودِ ظهرت تلك الرطوباتُ الكامنة والمانعة فبقيَ من العودِ الجزءُ الذي هو الرماد وهو جزء الأرض وجَوْهَرُها لأن العود فيه جزء أرضيٌّ وجزءٌ مائيٌّ وجزءٌ ناريٌّ وجزءٌ هوائيٌّ فلما خرجتِ النارُ واعتزلت الرطوبة بقيَ الجزءُ الأرضيّ .
فقولهم : النار يابسةٌ غلطٌ وإنما ذهبوا إلى ما تراه العيون ولم يغوصوا على مُغَيَّبَاتِ العِلَل وكان يقول : ليس القوم في طريق خُلَّصِ المتكلمين ولا في طريق الجهابذةِ المتقدِّمين .
قول النظام في علاقة الذكاء بالجنس وكان يقول : إنَّ الأُمَّة التي لم تنْضِجْها الأرحام ويخالفون في ألوان أبدانِهم وأحداقِ عيونهم وألوانِ شعورهم سبيلَ الاعتدال لا تكون
عقولهم وقرائحهم إلا على حسبِ ذلك وعلى حسبِ ذلك تكون أخلاقهم وآدابهم وشمائلهم وتصرُّف هممهم في لؤمهم وكرمهم لاختلاف السّبْكِ وطبقاتِ الطبخ وتفاوتُ ما بين الفطير والخمير والمقصِّر والمجاوز وموضع العقل عضوٌ من الأعضاء وجزءٌ من تلك الأجزاء كالتفاوت الذي بين الصَّقالبِةِ والزّنج .
وكذلك القولُ في الصور ومواضع الأعضاء ألا ترَى أن أهل الصين والتُّبَّتِ حُذَّاقُ الصناعات لها فيها الرِّفق والحِذْق ولُطفُ المداخل والاتساعُ في ذلك والغَوْصُ على غامِضِه وبعيده
تخطئة من زعم أن الحرارة تورث اليبس قال : وكان يخطِّئهم في قولهم : إن الحرارة تورث اليُبْس لأن الحرارة إنما ينبغي أن تورثَ السخونة وتولّدَ ما يشاكلها ولا تولدُ ضرباً آخر مما ليس منها في شيء ولو جازَ أن تولّد من الأجناس التي تخالفها شكلاً واحداً لم يكن ذلك الخلاف بأحقَّ من خلافٍ آخر إلا أن يذهبوا إلى سبيلِ المجاز : فقد يقول الرجلُ : إنما رأيتك لأني التفتُّ وهو إنما رآه لطبع
في البصر الدرَّاك عند ذلك الالتفاتِ .
وكذلك يقول : قد نجد النار تداخلُ ماءَ القُمقمِ بالإيقاد من تحته فإذا صارت النارُ في الماء لابسَتْه واتصلت بما فيه من الحرَاراتِ والنار صَعَّادةٌ فيحدثُ عند ذلك للماء غليانٌ لحركة النار التي قد صارت في أضعافه وحركتها تصعُّدٌ فإذا تَرَفّعت أجزاءُ النار رَفَعَت معها لطائف من تلك الرُّطوباتِ التي قد لابَسَتْها فإذا دام ذلك الإيقادُ من النار الداخلةِ على الماء صعدت أجزاء الرطوباتِ الملابسةُ لأجزاء النار ولقوة حركة النار وطلبِها التِّلاَدَ العُلْوِيَّ كان ذلك فمتى وجد من لا عِلْمَ له في أسفل
القمقم كالجِبس أو وجد الباقيَ من الماء مالحاً عند تصعُّدِ لطائفه على مثال ما يعتري ماءَ البحر ظنَّ أن النار التي أعطته اليُبْسَ .
وإن زعموا أن النار هي الميَبِّسَة على معنى ما قد فسرنا فقد أصابوا فإن ذهبوا إلى غير وكذلك الحرارة إذا مُكنت في الأجساد بعثَتِ الرطوبات ولابَسَتْهَا فمتى قويَتْ عَلَى الخروج أخرجتها منه فعند خروج الرطوباتِ توجد الأبدان يابسةً ليس أن الحرّ يجوز أن يكون له عملٌ إلا التسخينَ والصعودَ والتقلبُ إلى الصعود من الصعود كما أن الاعتزال من شكل الزوال .
وكذلك الماء الذي يفيض إلى البحر من جميع ظهور الأرضينَ وبطونها إذا صار إلى تلك الحفرة العظيمة فالماء غسَّال مصّاص والأرض تقذف إليه ما فيها من الملوحة .
وحرارةُ الشمس والذي يخرج إليه من الأرض من أجزاء النيران المخالطة يرفعان لطائفَ الماء بارتفاعهما وتبخيرهما فإذا رَفَعَا اللطائفَ فصار منهما مطرٌ وما يشبه المطر وكان ذلك دأبهما عادَ
ذلك الماء ملحاً لأن الأرض إذا كانت تعطيه الملوحة والنيران تخرجُ منه العذوبة واللطافة كان واجباً أن يعود إلى الملوحة ولذلك يكون ماء البحرِ أبداً عَلَى كيلٍ واحدٍ ووزن واحد لأن الحراراتِ تطلب القرارَ وتجري في أعماق الأرض وترفع اللطائف فيصير مطراً وبَرَداً وثلجاً وطَلاًّ ثم تعود تلك الأمواه سيولاً تطلب الحَدورَ وتطلب القرار وتجري في )
أعماق الأرض حتى تصير إلى ذلك الهواء فليس يضيع من ذلك الماء شيء ولا يبطلُ منه شيء والأعيانُ قائمة فكأنه مَنْجَنُونٌ غرف من بحر وصبَّ في جدول يفيضُ إلى ذلك النهر .
فهو عملُ الحرارات إذا كَانت في أجواف الحطب أو في أجواف الأرَضينَ أو في أجواف والحر إذا صار في البدَن فإنما هو شيء مُكْرَه والمكرهُ لا يألو يتخلصُ
وهو لا يتلخص إلا وقد حَمَل معه كلَّ ما قويَ عليه مما لم يشتد فمتى خرج خرج معه ذلك الشيءُ .
قال : فمن هاهنا غَلط القَوم .
قول الدُّهرية في أركان العالم قال أبو إسحاق : قالت الدهرية في عالَمِنَا هذا بأقاويلَ : فمنهم من زعم أن عالمنا هذا من أربعة أركانٍ : حرّ وبرد ويبس وبِلَّة وسائر الأشياء نتائجُ وتركيبٌ وتوليد وجعلوا هذه الأربعة أجساماً .
ومنهم من زعم أن هذا العالم من أربعةِ أركانٍ : من أرض وهواءٍ وماءٍ ونار وجعلوا الحر والبرد واليُبْس والبلَّة أعراضاً في هذه الجواهر ثم قالوا في سائر الأراييح والألوان والأصوات : ثمارُ هذه الأربعة عَلَى قدر الأخلاط في القلة والكثرة والرقة والكثافة .
فقدَّموا ذِكر نصيب حاسَّةِ اللمس فقط وأضربوا عن أنصباء الحواسِّ الأربع .
قالوا : ونحن نجد الطُّعومَ غاذيةً وقاتلة وكذلك الأراييح ونجد
الأصوات مُلذة ومؤلمة وهي مع ذلك قاتلة وناقصةٌ للقوى مُتْلفة ونجد للأَلوان في المضار والمنافع واللّذَاذَةِ والألَمِ المواقعَ التي لا تجهل كما وجدنا مثل ذلك في الحر والبر واليُبْس والبِلَّة ونجن لم نجد الأرض باردة يابسة غير أنا نجدها مالحة أي ذات مَذاقةٍ ولون كما وجدناها ذات رائحةٍ وذات صوتٍ متى قَرَعَ بعضها بعضاً .
فبردُ هذه الأجرامِ وحرها ويُبْسُهَا ورطوبتها لم تكن فيها لعلة كون الطُّعوم والأراييح والألوان فيها وكذلك طعومها وأراييحها وألوانها لم تكن فيها لمكانِ كمون البرد واليُبْس والحر والبِلَّة فيها .
ووجدنا كلَّ ذلك إما ضارّاً وإما نافعاً وإما غاذياً وإما قاتلاً وإما مؤلماً وإما مُلِذّاً .
وليس يكون كون الأرض مالحة أو عذبة ومنتِنَةً أو طيبة أحقَّ بأن يكون علة لكون اليُبْس والبرد والحر والرطوبة من أن يكون كون الرطوبةِ واليُبْس والحر والبرد عِلَّة لكون اللون والطعم )
والرائحةِ .
وقد هجم الناسُ على هذه الأعراض الملازمةِ والأجسام المشاركةِ هجوماً واحداً عَلَى هذه الحِلْية والصورة ألفَاها الأولُ والآخِرُ .
قال : فكيف وقع القول منهم عَلَى نصيب هذه الحاسَّةِ وحدها
ونحن لم نر من البِلَّة أو من اليُبْس نفعاً ولا ضرّاً تنفرد به دونَ هذه الأمور .
قال : والهواء يختلف على قَدْرِ العوامل فيه من تحت ومن فوق ومن الأجرام المشتملة عليه والمخالطة له وهو جسم رقيق وهو في ذلك محصورٌ وهو خَوّارٌ سريعَ القَبول وهو مع رقّته يقبل ذلك الحصر مثل عمل الريح والزِّقِّ فإنها تدفعه من جوانبه وذلك لعلة الحصر ولقَطْعه عن شكلهِ .
والهواء ليس بالجسم الصعاد والجسمِ النَّزَّال ولكنه جسم به تعرف المنازل والمصاعد .
والأمور ثلاثة : شيء يصعدُ في الهواء وشيء ينزِل في الهواء وشيء مع الهواء فكما أن الصاعد فيه والمنحدرَ لا يكونان إلا مخالفين فالواقُع معه لا يكون إلا موافقاً .
ولو أنَّ إنساناً أرسل من يده وهو في قَعْر الماء زِقّاً منفوخاً فارتفع الزِّقُّ لدفع الريح التي فيه لم يكن لقائل أن يقول : ذلك الهواءُ شأنه الصعود بل إنما ينبغي أن يقول : ذلك الهواء من شأنه أن يصير إلى جوهره ولا يقيم في غير جوهره إلا أن يقول : من شأنه أن يصعد في الماء كما أن
من شأن الماء أن ينزل في الهواء وكما أن الماء يطلبُ تِلاَدَ الماء والهواءَ يطلب تلاد الهواء .
قالوا : والنار أجناسٌ كثيرة مختلفة وكذلك الصاعد ولا بدّ إذا كانت مختلفة أن يكون بعضها أسرع من بعض أو يكون بعضها إذا خرج من عالم الهواء وصار إلى نهاية إلى حيث لا منفذ ألاّ يزال فوق الآخر الذي صعد معه وإن وجد مذهباً لم يقم عليه .
ويدلُّ على ذلك أنا نجد الضياء صعَّاداً والصوت صعّاداً ونجد الظلام رابداً وكذلك البردَ والرُّطوبة فإذا صح أن هذه الأجناس مختلفة فإذا أخذت في جهة علمنا أن الجهة لا تخالف بين الأجناس ولا توافق وأن الذي يوافق بينهما ويخالف اختلافُ الأعمال .
ولا يكون القطعانِ متفقين إلا بأن يكون سرورهما سواء وإذا صارا إلى الغاية صار اتصال كل واحد منهما بصاحبه كاتصال بعضِه ببعض ثم لا يوجد أبداً إلا إمّا أعْلَى وإما أسفل .
قال أبو إسحاق : فيستدل على أن الضياء أخفُّ من الحر بزواله وقد يذهب ضوء الأتّون )
وتبقى سخونته .
قال أبو إسحاق : لأمر ما حُصر الهواء في جوف هذا الفَلَك ولا بد لكل محصور من أن يكون تقلبه وضغطه على قدر شدة الحصار وكذلك الماء إذا اختنق .
قال : والريح هواء نزل لا غير فلِمَ قضَوا على طبع الهواء في جوهريته باللدونة والهواء الذي يكون بقرب الشمس والهواء الذي بينهما على خلاف ذلك ولولا أن قُوَى البرد غريزيةٌ فيه لما كان مروِّحاً عن النفوس ومنفِّساً عن جميع الحيوان إذا اختنق في أجوافها البخارُ والوهجُ المؤذي حتى فزعتْ إليه واستغاثتْ به وصارت تجتلب من رَوْحه وبردِ نسيمه في وزن ما خَرَجَ من البخار الغليظ والحرارة المسْتَكِنَّة .
قال : وقد علموا ما في اليُبْس من الخصومة والاختلاف وقد زعم قومٌ أَن اليُبْس إنما هو عدم البلَّة قالوا : وعلى قدر البلة قد تتحول عليه الأسماء حتى قال خصومهم : فقولوا أيضاً إنما نجدُ الجسم بارداً على قدر قلة الحَرِّ فيه .
وكذلك قالوا في الكلام : إن الهواء إنما يقع عندنا أنه مُظلم لفِقْدان الضياء ولأن الضياء قرصٌ قائم وشعاع ساطعٌ فاصل وليس للظلام قرص ولو كان في هذا العالم شيء يقال له ظلامٌ لما قام إلا في قرص فكيف تكون الأرض قُرْصَةً والأرض غبراء ولا ينبغي أن يكون شعاع الشيء أسبغَ منه .
قال : والأول لا يشبِه القول في اليُبْس والبلة والقولَ في الحر والبرد والقول في اليُبْس والرطوبة والقول في الخشونة واللين لأن التراب لو كان كله يابساً وكان اليبس في جميع أجزائه شائعاً لم يكن بعضه أحق بالتقطيع والتبرد والتهافت من الجزء الذي نجده متمسكاً .
قال خصمه : ولو كَان أيضاً التهافت الذي نجده فيه إنما هو لعدمِِ البلة وكله قد عدم البِلَّة لكان ينبغي للكل أن يكون متهافتاً ولا نجد منه جزأين متلازقين .
فإن زعمتم أنه إنما اختلف في التهافت على قدر اختلاف اليُبْس فينبغي لكم أن تجعلوا اليُبْس طبقات كما يُجعل ذلك للخُضرة والصُّفرة .
وقال إبراهيم : أرأيت لو اشتمل اليُبس الذي هو غاية التُّراب كله كما عرض لنصفه أما كان وأبو إسحاق وإن كان اعترض على هؤلاء في باب القول في اليبس فإنّ المسألة عليه في ذلك أشد . )
وكان أبو إسحاق يقول : من الدليل على أن الضياء أخفُّ من الحرِّ أنَّ النارِ تكون منها على قاب غلوة فيأتيك ضوؤها ولا يأتيك حرها ولو أن شمعة في بيت غير ذي سقف لارتفع الضوء في الهواء حتى لا تجد منه عَلَى الأرض إلا الشيء الضعيف وكان الحرُّ عَلَى شبيهٍ بحاله الأول .
رد النظام على الديصانية وقال أبو إسحاق : زعمت الديصانية أن أصلَ العالَمِ إنما هو من ضياءٍ وظلام وأن الحرَّ والبردَ واللون والطعمَ والصوت والرائحة إنما هي نتائج عَلَى قدر امتزاجهما .
فقيل لهم : وجدنا الحِبْر إذا اختلطَ باللبن صار جسماً أغبر وإذا خلَطْتَ الصَّبِرَ بالعسل صار جسماً مُرَّ الطعم عَلَى حساب ما زدْنا وكذلك نجدُ جميع المركبات فما لنا إذا مزجنا بين شيئين من ذواتِ المناظر خرجنا إلى ذوات الملامس وإلى ذوات المَذَاقة والمشَّمة
وهذا نفسُه داخلٌ عَلَى من زعم أن الأشياء كلها تولدت من تلك الأشياء الأربعة التي هي نصيبُ حاسةٍ واحدة .
نقد النظام لبعض مذاهب الفلاسفة وإن زعموا أن الأشياء يحدثُ لها جنسٌ إذا امتزجتْ بضربٍ من المزاجِ فكيف صار المزاجُ يُحْدِث لها جنساً وكلُّ واحد منه إذا انفرد لم يكن ذا جنس وكان مفْسِداً للجسم وإن فصَل عنها أفسدَ جنسها وهل حكمُ قليلِ ذلك إلا كحكم كثيرهِ ولم لا يجوز أن يُجمعَ بين ضياءٍ وضياءٍ فيحدُثَ لهما منع الإدراك .
فإن اعتلَّ القومُ بالزاج والعفْص والماء وقالوا : قد نجدُ كلَّ واحد من هذه الثلاثة ليس بأسودَ وإذا اختلطت صارت جسماً واحداً أشدَّ سواداً من الليل ومن السَّبَج ومن الغراب قال أبو إسحاق :
بيني وبينكم في ذلك فَرْق أنا أزعمُ أن السواد قد يكون كامناً ويكون ممنوع المنظرة فإذا زال مانعهُ ظهر كما أقولُ في النار والحجَرِ وغير ذلك من الأمور الكامنة فإن قلتم بذلك فقد تركتم قولَكم وإن أبيتم فلا بدَّ من القول قال أبو إسحاق : وقد خلط أيضاً كثيرٌ منهم فزعموا أن طباع الشيخ البلغَم .
ولو كان طباعُهُ البلغَم والبلغم ليّنٌ رَطْبٌ أبيضُ لما ازداد عَظمه نحولاً ولونهُ سواداً وجلدهُ تقبُّضاً .
وقال النَّمِرُ بنُ تَوْلب : ) ( كَأَنَّ مِحَطَّاً في يَدَيْ حَارِثِيّةٍ ** صَنَاعٍ عَلتْ مِنِّي به الجِلْدَ مِنْ عَلُ ) وكثرت فواضل الإهابِ قال : ولكنهم لما رأَوْا بَدَنَهُ يَتَغَضّنُ ويظهرُ من ذلك التغضُّنِ
رطوبات بدنية كالبلغم من الفم والمخاطِ السائل من الأنف والرَّمَص والدمع من العين ظنوا أن ذلك لكثرة ما فيه من أجزاء الرطوبات وأرادوا أن يقسِّموا الصِّبا والشباب والكهولة والشيوخة على أربعة أقسام كما تهيأ لهم ذلك في غير بابٍ .
وإذا ظهرت تلك الرطوباتُ فإنما هي لنفْي اليُبْس لها ولعَصْرِهِ قُوى البَدَنِ ولو كان الذي ذكروا لكان دمعُ الصِّبا أكثرَ ومخاطه أغزرَ ورطوباته أظهر وفي البقول والرياحين والأغصان والأشجار ذلك إذ كانت في الحداثة أرطبَ وعَلَى مرور السنينَ والأيام أيْبَس .
قال الرَّاجز : ( اسمع أنبئك بآيات الكبر ** نوم العشي وسعال بالسحر ) ( وقلة النوم إذا الليل اعتكر ** وقلة الطعم إذا الزاد حضر )
( وسرعة الطرف وضعف في النظر ** وتركي الحسناء في قبل الطهر ) ( وحذر أزداده إلى حذر ** والناس يبلون كما يبلى الشجر ) وكان يتعجَّب من القول بالهيولَى .
وكان يقول : قد عرفنا مقدارَ رزانة البِلَّة وسنعطيكم أن للبرد وزناً أليس الذي لا تشُكُّونَ فيه أن الحر خفيف ولا وزن له وأنه إذا دخل في جِرمٍ له وزنٌ صار أخفّ وإِنكم لا تستطيعون أن تثبتوا لليبس من الوزن مثل ما تثبتون للبِلَّة وعلى أنَّ كثيراً منكم يزعم أن البرد المجْمِدَ للماء هو أيبس .
وزعم بعضهم أن البرد كثيراً ما يصاحب اليبس وأن اليبس وحده لو حلَّ بالماء لم يُجمِدْ وأن البرد وحده لو حلَّ بالماء لم يَجْمُدْ وأن الماء أيضاً يجمد لاجتماعهما عليه وفي هذا القولُ أن شيئين مجتمعين قد اجتمعا على الإجماد فما تنكرون أن يجتمع شيئان عَلَى الإذابة .
وإن جاز لليبس أن يُجمد جاز للبِلَّة أن تُذِيب .
قال أبو إسحاق : فإن كان بعض هذه الجواهر صعّاداً وبعضها نزَّالاً ونحن نجد الذهب أثقلَ من مثله من هذه الأشياء النزّالة فكيف يكون أثقل منها وفيه أشياء صَعّادة . )
فإن زعموا أن الخفة إنما تكونُ من التَّخَلْخُل والسُّخْف وكثرةِ أجزاء الهواء في الجرم فقد ينبغي أن يكون الهواء أخفَّ من النار وأن النار في الحجَرِ كما أن فيه هواءً والنار أقوى رفع الحجَر من الهواء الذي فيه .
وكان يقول : من الدليل على أن النار كامنةٌ في الحطب أن الحطب يُحرقُ بمقدار من الإحراق ويُمنع الحطب أن يخرج جميع ما فيه من النيران فيجعل فحماً فمتى أحببت أن تستخرِج الباقيَ من النار استخرجته فترى النار عند ذلك يكون لها لهبٌ دون الضرام فمتى أخرجت تلك النار الباقية ثم أوقدْت عليها ألف عامٍ لم تَسْتَوْقِدْ وتأويل : لم تستوقد إنما هو ظهور النار التي كانت فيه فإذا لم يكن فيه شيءٌ فكيف يستوقد .
وكان يُكثِر التعجُّبَ من ناس كانوا ينافسون في الرّآسة إذا رآهم يجهلون جهلَ صغارِ العلماء وقد ارتفعوا في أنفسهم إلى مرتبةِ كبار العلماء .
وذلك أن بعضهم كان يأخذ العود فيَنقِيه فيقول : أين تلك النار الكامنة ما لي لا أراها وقد ميّزْتُ العود قشراً بعد قشر . 4
استخراج الأشياء الكامنة فكان يقول في الأشياء الكامنة : إن لكل نوع منها نوعاً من الاستخراج وضرباً من العلاج فالعيدَانُ تُخرجُ نيرانُها بالاحتكاك واللبنُ يُخرَج زبدُه بالمخْض وجُبْنه يُجمع بإنْفَحَّةٍ وبضروب من علاجه .
ولو أن إنساناً أراد أن يخرج القَطِرَانَ من الصّنَوْبَرِ والزِّفْتَ من الأَرْزِ لم يكن يخرج له بأن يقطع العود ويدُقّه ويقشِره بل يوقد له ناراً بقربه فإذا أصابه الحرُّ عَرِق وسالَ في ضروب من العلاج .
ولو أن إنساناً مَزَجَ بين الفضة والذهب وسبكهما سبيكة واحدة ثم أراد أن يعزل أحدهما من صاحبهِ لم يُمكنه ذلك بالفَرْضْ
والدَّق وسبيل التفريق بينهما قريبة سهلة عند الصَّاغة وأرباب الحُمْلانات .
رد النظام على أرسطاطاليس وزعم أبو إسحاق أن أرسطاطاليس كان يزعم أن الماء الممازِجَ للأرض لم ينقلب أرضاً وأن النار الممازجة للماء لم تنقلب ماء وكذلك ما كان من الماء في الحجَر ومن النار في الأرض والهواء وأن الأجرامَ إنما يخفُّ وزنها وتَسْخُفُ على قدر ما فيها من التخلخلُ ومن أجزاء الهواء وأنها ترزُنُ وتصلب وتَمْتُن على قدر قلَّةِ ذلك فيها .
ومن قال هذا القولَ في الأرض والماء والنار والهواء وفيما تركّب منها من الأشجار وغير ذلك لم يصل إلى أن يزعمَ أن في الأرض عرضاً يحدث وبالْحَرَا أن يَعجِز عن تثبيت كون الماء والأرض والنار عرضاً .
وإذا قال في تلك الأشجار بتلك القالة قال في الطول والعرض والعُمق وفي التربيع والتثليث والتدوير بجواب أصحاب الأجسام وكما يُلزِمُ أصحابُ الأعراضُُ أصحابَ الأجسام بقولهم في تثبيت السكون والحركة أن القول في حِرَاكِ الحجَر كالقول في سكونه كذلك أصحاب الأجسام يلزِمون كلّ من زعم أن شيئاً من الأعراض لا يُنقَض أنَّ الجسمَ يتغير في المَذَاقةِ والملْمَسَة والمنْظرَةِ والمشَمّة من غير لون الماء وفي برودة نفس الأرض وتثبيتها كذلك .
ومتى وجدْنا طينة مربَّعة صارت مدوَّرة فليس ذلك بحدوثِ تدويرٍ لم يكن فكان عنده تغيُّره في العَين أوْلَى من تَغَيُّر الطينةِ في العين من البياض إلى السواد وسبيلُ الصلابة والرَّخاوة والثقل والخِفَّة سبيل الحلاوةِ والملوحة والحرارة والبرودة .
أصحاب القول بالاستحالة وليس يقيس القول في الأعراض إلا من قال بالاستحالة وليس في الاستحالة شيءٌ أقبحُ من قولهم في استحالة الجبل الصَّخير إلى مقدار خردلةٍ من غير أن يدخل أجزاءَه شيءٌ على حال فهو عَلَى قولِ من زعم أنّ الخردلة تتنصَّفُ أبداً أحسن فأما إذا قال بالجزء الذي لا يتجزأ وزعم أن أقلَّ الأجسام الذي تركيبه من ثمانيةِ أجزاءٍ لا تتجزأ أو ستة أجزاءٍ لا تتجزأ يستحيل جسْماً عَلَى قدر طول العالَم وعرضه وعُمْقه فإنّا لو وجدناه كذلك لم نجد بدّاً من أن نقول : إنا لو رفعنا من أوهامنا من ذلك شبراً من الجميع فإن كان مقدار ذلك الشبرِ جزءاً واحداً فقد وجدناه جِسماً أقلَّ من ثمانية أجزاء ومن ستة أجزاء وهذا نقضُ الأصل مع أنّ الشبرَ الذي رفعناه من أوهامنا فلا بدَّ إن كان جسماً أن يكون من ستةِ أجزاء أو من ثمانية أجزاء وهذا )
كله فاسد .
الأضواء والألوان والنار حرٌّ وضياء ولكلِّ ضياء بياضٌ ونور وليس لكلِّ بياض نورٌ وضياء وقد غلط في هذا المقام عالمٌ من المتكلمين .
والضياء ليس بلون لأن الألوان تتفاسد وذلك شائعٌ في كلها وعامٌّ في جميعها فاللبَن والحِبر يتفاسدان ويتمازجُ التراب اليابس والماء السائل كما يتمازج الحارُّ والبارد والحلو والحامض فصنيع البياض في السواد كصنيعِ السواد في البياض والتفاسُدُ الذي يقع بين الخُضْرَةِ والحمرة فبذلك الوزنِ يقع بين البياض وجميعِ الألوان .
وقد رأينا أن البياضَ مَيّاعٌ مفسِدٌ لسائر الألوان فأنت قد ترى الضياء عَلَى خلافِِ ذلك لأنه إذا سقط عَلَى الألوان المختلفةِ كان عملُه فيها عملاً واحداً وهو التفصيل بين أجناسها وتمييزُ بعضها من بعض فيبين عن جميعها إبانة واحدة ولا تراه يخصُّ البياضَ إلا بما يخص بمثله السواد ولا يعملُ في الخُضْرة إلا مثلَ عملِه في الحُمرة فدلَّ ذلك عَلَى أن جنسه خلافُ أجناسِ الألوان وجوهرَه خلافُ جواهرها وإنما يدل عَلَى اختلافِ الجواهرِ اختلافُ الأعمال فباختلاف الأعمالِ واتفاقها تعرِفُ اختلافَ الأجسام واتفاقَها .
جملة القول في الضد والخلاف والوفاق قالوا : الألوان كلها متضادّة وكذلك الطعوم وكذلك الأراييح وكذلك الأصوات وكذلك المَلاَمِس : من الحرارة والبرودة واليبس والرطوبة والرخاوة والصلابة والملاَسة والخشونة وهذه جميع الملامس .
وزعموا أن التضادُ إنما يقع بين نصيبِ الحاسّة الواحدةِ فقط فإذا اختلفت الحواس صار نصيب هذه الحاسةِ الواحدة من المحسوسات خِلاف نصيب تلك الحاسة ولم يضادّها بالضِّدِّ كاللَّون واللون لمكان التفاسد والطعم والرائحة لمكان التفاسُد .
ولا يكون الطعم ضدَّ اللون ولاَ اللون ضدَّ الطعم بل يكونُ خِلافاً ولا يكون ضداً ولا وفاقاً لأنه من غير جنسه ولا يكون ضدّاً لأنه لا يفاسده .
وزعم من لا علم له من أصحاب الأعراض أن السوادَ إنما ضادّ البياضَ لأنهما لا يتعاقبان ولا قال القوم : لو كان ذلك من العلة كان ينبغي لذهابِ الجسمِ قُدُماً أن يكون بعضه يضاد بعضاً لأن كونَه في المكان الثاني لا يوجدُ مع كونه
في المكان الثالث وكذلك التربيع : كطينة لو رُبِّعت بعد تثليثها ثم رُبِّعت بعد ذلك ففي قياسهم أن هذين التربيعين ينبغي لهما أن يكونا متضادَّين إذ كانا متنافيين لأن الجسم لا يحتمل في وقت واحد طولَين وأن الضدَّ يكون عَلَى ضدين : يكون أحدهما أن يخالف الشيءُ الشيءَ من وجوهٍ عدة والآخرُ أن يخالفه من وجهين أو وجهٍ فقط .
قالوا : والبياض يخالف الحمرةَ ويضادُّها لأنهُ يُفاسِدُها ولا يفاسِدُ الطعم وكذلك البياض للصفرة والحُوّةِ والخُضرة فأما السواد خاصة فإن البياض يضاده بالتفاسد وَكذلك التفاسد وكذلك السواد .
وبَقِيَ لهما خاصة من الفصول في أبواب المضادة : أن البياض ينصبِغ ولا يَصْبُغ والسواد يصبغ ولا ينصبغ وليس كذلك سائر الألوان لأنها كلها تصبُغ وتَنْصَبِغ .
قالوا : فهذا بابٌ يساق . ( إن الصفرة متى اشتدت صارت حُمْرة ) ( ومتى اشتدت الحمرةُ صارت
سواداً وكذلك الخضرةُ متى اشتدت صارتْ ) ( سواداً . )
والسواد يضاد البياضَ مضادة تامة وصارت الألوان الأخر فيما بينها تتضاد عادة وصارت الطُّعوم والأراييح والملامس تخالفها ولا تضادها .
أصل الألوان جميعها وقد جعل بعض من يقول بالأجسام هذا المذهب دليلاً عَلَى أن الألوان كلَّها إنما هي من السواد والبياض وإنما تختلفان عَلَى قدر المزاج وزعموا أن اللونَ في الحقيقة إنما هو البياض والسواد وحكموا في المقالة الأولى بالقوة للسواد علَى البياض إذ كانت الألوان كلها كلما اشتدت قربت من السواد وَبَعُدت من البياض فلا تزال كذلك إلى أن تصيرَ سواداً .
وقد ذكرنا قبل هذا قولَ من جعل الضياء والبياض جنسين مختلفين وزَعَم أن كلَّ ضياء بياضٌ وليس كلُّ بياضٍ ضياء . عِظَم شأن المتكلمين وما كان أحْوَجَنَا وأحوجَ جميعَ المرضى أن يكون جميعُ الأطباء متكلمين وإلى أن يكون المتكلمون علماء فإن الطبّ لو كان من نتائج حُذاق المتكلمين ومن تلقيحهم له لم نجدْ في الأصول التي يبنون عليها من الخَلَلِ ما نجدُ .
ألوان النِّيران والأضواء وزعموا أن النار حمراء وذهبوا إلى ما ترى العينُ والنار في الحقيقة بيضاء ثم قاسوا عَلَى خلافِ الحقيقة المِرَّة الحمراء وشبّهوها بالنار ثم زعموا أن المرة الحمراء مُرّة وأخْلِقْ بالدخان أن يكون مرّاً وليس الدخان من النار في شيء .
وكل نور وضياء هو أبيض وإنما يحمرُّ في العين بالعرَض الذي يَعرِض للعين فإذا سَلِمَتْ من ذلك وأفضت إليه العين رأته أبيضَ وكذلك نار العود تنفصل من العود وكذلك انفصال النار من الدُّهن ومعها الدخَان . ً لأجزائها فإذا وقعت الحاسة على سوادٍ أو بياض في مكان واحد كان نتاجهما في العين منظرةَ الحمرة .
ولو أنَّ دخاناً عرض بينك وبينه قرص الشمس أو القمر لرأيته أحمر وكذلك قرص الشمس في المشرق أحمر وأصفر للبخار والغبارِ المعترض بينك وبينه والبخار والدخان أخوانِ .
ومتى تحلَّق القرص في كبد السماء فصار على قمة رأسك ولم يكن بين عينيك وبينه إلا بقدر ما تمكن البخار من الارتفاع في الهواء صُعُداً وذلك يسيرٌ قليل فلا تراه حينئذٍ إلا في غاية البياض .
وإذا انحطَّ شرقاً أو غرباً صار كلُّ شيء بين عينيك وبين قرصها من الهواء ملابساً للغبار والدخان والبخار وضروب الضَّباب والأنداء فتراها إما صفراء وإما حمراء .
ومن زعم أن النار حمراءُ فلم يكذب إن ذهب إلى ما ترى العين ومن ذهب إلى الحقيقة والمعلوم في الجوهرية فزعم أنها حمراءُ ثم قاس على ذلك جهِلَ وأخطأ .
وقد نجد النار تختلف على قدر اختلاف النِّفط الأزرقِ والأسود والأبيض وذلك كله يدور في العين مع كثرة الدخانِ وقلته .
ونجد النار تتغير في ألوانها في العين عَلَى قدر جفوفِ الحطَب ورطوبته وعَلَى قدر أجناس العيدان والأدهان فنجدُها شقراء ونجدها خضراء إذا كان حطبُها مثلَ الكبريت الأصفر .
علة تلون السحاب ونجد لون السحاب مختلفاً في الحمرة والبياض عَلَى قدر المقابلات والأعراض ونجد السحابةَ بيضاء فإذا قابلت الشمسَ بعض المقابلة فإن كانت السحابة غربية أفقية والشمسُ منحطَّة رأيتَها صفراء ثم سوداء تعرض للعين لبعض ما يدخلُ عليها .
وقال الصَّلَتَان الفهْمِيّ في النار : ( وتُوقدها شقراءَ في رأسِ هَضْبةٍ ** ليعْشُو إليها كلُّ باغٍ وجازِعِ )
وقال مزرِّد بن ضِرار : ( فأبصَرَ ناري وهْيَ شقراءُ أُوقِدَتْ ** بعلياء نَشْزٍ للعيونِ النواظرِ ) وقال آخر : ( ونار كسَحْرِ العَوْد يرفعُ ضَوْءَها ** مع الليل هَبّاتُ الرياح الصَّوَارِدُ ) والغبار يناسب بعضَ الدخان ولذلك قال طُفَيْلٌ الغَنَويّ : ( إذا هبطتْ سَهْلاً كأنّ غبارَه ** بجانبها الأقصى دواخنُ تَنضُبِ ) لأن دخَانَه يكون أبيض يشبه الغبار وناره شقراء .
والعرب تجمَعُ الدخان دواخِن وقال الأزرق الهمْدَانيّ :
( ونوقدها شقراء من فَرعِ تَنضُبٍ ** وَلَلْكُمْتُ أرْوَى للِنِّزَالِ وأشْبَعُ ) وذلك أن النار إذا أُلْقِيَ عليها اللحمُ فصار لها دخَان اصْهَابَّتْ بدخَان ماء اللحم وسوادِ القُتَار وهذا يدل أيضاً عَلَى ما قلنا .
وفي ذلك يقول الهَيّبَان الفَهميّ : ( ولكن للطبيخ وقد عراها ** طليح الهم مستلب الفراء ) ( وما غذيت بغير لظى فنارى ** كمرتكم الغمامة ذي العفاء ) وقال سحر العود : ( له نارٌ تُشَبُّ عَلَى يَفَاعٍ ** لكلِّ مُرْعَبَلِ الأهدام بالي )
( ونار فوقها بُجْرٌ رِحَابٌ ** مُبَجّلَةٌ تَقَاذَفُ بالمَحَالِ )
علة اختلاف ألوان النار ويدلُّ أيضاً على ما قلنا : أن النار يختلف لونُها على قدر اختلاف جنس الدُّهن والحطب والدخَان وعََلَى قدر كثرةِ ذلك وقلَّته وعَلَى قدر يُبْسه ورطوبته قولُ الراعي حين أراد أن يصف لونَ ذئبٍ فقال : ( وقع الربيع وقد تقارب خطوه ** ورأى بعقوته أزل نسولا )
( متوضح الأقراب فيه شهبة ** هش اليدين تخاله مشكولا ) ( كدخان مرتجل بأعلى تلعة ** غر ثان ضرم عرفجاً مبلولا ) المرتجل : الذي أصاب رِجلاً من جرادٍ فهو يشويه وجعله غَرْثان لكون الغَرِث لا يختار الحطب اليابس عَلَى رطْبه فهو يشويه بما حضَره وأدار هذا الكلام ليكون لون الدخَان بلون الذئب ( تعظيم زرادُشت لشأن النار ) وزرادُشت هو الذي عظم النار وأمر بإحيائها ونهى عن إطفائها ونهى الحيَّض عن مسها والدنوِّ منها وزعم أن العقاب في الآخرة إنما هو بالبردِ والزمهرير والدَّمَق .
علة تخويف زرادشت أصحابه بالبرد والثلج وزعم أصحاب الكلام أن زَرَادُشت وهو صاحب المجوس جاء من بَلْخ وادعى أن الوحي نزل عليه عَلَى جبال سيلان وأنه حين دعا سكان تلك الناحية الباردة الذين لا يعرفون إلا الأذى بالبرد ولا يضربون المثل إلا به حتى يقول الرجل لعبده : لئن عدت إلى هذا لأنزعنَّ ثيابك ولأقيمنَّك في الريح ولأُوقفنَّك في الثلج فلما رأى موقِع البردِ منهم هذا الموقع جعل الوعيد بتضاعُفِه وظنَّ أنّ ذلك أزجَرُ لهم عما يكره .
وزَرادُشت في توعده تلك الأمة بالثلج دون النار مُقِرٌّ بأنه لم يُبعث إلا إلى أهل تلك الجبال وكأنه إذا قيل له : أنت رسول إلى من قال لأهل البلاد الباردة الذين لابدّ لهم من وعيدٍ ولا وعيدَ لهم إلا بالثلج .
وهذا جهلٌ منه ومن استجاب له أجهلُ منه .
رد على زرادشت في التخويف بالثلج
والثلج لا يكْمُل لمضادَّة النار فكيف يبلغ مبلغها والثلج يُؤْكَلُ ويشرب ويُقضم قضماً ويمزَج بالأشربة ويدفن فيه الماء وكثير من الفواكه .
وربما أخذ بعض المترفين القطعة منه كهامَة الثور فيضعها عَلَى رأسه ساعة من نهار ويتبرّد )
بذلك .
ولو أقام إنسان عَلَى قطعة من الثلج مقدارِ صخرة في حَمدان ريح ساعةً من نهار لما خيفَ عليه المرض قَطُّ .
فلو كان المبالغة في التنفير والزجر أراد وإليه قَصدَ لذَكَر ما هو في الحقيقة عند الأمم أشدُّ والوعيد بما هو أشد وبما يعم بالخوف سكان البلاد الباردة والحارة أشبه إذا كان المبالغةَ يريد .
والثلج قد يداوَى به بعض المرضى ويتولد فيه الدود وتخوضه الحوافرُ والأظلاف والأخفاف والأقدام بالليل والنهار في الأسفار .
وفي أيام الصيد يهون عَلَى من شرِب خمسة أرطال نبيذ أن يعدوَ عليه خمسة أشواط .
معارضة بعض المجوس في عذاب النار وقد عارضني بعض المجوس وقال : فلعلَّ أيضاً صاحبكم إنما توعَّد أصحابه بالنار لأن بلادهم ليست ببلاد ثلج ولا دَمقَ وإنما هي ناحية الحرور والوهَج والسَّموم لأن ذلك المكروه أزجر لهم فرأي هذا المجوسي أنه قد عارضني فقلت له : إن أكثر بلاد العرب موصوفة بشدة الحر في الصيف وشدة البرد في الشتاء لأنها بلاد صخور وجبال والصخر يقبل الحر والبرد ولذلك سمت الفرس بالفارسية العرب والأعراب : كَهْيَان والكَه بالفارسية هو الجبل فمتى أحببت أن تعرف مقدار برد بلادهم في الشتاء وحرِّها في الصيف فانظر في أشعارهم وكيف قسَّموا ذلك وكيف وضعوه لتعرف أن الحالتين سواء عندهم في الشدة .
القول في البرودة والثلج والبلاد ليس يشتد بردها عَلَى كثرة الثلج فقد تكون بلدة أبرد وثلجها أقل والماء ليس يجمدُ للبرد فقط فيكون متى رأينا بلدة ثلجها أكثر حكمنا أن نصيبها من البرد أوفر .
وقد تكون الليلة باردة جداً وتكون صِنّبْرَةً فلا يجمد الماء ويجمد
فيما هو أقلُّ منها برداً وقد يختلف جمود الماء في الليلة ذات الريح عَلَى خلاف ما يقدِّرون ويظنون .
وقد خبرني من لا أرتاب بخبره أنهم كانوا في موضعٍ من الجبَل يستَغْشُونَ به بلبس المبطَّنات ومتى صبوا ماءً في إناء زجاجٍ ووضعوه تحت السماء جَمَدَ من ساعته .
فليس جُمُود الماء بالبرد فقط ولا بد من شروطٍ ومقادير واختلافِ جواهر ومقابلات أحوال كسرعة البرد في بعض الأدهان وإبطائه عن بعض وكاختلاف عمله في الماء المغْلَى وفي الماء المتروك عَلَى حاله وكاختلاف عمله في الماء والنبيذ وكما يعتري البَوْل من الخُثُورة والجمود عَلَى قدر طبائع الطعام والقلة .
والزَّيت خاصة يصيبه المقدار القليل من النار فيستحيل من الحرارة إلى مقدار لا يستحيل إليه ما هو أَحرّ .
ردٌّ آخر على المجوس وحجةٌ أخرى عَلَى المجوس وذلك أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم لو كان قال : لم أُبعثْ إلا إلى أهل مكة لكان له متعلق من جهة هذه المعارضة فأما وأصل نبوَّته والذي عليه مخرجُ أمرهِ وابتداءُ مبعثه إلى ساعة وفاته
أنه المبعوث إلى الأحمر والأسود وإلى الناس كافة وقد قال اللّه تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللّه إلَيْكُم جَمِيعاً وقد قال تعالى : نذِيراً لِلْبَشَرِ فلم يبق أن يكون مع ذلك قولهم معارضة وأن يُعَدّ في باب الموازنة .
مما قيل في البرد ومما قالوا في البرد قول الكميت : ( إذا التفّ دون الفتاةِ الضَّجِيعُ ** ووَحْوَحَ ذو الفَرْوَةِ المُرْمِلُ )
( سقط : بيت الشعر ) ( وراح الفنيق مع الرائحات ** كإحدى أوائلها المرسل ) وقال الكميت أيضاً في مثل ذلك : ( وجاءت الريح من تلقاء مَغْرِبها ** وَضَنَّ من قِدْره ذُو القِدْرِ بالْعُقَبِ ) ( وكهْكَهَ المدْلِجُ المقرورُ في يَدِهِ ** واستدفأ الكلب في المأسور ذي الذِّئب )
وقال في مثله جِرَانُ العَودِ : ( ومشبوح الأشاجعِ أريحيٍ ** بعيد السمعِ كالقمر المنير ) ( رفيع الناظرين إلى المعالي ** عَلى العِلاتِ في الخلقُ اليسير ) ( يكاد المجدُ ينضحُ من يديهِ ** إذا دُفع اليتيمُ عن الجزورِ )
( وألجأتِ الكلاب صباً بليلٌ ** وآل نباحهنّ إلى الهرير ) ( وقد جعلتْ فتاةُ الحي تدنو ** مع الهلاك من عَرَنِ القدور ) وقال في مثل ذلك ابن قميئة : ليس طعمي طعم الأنامل إذ قلَّص درُّ اللقاح في الصنبرِ ( ورأيتَ الإماء كالجعثنِ البا ** لي عكوفاً عَلى قرارة قِدر ) ( ورأيتَ الدخَان كالودع الأه ** جنِ ينباع من وراء السترِ )
( حاضر شركم وخيركمُ دَ ** رُّ خروسٍ من الأرانبِ بكرِ ) ( وإذا العَذارى بالدُّخان تَقَنَّعتْ ** واستعجلت نَصْبَ القدور فملَّتِ ) ( دَرَّتْ بأرزاق العيالِ مَغَالِقٌ ** بيديَّ من قَمَع العشار الجِلَّةِ )
وقال الهذليّ : ( وليلة يصطلي بالفرث جازرُها ** يختصُّ بالنَّقَرَى المثْرينَ دَاعيها ) ( لا ينبح الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ** من الشِّتاء ولا تَسرِي أفاعيها ) وفي الجَمدِ والبرد والأزمات يقول الكميت : ( وفي السنةِ الجمادِ يكون غيثاً ** إذا لم تعط دِرَّتها الغضوبُ ) ( ورُوِّحت اللِّقاحُ مُبْهَلاَتٍ ** ولم تُعْطَف عَلَى الرُّبَعِ السَّلوبُ )
( وكان السَّوف للفتيان قوتاً ** تعيش به وهُيِّبت الرقوب ) وفي هذه القصيدة يقول في شدة الحر : ( وخَرْقٍ تعزف الجِنَّانُ فيه ** لأفئدة الكماةِ لها وَجِيب ) ( قطعتُ ظلامَ ليلته ويوماً ** يكاد حَصَى الإكام به يذوب ) وقال آخر لمعشوقته : ( وأنتِ التي كلفتني البرد شاتياً ** وأوردتِنيه فانظري أيَّ مورِدِ )
فما ظنك ببرد يؤدِّي هذا العاشق إلى أن يجعل شدَّته عذراً له في تركه الإلمام بها وذلك قوله في هذه القصيدة : ( فيا حسنها إذ لم أعُجْ أن يقالَ لي ** تروَّحْ فشيعنا إلى ضحوة الغَدِ ) ( فأصبحتُ مما كان بيني وبينها ** سِوى ذكرها كالقابض الماءَ باليد ) ومما يقع في الباب قبل هذا ولم نجد له باباً قول مسكين الدَّارِميّ :
( وإني لا أقومُ على قناتي ** أسبُّ الناسَ كالكلب العقور ) ( وإني لا أحلُّ ببطن وادٍ ** ولا آوي إلى البيتِ القصيرِ ) ( وإني لا أحاوِص عقدَ ناد ** ولا أدعو دعائي بالصغيرِ ) ( ولستُ بقائل للعَبْدِ أو قدْ ** إذا أوقدتَ بالعودِ الصغيرِ ) ولو تأملتَ دخان أتُّون واحد من ابتدائه إلى انقضائه لرأيت فيه الأسود الفاحم والأبيض الناصع .
والسواد والبياض هما الغاية في المضادَّة وذلك عَلَى قدر البخار والرطوبات وفيما بينهما ضروب من الألوان .
وكذلك الرماد منه الأسود ومنه الأبيض ومنه الأصهب ومنه الخَصِيف وذلك كله على فهذا بعضُ ما قالوا في البرد .
بعض ما قيل في صفة الحر وسنذكر بعض ما قالوا في صفة الحر قال مضرِّس بن زُرارة بن لقيط : ( تدلّت عليها الشمسُ حتى كأنه ** من الحر يُرمى بالسكينة نُورُها ) ( سجوداً لدَى الأرْطَى كأن رؤوسها ** علاها صداعٌ أو فَوَالٍ يصُورها ) وقال القطاميُّ :
( فهن معترضاتٌ والحصى رمِضٌ ** والريحُ ساكنةٌ والظلُّ معتدلُ ) ( حتى وردْن رَكِيَّاتِ الغُوَيْرِ وقد ** كاد المُلاءُ من الكتَّان يشتعلُ ) وقال الشماخ بن ضِرار : ( كأن قُتودي فوق جأب مطرد ** من الحقب لاحتْه الجداد الغوارز ) ( طوى ظمأها في بيضة القيظ بعد ما ** جرَت في عِنان الشِّعرَيين الأماعزُ ) ( وظلتت بيمؤودٍ كأن عيونها ** إلى الشمس هلا تدنو ركيٌّ نواكز )
ولهذه الأبيات كان الحطيئة والفرزدق يقدِّمان الشماخَ بغاية التقديم . ( ونار وديقة في يوم هَيْجٍ ** من الشِّعرى نصْبتُ لها الجبينا ) ( إذا مَعزاءُ هاجرةٍ أونَّتْ ** جَنادُبها وكان العيسُ جُونا ) وقال مسكينٌ الدارمي : ( وهاجرةٍ ظَلَّتْ كأنّ ظباءَها ** إذا ما أتَّقتها بالقرون سجودُ ) ( تلوذ لشُؤبوبٍ من الشَّمس فوقَها ** كما لاذَ من حَرِّ السِّنان طريدُ ) وقال جرير : ( وهاجدِ موماةٍ بعثتُ إلى السُّرى ** وللنومُ أحلى عنده من جنى النحلِ )
( يكون نزولُ الركب فيها كَلاَ وَلاَ ** غشاشاً ولا يدنون رحلا إلى رحل ) ( ليوم أتتْ دون الظلال سمومهُ ** وظلَّ المها صوراً جماجمها تغلي ) وفيها يقول جرير : ( تمنَّى رجال من تميمٍ لي الرّدى ** وما ذاد عن أحسابهم ذائدٌ مثلي )
احتجاج النظام للكمون وقال أبو إسحاق : أخطأ من زعم أن النار تصعدُ في أول العود وتنحدر وتغوص فيه وتظهر وقال : العود النار في جميعه كامنة وفيه سائحة وهي أحد أخلاطه والجزء الذي يُرى منها في الطرف الأول غير الجزء الذي في الوسط
والجزء الذي في الوسط غير الجزء الذي في الطرف الآخر فإذا احتكّ الطرف فحميَ زال مانعه وظهرت النار التي فيه وإذا ظهرت حَمِيَ لشدة حرها الموضعُ الذي يليها وتنحَّى أيضاً مانعه وكذلك الذي في الطرَف الآخر ولكن الإنسان إذا رأى النار قد اتصلت في العود كله وظهرت أولاً فأوَّلاً ظن أن الجزء الذي كان في المكان الأول قد سَرَى إلى المكان الثاني ثم إلى المكان الثالث فيخبرُ عن ظاهر ما يرى ولا يعرف حقيقة ما بطن من شأنها .
وقال أبو إسحاق : ولو كانت العيدان كلها لا نار فيها لم يكن سرعةُ ظهورها من العراجين ومن المرْخِ والعَفار أحقّ منها بعودِ العُنَّابِ والبَرديِّ وما أشبه ذلك لكنها لمَّا كانت في بعض العيدان أكثر وكان مانعها أضعَفَ كان ظهورها أسرع وأجزاؤها إذا ظهرت أعظمَ وكذلك ما كمَنَ منها في الحجارة ولو كانت أجناس
الحجارة مستوية في الاستسرار فيها لما كان حجَرُ المرْوِ أحقَّ بالقَدْح إذا صُكَّ بالقدَّاحة من غيره من الحجارة ولو طال مُكثُه في النار ونُفِخَ عليه بالكير .
ولِمَ صار لبعض العيدان جَمْرٌ باق ولبعضها جمر سريع الانحلال وبعضها لا يصير جمراً ولمَ صار البَرْديّ مع هَشَاشته ويبسه ورخاوته لا تعمل فيه النيران ولذلك إذا وقع الحريق في السُّوق سَلِمَ كل مكان يكون بين أضعاف البردي ولذلك ترى النار سريعة الانطفاء في أضعاف البرديّ ومواضعِ جميع اللِّيف .
وقال أبو اسحاق : فلِمَ اختلفَتْ في ذلك إلا على قدر ما يكونُ فيها من النار وعَلَى قدر قوة الموانع وضعفها .
ولم صارت تقدَح عَلَى الاحتكاك حتى تلهبت كالساج في السفن إذا اختلط بعضه ببعض عند تحريك الأمواج لها ولذلك أعدُّوا لها الرجال لتَصُبّ من الماء صَبّاً دائماً وتدوِّم الريحُ فتحتك عيدان الأغصان في الغياض فتلتهب نار فتحدثُ نيران .
ولِمَ صار العود يحمَى إذا احتكَّ بغيره ولمَ صار الطّلَقُ لا يحمى فإن قلت لطبيعة هناك )
فهل دللتمونا إلا عَلَى اسم علَّقتموه عَلَى غير معنًى وجدتموه أوَ لسنا قد وجدنا عيون ماءٍ حارة وعيون ماءٍ بارد بعضها يبرص ويُنفْط الجلد وبعضها يُجمِدُ الدمَ ويورث الكُزَاز أولسنا قد وجدنا عيون ريح وعيون نار فلِمَ زعمتم أن الريحَ والماء كانا مختنقين في بطون الأرض و لم تجوِّزوا لنا مثل ذلك
في النار وهل بين اختناق الريح والماء فرق وهل الريح إلا هواءٌ تحرَّكَ وهل بين المختنق والكامن فرْق .
وزعم أبو إسحاق : أنه رمى بردائه في بئر النبي صلى اللّه عليه وسلم التي من طريق مكة فردّته الريح عليه .
وحدَّثني رجل من بني هاشم قال : كنت بِرَامةَ من طريق مكة فرميت في بئرها ببعرة فرجعت إليَّ ثم أعدتها فرجعَتْ فرميْت بحصاة فسمعتُ لها حَريقاً وحفيفاً شديداً وشبيهاً بالجوَلان إلى أن بلغَتْ قرار الماء .
وزعم أبو إسحاق أنه رأى عين نار في بعض الجبال يكون دخانُها نهاراً وليلاً أو ليس الأصل الذي بُني عليه أمرُهم : أن جميع الأبدان
من الأخلاط الأربعة : من النار والماء والأرض والهواء فإذا رأينا موضعاً من الأرض يخرج منه ماءٌ قلنا : هذا أحدُ الأركان فما بالُنا إذا رأينا موضعاً من الأرض يخرج منه نارٌ لم نقل مثل ذلك فيه .
ولمَ نقولُ في حجرِ النار إنه متى وُجد أخف من مقدار جسمه من الذهب والرّصاص والزئبق إنما هو لما خالَطَه من أجزاء الهواء الرّافعة له وإذا وجدناه أعْلَكَ عُلوكة وأمتَنَ متانة وأبعد من التهافُتِ جعلنا ذلك لما خالطه من أجزاء الماء وإذا وجدناه ينقض الشرر ويُظهرُ النار جعلنا لك للذي خالطه من الهواء ولمَ جعلناه إذا خف عن شيء بمقدار جسمه لما خالطه من أجزاء الهواء ولا نجعله كذلك لما خالطه من أجزاء النار ولا سيما إذا كانت العينُ تجدُه يقدَح بالشرر ولَمْ تجْر أجزاء الهواء فيه عندنا عِياناً فلِمَ أنكروا ذلك وهذه القصةُ توافقُ الأصل الذي بَنَوْا عليه أمرهم .
قال : أو ليس من قوله أنه لولا النيرانُ المتحركة في جوف الأرض التي منها يكون البُخارُ الذي بعضه أرضيٌّ وبعضه مائيٌّ لم يرتفعْ ضبابٌ ولم يكن صواعق ولا مطرٌ ولا أنداء .
الصواعق وما قيل فيها ومتى كان البخار حارّاً يابساً قَدَحَ وقَذَفَ بالنار التي تسمى الصاعقة إذا اجتمعت تلك القوى في موضع منه فإن كانت القِوَى ريحاً كان لها صوتٌ وإن كانت ناراً كانت لها صواعقُ حتى زعم كثير من الناس أن بعض السيوف من خبث نيران الصواعق وذلك شائع على أفواه الأعراب والشعراء قال أبو الهوْل الحِمْيري : حاز صمصامةَ الزبيديِّ من بين جميعِ الأنامِ موسى الأمينُ ( سيفُ عمرو وكان فيما سَمعنا ** خيرَ ما أطبقتْ عليه الجفونُ )
( أوفدتْ فوقهُ لاصواعقُ ناراً ** ثم ساطت به الزعافَ المنون ) وقال منهم آخر : قال الأصمعيّ : الانعقاق : تشقُّق البرق ومنه وصف السيف بالعقيقةِ وأنشد : وسيفي كالعقيقةِ وَهْوَ كِمْعِي وقال الأخطل : ( وأرَّقَني من بعد ما نِمْتُ نَوْمَة ** وعَضْبٌ إباطي كالعقيق يمَانِي )
ونذكرُ بعَونِ اللّهِ وتأييده جُمْلةً مِنَ القَول في الماء ثمَّ نصير إلى ذكر ما ابتدأنا به من القول في النار .
ذكروا أن الماء لا يغذو وإنما هو مَرْكَبٌ ومِعْبَرٌ ومَوْصِلٌ للغِذاء واستدلُّوا لذلك بأن كلّ رقيق سَيّال فإنك متى طبَخْته انعقَد إلا الماء وقالوا في القياس : إنه لا ينعقد في الجوف عند طبخِ الكبِد له فإذا لم ينعقِد لم يجئْ منه لحمٌ ولا عظم ولأننا لم نر إنساناً قطُّ اغتذاه وثبت عليه روحُه وإن السمك الذي يموت عند فقده لَيَغْذُوه سِواه مما يكون فيه دونه .
قال خصمهم : إنما صار الماء لا ينعقد لأنه ليس فيه قُوًى مستفادةٌ مأخوذة من قُوى الجواهرِ والماء هو الجوهرُ القابلُ لجميع القُوَى فبضربٍ من القُوى والقبول يصير دُهناً وبضرب آخر يصير خلاًّ وبضرب آخر يصير دماً وبضرب آخر يصير لبَنَاً وهذه الأمور كلها إنَّما اختلفت بالقُوى العارضة فيها فالجوهرُ المنقلبُ في جميع الأجرام السّيَّالة إنما هو الماء فيصير عند ضرب من وعصير كل شيء ماؤه والقابلُ لِقُوى ما فيه فإذا طبخْتَ الماء صِرْفاً سالماً على وجهه ولا قُوَى فيه لم ينعقد وانحلَّ بُخاراً حتى يتفانى وإنما ينعقد الكامن من الملابس له فإذا صار الماء )
في البدنِ
وحده ولم يكن فيه قوًى لم ينعقد وانعقاده إنما هو انعقاد ما فيه .
والماء لا يخلو من بعض القَبُول ولكنَّ البعض لا ينعقد ما لم يكثُر .
وزعم أصحاب الأعراض أن الهواء سريعُ الاستحالة إلى الماء وكذلك الماء إلى الهواء للمناسبة التي بينهما من الرطوبة والرقة وإنما هما غير سيَّارين ويدل على ذلك اجتذابُ الهواء للماء وملابسته له عند مَصِّ الإنسان بفيه فم الشَّرابة ولذلك سَرَى الماء وجرى في جوف قَصَبِ الخيزُرَانِ إذا وضَعْتَ طرفه في الماء .
وكذلك الهواء فيه ظلامُ الليل وضياء النهار وما كان فيه من الأشباح والحدَقة لا ترى من الضياء العارض في الهواء ما تباعد منها .
ألوان الماء والماء يرقّ فيكون له لون ويكون عمقه مقداراً عَدْلاً فيكون له لون فإنْ بعد غَوْرُه وأفرط عمقه رأيته أسودَ .
وكذلك يحكون عن الدردور
ويزعمون أن عين حوارا ترمى بمثل الزنوج .
فتجدُ الماء جنساً واحداً ثم تجد ذلك الجنسَ أبيض إذا قلَّ عمقه وأخضَرَ إذا كان وسطاً وأسودَ إذا بعُدَ غَوْرُه .
تحقيق في لون الماء ويختلف منظره على قدر اختلاف إنائه وأرضه وما يقابله فدلّ ذلك على أنه ليس بذي لون وإنما يعتريه في التخييل لونُ ما يقابله ويحيط به ولعلَّ هذه الأمور إذا تقابلت أن تصنع في العين أموراً فيظنَّ الإنسان مع قُرب المجاورةِ والالتباس أن هذه الألوان المختلفة إنما هي لهذا الماء الرائق الخالص الذي لم ينقلب في نفسه ولا عَرَضَ له ما يقْلبه وكيف يعرض له ويقلبه وعينُ كل واحد منهما غيرُ عينِ صاحبه وهو يرى الماء أسودَ كالبحر متى أخذ منه أحدٌ غُرفة رآه كهيئته إذا رآه قليل العُمق .
تشابه الماء والهواء ويتشابهان أيضاً لسُرعة قبولهما للحر والبرد والطّيب والنّتْن والفساد والصلاح .
حجة للنظام في الكمون قال أبو إسحاق : قال اللّه عزَّ وجلّ عند ذكر إنعامِه على عباده وامتنانه على خلقه فذكَر ما أعانهم به من الماعون : أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنْشِئُون وكيف قال شَجَرَتَهَا وليس في تلك الشجرة شيء وجوفها وجوفُ الطَّلَقِ في ذلك سواء وقدرة اللّه على أن يَخلق النار عندَ مسِّ الطَّلَق كقدرته على أن يخلقها عند حكِّ العود وهو تعالى وعز لم يُرِد في هذا الموضع إلا التعجيبَ من اجتماع النار والماء .
وهل بين قولكم في ذلك وبين من زعم أن البذر الجيِّد والرديء والماء العذب والملح والسّبَخَة والخبِرَة الرِّخوة والزمان المخالفَ والموافقَ سواءٌ وليس بينها من الفرْق إلا أن اللّه شاء أن يخلق عند اجتماع هذه حَبّاً وعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً دون تلك الأضداد .
ومن قال بذلك وقاسه في جميع ما يلزم من ذلك قال كقول الجَهْمِيّةِ في جميع المقالات وصار إلى الجهالات وقال بإنكار الطبائعِ والحقائق .
وقال اللّه عزّ وجلّ : الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ .
ولو كان الأمر في ذلك على أن يخلقها ابتداءً لم يكن بين خلقها عند أخضرِ الشجر وعند اليابس الهشيم فرق ولم يكن لذكر الخضْرَةِ الدّالة عَلَى الرطوبةِ مَعْنًى .
وقد ذكرنا جملةً من قولهم في النار وفي ذلك بلاغ لمن أراد معرفة هذا الباب وهو مقدارٌ قصدٌ لا طويل ولا قصير . )
فأما القولُ في نار جهنم وفي شُواظها ودوامها وتسعُّرها وخبوِّها والقول في خلق السماء من دُخَان والجانِّ من نار السّموم وفي مَفْخَر
النار على الطين وفي احتجاج إبليس بذلك فإنا سنذكر من ذلك جملة في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
ما قيل في حسن النار ونحن راجعون في القول في النار إلى مثل ما كنا ابتدأنا به القول في صدر هذا الكلام حتى نأتيَ من أصناف النيران على ما يحضرنا إن شاء اللّه تعالى .
قالوا : وليس في العالم جسمٌ صِرْفٌ غير ممزوج ومرسلٌ غير مركب ومُطلق القُوَى غير محصور ولا مقصور أحسنُ من النار .
قال : والنار سماوية عُلْوِية لأن النار فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الهواء ويقولون : شراب كأنه النار و كأن لونَ وجهها النار وإذا وصفوا بالذكاء قالوا : ما هو إلا نار وإذا وصفوا حمرة القِرمز وحمرة الذهب قالوا : ما هو إلا نار .
قال : وقالت هند : كنتُ واللّه في أيام شبابي أحسنَ من النار الموقَدَة .
وأنا أقول : لم يكن بها حاجةٌ إلى ذكر الموقَدَة وكان قولها : أحسنَ من النار يكفيها وكذلك وقال قُدَامة حكيم المشرق في وصف الذِّهن : شُعاعٌ مركوم ونَسَمٌ معقود ونورٌ بصَّاص وهو النار الخامدة والكِبريت الأحمر .
ومما قال العتَّابي : وجمالُ كل مجلس بأن يكون سَقْفهُ أحمرَ وبساطُه أحمر .
وقال بشّار بنُ بُرْد : ( هِجانٌ عليها حُمْرةٌ في بياضِها ** ترُوق بها العَينَين والحسنُ أحمرُ ) وقال أعرابيٌّ : ( هِجانٌ عليها حمرةٌ في بياضِها ** ولا لونَ أدنى للهِجان من الحُمْر ) ( تعظيم اللّه شأْن النار ) قال : ومما عظم اللّه به شأن النار أنها تنتقم في الآخرة من جميع أعدائه وليس يستوجبها بَشريٌّ منْ بَشَريّ ولا جنيٌّ من جنيّ بضغينةٍ ولا ظلمٍ ولا جنايةٍ ولا عُدْوان ولا يَسْتَوْجِبُ النارَ إلا بعداوة اللّه عزَّ وجلَّ وحده وبها يَشْفي صدورَ أوليائه من أعدائهم في الآخرة .
عظم شأن ما أضيف إلى الله وكل شيء أضافه اللّه إلى نفسه فقد عظَّم شأنه وشدَّد أمره وقد فَعَل ذلك بالنار فقالوا بأجمعهم : دَعْهُ في نار اللّه وسقَرِه وفي غضب
اللّه ولعنته وسَخَط اللّه وغضبه هما ناره أو الوعيدُ بناره كما يقال : بيتُ اللّه وزُوّار اللّه وسماءُ اللّه وعرشُ اللّه .
المنة الأولى بالنار ثم ذكرها فامْتَنّ بها على أهل الأرض من وجهين : أحدهما قوله عزّ وجلّ : الِّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ ناراً فَإذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ فَجَعَلَهَا من أعظم الماعون معونة وأخفها مَؤُونة .
استطراد لغوي والماعون الأكبر : الماء والنار ثم الكَلأُ والملح .
قال الشاعر في الماعون بيتاً جامعاً أحسن فيه التأديةَ حيث قال : ( لا تَعْدِلَنّ أتَاوِيِّينَ قد نزلوا ** وَسْطَ الْفَلاَةِ بِأصْحَابِ المُحِلاَّتِ ) والمُحِلاَّت هي الأشياء التي إذا كانت مع المسافرين حَلّوا حيثُ شاؤوا وهي القَدَّاحة والقِرْبة والمِسْحاة فقال : إياك أن تَعْدِلَ إذا أردت النّزولَ مَنْ مَعَهُ أصنافُ الماعونِ بأتَاوِيِّين يعني واحداً أتى مِنْ هاهنا
وآخر أتى من هاهنا كأنهم جماعة التقَوْا من غيرِ تعريف بنسب ولا بلد وإذا تجمعوا أفذاذاً لم يكمل كلّ واحدٍ منهم خصال المحِلاَّت .
قال أبو النجم : وقالت امرأة من الكفار وهي تحرِّض الأوسَ والخزْرج حين نزل فيهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم وعلى آله وصحبهِ : ( أطعْتُمْ أتَاوِيَّ مِنْ غَيْرِكُمْ ** فَلاَ مِنْ مُرَادٍ وَلاَ مَذْحِجِ ) ولم ترِدْ أنهما أشرفُ من قريش ومن الحيّيْن كعبٍ وعامر ولكنها أرادت أن تؤلّبَ وتُذْكِيَ العصبيّة . )
اختيار ما تبنى عليه المدن وقالوا : لا تُبْتَنَى المدن إلا على الماء والكلإ والمحتطبِ فدخلت النار في المحتطَب إذ كان كلُّ عود يورِي .
المنة الثانية بالنار وأما الوجه الآخرُ من الإمتنان بها فكقوله تعالى : يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنْتَصِرَانِ ثم قال على صِلَة الكلام : فبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكما تكَذِّبَانِ وليس يريد أنّ إحراقَ اللّه عز وجلَّ العبدَ بالنار من آلائه ونعمائه ولكنه رأى أن الوعيدَ الصادق إذا كان في غاية الزجر عما يُطغيه ويُرْدِيه فهو من النعم السابغة والآلاء العظام .
وكذلك نقول في خلْقِ جهنم : إنها نعمة عظيمة ومِنَّةٌ جليلةٌ إذا كان زاجراً عن نفْسه ناهياً وكيف تكونُ النقمُ نِعَماً ولو كانت النقمة نعمةً لكانت رحمة ولكان السّخط رضا وليس يَهْلكُ عَلَى البينة إلا هالك وقال اللّه عزّ وَجلَّ : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ .
عظات للحسن البصري وقال الحسن : واللّهِ يا ابن آدم ما توبِقُكَ إلا خطاياك قد أُريد بك النجاةُ فأبيتَ إلا أن توقِعَ نفسَك .
وشهِد الحسَنُ بعضَ الأمراء وقد تعدّى إقامة الحدّ وزاد في عددِ الضرب فكلمه في ذلك فلما رآهُ لا يقبلُ النصح قال : أمَا إنكَ لا تضرِبُ إلا نفسكَ فإن شئْتَ فَقَلِّلْ وإن شئتَ فَكثِّر .
وكان كثيراً ما يتلو عند ذلك : فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ .
عقاب الآخرة وعقاب الأولى والعقاب عقابان : فعقاب آخرةٍ وعقابُ دنيا فجميعُ عقاب الدنيا بَلِيَّةٌ منْ وجه ونعمةٌ من وجه إذ كان يؤدِّي إلى النعمة وإن كان مؤلماً فهو عن المعاصي زاجرٌ وإن كان داخلاً في باب الامتحان والتعبُّد مع دخوله في باب العقاب والنعمة إذ كان زجراً وتنكيلاً لغيره وقد كلِّفنا الصبرَ عليه والرضا به والتسليم لأمر اللّه فيه .
وعقاب الآخرة بلاءٌ صِرْف وخزيٌ بَحْت لأنه ليس بِمخْرَج منه ولا يحتملُ وجهين .
وقال أبو إسحاقَ : الجمرُ في الشمس أصهب وفي الفيء أشكلُ وفي ظلِّ الأرض الذي هو الليل أحمر وأيُّ صوتٍ خالطَتْه النار فهو
أشد الأصوات كالصاعقة والإعصار الذي يخرج )
من شِقِّ البحر وكصوت المُوم والجَذْوَةِ من العود إذا كان في طَرَفِه نارٌ ثم غمستَه في إناءٍ فيه ماءُ نَوًى مُنْقَع .
ثم بالنار يعيشُ أهلُ الأرض من وجوه : فمن ذلك صنيعُ الشمس في بردِ الماء والأرض لأنها صِلاءُ جميعِ الحيوان عند حاجتها إلى دفع عاديةِ البردِ ثمّ سراجُهم الذي يستصبحون به والذي يميزون بضيائه بين الأمور .
وكلُّ بخار يرتفع من البحار والمياهِ وأصول الجبال وكل ضبابٍ يعلو وندًى يرتفع ثم يعود بركة ممدودة عَلَى جميع النبات والحيوان فالماء الذي يحلُّه ويلطِّفه ويفتحُ له الأبوابَ ويأخُذُ بضَبْعه من قَعر البحر والأرضِ النارُ المخالطة لهما من تحتُ والشمسُ من فوق .
عيون الأرض وفي الأرض عيون نار وعيونُ قَطِران وعيون نِفْط وكباريت وأصناف جميع الفِلِزّ من الذهب والفضة والرَّصاص والنُّحاس فلولا
ما في بطونها من أجزاء النار لما ذَابَ في قعرها جامدٌ ولَمَا انسبك في أضعافها شيءٌ من الجواهر وَلَمَا كان لمتقاربِها جامع ولمختلفها مُفَرِّق .
قال : وتقول العرب الشمسُ أرحَمُ بنا .
وقيل لبعض العرب : أيُّ يوم أنفع قال : يومُ شَمَال وشَمْس .
وقال بعضهم لامرأته : ( تمَنَّيْنَ الطَّلاَقَ وأنْتِ عِنْدِي ** بِعَيْشٍ مثلِ مَشْرِقَةِ الشَّمالِ ) وقال عُمَر : الشمسُ صِلاَءُ العرب قال عُمر : العربيُّ كالبعير حيثما دارت الشمسُ استقبلَهَا بهامَتِه .
ووصف الرّاجز إبلاً فقال : تستقبل الشمسَ بجُمْجُماتها وقال قَطِران العبسيّ : ( بمستأسد القُرْيَانِ حُوٍّ تِلاعُهُ ** فنُوّارُهُ مِيلٌ إلى الشمسِ زاهِرُهْ ) الْخِيريّ والخِيريُّ ينضم ورقه بالليل وينفتح بالنهار .
ولإسماعيل بن غزْوان في هذا نادرةٌ وهو أن سائلاً سألَنَا من غير أهل الكلام فقال : ما بالُ )
ورق الخِيريّ ينضم بالليل وينتشرُ بالنهار فانبَرَى له إسماعيل بنُ غَزْوان فقال : لأن بردَ الليل وثِقلَه من طباعهما الضمُّ والقبض والتّنويم وحرّ شمس النهار من طباعه الإذابة والنشر والبسْط والخفَّة والإيقاظ قال السائل : فيما قلت دليلٌ ولكنه قال إسماعيل : وما عليك أن يكون هذا في يدك إلى أن تصيبَ شيئاً هو خيرٌ منه .
تسرع الحمر الألوان وفالج ذوي البدانة وكان إسماعيل أحمَر حَليماً وكذلك كان الحَراميّ وكنت أظن بالحمر الألوانِ التسرعَ والحدَّةَ فوجدت الحلْمَ فيهم أعمّ وكنت أظن بالسمان الخِدالِ العظامِ أنّ الفالِجَ إليهم أسرعُ فوجدتُهُ في الذينَ يُخالفون هذه الصِّفَةَ أعَمّ .
أثر الشمس والحركة والجوِّ في الأبدان وقال إياسُ بن معاوية : صِحَّة الأبدان مع الشمس ذهب إلى أهل العَمَد والوبر .
وقال مثنَّى بن بشير : الحركة خيرٌ من الظل والسُّكون .
وقد رأينا لِمَن مدح خلاف ذلك كَلاَماً وهو قليل .
وقيل لابنة الخسِّ : أيُّمَا أشَدُّ : الشتاء أمِ الصيف قالت : ومن يجعل الأذى كالزمانة .
وقال أعرابيٌّ : لا تَسُبُّوا الشَّمال فإنها تضعُ أنفَ الأفعى وترفع أنف الرِّفقة .
وقال خاقانُ بن صبيح وذكر نُبْلَ الشتاء وفضلَه عَلَى نُبْلِ الصيف فقال : تغيب فيه الهوام وتنجحر فيه الحشرات وتظهر الفِرْشَة والبزّةُ ويكثُر فيه الدّجْن وتطيب فيه خِمْرة البيت ويموت فيه الذِّبان والبَعوض ويبرُد الماء ويسخُن الجوفُ ويطيبُ فيه العِناق .
وإذا ذكرت العربُ بَرْدَ الماء وسخونة الجوِف قالت : حِرٌّ ةٌ تحت قِرّة .
ويجود فيه الاستمراء لطول الليل لتَفصِّي الحرِّ .
وقال بعضهم : لا تُسَرّنَّ بكثرة الإخوان ما لم يكونوا أخياراً فإن الإخوان غيرَ الخِيَارِ بمنْزِلةِ النار قليلُها متاعٌ وكثيرها بوار .
نار الزحفتين قال : ومن النيران نار الزَّحْفتَيْنِ وهي نار أبي سريع وأبو سريع هو الْعَرْفجُ .
وقال قُتيبة بن مسلم لعُمَرَ بن عبَّاد بن حُصين : واللّه لَلسُّؤدُدُ أسرعُ إليك من النار في يبيس العَرْفَجِ .
وإنما قيل لنار العَرفج : نار الزحفتين لأن العَرفَج إذا التهبَتْ فيه النار أسرعَتْ فيه وعَظُمَتْ وشاعت واستفاضت في أسرَعَ من كل شيء فمن كان في قُرْبها يزحف عنها ثم لا تلبثُ أن تنطفئ من ساعتها في مثل تلك السرعة فيحتاج الذي يزحف عنها أن يزحَفَ إليها من ساعِته فلا تزالُ للمصْطَلي كذلك ولا يزال المصطلي بها كذلك فمن أجْلِ ذلك قيل : نار الزَّحْفَتَيْنِ
قال : وقيل لبعض الأعراب : ما بالُ نسائكم رُسْحاً قال : أرْسَحَهُنَّ عَرْفَجُ الهَلْبَاءِ .
صورة عقد بين الراعي والمسترعي وهذا شرط الراعي فيما بينه وبين من استرعاه ماشيته في القارِّ والحارِّ وذلك أن شرطهم عليه أن يقول المسترعي للراعي : إن عليك أن تردَّ ضالَّتها وتهنأ جرْباها وتلوط حوضَهَا ويدُك مبسوطةٌ في الرِّسْل ما لم تُنْهِكَ حَلْباً أو تضرّ بنَسْل .
قال : فيقول عند ذلك الراعي لرب الماشية بعد هذا الشرط : ليس لك أن تَذْكُرَ أُمِّي بخيرٍ ولا شرّ
ولك حذْفَةٌ بالعصا عند غضَبِك أخطأتَ أو أصَبْتَ ولي مَقعدي من النار وموضعُ يدي من الحارّ والقارّ .
شبه ما بين النار والإنسان قال : ووَصف بعض الأوائل شبَهَ ما بين النار والإنسان فجعل ذلك قرابة ومشاكلة قال : وليس بين الأرض وبين الإنسان ولا بين الإنسان والماء ولا بين الهواء والإنسان مثل قرابة ما بينه وبين النار لأن الأرض إنما هي أمٌّ للنبات وليس للماء إلا أنُه مَرْكَب وهو لا يغذُو إلاَّ ما يعقِدهُ الطبخ وليس للهواء فيه إلا النسيم والمتقلَّب وهذه الأمور وإن كانت زائدة وكانت النفوسُ تَتلَفُ مع فَقْدِ بعضها فطريق المشاكلةِ والقرابةِ غير طريق إدخال المَرْفَق وجَرِّ المنفعة ودفعِ المضَرّة .
قال : وإنما قضيتُ لها بالقرابة لأني وجدت الإنسان يَحْيَا ويعيشُ في حيثُ تحيا النار وتعيشُ وتموتُ وتَتْلَفُ حيث يموت الإنسانَ ويتلف .
وقد تدخل نار في بعض المطامير والجِبابِ والمغاراتِ
والمعادن فتجدها متى ماتت هناك علمنا أن الإنسان متى صار في ذلك الموضِعِ مات ولذلك لا يدخلها أحدٌ ما دامت النار إذا صارتْ فيها ماتت ولذلك يعمد أصحاب المعادن والحفايرِ إذا هجموا على فَتْق في بطن الإرض أو مغارة في أعماقها أو أضعافها قدّموا شمعةً في طرَفها أو في رأسها نارٌ فإن ثبتت النار وعاشت دخلوا في طلب الجواهر من الذهب وغير ذلك وإلا لم يتعرَّضوا له وإنما يكونُ دخولُهم بحياة النار وامتناعُهم بموت النار .
وكذلك إذا وقعوا على رأس الجُبِّ الذي فيه الطعامِ لم يجسُروا على النزول فيه حتى يُرسلوا في ذلك الجبِّ قِنديلاً فيه مصباحٌ أو شيئاً يقومُ مقامَ القِنديل فإن مات لم يتعرَّضوا له وحرّكوا قال : وممّا يُشَبَّه النارُ فيه بالإنسان أنك ترى للمصباح قبل انطفائه ونفادِ دهنه اضطراماً وضياءً ساطعاً وشُعاعاً طائراً وحركة سريعةً وتنقضاً شديداً وصوتاً متداركاً فعندها يخْمُدُ المصباح .
وكذلك الإنسان له قبلَ حالِ الموتِ ودُوَيْنَ انقضاء مُدَّته بأقرب
الحالات حال مُطْمِعَةٌ تزيد في القوة على حاله قَبلَ ذلك أضعافاً وهي التي يسمونها راحة الموت وليس له بعد تلك الحال لُبث .
قول أحد المتكلَّمين في النفس وكان رئيسٌ من المتكلمين وأحدُ الجِلَّة المتقدمين يقولُ في النفس قولاً بليغاً عجيباً لولا شُنْعته )
لأظْهَرْتُ اسمه وكان يقول : الهواءُ اسم لكل فتق وكذلك الحيِّز والفتق لا يكون إلا بين الأجرام الغِلاظ وإلا فإنما هو الذي يسميه أصحاب الفَلَكِ اللُّجَّ وإذا هم سألوهم عن خُضْرة الماء قالوا : هذا لُجّ الهواء وقالوا : لولا أنكَ في ذلك المكانِ لرأيت في اللُّجِّ الذي فوق ذلك مثل هذه الخضرةَ وليس شيء إلا وهو أرقُّ من كَتِيفِه أو من الأجرام الحاصرة له وهو
اسمٌ لكل متحرَّك ومُتَقَلَّب لكل شيء فيه من الأجرام المركبة ولا يستقيم أن يكون من جنس النسيم حتى يكونَ محصوراً إما بحصر كَتِيفِيٍّ كالسفينة لما فيها من الهواء الذي به حَمَلَتْ مثلَ وزنِ جِرمها الأضعاف الكثيرة وإما أن يكون محصوراً في شيء كهيئة البيضة المشتملة على ما فيها كالذي يقولون في الفَلَكِ الذي هو عندنا : سماء .
قال : وللنسيم الذي هو فيه معنى آخر وهو الذي يجعلُهُ بعضُ الناس ترويحاً عن النفس يعطيها البَرْدَ والرِّقَّة والطِّيب ويدفعُ النَفسَ ويُخرج إليه البخارَ والغِلَظ والحراراتِ الفاضلة وكلّ ما لا تقوى النَفسُ على نفْيه واطِّرادِه .
قال : وليس الأمر كذلك بل أزعمُ أنّ النفس من جنس النسيم وهذه النفسُ القائمة في الهواء المحصور عرضٌ لهذه النفسِ المتفرِّقة
في أجرام جميع الحيوان وهذه الأجزاء التي في هذه الأبدان هي من النسيم في موضع الشعاع والأكثاف والفروع التي تكون من الأصول .
قال : وضياء النفس كضياء دخلَ من كوَّة فلما سُدَّت الكوَّةُ انقطع بالطَّفْرة إلى عنصره من قُرْص الشمس وشُعاعها المشرِقِ فيها ولم يُقِم في البيت مع خلاف شكله من الجُروم ومتى عَمَّ السَّدُّ لم تُقِم النفْسُ في الجِرم فوق لا .
وحكمُ النفْس عند السَّدِّ إذ كنا لا نجدها بعد ذلك كحكم الضياء بعد السدّ إذ كنا لا نجده بعد ذلك .
فالنفسُ من جنس النسيم وبفساده تفسُدُ الأبدانُ وبصلاحه تصلحُ وكان يعتمدُ على أن الهواء نفْسَه هو النفسُ والنسيم وأن الحرّ واللدونةَ وغير ذلك من الخلاف إنما هو من الفساد العارضِ .
قيل له : فقد يفسُدُ الماء فتفسُدُ الأجرام من الحيوان بفساده ويصلُحُ
فتَصلح بصلاحه وتمْنَعُ الماء وهي تنازعُ إليه فلا تَحُلُّ بعد المنازعة إذا تمَّ المنْعُ وتوصَلُ بِجِرْمِ الماء فتقيمُ في مكانها فلعل النفسَ عند بُطلانِها في جسمها قد انقطعت إلى عُنصر الماء بالطّفرة . )
وبعدُ فما عَلَّمَكَ لعلّ الخنْقَ هيَّجَ عَلى النفس أضداداً لها كثيرةً غمرتها حتى غرقت فيها وصارت مغمورةً بها .
وكان هذا الرئيس يقول : لولا أن تحت كلِّ شعرةٍ وزَغَبَةٍ مجرى نَفَسٍ لكان المخنوقُ يموتُ مع أوّلِ حالات الخنق ولكن النفْسَ قد كان لها اتصالٌ بالنسيم من تلك المجاري على قدر مِنَ الأقدار فكان نَوْطُها جوف الإنسان فالرِّيح والبُخَارُ لمَّا طلَبَ المنفذ فلم يجِدْه دارَ وكثُفَ وقويَ فامتدَّ له الجلدُ فسدَّ له المجاري فعند ذلك ينقطع النفَس ولولا اعتصامها بهذا السبب لقد كانت انقطعت إلى أصلها من القُرْص مع أول حالات الخنق .
وكان يقول : إن لم تكن النفسُ غُمِرت بما هُيّج عليها من الآفاتِ ولم تنقطع للطَّفْر إلى أصلها جاز أن يكون الضياءُ الساقطُ على أرض البيت عند سدِّ الكُوّةِ أن يكون لم ينقطع إلى أصله . ولكن
وكان يعظّم شأنَ الهواء ويُخبر عن إحاطته بالأمور ودخوله فيها وتفضُّل قوّته عليها .
وكان يزعمُ أن الذي في الزّقّ من الهواء لو لم يكن له مَجَارٍ ومنافسُ ومُنِع من كل وجهةٍ لأقَلَّ الجَمَلَ الضخم .
وكان يقول : وما ظنّك بالرِّطل من الحديد أو بالزُّبْرَةِ منه أنه متى أُرسل في الماء خَرَقه كما يخرق الهواء قال : والحديد يسرعُ إلى الأرض إذا أرسلتَه في الهواء بطبعه وقوّته ولطلبه الأرضَ المشاكِلَةَ له ودفعِ الهواء له وتبرِّيه منه ونفيه له بالمضادة واطِّرَادِهِ له بالعداوة .
قال : ثمّ تأخذُ تلك الزُّبْرَة فتبسُطها بالمطارق فتنزل نزولاً دون ذلك لأنها كلما اجتمعت فكان الذي يلاقيها من الماء أصغَر جِرْماً كانت أقوى عليه .
ومتى ما أشخَصْتَ هذه الزُّبْرَة المفطوحة المبسوطةَ المسطوحة بنتْق الحِيطان في مقدارِ غِلظ الإصبع حَمَلَ مثلَ زِنَتِهِ المرارَ الكثيرةَ
وليس إلا لما حصرَتْ تلك الإصبعُ من الهواء وكلما كان نتوُّ الحِيطان أرفع كان للأثقال أحْمَلَ وكان الهواء أشدَّ انحصاراً .
قال : ولولا أن ذلك الهواءَ المحصورَ متَّصلٌ بالهواء المحصور في جرم الحديد وفي جرم الخشبِ والقارِ فرفَعَ بذلك الاتصال السفينةَ عُلوَّاً لَمَا كان يبلُغُ من حصر ارتفاع إصبعٍ للهواء ما يحملهُ البَغْل .
ويدلّ على ذلك شأن السكّابة فإنَّك تضعُ رأسَ السكّابة الذي يلي الماء في الماء ثم تمصه من الطرف الآخر فلو كان الهواء المحصورُ في تلك الأنبوبةِ إنما هو مجاورٌ لوجهِ الماء ولم يكن متصلاً )
بما لابَس جِرْم الماء من الهواء ثم مصصْتَه بأضعافِ ذلك الجذْبِ إلى ما لا يتناهى لَمَا ارتفع إليك من الماء شيءٌ رأساً .
وكان يقول في السَّبيكة التي تُطيل عليها الإيقاد كيف لا تتلوّى فما هو إلا أن يُنفخ عليها بالكيرِ حتى تدخلَ النيرانُ في تلك المداخلِ وتُعاوِنَها الأجزاءُ التي فيها من الهواء .
وبمثل ذلك قامَ الماءُ في جوف كُوزِ المِسْقاة المنكس ولعلمهم بصَنيع
الهواء إذا احتَصَر وإذا حُصِر جعلوا سَمْكَ الصِّينية مِثلَ طولها أعني المركبَ الصِّينيّ .
وكان يخبر عن صنيع الهواء بأعاجيب .
وكان يزعم أنّ الرّجلَ إذا ضُرِبت عنقُه سقط عَلَى وجهه فإذا انتفخَ انتفخَ غُرمُوله وقامَ وعَظُم فَقَلبَه عند ذلك على القفَا فإذا جاءت الضّبُع لتأكله فَرَأته على تلك الحال ورأت غُرمُوله على تلك الهيئة استَدْخَلَتْه وقضتْ وطرَها من تلك الجهة ثم أكلَت الرّجلَ بعد أن يقوم ذلك عندك أكثر من سِفاد الذِّيخ .
والذِّيخ : ذَكر الضِّباع العَرقاء .
وذكر بعضُ الأعراب أنه عاينَها عند ذلك وعند سِفاد الضَّبُع لها فوجد لها عند تلك الحال حركةً وصياحاً لم يجده عندها في وقت سِفاد الذِّيخ لها .
ولذلك قال أبو إسحاق لإسماعيل بن غَزْوان : أشهد باللّه إنك لَضَبُعٌ لأن إسماعيل شدّ جاريةً له على سُلّم وَحلَف ليضرَبَّها مائةَ سَوْطٍ دونَ الإزار ليلتزِقَ جلدُ السّوط بجلدها فيكون أوْجَعَ لها
فلما كشفَ عنها رَطْبةً بَضَّةً خَدْلَةً وقَع عليها فلما قضى حاجته منها وفَرَغَ ضرَبها مائة سوط فعند ذلك قال أبو إسحاقَ ما قال .
اختلاف أحوال الغرقى وإذا غرقت المرأةُ رسبتْ فإذا انتفخت وصارت في بطنها ريح وصارت في معنى الزقّ طفا بدنُها وارتفع إلا أنها تكون مُنْكَبَّةً ويكونُ الرّجل مستلقياً .
وإذا ضُربتْ عُنقُ الرّجلِ وأُلقيَ في الماء لم يَرسُب وقام في جوف الماء وانتصب ولم يغْرَق ولم يَلزم القعر ولم يظهر كذلك يكونُ إذا كان مضروبَ العُنق كان الماء جارياً أو كان ساكناً حتى إذا خفّ وصار فيه الهواء وصار كالزِّقِّ المنفوخ انقلبَ وظهَرَ بدنه كله وصار مستلقياً كان الماءُ جارياً أو كان قائماً فوُقوفُه وهو مضروب العُنق شبيهٌ بالذي عليه طباعُ العقربِ التي فيها )
الحياة إذا ألقيتَها في ماء غَمْر لم تطفُ ولم ترسبْ وبقيتْ في وسط عُمْق الماء لا يتحرَّك منها
ما يسبح من الحيوان والعقرب من الحيوان الذي لا يسبَح فأما الحيّة فإنها تكونُ جيِّدَةَ السباحةِ إذا كانت من اللواتي تنساب وتزحف فأمّا أجناس الأفاعي التي تسير على جنبٍ فليس عندها في السباحة طائل .
والسِّباحة المنعوتة إنما هي للإوزّةِ والبقرةِ والكلبِ فأمّا السمكةُ فهي الأصل في السباحة وهي المثل وإليها جميع النسبة .
والمضروب العنق يكون في عُمْق الماء قائماً والعقربُ يكون على خلاف ذلك . ( ثمّ رجع بنا القول إلى ذكر النار ) قال : وللنار من الخصال المحمودةِ أنَّ الطفل لا يُناغي شيئاً كما يُناغي المِصْباح وتلك المناغاة نافعةٌ له في تحريك النفْس وتهييج الهمة والبعثِ على الخواطر وفتق اللّهاة وتسديد اللسان وفي السرور الذي له في النفس أكرمُ أثر .
قول الأديان في النار قال : وكانت النار معظَّمةً عند بني إسرائيل حيث جعلها اللّه تعالى تأكل القربان وتدل على إخلاص المتقرِّب وفساد نية المُدْغِل وحيث قال اللّه لهم : لا تُطْفِئُوا النَّارَ مِنْ بُيُوتِي ولذلك لا تجد الكنائس وَالبِيَعَ أبداً إلا وفيها المصابيح تزْهر ليلاً ونهاراً حتى نَسَخَ الإسلام ذلك وأمرنا بإطفاء النيران إلا بقدر الحاجة .
فَذَكَرَ ابنُ جُريجٍ قال : أخبرني أبو الزّبير أنه سمع جابرَ بن عبدِ اللّه يقول : أمرني رسولُ اللّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال : إذا رَقَدْتَ فأغلق بابك وخَمِّرْ إناءك وأوْكِ سِقَاءَك وأطفئ مصباحَك فإِن الشيطان لا يفتح غَلَقاً ولا يكشفُ إناءً ولا يحلُّ وِكاءً وإن الفأرة الفُويسِقَة تحرقُ أهل البيت .
وفِطْر بن خليفة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللّه قال : قال لنا رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أغْلِقُوا أبوابَكم وأوْكُوا أسقِيتكم وخَمِّروا آنيتكم وأطفئوا سُرُجكم فإِن الشيطان لا يفتحُ غلَقاً ولا يُحلُّ وِكاءً ولا يكشفٍ ُ غِطاءً وإن الفويسقَة تضرِّم البيتَ على أهله
وكُفُّوا مَوَاشِيَكم وأهليكم حينَ تغرُب الشمس حتى تذهبَ فحمةُ العِشاء .
قال : ويدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يأمر بحفظها إلا بقَدر الحاجةِ إليها ويأمر بإطفائها )
إلا عند الاستغناء عنها ما حدَّث به عبَادُ بن كثير قال : حدّثَني الحسن بنُ ذكْوان عن شَهْر بن حَوشب قال : أمر رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن تحبسوا صبيانَكم عند فحمة العشاء وأن تُطفئوا المصابيح وأن توكِئوا الأسقِية وأن تخمِّروا الآنية وأن تغلِّقوا الأبواب قال : فقام رجلٌ فقال : يا رسول اللّه إنه لا بدّ لنا من المصابيح للمرأةِ النُّفساءِ وللمريض وللحاجة تكون
قال : فلا بأسَ إذاً فإن المصباحَ مَطْرَدَةٌ للشيطان مذبَّةٌ للهوام مَدَلَّةٌ على اللصوص .
نار الغول قال : ونارٌ أخرى وهي التي تذكر الأعرابُ أن الغولَ تُوقِدُها بالليل للعبث والتخليل وإضلال السابلة .
قال أبو المطراب عُبيد بن أيوبَ العَنبَرِيّ : ( فللّه دَرُّ الغُولِ أيُّ رَفيقةٍ ** لصاحبِ قَفْرٍ خائفٍ مُتَقَتِّرُ ) ( أرنّت بلَحْنٍ بعدَ لَحْنٍ وَأَوقَدَتْ ** حَوَالَيَّ نِيراناً تبوخُ وتزهرُ ) جَمَرات العرب قال : وجَمَراتُ العرب : عبسٌ وضَبّةُ ونُمَير يقال لكلِّ واحد منهم : جمرة .
وقد ذكر أبو حَيَّةَ النُّميري قومَه خاصَّةً فقال : ( وهمْ جَمْرَةٌ لا يَصْطَلي الناسُ نارَهم ** تَوَقَّدُ لا تُطْفا لِريْب النّوائبِ ) ويروى : الدوابر .
ثم ذكر هذه القبائل فعمّهُمْ بذلك لأنها كلَّها مُضَرِيَّة فقال : ( نُمَيْرٌ وعَبْسٌ تُتَّقَى صَقرَاتُهَا ** وضَبّةُ قَوْمٌ بَأْسُهُمْ غَيْرُ كاذِبِ ) يعني شدّتها . ( إلى كلِّ قومٍ قَدْ دَلَفْنَا بجَمْرَةٍ ** لها عارضٌ جَونٌ قَويُّ المناكبِ )
4
سقوط الجمرة وعلى ذلك المعنى قيل : قد سقَطت الجَمْرة إذا كان في اسقبال زمان الدَّفاء ويقولون : قد سقطت الجمرة الأولى والثانية والثالثة . 4
استطراد لغوي والجمار : الحصى الذي يُرْمَى به والرَّمْي : التجمير قال الشاعر :
( ولم أرَ كالتجميرِ منظَرَ ناظِرٍ ** ولا كلَيَالِي الحجِّ أفْتَنّ ذا هَوَى ) والتجمير أيضاً : أن يُرْمَى بالجُنْد في ثغر من الثُّغورِ ثم لا يُؤْذَنَ لهم في الرجوعِ .
وقال حُمَيْدٌ الأرقَطُ : ( فاليومَ لا ظلم ولا تَتْبيرُ ** ولا لغازٍ إنْ غَزَا تَجميرُ ) وقال بعضُ مَنْ جُمِّرَ من الشعراء في بعض الأجناد : ( أجَمَّرْتَنَا تَجميرَ كِسْرى جُنُودَهُ ** ومَنّيْتَنَا حتى مَلِلنا الأمانيا )
وقال الجعديُّ : ( كالخلايا أنشأنَ من أهل سابا ** طَ بجنْد مُجَمَّرٍ بِأُوَالِ ) ويقال قد أجمر الرجل : إذا أسرع أوْ أعجلَ مركَبه .
وقال لبيد : ( وإذا حَرَّكْتُ غَزْرِي أجْمَرَتْ ** أَوْ قِرَابي عَدْوُ جَوْنٍ قَدْ أَبَلْ ) وقال الراجز : أجْمَرَ إجْمَاراً لَهُ تَطْمِيمُ التّطميم : الارتفاع والعلوُّ ويقال : أجْمَرَ ثوبَه إذا دخّنه .
والمِجْمرة والمِجْمر : الذي يكون فيه الدُّخنة وهو مأخوذٌ من الجَمْر .
ويقال : قد جَمَّرت المرأةُ شَعْرَها إذا ضَفَرته والضَّفر يقال له الجمير قال : ويسمى الهلالُ قبل ليلةِ السِّرار بلَيلةٍ : ابن جَمِير قال أبو حَرْدَبة : ( فهل الإله يُشِيِّعُني بفوارسٍ ** لبَنِي أمَيّةَ في سِرار جَميرِ ) وأنشدني الأصمعيُّ : ويقال : قد تجمَّر القوم إذا هم اجتمعو حتى يصير لهم بأسٌ ويكونوا كالنارِ على أعدائهم )
فكأنهم جمرةٌ أو كأنهمْ جَميرٌ ٌ من شعر مضفور أو حَبل مُرصّعِ القُوَى .
وبه سمِّيت تلك القبائلُ والبطونُ من تميم : الجمار .
والمجمَّر مشدّد الميم : حيثُ يقع حصى الجمار وقال الهذلي :
( لأَدْركهمْ شُعْثَ النّوَاصِي كأنهمْ ** سوابقُ حُجّاجٍ تُوَافي المجمَّرا ) ويقال خُفٌّ مجمَّرَ : إذا كان مجتمعاً شديداً .
ويقال : عدَّ فلانٌ إبله أو خيله أو رجاله جَمَاراً : إذا كان ذلك جُملة واحدة وقال الأعشى : ( فَمَنْ مُبْلَغٌ وائلاً قومَنا ** وأعْني بذلك بَكراً جَمَارَا ) قال : ويقال في النار وما يسقط من الزَّند : السِّقط والسُّقط والسَّقْط ويقال : هذا مَسقِط الرمل أي مُنْقَطَع الرمل ويقال : أتانا مَسْقِط النَّجْمِ إذا جاء حين غاب .
ويقال رَفَعَ الطائرُ سِقْطَيْه وقال الشاعر : ( حتى إذا ما أضاء الصُّبْحُ وانبعثتْ ** عنهُ نعامةُ ذِي سِقْطَينِ مُعْتكرِ )
أراد ناحيتي الليل .
ويقال : شبّت النار والحرب تَشِبّ شَبّاً وشببْتها أنا أشبُّها شَبّاً وهو رجل شَبُوبٌ للحرب .
ويقال : حَسَبٌ ثاقب أي مضيءٌ متوقد وكذلك يقال في العلم ويقال : هب لي ثقوباً وهو ما أثقَبْتَ به النار من عُطْبَةٍ أو من غيرها ويقال : أثقب النار إذا فتح عَيْنَهَا لتشتعل وهو لثَّقوب ويقال : ثَقَبَ الزندُ ثُقوباً إذا ظهرت ناره وكذلك النار والزند الثاقب الذي إذا قدِح ظهرت النار منه .
ويقال : ذَكَتر النارُ تَذْكُو ذُكُوّاً إذا اشتعلت ويقال ذَكّها إذا أريد اشتعالها وذُكاءُ اسم للشمس مضموم الذال المعجمة وابن ذُكاء : الصبح ممدود مضموم الذال وقال العجَّاج :
وابنُ ذُكاءٍ كامنٌ في كَفْرِ وقال ثَعلَبة بن صُعير المازني وذكر ظليماً ونعامةً : ( تذكَّرَا ثَقَلاً رَثِيداً بعدَ ما ** لْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ ) وأما الذكاء مفتوح الذال ممدود فحدَّه الفُؤَاد وسُرعةُ اللَّقْنِ .
وقالوا : أضْرَمْتُ النار حتى اضطرمتْ وألهبْتُها حتى التهبت وهما واحد والضِّرام من الحطب : ما ضعُف منه ولان والجَزْل : ما غلُظ واشتدَّ فالرِّمْث وما فوقه جَزْل والعَرْفَج وما )
دونه ضرام والقصب وكل شيء ليس له جمرٌ فهو ضِرام وكل ما له جَمر فهو جَزل .
ويقال : ما فيها نافخ ضَرَمَة أي ما فيها أحدٌ ينفخ ناراً .
ويقال : صَلَيتُ الشاةَ فأنا أصْليها صَلْياً أذا شَوَيتها فهي مَصْليَّة ويقالُ :
صَلِيَ الرجُلُ النار يَصْلاها وأصلاه اللّه حرَّ النارِ إصلاءً وتقول : هو صالٍ حرَّ النار في قومٍ صالين وصُلَّى .
ويقال : هَمَدت النار تَهمُدُ هُمُوداً وطفِئَتْ تطفَا طُفُوءاً إذا ماتت وخَمَدَتْ تَخَْمُدُ خُمُوداً إذا سكن لهبُها وبَقِي جمراً حارّاً .
وشبّت النار تشِبُّ شُبوباً إذا هاجتْ والتهبت وشبّ الفرسُ بيديه فهو يشِبّ شِباباً وشبَّ الصبيُّ يشِبُّ شَباباً ويقال : ليس لك عَضَّاضٌ ولا شَبّاب .
ويقال : عَشَا إلى النار فهو يعشو إليها عَشْواً وعُشُوا وذلك يكون من أول الليل يرى ناراً فيعشو إليها يستضيءُ بها قال الحطيئة : ( متى تأتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْء نارِهِ ** تجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِدِ ) وقال الأعشى : وباتَ على النارِ الندى والمحلق ويقال : عَشِيَ الرجل يَعْشَى عَشاوةً وهو رجلٌ أعشى وهو الذي لا بيبصر بالليل وعشِي الرجلُ علَى صاحبِه يعشَى عَشاً شديداً .
نار الحرب ويذكرون ناراً أخرى وهي على طريق المثل والاستعارة لا على طريق الحقيقة كقولهم في نار الحرب قال ابن مَيَّادة : ( يداه : يدٌ تَنْهَلُّ بالخير والنّدا ** وأُخْرَى شديدٌ بالأعادي ضَرِيُرها ) ( وناراهْ : نارٌ نارُ كَلٍّ مُدَفَّعٍ ** وأخرى يُصيبُ المجرمينَ سَعيرُها ) وقال ابن كُناسَةَ : ( خَلْفَهَا عارضٌ يَمُدُّ عَلَى الآ ** فاقِ سِتْرَيْينِ مِنْ حديدٍ ونار ) ( نارُ حربٍ يشُبُّها الحَدُّ والجِ ** دّ وتُعْشِي نوافذَ الأبصارِ ) وقال الرَّاعي : ( وَغارَتُنَا أوْدَتْم ببَهرَاءَ إنها ** تصيبُ الصّرِيحَ مَرّةَ والمواليا )
( وكانت لنا نارانِ : نارٌ بجاسِمٍ ** ونارٌ بدَمْخٍ يُحرِقانِ الأعاديا ) جاسم : بالشام ودمْخ : جَبَلٌ بالعالية .
نار القِرى ونار أخرى وهي مذكورةٌ عَلَى الحقيقة لا على المثل وهي مِن أعظم مفاخر العرب وهي النار التي ترْفَع للسَّفر ولمن يلتمسُ القِرَى فكلما كان موضِعها أرفَع كان أفخر . ( لا الغياباتُ منْتَوَاكَ ولكنْ ** في ذُرَى مُشْرِفِ القصورِ ثَوَاكَا ) وقال الطائي : ( وبوأت بيتكَ في مَعْلَمٍ ** رفيعِ المباءةِ والمسرحِ )
( كيفتَ العُفاةَ طلابَ القرى ** ونبح الكلابِ لمستنبحِ ) ( ترى دعسَ آثارِ تلكَ المط ** يِّ أخاديدَ كاللقمِ الأفيحِ ) ( ولو كنتَ في نفقٍ رائغٍ ** لكنتَ على الشركِ الأوضحِ ) وأنشدني أبو الزِّبرقان : ( له نارٌ تُشَبُّ بكلِّ ريع ** إذَا الظلماءُ جَلَّلَتِ البقاعَا ) ( وما إن كان أكْثَرَهمْ سَوَاماً ** ولكنْ كان أرْحَبَهُمْ ذِرَاعا ) ويروى : ولَمْ يَكُ أكْثَرَ الفِتْيَانِ مالاً . )
وفي نار القِرَى يقول الآخر : ( عَلَى مِثْلَ هَمَّامٍ ولَمْ أَرَ مثْلَهُ ** تُبَكِّي البَوَاكي أو لبِشْرِ بنِ عامر ) ( غلامان كان استَوْرَدَا كلَّ مَوْرِدٍ ** مِنَ المجدِ ثمَّ استوسعا في المصادر )
( كأنَّ سَنَا ناريهما كلَّ شَتْوَةٍ ** سَنَا الفجرِ يبدَو للعُيُونِ النّواظِرِ ) ( ومستنبحٍ يخشي القواءَ ودونهُ ** من الليلِ بابَا ظلمَة وستورُها ) ( رفعتُ لهُ ناري فلما اهتدى بها ** زجرتُ كلابي أن يهرَّ عقورُها ) ( فلا تسأليني واسألي عن خليقتي ** إذا رَدَّ عَافي القدرِ منْ يستعيرُها ) ( ترى أنْ قدري لاتزالُ كأنها ** لذي الفروة المقرور أمُّ يزورُها ) ( مبرزة لا يجعلٌ الستر دونها ** إذا أخمد النيرانُ لاح بشيرها ) ( إذا الشولُ راحتْ ثم لَمْ تفدِ لحمها ** بألبانها ذاقَ السنانَ عقيرها )
خبر وشعر في الماء أما إن ذكرنا جُملةً من القول في الماء من طريق الكلام وما يدُخل في الطب فستذكُر من ذلك جملة في باب آخر : قالوا : مدَّ الشعبي يدهُ وهو على مائدة قتيبة بن مسلم يلتمس الشرابَ فلم يَدْرِ صاحبُ الشرابِ اللبن أم العسلَ أم بعضَ الأشربة فقال له : أي الأشربةِ أحبُّ إليك قال : أعزُّها مفقوداً وأهونُها موجوداً قال قُتيبة : اسقِهِ ماءً .
وكان أبو العتاهية في جماعة من الشعراء عند بعض الملوك إذ شرب رجلٌ منهم ماء ثم قال : بَرَدَ الماءُ وطابَ فقال أبو العتاهية : اجعله شِعْراً ثم قال : مَنْ يجيز هذا البيت فأطرق القومُ ( بَرَدَ الماءُ وطابا ** حَبَّذَا الماءُ شرابا ) وقال اللّه عز وجل : أَنهَارٌ منْ مَاءٍ غَيرِ آسِنٍ ثم لم يذكرْهُ
بأكثر من السلامةٍ من التغيُّر إذْ كان الماء متى كان خالصاً سالماً لم يحتجْ إلى أن يُشربَ بشيء غيرِ ماً في خلقته من الصَّفاء والعُذوبة والبَرْدِ والطَّيب والحُسنِ والسَّلَس في الحَلْق وقد قال عديُّ بن زَيد : ( لوْ بغَيْرِ الماء حَلْقِي شَرِقٌ ** كنتُ كالغَصَّانِ بالماء اعتصاري ) قال أبو المطراب عبيد بن أيُّوب العنبريُّ : ( وأوَّلُ خُبْثِ الماء خُبْثُ تُرَابِه ** وأولُ خُبْثِ النَّجْلِ خُبْثُ الحَلاَئِل )
وأوصَى رجلٌ من العرب ابنته ليلةَ زفافها بوصايا فكان مما قال لها : احذرِي مَوَاقِعَ أنفه واغتسلي بالماء القَرَاح حتى كأنك شَنٌّ ممطور .
وأوصتِ امرأةٌ ابنتَها بوصايا فكان منها : وليكنْ أطيبَ طِيبك الماءُ .
وزعموا أنها القائلةُ لبنتها :
( بُنَيَّتِي إن نامَ نامِي قَبْلَهُ ** وأكْرِمي تابعهُ وأَهلَهُ ) ( ولا تكوني في الخِصامِ مثْلَهُ ** فَتَخْصِمِيه فتكوني بَعْلهُ ) ومن الأمثال : وأخذ المسيحُ عليه السلام في يده اليُمْنى ماءً وفي يده اليسرى خُبزاً فقال : هذا أبي وهذا أمِّي فجعل الماء أباً لأن الماءَ من الأرض يقوم مقام النطفةِ من المرأة .
وإذا طُبخ الماء ثم بَرَدَ لم تَلْقَحْ عليه الأشجار وكذلك قُضبان الشجر والحبوبف والبذور لو طُبِخت طبخةً ثمَّ بُذِرَت لم تَعْلق .
وقالوا في النظر إلى الماء الدائم الجريان ما قالوا .
وجاء في الأثر : من كان به برصٌ قديمٌ فليأخذْ دِرْهماً حلالاً فلْيَشْتَر به عَسلاً ثم يَشرَبهُ بماء سماء فإنه يبرأ بإذن اللّه .
والنزيف هو الماء عند العرب .
وما ظنُّكم بشرابٍ خَبُث ومَلحَ فصار مِلْحاً زُعاقاً وبحراً أُجَاجاً ولّد العنبر الوَرْدَ وأنسل الدّرّ النفيس فهل سِمعْتَ بِنَجْلٍ أكرمَ ممن نجَله ومن نِتاجٍ أشرفَ ممن نَسَله .
وما أحسن ما قال أبو عبَّاد كاتبُ ابن أبي خالد حيثُ يقول : ما جلسَ بين يديّ رجلٌ قط إلا تمثَّل لي أنني سأجِلسُ بين يديه وما سَرَّني دهرٌ قطُّ إلا شغلني عنه تذكرُ ما يليق بالدهور من الغِيَرِ .
قال اللّه عزَّ وجلّ : قِيلَ لَها ادْخُلي الصَّرْحَ فلمَّا رَأتْهُ حَسِبتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا لأن الزجاج أكثر ما يمدح به أن يقال : كأنه الماء في الفيافي
وقال اللّه عز وجل : هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ .
وقال القُطاميّ : وهُنَّ يَنْبِذْنَ مِنْ قَولٍ يُصِبْنَ به مواقِعَ الماء منْ ذِي الغُلَّةِ الصَّادي وقال اللّه عز وجل : وَاللُّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةِ مِنْ مَاء . )
فيقال : إنه ليس شيء إلا وفيه ماء أو قَدْ أصابه ماء أوخُلقِ من ماء والنُّطفة ماء والماء يسمى نُطفة وقال اللّه تعالى : وَكَانَ عَرْشُهُ على المَاء قال ابن عباس : موج مكفوف .
وقال عز وجل : وَنَزَّلنَا مِنَ السَّماء مَاءً مُبَاركاً .
التسمية بماء السماء وحين اجتهدوا في تسميةِ امرأةٍ بالجمال والبركة والحُسنِ والصَّفاء والبَياض قالوا : ماء السماء وقالوا : المنذر بن ماء السماء .
4
استطراد لغوي ويقال : صِبْغٌ له ماء ولونٌ له ماء وفلان ليس في وجهه ماء ورَدَّني فلانٌ ووجهي بمائه قال الشاعر : شعر في صفة الماء وقالت أمُّ فَروة في صفة الماء : ( وما ماءُ مزنٍ أيُّ ماء تقوله ** تحدر من غر طِوالِ الذوائبِ ) ( بمنعرج أو بطنِ وادٍ تحدبت ** عليه رياحُ المزن من كلِّ جانب ) ( نفى نسمُ لاريح القذا عن متونه ** فما إنْ به عيب تراه لشارب ) ( بأطيبَ ممنْ يقصرُ الطرفَ دونه ** تقى الله واستحياء بعض العواقب ) ما يحبه الحيوان من الماء والإبل لا تحبُّ من الماء إلا الغليظَ والحوافر لا تحبُّ العُذوبة وتكره الماء الصافي حتى ربَّما ضَرَب الفرسُ بيده الشريعة ليثَوِّر الماء ثمّ يشربَه .
والبقر تعافُ الماءَ الكدِرَ ولا تشرب إلا الصافي .
والظباء تَكرَع في ماء البحرِ الأُجاج وتخضِمُ الحنْظَل . 4
استطراد لغوي والأبيضان : الماء واللبن والأسودان : الماء والتمر .
شعر في صفة الماء وقال العُكليّ في صفة الماء : ( عاد من ذكرِ سلمى عوده ** والليل داجٍ مطلخمٌّ أسوده ) ( فبتُّ ليلى ساهراً ما أرقُده ** حتى إذا الليل تولى كبده ) ( وانكبّ للغورِ انكبابا فرقدهْ ** وحثَّه حادٍ كميشٌ يطرده ) ( أغرُّ أجلى مغربٌ مجردهُ ** أصبح بالقلبِ جوى ما يبردهُ )
( ماء غمامٍ في الرصاف مقلدهْ ** زل به عن رأس نيقٍ صدده ) ( عن ظهر صفوانٍ مزل مجسده ** حتى إذا السيل تناهى مدده ) ( وشكد الماء الذي يشكده ** بين نعامى ودبورٍ تلهدُه ) ( كلُّ نسيمٍ من صباً تستورده ** كأنما يشهده أو يفقده ) فهو شِفاءُ الصاد مما يَعْمِدُه وقال آخَر في الماء :
( يا كأس ما ثغبٌ برأس شظيةٍ ** نزلٍ أصابً عراصها شؤبوب ) ( ضحيانُ شاهقةٍ يرف بشامُه ** نديانَ يقصر دونهُ اليعقوب ) وقال جرير :
( لو شئتِ قد نَقَعَ الفؤَادُ بشَرْبةٍ ** تَدَعُ الحوائمَ لا يَجُدْنَ غليلا ) ( بالعَذْب من رصَف القِلاتِ مَقِيلُه ** قضُّ الأباطح لا يزالُ ظليلا ) فضل الماء قال : وفي الماء أنَّ أطيب شراب عُمِل وَرُكِّب مثل السَّكَنْجَبِين والجُلاّب والبَنَفْسَجِ وغير ذلك مما يُشْرَبُ من الأشربة فإنْ لذَّ
وطاب فإنّ تمام لذَّته إن يَجْرعَ شاربُه بعد شُربه له جُرَعاً من الماء يغْسل بها فمه ويطيِّب بها نفسه وهو في هذا الموضع كالخُلَّة والحَمض جميعاً وهو لتسويغ الطعام في المرِىء والمركَبُ والمِعْبر والمتوصَّل به إلى الأعضاء .
فالماء يُشربُ صِرْفاً وممزوجاً والأشربة لا تُشرَبُ صِرفاً ولا يُنْتَفَعُ بها إلا بممازَجَة الماء وهو بعدُ طهورُ الأبدانِ وغسولُ الأدران .
وقالوا : هو كالماء الذي يطهر كلّ شيء ولا ينجِّّسه شيء .
وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في بئر رُومة : الماءُ لا ينجِّسُه شيءٌ .
ومنه ما يكون منه المِلْح والبَرَد والثَّلج فيجتمع الحُسن في العين والكرم في البياض والصفاء وحسنُ الموقع في النفس . )
( غَضبى ولا واللّهِ يا أهْلَهَا ** لا أشْرَبُ البارِدَ أو تَرْضَى ) ويقولون : لو عِلمَ فلانٌ أنَّ شُرْبَ الباردِ يَضَعُ من مروءَتِهِ لما ذاقه وسمَّى اللّه عز وجل أصلَ الماء غَيثاً بعد أن قال : وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء .
ومن الماء ماء زمزم وهو لِمَا شَرِبَ له ومنه ما يكونُ دواءً وشفاءً بنفسه كالماء للحمى . ( علَّة ذكر النار في كتاب الحيوان ) قد ذكرنا جملة من القَول في النار وإن كان ذلك لا يدخل في باب القول في أصناف الحيوان فقد يرجع إليها من وجوه كريمة نافعةِ الذكر باعثةٍ على الفكر وقد يعرِضُ من القَوْلِ ما عسى أن يكون أنفعَ لقارئ هذا الكتاب من باب القول في الفيل والزَّندبيل
والقرد والخنزير وفي الدُّب والذئب والضَّبّ والضَّبع وفي السِّمْعِ والعسْبار .
وعَلَى أن الحكمةَ ربما كانت في الذُّبابة مع لطافة شخصها ونذالةِ قَدْرها وخساسة حالها أظهرَ منها في الفرس الرَّائع وإن كان الفرسُ أنفع في باب الجهاد وفي الجاموس مع عَظم شخِصه وفي دودة القَزِّ وفي العنكبوت أظهرَ منها في الليثِ الهصور والعُقابِ الشّغْوَاء .
وربما كان ذكرُ العظيم الجُثة الوثيق البَدَن الذي يجمعُ حِدَّةَ الناب وصولةَ الخلق أكثرَ فائدةً وأظهرَ حِكمةَ من الصَّغيرِ الحقير ومن القليل القَمِي كالبعير والصُّؤابة والجاموس والثعلب والقَملة .
وشأن الأرَضةِ أعجَبُ من شأن البَبْرِ مع مسالمة الأسد له ومحاربته للنمر .
وشأنُ الكُركى ِّ أعجبُ من شأن العَندليب فإن الكركيِّ من أعظم الطّير والعندليبَ أصغر من ابن تَمْرة .
ولذلك ذكر يونس بعضَ لاطَةِ الرُّواة فقال : يضربُ ما بين الكُركيِّ إلى العندليب يقول : لا يدع رجلاً ولا صبيًّاً إلاَّ عَفَجَه .
ويشبه ذلك هجاءُ خلفٍ الأحمر أبا عبيدة حيثُ يقول : ( ويضربُ الكُرْكى إلى القُنبَرِ ** لا عانساً يبقى ولا مُحْتَلِمْ ) والعانس من الرجال مثله من النساء .
فلسنا نُطنبُ في ذكر العطيم الجثة لِعظَم جُثّته ولا نَرْغَبُ عن ذكر الصّغير الجثة لصغر جُثَّتة وإنما نلتمس ما كان أكثر أعجوبة وأبلغَ في الحكمة وأدلّ عند العامة على حكمة الرّبّ وعلى )
إنعام هذا السّيّد .
ورُبّ شيء الأعجوبةُ فيه إنما هي في صورته وصَنعته وتركيب أعضائِه وتأليف أجزائه كالطاووس في تعاريج ريشه وتهاويل
ألوانه وكالزَّرافة في عجيب تركيبها ومواضع أعضائها والقولُ فيهما شبيهٌ بالقول في التُّدرُج والنَّعامة .
وقد يكون الحيوانُ عجيبَ صنعةُ البَدن ثم لا يُذكرُ بعدَ حُسن الخَلْق بخُلُق كريم ولا حِسٍ ثاقبٍ ولا معرفة عجيبة ولا صنعة لطيفة ومنه ما يكون كالببغاء والنخْلة والحمامة والثعلب والدُّرّة ولا تكون الأعجوبةُ في تصويره وتركيب أعضائه وتنضيد ألوانِ ريشه في وزن تلك الأشياء التي ذكرناها أو يكون العَجَبُ فيما أعطى في حنجرته من الأغاني العجيبة والأصوات الشجيَّة المطربة والمخارج الحسنة مثلَ العجب فيما أعْطِيَ من الأخلاق الكريمة أو في صنعة الكفِّ اللطيفة والهداية الغريبة أو المِرْفق النافع أو المضرَّة التي تدعو إلى شدَّة الاحتراس ودقة الاحتيال فيقدَّم في الذكر لذلك .
وأيٌّ شيء أعجبُ من العَقْعَق وصِدْق حِسَّه وشدَّة حَذَرِهِ وحُسْنِ معرفته ثم ليس في الأرض طائر أشدُّ تضْييعاً لبيضه وفراخه منه
والحُبارَى مع أنها أحمقُ الطير تحوطُ بيَضها أو فراخَها أشدَّ الحياطة وبأغْمََضِ معرفة حتى قال عثمانُ بن عفان رضي اللّه عنه : كلُّ شيء يحب والدَه حتى الحبارى يَضْربُ بها المثلَ في الموق .
العقعق ثم العقعَقُ مع حِذقه بالاستلاب وبسرعة الخطف لا يستعمل ذلك إلا فيما لا ينتفع به فكَمْ من عِقْدٍ ثمين خَطير ومن قُرْطٍ شريف نفيس قد اختطف من بين أيدي قومٍ فإمّا رَمَى به بعد تَحَلُّقه في الهواء وإما أحرزه ولم يلتفت إليه أبداً .
وزعم الأصمعيُّ أنّ عَقعقاً مرةًاً ستلَبَ سِخاباً كريماً لقومٍ فأخذَ أهلُ السِّخَاب أعرابيَّة كانت عندهم فبينما هي تُضْرَبُ وتُسْحَبُ وتسَبُّ إذ مرَّ العَقعَقُ والسِّخابُ في منقاره فصاحوا به فرمى به فقالت الأعرابية وتذكرَّتِ السلامة بعد أن كانت قد ابتُليت ببليَّة أخرى فقالت :
( وَيومُ السِّخَاب منْ تَعَاجيبِ رَبِّنَا ** كما أنه من بَلْدَةِ السَّوْء نجَّاني ) تَعني الذين كانت نزلت بهم من أهل الحاضِرة .
كلام في الاستطراد )
ولا بأس بذكر ما يعرض ما لم يكن من الأبواب الطِّوال التي ليس فيها إلا المقاييس المجرَّدة والكلامية المحضة فإن ذلك مما لا يخفُّ سماعه ولا تَهَشُّ النفوسُ لقراءته وقد يحتمل ذلك صاحبُ الصناعة وملتمس الثواب والحِسْبة إذا كان حليفَ فِكَرٍ أليفَ عِبَرٍ فمتى وجدنا من ذلك باباً يحتمل أن يوشَّح بالأشعار الظريفة البليغة والأخبار الطريفة العجيبة تكلّفنا ذلك ورأيناه أجمعَ لما ينتفع به القارئ .
وأنا كاتبٌ لك بعد هذا إذْ كنتُ قد أملْلتُكَ بالتطويل وحملتُك على أصعَب المراكب وأوْعَر الطُّرق إذ قد ذكرنا فيه جملةً صالحةً من كلام المتكلمين ولا أرى أن أزيد في سآمتك وأُحَمِّلكَ استفراغ طاقتك بأن أبتدئ القول في الإبل والبقر والغنم والأُسْدِ والذئاب والحمير والظباء وأشباه ذلك مما أنا كاتِبُهُ لك .
ولكني أبدأ بصغار الأبواب وقصارها ومُحَقَّراتها ومِلاحها
لئلا تخرج من الباب الأول إلا وأنت نشيط للباب الثاني وكذلك الثالث والرابع إلى آخر ما أنا كاتبه لك إن شاء اللّه . ( سَرد منهج سائر الكتاب ) ونبدأ بذكر ما في العصفور ثم نأخذ في ذكر ما في الفأر والعقرب والذي بينهما من العَداوة مع سائر خصالهما .
ثم القولُ في العقرب والخنفساء وفي الصداقة بينهما مع سائر خصالهما .
ثم القول في السِّنَّوْر وبعضُ القول في العقرب .
ثم القولُ في البعوض والبراغيث ثم القول في القَمل والصِّئْبان ثم القول في الورَل والضّبّ ثم القول في اليربوع والقنفذ ثم القول في النسور والرّخم .
ثم القول في العُقاب وفي الأرنب ثم القول في القِرْدان والضفادع ثم القول في الحُبارى وما أشبه ذلك وإن كنا قد استعملنا في هذا الكتاب جمَلاً من أخبار ما سمينا بذلك .
وسنذكر قبل ذكرِنا لهذا الباب أبواباً من الشعر طريفة تصلُحُ
للمذاكرة وتبعث على النشاط معه وتُسْتَخَفّ معه قراءة ما طال من الكتبِ الطوال .
ولولا سوءُ ظني بمن يُظْهِرُ التماسِ العلم في هذا الزمان ويذكر اصطناعَ الكتبِ في هذا الدهر لَمَا احتجْتُ في مداراتهم واستمالتهم وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم مع كثرةِ فوائد هذا الكتابِ إلى هذه الرياضة الطويلة وإلى كثرة هذا الاعتذار حتى كأنَّ الذي أُفيدُه إياهم )
أستفيدُهُ منهم وحتى كأنَّ رغبتي في صَلاحِهم رغبةُ منَ يرْغَبُ في دنياهم ويتضرَّعُ إلى ما حوته أيديهم .
هذا ولم أذكر لك من الأبواب الطوال شيئاً ولوا قد صرت إلى ذكرِ فرقِ ما بين الجن والإنس وفرق ما بين الملائكة والأنبياء وفرق ما بين الأنثى والذكر وفرق ما بينهما وبين ما ليس بأنثى ولا ذكر حتى يمتدَّ بنا القولُ في فضيلة الإنسان على جميع أصنافِ الحيوان وفي ذكر الأمم والأعصار وفي ذكر القَسم والأعمار وفي ذكر مقادير العقول والعلوم والصناعات ثم القول في طباع الإنسان منذُ كان نطفة إلى أن يُفْنِيهُ الهرَم وكيف حقيقة ذلك الردّ إلى أرذل العمر فإن مَلِلْتَ الكتابَ واستَثْقَلْتَ القراءة فأنت حينئذ أعذَرُ ولحظِّ نفسك أبْخَسُ وما عندي
لك من الحيلة إلا أن أصوّره لك في أحسن صورة وأقلّبَك منه في الفنون المختلفة فأجعلَكَ لا تخرجُ من الاحتجاج بالقرآن الحكيم إلا إلى الحديث المأثور ولا تخرجُ من الحديث إلا إلى الشِّعر الصحيح ولا تخرجُ من الشّعر الصحيِحِ الظريفِ إلا إلى المثلِ السائر الواقع ولاتخرج من المثل السائر الواقع إلا إلى القول في طُرف الفلسفة والغرائب التي صحَّحَتْها التجربة وأبرزها الامتحان وكشَف قِناعَها البُرهانُ والأعاجيبِ التي للنفوسِ بها كلَفٌ شديدٌ وللعقول الصحيِحة إليها النزاع القويّ .
فانظر فيه نظَر المنْصِفِ من الأكفاء والعُلَمَاءَ أو نَظر المسترشِدِ من المتعلِّمين والأتباع فإن وجَدت الكتابَ الذي كتبتُه لك يخالفُ ما وصفتُ فانْقُصْني من نشاطك له على قَدْر ما نَقَصْتُكَ مما ينشطك لقراءته وإن أنت وجدتني إذا صحَّ عقلُك وإنصافك قد وفَّيتُكَ ما ضمنت لك فوجدتَ نشاطك بعدَ ذلك مدخولاً وحَدَّكَ مفلُولاً فاعلم أنا لم نُؤْتَ إلا من فُسولتِك و من فسادِ طبعك ومن إيثارك لما هو أضرُّ بك .
مديح النصارى واليهود والمجوس والأنذال وصغار الناس من ذلك ما هو مديحُ رغبة ومنه ما هو إحماد .
أنشدنا أبو صالح مسعود بن قنْد الفزاريّ في ناسٍ خالَطَهم من اليهود : ( وجدنا في اليهودِ رجالَ صدقٍ ** على ما كانَ من دينٍ يريبُ ) ( لعمركَ إنني وابنيْ عريضٍ ** لمثلُ الماء خالطهُ الحليبُ ) ( خيلان اكتسبتُهُمَات وإني ** لخِلَّةِ ماجد أبداً كسوبُ ) وقال أبو الطَّمَحَان الأسَديّ وكان نديماً لناسٍ من بني الحَدَّاء وكانوا نَصَارى فأحمدَ نِدامهم )
فقال :
( كأنْ لم يكنْ قصر مقاتلٍ ** وزورةَ ظلٌّ ناعمٌ وصديق ) ( ولم أرد البحطاء أمزجُ ماءها ** بخمرٍ من البر ُ وقتينِ عتيقُ ) ( معي كلُّ فضفاض لاقميص كأنه ** إذا ما جرى فيه المدامُ فنيق ) ( هو الصلتِ والحداء كلُّ سَمَيْدعٍ ** له في العروق الصالحات عروقُ ) ( وإني وإنْ كانو نصارى أحِبُّهم ** ويرتاحُ قلبي نحوهم ويتوقُ )
وقال ابن عبدل ، أو غيره ، في مجوسي ساق عنه صداقا فقال : ( شهدتُ عليك بطيب المشا ** شِ وأنكَ بحرٌ جوادٌ خضمُّ ) ( وأنكَ سيدُ أهلِ الجحيم ** إذا ما ترديتَ فيمن ظلمْ ) ( نظيراً لهامانَ في قعرهَا ** وفرعونَ والمكتنى بالحكم ) ( كفاني المجدوسيُّ مَهْرَ الربا ** بِ فدى للمجوسيِّ خالي وعَمّْ ) فقال له المجوسيُّ : جعلْتَنيِ في النار أمَا ترَضى أن تكون مع مَن سّميتُ قال : بَلى قال : فمن تَعني بالحكَم قال : أبا جهل بن هشام .
وأنشدني أبو الرُّدَيني العُكْليّ لبعض العُكْليِّين وكان قينٌ
لهم أَحدّ جلماً له فقال يمدحه : يا سودُ يا أكرمَ قينٍ في مضرْ لك المساعي كلها والمفتخرْ على قُيون الناس و الوجهٌ الأغرّْ كانَ أبوكَ رجلاً لا يُقْتَسَر ثبتاً إذا ما هو بالكير ازبأرّْ زادك نفخاً تلتظي منهُ سقرْ حتى يطيرَ حولهُ منها شَرَرْ بالشعب إن شاء وإن شاء سَمَرْ ما زالَ مُذْ كانَ غلاما يشتبر له على العيرِ إكافٌ وثغرْ
والكلبتانِ والعلاةُ والوتر فانظر ثَوَابي والثَّوَابُ ينتظرْ )
في جَلَمَيَّ والأحاديثُ عِبَر
من أراد أن يمدح فهجا قال سعيد بن سَلْم : لما قال الأخطلُ بالكوفة : أخطأ الفرزدقُ حين قال : ( أبَني غُدَانةَ إنني حَرّرْتُكُمْ ** فوهبتكم لعَطيّةَ بن جِعالِ ) ( لولا عَطِيَّةُ لاجتَدَعْتُ أُنُوفكُمْ ** منْ بينِ ألأم أعْيُنْ وَسِبَالِ )
كيف يكون قد وهبهم له وهو يهجوهم بمثل هذا الهجاء قال : فانبرى له فتى من بني تميم فقال له : وأنتَ الذي قلتَ في سويد بن منجوف : ( وما جِذْعُ سَوْءٍ رَقَّق السُّوسُ جَوْفَه ** لِمَا حُمِّلَتْهُ وائلٌ بمطيق ) أردت هجاءه فزعمتَ أنّ وائلاً تعصبُ به الحاجات وقَدْرُ وسويد لا يبلغ ذلك عندهم فأعطيْتَه الكثيرَ ومنعتَه القليلَ .
وأردتَ أن تهجوَ حاتمَ بنَ النعمانِ الباهليّ وأنْ تصغِّرَ شأنه وتَضَعَ منه فقلتَ : ( وسَوّدَ حاتماً أنْ ليس فيها ** إذا ما أُوقدَ النيرانُ نارُ ) فأعطيتَه السُّودَدَ من قيس ومنعتَه ما لا يضرُّهُ .
وأردت أن تمدح
سِماك بن زيد الأسدي فهجوتَه فقلت : ( نِعم المجيرُ سِماكٌ من بني أسَدٍ ** بالطَّفِّ إذْ قَتَلْتَ جِيرانَهَا مُضرُ ) ( قد كنتُ أحسِبَهُ قَيْناً وأُنْبَؤُه ** فاليومَ طُيِّرَ عن أثوابه الشرَرُ ) وقلتَ في زُفرَ بنِ الحارث : ( بني أمَيّة إني ناصحٌ لكُمُ ** فلا يَبيتَنَّ فيكُمْ آمِناً زُفَرُ )
( مُفْتَرِشاً كافتراش الليث كلْكلَهُ ** لوَقْعَةٍ كائن فيها لكم جزَرُ ) فأردت أن تُغْري به بني أُمَيّةَ فوهّنْتَ أمرهم وتركتَهُمْ ضُعفاءَ ممتَهَنِينَ وأعطيتَ زُفَرَ عليهم من القوةِ ما لم يكنْ في حسابه .
قال : ورجَعَ أبو العطاف من عند عمرو بن هَدَّاب في يومين كانا لعمرو وأبو العطَّاف يضحك فسئِل عن ذلك فقال : أما أحدُ اليومين فَإنَّهُ جَلَس للشعراء فكان أولُ من أنشده المديحَ فيه طريفُ بنُ سَوادة فما زال يُنشدهُ أرجوزةً له طويلة حتى انتهى إلى قوله : ( أبرصُ فيّاضُ اليَدَينِ أكْلَفُ ** وَاْلبُرْصُ أَنْدَى باللُّهى وأعْرَفُ )
مجلوِّذٌ في الزَّحَفاتِ مِزْحَفُ المجلوِّذ : السريع .
وكان عمرو أبرص فصاح به ناس : ما لكَ قطع اللّه لسانك : قال عمرو : مَهْ البرَصُ من مَفاخِر العرب أما سمِعتُم ابن حبناءَ يقول :
( إنِّي امرؤٌ حنظليٌّ حين تنسُبُنِي ** لامِلْ عَتيكِ ولا أخواليَ العَوَقُ ) ( لا تحسِبِنَ بياضاً فِيّ مَنْقَصَةً ** إنّ اللَّهامِيمَ في أقرابِهَا بَلقُ )
أوَ ما سمعتم قولَ الآخر : ( يا كأسُ لا تستنكري نُحُولِي ** ووضحاً أوْفَى عَلَى خَصِيلي ) ( فإنَّ نَعْتَ الفرَسِ الرّجيلِ ** يكمُل بالغرَّةِ والتّحْجِيلِ ) أوَ ما سمعتُم بقول أبي مسهر : ( يَشْتُمْنِي زَيدٌ بأَنْ كُنْتُ أَبْرَصاً ** فكلُّ كريمٍ لا أبالَكَ أبرصُ ) ( يا أُخْتَ سَعْدٍ لا تَعُرِّي بالرَّوَقْ ** ليس يضرُّ الطِّرْفَ توليعُ الْبَلَقْ ) إذا جرى في حَلْبَةِ الخيْلٍ سَبَقْ ومحمد بنُ سلاّم يزعمُ أنه لم يَرَ سابقاً قطّ أبلقَ ولا بَلْقاءَ .
وقد سبق للمأمون فرسٌ إمّا أبلقُ وإما بلقاء .
وأنشدني أبو نواسٍ لبعضِ بني نهشَل : ( نَفَرَتْ سَودةُ عنِّي أنْ رأتْ ** صَلَعَ الرَّأس وفي الجلدِ وَضَحْ ) ( قلتُ يا سَوْدة هذا والذي ** يَفْرِجُ الكُرْبَةَ مِنَّا والكلحْ )
( هو زَيْنٌ لِيَ في الوجهِ كما ** زَيَّنَ الطِّرفَ تحاسينُ القَرَح ) وزعم أبو نُواس أنهم كانوا يتبركون به وأن جَذِيمةَ الوضّاحَ كان يفخرُ بذلك .
وزعم أصحابنا أنَ بَلعاءَ بنَ قيس لمَّا شاع في جِلْدِهِ البَرص قال له قائل : ما هذا يا بَلعاء فقال : هذا سيف اللّه جلاَه وكنانة تقول : سيف اللّه حَلاَّه .
ثم رجع الحديثُ إلى أبي العَطَّاف وضَحِكه قال : وأما اليوم الآخرِ فَإنَّ عَمْراً لمَّا ذهبَ بصرهُ ودخلَ عليه الناس يُعَزُّونَهُ دخل عليه إبراهيمُ بنُ جامع وهو أبو عتَّابٍ من آل أبي مَصاد وكان كالجَمل المحجوم فقام بين يديْ عمرٍ و فقال : يا أبا أُسَيّد لا تجزعنَّ مِنْ
ذهَابِ عينَيك وإن كانتا )
كريمتَيكِ فإنك لو رأيتَ ثوابهما في ميزانك تمنيتَ أن يكونَ اللّه عز وجل قد قطعَ يدَيكَ ورِجْلَيْك ودقَّ ظهرك وأَدمَى ضِلَعَك .
قال : فصاحَ به القومُ وضَحِك بعضهم فقال عمرو : معناه صحيحٌ ونيتُه حسنة وإن كان قد أخطأ في اللفظ .
وقلتُ لأبي عَّتاب : بلغني أن عبدَ العزيز الغزّال قال : ليتَ أن اللّه لم يكن خَلَقَني وأني الساعةَ أَعْور قال أبو عتَّاب : بئسَ ما قال وددتُ واللّه أن اللّه لم يكن خَلَقنِي وأنّى الساعة أعمى مقطوعُ اليدينِ والرِّجلين .
وأتى بعضُ الشعراء أبا الواسع وبنُوهُ حَولَه فاستعفاه أبو الواسع من إنشاد مديحه فلم يزلْ به حتى أذِن له فلما انتهى إلى قوله : ( فكيف تُنْفَى وَأَنْتَ الْيَوْمَ رَأْسُهُمُ ** وحَولَكَ الْغُرُّ مِنْ أَبْنَائِكَ الصِّيدِ ) قال أبو الواسع : ليتكَ تركْتَهم رأساً برأس .
ومدح الممزَّق أبو عباد بن الممزِّق بِشْرَ بنَ أبي عمرو وليس هو بشر بن أبي عمرو بن العلاء فقال : ( من كانَ يزعُمُ أن بِشراً مُلصقٌ ** فالله يجزيهِ وربكَ أعلمُ ) ( أنَّ الصريحَ المحضَ فيه دلالةٌ ** والعرقُ مُنْكَشف لمَنْ يتوسم ) ( أما لسانك واحتباؤك في المَلاَ ** فزُرارَةٌ العُدُسيُّ عِنْدَكَ أعجمُ ) ( إني لأرجو أنْ يكونَ مقالهمْ ** زُوراً وشانُئك الحسودُ المرغَمُ )
خطأ الكميت في المديح ومِن المديح الخطأ الذي لمْ أرَ قَطُّ أعجب منه قولُ الكميتِ بن زيدٍ
وهو يمدح النبي صلى اللّه عليه وسلم فلو كان مديحه لبني أمَيَّةَ لجاز أن يعيبهم بذلك بعض بني هاشم أوْ لو مَدَحَ به بعض بني هاشمٍ لجاز أن يعترض عليه بعضُ بني أميَّة أوْ لو مدح أبا بلال الخارجيّ لجاز أن تعيبه العامّة أو لو مدح عَمرو بن عُبيَدٍ لجازَ أن يعيبه المخالف أوْ لو مدح المهلَّب لجاز أن يعيبه أصحابُ الأحنفِ .
فأما مديح النبي صلى اللّه عليه وسلم فمن هذا الذي يسوءهُ ذلك حيثُ قال : ( فاعتتبَ الشوقُ مِنْ فؤاديَ ولاشع ** رُ إلى منْ إليه معُتتَبُ ) ( إلى السراجِ المنيرِ أحمدَ لا ** يعْدِلني رَغبةٌ ولا رهَبٌ ) ( عنه إلى تغيره ولو رفعَ النا ** سٌ إلى العيونَ توارتقبُوا ) ( إليكَ يا خير من تضَمنت الأر ** ضُ ولو عابَ قوليَ العُيُبُ ) ( لج بتفضيلكَ اللسانٌ ولو ** أكثر فيك الضجاج واللجبُ ) ( أنت المصفى المحضُ المهذَّب في ال ** نسبةِ إنْ نص قومكَ النسبُ )
ولو كان لم يقلْ فيه عليه السلام إلا مِثلَ قوله : ( وَبُورِكَ قَبْرٌ أنْتَ فيه وَبُورِكَتْ ** به وله أهلٌ بذلك يَثْرِبُ ) ( لقد غَيَّبُوا برَّاً وحَزْماً وَنائلاً ** عَشِيَّة وَارَاكَ الصَّفيحُ المنصَّب ) فلو كان لم يمدحْه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب لما كان ذلك بالمحمود فكيفَ مع الذي حَكينا قبل هذا .
غلط بعض الشعراء في المديح والفخر ومن الأشعار الغائظة لقبيلة الشاعر وهي الأشعار التي لو ظنَّت الشعراءُ أن مَضَرَّتها تَعُودُ بِعُشر ما عادتْ به ولكان الخرسُ أهْوَنَ عليها من ذلك القول فمن ذلك قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ : ( أبني كلابٍ كيفَ تُنفي جعفرٌ ** وبنو ضَبنينةَ حاضرُ والأجبابِ )
( قتلوا ابنَ عروةَ ثمّ لطوا دونه ** حتى تحاكمتمْ إلى جوابِ ) ( متاظهرٌ حلقُ الحديدِ عليهمُ ** كبني زرارة أو بني عتَابِ ) ( قومٌ لهم عَرَفَتْ مقعدٌّ فضلهَا ** والحقُّ يعرفهُ ذوو الألبابِ ) ومن هذا الباب قولُ منظور بن زبّانَ بن سَيَّارِ بن عَمرو بن جابرِ الفَزَارِي وهو أحَدُ سادةِ غَطفان :
( فجاؤوا بَجمْعٍ مُحْزئِلٍّ كأنهمْ ** بنو دارمٍ إذا كان في الناسِ دَارمُ ) وذلك أن تميماً لما طالَ افتخارُ قيس عليها بأن شعراء تميم كانت تضربُ المثلَ بقبائل قيس ورجالها فغَبَرتْ تميمٌ زماناً لا ترفعُ رؤُوسها حتى أصابتْ هذين الشعْرين من هذين الشَّاعرينِ العظيمَي القدر فزال عنها الذُّلُّ وانتصفت فلو علم هذان الشاعران الكريمان ماذا يصنعان بعشائرهما لكانَ الخَرسُ أحبّ إليهما .
قال أبو عبيدة : ومن ذلك قولُ الحارث بن حِلِّزَة وأنشَدَها الملكَ وكان به وضَحٌ وأنشَدَه من وراء سِتر فبلغ من استحسانه القصيدة إلى أن أمَرَ برفْع السِّتر .
ولكراهتهم لدُنُوِّ الأبرصِ منهم قال لبيدُ بن ربيعة للنُّعمان بن المنذر في الربيع بن زياد : ( مَهْلاً أَبَيْتَ اللَّعْنَ لا تأكلْ مَعَهْ ** إنّ استَه مِنْ بَرَصٍ مُلمَّعَهْ ) ( وإنهُ يُدخِلُ فيها إصْبَعَهْ ** يُدْخِلُهَا حتى يُوارِي أشْجعَه )
كأنما يطلب شيئا ضيعه قال ابنُ الأعرابيّ : فلما أنشدَ الملكَ لبيدٌ في الربيع بن زيادٍ ما أنشد قال الربيعُ : أبيتَ اللَّعن واللّه لقد نكتُ أمَّه قال : فقال لبيد : قد كانت لعَمْرِي يتيمة في حِجْرك وأنتَ ربيتها فهذا بذاك وإلا تكن فعَلْتَ ما قُلتَ فما أولاك بالكذب وإن كانت هي الفاعلة فإنها منْ نِسوةٍ لذلك فُعُل يعني بذلك أن نساءَ عَبْس فَواجرُ لأن أُمه كانت عَبْسيّة .
والعربيُّ يعافُ الشيءَ ويهجو به غيره فإن ابتُلي َ بذلك فَخَر به ولكنه لا يفخرُ به لنفسه مِنْ جهةٍ ما هجا به صاحبه فافهم هذه فإن الناس يَغْلطُونَ على العَرَبِ ويزعُمون أنهم قد يمدَحون )
الشيء الذي قد يهجُون به وهذا باطلٌ ُ فإنه ليس شيءٌ إلا وله وجهان وطَرَفان وطريقان
فإذا مدحوا ذكروا أحسنَ الوجهين وإذا ذَمُّوا ذكروا أٍ قبحَ الوجهين .
والحارثُ بنُ حِلِّزَة فَخَرَ ببكر بنِ وائلٍ على تَغْلِبَ ثم عاتَبهم عِتاباً دلَّ على أنهم لا ينتصفون منهم فقال : ( وأتانا عن الأراقمِ أنبا ** ءٌ وخطبٌ نُعْنَى به ونساءُ ) ( يخلطونَ البريءَ منا بذي الذن ** بِ ولا ينفعُ الخليَّ الخلاءُ ) ( زعموا أن كلَّ منْ ضرب العي ** رَ مَوَالِ لنا وأنا الولاء ) ( إنَّ إخواننا الاراقمَ يغلو ** ن علينا في قولهم إحفاءُ ) ( واتركوا الطيخ والتعاشي وإما ** تتعاشوا ففي التعاشي الداءُ ) ( واذكروا حلفَ ذي المجازِ وما ق ** دِّمَ فيه العهودُ والكفلاءُ ) ( حذَرَ الجورِ والتعدي وهل ين ** قُضُ ما في المهارقِ الأهواءُ )
( واعلموا أننا وإياكم في ** ما اشترطنا يومَ اختلفنا سواءُ ) ( أم علينا جناُ كندةَ أن يغ ** نمَ غازيهمُ ومنا الجزاءُ ) ( أم علينا جرا حنيفة أم ما ** جمعتْ من محاربٍ غبراءُ ) ( أم علينا جراً قضاعةً أم لي ** س علينا فيما جنوا أنداءُ ) ( ليس مِنا المضربونَ ولا قي ** سٌ ولا جندلٌ ولا الحداءُ ) ( أم جنايا بني عتيق . فمن يَغ ** در فإنا من غدرهم برآءُ ) ( عنتاً باطلاً شدوخاً كماتُع ** تر عن حجرةِ لاربيض الظباءُ ) ومن المديح الذي يقبُح قولُ أبي الحَلال في مَرْثِيَةِ يزيدَ بن مُعاويةَ حيث يقول :
( يا أيُّها الميْت بحُوَّاريِنا ** إنّك خيرُ الناسِ أجمعينا ) وقال الآخر : ( مدحتُ خير العالمين عَنْقَشَا ** يشبُّ زهراءَ تقود الأعمشا ) ( إنَّ الذي أمْسى يُسمَّى كُوزَا ** اسماً نبيهاً لم يكن تَنْبيزا ) ( لما ابْتَدَرْنَا القصَبَ المركوزا ** وَجَدْتُني ذا وثْبة أبُوزَا ) ودخل بعضُ أغثاث شعراءِ البَصريين على رجل من أشراف الوجوه يُقال في نسَبِه فقال : إني ) مَدَحْتُكَ بشعر لم تُمْدَحْ قطُُّ بشعر هو أنفعُ لك منه قال : ما أحْوَجَني إلى المنفعة ولا سيَّما كلُّ شيء منه يخلدُ على الأيام فهاتِ ما عندك فقال : ( سَأَلتُ عَنّْ أَصْلِكَ فيما مضى ** أبناءَ تِسْعِين وقد نَيّفُوا )
( فكُلُّهُمْ يخبرُني أنه ** مُهَذَّبٌ جَوْهَرُهُ يُعْرَفُ ) فقال له : قمْ في لعنةِ اللّه وسَخَطِهِ فَلَعَنَكَ اللّه ولعنَ مَنْ سَأَلْتَ ولعنَ من أجابك . ( في السُّخف والباطل ) وسنذكر لك باباً من السُّخْف وما نتسَخَّفُ به لك إذ كان الحق يثقلُ ولا يخفُّ إلا ببعضِ الباطل .
أنشدنا أبو نُوَاسِ في التدليك : ( إنْ تَبْخَلِي بالرَّكَبِ المحلوقِ ** فإنَّ عندي رَاحَتي ورِيقِي ) ومما يُظَنُّ أَنه ولَّدَه قولُه : ( لم أرَ كاللَّيلةِ في التوفيقِ ** حِراً على قارِعةِ الطريق ) كأنَّ فيه لَهَبَ الحريقِ وأنشدني ابن الخارَكي لبعضِ الأعربِ في التدليك : ( لا بارَك الإله في الأحْراحِ ** فإن فيها عَدَمَ اللِّقاحِ ) ( لا خَيرَ في السفاح واللِّقاحِ ** إلا مُناجاة بطونِ الرَّاحِ )
وأنشدني محمد بنُ عَبَّاد : ( تَسْألُني ما عَتِدي وعنددي ** فإنني يا بِنْتَ آلِ مَرْثَدِ ) راحلتي رِجلايَ اسْرَاتِي يَدِي وأنشدني بعض أصحابنا لبعض المدنيِّين : ( أُصفِي هَوى النفسِ غيرَ مُتَّئبٍ ** حَليلةً لا تَسْومُني نَفقَهْ ) ( تكونُ عوني على الزمانِ لِلْ ** كَسْبِ إذا ما أخْفَقْتُ مُرْتَفِقَه ) وشعرٌ في ذلك سمعناه على وجه الدهر وهو قولُه : ( إذا نَزَلْتَ بوادٍ لا أنيسَ به ** فاجلِدْ عُمَيرةَ لا عارٌ ولا حَرَجُ )
وأنشدنا أبو خالد النميري ( لو أنها رَخْصَةٌ قَضَّيْتُ مِنْ وطَري ** لكنََّ جِلْدَتَها تُرْبي عَلَى السَّفَن ) ( أشكو إلى اللّه نعْظا قدْ بُليتُ به ** وما ألاقي مِنَ الإمْلاقِ وَالحزَنِ ) وقال الذَّكوانيُّ يردُّ على الأولِ قولَه : ( جَلْدِي عُميرةََ فيه العار والحُوبُ ** والعَجْزُ مُطَّرح والفُحْشُ مَسْبُوبُ ) ( وبالعراق نساءٌ كَالَمهَا قُطُفٌ ** بأرخصِ السَّوْمِ خَدْلاَتٌ مَناجِيبُ ) ( وما عُميرةُ منْ ثدْياءَ حاليةٍ ** كالعاج صَفّرها الأكنانُ والطِّيب ) قال : مَثَلُ هذا الشعرِ كمثل رجُل قيلَ له : أبوكَ ذاك الذي ماتَ جُوعا قال : فَوَجَدَ شيئاً فلم يأكله وقال الحَرامي : ( عِيَالٌ عالَةٌ وكسادُ سُوقٍ ** وأَيرٌ لا ينامُ ولا يُنِيمْ )
مما قالوا في السرّ ) قال ابن ميّادة : ( أَتُظْهِرُ ما في الصَّدْرِ أمْ أنتَ كاتمُهْ ** وكِتمانُهُ داءٌ لِمَنْ هو كاتمُه ) وتقول العرب : من ارتاد لسِرِّه موضعاً فقد أشاعه .
وأرى الأول قد أذِنَ في واحدٍ وهو قولُه : ( وسِرُّكَ ما كانَ عندَ امرئٍ ** وسرُّ الثلاثةِ غيرُ الخِفي ) وقال الآخر فيما يوافق فيه المثل الأول : ( فلا تُفْشِ سرَّك إلا إليكَ ** فإنَّ لكلِّ نصيحٍ نصيحا )
( فإني رأيتُ غُواة الرجا ** ل لا يترُكون أديماً صحيحا ) وقال مسكينٌ الدََّارِميّ : ( إذا ما خليلي خانني وائتمنتُه ** فذاكَ وداعِيهِ وذاكَ وَداعُها ) ( رَدَدْتُ عليه وُدّهُ وتركتُها ** مطلَّقةً لا يُستطاعُ رِجاعُها ) ( وإني امرؤٌ مني الحياءُ الذي تَرَى ** أعيشُ بأخلاق قليل خِداعُها ) ( أُوَاخي رجالاً لستُ أُطِلعُ بعضَهمْ ** على سرِّ بعض غيرَ أني جِماعُها ) ( يَظلُّونَ شَتَّى في البلادِ وسِرُّهم ** إلى صخرةٍ أعيا الرِّجالَ انصداعُها ) وقال أبو مِحْجَنٍ الثَّقَفيّ : ) ( وقد أجُودُ وما مالي بذي فَنَعٍ ** وأكتُمُ السِّرَّ فيه ضربةُ الْعُنُقِ )
وقال عمر بن الخطاب ، رض الله عنه : من كتم سره كان الخيار بيده وقال بعضُ الحكماء : لا تُطلعْ واحداً من سِرِّك إلا بقدر ما لا تجدُ فيه بدَّاً من معاونتك وقال آخر : إنَّ سِرَّكَ مِنْ دَمِكِ فانظرْ أينَ تُريقُهُ .
وقال الشاعر : ( ولو قَدَرْتُ عَلَى نسيانِ ما اشْتَمَلَتْ ** مني الضلوعُ من الأسرارِ والخَبَرِ ) ( لكنت أوَّلَ من ينسى سرائره ** إذ كنت من نشرها يوماً على خَطَرِ ) وقال الآخر : ( فإذا اسْتَودَعْتَ سِرّاً أحَداً ** فقد استودعت بالسرِّ دَمَكْ ) وقال قيس بنُ الخطيم : ( وإنْ ضَيَّعَ الإخْوانُ سِرّاً فإنني ** كتُومٌ لأَسْرَارِ العَشير أمينُ ) ( يكونُ له عندي إذا ما ائتُمِنْتُهُ ** مكانٌ بسَوداءِ الفُؤَادِ مَكينُ )
وقيل لمَزبِّد : يا مُزَبِّد ما هذا الذي تحتَ حضنك فقال : يا أحمق فلمَ خبأتُه وقال أبو الشِّيص : ( ضعِ السرّ في صَمَّاءَ ليستْ بصخرةٍ ** صَلودٍ كما عايَنْتَ من سائر الصَّخر ) ( ولكنها قلب امرئٍ ذي حفيظةٍ ** يَرَى ضَيْعَةَ الأسرارِ هتراً من الهتر ) وقال سُحَيمٌ الفقعسيّ في نشر ما يُودَعُ من السِّرِّ :
( ولا أكتُمُ الأسرارَ لَكِنْ أُذيعُها ** ولا أدَعُ الأسرارَ تَغْلي عَلَى قلبي ) ( وإن قليلَ العقلِ من باتَ ليلهُ ** تقلِّبه الأسرارُ جنباً إلى جنب ) وقال الفَرّارالسُّلَمى وهذا الشعر في طريقِ شعرِ سُحَيمٍ وإن لم يكن في معنى السرِّ وهو قوله : ( وكتيبةٍ لبستها بكتيبةٍ ** حتى إذا التبستْ نفضتُ بهايدي ) ( وتركتُهُمْ تقصُ الرماحُ ظهورهم ** من بينِ منجدلٍ وآخر مسندِ ) ( ما كانَ ينفعني مقالُ نسائهم ** وقتلتُ دون رجالهمْ : لا تَبْعَدِ ) تخاذل أسلم بن زرعة وقيل لأسلم بن زَرْعة إنك إن انهزمتَ من أصحاب مِرْدَاسِ
بن أديَّة غضِبَ عليك الأمير عبيدُ )
اللّه بن زياد قال : يغضبُ عليَّ وأنا حيٌّ أحبُّ إليَّ مِنْ أن يرضَى عني وأنا مَيِّت .
قال : ووليَ دسْتَبى فخرج إليها في أصحابه فلما شارفَها عرضَتْ له الخوارجُ وكان أكثر منهم عدداً وعُدّة فقال : واللّه لأصافَّنَّهم وَلأُعَبِّيَنّ أصحابين فلعلهم إذا رأوا كثْرَتهُم انصرفوا ولا أزال بذلك قويَّاً في عملي هذا فلما رأت الخوارج كثرةَ القوم نزلوا عن خيولهم فعَرْقَبُوهَا وقطَّعوا أجفانَ سيوفهم ونبذوا كل دقيقِ كان معهم وصَبُّوا أسقِيَتَهُم فلما رأى ذلك رأى الموتَ الأحمر .
فأقبل عليهم فقال : عرقبتم دوابَّكم وقطَّعتم أجفان سيوفِكم ونبذتم دقيقكم خارَ اللّه لنا ولكم ثم ضربَ وجوهَ أصحابه وانصرفَ عنهم .
ضيق النطَّام بِحَمْلِ السرّ وكان أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن سيّارٍ النظَّام أَضْيقَ الناس صدراً بحملِ سرٍّ وكان شرَّ ما يكون إذا يُؤَكِّد عليه صاحبُ السر وكان إذا لم يؤكِّدْ عليه ربما نسِي القِصَّةَ فيسلمُ صاحبُ السرّ .
وقال له مرةً قاسمٌ التمَّار : سبحان اللّه ما في الأرض أعجبُ منك أودعتُك سِرّاً فلم تصبر عن نشره يوماً واحداً واللّه لأشكونّك للناس .
فقال : يا هؤلاء سَلُوه نَمَمْتُ عليه مرةً واحدةً أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً فلمن الذنبُ الآن لم يرضَ بأن يشاركه في الذَّنب حتى صيَّرَ الذّنبَ كله لصاحب السرّ .
شعر في حفظ السرّ ) وقال بعضُ الشعراء : ( هوَى بي إلى حُبِّها نظْرةٌ ** هُوِيَّ الفراشةِ للجاحمِ ) وقال البَعيث : ( فإنْ تَك لَيلَى حَمَّلَتْني لُبانَةً ** فلا وأبي ليلى إذاً لا أخُونُها ) ( حَفِظْتُ لها السرّ الذي كان بيننا ** ولا يحفَظُ الأسرارَ إلا أمينُها ) وقال رجلٌ من بني سَعد : ( إذا ما ضاق صدرُك عن حديثٍ ** فأفشتهُ الرجالُ فمنْ تلومُ ) ( إذا عاتبتُ من أفشى حديثي ** وسري عنده فأنا الظلومُ ) ( وإني حين أسأَمُ حملَ سرى ** وقد ضَمنتُهُ صدري سؤومُ ) ( ولستُ محدثاً سرى خليلاً ** ولا عرسى إذا خطرتْ همومُ ) ( وأطوي السر دونَ الناس إني ** لمكا استودعتُ من سرٍ كتومُ )
عذار شيخ قال : وقيل لشيخٍ : ويحَك هاهنا ناسٌ يسرق أحدُهم خمسين سنة ويزْني خمسين سنةً ويَصْنَع العظائم خمسين سنة وهو في ذلك كله مستور جميل الأمر وأنت إنما لُطْتَ منذُ خمسةِ أشهر وقد شُهرتَ به في الآفاق قال : بأبي أنت ومن يكون سرُّهُ عند الصِّبْيَان أيُّ شيء تكونُ حالُه .
أبو الحسن عن محمد بن القاسم الهاشمي قال : قال العباسُ بن عبد المطلب لعبد اللّه ابنه : يا بُنيّ أنتَ أعْلمُ منّي وأنا أَفْقَهُ منك
إن هذا الرجلَ يُدْنيك يعني عُمَر بن الخطاب فاحفظْ عني ثلاثاً : لاتُفْش له سرّاً ولا تَغْتَابَنَّ عنده أحداً ولا يَطَّلِعَنَّ منك على كِذْبة . ( في ذكر المُنى ) قال : سئل ابن أبي بكرة : أيُّ شيء أدْوَم إمتاعاً قال : المُنَى .
قال : وقال يزيد بن معاوية على مِنبرِه : ثلاثٌ يُخْلِقْنَ العقْل وفيها دليل على الضّعف : سرعةُ الجواب وطُول التمنِّي والاستغراق في الضَّحك .
وقال عبايةُ الجُعْفي : ما سرّني بنصيبي من المنى حُمْرُ النَّعم .
وقال الأصمعي : قال ابن أبي الزِّناد : المنى والحُلُم أخَوانِ .
وقال مُعمَّر بن عَبَّاد : الأماني للنَّفس مثُلُ التُّرَّهات لِلِّسان .
وقال الشاعر : ( اللّهُ أصْدَقُ والآمالُ كاذبةٌ ** وجُلُّ هذِي المنَى في الصَّدور وِسْواسُ ) وقال الآخر : ( إذا تمَنَّيْتُ مالاً بتُّ مُغتبطاً ** إنّ المنى روسُ أموالِ المفاليسِ ) ( لولا المنى مِتُّ من هَمٍّ ومن حَزَن ** إذا تذكرتُ ما في داخلِ الكيسِ ) وقال بعضُ الأعراب :
( أمانيُّ مِن سَلمى حسانٌ كأنما ** سَقتْني بها سَلمَى على ظمأ بردَا ) وقال بشار : ( كَرَرْنا أحاديثَ الزمانِ الذي مَضى ** فلذهَ لنا محمودُها وذمِيمها ) وروَى الأصمعيُّ عن بعضهم أنه قال : الاحتلام أطيبُ من الغِشْيان .
وتمنِّيك لشيء أوفرُ حظاً في اللَّذةِ من قُدْرتك عليه .
قال : كأنه ذَهَبَ إلى أنه إذا ملَكَ وجَبَتْ عليه في ذلك المِلْكَ حقوقٌ وخاف الزوالَ واحتاجَ إلى الحفظ .
وقال : وفي الحديث المأثور : ما عظُمتْ نعمةُ اللَّه على أحدٍ إلاَّ عظمتْ مؤونةُ الناسِ عليه .
قال : وقيل لمزبِّد : أيسرُّك أن عندَك قنِّينةَ شَرَابٍ قال : يا ابنَ أُمِّ من يسرُّهُ دخولُ النار بالمجاز .
قال : وقدّموا إلى أبي الحارث جُمَّيز جامَ خبيصٍ وقالوا له :
أَهذا أطيَبُ أم الفالوذَج قال : لا أقْضي على غائب . )
قال : وقال مَدينيٌّ لرجل : أيسرُّك أن هذه الدار لك قال : نعم قال : وليس إلا نَعَمْ فقط قال : فما أقول قال : تقول : نَعم وأحمّ سَنة قال : نعم وأنا أعْور .
قال : وقيل لمزبِّد : أيسُرُّك أن هذه الجُبَّةَ لك قال : نعم وأُضرَبُ عشرين سوطاً قال : ولمَ تقولُ هذا قال : لأنه لا يكون شيءٌ إلا بشيء .
قال : وقال عبدُ الرحمن بن أبي بَكْرة : مَنْ تمنَّى طول العمر فلْيوَطِّنْ نفسه على المصائِب .
يقول : إنه لا يخلو من موتِ أخٍ أو عمٍّ أو ابن عمٍّ أو صديق أو حَميم وقال المجنون : ( أيا حرجات الحيِّ حيثُ تحملوا ** بذي سلمٍ لا جادَكنّ ربيعُ )
( وخيماتكِ اللاتي بمنعَرج اللوى ** بلينَ بلى لم تبلهنَّ ربوعُ ) ( فقدتكَ من قلبٍ شعاعِ قطالما ** نهيتك عن هذا وأنت جميعُ ) ( فقربت لي غيرَ القريبِ وأشرفتْ ** مناكَ ثنايا ما لهنّ طلوعُ ) ( أمانيّ بعض الخوارج ) قال : وقال عبدُ الرحمن بن محمد بن الأشعث : لولا أربعُ خِصال ما أعطَيتُ عربيّاً طاعة : أو ماتت أمّ عَمْرو يعني أمّه ولو نَسَبْت ولو قَرَأتُ القرآن ولو لم يكن رأسي صغيراً .
قال : وقدِم عبدُ الملك وكان يحبُّ الشِّعر فبعثْتُ إلى الرواة فما أتَتْ عَلَيَّ سنةٌ حتى رويتُ الشاهدَ والمثَل وفَضُولاً بعد ذلك وقِدم
مُصْعبٌ وكان يحبُّ النّسَب فدعوتُ النَّسَّابين فتعلّمتُه قال : وقال يزيدُ بنُ المهلَّب : لا أخرجُ حتى أحجّ وأحفَظَ القرآن وتموت أُمِّي فخرج قبل ذلك كلِّه .
وقال عُبَيْدُ اللّه بنُ يحيى : كان من أصحابنا بمَرْو جماعة فجلَسنا ذات يومٍ نتمنَّى فتمنَّيتُ أن أصيرَ إلى العراق من أيامي سالماً وأن أقْدَمَ
فأتزوّج سَمَاعِ ألي كَسْكر .
قال : فقدِمتُ سالماً وتزوجتُ سَمَاعِ وولِيتُ كسْكَر .
خبر وشعر في نهري دجلة والفرات قال : ووقف هشامُ بنُ عبد الملك على الفرات ومعه عبدُ الرحمنِ بنُ رستَم فقال هشام : ما في الأرض نهرٌ خيرٌ من الفُرات فقال عبد الرحمن : ما في الأرض نهرٌْ شرٌّ من الفرات أوَّلُه للمُشْرِكِين وآخِرُه للمنافقين .
وقال أبو الحسن : الفرات ودِجلة رائِدان لأهل العراق لا يكذبان .
قال الأصمعيّ وأبو الحسن : فهما الرائدان وهما الرَّافدان .
وقال الفرزْدَق : ( أميرَ المؤمنين وأنتَ عَفٌّ ** كريم لستَ بالوالي الحريصِ ) ( ولم يكُ قَبْلهَا راعي مَخَاضٍ ** لِيَأْمَنَهُ على وَرِكَيْ قَلُوصِ ) ( تَفَيْهَقَ بالعِراق أبو المثَنَّى ** وعَلَّمَ قَوْمَهُ أكلَ الخَبيصِ )
قال : وبينا غَيْلان بن خرَشَة يسيرُ معبد اللَّه بن عامر إذ وَرَدَا على نهر أمِّ عبد اللّه فقال ابنُ عامر : ما أنفَعَ هذا النهرَ لأهل هذا المصر قال غيلان : أجَلْ أيها الأمير واللّه إنهم ليَسْتَعْذِبُون منه وتفيضُ مياهُهم إليه ويتعلمُ صبيانهم فيه العَوم وتأتيهمْ مِيرَتهم فيه .
فلما أن كان بعد ذلك سايَرَ ذاتَ يوم زياداً وكان زيادٌ عدُوّاً لابن عامر فقال زياد : ما أضَرَّ هذا النهرَ بأهل هذا المصر فقال : أجَلْ واللّه أيها الأمير تنِزُّ منه دُورُهم ويغرقُ فيه صبيانهم ويُبْعَضون ويُبَرْغَثُونَ .
القول في العصافير وسنقول باسم اللّه وعونه في العصفور بجملةٍ من القول .
وعلى أنّا قد ذكرنا من شأنه أطرافاً ومقطَّعاتٍ من القول تفرّقْنَ في تضاعيف تلك الأصناف وإذا طال الكلامُ وكثُرت فنونه صار الباب القصيرُ من القولِ في غِماره مُسْتَهْلَكاً وفي حومته غَرِقاً فلا بأسَ أن تكون تلك الفقرُ مجموعاتٍ وتلك المقطَّعاتُ موصولاتٍ وتلك الأطراف مستقصياتٍ مع الباقي من ذِكْرِنا فيه ليكون البابُ مجتمعاً في مكانٍ واحد فبالاجتماع تجتمع القوة ومن الأبعاض يلتئم الكُلُّ وبالنظام تظهرُ المحاسن .
دعوى الإحاطة بالعلم ولستُ أدَّعي في شيء من هذه الأشكالِ الإحاطة به والجمعَ لكل شيء فيه ومن عَجَز عن نظم الكثير وعن وضعِه في مواضعه كان عن بُلوغ آخره وعن استخراج كل شيء فيه أعجز والمتح أهونَ من الاستنباط والحصْدَ أيسَرُ من الحرث .
وهذا البابَ لو ضمَّنه على كتابه من هو أكثرُ مني رواية أضعافاً وأجود مني حِفظاً بعيداً وكان أوسع مني علماً وأتمَّ عزماً وألطفَ نظراً وأصدَقَ حِسّاً وأغوصَ على البعيد الغامض وأفهَمَ للعويص الممتنع وأكثرَ خاطراً وأصحَّ قريحةً وأقلَّ سآمَةً وأتمَّ عنايةً وأحسنَ عادةً مع إفراط الشهوةِ وفراغ البال وبُعْدِ الأمَل وقوةِ الطمعِ في تمامه والانتفاع بثمرته ثم مُدَّ له في العمر ومكَّنته المقدرة لكان قد ادَّعى مُعْضِلة وضمِنَ أمراً معجزاً وقال قولاً مرغوباً عنه متعجّباً منه ولكان لغْواً ساقطاً وحارضاً بَهْرَجاً ولكان ممن يفضلُ قوله على فعله ووَعدُه على مقدار إنجازه لأن الإنسان وإن أُضيفَ إلى الكمال وعُرف بالبَراعة وغَمَر العلماء فإنه لا يكْمُلُ أن يُحيط علمُه بكلِّ ما في جناح بَعوضةٍ أيام الدنيا ولو استمد بقوةِ كلِّ نظَّارٍ حكيم واستعارَ حِفظ كلّ بحّاثٍ واعٍ وكلِّ نَقَّاب في البلاد ودَرّاسة للكتب .
تفاوت الخلق في العلم
وما أشكُّ أَن عندَ الوُزراء في ذلك ما ليس عند الرعيَّة من العلماء وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء وعند الأنبياء ما ليس عند الخلفاء وعند الملائكةِ ما ليس عند الأنبياء والذي عندَ اللّه أكثر والخلقُ عن بلوغه أعجز وإنما عَلَّمَ اللّهُ كلَّ طبقة من خَلْقِهِ بِقَدْرِ احْتِمالِ فِطَرِهم ومقدارِ مَصْلحتهم . ( القول في : علَّمَ آدمَ الأسماء كلها ) )
فإن قلت : فقد علَّم اللّهُ عزّ وجلَّ آدمَ الأسماءَ كلّها ولا يجوز تعريفُ الأسماء بغير المعاني وقلتَ : ولولا حاجةُ الناس إلى المعاني وإلى التعاوُن والترَافُد لَمَا احتاجوا إلى الأسماء وعلى أن المعانيَ تفضلُ عن الأسماء والحاجاتِ تجوزِ مقاديرَ السِّمات وتفَوت ذَرْع العلامات فممَّا لا اسم له خاصُّ الخاصّ والخاصِّيَّاتُ كلها ليست لها أسماءٌ قائمة .
وكذلك تراكيب الألوان والأراييح والطعوم ونتائجها .
وجوابي في ذلك : أن اللّه عزّ وجلّ لم يخبرْنا أنه قد كان علَّم آدمَ كلّ شيء يعلمه تعالى كما لا يجوز أن يُقْدِرَه على كلِّ شيء يقدرُ عليه .
وإذا كان العبدُ المحدودُ الجسمِ المحدود القوَى لا يبلُغُ صِفَةَ ربِّه الذي اخترعه ولا صفةَ خالِقه الذي ابتدعه فمعلومٌ أنه إنما عَنَى بقوله : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا ) عِلْمَ مصلحتِه في دُنياه وآخِرته .
وقال اللّه عزّ وجلّ : وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ وقال اللّه عزَّ وجلَّ : وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِ سَبْعَةُ أَبْحرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ وقال اللّه تعالى : يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وقال تَقَدَّسَتْ أسماؤه : وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ وقال اللّه عزَّ وجلّ : وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعلَمُونَ .
وهذا الباب من المعلوم غيرُ باب عِلْم ما يكونُ قبلَ أن يكون لأن بابَ كَانَ قد يُعْلَمُ بعضُه وبابُ يكون لا سبيل إلى معرفةِ شيء منه والمخاطبةُ وقَعَتْ على جميعِ المتعبَّدين واشتملت على جميع أصناف الممتَحَنين ولم تقع على أهْلِ عَصْرٍ دونَ عصر ولا على أهل بلدٍ دونَ بلد ولا على جنسٍ دونَ جنس ولا على تابع دون متبوع ولا على آخرٍ دونَ أوَّل .
( أجناس الطير التي تألفُ دورَ الناس ) العصافير والخطاطيف والزّرازِير والخفافيش فبين هذه وبين الناس مناسَبَةٌ ومُشاكلة وإلْفٌ ومحبّةٌ .
والخطاطيفُ تقطع إليهمْ وتعْزُب عنهم والعصافير لا تفارِقهم وإن وجدَتْ داراً مبنيةً لم تَسْكنْها حتى يَسْكُنَها إنسان ومتى سكنتها لم تُقِم فيها إذا خرج منها ذلك الإنسان فبفراقه تُفارِق وبسُكناه تسكُن وهذه فضيلةٌ لها على الخطاطيف .
الحمام لا يقيمُ معهم في دُورهم إلا بعد أن يثبِّتوه ويعلِّموه ويُرتِّبو حاله ويدرِّجوه ومنها ما هو وحشيٌ طُورانيّ وربما توحّش بعد الأُنْس والعصافير على خلاف ذلك فلها بذلك فضيلةٌ على الحمام وعلى الخُطَّاف .
وقد يُدرَّب العصفورُ ويثَبَّتُ فيستجيبُ من المكان البعيد ويثْبُتُ
ويَدْجُن فهو مما يثبُت ويُعايش الناسَ من تلقاء نفسه مرةً وبالتثبيتِ مرةً وليس كذلك شيء مما يأوِي إلى الناس من الطير .
وقد بلَغني أن بعضَ ما يستجيب منها قد دُرِّبَ فرجع من مِيل فأما الهدايةُ من تلقاء نفسه فمن الفراسخ الكثيرة .
وحدَّثني حَمّوَيْهِ الخُرَيْبيّ وأبو جَرَاد الهزَاردَريّ قالا : إذا كان زمان البيادر لم يبق بالبصرة عُصفورٌ إلا صارَ إلى البساتين إلا ما أقام عَلَى بيضه وفراخه وكذلك العصافير إذا خَرَجَ أهلُ الدّار من الدَّار فإنه لا يقيمُ في تلك الدار عُصفُورٌ إلا عَلَى بيض أو فِراخ فإذا لم يكنْ لها اسْتَوْحَشَتْ والتمستْ لأنفسها الأوكارَ في الدُّور المعمورة ولذلك قال أبو يعقوب إسحاقُ الخُرَيمي : ( فتِلك بغدادُ ما تَبنَّى من ال ** وَحْشةِ في دُورِها عصافِرُها )
قالا : فعلى قدْرِ قُرب القبائل من البساتين سبقُ العصافير إليها فإذا جاءت العصافيرُ التي تلي أقرب القبائل منها إلى أوائل البساتين فوجدت عصافير ما هو أقربُ إليها منها قد سبقت إليها تعدَّتها إلى البساتين التي تليها وكذلك صنيعُ ما بَقِيَ من عصافير القبائل الباقية حتى تصير عصافير آخر البصرة إلى آخر البساتين وذلك شبيهٌ بعشرين فَرْسخاً فإذا قضت حاجتها وانقضى أمرُ البيادر أقبلت من هناك على أماراتٍ لها معروفةٍ وعلامات قائمة حتى تصير )
إلى أوكارها .
ضروب الطير والطيرُ كله على ثلاثة أضرب : فضربٌ من بهائم الطير وضربٌ كسباع الطير وضربٌ كالمشترَك المركَّب منها جميعاً .
فالبهيمة كالحمام وأشباه الحمام مما يَغتذي الحبوبَ والبزُورَ والنبات ولا يغتذي غير ذلك والسبع : الذي لا يَغْتَذِي إلا اللحم .
وقد يأكل الأسدُ الملحَ ليس على طريق التغذي ولكن على طريق التَّملُّح والتحمُّض .
ما يشارك فيه العصفور الطير والحيات فممَّا يُشاركُ فيه العصفور بهائم الطَير أنه ليس بذي مخْلَبٍ ولا مِنْسَر أو هو مما إذا سقط على عُودٍ قَدّم أصابعه الثلاثَ وأخَّر الدّابرة وسباع الطير تقدِّم إصبَعَينْ وتؤخِّر إصبَعَيْنِ .
ومما شارك فيه السَّبع أنَّ بهائم الطير تزقّ فراخها والسِّباع تُلقِم فِرَاخها .
والفراخ على ثلاثة أضربٍ : ففرخٌ كالفرُّوج لا يُزَق ولا يُلْقَم وهو يظهر كاسباً وفرخ كفرخ الْحمام وأشباه الحمام فهو يُزَقُّ ولا يُلْقَم وفرخ كفرخ العُقاب والبازِي والزرّقُ والشاهين والصقر وأشباهِها من
السِّباع فهو يُلقَم ولا يُزقّ فأشبهها العُصفورُ من هذا الوجه .
وفيه من أخلاق السِّباع : أنه يصيد الجرادة والنملَ الطيَّار ويأكل اللحم ويُلقِم فراخَه اللحم وليس في الأرض رأسٌ أشبَهُ برأس حَيَّةٍ من رأس عصفور الأجناس التي تعايش الناس والأجناس التي تعايش الناس : الكلبُ والسِّنّور والفرَس والبعير والحمار والبغل والحمام والخُطَّافَ والزّرزور والخُفَّاش والعصفور .
أطول الحيوان عمراً وأقصره قالوا : وليس في جميعها أطولُ عُمْراً من البغل ولا أقْصَرُ عمراً من العصفور .
قالوا : ونظن ذلك إنما كان لقلَّةِ سِفاد البغل وكثرة سفاد العصفور .
ويزعمون أَن محمدَ بنَ سليمان أنزَى البغالَ على البغلات كما أنزَى العِتاق على الحُجور والبَرَاذِينَ على الرِّماك والحمير على الأتن فوجد تلك الفُحُولة من البغالِ بأعيانها أقصَرَ أعماراً من سائر الحافر حين سوَّى بينها في السِّفاد ووَجد البغالَ تلقح إلقاحاً فاسداً لا يتمّ ولا يعيش . )
وذكروا أن قِصَر العُمر لم يعرض لإناثها كما عَرَض لذكورتها .
وهذا شبيهٌ بما ذكر صاحبُ المنطق في العصافير فإنه ذكر أن إناثها أطولُ أعماراً وأن ذكورتها لا تعيش إلا سنةً واحدة .
أثر السمن في الحمل والمرأة تنقطع عن الحَبل قبل أن ينقطعَ الرجُلُ عن الإحبال بدَهْر وتُفرط في السمن فتصيرُ عاقراً ويكونُ الرجُلُ أسْمَنَ منها فلا يصير عاقراً
وكذلك الحِجر والرَّمَكَة والأتان وكذلك النخلة المطعِمَة ويَسْمَنُ لُبُّ الفُحَّال فيكون أجْود لإلقاحه وهما يختلفان كما ترى .
الأجناس الفاضلة من الحيوان وللعصفور فضيلة أُخرى وذلك أنَّ من فضْل الجنْس أن تتميز ذكورتُه في العين من إناثه كالرجل والمرأة والدِّيكِ والدجاجة والفُحال والمُطعِمة والتَّيْسِ والصفِيَّةِ والطاوس والتٌّ ُدْرُج والدُّرَّاج وإناثها .
وليس ذلك كالحِجْر والفَرَس والرَّمَكةِ والبِرذَون والناقة والجمل والعير والأتان والأسد واللَّبُؤَة فإن هذه الأجناسَ تُقْبِلُ نحوَك فلا ينفصل في العين الأنثى من الذكر حتى تتفقّدَ مواضع القُنْبِ والأطْباء وموضِع الضّرع والثِّيل وموضِعَ ثَفْر الكلبة من القضيب .
لأنّ للعُصفور الذّكَرِ لحيَةً سوداء وليس اللحية إلا للرجل والجمل والتيس والدِّيك وأشباهِ ذلك فهذه أيضاً فضيلةٌ للعُصفور وذكر ابنُ الأعرابيِّ أن للناقة عُثْنُوناً كعثنون الجمل وأنها متى كان عُثنونها أطْوَلَ كان فيها أحْمَدَ .
حب العصافير فراخها وليس في الأرض طائرٌ ولا سبعٌ ولا بهيمةٌ أحْنى على ولدٍ ولا أشدّ به شعَفاً وعليه إشفاقاً من العصافير فإذا أصيبت بأولادها أو خافتْ عليها العَطب فليس بينَ شيء من الأجناسِ من
المساعدة مثلُ الذي مع العصافير لأن العصفورَ يرى الحيَّةَ قد أقبلت نحو جُحره وعُشّه ووَكره لتأكُلَ بيضه أو فراخه فيصيح ويُرَنِّق فلا يسمعُ صوته عُصفورٌ إلا أقبل إليه وصنَعَ مِثلَ صنيعهِ بتحرُّق ولوعةِ وقَلَقٍ واستغاثةٍ وصُراخ وربما أفلت الفرْخ وسقط إلى الأرض وقد ذهبت الحيّة فيجتمعن عليه إذا كان قد نَبَتَ ريشه أدنى نبات فلا يزلْنَ يُهَيِّجْنَهُ ويَطِرْنَ حوله لعلمها أن ذلك يحدِثُ للفَرْخ قوةً عَلَى النُّهوض فإذا نهضَ طِرْنَ حواليه ودونه حتى يحتثِثْنَهُ بذلك العمل .
وكان الخُرَيميّ ينشد :
وينشد : واحْتَثَّ مُحْتَثَّاتُهَا الخَدُورا وتقول العرب : العاشِية تهيجُ الآبية ولو أن إنساناً أخذ فرّْخَيْ عُصْفورٍ من وكره ووضعهما بحيثُ يراهما أبواهما في منزله لوجدَ العصفور يتقحّم في ذلك المنزل حتى يدخل في ذلك القفص فلا يزالُ في تعهُّدِه بما يُعيشه حتى يستغنِيَ عنه ثم يحتملانِ في ذلك غاية التغْريرِ والخِطار وذلك من فرط الرِّقَّة على أولادهما .
ما لا يسمح بالمشي من الحيوان وأجناس الحيوان التي لا تستطيع أن تُسمحَ بالمشي ضروب : منها
الضبع لأنها خُلقت عرْجاء فهي أبداً تخمَع قال الشاعر : ( وجاءتْ جَيْأَلٌ وأبو بنيها ** أَحَمُّ المَأْقِيَيْنِ به خُمَاعُ ) وقال مدرك بن حِصْن : ( من الغُثْرِ ما تَدْرِي أرجُلُ شمالُها ** بها الظَّلع إمَّا هَرْوَلَتْ أمْ يَمينُها ) والذئب أقزل شَنِج النسا وإن أُحِثَّ إلى المشي فكأنه يتوجَّى .
وكذلك الظَّبيُ شَنِجُ النَّسا فهو لا يُسْمِحُ بالمشي قال الشاعر : ظبيٌ أَشعب : إذا كان بعيد ما بين القرنين ولا يسمع له نُباح وإذا أراد العَدْو فإنما هو النَّقْز )
والوثب ورفع القوائم معاً .
ومن ذلك الأسد فإنه يمشي كأنه رَهِيص وإذا مشى تخَلَّع .
قال أبو زبيد : ( إذا تبهْنَسَ يمشي خِلْتَهُ وعِثا ** وعَتْ سواعدُ منه بعد تكسيرِ ) ومن ذلك الفرسُ لا يُسمِح بالمشْي وهو يوصف بشَنَج النسا .
وقال الشاعر : شَنِح الأنْساءِ من غيرِ فَحَجْ
ومن ذلك الغراب فإنه يحجِل كأنه مقيَّد قال الشاعر : ( كتاركِ يوماً مشْيةٍ من سَجِيَّةٍ ** لأُخْرى ففاتَتْه فأصبحَ يحجِلُ ) وقال الطِّرِمّاح : ( شُنِجَ النسا أدفَى الجَناحِ كأنهُ ** في الدّار بعدَ الظَّاعِنين مُقيَّدُ ) والسِّنّورُ والفَهْد وأشباهُهما في طريق الأسَد .
والحيَّة تمشي ومنها ما يَثِب ومنها ما ينتصِبُ ويقومُ على ذنَبه .
والأفعى إذا نَهَشت أو انباعت للنَّهش لم تستقلّ ببدنها كلِّه ولكنها تَستقِلُّ ببدنها الذي يلي الرأس بحركةٍ ونَشْطٍ أسرعَ من اللَّمْح .
والجرادة تطير وتمشي وتطمر فإذا صِرتَ إلى العصفور ذهب المشي البتّة وأكثر ما عند البرغوث الطُّمور والوثوب .
وقال الحسنُ بن هانئ يصفُ رجلاً يفْلي القَمْلَ والبُرغوث بأنامله : ( أو طامريٍّ واثبٍ ** لم يُنْجِهِ منه وِثابُهْ ) لأن البرغوث مشّاء وثَّاب .
قال : وقول الناس : طامر بن طامر إنما يريدون البرغوث .
والعصفور ليس يعرِفُ إلا أنْ يجمعَ رجليه ثم يثِب فيضعهما معاً ويرفَعهما معاً فليس عنده إلا النَّقَزَانُ ولذلك سُمِّي العصفورُ نقَّازاً .
وهو العصفور والجمع عصافير ونقَّاز والجمع نقَاقيز وهو الصّعْو ويزعمون أن العرب تجعلُ الخرّق والقُنْبر والحُمَّر وأشباه ذلك كله من العصافير والعصفور طَيرَانه نَقَزانٌ أيضاً فهو لا ) يُسمِحُ بالطيران كما لا يسمح بالمشي .
شدة وطء العصفور
وليسَ لشيء جسمُه مثلُ جسمِ العُصفور مراراً كثيرةً من شدَّة الوطء وصلابة الوقْع عَلَى الأرض إذا مشى أو عَلَى السطح ما للعصفور فإنك إذا كنتَ تحت السّطح الذي يمشي عليه العصفور حسِبتَ وقْعَه عليه وقْعَ حَجَر .
والكلبُ منعوتٌ بشدة الوطء وكذلك الخِصْيانُ من كل شيء والعصفور يَأخذ بنصيبه من ذلك أكثرَ من قِسْط جِسْمِهِ من تلك الأجسام بالأضعاف الكثيرة .
ما يجيد المشي من الحيوان والذُّباب من الطير الذي يجيدُ المشي ويمشي مشياً سَبْطاً حَثِيثاً وحسناً مستوياً .
والقطاة مَلِيحةُ المِشْية مقاربَة الخطْو .
وقد توصف مِشْيَةُ المرأةِ بمِشية القَطَاة وقال الكُمَيت : ( يمشينَ مَشْيَ قَطَا البُطاحِ تأوُّداً ** قُبَّ الْبُطونِ رَوَاجِحَ الأكْفَالِ )
وقال الشاعر : ( يتمشين كما تم ** شي قطا أو بقراتُ ) لأن البقرةَ تتبخترُ في مِشْيتها .
وقلت لابن دَبُوقاء : أي شيء أول التَّشاجي قال : التباهُر والقَرْمَطة في المشي وقال : وكلُّ حيوان من ذوات الرجلين والأربع إذا انكسرت لها قائمة تحامَلَت بالصحيحة إلا النعامة فإنها تسقُط البتَّة
سفاد العصفور قال : وكثرةُ عددِ السِّفاد والمبالغة في الإبطاء والدّوامُ في كثرة العدد لضروبٍ من الحيوان فالإنسانُ يغلبُ هذه الأجناس بأن ذلك دائم منه في جميع الأزمنة فأما الإبطاءُ في حال السِّفاد فللجمل
والوَرَل والذِّبّان والخنازير فهذه فضيلةُ لذة لهذه الأجناس والأصناف فأما كثرةُ العدَد فللعصافير .
سفاد التيس وقد زعم أبو عبد اللّه العتبيّ الأبْرَصُ وكان قاطعَ الشهادة عند أصحابنا البَصريِّين أن الذي يقال له المِشْرَطِيُّ قَرعَ في يومٍ واحدٍ نيفاً وثمانين قَرْعة .
إلا أن ذلك منه ومن مثله ينمحقُ حتى يعودَ جافراً في الأيام القليلة . ( تيس بني حِمَّان ) وبنو حِمّان يزعمون أن تيسَ بني حِمّان قَرَع وألقَحَ بعد أن ذُبح وفخَرُوا بذلك فقال بعضُ من ( أَلهى بَنِي حِمّان عَسْبُ عَتُودِهم ** عن المجْدِ حتى أَحْرَزَتْه الأكارمُ )
زعم لصاحب المنطق وزعمَ صاحبُ المنطق في كتاب الحيوان أن ثَوْراً فيما سلف من الدهر سَفِدَ وأَلْقَحَ من ساعته بعد أنْ خُصِي .
فإِذا أفرطَ المديحُ وخرجَ من المقدار أو أفرطَ التعجيبُ وخرج من المقدار احتاج صاحبُه إلى أن يثْبته بالعيان أو بالخبر الذي لا يكذّبُ مثله وإلا فقد تعرَّض للتكذيب .
ولو جعلوا حركتهم خبراً وحكاية وتبرؤوا عن عيْنبه ما ضرَّهم ذلك وكان ذلك أصْوَن لأقدارهم وأتمَّ لمروءات كتبهم .
القول في الجناح واليد والرجل وقالوا : وكلُّ طائر جيِّد الجناح يكونُ ضعيفَ الرجلين كالزُّرزُور والخُطَّاف وجناحاهما أجْود من جناح العصفور ورجل العُصفور قويَّة .
والجناحان هما يدا الطائر لأنهم يجعلون كلَّ طائر وإنسان
ذا أربع : فجناحا الطائر يداه ويدا الإنسان جناحاه ولذلك إنْ قُطعت يدُ الإنسان لم يُجِد العَدْو وكذلك إن قُطِعَتْ رجلُ الطائر لم والدابة قد تقوم على رجلين دون يديها والإنسان قد يمشي على أربع قالوا : فَهُم في عدد الأيدي والأرجل سواء وفي الآلات الأربع إلا أن الآلة تكونُ في مكان ببعض الأعمال أليَقَ وهو عليها أسهل فتجذبُها طبائعها إلى ما فيها من ذلك كمشي الدابة عَلَى يديها وثِقَل ذلك على الإنسان .
والحمام يضربُ بجناحِه الحمامَ ويقاتلُه به ويدفع به عن نفسه فقوادمه هي أصابعه وجناحُه هُو يدُه ورجله كالقدم وهي رجلٌ وإنْ سمّوها كفّاً حين وجدوها تكفُّ به كما يصنع الإنسانُ بكفِّه .
وكلُّ مقطوعِ اليدينِ وكل من لم يُخلق له يدانِ فهو يصنعُ برجليه عامَّةَ ما يصنَعُه الوافرُ الخلق بيديه .
وكل سبُع يكون شديدَ اليدين فإنه يكونُ ضعيفَ الرجلين .
وكل شيء من ذوات الأربع من البراثن والحوافر فإن أيديَها
أكبرُ من أرجُلها والناس أرجلهم أكبرُ من أيديهم وأقدامهم أكبر من أكفِّهم .
وجعلوا رُكَبَهُم في أرجُلهم وجعلوا رُكَبَ الدّواب في أيديها .
وللعصافير طَبَاهِجَات وقلايا تُدْعَى العصافيريَّة ولها حَشاوي يطِعمها العوامّ المَفلوجَ والعوامُّ تأكلها للقوَّة على الجِماع وعِظامُ سُوقِها وأفخاذِها أحَدُّ وأذْرَب من الإبر وهي مَخُوفةٌ على المعدة والأمعاء .
وهي تخرِّب السُّقف تخريباً فاحشاً وتجتلبُ الحيّات إلى منازل الناس لحرْص الحياتِ على ابتلاع العصافير وفراخها وبيضها .
عمر العصفور والذين زعموا أن ذكورتها لا تعيش إلا سنةً يحتاجون إلى أن يعرِّفوا الناس ذلك وكيفَ يستطيعون تعريفَهم وقد تكون القُرى بقُرب المزارعِ والبيادر مملوءة عصافيرَ ومملوءة من بَيْضها وفراخها وهم مع ذلك لم يروْا عصفوراً قط ميتاً .
والذين يزعمون أن الذبابَ لا يعيشُ أكثر من أربعين يوماً وكانوا لا يكادون يروْن ذبابة ميتة أعْذرُ لأنهم ذهبوا إلى الحديث وأصحاب الحديث لا يؤاخذون بما يؤاخَذ به الفلاسفة .
والذين زعموا أن البغل إنما طال عمره لقلَّة السِّفاد والعصفورَ إنما قصُرَ عمره لكثرة السِّفاد وغُلمته لو قالوا بذلك عَلى جهة الظنِّ والتقريب لم يلُمْهم أحد من العلماء والأمور المقرّبة غيرُ الأمور الموجَبة فينبغي أن يعرفوا فصْل ما بين الموجب والمقرَّب وفصلَ ما بين الدليل وشبه الدليل ولعلّ طول عمر البغل يكون للذي قالوا ولشيء آخر .
وليس ينبغي لنا أن نجزِمَ على هذه العِلّة فقط إلا بعد أن يحيط علمنا بأن عمرَه لم يفْضُلْ على أعمار تلك الأجناس إلا لهذه العلّة .
بعض خصال العصفور والعصفورُ لا يستقرُّ ما كان خارجاً من وكْره حتى كأنه في دوام الحركة صبيٌّ له صوت حديدٌ مؤْذ .
وزعموا أن البُلبل لا يستقر أبداً وهذا غَلَطٌ لأن البُلبل إنما يقْلَقُ لأنه محصورٌ في قفص والذين عاينوا البلابلَ والعصافير في أوكارها وغير محصورة في الأقفاص يعلَمون فضلَ العصفورِ عَلَى البُلبل في الحركة .
فأما صدْق الحِسِّ وشدَّة الحذَر والإزكان الذي ليس عند خبيث الطير ولا عند الغُرَاب إن عند العصفور منه ما ليسَ عندَ جميع ما ذكرنا لو اجتمعت قوهم ورُكِّبوا في نصاب واحد .
من ذلك أنه يغمّ بحدَّة صوته بعضَ من يقرُب منه فيصيح به ويُهوي بيديه إلى الأرض كأنه يريد أن يرميَه بحجر فلا يراه
يحفِل بذلك فإن وقعت يدُه على حصاةٍ طارَ من قبل أن يتمكّنَ من أخذها .
وزعم صاحبُ المنطق أن بين الحِمار وعصفورِ الشَّوك عداوةً وقال : لأن الحمارَ يدخل الشجر والشّوك فربما زاحَمَ الموضع الذي فيه وَكْرُه فيبدِّد عُشَّه وربما نهق الحِمارُ فسقَطَ فرخُ العُصفور أو بيضه من جوفِ وكْره قال : ولذلك إذا رآه العصفورَ رَنَّق فوقَ رأسه وعلى عينيه وآذاه بطيرانه وصِياحه .
وربّما كان العصفورُ أبْلَق ويصابُ فيه الأصبغ والجرادِيّ والأسود والفيق والأغْبَس فإذا أصابوه كذلك باعوه بالثَّمن الكثير .
وقال أبو بدر الأُسَيديّ : قيل لعبد الأعلى القاصّ : لم سمّي العصفورُ
عُصفوراً قال : لأنه عَصى وقرّ وقيل : ولم سمّي الطَّفْشِيل طفشيلاً قال : لأنه طفا وشال وقيل له : لم سمي الكلبُ القَلَطِيُّ قَلَطِيّاً قال : لأنه قلَّ ولَطِئَ وقيل له : لم سمي الكلبُ السَّلوقيُّ سَلوقيّاً قال : لأنه يسْتَلّ ويَلقَى قال : وحدّثنا سُفيان بن عيينة عن عَمرو بن دِينار عن صُهَيب مولى ابن عامر عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم : ما مِنْ إنسان يقتل عصفوراً أو ما فوقها بغير حقها إلا سأله اللّه عنها قيل : يا رسول اللّه : وما حقها قال : أن تذْبحها فتأكُلَها ولا تقطع رأسَها فترميَ بها .
صياح العصافير ونحوها ويقال : قد صرّ العصفورُ يصرُّ صريراً قال : ويقال للعصافير
والمَكاكيّ والقنابر والْخُرّق والحُمَّر : قد صفَر يصفِرُ صفيراً وقال طَرَفة بنُ العبْد : ( يا لَكِ مِنْ قُبَّرة بمعْمَرِ ** خَلا لكِ الجوُّ فبِيضي واصفِري ) ونَقِّري ما شِيتِ أن تُنَقِّري ويقال : قد نطق العصفور وقال كثَيِّر : ( سوى ذِكرةٍ منها إذا الرَّكبُ عَرَّسُوا ** وهَبَّتْ عصافيرُ الصَّريمِ النواطقُ ) ولذِكْر العصفور موضعٌ آخر : وذلك أنَّ العصافير تصيحُ معَ الصُّبح وقال كلثومُ بنُ عمرو :
( يا ليلةً لي بحُوّارينَ ساهرةً ** حتى تكلم في الصبحِ العصافير ) وقال خلفٌ الأحمر : ( فما أصاتَتْ عصافيرُه ** ولاحت تَباشِيرُ أرْواقِهِ ) وقال الوليد بنُ يزيد : ( فلما أنْ دنا الصبحُ ** بأصواتِ العَصافير )
أحلام العصافير ولها موضع آخر وذلك أنهم يضربون المثلَ بأحلامِ العصافير لأحلام السُّخَفَاءِ وقال دُرَيد بنُ الصِّمَّة : ( يا آلَ سُفيانَ ما بالي وبالُكمْ ** أنتم كثير وفي أحلامِ عُصفورِ ) وقال حسَّانُ بنُ ثابت : ( لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عِظَمٍ ** جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ ) ومن هذا الباب في معنى التَّصغير والتَّحقير قولُ لبيد : ( فإنْ تسألينا فيمَ نحنُ فإننا ** عَصافيرُ من هذا الأنامِ والمسحَّرِ ) المخدَّع على قوله : ونُسحَرُ بالطعامِ وبالشَّرابِ وقال لبيد :
فكأنه يخبر عن ضَعْف طِباع الإنسان .
وقال قوم : المسحّر يعني كلّ ذي سَحْر يذهب إلى الرئة لقوله : ونُسْحَر بالطعامِ وبالشراب
قولهم صريم سحر ولذِكر السَّحْر موضعٌ آخر يقول الرجلُ لصاحبه : صرَمْت سَحْري منك أيْ لستُ منك وقال خُفافُ بن نُدْبة : ( ولولا ابنا تُماضِر أن يُساؤوا ** وأنّي منك غيرُ صَريمِ سَحْرِ ) فكأنه قال : لستُ كذلك منك .
وقال قيسُ بنُ الخطيم : ( تقولُ ظَعينَتِي لما استَقَلَّتْ ** أتَتْرُكُ مَا جَمَعْتَ صَرِيمَ سَحْرِ ) أي قد تركتَه آيساً منه .
وأنشد الآخر :
( أَيَذْهَبُ ما جمعتُ صَرِيمَ سَحْرٍ ** ظلِيفاً أنَّ ذا لهو العجيبُ )
العصفور والضب وإذا وصفوا شدّة الحرّ وصفوا كيفَ يُوفِي الحِرباءُ على العُود والجِذْل وكيف تلجأ العصافيرُ إلى جِحَرة الضِّباب من شدة الحرّ .
وقال أبو زُبَيد : ( أيُّ ساعٍ سعى ليقطع شربي ** حين لاحتْ للصابح الجوزاءُ )
واستكنَّ العصفورُ كزهاً مع الضبِّ وأوفى في عوده الحرباءُ ( ونفى الجندبُ الحصى بكراعي ** هِ وأذْكتُ نيرانها المعزاءُ ) ( من سمومٍ كأنها لفحُ نار ** صقرتها الهجيرةُ الغراء ) وأنشدوا : ( تجاوزتُ والعَصفورُ في الجُحْر لاجئٌ ** مع الضّبِّ والشِّقذانُ تسمو صدورها ) قال : الشِّقْذان : الحَرَابيّ قوله : تسمو أي ترتفع عَلَى رأس العُود والواحد من الشِّقْذان شَقَذَان بتحريك القاف وفتح الشين .
عصافير النعمان وكانوا يقولون : صنعَ به الملكُ كذا وكذا وحَبَاه بكذا وكذا ووهب له مائة من عصافيره .
وعصفور ودَاعر وشاغِر وذو الكَِبْليْن : فحولة إبل النعمان .
وعصافير الرَّحْل واحدها عصفور .
عصفور القواس وعصفور القَوّاس إليه تضاف القِسِيُّ العُصفورية وقد ذكره
ابن يَسير حين دعَا على حمام له بالشّواهين والصُّقورة والسَّنانير والبنادق فقال : ( من كلِّ أكلفَ باتَ يدجنُ ليلهُ ** فغدا بغدوةِ ساغب ممطور ) ( ضرم يقلب طرفه متأنساً ** شيئاً فكنَّ له من التقديرُ ) ( يأتي لهنْ ميامناً ومياسراً ** صكاً بكلِّ مذلق مطورِ ) ( لا ينجُ منه شريدهنّ فإنْ بحا ** شيءٌ فصار بجانبات الدور )
( لمشمرينَ عن السواعدِ خُسر ** عنها بكلِّ رشيقةٍ التوتير ) ( ليس الذي تشوي يداه رمية ** فيهم بمعتذر ولا معذور ) ( ينبوعون مع الشروق غديَّة ** في كل معطيةِ الجذاب نتورِ ) ( ينفثنَ عن جذبِ الأكفِّ سواسياً ** متشابهاتِ صغنَ بالتدوير ) ( تجري لها مهجُ النفوسِ وإنها ** لنواصلٌ سلبٌ من التحسير )
( ما إن ينى متباينٌ متباعدٌ ** في الجو يحسر طرف كل بصير ) ( عن سمتهنَّ إذا قصدنَ لجمعهِ ** متقطراص متضمخاً بعبير ) ( فيؤوب ناجيهنَّ بينَ مجلهق ** دامٍ ومخلوبٍ إلى منسور ) ( عاري الجناح من القوادم والقرا ** كاسٍ عليه بصائرُ التامورِ )
شعر في العصفور وقال أبو السِّرِيّ وهو مَعْدَانُ الأعمى المديبريّ وهو يذكر ظهورًاً لإمام وأشراطَ خُروجه فقال :
كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
( في زمانِ تبيض فيه الخَفاف ** شُ وتُسقَى سُلافَةَ الجِرْيَالِ )
( ويقيم العُصفورُ سِلماً مع الأيْ ** مِ وتحمِي الذِّئابُ لحمَ السِّخالِ
) يقول : إذا ظهر الإمامُ فآية ذلك أنْ تبيض الخفافيش وهي اليومَ تلِدُ
وتحلُّ لنا الخمرُ وتسالِمُ الحيّاتُ العصافيرَ والذئابُ السِّخَالَ .
سجود عيسى بن عقبة ورَوَوْا في طولِ سجودِ عيسى بنِ عُقبة أنه كان يطيل
ذلك حتى يظنّ العصفورُ أنه كالشيء الذي لا يُخافُ جانبه وحتى يظنّ العصفورُ
أنه سارية فيسقط عليه .
وذكر عُمَرُ بن الفضل عن الأعمش عن يزيد بن حَيّان قال :
كان عيسى بن عقبة إذا سجد وقعت العصافيرُ عَلَى ظهره من طولِ سجوده .
وكان محمدُ بنُ طلحةَ يسجُد حتى إن العصافير ليَسْقُطْنَ على ظهره ما يحسِبَنْه إلا حائطاً .
مثل الشيخ والعصفور
وفي المثل : أنَّ شيخاً نصَبَ للعصافير فَخّاً فارْتَبْنَ به وبالفخ وضربه البرد فكلما مشى إلى الفخِّ وقد انضمَّ عَلَى عصفور فقبض عليه
ودقَّ جناحَه وألقاه في وعائه دَمعت عينُه مما كان يَصُكُّ وجهَه من برد
الشّمال قال : فتوامَرَت العصافيرُ بأمره وقلن : لا بأس عليكنَّ فإنه شيخٌ
صالحٌ رحيم رقيقُ الدَّمعة قال : فقال عصفورٌ منها : لا تنظروا إلى دموع
عينَيه ولكن انظروا إلى عمل يديه .
استطراد ومن أمثال العامّة للشيء تتعرّفه بغير مَؤُونة : الحجَرُ مَجّان والعصفور مجّان .
قال : ويقال عصفور وعصفورة . وأنشد قوله : ( ولو أنها عصفورةٌ لحسبْتَها
** مُسَوّمَةٌ تدعو عُبيداً وأزنما ) شعر فيما يصوِّره الفَزَع وقال في هذا
المعنى جريرٌ وإن لم يكن ذكر العصفور حيث يقول : ( مازلتَ تحسِبُ كلَّ
شيءٍ بَعْدَهم ** خيلاً تشدُّ عليكمُ ورجالا ) قال يُونس : أخذَ هذا المعنى
من قولِ اللّه : يَحْسَبُونَ كلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ . )
وقال الشاعر : ( كأن بِلادَ اللّهِ وهْيَ عريةٌ ** عَلَى الخائفِ المطلوبِ كِفَّةُ حابِل )
( يُؤَدِّى إليه أنَّ كلَّ ثنِيَّةٍ ** تَيَمَّمَهَا تَرْمِي إليه بقاتل ) وقال بشّارٌ في شبيه ذلك : ( كأنَّ فؤاده كرةٌ تنزى ** حذارَ البينِ لو نفعَ الحذارُ ) ( جفتْ عيني عن التغميض حتى ** كأنّ جفونها عنه قصارُ ) ( يروعهُ السرارُ بكل ِّ أمرٍ ** مخافةَ أن يكونَ به السرارُ ) وقال عُبيدُ بن أيُّوب : وقال أبان اللاَّحقيُّ : حديث الغاضري ومن مُلح أحاديثِ الأصمعيّ قال : حدَّثني شيخٌ من أهل المدينة وكان عاليَ السِّنِّ قال : قال الغاضري : كانت هذه الأرضُ لقومٍ
ابتدؤوها وشقُّوها وكانت الثمرة إذا أدركتْ قال قائلهم لقيِّمه : اثلُمِ الحائط ليصيبَ المارُّ مما فيه والمعْتَفي ثم يقول : أرْسِلْ إلى آل فلان بكذا وكذا وإلى آل فلان بكذا وكذا فإذا بيعَت الثمرة قال : أرسل إلى فلان بكذا وكذا ودينار وإلى فلان بكذا وكذا فيضج الوكيل فيقول : ما أنت وهذا لا أمَّ لك فلما عُمِرت الأرضون وأغَنَّتْ أُقْطِعَها قومٌ سواهم فإنَّ أحدهم ليسدُّ حائطَه ويصغّر بابَه ثم يُدْلِجُ فيمرُّ فيقول : ما هذه الثُّلمة ويستطيف من وراء الحائط فهو أطول من مَعقِل أبي كريز .
وإذا دخل حائطه دخل معه بقَذَّافة فإذا رأى العصفورَ على القنا رماه فيقع العصفورُ مَشْوِيّاً على قُرْص والقُرْص كالعصفور .
العصافير الهبيرية
وبحمْص العصافيرُ الهُبَيريّة وهي تطعم على رفوف وتكون أسمَنَ من السُّمانَى وأطيبَ من كلّ طير وهي تُهدَى إلى ملوكنا وهي قليلةٌ هناك .وقال الرَّاعي : ( ما زال يركبُ رَوْقَيهِ وكَلْكَلَه ** حتى اسْتَثَارَ سَفاةً دونَها الثَّأَدُ )
( حتى إذا نَطَقَ العصفورُ وانكشفَتْ ** عَمَايةُ الليل عنه وهو مُعتمِدُ ) وقال الراعي : ( وأصْفَر مجدول من القِدِّ مارِن ** يُلاثُ بعينَيها فيُلْوى ويُطْلَقُ ) ( لَدَى ساعِدَيْ مَهْرِيّة شَدَنيةٍ ** أُنِيخَتْ قليلاً والعصافيرُ تنطقُ )
صيد العصافير
قال : وتُصاد العصافيرُ بأهونِ حيلة وذلك أنهم يعملون لها مِصْيَدَةً ويجعلون لها سَلَّة في صورة المِحْبرة التي يقال لها : اليهودية المنكوسة الأنبوبة ثم يُنْزَل في جوفها عصفورٌ واحد فتنقضُّ عليه العصافيرُ ويدْخُلْن عليه وما دخل منها فإنه لا يجد سبيلاً إلى الخروج منها فيصيد الرجُلُ منها في اليوم الواحد المئين وهو وادع وهنّ أسرعُ إلى ذلك العصفورِ من الطير إلى البُوم إذا جُعِلن في المصائد .
ومتى أخذ رجلٌ فراخ العصافير من أوكارها فوضعها في قفص بحيث تراها الآباءُ
والأمّهات فإنها تأتيها بالطُّعم على الخطَر الشديد والخوف من الناس
والسَّنانير مع شدة حذرها ودِقَّة حسِّها ليس ذلك إلا لبرّها بأولادها وشدة
حبّها لها .
في العقارب والفأر والسنانير والجرذان
نقول في العقارب والفأرِ والجرذَان بما أمكن من القول وإنما ذكرنا العقارِبَ مع ذكرنا للفأر للعداوة التي بين الفأر والعقارب كما رأينا أن نذكُر السّنانير في باب ذكر الفأرِ للعداوة التي بينهما .فإِن قلت : قد عرَفنا عداوة الفأر للعقرب فكيف تُعادي الفأرةُ السنّور والفأرة لا تقاوم السنّور قيل : لعَمري إن جِرذانَ أنطاكِيَة لَتُساجِلُ السنانيرَ في الحربِ التي
بينهما وما يقوم لها ولا يقوى عليها إلا الواحد بَعْدَ الوَاحِد وهي بخراسان قويَّةٌ جدّاً وربما قطعتْ أُذنَ النائم .
وفي الفأر ما إذا عضَّ قتل أخبرني أبو يونس الشريطي أنه عاين ذلك .
وأنا رأيتُ سنّوراً عندنا ساور جُرذاً في بيت الحطَب فأفلَتَ الجُرذُ منه وقد فقأ عينَ السِّنَّوْر .
قتال الحيوان والقتالُ يكونُ بين الدِّيَكةِ وبين الكباشِ والكلاب
والسُّمَانَى والقَبج وضروبٍ مما يقبل التَّحريشَ ويواثبُ عند الإغراء .
ويزعمون أنهم لم يَروا قتالاً قطُّ بينَ بهيمتين ولا سبعين أشدَّ من قتال
يكونُ بين جُرذين فإذا ربط أحدُهما بطرَف خيطٍ وشُدَّ رِجْل
الآخر
بالْطّرَف الآخر من الخيط فلهما عند ذلك من الخلب والخَمْش والعضِّ
والتَّنْييبِ والعفاس ما لا يوجد بين شيئين من ذوات العِقار والهراش إلا أن
ذلك ما داما في الرِّباط فإذا انحلَّ أو انقطع ولَّى كلُّ واحد منهما عن
صاحبه وهربَ في الأرض وأخذ في خلاف جهته الآخر .
وإن جُعِلا في إناء
من قوارير أعني الجُرذَ والعقرب وإنما ذكرت القوارير لأنها لا تستر عن
أعيُن الناس صَنيعَهما ولا يستطيعان الخُروجَ لمَلاسة الحيطان فالفأرة عند
ذلك تختِلُ العقربَ
فإن قبضَتْ على إبرتها قَرَضَتها وإن ضربها العقربُ ضرباً كثيراً فاستنفَدتْ سمّها كان ذلك من أسباب حتفها .
قتال العقارب والجرذان
ودخلت مرة أنا وحَمْدان بن الصباح عَلَى عبيد بن الشُّونِيزي فإذا عنده بَرنِيّة زَجاج فيها عشرون عقرباً وعشرون فأرةً فإذا هي تقتتل فخيِّل لي أن تلك الفأرَ قد اعتراها ورمٌ من شدةِ وقْع اللسع ورأيت العقاربَ قد كلَّتْ عنها وتاركتْها ولم أر إلا هذا المقدارَ الذي وصفت .وحدثنا عنها عبيدٌ بأعاجيبَ ولو كان عبيدٌ إسناداً لخبّرت عنه ولكنَّ موضِعَ البياض من هذا الكتابِ خيرٌ من جميع ما كان لعبيد .
تدبير في الجرذ
وللجُرذِ تدبير في الشيء يأكلُه أو يَحسُوه فإنه ليَأتي القارورةَ الضَّيِّقَة الرأس فيحتال حتى يُدْخلَ طرفَ ذَنَبه في عُنِقها فكلَّما ابتلّ بالدُّهنِ أخرجه فلطعَه ثم أعاده حتى لا يدعَ في القارُورة شيئاً .
ورأيتُ من الجرْذان أعجوبةً وذلك أن الصيادة لما سقطت عَلَى جُرذٍ منها
ضخمٍ اجتمعْن لإخراجه وسلِّ عُنقِه من الصيَّادة فلما أعجزهنَّ ذلك قرضْنَ
الموضِعَ المنضمَّ عليه من جميع الجوانب ليتسع الخَرْقُ فيجذبْنه فهجَمْتُ
على نُحاتَةٍ لو اعتمَدْتُ بسكين عَلَى ذلك الموضع لظننْت أنه لم يكن
يمكنني إلا شبيهٌ بذلك .
وزعم بعضُ الأطباء أن السنورَ إنما يدفِنُ
خُرأه ثم يعودُ إلى موضعه فيشتمّه فإن كان يجدُ من ريحه بعدُ شيئاً زاد
عليه من التراب لأنّ الفأرةَ لطيفة الحِسِّ جيِّدةُ الشّمّ فإذا وجدَتْ تلك
الرائحة عرفَتْها فأمعنَتْ في الهربِ فلذلك يصنَع السنَّورُ ما يصنَع .
ولا يشكُّ الناسُ في أن أرضَ سبأ وجنّتَيها إنما خرِبتا حين دخلهما
سيلُ العرِم والعرِم : المسَنّاة وأن الذي فجَّر المسنَّاة وسبّب لدخول الماء الفأرة .
والسّيل إذا دخل أخْرَبَ بقدر قوَّته وقوّتُه من ثلاثة أوجه : إمّا أنْ
تدفعه ريحٌ في مكان يفْحُشُ فيه الريح وإما أن يكون وراءه وفوقه ماءٌ كثير
وإما أن يُصيبَ حَدُوراً عميقاً .
حديث ثمامة عن الفأر
وأما حديث ثمامةَ فإنه قال : لم أرَ قطُّ أعجبَ من قتال الفأر كنتُ في الحبْس وحْدي وكان في البيت الذي أنا فيه جُحرُ فأر يقابلُه جُحر آخر فكان الجُرذ يخرُج من أحد الجُحْرين فيرقص ويتوعّد ويضرب بذنبه ثم يرفع صدره ويهزُّ رأسه فلا يزال كذلك حتى يخرجَ الجرذ الذي يقابله فيصنع كصنيعه فبينما هما إذ عَدَا أحدُهما فَدَخل جُحره ثم صنع الآخرُ مثلَ ذلك فلم يزل ذلك دأبَهما في الوعيد وفي الفِرار وفي التحاجُز وفي ترك التّلاقي إلا أني في كل مرةٍ أظنُّ للذي يظهَرُ لي من جدهما واجتهادهما وشدة توعُّدِهما أنهما
سيلتقيان بشيء أهوَنُه العضّ والخمْش ولا واللّه إن التقَيا قطُّ فعجبتُ من
وعيدٍ دائمٍ لا إيقاعَ معه ومن فِرار دائمٍ لا ثباتَ معه ومن هرب لا يمنعُ
من العَودة ومن إقدامٍ لا يوجبُ الالتقاء كيف يتوعّدُ صاحبه ويتوعدُه
الآخر وبأيّ شيء يتوعدُه وهما يعلمان أنهما لا يلتقيان أبداً فإن كان
قتالهما ليس هو إلا الصَّخَب والتَّنْييب فلِمَ يفرُّ كلّ واحدٍ منهما حتى
يدخل جحره وإن كان غير ذلك فأيّ شيء يمنعهما من الصَّدْمة وهذا أعجبُ .
أطول الحيوان ذماءً وأقصره وتقول العرب : الضبُّ أطولُ شيء ذَماءً .
ولا أعلَمُ في الأرض شيئاً أقصَرَ ذَماءً ولا أضعَفَ مُنّة ولا أجدَر أن يقتُلَه اليسير من الفأر .
لعب السنور بالفأر
وبلغ من تحرُّزِهِ واحتياطه أنه يسكن السقوف فربما فاجأه السِّنَّور وهو يريد أن يعبُر إلى بيته والسِّنَّور في الأرض والفأرةُ في السّقف ولو شاءت أن تدخل بيتها لم يكن للسِّنَّور عليها سبيل فتتحيَّر فيقول السِّنّور بيده كالمشير بيساره : ارجِع فإذا رجعت أشار بيمينه : أن عُدْ فيعود وإنما يطلب أن تَعيا أو تَزْلَق أو يُدَارَ بها ولا يفعل ذلك بها ثلاثَ مرَّات حتى تسقط إلى الأرض فيثبَ عليها فإذا وثَبَ عليها لعِبَ بها ساعةً ثم أكلها وربما خلَّى سبيلها وأظهر التغافل عنها فتمعِن في الهرَب فإذا ظنّتْ أنها نجتْ وثَبَ عليها وثْبة فأخذها فلا يزال كذلك كالذي يحبُّ أن يسخَرَ من صاحبه وأن يخدعه وأن يأخُذَهُ أقوى ما يكون طمعاً في السَّلامة وأن يُورِثَه الحسرَةَ والأسَفَ وأن يلذَّ بتنغيصه وتعذيبه .وقد يفعل مثلَ ذلك العقابُ بالأرنب ويفعل مثل ذلك السِّنَّورُ بالعقرب .
أكل الجرذان واليرابيع والضباب والضفادع
وقال أبو زيد : دخلتُ على رُؤبةَ هو يَمُلُّ جرذاناً فإذا نضجت أخرَجَها من الجمْر فأكلها فقلت له : أتأكل الجرذان قال : هي خيرٌ من اليرابيع والضِّباب إنها عندكم تأكل التَّمْر والجُبْن والسويق والخبز وتحسُو الزَّيتَ والسمن .وقد كان ناسٌ من أهل سِيف البحْر من شِقِّ فارس يأكلون الفأر والضفادع ممقورةً ومملوحة وكانوا يسمونها : جَنْك جَنْك ووَال وَال .
وقال أوسُ بنُ حجَر :
( لحَينَهُمُ لَحّى َ العصَا فطَردنَهم ** إلى سَنَة جِرذانُها لم
تَحَلَّمِ ) يقال : تَحَلَّم الصَّبِيُّ : إذا بدأ في السِّمَن فإذا زاد
عَلى المقدار قيل قد ضَبَّبَ أي سَمِنَ سِمَناً متناهياً .
ويقال : أسْرق من زَبَابَة والزَّبابة : الفأرة ويقال : أسْرَق من جُرَذ .
وقال أنس بن أبي إياس لحارثة بن بدرً حينَ ولِيَ أرض سُرَّق : ( أحارِ بن
بدر قد وليتَ تولايةً ** فكنْ جرذاً فيها تخونُ وتسرقُ ) ( وباهِ تميماً
بالغنى إنّ للغنى ** لساناً به المرء الهيوبةُ ينطق ) ( فإنّ جميعَ الناسِ
إما مكذبٌ ** يقول بما تهوى وإما مصدقُ ) ( يقولون أقوالا ولا يعلمونَها
** وإن قيلَ هاتوا حققوا لم يحققوا ) ( فلا تحقرنْ يا حارِ شيئاً أصبته **
فحظكَ من ملك العراقين سرقُ ) فلما بلغَتْ حارثَةَ بنَ بدر قال : لا يعمَى
عليك الرُّشْد .
طلب كثرة الجرذان
قال : ووقفت عجوزٌ عَلَى قيس بن سعد فقالت : أَشكو إليك قلَّة الجُرذان قال : ما ألطَفَ ما سألتِ لأمْلأَنَّ بيتَك جُِرذاناً تذكر أنَّ بيتها قَفْرٌ من الأَدَم والمأدوم فأكثِرْ لها يا غلامُ من ذلك قال : وسمعت قاصّاً مدينيّاً يقول في دعائه : اللهمّ أكثِرْ جُِرذاننا وأقِلّ صِبياننا .فزع بعض الناس من الفأر
وبين الفأرِ وبينَ طباعِ كثير من الناس منافرةٌ حتى إنّ بعضهم لو وطئ عَلَى ثعبان أو رُمِيَ بثُعبان لكان الذي يدخله من المكروه والوَحْشَةِ والفزَع أيسرَ مما يدخُله من الفأرة لو رُمِيَ بها أو وطئ عليها .وخبرني رجالٌ من آل زائدة بن مقسم أن سليمان الأزرق دُعِيَ
لحيّة شَنْعَاء قد صارت في دارهم فدخلَتْ في جُحر وأنه اغتصبها نفسها حتى قبضَ على ما ألفى منها ثم أدارها على رأسه كما يُصْنَع بالمِخْراق وأهوى بها إلى الأرض ليضربها بها فابتَدَرَتْ من حلْقها فأرة كانت ازْدَرَدَتْها فلما رأَى الفأرةَ هرَب وصرخ صرخة قالوا : فأخذ مشايخُنا الغِلمانَ بإخراج الفأرةِ وتلك الحيّة الشنعاء إلى مجلس الحيّ ليعجِّبوهم من إنسانٍ قتَلَ هذه وفرَّ من هذه .
علة نتن الحيات
وسألتُ بعضَ الحوَّائين ممن يأكلُ الأَفاعيَ فما دونها فقلت : ما بالُ الحيات مُنتنة الجلود والجرُوم قال : أمَّا الأفاعي فإنَّها ليست بمنتنة لأنها لا تأكل الفأر وأما الحيَّات عامة فإنها تطلبُ الفأرَ طلباً شديداً وربما رأيتُ الحيَّة وما يكونُ غلظها إلا مثل غلظ إبهام الكبير ثم أجدُها قد ابتلعت الجُرذَ أغْلَظَ من الذّراع فأنكرَ نتنَ الحيَّات إلا من هذا الوجه ولم أر الذي قال قولاً .
ودخل أعرابيٌّ بعضَ الأمصار فلقِيَ من الجِرذان جَهداً فرجز بها ودعا
عليها فقال : ( يعجلُ الرحمنُ بالعقاب ** لعامراتِ البيت بالخراب ) ( حتى
يُعجِّلنَ إلى الثياب ** كحلُ العيونِ وقصِ الرقاب ) ( مستتبعاتٍ خلفةَ
الأذنابِ ** مثل مداري الحصن السلاَّب )
ثم دعا عليهنَّ بالسَّنَّور فقال : ( أَهْوَى لهنَّ أَنمَرُ الإهاب ** منهرتُ الشِّدْقِ حديدُ النَّابِ ) كأنما بُرْثِنَ بالحِرابِ
التشبيه بالجرذان
وتُوصَف عضلُ الحفَّار والماتح والذي يعمَل في المعادن فتُشَبَّه بالجُرْذان إذا تَفلَّقَ لحمه عن صلابة وصار زِيَماً قال الرَّاجز : أعدَدتُ للوردِ إذا الوِرْدُ حَفَزْ غَرْباً جَرُوراً وجُلالاً خُزَخِزْ( وماتِحاً لا ينْثني إذا احتَجَزْ ** كأنَّ جوفَ جلدِه إذا احتَفَزْ ) في كلِّ عُضو جُرَذَينِ أَو خُزَز
أنواع الفأر
والزَّبابُ والخُلْد واليرابيع والجرذان كله فأر ويقال لولد اليرابيع دِرص وأدراص والخلْد أَعمى لا يزال كذلك والزّبابُ أَصمُّ لا يزالُ كذلك وأنشد : ( وهمُ زَبابٌ حائرٌ ** لاَ تسمعُ الآذَانُ رَعْدا ) هكذا أَنشَدونا .شعر وخبر في الفأر
وأنشد الأصمعي لمزرِّد بن ضِرار في تشبيه الجرع في حُلوق الإبلبجثمان الزَّبابِ وهو الشكل الذي وصفناه فقال في وصف ضيف له سقاهُ فوصف جَرْعه : ( فقلتُ له اشرب لو وجدتَ بهازراً ** طوالَ الذري من مفرهاتٍ خناجر ) ( ولكنما صادفتَ ذوداً منيحة ** لمثلكَ يأتي للقرى غير عاذرِ ) ( فأهوى له الكفين وامتد حلقهُ ** بجرعٍ كأثباج الزبابِ لازنابر ) وقال أعرابيٌّ وهو يطنُز بغريم له ويذكر قرْض الفأر
الصِّكاك عند فراره منه : الزم الصَّكّ لا يقرِضه الفأر تهزَّؤوا به : ( التابعي ناشراً عندي صحيفته ** في السوق بين قطينِ غيرِ أبرارِ ) ( جاءوا إليّ غضاباً يلغطون معاً ** يشفى إراتهمُ أنْ غابَ أنصارِى ) ( لما أبوا جهرةً إلا مُلازَمَتي ** أجمعتُ مكراً بهم في غير إنكارِ ) ( وقلتُ إني سيأتيني غداً جلبي ** وإن موعدكم دار ابن هبارِ )
( وما أواعدهمْ إلا لأربهمْ ** عني فيخرِجُني نقضي وإمراري ) ( وما جلبتُ إليهم غير راحلة ** تخدي برحلي وسيفٍ جفنهُ عاري ) ( إنَّ القضاءَ سيأتي دونه زمنٌ ** فاطو الصحيفة واحفظها من الفارِ ) ( وصفقةٍ لا يقال الربحَ تاجرها ** وقعتُ فيها وقوع الكلب في النار ) والعربُ تعيبُ الإنسانَ إذا كان ضيِّق الفمِ أو كان دقيقَ الخطم يشبّهون ذلك بفمِ الفأرة وقال عَبْدةَ بن الطبيب : يشبهون ذلك بفهم الفأرة . وقال عبدة بن الطبيب : ( ما معَ أنكَ يومَ الوردِ ذو لغطٍ ** ضخمُ الجزارة بالسلمينِ وكارُ )
( تكفي الوليدة في النادي مؤتزراً ** فاحلب فإنك حلابٌ وصرارُ ) ( ما كنت أولَ ضبٍّ صاب تلعتهُ ** غيثٌ فأمرعَ واسترخت به الدارُ ) ( تدعو بنييكَ عباداً وحذيمةً ** فا فأرة شجها في الجُحر محفارُ )
شعر أبي الشمقمق في الفأر والسنور
وقا لأبو الشمقمق في الفأر والسنور : ( ولقد قلتُ حين أقفرَ بيتي ** من جراب الدقيقِ والفخارَه ) ( ولقد كان آخلاً غير قفر ** مخصباً خيرهُ كثير العماره ) ( فأرى الفأر قد تحنبن بيتي ** عائذاتٍ منه بدار الإماره ) ( ودعا بالرحيل ذبانُ بيتي ** بين مقصوصةٍ إلى طياره ) ( وأقامَ السنورُ منهُ من شدةِ الجو ** عِ وعيش فيه أذى ومراره )( قلتُ لما رأيتهُ ناكس الرأ ** سِ كئيباً في الجوف منه حراره ) ( ويكَ صبراً فأنتَ من خير سنَّ ** ور رأتهُ عينايَ قطُّ بحاره ) ( قال : لا صبر لي وكيف مقامي ** ببيوتٍ قفر كجوفِ الحماره ) ( قلتُ : سر راشداً إلى بيت جارٍ ** مخصبٍ رحلهُ عظيمِ التجاره ) وإذا العنكبوتُ تغزلُ في دنى ِّ وحبِّي الكوزِ والقرقارَه
( سقط : بيت الشعر ) ( وأصاب الجحام كلبي فأضحى ** بين كلب وكلبة عياره ) وقال أيضاً : ( ولقد قلتُ حين أجحرني البر ** دُ كما تجحرُ الكلابُ ثعاله ) ( في بييتٍ من الغضارة ى ِ قفر ** ليس فيه إلا النوى والمخاله ) ( عطلتهُ الجرذان من قلة الخير ** وطار الذبابُ نحو زُباله ) ( هار بات منهُ إلى كلِّ خصبٍ ** جيدة لمْ يرتجينَ منهُ بلاله ) ( وأقام السنورُ فقيه بشرٍ ** يسأل الله ذا العلا والجلاله ) ( أن يرى فأرةً فلم ير شيئاً ** ناكساً رأسُهُ لطول الملاله ) ( قلت لما رأيته ناكس الرأس ** س كئيباً يمشي على شرِّ حاله ) ( قلتُ صبراً يا نازُ رأسَ السنا ** نير وعللته بحسن مقاله ) ( قال : لا صبر لي وكيف مقامي ** في قفار كمثل بيد تباله ) ( لا أرى فيه فأرة أنغض الرأ ** س ومشي في البيت مشي خَيَاله )
( قلت : سر راشداً فخارَ لك الله ** ولا تعدُ كربجَ البقاله ) ( فإذا ما سمعت أنَّا بخير ** في نعيم من عيشةٍ ومناله ) ( فائتنا راشداً ولا تعدونا ** إن منْ جازَ رحلنَا في ضلاله ) ( ثمَ ولي كأنه شيخُ سوء ** أخرجوه من محبس بكفاله ) وقال أيضاً : ( نزل الفأرُ ببيتي ** رفقةً من بعد رفقه ) ( حلقاً بعد قطارٍ ** نزلوا بالبيت صَفقه )
( ابن عرس رأس بيتي ** صاعداً في رأس نبقه ) ( سيفه سيفٌ جديدٌ ** شقه من ضلعِ سلقه ) ( جاءنا يطرق بالليل ** فدق الباب دقه ) ( دخل البيت جهاراً ** لم يدع في البيت فِلْقه ) ( وتترسْ برغيف ** وصفقْ نازُويه صفقه ) صفقة أبصرتُ منها في سوادِ العين زرقه ( زرقة مثل ابنِ عرس ** أغبشٌ تعلوهُ بلقه ) وقال أيضاً : ( أخذ الفأرُ برجلي ** جفلوا منها خِفَافِي ) ( وسراويلاتِ سوء ** وتبابينَ ضعافِ )
( سقط : بيتين الشعر ) ( درجوا حولي بزفن ** ويضرب بالدفاف ) ( قلت : ما هذا ؟ فقالوا : ** أنت من أهل الزفاف ) ( ساعةً ثمتَ جازوا ** عن هوايَ في خلافِ ) ( نقروا استي وباتوا ** دون أهلي في لحافِي ) ( لعقوا استى وقالوا ** ريحُ مِسك بسلاَفِ ) ( صفعوا نازويه حتى ** استهلَّت بالرُّعافِ )
أحاديث في الفأرة والهرة
يُرْوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : خمسٌ يُورِثْنَ النسيان : أكلُ التفاح وسُؤر الفأرة والحِجَامةُ في النقرة ونبذُ القَمْلة والبولُ في الماء الراكد .وابن جُريجٍ قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمعَ جابر بن عبد اللّه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : إِذا رَقَدْتَ فَأَغْلِقْ بابَكَ وخَمِّر إناءَكَ وأوْكِ سِقاءَك وأطْفِئْ مصباحَك فإن الشيطان لا يفتح غَلَقاً
ولا يكشف إناءً ولا يحل وكاءً وإن الفأرة الفُويسقة تحرِّق على أهل البيت .
قالوا : في قول النبي صلى الله عليه وسلم في السنانير : إنهنّ من
الطَّوَّافات عليكم وفي تفريقه بين سُؤر السِّنَّور وسُؤر الكلب دليلٌ
عَلَى حُبِّه لاتخاذهنَّ وليْس لاتخاذهنّ وجهٌ إلا إفنَاءَ الفأر وقتلَ
الجُِرذان فكأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أحبَّ استحياءَ السنانير
فقد أحبَّ وعن نافع عن ابن عُمَر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال :
عُذبتِ امرأةٌ في هرّة سجنتْها ويقال : رَبَطَتْها فلم تطْعمها ولم تَسْقها
ولم تُرْسِلْهَا تأكل من خَشَاش الأرض .
وعن أبي سلَمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : دخلَتِ امرأةٌ ممن كان قبلكم النارَ في هرَّة ربطتها فلا هي
أطعَمَتهَا ولا هي تركتْهَا تُصيب من خِشاش الأرض حتى ماتت فأدخِلَتِ النارَ كلما أقبلَتْ نهشَتْهَا وكلما أدْبرتْ نَهَشَتها .
قال : وذكَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم صاحبَ المِحْجَنِ يجرُّ قُصْبَه
في النار حتى قال : وحتى رأيتُ فيها صاحِبةَ الهِرَّةِ التي رَبَطتهَا فلم
تدعْها تأكلُ من خشاش الأرض .
وصف السنور بصفة الأسد
قال ابن يسير في صفة السِّنَّور فوصفه بصفةِ الأسَد إلا ما وصفَه به من التنمير فإن السنوْر يوصفُ بصفة الأسد إذا أرادوا به الصورةَوالأعضاء والوثوب والتخَلُّع في المشي ألا إن في السنانير السودَ والنُّمر والبُلْق والخلنْجِيَّة وليس في ألوانِ الأسد من ذلك شيء إلا كما تروْنَ في النوادر : من الفأرة البيضاء والفاخِتة البيضاء والوَرَشَان الأبيض والفَرَس الأبيض فقال ابن يسير في دعائهِ على حمام ذلك الجار حين انتهى إلى ذكر السنور : ( مما أُعِيرَ مفر أغضف ضيغمٍ ** عن كلِّ أعصلِ كالسنانِ هصُور )
(
متَسربِلٍ ثوبَ الدُّجى أوْ غبشةً ** شبت على متنيه بالتنمير ) ( يختصُّ
كلَّ سليلِ سابقِ غايةِ ** محضِ النجارِ مهذبٍ مخبُورِ ) فزع الناقة من
الهر وإذا وصفوا الناقة بأنها رُواع شديدة التفزُّع لفَرط نشاطها
ومَرَحِهَا وصفوها بأن هِرَّا قد نَيَّبَ في دفِّها وأكثرُ ما يذكرون في
ذلك الهِرّ لأنه يجمعُ العضَّ بالناب والخمشَ بالمخالب وليس كل سَبُعٍ كذلك
.
وقال ضابئ بن الحارث :
( بأدماءَ حُرجُوجٍ ترى تحتَ غَرْزِها ** تهاويلَ هِرًّاً َوْ تَهاوِيلَ أَخْيَلا ) وقد أوس بن حَجَر : ( كأنَّ هرّاً جنيباً تحتَ مَغْرِضها ** والتَفَّ ديكٌ برجْلَيْهَا وخنزيرُ ) وقال عنترة : ( وكأَنَّما ينأَى بجانبِ دفِّها ال ** وَحْشِيِّ من هَزِجِ العَشِيِّ مُؤوَّمِ ) ( هِرٍّ جَنيبٍ كلما عَطَفَتْ له ** غَضْبَى اتّقَاهَا باليدين وبالفمِ )
السنور في الهجاء
ومما يقع في باب الهجاء للسنور قول عبد اللّه بن عمرو بن الوليد في أمِّ سعيد بنت خالد : ( وما السِّنَّوْرُ في نَفْسِي بأَهلٍ ** لِغِزْلانِ الخمائلِ والبرَاقِ ) ( فطلِّقها فَلَسْتَ لها بأهْل ** ولو أَعْطيْتَ هِنداً في الصَّداقِ )الرجم بالسنانير
قال صاحب الكلب : قالوا : ولما مات القصبيّ وكان من موالي بني ربيعة بن حنظلة وهو عمرو القصبي ومات بالبصرة رُجم بالسنانير الميّتة قال : وقد صنعوا شبيهاً بذلك بخالد بن طليق حين زعم أهله أن ذلك كان عن تدبير محمد بن سليمان .
وقالوا : ولم نر الناس رَمَوْا أحداً بالكلاب الميّتة والكلابُ أكثر من
السنانير حيَّة وميّتة فليس ذلك إلا لأن السنانير أحقرُ عندهم وأنتن .
استطراد لغوي قال : ويقال للجرذان العِضلان وأولاد الفأرِ أدراص والواحد
دِرْص وكذلك أولاد اليرابيع يقال : أدراص ودُروص وقال أوسُ بن حَجَر : قال :
واليرابيع ضربٌ من الفأْر قال : ويقال : نفَّق اليربوع ينفِّق تنفيقاً إذا
عمل النافقاء وهي إحدى مجاحره ومحافره وهي النافقاء والقاصعاء
والدَّامَّاء والراهِطاء وقال الشاعر :
( فَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإنْ أدَلَّتْ ** بِعالمةٍ بأَخْلاقِ الكِرامِ ) ( إذا الشيطانُ قَصَّع في قفَاهَا ** تنفّقْنَاه بالحَبْل التُّؤَامِ ) فإذا طلِبَ من إحدى هذه الحفائر نافق أي فخرج النّافقاء وإن طُلِب من النافقاء قصَّع ويقال : أنفقته إنفاقاً : إذا صاح به حتى يخرُج ونَفِقَ هو : إذا خَرَجَ من النافقاء .
احتيال اليربوع
وفي احتيالِ اليرابيعِ بالنافقاء والقاصِعاء والدَّامّاء والرَّاهطاء وفي جَمْعها الترابَ على نفسِ باب الجُحْر وفي تقدمها بالحيلة والحِراسة وفي تغليطِها لمن أرادها والتَّوريةِ بشيء عن شيء وفي معرفتها بباب الخديعة وكيف تُوهِم عَدُوّها خلاف ما هي عليه ثم في وطئها على زمَعاتها في السهولة وفي الأرض اللينة كي لا يعرِفَ أثرها الذي يقتَصُّه وفي استعمالها واستعمال بعض ما يقاربها في الحيلة التوبِير والتوبير : الوطْء على مآخِير أكفِّها العجبُ العجيب .
وزعم أبو عَقيل بن دُرُسْت وشدَّادٌ الحارثيّ وحسين الزهريّ أن الزباء الروميّة إنما عمِلت تلك الأنفاق التي ذكرها الشاعرُ فقال :
( أقام لها على الأنفاقِ عَمرٌ و ** ولم تشعُرْ بأَنَّ لَهَا كمينَا ) على
تدبير اليرابيع في محافيرها هذه ومخارجِها التي أعدَّتها ومداخِلها وعلى
قدر ما يفجَؤُها من الأمر .
وأن أهل تُبَّت والرُّوم إنما استخرجوا الاحتيال بالأنفاق والمطامير والمخارق على تدبير اليرابيع .
اشتقاق المنافق وإنما سمّى اللّه عزّ وجلّ الكافرَ في باطنه المورِّيَ بالإيمان والمستتر
بخلاف ما يُسِرّ بالمنافق على النافقاء والقاصعاء وعلى تدبير اليربوع في
التورية بشيء عن شيء قال الشاعر : ( إذا الشيطانُ قَصَّع في قَفَاها **
تنففَّناه بالحَبْل التُّؤَامِ ) وهذا الاسمُ لم يكن في الجاهلية لمن عمِل
بهذا العمل ولكن اللّه عزّ وجلّ اشتق لهم هذا الاسم من هذا الأصل .
كلمات إسلامية وقد علمْنا أن قولهم لمن لم يُحجّ : صَرُورة ولمن أدرك
الجاهلية والإسلام : مخضرم قولهم وتسميتهم لكتاب اللّه : قرآناً فرقاناً
وتسميتهم للتمسُّح بالتراب : التيمُّم وتسميتَهم للقاذف ب فاسق أن ذلك لم
يكنْ في الجاهلية .
وإذا كان للنابغة أن يبتدئ الأسماء على الاشتقاق من أصْل اللغة كقوله : والنُّؤيُ كالحَوضِ بالمظْلومة الجَلَد )
وحتى اجتمعت العَرب على تصويبه وعلى اتباع أثره وعلى أنها لغة عربية فاللّه الذي لهُ أصلُ اللغةِ أحقُّ بذلك .
شعر شمّاخ في الزّموع وذكر شمَّاخُ بنُ ضرار الزَّموع وكيف تطأ الأرنبُ
عَلَى زَمَعاتها لتغالِطَ الكِلاب وجميعَ ما يطالبها فذكر بديئاً شأْن
العَيرِ والعانة فقال : ( إذا ما اسْتافَهُنَّ ضَرَبْنَ منهُ ** مكان
الرُّمح من أنف القَدُوعِ ) ( وقد جعَلتْ ضَغَائِنهنّ تبدُو ** بما قد كان
نالَ بلا شفيعِ ) ( مُدِلاَّتٍ يُرِدْنَ النّأيَ منه ** وهُنَّ بِعَينِ
مُرْتَقِبٍ تَبُوعِ ) ثم أخذ في صفة العُقاب وصار إلى صفة الأرنب فقال : (
كأنَّ مُتُونَهُنَّ مولِّياتٍ ** عِصِى ُّ جناحِ طالبةٍ لَمُوعِ )
( سقط : بيت الشعر ) ( قليلا ما تريث إذا استفادت ** غريض اللحم عن ضرم جزوع ) ثم قال : ( فما تنفكُّ بين عويرضاتٍ ** تجرُّ برأسِ عكرشةٍ زموعِ ) ( تطاردُ سيد صاراتٍ ويوماً ** على خزانِ قارتاتن الجوعِ ) ( تلوذ ثعالبُ الشرفينِ منها ** كما لاذ الغريمُ من التبيعِ ) ( نماها الغزُّ في قطن نماها ** إلى فرخين في وكر رفيع ) ( ترى قطعاً من الأناش فيها ** جماجمهنَّ كالخشل النزيعِ ) والزَّموع : التي تمشي على زَمعاتها : مآخير رِجْليها
قال أبو المفضل : توبِّر بيديها وتمشي عَلََى زَمَعاتها عَلَى رجليها وهي
مواضع الثُّنَن من الدوابِّ والزَّمَعِ المعلَّقِ خلفَ الظِّلف من الشاة
والظبي والثور قال : وكل ذلك توْبير وهو أن تطأ عَلَى مآخير قوائمها كي لا
يعرفَ أثرها إنسانٌ ولا كلب .
وذكر أنها تطاردُ ذئباً مرّةً وخُزَزاً
مرةً وهو الذَّكر من الأرانب والعِكْرِشة : الأنثى والخِرْنِق : ولدها فإذا
قلتَ أرنب أو عُقاب فليس إلا التأنيث هذه العُقاب وهذه الأرانب إلا أن
تقول : خزَز .
وقطَن : جَبَل معروف والأحناش : الحيات وأحناش الأرض : الضبّ والقنفذ واليربوع وهي أيضاً حشرات الأرض فجعل الحيةَ
حنشاً على قولهم : قد آذَتْني دوابُّ رأسي : يعنون القمل )
وعلى قوله تعالى : مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلا دَابَّة الأرضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ .
قال أبو المفضَّل العنبري : ما أراد إلا الحيّات بأعيانها في هذا الموضع
فإن العِقبان أسرعُ إلى أكل الحيّات من الحيّات إلى أكل الفأر .
ويدلُّ على أنه إنما أراد رؤوسَ الحيَّات بأعيانِها قوله : ( ترَى قِطعاً
من الأحناش فيها ** جَمَاجِمُهُنَّ كالخَشَلِ النزيعِ ) لأن أرؤُسَ الحياتِ
سخيفةٌ قليلة اللّحم والعظام فلذلك شبَّهها بالخَشَل النزيع والخشل :
المُقْل السخيف اليابس الخفيف .
شعر فيه ذكر المقل والحتيّ قال خلف
الأحمر : ( سقى حجاجنا نوء الثريا ** على ما كان من مطل وبخلِ ) ( هم جمعوا
النعالَ فأحرزوها ** وسدوا دونها باباَ بقفلِ )
( إذا أهديت فاكهةً وشاةً ** وعشر دجائجٍ بعثوا بنعلِ ) ( ومسواكينِ طولهما ذرَاعٌ ** وعشر من رديِّ المقلِ خشل ) ( أناسٌ تائهونَ لهم رواءٌ ** تغيمُ سماؤهم من غير وبلِ ) ( إذا انتسبوا ففرعٌ من قُريش ** ولكنْ الفعالَ فعالُ عكلٍ ) والحَتِيّ المقلُ عَلَى وجهه وقال أبو ذؤيب : ( لا دَرَّ درِّيَ إن أطعمتُ نازلَهمْ ** قِرْفَ الحتيِّ وعندي البُرُّ مكنوز )
للسنور فضيلة على جميع أصناف الحيوان ما خلا الإنسان
وإذا قال القائل : فلانٌ وضعَ كتابًاً في أصناف الحيوان فليس يدخل فيها الملائكةُ والجنُّ وعلى هذا كلام الناس .وللحيوان موضع آخر وهو قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه : وَإنَّ الدَّارَ الآخرةَ لَهيَ الحَيَوانُ .
قد علمْنا أن العُجْم من السِّباع والبهائم كلما قرُبت من مُشاكلَة الناس كان أشرف لها والإنسان هو الفصيح وهو الناطق .
إطلاق الناطق على الحيوان وقد يشتقُّون لسائر الحيوان الذي يُصَوِّتُ ويصيح اسم الناطق إذا قرنوه في الذكر إلي الصامت ولهذا الفرق أعطوه هذه المشاكلةَ وهذا الاشتقاق فإذا تهيأ من لسانِ بعضها من الحروف مقدارٌ يَفضُلُ به عَلَى مقادير الأصناف الباقية كان أولى بهذا الاسم عندهم
فلما تهيأ للقَطاةِ ثلاثة أحرف قاف وطاء وألف وكان ذلك هو صوتها سمَّوها
بصوتها ثم زعموا أنها صادقةٌ في تسميتها نفسها قطا قال الكمِيت : (
كالناطقات الصادقا ** تِ الواسقاتِ مِنَ الذَّخائرْ ) وقال الآخر وذَكرَ
القطاة : ( وصادقةٍ قد خَبّرَتْ ما بعَثتْها ** طُرُوقًاً وباقي الليل في
الأرض مُسْدِفُ ) فجعلها مُخْبِرة وجعل خبرها صدقًا حين زعمتْ أنها قطًا
وإنه كانت القطاة لم تَرُمْ ذلك .
والعرب تتوسع في كلامها وبأي شيء
تفاهَم الناسُ فهو بيانٌ إلا أن بعضه أحسنُ من بعض والذي تهيأ للشاةِ قولها
: ما ولذلك قال ذو الرُّمة : ( لا يرفعُ الصَّوْتَ إلا ما تخوّنه ** داعٍ
ينايه باسم الماء مبغُومُ )
وقال أبو عبَّاد النميريّ لخربَق
العُمَيري وكان يتعشَّقه ورآه قد اشترى أُضْحِى ةَ فقال : ( يا ذابح الماه
ماه ** فعلْتَ فعل الجفاه ) ( أما رَحِمْتَ مِنَ المو ** تِ يا خريبق شاه )
والصبيان هم الذين يسمون الشاة : ماه كأنهم سموْها بالذي سمعوه منها حينَ
جهلوا اسمها .
وزعم صاحبُ المنطق أن كل طائر عريض اللسان والإفصاح بحروف الكلام منه أوجَد .
ولابن آوى صياح يشبهُ صياحَ الصبيان وكذلك الخنزير وقد تهيأ للكلب مثلُ : عَفْ عَفْ ووَوْ ) وَوْ وأشباه ذلك وتهيَّأ
للغراب القاف وقد تهيَّا للهزاردَسْتان وهو العندليب ألوانٌ أُخر وقد تهيَّأ للببغاء من الحروف أكثر فإذا صرْتَ إلى السنانير وجدتها قد تهيَّأ لها من الحروفِ العددُ الكثير ومتى أحبَبتَ أن تعرِفَ ذلك فتسمّعْ تجاوُبَ السنانيرِ وتوعُّدَ بعضها لبعض في جوف الليل ثم احصِ ما تسمعه وتتبَّعْه وتَوَقَّفْ عنده فإنك ترى من عدد الحروف ما لو كان لها من الحاجات والعقولِ والاستطاعات ثمّ ألّفَتْهَا لكانت لغة صالحة الموضع متوسِّطة الحال العلة في صعوبة بعض اللغات واللغاتُ إنما تشتدُّ وتعسُرُ عَلَى المتكلم بها عَلَى قدْر جهله بأماكنها التي وَُضعت فيها وعَلَى قدْر كثرةِ العدد وقلَّته وعلَى قدْر مخارجها وخفَّتها وسَلَسهَا وثقلها وتعقُّدِها في أنفسها كفرق ما بين الزِّنجي والخُوزي فإن الرجل يتنخَّس في بيع الزّنج وابتياعهم شهراً واحداً فيتكلَّمُ بعامّة كلامِهم ويبايع الخُوزَ ويجاورُهم زمانًاً فلا يتعلَّق منهم بطائل .
والجملة : أنَّ مِنْ أعْوَنِ الأسباب
عَلَى تعلُّم اللغة فرط الحاجةِ إلى ذلك وعلى قدْر الضرورة إليها في
المعاملةِ يكونُ البلوغُ فيها والتقصير عنها .
والسنور يناسبُ الإنسان
في أمور : منها أنه يعطِسُ ومنها أنه يتثاءَب ومنها أنه يتمطَّى ويغسل
وجهه وعينَيه بلعابه وتلطع الهرّةُ وبرَ جلدِ ولدِها بعد الكبر وفي الصغر
حتى يصير كأن الدهان تجري في جلده .
ما يتهيأ للغربان من الحروف ويتهيأ لبعض الغِرْبان من الحروف والحكايةِ ما لا يَعْشِره الببغاء .
نفع الفأر
وزعمت الأطباء أن خُرْءَ الفأر يُسقاهُ صاحبُ الأسر فيُطْلَق عن بوله والأسر هو حُصر البول ولكن لا يسمّى بذلك وهو الأسر بالألف دون الياء .
ويصيب الصبيَّ الحُصر فيحتمل من خرْء الفأر فيُطْلق عنه فقد تهيأ في خرء
الفأر دواءان لداءين قاتلين مجْهزين ولذلك قيل لأعرابيّ قد اجتمعتْ فيه
أوجاعٌ شداد : أيَّ شيءٍ تشتكي قال : أمّا الذي يعْمدني فحُصرٌ وأُسْر .
استطراد لغوي
يقال : خَثَى الثور يَخْثي خثْيًا وواحد الأخثاء خِثْيٌ كما ترى .قال ابنُ الأعرابيّ : لا يكون النّجوُ جََعرًاً حتى يكون يابساً .
ويقال : ونَم الذُّبابُ واسم نجوِه : الونيم وقال الشاعر :
( وقد وَنَمَ الذُّبابُ عليه حتى ** كأنَّ ونِيمهُ نَقْط المِدَادِ ) وهو
ونِيم الذُّباب وعُرَّة الطائر وصوم النّعام ورَوث الحمار وبعر البعير
والشاةِ والظبي وخِثي البقر .
وقال الزُّبير : منْ أهْدَى لَنَا مِكْتلاً من عُرَّةٍ أّهدَيْيَا لهُ مِكْتَلاً منْ تمر .
قال : العرَّة اسمٌ لجميعِ ما يكونُ من جميعِ الحيوان ولذا قال الزبيرُ ما قال .
قال : ويقال : رَمَصَت الدجاجة وذرقت وسَلَحت فرذا صاروا إلى الإنسان والفأرة قالوا : خرء الإنسان وخُرء الفأرة ويقال
خروءة الفأرة أدخلوا الهاء فيه كما قالوا ذكورة للذُّكران وقد يُستعار ذلك
لغير الإنسان والفأرة قالت دَخْتَنُوس بنتُ لقيط بن زُرارة في يوم شِعب
جَبَلة : ( فرّت بنو أسَدٍ خرو ** ءَ الطَّير عن أربابها ) فلذلك يقال لبني
أسد : خروء الطير وقيل لهم : عبيد العَصَا .
ببيت قاله صاحبهم بشر بن أبي خازم قالها لأوس بن حارثة :
ميسم الشعراء
فيحبُ على العاقل بعدَ أن يعرف مِيسم الشِّعرُ مَضَرّتَه أن يتَّقِي لسانَ أخسِّ الشُّعراء وأجهلهم شِعراً بشِطْر ماله بل بما أمكَن من ذلك فأما العربيُّ أو المولى الرَّاوية فلو خرجَ إلى الشعراء من )جميع مِلكه لما عنّفْتُه .
والذي لا يكثرث لوقْع نِبَال الشعر كما قال الباخَرْزيّ : ( ما لي أرَى الناسَ يأخُذُونَ ويُعطُو ** نَ ويستَمْتعون بالنَّشَبِ ) ( وأنتَ مثلُ الحمار أبهَمُ لا ** تشكو جراحاتِ ألْسُنِ العَرَبِ ) ولأمر مّا قال حذيفةُ لأخيه والرماحُ شوارعُ في صدره : إياك والكلاَمَ المأثور .
وهذا مذهبٌ فَرَعتْ فيه العربُ جميع الأمم وهومذهبٌ جامع لأسباب الخير .
استطراد لغوي
قال : ويقال لموضع الغائط : الخَلاء والمذْهب والمخْرَج والكنيفُ والحُشُّ والمرحاض والمِرْفق .وكل ذلك كناية واشتقاق وهذا أيضًاً يدلك على شدة هربهم من الدناءة والفُسولة والفحْش والقذَع .
وخبرني أبو العاص عن يونس قال : ليس الرجيع إلا رجيعَ
القول والسَّفر والجِرَّة قال اللّه تعالى : والسّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وقال الهذليُّ وهو المتنخِّل : ( أبيضَ كالرّجْعِ رسوبٌ ٍ إذا ** ما ثاخ في مُحْتَفَلٍ يَخْتلي ) وفي الحديث : فلما قدِمنا الشامَ وجدْنا مرافقهم قد استُقْبلَ بها القِبْلة فكنَّا ننحَرِف ونستغفرُ اللّه
( شعر ابن عبدل في الفأرة والسنَّور ) وقال ابن عَبدَل في الفأرة والسنَّور : ( يا أبا طلحةًَ الجوادَ أغثني ** بسجالي من سيبك المقسوم ) ( أحي نفسي فدتك نفسي فإني ** مفلسٌ قد علمتَ ذاك عديم ) ( أو تطوعْ لنا بسلفِ دقيق ** أجرُه إن فعلتَ ذاك عظيمْ ) ( قد علمتُم فلا تعامس عنِّي ** ما قضى الله في طعام اليتيم ) أراد : لا تعامَسُوا فاكتفى بالضمة من الواو وأنشد : ( فلو أنَّ الأطبَّاء كان حولي ** وكان مع الأطباء الأساة ) ( وكساء أبيعه برغيفٍ ** قد رقعنا خروقه بأديمْ ) ( وإكاف أعارنيه نَشِيطٌ ** هو لحافٌ لكلِّ ضيف كريمْ )
( ونبيدٍ مما يبيع صُهيبٌ ** يذر الشيخَ رمحه ما يقومْ ) ( ربِّ حلا فقد ذكرتُ أصيصي ** ولحافي حتى يغورَ النجومْ ) ( كل بيت عليه نصفُ رغيف ** ذاك قسمٌ عليهمُ معلومْ ) ( فر منه موليا فارُ بيتي ** ولقد كان ساكناً ما يريمْ ) ( قلتُ : هذا صومُ النصارى فحلوا ** لا تليحُوا شيوخَكم في السَّمومْ ) ( ضحكَ الفأرُ ثم قلن جميعاً ** أهو الحقُّ كلَّ يومٍ تصُومْ ) ( قلتُ : إن البراء قد قامَ في ال ** ناسِ بإذنٍ وأنتَ فينا ذميمْ ) ( حملوا زادهم على خنفسات ** وقراد مخيس مزمُومْ ) ( وإذا ضفدعٌ عليه إكاف ** علموه بعد النفار الرسيمْ ) ( خطموا أنفهُ بقطعة حبل ** يا لقومي لأنفِه المخطُومْ ) ( تصبُوا منجنيقهم حولَ بيتي ** يا لقومي لبيتيَ المهدومْ )
( وإذا في الغباء سمُّ بُرَيص ** قائمٌ فوقَ بيتنا بقدومْ ) ( قلنَ : لولا سنورتاهُ احتفرنا ** مسكناً تحتَ تمرهِ المركوم ) ( إن تُلاقِ سنورَتَاهْ فضاءً ** تذرانا وجمْعُنا كالهزيمْ ) ( عششَ العنكبوت في قعر دنى ** إن ذا من رَزِيتي لعظيم ) ( ليتني قد غمرت تدنى حتى ** أبصرَ العنكبوتَ فيه يعومْ ) ( غرقاً لا يغيثه الدهرَ إلا ** زبدٌ فوقَ رأسهِ مركوم ) ( مخرجاً كفه ينادي ذباباً ** أنْ أغثني فإنني مظلوم ) ( قال ذرني فلنْ أطيقَ دنواً ** من نبيذ يشمه المزكوم )
وقال في الفأر والسنور : ( قد قثال سنورنا وأعهدهُ ** قد كان عضباً مقوهاً لسنا ) ( لو أصبحت عندنا جنازتها ** لحنطت واشترى لها كفنَا ) ( ثم جمعنْا صحابتي وغدوا ** فيهم كريبٌ يبكي وقام لنا ) ( كلُّ عجوزٍ حلو شمائلها ** كانت لجرذانِ بيتنا شحنا ) ( من كلِّ حدباء ذاتِ خشخشةٍ ** أو جرذٍ ذي شوارب أرنا ) ( سقياً لسنورِة فجعتُ بها ** كانت لميثاء حقبةً سكنا ) قال : والفأر ضروب : فمنها الجُرذان والفأر المعروفان وهما كالجواميس والبقر وكالبُخْت والعِراب ومنها الزباب ومنها الخُلدْ
واليرابيع شكلٌ من الفأر اسم ولدِ اليربوع دِرص مثل ولد الفأر .
ومن الفأْر فأرةُ المِسك وهي دويْبةٌ تكونُ في ناحية تُبّت تصادُ لنوافجها
وسُرَرِها فإذا اصطادها صائدٌ عصَب سُرّتَها بعصاب شديد وسُرّتها مدلاة
فيجتمع فيها دمها فإذا أحكَم ذل ذبحها .
وما أكثَر من يأكلها فإذا
ماتت قوّر السرةَ التي كان عصبَها له والفأْرة حيّة ثم دفنها في الشعير حتى
يستحيلَ ذلك الدمُ المحتقِنُ هناك الجامدُ بعد موتها مِسكاً ذَكياً بعد أن
كان ذلك الدَّمُ لا يُرام نَتْناً .
قال : وفي البيوت أيضاً قد يوجد فأْرٌ مما يقال له : فأْر المسك وهي جرذانٌ سودُ ليس عندها إلا تلك الرائحة اللازمةُ له .
قال : وفي الجِرذان جنْسٌ لها عبثٌ بالعقود والشُّنوف والدراهم والدنانير على شبيه بالذي عليه خُلُق العَقعَق إلا أن هذه الجرذان
تفرح بالدنانير والدراهم وبخشخاش الحلي وذلك أنها تخرجُها من حجورها في
بعض الزمان فتلعب عليها وحواليها ثم تنقلها واحداً واحداً حتى )
فزعم
الشَّرقيُّ بنُ القُطاميّ وقد رَوَوْهُ عن شَوكَر أن رجلاً من أهل الشام
اطَّلع على جُرُذ يُخرجُ من جُحره ديناراً ديناراً فلما رآه قد أخرج مالاً
صالحاً استخفَّه الحِرصُ فهمّ أن يأخُذَهُ ثم أدركه الحزْم وفتح له الرزقُ
المقسوم باباً من الفطنة فقال : الرأيُ أن أمْسِك عن أخذه ما دامَ يخرجُ
فإذا رأيتُهُ يُدخِلُ فعند أَوَّلِ دينار يغيّبه ويُعيده إلى مكانه أثِبُ
عليه فأجترفُ المال .
قال : ففعلتُ وعدتُ إلى موضعي الذي كنتُ
أراه منه فبينما هو يُخْرجُ إذ ترك الإخراج ثم جعل يرقصُ ويثبُ إلى الهواء
ويذهبُ يَمنة ويَسرةً ساعة ثم أخذ ديناراً فولَّى به فأدخله الجُحر فلما
رأيتُ ذلك قمتُ إلى الدنانير فأخذتها فلما عادَ ليأخذَ ديناراً آخر فلم يجد
الدنانير أقبل يثبُ في الهواء ثم يضربُ بنفسه الأرضَ حتى مات .
وهذا
الحديثُ من أحاديثِ النساء وأشباه النساء . ( باب آخر يدَّعونه للفأْر )
وهو الذي ينظر فيه أصحاب الفِراسة في قرض الفأر كما ينظر بعضهم في الخيلان
وفي الأكتاف وفي أسرار الكفّ : ويزعمون أنَّ أبا جعفر المنصور نزلَ في بعض
القُرَى فقرض الفأْرُ مِسْحاً له كان يجلسُ عليه فبعث به ليُرفَأَ فقال لهم
الرفَّاء : إنَّ هنا أهل بيتٍ يَعْرفون بقَرضِ الفأْر ما ينال صاحب
المتاعِ من خير أو شر فلا عليكم أن تعرضوه عليهم قبل أَن تصلحوه فبعث
المنصورُ إلى
شيخهم فلما وقعت عينُه على موضعِ القرضِ وثَب وقام
قائماً ثم قال : مَن صاحبُ هذا المِسح فقال المنصور : أنا فقام ثم قال :
السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمةَ اللّه وبركاتُه واللّه لَتَلِيَنَّ
الخِلافة أو أكون جاهلاً أو كذاباً .
ذكر هذا الحديث عَمرو بن مجمِّع السَّكوني الصَّرِيمي وقد قَضَى على بعض البلدان .
فأرة المسك
وسأََلت بعضَ العطارين من أصحابِنا المعتزلةِ عن فأْرةِ المسكِ فقال : ليس بالفأْرة وهو بالخِشف أشبه ثم قصَّ عَلَيَّ شأْن المسك وكيف يُصْطنع وقال لولا أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قد تطيَّب بالمِسْكِ لَمَا تطيّبْت به فأَمَّا الزبادُ فليس مما يقرب ثيابي منه شيء .
قلت له :
وكيف يرتَضِع الجديُ من لَبَنِ خنزيرة فلا يحرمُ لحمه قال : لأنَّ ذلك
اللبن استحال لحماً وخرجَ من تلك الطبيعة ومن تلك الصورة ومن ذلك الاسمِ
وكذلك لحومُ الجلاَّلة فالمسكُ غيرُ الدَّم والخَلُّ غير الخمر والجوهرُ
ليس يحرُم بعينه وإنما يحرم للأعراض والعِلَل فلا تَقَزَّزْ منه عند تذكرك
الدَّم الحقين فإنه ليس به وقد تتحوَّل النار هواءً والهواءُ ماءً فيصير
الشبه الذي بين الماء والنار بعيداً جدّاً .
بيت الفأر
والجِرذانُ لا تحفِرُ بيوتها على قارعةِ طريقِ وتجتنبُ الخفض لمكان المطَر وتجتنبُ الجوَادَّ لأن الحوافر تهدمُ عليها بيوتها فإذا أخرجها وقعُ حافر فرس مع هذا الصَّنيع دلّ ذلك على شدة الجري والوقع وقال امرؤ القيس يصفُ فرسَه : ( فللسوطِ ألهوبٌ وللرجل درةٌ ** وللزجرِ منه وقعُ أهوَجَ منعبِ )( فأدرك لَمْ يعرق مناطُ عذارهِ ** يدرُّ كخُذْرُوفِ الوليد المثقبِ ) ( ترى الفأر في مستعكد الأرضِ لاجثاً ** إلى جَدَدِ الصحراء من شدِّ مُرَكبِ ) خفاهُنَّ : أظهرهنَّ وقرأ بعضهم : إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أَخْفِيها بفتح الألف أي أظهرها وقال امرؤ القيس : ( فإن تَدْفِنُوا الداءَ لا نخْفِهِ ** وإن تبعثوا الحربَ لا نقعُدِ )
وقال أعرابيّ : إن بني عامرٍ جَعَلَتنِي على حنديرة أعينُها تريد أن تختفيَ دمي .
وقال أبو عبيدة : أربعة أحرف تهمزُها عُقَيل من بين جميع العرب تقول : فأرة ومُؤْسَى وجُؤْنة وحُؤت .
فأصناف ما يقع عليه اسمُ الفأرة : فأرة البيش وفأرة البيت
وفأرة المِسْك وفأرة الإبل وفي فأرة المسك يقول حُمَيْدٌ الأرقَط : (
مَمْطورَة خالَطَ منها النَّشْرُ ** ذا أرَجٍ شُقِّقَ عنه الفأْرُ )
وفي فأرة الإبل قال الشاعر : ( كأَنّ فأرةَ مِسْك في مباءتها ** إذا بدا من
ضياء الصُّبح تبشيرُ ) وهذا شبيهٌ بالذي قال الراعي وليس به : ( تبيتُ
بناتُ القَفْر عند لَبَانِهِ ** بأَحْقَفَ من أنقاء تُوضِحَ هائلِ ) ( كأَن
القِطارَ حرَّكتْ في مَبِيته ** جَذِيّةَ مِسكٍ في مُعَرَّس قافِلِ )
الأصمعي وأبو مهدية قال الأصمعيّ : قلت لأبي مهدية : كيف تقول : لا طيبَ إلا المِسْك قال : فأين أنتَ من العنبر قال : فقلت : لا طيب إلا المسك والعنبر قال : فأَين البان فقلتُ : لا طيب إلا المسك والعنبر والبان قال : فأَين أنت عنْ أدهان بحَجْر قال : فقلت : لا طيب إلا المسك والعنبر والبان قال : فأين أنت عن أدهان بحجرْ قال : فقلت : لا طيب إلا السك والعنبر والبان وأدهان بحَجْر قال : فأَين فأْرة الإبل صادرة قال الأصمعيّ : وفأْرة الإِبل .
فأرة البيش والسمندل
وفأْرة البيش دوْيَّبة تغْتذِي السُّمومَ فلا تضرها والبِيش سمّ وحكمه حُكم الطائر الذي يقال له : سَمَنْدَل فإنه يسقُط في النار فلا يحترق ريشَه .
ما لا يقبل
الاحتراق ونُبِّيت عن أمير المؤمنين المأْمون أنه قال : لو أُخِذَ
الطُّحْلَب فجفف في الظِّلِّ ثم أسقِطَ في النِّيران لم يحترق .
ولولا ما عاينوا من شأْن الطَّلَق والعُود الذي يُجاء به من كَحِرْ لاشتدَّ إنكارهم .
وزعم ابن أبي حرب أن قَيسّاً راهنَ عَلَى أن الصليبَ الذي في عُنقه من
خشبٍ أنه لا يحترق لأنه من العود الذي كان صُلب عليه المسيح وأنه كان يفْتن
بذلك ناساً من أَهل النظر حتى فطن له بعضُ المتكلمين فأَتاهم بقطعة عودٍ
يكون بكِرمان فكان أبقى عَلَى النار من صليبه .
مساوي السنانير
قال صاحب الكلب : والسنور لصٌّ لئيم وشَرِهٌ خَؤُون فمن ذلك أن صاحب المنزل يرمي إليه ببعض الطعم فيحتملُه احتمالَ المُريب واللصِّ المغير حتى يُولج به خَلْفَ حُبّ أو رَاقود أو عِدْلٍ أو حطب ثم لا يأْكله إلا وهو يتلفَّت يميناً وشمالاً كالذي يخافُ أن يُسْلَبَ ما أُعطيَ أو يُعْثَرَ على سَرِقته فيعاقَب ثم ليس في الأرض خِبْثَةٌ إلا وهو يأْكلها مثل الخنافس والجِعْلان وبناتِ وَردان والأوزاغ والحيّاتِ والعقاربِ والفأْر وكلِّ نتن وكل خبْثة وكلِّ مستقذَر .وهذه الأنعامُ تدخل الغيض فتجتنبُ مواضع السمومِ بطبائعها وتتخطاها ولا تلتفت لِفْتها وربما أشكل الشيءُ على البعير فيمتَحِنُه
بالشَّمة الواحدة فلا تغلط الإبلُ إلا في البيش وحده ولا تغلط الخيل إلا في الدِّفلى وحدَه .
والسنانيرُ تموت عن أكْل الأوزاغ والحيّات والعقارب وما لا يحصى عدده من
هذه الحشرات فهذا يدلُّ عَلَى جهل بمصلحةِ المعاش وعَلَى حسٍّ غليظ وشَرَهٍ
شدِيد . هَيْج الحيوان قالوا : وكل أنثى من جميعِ الحيوانِ ما خلا المرأةَ
فلا بدَّ لها من هَيج في زمان معلوم ثم لا يُعْرف ذلك منها وفيها إلا
بالدلائل والآثار أو ببعض المعاينة .
وإناثُ السنانير إذا هجن
للسِّفاد آذَيْن بصياحهنَّ أهلَ القبائل ليلاً ونهاراً بشيء ظاهر قاهر عليّ
لا يعتريهن فَترةٌ ولا مَلالةٌ ولا سآمة فربَّ رجُل حُرٍّ شديدِ الغَيرة
وهو جالسٌ مع نسائه وهُنَّ يتردّدْن عَلَى مثل هذه الهيئة ويصرُخْن في طلب
السِّفاد فكم من حرة قد خجِلت وحُرّ قد انتقضت طبيعته .
وليس لشيء من فحولتها مثلُ ذلك فكل جنس في العالم من الحيوان فذكورته أظهر هيجاً إلا السَّنانير .
وليس لشيء من فحولة الأجناس مثلُ الذي للجمل من الإزباد وهِجْران الرَّعْي
وتركِ الماء حتى تنضمَّ أياطله ويتورَّمَ رأسُه ويكون كذلك الأيامَ
الكثيرة وهو في ذلك الوقت لو حُمِّل على ظهره مع امتناعه شهراً من الطعام
ثلاثةَ أضعافِ حِمْله لحملَهَا .
المكي وإسماعيل بن غَزْوان ونظر المكيّ إلى جمل قد أزبدَ وتلغّم وطار على رأسه منه كشقَق البِرْسِ وقد زمّ بأنْفه وهو )
يهدر ويقبقب لا يعقل شيئاً إلا ما هو فيه فقال لإسماعيل بن غزوان : واللّه
لودِدْت أن أهل البصرةِ رأوني يوماً واحداً إلى الليل عَلَى هذه الصفة
وأَنِّي خرجتُ من قليلِ مالي وكثيره فقال له إسماعيل : وأي شيء لك في ذلك
قال : كنت واللّه لا أصبح حتى يوافِيَ داري جميعُ نساء أهل البصرة
وجَواريكَ فيهنَّ فلا أبدأ إلا بهنّ قال إسماعيل : إنك واللّه ما سبقتَني
إلا إلى القول وأما
حال بعض الحيوان عند معاينة الأنثى وللحمار والفرَس عندَ معايَنَةِ الحِجْر والأتان هَيْجٌ وصياحٌ وقلق وطلب والجملُ يقيم على تلك الصِّفةِ عاين أو لم يعاين ثم يُدنى من هذه الذُّكورة إناثُها فلا تسمحُ بالإمكان إلا بعد أن تسوَّى وتُدَارَى .
مقارنة بين السنور والكلب
قالوا : والسنانير إذا انتقل أربابها من دارٍ إلى دارٍ كان وطنُها أحبَّ إليها منهم وإن أثبَتت أعيانهم فإن هم حوّلوها فأنكرت الدار لم تقِمْ عَلَى معرفتهم فربما هربت من دارهم الحادثة ولم تعرف دارَهم الأولى فتبقى متردِّدة : إما وحْشية وإما مأخوذةً وإما مقتولة .والكلب يخلِّي الدار ويذهب مع أهل الدار والحمام في ذلك كالسنور .
اختلاف أثمان السنور
قال صاحب الكلب : السنور يسوَى في صغره دِرهماً فإذا كبر لم يَسْوَ شيئاً وقال العمّيّ : ( فإنَّكَ فيما قد أَتَيْتَ من الْخَنَا ** سَفاهاً وما قد رِدْتَ فيهِ بإفراطِ ) ( كسِنَّوْرِ عَبْدِ اللّه بِيعَ بدِرْهَمٍ ** صغيراً فلمّا شَبَّ بِيعَ بقيراطِ ) وصاحب هذا الشعر لو غَبرَ مع امرئِ القيس بن حُجْر والنابغةِ الذُّبياني وزهير ابن أبي سُلْمَى ثم مع جرير والفرزدق والراعي والأخطل ثم مع بشار وابن هَرْمة وابن أبي عُيينة ويحيى بن نوفل وأبي يعقوب الأعور ألف سنة لما قال بيتاً واحداً مرضياً أبداً .
وقد يضاف هذا الشعر إلى بشَّار وهو باطل . حُلاق الحيوان وزعم لي مَنْ لا
أردُّ خبرَه أن الحُلاقَ قد يَعرض للسنانير كما يعرِض للخنازير والحمير .
وزعم لي بعضُ أهلِ النظر أنّ الزِّنج أشبهوا الحميرَ في كلِّ شيء حتى في الحُلاق فإنه ليس على ظهرها زنجيٌّ إلا وهو حَلَقيّ .
وقد غلط ليس عليها زنجيٌّ عليه مَؤُونة من أن يُنَاك وليس هذا تأويلَ الحُلاق وتأويلُ الحُلاق أن يكون هو الطالب .
والنبيذ يهتِكُ ستر الحَلَقيّ وينقُضُ عزْم المتجَمِّل وهم يشربون النبيذ أبداً وسوءُ الاحتمال له وسرعة السكْر إليهم عامٌّ فيهم .
وعندنا منهم أممٌ فلو كان هذا المعنى حقّاً لكان علمُه ظاهراً فخبَّرني
صاحبُنَا هذا أن في منزل أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكِنْدي هرّين ذكرَين
عظيمين يكونُ أحدُهما الآخَر ، وذلك كثيرا
ما يكون . وأن المنكوح لا يمانع الناكح ، ولا يلتمس منه مثل الذي يبذله له .
أكل الهرة أولادها
قالوا : والهرة تأكل أولادَها فكفاك بهذه الخصْلة لُؤْماً وشَرَهاً وعُقوقاً وغِلظَ قلب وقال السيِّد الحميريِّ وذكر مَسيرَ عائشة رضي اللّه تعالى عنها إلى البصرةِ مع طلحةَ والزُّبير حينَ شهِدَتْ ما لم يشهَدَا وأقدمت على ما نكَصا عنه : ( جاءت مع الأشقَينَ في هَودجٍ ** تُزْجي إلى البَصرةِ أجنادَها ) ( كأَنَّها في فِعْلِهَا هِرَّةٌ ** تُرِيد أن تأكلَ أولادها ) ولبئس ما قال في أُمِّ المؤمنين وبنت الصدّيق وقد كان قادراً على أن يوفِّر على عليٍّ رضي اللّه عنه فضْله من غير أن يشتُم الحَوَارِيِّينَ وأُمّهَاتِ المؤمنين ولو أراد الحقَّ لسار فيها وفي ذكرها سيرةَ علي بن أبي طالب فلا هو جعل عليّاً قدوة ولا هو رعَى للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حرمة .
وذكورة سنانير الجيران تأكلُ أولادَ الهرة ما دُمنَ صغاراً
أو فوقَ الصغار شيئاً وتقتلها وتطلبها أشدَّ الطلب والأمهات تحرُسها منها
وتقاتلُ دونَها مع عجزها عن الذكورة .
الألوان الأصيلة في الحيوان قال
أبو إسحاق : السنور الذي هو السنور هو المنمّر وهو الأنمر وهو الذي يُقال
له : البقّاليّ وذلك لكثرة اتخاذ البقالين لها من بين سائر السنانير لأنها
أصيد للفأر .
قال : وجميعُ ألوانِ السنانير إنما هي كالشِّياتِ الدَّاخلةِ على اللون .
قال : وكذلك الحمار إنما هو الأخضر والألوانُ الأُخَرُ داخلةً عليه .
قال : فأَما الأسدُ فليْستْ بذاتِ شيات ولا تعدو لوناً واحداً ويكونُ ذلك اللونُ متقارباً غير متفاوتٍ .
أحوال إناث السنانير وذكورها
قال : ومن فضيلةِ ما في السنانير أنها تضَعُ في السَّنَةِ مرتين وكذلك الماعزة في القرى إلا ما داس الحبَّ .
قال : ويحدُث لإناث السنانير من القوة والشجاعة إذا كامها الفحل وهرب منها عند الفراغ فلو لِحقَتْهُ قطَّعته .
ويحدثُ للذكر استخذاءٌ كما يحدُث للذئب القويِّ إذا ناله الخدشُ اليسير
ويحدث للضعيف من الجرأةِ عليه حتى يثبَ عليه فيأْكلَه فلا يمتنعَ منه كما
قال الشاعر : ويحدث مثلُ ذلك للجرذ إذا خُصِي من الحَرْد على سائر الجِرذان
حتى يثب فيقطِّعها وتهرب منه ضعفاً عنه .
وسائرُ الحيوانِ إنما يعتريه الضَّعفُ عن أمثاله إذا خُصي وترك أمثالُه على حالها .
قول زَرَادشت في الفأر والردُّ عليه ثم رجَعنا إلى قول زَرادُشتَ في الفأْر .
زعم زَرَادُشتُ أن الفأْرة من خَلْق اللّه وأن السنَّوْرَ من خَلْق الشيطان فقيل للمجوس : ينبغي على أصل قولكم أن يكون الشيءُ
الذي خلق اللّهُ خيراً كله ونفعاً كلُّه ومرفقا كله ويكونَ ما خلقَ
الشيطان على خلافِ ذلك ونحن نجدُ عياناً أن الذي قلتم به خطأ رأينا الناس
كلهم يرون أن الفأرَ بلاءٌ ابتلوا به فلم يجدوا بدّاً من الاحتيالِ لصرْف
مضرَّته كالداء النازل الذي يلتمسُ له الشفاء ثم وجدناهم قد أقاموا
السنانير مُقامَ التداوي والتعالُج وأقاموا الفأر مُقامَ الداء الذي أنزله
اللّه وأمر بالتداوي منه فاجتلبوا لذلك السنانير وبناتِ عِرْس ثم نصبوا لها
ألوانَ الصيَّادات وصنعوا لها ألوان السُّموم و المعجونات التي إذا أكلت
منها ماتَت واسْتَفْرَهُوا السنانير واختاروا الصيَّادات .
واجتَبوا
السِّنَّور دون ابن عِرس لأن ابنَ عِرسٍ يعمل في الفأر والطير كعَمل
الذِّئبِ بِالغنم فأوّل ما يصنع بالفريسة أن يذبَحها ثم لا يأْكلُها إلا في
الفَرْط والسّوْر يقتل ثم يأكل فالفار من السنورِ أشدُّ فَزَعاً وهو الذي
قوبل به طباعها وطباعه .
وكما أن الذي يأكل الدجاجَ كثيرٌ وأن الذي جُعِل بإزائِه ابن آوى وكما أن الذي يأكل الغَنمَ كثيرٌ والذي جعِلَ بإزائها الذئب . )
والأسد أقوى منه على النعجة والنَّعجة من الذِّئب أشد فَرَقا .
والحيَّاتُ تُطَالِبُ الفأرَ والجِرذان وهي من السنور أشد فزَعاً .
وإن كان في الجُرذان ما يُساوي السنور فإنها منه أشد فزعاً .
فإن كنتم إنما جعلتموه من خلْق الشيطان لأكْلِهِ صِنفاً واحداً من خلق اللّه فالأصناف التي يأكلُها من خَلق الشيطان أكثر .
وزعم زَرَادُشْت أن السِّنَّوْرَ لو بال في البحر لقَتَلَ عشرة آلافِ سَمَكة .
فإن كان إنما استبْصَر في ذمِّه في قتل السمك فالسمكُ أحقُّ بأنْ يكون من
خلق الشيطان لأن السمكَ يأكلُ بعضه بعضاً والذكر يتبع الأنثى في زمان طرْح
البيض فكلما قذفتْ به التهمه وإن غرِق إنسان في الماء بحراً كان أو وادياً
أو بعضُ ذواتِ الأربع فالسمكُ أسرعُ إلى أكله من الضِّباع والنسورِ إلى
الجِيَف .
وعلى أنَّ اعتلاله على السنور وقوله : لو بال في البحر قتل عشرة آلافِ سمكة فما يقول فيمن زَعَم أن الجُرذَ لو بالَ في البحر قَتَلَ
مائة ألف سَمَكة وبأي شيء يَبين منه وهل ينبغي لمن كسر هذا القول الظاهر الكسْر المكشوف المُوق أن يفرح وهل تقرُّ الجماعةُ والأممُ بأنَّ في الفأر شيئاً من المرافق وهل يُمازجُ مضَرَّتَها شيءٌ من الخير وَإن قلَّ أو ليست الفأْرُ والجِرذانُ هي التي تأْكل كُتُبَ اللّه تعالى وكتبَ العِلْم وكتب الحساب وتقرِض الثِّيَابَ الثمينةَ وتطلب سِرَّ نوى القطن وتُفسد بذلك اللُّحُفَ والدَّواويج والجباب والأقبية والخفاتين وتحسُو الأدهان فإن عجزتْ أفواهُها أخرجَتْهَا
بأَذنابها أو ليست التي تنقب السِّلال وتقرض الأوكية وتأكل الجُرُب حتى يُعلَّقَ المتاعُ في الهواء إذا أمكن تعليقُه .
وتجلبُ إلى البيوتِ الحيّاتِ للعداوة التي بينها وبين الحيَّات و لحرْص
الحيَّات على أكلها فتكون سبباً في اجتماعها في منازلهم وإذا كثُرن قتلنَ
النفوس .
وقال ابن أبي العجوز : لولا مكان الفأر لما أقامت الحيَّاتُ في بيوت الناس إلا ما لا بال به من الإقامة .
وتقتل الفسيل والنخل وتهلك العلفَ والزرع وربما أهلكن القَرَاحَ كله وحملْنَ شعير الكدْس وبُرَّه .
أو ليس معلوماً من أخلاقها اجتذابُ فتائل المصابيح رغبةً في تلك الأدهان حتى ربما جذَبتْها )
جهلاً وفي أطرافها الأخر السُّرج
تستوقد فتحرق بذلك القبائلَ الكثيرة بما فيها من الناس والأموال والحيوان .
وهي بعدُ آكل للبيض وأصناف الفِراخ من الحيَّات لها .
فكيف لم تكن من هذه الجهة من خَلْق الشيطان .
هذا وبين طِباعها وطِباع الإنسانِ مُنافرةٌ شديدةٌ ووَحْشةٌ مفْرِطة وهي
لاتأنسُ بالناس وإن طالتْ معايشتُها لهم والسِّنَّوْرُ آنسُ الخلق بهم .
وكيف تأنس بهم وهم لا يُقلعون عن قتلها ما لم تقلع هي عن مَساءتهم فلو
كنَّ مما يؤكل لكان في ذلك بعض المرفق فكيف وإنها لتُلقى في الطريق ميّتة
فما يعرض لها الكلبُ الجائع .
فالأمم كلها على التفادي منها واتخاذ السنانير لها .
وزَرَادُشْت بهذا العقل دعا الناس إلى نكاح الأمهات وإلى
التوضؤ بالبول وإلى التوكيل في نيك المُغِيبات وإلى إقامة سُورٍ للسُّنْبِ وصاحب الحائض والنفساء .
علة نجاح زرادشت ولولا أنَّه صادف دهراً في غاية الفسادِ وأُمَّةً في غاية
البُعْد من الحرية ومن الغَيْرة والألفة ومن وقد زعم ناسٌ أن ذلك إنما كان
وإنما تمَّ لأنه بدأ بالملك فدعاه على قدْر ما عرَف من طباعه وشهوته
وخُلُقه فكان الملكُ هو الذي حَمَل على ذلك رعيَّتَه .
والذي قال هذا
القولَ ليس يعرف من الأمور إلا بقدر ما باينَ به العامّة لأنه لا يجوز أن
يكون الملكُ حملَ العامّة على ذلك إلا بعد أن
يكون زَرَادشتُ ألْفى
على ذلك الفسادِ أجنادَ الملك ولم يكن الملك ليقوى على العامة بأجناده
وبعشرة أضعاف أجناده إلا أن يكون في العامة عالمٌ من الناس يكونون أعواناً
للأجناد على سائر الرعية .
وعلى أن الملوكَ ليس لها في مثل هذه الأمور
عِلَّةٌ تدعو إلى المخاطرةِ بملكها وإنما غايةُ الملوكِ كل شيء لابد
للملوك منه فأمَّا ما فضَل عن ذلك فإنها لا تخاطر بأصول المُلك تطلُب
الفضول إلا من كان مُلْكه في نصاب إمامة وإمامتُه في نصاب نُبوّة فإنه
يتَّبع كلّ شيء توجبه الشريعة وإن كان ذلك سبيلَ الرأي لأن الذي شرع
الشريعة أعْلَمُ بغيب تلك المصلحة وقد ينبغي أن يكون ذلك الزمان كان أفسدَ
زمان وأولئك الأهل كانوا شرّ أهل ولذلك لم تر قطُّ ذا دين تحوّل إلى
المجوسِيَّة عن دينه ولم يكن ذلك المذهبُ إلا في شِقِّهِم وصُقْعهم من
فارسَ )
والجبالِ وخراسان وهذه كلها فارسية .
أثر البيئة في العقيدة فإن تعجّبْت من استسقاطي لعَقْلِ كِسْرَى أبرَويز وآبائه
وأحْبَائه وقَرابينه وكُتَّابه وأطبائه وحكمائه وأساورته فإني أقول في ذلك قولاً تَعرف به أني ليس إلى العصبيّة ذهبت .
اعلم أني لم أعْنِ بذلك القولِ الذين وُلدوا بعدُ على هذه المقالة ونشؤوا
على هذه الدِّيانة وغُذُوا بهذه النِّحلة ورُبُّوا جميعاً على هذه الملة
فقد علِمْنا جميعاً أن عقولَ اليونانيةِ فوقَ الدِّيانة بالدهرية
والاستبصار في عبادة البروج والكواكب وعقول الهند فوقَ الديانة بطاعة
البُدِّ . وعبادة البِدَدَة وعقول العرب فوق الدِّيانة بعبادة الأصنام
والخشب المنجور والحجر المنصوب والصخرة المنحوتة .
فداء المنشأ والتقليد داءٌ لا يُحْسِنُ علاجَه جالينُوس ولا غيرُه
من الأطباء وتعظيمُ الكبراءِ وتقليدُ الأسلاف وإلْفُ دينِ الآباء والأُنس
بما لا يعرفون غيره يحتاج إلى علاج شديد والكلام في هذا يطول .
فإن آثرت أن تتعجب حتى دعاك التعجُّب إلى ذكر أبرويز فاذكر ساداتِ قُريش فإنهم فوق كسرى وآل كسرى .
دفاع صاحب السنور
وقال المحتجُّ للسنانير : قد قالوا : أبر من هرَّة وأعق من ضَبٍّ وهذا قول الذينَ عاينوها تأكلُ أولادها وزعموا أن ذلك من شدة الحبِّ لها وقال بعضهم : إنما يعتريها ذلك من جنونٍ يعتريها عند الولادة وجوعٍ يذهبُ معه علمها بفرْقِ ما بين جِرائها وجِراء غيرها من الأجناس ولأنها متى أُشْبِعَتْ أو أطعمت شِطْرَ شِبَعها لم تعرض لأولادها والرد على الأمم أمثالها عملٌ مسخوط والعربُ لا تتعصب للسنّور عَلَى الضبِّ فيُتوهَّم عليها في ذلك خلافُ الحقِّ وإنما هذا منكم عَلَى جهة قولكم في السنور إذا نَجَث لنجْوه ثم ستره ثم عاودَ ذلك المكان فشمّه فإذا وجد رائحةً زاد عليه من
التراب فقلتم : ليس الكرمَ وستر القبيح أراد وإنما أراد تأنيس الفأر فنحنُ
لا نَدَعُ ظاهر صنيعَه الذي لا حُكم له إلا الجميل لِمَا يدّعي مُدّعٍ من
تصاريفِ الضمير وعلى أن الذي قلْتموه إن كان حقّاً فالذي أعطيتموه من فضيلة
التدبير أكثر مما سلبْتموه من فضيلة الحياء .
العيون التي تسرج بالليل قال : والعيون التي تُسرج باللي : عيون الأسْد والأفاعي والسنانير والنُّمور .
والأُسْدُ سُجْر العيون وعيون السنانير منها زُرق ومنها ذهبية كعيون أحرار
الطير وعِتاقها ( ثَريدٌ كأنّ السّمْنَ في حَجَرَاتِه ** نُجومُ
الثُّريَّا أو عُيُون الضَّيَاوِنِ ) الضَّيون : السّنّور .
تحقيق في الألوان وإذا قال الناس : ثوب أزرق فإنهم يذهبون إلى لون واحد
وإذا وصفوا بذلك العينَ وَقَعَ على لونين لأن البازي يسمى أزرق وكذلك
العقاب والزُّرَّقُ وكل شيء ذهبيُّ العَين فإذا قالوا : سنور أزرق لم
يُدْرَ أذهبوا إلى ألوان الثياب أم إلى ألوانِ عيون البزاة .
وقد قال
صُحَارٌ العبديُّ حين قال له معاوية : يا أزرق قال : البازي أزرَق وأنشد : (
ولا عَيْبَ فيها غيرَ شُكْلَةِ عينِها ** كذاك عِتاقُ الطيرِ شُكْلٌ
عيونُها ) والذهب قد يقال له أصفر ويقال له أحمر .
وقال بعض بني مَرْوَانَ لبعض ولد متمِّم بن نُويرة : يا أحمر قال : الذهَب أحمر فلذلك زعم أن ) عِتاقَ الطير شُكلٌ عيونها .
وقال الأخطل : ( وما زالت القَتْلَى تمُورُ دماؤُهم ** بدِجْلَةَ حتى ماءُ
دِجلة أشكلُ ) فالشُّكلة عندهم تقع على الصُّفرة والحمرة إذا خالطا غيرهما
.
الزرق العيون من العرب
فمن الزرق من الناس صُحارٌ العبديُّ
وعبدُ الرحمن ابنُه وداوُد بن متمِّم بن نويرة والعباس بن الوليد بن عبد
الملك بن مروان ومرون بن محمد بن مروان وسعيد بن قيس الهمداني وزرقاءُ
اليمامة وهي عَنْز من بنات لُقمان بن عادِيا .
ومن الزُّرق ممن كانوا
يتشاءمون به : قيس بن زهير وكان أزرق وكان بكراً وابن بِكْرين وكانت
البسوسُ زَرْقَاءَ وبكراً بنتَ بِكرين ولها حديث لا أحقّه .
وكانت الزّبّاء زرقاء والزرْق العيون من بني قَيس بن ثعلبةَ منهم المرقِّشان وغيرهما .
الحمر الحماليق من العرب والحمرُ الحماليق من بني شيبان وكان النعمان
أزرقَ أقشرَ أحمرَ العينين أحمر الحماليق وفيه يقول أبو قُردودة حين نهى
ابن عمار عن منادَمته : ( إني نهيتُ ابنَ عمار وقلتُ له ** لا تأمننْ أحمرَ
العينينِ والشعرَهْ ) ( إن الملوك متى تنزلْ بساحتهمْ ** تطر بنارك من
نيرانِهم شرره ) ( يا جفْنَةً كإزاء الحوض قد هدموا ** ومنطقاً مثلَ وشي
اليمنةِ الحبرهْ ) شعر في الزرق وقال عبد اللّه بن همام السّلوليّ : وقال
آخر : ( لقد زَرِقَتْ عيناك يا ابنَ مُكَعْبِرٍ ** كما كلُّ ضَبِّيٍّ من
اللؤمِ أزرقُ )
وفي باب آخر يقول زُهير : ( فلما ورَدْنَ الماءَ
زُرْقاً جِمامُه ** وَضَعْنَ عِصِيَّ الحاضر المتخيِّم ) معارف في حمرة
العين وقال يونس : لم أرَ قرَشِيّاً قطُّ أحمرَ عروقِ العينين إلا كان
سيِّداً شُجاعاً .
وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان أشكلَ العينين ضليع الفم . )
شعر في الدعاء على الفأر قال : ونزل أبو الرِّعْل الجرميّ بعض قرى
أنطاكيَةَ فلَقي من جِرذانها شرّاً فدعا عليها بالسنانير فقال : ( يا رب
شُعْثٍ بري الإسآد أوجههم ** ومُنْزِلَ الحُكم في طه وحاميمِ )
( أتحْ لشيخٍ ثوي بالشام مُغْترباً ** نائي النصير بعيدِ الدار مهمومِ ) ( تكنَفَتْهُ قريباتُ الخطة دُكُنٌ ** وقصُ الرقابِ لطيفاتُ الخراطيم ) ( حجنُ المخالب والأنياب شابةٌ ** غلبُ الرقاب رحيباتُ الحيازيمِ ) ( حتى أبيتَ وزادي غير منعكمٍ ** على النزيل ولا كرزي بمعكومِ ) وأنشدَني ابنُ أبي كريمة ليزيدَ بنِ ناجِيَة السَّعْدي : سعدِ بن بكر وكان لقيَ من الفأرجَهْداً فدعا عليهنّ بالسنانير فقال : ( أزهير مالك لا يهمك ما بي ** أخزى إله محمد أصحابي ) ( كحلُ العيون صغيرة آذانُها ** جُنح الحنادِس يعتورْنَ جِرابي ) ( شُمُّ الأنوفِ لريح كلِّ قفيةٍ ** يلحظنَ لحظ مروعٍ مرتابِ )
( دُكْنُ الجباب تدرعتْ أبدانها ** صُعلُ الرُّؤوسِ طويلةَ الأذنابِ ) ( شُخُت المخالب والأنايبِ والشوى ** ثجْل الخصور رَحيبة الأقرابِ ) ( أسقَى الإلهُ بلادهنَّ سحائباً ** غُرّ النَّشَاصِ بعيدةَ الأطنابِ ) ( تَرمِي بغُبْسٍ كالليوث تسَرْبَلَتْ ** منها الجلودُ مدارعَ السنجابِ ) ( غُلب الرِّقاب لطيفة أعجازُها ** فُطحِ الجباهِ رهيفةِ الأنيابِ ) ( مُتبهنْسَاتٍ للطرادِ كأَنها ** آسادُ بيشةَ أُدمجت بخضابِ ) ونحن نظنُّ أَنّ هذه القصيدةَ من توليد ابنِ أبي كريمة
معارف في السنور والسنّور ثاقبُ البصر بالليل وكذلك الفأرة سوداءُ العينين وهي في ذلك ثاقبة البصر .
والسنَّوْرُ ضعيفُ الهامة وهامته من مَقاتِله ولا يستطيعُ أنْ يذوقَ
الطعامَ الحارّ والحامضَ . ( مقارنة بين السِّنور والكلب ) قال : وللسنور
فضيلةٌ أخرى : أنه كثيرُ الأسماء القائمةِ بأنفسها غير المشتقات ولا أنها
تجمع الصفاتِ والأعمالَ بل هي أسماءٌ قائمةٌ من ذلك : القطُّ والهِرُّ
والضَّيْوَن والسنَّوْر .
وليس للكلب اسمٌ سِوَى الكلبِ ولا للدِّيك اسمُ إلا الديك .
وليس للأسد اسمٌ إلا الأسد اللَّيث وأمَّا الضيغم والخنابس والرِّئبالُ
وغيرها فليست بمقطوعة والباقي ليست بأسماءٍ مقطوعةٍ ولا تصلح في كل مكان .
وكذلك الخمر فإذا قالوا : قهوة ومدامةً وسُلاَف وخَنْدَرِيسٌ وأشباه ذلك
فإنما تلك أسماءٌ مشتركة وكذلك السيف وليس هذه الأسماءُ عند العامة كذلك .
قال : وعلى السّنور من المحبة ولا سيما من مَحَبَّة النِّساء ومعه من
الإلف والأنس والدنُوِّ والمضاجعةِ والنوم في اللِّحاف الواحد ما ليس مع
الكلب ولا مع الحمام ولا مع الدَّجاج ولا مع شيء مما يعايش الناس .
هذا ومنها الوحشي والأهليّ فلولا قُوّةُ حبِّه للناس لما كان في هذا المعنى أكثرَ من الكلابِ والكلاب كلّها أهلية .
قالوا : وليس بعجيبٍ إن يكون الكلبُ طيِّبَ الفم لكثرةِ ريقه ولبُعد
قرابَتِه ومشاكَلَته للأَسد وإنما العجبُ في طيبِ فم السنَّور وكأنه في
الشّبه من أشبال الأسد .
ومن يُقَبِّل أفواه السنانير وأجْراءها من
الخرائد وربَّات الحِجال والمخدَّرات والمطهَّمات والقينات أكثر من أن
يُحصى لهنَّ عدد وكلهنَّ يخبرنَ عن أفواهها بالطِّيب والسلامةِ مما عليه
أفواهُ السباع وأفواهُ ذوات الجِرَّة من الأنعام .
وما رأينا وضيعة قطُّ ولا رفيعة قبَّلت فَمَ كلبٍ أو دِيكٍ وما كان ذلك من حارس قطُّ ولا من كلابٍ ولا من مكلِّب ولا من مُهَارِش .
والسنور يُخْضَب وتُصاغُ له الشنوف والأقْرطَة ويُتحف ويدلَّل .
ومَنْ رَأى السنوْر كيف يَختِلُ العُصفورَ مع حَذَرِ العُصفور وسُرعة
طيرانه على أن جِهته في الصيدِ جِهةُ الفهد والأسد ومنْ رآه كيفَ يرتفعُ
بوَثْبته إلى الجرادة في حال طيرَانها علم أنه أسْرَعُ من الجرادة .
وله إهابٌ فضفاضٌ وقميصٌ من جِلده واسعٌ يموج فيه بدنُه وهو مما يضبع لسعَة إبطيه ولو )
شاء إنسان أن يعقِدَ صُلْبَهُ ويَثْنِيَ أوَّلَه عَلَى آخِره كما يُثْنَى المِخْراق وكما يثنى قضيبُ الخيزُران لفَعَلَ .
ويوصفُ الفَرَسُ بأَنه رهِل اللَّبان رحيبُ الإهاب واسع
الآباط وعيب الحمار للكزَازة التي في يديه وفي منكبيهِ وانضمامهما إلى إبطيه وضِيق جلدِهِ وإنما يعدُو بعُنقه .
التجارة في السنانير
قالوا : وللسنور تجَّارٌ وباعة ودلاَّلون وناسٌ يعرفون بذلك ولها رَاضَة .وقال السِّنْدِيُّ بن شاهك : ما أعياني أحدٌ من أهل الأسواق : من التجّار ومن الباعة والصنّاع كما أعياني أصحابُ السنانير يأخذون السنّوْر الذي يأكل الفِرَاخ والحمامَ ويواثب أقفاص الفواخِت والوراشين والدّباسِي والشَّفانين يودخِلُونه في دَنٍّ ويشدُّون رأسَه ثم يدحْرِجونه على الأرض حتى يَشْغَلَه الدَُّوَار ثم يدخِلونه في قفص فيه الفراخُ والحمام فإذا رآه المشتري رأى شيئاً عجباً وظنّ أنه قد ظفر بحاجته فإذا مضى به إلى البيت مَضى بشيطانٍ فيجْمع عليه
بليَّتين إحداهما أكْلُ طيوره وطيور الجيران والثانية أنه إذا ضَرِيَ عليها لم يطلُبْ سِواها .
ومررتُ يوماً وأنا أريدُ منزلَ المكّي بالأساورة وإذا امرأة قد تعلّقَت
برجُل وهي تقول : بيني وبينك صاحبُ المسْلَحَة فإنك دَللْتَنِي عَلَى
سِنَّوْرٍ وزعمتَ أنه لا يقربُ الفراخ ولا يكشفُ القدُور ولا يدنو من
الحيوان وزعمت أنك أبصر الناس بسنور فأعطيتُك على بصرك و دلالتك دانِقاً
فلما مضيتُ به إلى البيت مضيتُ بشيطان قد واللّه أهْلَكَ الجيرانَ بعد أن
فرغَ منا ونحنُ منذ خمسةِ أيامٍ نحتال في أخذه وها هو ذا قد جئتك به فرُدَّ
عَلَيَّ دانقي وخُذ ثمنه من الذي باعني ولا واللّه إن تُبْصِرُ من
السنانير قليلاً ولا كثيراً .
قال الدلاّل : انظروا بأيِّ شيء تستقيلني ولا واللّه إنْ في ناحيتنا فتًى هو أبصرُ بسنور منِّي وذلك من مَنِّ سيِّدي ومولاي .
فقلتُ للدَّلاّل : ولا واللّه إن في هذه الناحية فتًى هو أشكر للّه منك .
أكل السنانير
وناس يأكلون السنانيرَ ويستطيبونها وليس يأكل الكلبَ أحَدٌ إلا في الفْرط .والعامة تزعم أن من أكل السِّنَّوْر الأسود لم يَعْمَلْ فيه السحر والكلبُ لا يؤكل .
أكل الديك والديك خبيث اللحم عَضِله إلا أن يُخْصَى وتلك حيلة لأهل حِمْص وليست عندنا فيه حيلة كيفَ صبري عن مثلِ جُمجُمة الهرِّ تثنَّى بمُسْبَطِرٍّ متين ( ليس يَخفى عليك حين تراها ** أنها عُدّةٌ لداءٍ دفينِ )
سكينة التابوت قالوا : وزعم بعضُ أهل الكتاب وبعضُ أصحاب التفسير أن السَّكينة التي كانت في تابوت موسى كانت رأس هِرٍّ .
استطراد لغوي قالوا : وقلتم في الاشتقاق من اسم الكلب : كلَيب وكلاب
ومَكْلَبة ومُكالب وأصاب القومَ كُلْبَة الزمان مثل هُلْبة وهي الشدَّة .
والكِلابُ واحِدُها كَلْب وتجمع على كلاب وأكلب وكليب كما يجمع البُخْت بَخيتاً وأبخُتاً .
والكَلاّب بتثقيل اللام : صاحب الكلاب والمُكَلِّب بتثقيل اللام وضمّ
الميم : الذي يعلِّم الكِلاَبَ الصَّيْدَ وقال طُفيلٌ الغَنَويّ :
(
تُبَارِي مَرَاخِيها الزِّجَاجَ كأنها ** ضِرَاءٌ أحسَّت نَبَأَةً من
مكَلِّبِ ) وقال الآخر : ( خُوصٌ تَرَاحُ إلى الصُّدَاح إذا غَدَتْ **
فِعْلَ الضِّرَاءِ تَرَاحُ للكَلاَّبِ ) والكَلَب : داء يقع في الإبل فيقال
كلِبت الإبلُ تَكْلَبُ كلَباً وأكلَب القَوم : إذا وقع في إبلهم الكَلَب
ويقال كَلِب الكلبُ واستكلب : إذا ضَرِيَ وتعوَّدَ أكلَ الناس ويقال للرّجل
إذا عضَّه الكلبُ الكلِبُ : قد كُلِبَ الرَّجلُ .
ويقال : إن
الرَّجلَ الكلِبَ يَعَضُّ إنساناً آخر فيأتون رجلاً شريفاً فيقطُرُ لهم من
دَمِ إصبعه فيَسْقُونَ ذلك الكلبَ فيبرَأ وقال الكُميت : ( أحلامكم لسِقَام
الجهلِ شافيةٌ ** كما دِماؤكم يُشْفَى بها الكلَبُ )
قالوا : فقد
يقولون للسنور هِرّ وللأنثى هِرّة ويقال من ذلك هرَّ الكلبُ يهرُّ هريراً
وتسمَّى المرأةُ بهرَّة ويكنى الرّجُل أبا هِرٍّ وأبا هُريرة وقال الأعشى :
( ودِّعْ هُريرةَ إنَّ الركبَ مُرْتحِلُ ** وهل تُطيق وَداعاً أيها الرجلُ
) وقال امرؤ القيس : ( دارٌ لهرٍّ والرَّبابِ وفَرْتَنَى ** ولَمِيس قبْلَ
تفرُّقِ الأيَّامِ )
وقال ابن أحمرَ : ( إنَّ امرأَ القيسِ عَلَى عَهْدِه ** في إرْثِ ما كان بناه حُجُرْ ) ( بَنَّتْ عليه الملك أطنابَها ** كأسٌ رَنَوْنَاةٌ وطِرْفٌ طَمِرّْ ) أطْباء الهرة وحملها قال : وللهرة ثمانية أطباء : أربعةٌ تقابلُ أربعة أوَّلهنَّ بين الإبط والصَّدْر وآخِرُهُنَّ عد الرُّفْغِ وتحمِلُ خمسين يوماً وتضع جراهَا عُمْياً وليس بين تفقيحها وتفقيح جراءِ الكلابِ إلا اليَسير .
إيثار الهرة
والديك والهِرَّةُ من الخلْق الذي يؤثِر على نفسه ولها فضيلةٌ في ذلك على
الدِّيك الذي له الفضيلة في ذلك على جميع الحيوان إلا أن الديك لا يفعل ذلك
بالدجاج إلا مادام شابّاً ولا يفعل ذلك بأولاده ولا يعرفهم وإنما يفعل ذلك
بالدجاجِ عَلَى غير الزِّواج وعَلَى غير القصد إلى واحدة يقصد إليها
بالهوى .
والهِرَّة يُلقى إليها الشيء الطيبُ وهي جائعة فتدعو أولادها
وقد استغنين عن اللبن وأطَقْنَ الأكل والتقمُّم والتكسُّب نعم حتى ربما
فعلتْ ذلك بهنّ وهنَّ في العينِ شبيهاتٌ بها في العِظم فلا تزالُ ممسكة عن
تلك الشحمة على جُوعها ومع شرهِ السنانير حتى يُقبِلَ ولدُها فيأكلَه .
ورجلٌ من أصحابنا ائتمنوه على مال فشدّ عليه فأخذه فلما لامه بعضُ نصحائه قال : يطرحون اللحم قُدّام السنِّورِ فإِذا أكله ضربوه .
فضَرَبَ شَرَهَ السنور مثلاً لنفسه .
والهرَّة ربما رموا إليها بقطعةِ اللحم فتقصدُ نحوها حتى تقف
عليها فإذا أقبلَ ولدها تجافتْ عنها وربما قبضتْ عليها بأسنانها فرمت بها إليه بعد شمِّ الرائحة وذَوق الطعم .
نقل الهرة أولادها )
والهرَّة تنقل أولادها في المواضع من الخوف عليها ولا سبيل لها في حملها
إلا بفيها وهي تعرِف دِقَّةَ أطْرَافِ أنيابها وذَرَب أسنانها فلها بتلك
الأنياب الحِدَاد ضربٌ من القبض عليها والعَضِّ لها بمقدار تبلغُ به الحاجة
ولا تؤثِّر فيها ولا تؤذيها .
مخالب الهرة والأسد فأما كفُّها
والمخالبُ المعقَّفة الحِدَادُ التي فيها فإنها مصونة في أكمامها فمتى وقعت
كفُّها على وجه الأرض صارت في صوْن ومتى أرادت استعمالها نَشَرَتها وافرة
غير مكلومةٍ ولا مثلومة كما وصف أبو زُبَيْدٍ كفَّ الأسد فقال :
( بحُجْن كالمحاجِنِ في قنُوبٍ ** يَقيها قِضَّةَ الأرضِ الدَّخيسُ ) أنياب الأفاعي كذلك مخالبها ومخالبُ الأسد وأنيابُ الأفاعي وقد قال الرَّاجز وهو جاهليّ : ( حتَّى دنا من رأس نَضْناض أصمّ ** فَخَاضَه بين الشِّراك والقَدَمْ )
زعم بعض المفسرين في السنانير والخنازير
وزعم بعض المفسرين أن السنور خلِق من عطسة الأسد وأن الخنزيد خُلِق من سلحة الفيل لأن أصحابَ التفسير يزعمون أن أهلَ
سفينةِ نوح لما تأََذَّوْا بكثرة الفأر وشكَوا إلى نوح ذلك سألَ ربَّه
الفَرَج فأمره أن يأمُرَ الأسد فيعطِسَ فلما عطس خرج من منخرَيه زوجُ
سنانير : ذكر وأنثى خرج الذَّكَر من المنْخر الأيمن والأنثى من المنخر
الأيسر فكفَياهم مَؤُونة الجُرذان ولما تأَذَّوْا بري نَجْوهما شكوا ذلك
إلى نوح وشكا ذلك إلى ربِّه فأمره أن يأمر الفيل فليَسْلح فَسَلَح زوجَ
خنازير فكفياهم مَؤُونة رائحة النجو .
وهذا الحديثُ نافقٌ عند العوَامِّ وعندَ بعض القُصَّاص .
إنكار تخلُّق الحيوان من غير الحيوان فقد أنكر ناسٌ أن يكون الفأر تخلَّق
في أرحام إناثها من أصلاب ذكورتها ومن أرحام بعض الأرضين كطينة القاطول
فإن أهلها زعموا أنهم ربما رأوا الفأرةَ لم يتمَّ خلْقُها بعدُ وإن عينيها
لتَبِصَّان ثم لا يريمون حتى يتمَّ خَلقها وتشتدَّ حركتها .
وقالوا :
لا يجوز لشيء خُلِقَ من الحيوان أن يُخلق من غير الحيوان ولا يجوز أن
يكونَ شيءٌ له في العالم أصلٌ أن يؤلِّف الناسُ أشياءَ تستحيل إلى مثل هذا
الأصل فأنكروا من هذا الوجْه تحويل الشبَهِ ذهباً والزّيبق فضة .
وقد
علمنا أن للنُّوشاذُر في العالم أصلاً موجوداً وقد يصعِّدُون الشَّعر
ويدبِّرونه حتى يستحيل كحجر النوشاذُر ولا يغادر منه شيئاً في عَمَلٍ ولا
بَدَن .
وقد يدبِّرون الرّماد والقِلْي فيستحيل حجارة سوداً إذا عُمل منها أرْحاءٌ كان لها في الرّيْع فضيلة .
قالوا : وللمُردَارسَنْج في العالم أصلٌ قائم والرصاص يُدبَّر فيستحيل
مُرداسَنْجا وللرّصاص في العالم أصل قائم فيدبِّرون المرداسنج فيستحيل
رصاصاً .
وللتُّوتياء أصل قائم فيدبرون أقليميا النُّحاس فتستحيل تُوتياء .
وكذلك المينا له أصل قائم وقد عمِله الناس .
وكذلك الحجارة السُّود للطحين وغير ذلك .
فأما قولهم : لا يجوز أن يكون شيء من الحيوان يُخلقُ من ذكر وأنثى فيجيء
من غير ذكر وأنثى فقد قلنا في جميع ذلك في صدْر كتابنا هذا بما أمكننا .
معارف في الحيّات قال : والحيَّة إن رأت حيّة ميتة لم تأكلها ولا تأكلُ
الفأر ولا الجرذانَ الميتة ولا العصافير الميتة مع حرص الحية عليها ولا
تأكل إلا لحمَ الشيء الحيِّ إلا أن يُدخلَ الحوّاءُ في حلوقها
اللحمَ إدخالاً فأما من تلقاء نفسها فإن وجدَته وهي جائعة لم تأكله .
فينبغي أن يكون صاحبُ المنطق إنما عَنَى بقوله : أخبثُ ما تكون ذواتُ
السمومِ إذا أكلَ بعضها بعضاً لابتلاعَ دون كل شيء وهم لا يعرفون ذلك في
الحيّات إلا للأسوَد فإنه ربما كان مع الأفاعي في جُونة فيجوع فيبتلعها
وذلك إذا أخذها من قِبَل رؤوسها وإن رام ذلك من جهة )
الرأس فعضته الأفعى قتلتْه .
وزعموا أن الحيةَ لاَ تَصَّاعَدُ في الحائط الأملس ولا في غير الأمْلس
فإنما يقول ذلك أصحاب المخاريق والذين يستخرجون الحياتِ بزعمهم من السقوف
ويشمون أراييحَ أبدانها من أطراف القَصَب إذا مَسَحوها في ترابيع البيوت .
قالوا : وقد تصعد الحيّات في الدّرج وأشباه الدَّرَج لتطلبَ بيوتَ
العصافير والفأرِ والخطاطيفِ والزَّرازير والخفافيش وتتحامى في السُّقُف .
في العقرب
وسنذكر تمامَ القوْل في العقْرب إذْ كنا قد ذكرنا من شأنها شيئاً في باب القول في الفأر .ولمَّا قيل ليحيى بن خالد النازلِ في مُربَّعة الأحنف وزعموا أنهم لم يروْا رجُلاً لم يختلف إلى البيمارستانات ولا رجُلاً مسلماً ليس بنصرانيّ ولا رجلاً لم ينصِبْ نفسه للتكسب بالطب كان أطبَّ منه فلما قيل له : إن القينيّ قال : أنا مِثلُ العقرب أضرُّ ولا أنفع قال : ما أقلَّ عِلمه باللّه عزّ وجلّ لعَمْري إنها لتنفع إذا شُقَّ بطنها ثم شُدَّ على موضع اللَّسعة فإنها حينئذٍ تنفع منفعةً بينةً .
نفع العقرب
والعقربُ تُجعل في جوف فَخَّارٍ مشدودِ الرّأس مطيّن الجوانبِ ثم يوضع الفخَّارُ في تنّور فإذا صارت العقربُ رماداً سُقي من ذلك الرَّمادِ مَنْ به الحصاة مِقدارَ نصفِ دانقَ .وقال حُنين : وقد يُسقى منه الدانق وأكثر فيفتِّتُ الحصاةَ من غير أن يضرَّ بشيء من الأعضاء والأخلاط وخيرُ الدواء ما قصَد إلى العضْو السقيم وسلِمَتْ عليه الأعضاء الصحيحة .
وقال يحيى : وقد تَلْسَعُ أصحابَ ضروبٍ من الحُمّيات العقاربُ فيُفيقُون وتلسع الأفاعيَ فتموت ومنها مايلسع بعضها بعضاً فيموت الملسوع فهي من هذا الوجه تكفي الناسَ مؤونةً وتُلَقى العقربُ في الدُّهن وتُتْركُ فيه حتى يأخُذ الدهن منها ويمتصّ ويجتذبَ قواها كلها بعد الموت فيكونُ ذلك الدهنُ يفرِّق الأورام الغِلاط وقد عَرَف ذلك حُنين .
بعض أعاجيب العقرب
ومِنْ أعاجيبها أنها لا تسبَحُ ولا تتحركُ إدا أُلقيت في الماء كيف كان الماءُ : ساكناً أو جارياً
والعقرب تطلبُ الإنسان وتقصِد نحوه فإذا قصَدَ نحوها فرَّتْ وهَربت
وتقصِدُ أيضاً نحو الإنسان فإذا ضربَتْهُ هربتْ هربَ مَنْ قد أساء وتعلم
أنها مطلوبة .
والزنابير تطالبُ من تعرَّض لها وتقصِد لِعَينه ولا تكادُ تعرض للكافّ عنها .
فصل ما بين المودَّة والمسالمة في الحيوان وبين العقارب وبين الخنافس مودة والمودَّة غيرُ المسالمة .
والمسالمة : أن يكون كل واحد من الجنسين لا يعرض للآخر بخير ولا شر بعد أن يكون كل واحد منهما مقرَّباً لصاحبه .
والعداوة أن يعرض كل واحد منهما لصاحبه بالشرّ والأذى والقتل ليس من جهةِ أن أحدهما طعامٌ لصاحبه .
والأسدُ ليس يثبُ على الإنسان والحمار والبقرة والشاة من جهة العداوةِ
وإنما يثبُ عليه من طريق طلبِ المطعم ولو مرَّ به وهو غيرُ جائعٍ لم يعرض
له الأسد والنمر على غير ذلك ولكن قد يقال : إن بين البَبْرِ والأسد
مُسالمة .
والمودة : كما يكون بين العقارب والخنافس فإنَّ
بعضها يتألف بعضاً وليست تلك بمسالمة وكما بين الحيَّات والوزغ فإنها
تَساقَى السّمّ وتَزَاقُّ وكما بينَ ضروب من العقارب وأسودَ سالخ .
والأسْوَدُ ربَّما جاعَ في جُونة الحَوَّاء فأكل الأفعى وربما عَضَّتْهُ الأفعى فقتلتْه .
علاقة الرائحة بالطعم وريح العقارب إذا شويت مثلُ ريحِ الجراد .
وما زلتُ أظنُّ أن الطعم أبداً يتْبع الرائحة حتى حقَّق ذلك عندي بعضُ من
يأكلها مشوية ونِيَّة أنه ليس بينها وبين الجراد الأعرابي السمين فرْق .
رؤية الخرق الذي في إبرة العقرب
وزعم لي بَختيشَوع بن جبريل أنه عاين الخرق الذي في إبرة العقرب وإن كان صادقاً كما قال فما في الأرض أحدُّ بصراً منه وإنه لبعيدٌ وما هو بمستنكر .
وفي العقارب أعجوبةٌ أخرى لأنه يقال : إنها مائية الطِّباع وإنها من ذوات
الذَّرْوِ والإنسال وكثرة الولد كما يعتري ذلك السَّمَكَ والضّبّ والخنزيرة
في كثرة الخنانِيص .
موت العقرب بعد الولادة
قال : ومع ذلك إن حَتْفها في أولادها وإن أولادها إذا بلغْنَ وحانَ وقتُ الولادة أكلْن جلدَ بطنها من داخل حتى إذا خَرَقْنَهُ خَرَجْنَ منه وماتت الأُمُّ .وقد يطأ الإنسانُ على العقرب وهي ميتة فتغترز إبرتها في رِجله فيلقى الجهدَ الجاهِدَ وربما أمْرَضَتْ وربّما قتلت .
قال : وفي أشعار اللُّغز قيلَ في أكل أولاد العقرب بطنَ الأمّ وأنّ
عَطَبَهَا في أولادها : ( وحاملة لا يكْمُلُ الدَّهرَ حملُها ** تموتُ
ويبقى حملها حينَ تَعْطَبُ ) وليس هذا شيئاً .
خبَّرني من أثق بعقله
وأسكنُ إلى خبره أنه أرى العقرب عِياناً وأولادُها يخرُجْنَ من فيها وذكر
عدداً كثيراً وأنها صِغارٌ بيضٌ على ظهورها نقط سُودٌ وأنها تحمل أولادها
على ظهرها وأنه عاين ذلك مرةًاً خرى فقلت : إن كانت العقرب تلد مِنْ فيها
فأخلِقْ بها أن يكون تلاقُحُها من
العقارب القاتلة
والعقاربُ القاتلةُ تكون في موضعين : بِشَهْرَزُور وقرى الأهواز إلا أن القواتلَ التي بالأهواز جرّارات لم نذكر عقاربَ نصيبين لأن أصلها فيما لا يشكُّون فيه من شَهْرَزُور حين حُوصِرَ أهلها ورُموا بالمجانيق وبكيزان محشوَّة من عقارب شَهْرَزُور حتَّى توالَدَتْ هناك فأعْطَى القومُ بأيديهم .
لغز في العقرب
ومن اللُّغز فيها في غير هذا الجنس : ( وما بكرةٌ مضبورة مقمطرة ** مسرةُ كبرٍ أن تُنال فتَمرضا ) ( بأشوسَ منها حين جاءت مُدِلةً ** لتقتل نفساً أو تصيب فتُمرضا ) ( فلما دنا نادي أوابا بنعم غيرها ** ديراً إذا نال الغريفة أو قَضَا ) ( استخراج العقارب بالجراد والكرَّاث ) قال : والعقارب تُسْتَخْرَجُ من بيوتها بالجراد : تُشَدُّ الجرادةُ في طرف عود ثم تُدْخَلُ الجُحْرَ فإذا عاينتْها تعلقتْ بها فإذا أُخرج العُودُ خرجت العقربُ وهي متعلقة بالجرادة .فأما إبراهيم بن هانىء فأخبَرني أنه كان يُدْخِلُ في جُحْرها خُوط كرّاث فلا يبقى منها عقربٌ إلا تبعته .
ألسنة الحيات والأفاعي ألسنة الحيّات كلها سودٌ وألسنة الأفاعي حُمرٌ إلا أنها مشقوقة .
جرَّارات الأهواز وسنذكر عقارب الشتاء وعُقيرب الحِرِّ وكلَّ شيء من هذا الباب ولكنا نبدأُ بذكر جرَّارات الأّهواز .
ذكروا أنَّ أقتلها عقاربُ عَسكَر مُكْرَم وأنها متى ضَرَبَتْ رجُلاً فظنَّ
أن تلك العضة عضَّةُ نملة أو وخزةُ شوكة فنال من اللحم تضاعَفَ ما به .
وربما باتت مع الرجل في إزاره فلم تضربْه .
وهي لا تدبُّ على كل شيء له غَفْر ولا تدبُّ على المُسوح وما أكثرَ ما
تأوي في أصول الآجُرِّ الذي قد أُخرج من الأتاتين ونضِّد في الأنابير . )
وكان أهل العسكر يروْن أن من أصلح ما يُعالج به موضع اللسعة أن يُحجَم
وكان الحجَّام لا يرضى إلا بدنانير ودنانير لأن ثناياه ربما نَصَلَتْ وجلدَ
وجهه ربما تبطَّطَ من السمِّ الذي يرتفع إلى فيه
بمصَّته وجذْبته
من أذناب المحاجم حتى عمدوا بعد ذلك إلى شيء من قُطْنٍ فحشَوْا به تلك
الأنبوبة فإذا جذب بمصّتهِ فارتفع إليه من بخار الدَّمِ أجزاءٌ من ذلك السم
تعلقت بالقطن ولم تنفُذْ إلى فيه والقطن ليس مما يدفع قوَّة المص ثم وقعوا
بعد ذلك على حشيشةٍ فوجدوا فيها الشفاء .
من أعاجيب العقرب ومن
أعاجيب ما في العقرب أنا وجدْنا عقارب القاطول يموتُ بعضُها عن لسع بعض ثم
لا يموتُ عن لسعها شيء غير العقارب .
ونجدُ العقربَ تلسعُ إنسانًاً
فيموت الإنسان وتسلع آخرَ فتموت هي فَدَلَّ ذلك على أنها كما تعطي تأخُذ
وأن للناس أيضًاً سُمومًاً عجيبة ولذلك صار بعضهم إذا عضّ قتل .
ومن أعاجيبها أنها تضرب الطست أو القمقُم فتخرقُه وربما ضربتْه
فتثبُتُ فيه إبرتُها ثم تنصل حتى تَبين منها .
العنبر وأثره في الطيور والبالِ والعنِبر يقذفه البحرُ إلى عبريه فلا يأكل
منه شيء إلا مات ولا ينقُره طائرٌ بمنقار إلا نصل فيه منقاره فإذا وضع
رجليه نصلتْ أظفاره فإن كان قد أكلَ منه قتلَهُ ما أكل وإن لم يكن أكلَ
والبحْريُّونَ والعطَّارُون يُخبرونَنَا أنهم ربما وجدوا فيه المنقارَ
والظفر وإنَّ البال ليأكلُ منه اليسيرَ فيموت .
والبالُ : سمكة ربما كان طولها أكثر من خمسين ذراعاً .
أعاجيب لسع العقرب
ومن أعاجيب العقارب أنها تلسع الأفعى فتموتُ الأفعى ولا تموت هي وتلسع بعض الناس فتموتُ هي ولا ينال الملسوع منها مِن المكروه قليل ولا كثير ويزعم العوامُّ أن ذلك إنما يكونُ لمن لسعتْ أمَّه عقربٌ وهو حَمْلٌ في بطنها .
وقد لسعت عقربٌ رجلاً مفلوجًا فذهبَ عنه الفالِجُ وقصةُ هذا المفلوج معروفة وقد عرفها صليبا وغيرهُ من الأطباء .
ومن العقارب طياراتٌ وجراراتٌ ومعقَّفات وخضرٌ وحمرٌ .
اختلاف السموم واختلاف علاجها وتختلف سمومُ العقارب بأسباب : منها اختلاف
أجناسها كالجرّارة وغيرها ومنها اختلافُ التُّرب كفَرق ما بين جرّاراتِ
عقارب شهرزور وعسكر مُكْرَم .
وتختلف مَضَرَّة سمومها على قدر طباع
الملسوع ويختلف قدر سمومها على قَدْر مواضع اللسعة وعلى قدر اختلاف ما بين
النهار والليل وعلى قدر ما صادفَت عليه الملسوع من غذائه ومن تفتُح منافسه
وعلى قدْر ما تُصادَف عليه العقرب من الحَبلِ وغير الحَبَل وعلى قدر
لَسْعَتِها في أوَّلِ الليل عند خروجها من جُحرها بعد أقامت فيه
شَتوَتَها وأشدُّ من ذلك أن تلسع أوّلَ ما تخرجُ من جُحْرها بعد أن أقامتْ فيه يومها .
قال ماسرْجويه : فلذلك اختلفت وجوه العلاج فصار ضَرْبٌ من العلاج يفيق عنه إنسانٌ ولا يُصلح أمر الآخر .
لسعة الزنبور وخبرني ثمامةُ عن أمير المؤمنين المأمون أنه قال : قال لي
بختيشوع ابن جبريل وسَلْمَوَيْه وابن ماسَوَيه : إن الذبابَ إذا دُلِكَ به
موضعُ لسعةِ الزنبور سكنَ فلسَعني زنبور فحككْتُ على موضعه أكثر من عشرين
ذبابة فما سكَن إلا في قدْر الزمان الذي كان يسكن فيه من غير علاج فلم يبق
في يدي منهم إلا أن يقولوا : كان هذا الزنبور حَتْفًاً قاضيًا ولولا هذا
العلاج لَقَتَلَكَ .
حُججُ الأَطِبّاء وكذلك همْ إذا سقَوا دواءً
فضرّ أو قطعوا عِرْقًاً فضرّ قالوا : أنت مع هذا العلاج الصَّوابِ تجِدُ
وقيل لي وقرأت في كتاب الحيوان إنّ ريحَ السَّذَابِ يشتدّ على الحيّات
فألقيتُ على وجوه )
الأفاعي جُرَز السَّذَاب فما كان عندها إلا كسائر البَقْل .
فلو قلت لهم في هذا شيئًاً لقالوا : الحيّات غير الأفاعي وهذا باطلٌ الأفاعي نوع من الحيات وكلهم قد عمَّ ولم يخص .
ما يَدَّخر من الحيوان وجميع الحشرات والأحناش وجميع العقاربِ وهذه
الدَّبّابات التي تعضُّ وتلسع التي تكمُن في الشتاء لا تأكلُ شيئاً في تلك
الأشهر ولا تشرب وكذا كل شيء من الهمَج والحشرات مما لا يتحرّك في الشتاء
إلا النملَ والذّرَّ والنحل فإنها قد ادخرت ما يكفيها وليست كغيرها مما
تثبتُ حياتُه مع ترك الطعم .
حرص العقارب والحيات على أكل الجراد
وللعقرب ثماني أرجل وهي حريصة على أكل الجراد وكذلك الحيات وما أكثر ما تلدغ وتنْهش صاحب الجراد .أثر المُرضِع في الرضيع ومن عجيب سمِّ الأفاعي ما خبرني به بعضُ من يخبُر شأن الأفاعي قال : كنت بالبادية ورأيت ناقة ترتعُ وفصيلها يرتضِعُ من أخلافها إذ نهَشَت الناقةَ على مشافرها أفعى فبقيتْ واقفةً سادرة والفصيلُ يرتضع فبينا هو يرتضعُ إذ خرَّ ميِّتاً .
فكان موتُه قبل موتِ أمَّه من العجب وكان مرورُ السمِّ في تلك الساعة القصيرة أعجبَ وكان ما صار من فضول سمها في لبنِ الضّرعِ حتى قَتَلَ الفصيلَ قبل أمه عجباً آخر .
والمرأةُ المرضِعُ تشربُ النبيذَ فيسكر عن لبنها الرضيع وتشربُ دواء المشْي فيعتري الرضيعَ الخِلْفة فلذلك يختار
الحكماء لأولادهم الظئر البريئة من ألأدواء : في عقلها وفي بدنها .
وتوهَّموا أن اللبن إنماجع في الفصيل لقرابة اللبنِ والدَّم فصار ذلك
السمُّ أسرعَ إليه منه إلى أمه ولعل ضعفَ الفصيل قد أعان أيضاً على ذلك .
قصتان في من لسعته العقرب
قال أبو عُبَيْدةَ : لسعت أعرابيّاً عقربٌ بالبصرة فخيفَ عليه فاشتدّ جزَعُه فقالَ بعضُ الناس : ليس شيءٌ خيراً له من أن تُغْسَل له خصيةُ زنجي عَرِق وكانت ليلة غَمِقَة فلما سقَوه قطَبَ فقيل له : طعم ماذا تجد قال : طعمَُ قِرْبَةٍ جديدة .وخبرني محمد وعليٌّ ابنا بشير أن ظئراً لسليمان بن رِياش لسعتها عقربٌ فملأت الدنيا صُرَاخاً فقال سليمان : اطلبوا لها هذه العقرب فإن دواءها أن تلسعها لسعة أخرى في ذلك المكان فقالت العجوز : قد برئتُ وقد سكنَ وجعي ولاحاجة لي إلى هذا العلاج قال :
فأتوْه بعقرب لا واللّه إن يُدرَى : أهي تلك أم غيرُها فأمرَ بها فأُمسكت
فقالت : أنشُدكَ باللّه واللبن فأبى وأرسلها عليها فلسعتها فغُشِيَ عليها
ومرَضتْ زمانًا وتساقط شعر رأسها فقيل لسليمان في ذلك فقال : يا مجانين لا
واللّه إن ردَّ عليَّ رُوحها إلا اللسعةُ الثانية ولولا هِيَ لقد كانت ماتت
. ( في القَمْل والصُّؤَاب ) وسنقول في القَمْل والصُّؤَاب ما وجدنا
تمكينًا مِنَ القول إن شاء اللّه تعالى .
ذكروا عن إياسِ بن معاوية أنه زعم أن الصِّئبان ذكورةُ القَمْلِ
والقمل إناثها وأن القملَ من الشَّكل الذي تكون إناثه أعظمَ من ذكورته .
وذكروا عنه أنه قال : وكذلك الزَّرَارقة والبُزَاة فجعل البُزَاةَ في الإناث .
وليس فيما قال شيء من الصواب التَّسْديد وقد خبّرناكم عن حكايته في
الشَّبُّوط حين جعله كالبغل وجعلَه مخلوقاً من بينِ البُنِّيِّ والزَّجْر .
والقمل يعتري مِنَ العَرَق والوسَخ إذا علاهما ثوبٌ أو رِيشٌ أو شعر
حتى يكون لذلك المكانِ عَفَن وخُموم . ( أثر لون الشَّعر في لون القملة )
والقملة تكون في رأس الأسوَدِ سوداء ورأسِ الأبيض
الشعر بيضاءَ
وتكون خصيفة اللون وكالحَبْل الأبرَق إذا كانت في رأس الأشمط وإذا كانت في
رأس الخاضب بالحمرة كانت حمراء وإن كان الخاضب ناصلَ الخضاب كان في ولونها
شُكْلة إلا أن يستولي على الشعر النُّصول فتعود وهذا شيءٌ يعتري القملَ كما
تعتري الخضرةُ دَودَ البَقْلِ وجرادَه وذبابه وكلَّ شيءٍ يعيش فيه أثر
البيئة في الحيوان وليس ذلك بأعجب من حَرَّة بن سُليم فإن من طباع تلك
الحرة أن تُسَوِّدَ كل شيء يكونُ فيها : من إنسان أو فَرَس أو حِمَارٍ أو
شاة أو بعير أو طائرٍ أو حيّة .
ولم نسمع ببلدة أقوى في هذا المعنى من بلاد الترك فإنها تصوِّر إبلَهم خيلَهم وجميعَ ما يعيش فيها على صورة التُّرك .
تولد القمل
والقمل يعرِضُ لثياب كلِّ الناس إذا عرض لها الوسخُ والعرق والخموم إلا ثيابَ المجذَّمين فإنهم لا يَقْمَلون .وإذا قَمِلَ إنسانٌ وأفرط عليه ذلك زأبَق رأسه إن كنّ في رأسه أو جسده وإن كنّ في ثيابه فموَّتْنَ .
وقال أبو قطيفة لأصحابه : أتدرون ما يذْرأ القمل قالوا : لا قال : ذاك واللّه من قلة عنايتكم بما يصلحُ أبدانكم يذرأُ القملَ الفُساء .
فأما ثمامة فحدثني عن يحيى بن خالد البرمكي أن شيئين يُورِثان القَمل :
أحدُهما الإكثار من التِّين اليابس والآخر بخار اللُّبان إذا أُلقي على المجمرة .
وربما كان الإنسان قَمِل الطباع وإن تنظَّف وتعطَّر وبدَّل الثياب كما
عَرَضَ لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام استأْذَنَا رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم في لباس الحرير فأذن لهما فيه ولولا أنهم كانا في حدِّ
ضرورة لَمَا أذِنَ لهما فيه مع ما قد جاء في ذلك من التشديد .
فلما
كان في خلافة عمر رأى عمر على بعض بني المغيرة من أخواله قميصَ حريرٍ
فعَلاَه بالدِّرّة فقال المغيريُّ : أو ليس عبد الرحمن بنُ عوفٍ يلبسُ
الحرير قال : وأنت مثل عبد الرحمن لا أمَّ لك . )
الاحتيال
للبراغيث واحتاج أصحابنا إلى التسلُّم من عضّّ البراغيث أيامَ كنَّا بدمشق
ودخلنا أنطاكيَة فاحتالوا لبراغيثها بالأسِرَّةِ فلم ينتفعوا بذلك لأن
براغيثهم تمشي .
وبراغيثهم نوعان : الأبْجلُ البقّ إنما سمّوا ذلك
الجنس على شبيهٍ بما حَكَى لي ثمامةُ عن يحيي بن خالدٍ البرمكيّ فإن يحيى
زعمَ أن البراغيثَ من الخلق الذي يعرِضُ له الطيران فيستحيل بقًّا كما يعرض
الطيرانُ للنَّمل وكما يعرض الطيرانُ للدَّعاميص فإن الدعاميصَ إذا انسلخت
صارت فكان أصحابنا قد لَقُوا من تلك البراغيث جَهْدًا وكانت لها بليَّة
أخرى : وذلك أن الذي تُسهِرُهُ البراغيث لا يستريح إلا أن يقتلها بالعرْك
والقتْل وإلى أن يقبضَ عليها فيرميَ بها إلى الأرض من فوق سريره فيرى
أنهَنَّ إذا صِرْنَ عشرينَ كان أهون عليه من أنْ يكُنَّ إحدى وعشرين فكان
الرجلُ إذا رام ذلك من واحدة منها نتُنَتْ
يده وكانوا مُلوكاً ومثل هذا شديدٌ علَى مثلهم فما زالوا في جهد منها حتى لبِسوا قُمُصَ الحرير الصِّينيِّ وجعلوها طويلة الأردان والأبدان فناموا مستريحين .
خروج القمل من جسم الإنسان
وخبّرني كم شئت من أطبَّاء الناس وأصحاب التجارب منهم من يقشعر من الكذب ويتقزز منه أنهم رأوا القمل عِياناً وهو يخرج من جلد الإنسان فإذا كان الإنسان قمِلاً كان قمله مستطيلاً في شبيه بخلقة الديدانِ الصغار البيض .ويُذكر أن مثلَ ذلك قد كان عرضَ لأيوبَ النبي صلى اللّه عليه وسلم حين كان امتُحِن بتلك الأوجاع حتى سُمِّي : المبتلَى .
وخبَّرني شيخٌ من بني ليث أنه اعتراه جَرَبٌ وأنه تطَلّى بالمَرّْتَك والدُّهن ثم دخل الحمَّام فرأى
وخبَّرني أبو موسى العباسيُّ صديقُنا أنه كان له غلامٌ بمصر وكان الغلام ربما أخذه إبرة ففتَح بها فتحاً في بعض جسده في الجِلْد فلا يلبثُ أن يطلع من تحت الجلد في القيحِ قملة .
قمل الحيوان
والقمل يُسرعُ إلى الدّجاجِ والحمام إذا لم يغتَسِلْ يكُنْ نظيف البيت وهو يعرض للقرْد ويتولَّد من وسَخِ جلد الأسير وما في رأسِه من الوسخ ولذلك كانوا يضجُّون ويقولون : أكلَنَا القِدُّ والقمل .تلبيد الشعر وكانوا يلبِّدون شعورهم وذلك العمل هو التلبيد والحاجُّ الملبّد هو هذا وقال الشاعر : ( يا ربِّ ربَّ الراقصاتِ عشيَّةً ** بالقومِ بين مِنًى وبين ثَبيرِ ) ( زُحُفِ الرَّوَاحِ قد انقضت مُنَّاتهُمْ ** يحمِلْنَ كلَّ مَلَبِّد مأجُورِ )
وقال عبد اللّه بن العَجْلان النهديُّ : ( إني وما مارَ بالفُرَيْقِ وما ** قرْقَرَ بالجَلْهَتَيْنِ من سُرَبِ ) جماعة من القطا وغيره واحدتها سُرْبَة وعبر بها هاهنا عن الحُجَّاج . ( والعِتر عتر النَّسيك يخفر بال ** بُدْن لحِلّ الإحرامِ والنُّصُبِ ) وقال أميَّةُ بن أبي الصَّلت : ( شاحينَ آباطَهُمْ لم ينزِعُوا تَفَثاً ** ولمْ يسَلُّوا لهم قملاً وصِئبانَاً ) ويروى : لم يقرَبوا تَفَثاً قال اللّه عزّ وجلّ : ثمّ لْيَقضوا
تَفَثَهُمْ وما أقل ما ذَكَرَوا التَّفَثَ في الأشعار .
والتلبيد : أن يأخذ شيئاً من خِطْميٍّ وآسٍ وَسِدْر وشيئاً من صَمْغٍ
فيجعله في أصول شعره وعلي رأسه كي يتلبد شعرهُ ولا يعْرق ويدخله الغبار
ويخمَّ فيقمَل .
وكانوا يكرهون تسريح الشعر وقتل القمل فكان ذلك العمل يقلُّ معه القمل .
وقد قال النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم لكعب بن عُجْرة : هل آذاك هَوَامّف
رأسِك تعيير هَوازن وأسدٍ بأكل القُرَّة وقال ابنُ الكلبيِّ : عُيّرَتْ
هَوَازنُ وسدٌ بأكل القُرَّةِ وهما
بنو القملة وذلك أن أهل اليمن كانوا إذا حلقوا رؤوسهم بمِنًى وضع كل رجل منه على رأسِهِ قُبْضةً من دقيق فإذا حلقوا رؤوسهم سقط ذلك الشَّعرُ مع ذلك الدقيق ويجعلون الدقيق صدقةً فكان ناسٌ من الضُّركاء وفيهم ناسٌ من قيس وأسد يأخذون ذلك الشعر بدقيقه فيرمُون بالشعر وينتفعون بالدقيق . ) ( ألم تر جَرماً أنْجَدتْ وأبوكم ** مع الشعر في قصِّ الملبِّدِ شارِعُ ) ( إذا قرَّةٌ جاءت يقولُ أصبْ بها ** سوى القمل إني من هَوَازِنَ ضارعُ )
شعر في هجو القملين
وقال بعض العُقيليِّين ومرّ بأبي العلاء العُقيليّ وهو يتفلَّى فقال :( وإذا مررت به مررتَ بقانصٍ ** متصيِّد في شَرْقةٍ مقرورِ ) ( للقملِ حولَ أبي العلاء مصارعٌ ** مِنْ بين مقتول وبينَ عقيرِ ) ( وكأنهنَّ لدي خُبُون قميصه ** فَذٌّ وتوأمُ سمسمٍ مقشورِ ) ( ضَرِجِ الأنامل من دماء قتيِلها ** حنِق علَى أخرى العدوِّ مغِيرِ ) وقال الحسنُ بنُ هانىء في أيوبَ وقد ذهب عني نسبُه وطالما رأيته في المسجد : ( مَن ينْأ عنه مصادُهُ ** فمصادُ أيوبٍ ثيابُه ) ( تكفيه فيها نظرةٌ ** فتعلُّ من عَلَق حِرَابُه ) ( يا رُبّ محترس بخب ** نِ الدرزِ تكنفُه صُؤابُه ) ( فاشي النكاية غير معلوم ** مٍ إذا دبَّ انسيابهُ )
( سقط : بيت الشعر ) ( أو طامري وائب ** لم ينجه عنه وثابه ) الطامريّ : البرغوث ثم قال : أهْوَى لهُ بمذلَّقِ الغَرْبَينِ إصْبَعُه نِصابُه ( للّه درُّك من أخي ** قنص أصابِعُه كِلابُه )
أحاديث وأخبار في القمل
وفي الحديث أن أكل التفاح وسُؤْرَ الفأر ونَبْذَ القملة يورث النّسيان .وفي حديث آخر أنَّ الذي ينبذ القملة لا يُكفَى الهمّ .
والعامة تزعم أن لُبس النِّعال السودِ يورث الغمَّ والنسيان .
وتناول أعرابيٌّ قملة دبَّتْ عَلَى عُنقه ففدغَها ثم قتلها بين باطنِ إبهامه وسَبَّابته فقيل له : ما تصنع ويلك بحضرة الأمير فقال :
بأبي أنتَ وأميِّ : وهل بقي منها إلا خِرشاؤها يعني جلدَتَها وقِشرتها وكل وعاءٍ فهو خرشاء .
المأمون وسعيد بن جابر وحدثني إبراهيم بنُ هانىء قال : حدّثني سعيدُ بنُ
جابر قال : لما كادت الأجناد تحيط ببغداد من جوانبها قال لنا المخلوع : لو
خرجنا هكذا قُطْرَبُّل علَى دوابنا ثم رجعنا من فورنا كان لنا في ذلك نُشرة
قال : فلما صرنا هناك هجمنا عَلَى موضعِ خَمَّارِين فرأي أناسًا قد
تطافروا من بعض تلك الحانات فسأل عنهم فإذا هم أصحابُ قِمار ونَرْدٍ ونبيذٍ
فبعث في آثارهم فرُدُّوا وقال لنا : أشتهي أن أسمع حديثَهم وأرى مجلسهم
وقمِارهم قال : فدخلْنا
إلى موضعِهم فإذا تخت النَّرد قطعةُ لِبْد
وإذا فصوص النَّردِ من طين بعضُه مسوَّد وبعضه متروك وإذا الكعبان من عُروة
كوز محكّكة وإذا بعضُهم يتكئُ عَلَى دَنٍّ خالٍ وتحتهم بَوَار قد تنسَّرتْ
قال : فبينا هو يضحك منهم إذ رأيت قملة تدب عَلَى ذيله فتغفَّلتُه
وأخذْتها فرآني وقد تناولتُ شيئًا فقال لي : أي شيء تناولتَ فقلتُ :
دُوَيْبَّة دبت علَى ذيلك من ثيابِ هؤلاء قال : وأيُّ دابة هي قلت : قملة
قال : أرِنِيها فقد واللّه سمعت بها .
قال : فتعجبتُ يومئذ من المقادير كيفَ ترفَع رجالاً في السماء وتحطُّ آخرينَ في الثَّرى .
معارف وخبر في القمل
قال : والقردُ يتفلَّى فإذا أصاب قملةً رمى بها إلى فيه .ونساء العوامِّ يعجِبُهُنَّ صوتُ قصْع القمل على الأظفار .
ورأيت مرةً أنا وجعفر بن سعيد بقَّالا في العتيقة وإذا امرأته جالسةٌ بين يديه وزوجها يحدَّثها وهي تفلِّي جيْبَها وقد جمعت بين باطن إبهامها وسَبَّابتها عدَّة قمل فوضعتها على ظفرِ إبهامهِا الأيسر ثم قلبت عليها ظفرها الأيمن فشدخَتْها به فسمعتُ لها فَرقعةً فقلت لجعفر : فما منعها أن تضَعَها بين حَجَرين قال : لها لذةٌ في هذه الفرقعة والمباشرةُ أبلغُ عندها في اللذة فقلت : فما تكرهُ مكانَ زوجها قال : لولا أن زوجها يُعجبُ بذلك لنهاها .
شعر لابن ميادة وقال ابن مَيَّادة :
( وسقتني سقاة المجد من آل ظالمٍ ** بأرشيةٍ أطرافها في الكواكب ) ( وإنَّ بأعلى ذي النخيل نسية ** يسيرون أعياراً شدادَ المناكبِ ) ( يشلنَ بأستاهٍ عليهنَّ دسمةَ ** كما شال بالأذناب سمرُ العقارب )
في البرغوث
والبرغوث أسودُ أحدبُ نَزَّاء من الخلق الذي لا يمشي صِرفاً .وبما قال بعضهم : دبيبُها من تحتي أشدُّ عَلَيّ مِنْ عضِّها .
وليس ذلك بدبيب وكيف يمكنهُ الدَّبيبُ وهو مُلزَق عَلَى النِّطع بجلد جنب
النائم ولكنّ البرغوثَ خبيثٌ فمتى أرادَ الإنسان أن ينقلب من جنب إلى جنب
انقلب البرغوث واستلقى عَلَى ظهره ورفع قوائمه فدغدغه بها فيظنُّ من لا علم
عنده أنه إنما يمشي تحت جنبه .
وقد ذكرنا من شأنه في مواضع ولو كان الباب يكبر حتى يكون لك مجموعاً ولم تعرفه تكلفت لك جمعه .
شعر في البرغوث
وقال بعضُ الأعراب : ليلُ البراغيث عنّاني وأنْصَبِني لا باركَ اللَّهُ في ليل البراغيثِ ( كأنهنَّ وجلدي إذْ خَلونَ به ** أيتامُ سَوْءٍ أغاروا في المواريثِ )وقال محبوب بن أبي العشَنَّط النهشليّ : ( للنورِ فيه إذا مجَّ النَّدى أرجٌ ** يشفي الصداعَ ويشفي كلَّ ممغوثِ ) ( أملا وأحلى لعَينِي إن مررتُ به ** مِن كَرْخ بغدادَ ذِي الرُّمانِ والتُّوثِ ) ( الليلُ نِصفان : نصفٌ للهموم فما ** أقضى الرقادَ ونصف للبراغيثِ ) ( أبيتُ حين تُسامِينى أوائلها ** أنزو وأخلطِ تسبيحاً بتغويثِ )
( سُود
مَداليجُ في الظلماء مؤذيةٌ ** وليس ملتمسٌ منها بمسبوثِ ) وقد جعل التوثَ
بالثاء ووجه الكلام بالتاء وتعجيمها نقطتان من فوقها .
وقال آخر : (
لقد عَلِمَ البرُغوثُحين يَعَضَّنيِ ** ببغدادَ إني بالبلاد غريبُ ) وقال
آخر : ( وَإنَّ امرأً تؤْذي البراغيثُ جِلدَه ** ويُخرجنَهُ من بيته لذليلُ
) ( ألاَ رُبّ برغوثٍ ترَكتُ مجدّلاً ** بأبيض ماضي الشّفرَتَيْنِ صَقيل )
وقال آخر : ) ( لِقيتُ منَ البرغوث جَهْداً ولا أرى ** أميراً عَلَى
البرغوثِ يقضِي ولا يُعْدِي ) ( يقلِّبني فوقَ الفِرَاشِ دبيبُه ** وتصبح
آثارٌ تَبيّنُ في جِلْدِي )
( ألا يا عبادَ اللّه مَنْ لقبيلةٍ ** إذا ظهرتْ في الأرض شدَّ مُغِيرُها ) ( فلا الدِّينُ ينهاها ولا هي تنتهي ** ولا ذُو سِلاحٍ من مَعَدٍّ يَضِيرُها ) وقال يزيد بن نُبيه الكِلابّي : ( أصبحتُ سالمتُ البراغيثَ بعدما ** مَضَتْ لية مني وقَلَّ رُقُودها ) ( فيا ليت شعري هل أزورنَّ بلدة ** قيلٌ بها أو باشُها وسنيدُها ) ( وهل أسمعن الدهرَ أصوات ضُمَّر ** تُطالِع بالركبانِ صُعراً خُدُودها ) ( وهل أرَيَن الدهرَ ناراً بأرْضها ** بنفسي وأهلي أرضُها ووفودها ) ( تراطنُ حولي كما ذرَّ شارقٌ ** ببغداد أنباط القُري وعبيدُها ) وقال آخر : لا بارك اللهُ في البرغوثِ إن له لذعاً شديداً كلذعِ الكيِّ بالنار ( أقولُ والنجمُ قد غارت أوائله ** وغَلَّسَ المدلجُ الساري بأسحارِ ) ( لبرقةٌ مِنْ براقِ الحزنِ أعمًرها ** فيها الظباءُ تُراعي غبَّ أمطارِ )
( أشفى لِدَائي من دربٍ به نبطٌ ** ومنزلٍ بين حَجام وجزار ) ( مَنْ ينحرُ الشول لا يُخطى قوائمَها ** بمُدية كشرارِ النار بتارِ ) ( إنَّ هذا المصلوبَ لا شك فيه ** هو من بعد صلبهِ مبعوثُ ) حلَّ من حيثُ ليس يأكله البقُّ ولا يهتدي له البرغوتُ ( بينَ حِنوى ْ مطيةٍ إنْ يسقها ** سائقاها فذاك سيرٌ مكيثُ ) ( فعليه الدبارُ والخزيُ لما ** قلتُ مَنْ ذا فقال لصٌّ خبيثُ ) وقال أبو الرماح الأسديُّ : ( تطاوَلَ بالفسطاط ليلي ولم يكن ** بِحنْو الغَضَى ليلٌ عَليَّ يطولُ )
( يؤرِّقُني حُدْبٌ صغارٌ أذلةٌ ** وإن الذي يؤذينَهُ لذليل ) ( إذا جُلتُ بعض الليل منهن جَوْلةً ** تعلَّقْنَ بي أو جُلْنَ حيثُ أجولُ ) ( إذا ما قتلناهنّ أُضعَفْنَ كَثْرَةً ** علينا ولا يُنعى لهنّ قتيلُ ) ( ألا ليت شعري هل أبيتَنَّ ليلة ** وليس لبرغوث عَلَيَّ سبيلُ ) وقال أبو الشَّمقمق : ( يا طولَ يومي وطول لَيْلَتِيَهْ ** إن البراغيثَ قد عَبِثْنَ بِيَهْ ) ( فيهنّ بُرغوثَةٌ مُجَوَّعَةٌ ** قد عقدَتْ بَنْدها بفقْحَتِيهْ ) وقال آخر : ( تطاولَ في بغدادَ ليلى ومن يكُنْ ** ببغدادَ يلبثْ ليله غيرَ راقدِ ) ( بلادٌ إذا جنَّ الظلامُ تقافزتْ ** براغيثها من بين مثنى وواحدِ )
( ديازجةٌ سود الجلود كأنها ** بغالُ بريد أرسلت في مداودِ ) وقال آخر : ( أرَّقَني الأُسَيْوِدُ الأسكُّ ** ليلةَ حَكَّ ليس فيها شكِّ ) ( أحُكُّ حتى مالهُ مَحَكَ ** أحُلُّ حتى مِرْفقي مُنقَكُّ ) وقال آخر : ( يا أُمَّ مَثْواي عَدِمْتُ وَجْهكِ ** أنقذني ربُّ العُلا من مِصْرِكِ ) ( ولذْعِ برغوثٍ أُرَاهُ مُهْلِكي ** أبيبُ ليلي دائمَ التحكُّكِ ) تحكُّكَ الأجربِ عند المبرَكِ وقال آخر : ( الحمد للّه برغوث يُؤَرِّقني ** أحَيْلِكُ الجلْدِ لا سمْعٌ ولا بصرُ )
وقال آخر : ( قبيلةٌ في طولها وعَرْضِها ** لم يُطْبِقُوا عينًا لهم بغُمْضِها ) ( عقارباً ترفضُّ من مُرَفَضِّها ** إن دام هذا هربتْ منْ أرضِها ) يا ربِّ فاقْتلْ بعضَها ببعضِها
معارف في البرغوث
قال : والبرغوثُ في صورة الفيل وزعموا أنها تبيض وتفرخ وأنهم رأوْا بيضَها رؤية العين والبراغيث تَنَاكَحُ وهي مستدبرةٌ ومتعاظلة وهي من الجنس الذي تطول ساعة كوْمِها .استقذار القمل وليس الناسُ لشيء مما يعَضُّهم ويؤذيهم من الجرجس والبقِّ والبراغيثِ والذِّبان أشد استقذارًا منهم للقمل ومن العجب أنّ قرابته أمسُّ فأما قملة النِّسر وهي التي يقال لها بالفارسية : دَدَه وهي تكون بالجبل فإنها إذا عضّت قتلت .
القول في البعوض حدَّثني إبراهيم بن السِّنديِّ قال : لما كان أبي بالشام
والياً أحبَّ أن يسوِّي بين القَحطانيِّ والعَدناني وقال : لسنا نقدِّمُكم
إلا على الطاعة للّه عزّ وجلّ ولللخلفاء وكلُّكم إخْوة وليس للنَّزاريِّ
عندي شيءٌ ليس لليَمانيِّ مثله .
قال : وكان يتغدّى مع جملة من جِلَّة
الفريقين ويسوِّي بينهم في الإذن والمجلس وكان شيخ اليمانية يدخل عليه
معتمًّا وقد جذب كوْرَ عمامته حتى غطى بها حاجبه وكان لا ينزِعها في حر ولا
برد فأراد فتى من قيس وقد كان أبي يستخليه ويقرِّبه أن يُسْقطه من عين أبي
ويوحِشَه منه فقال له ذات يوم ووجدَ المجلس خاليًا : إني أريدُ أن أقول
شيئاً ليس يخرِجه مني إلا الشكر والحُرية وإلا المودة والنصيحة ولولا ما
أعرفُ من تقزُّزك وتنطُّسِك وأنك
متى انتبهت على ما أَنا مُلْقِيه
إليك لم آمَنْ أَنْ تستغشَّني وإن لم تُظْهِرْه لي إن هذا اليمانيّ إنما
يعتم أبداً ويمدُّ طُرّةَ العمامة حتى يغطِّي بها حاجِبَيْهِ لأن به داءً
لو عَلِمْتَ به لم تؤاكلْهُ .
قال : فقال أبي : فرَماني واللّه بمعنى
كاد ينقضُ علييَّ جميع ما بيدي وقلتُ : واللّه لئن أكلت معه وبه الذي به
إنّ هذا لهو البلاءُ ولئنْ منعت الجميع مؤاكلتي لأوحِشَنهم جميعاً بعد
المباسطة والمباثَة والملابسة والمؤاكلة ولئن خصَصْتُه بالمنع أو أقعدتُه
على غير مائدتي ليغضَبَنّ ولئن غضِب ليغضَبنّ معه كل قحطاني بالشام فبتُّ
بليلة طويلة فلما كان الغَدُو جلست ودخلوا للسلام جرى شيءٌ من ذكر السمومِ
وغرائبِ أعمالها فأقبل عَليَّ ذلك الشيخُ فقال : عندي من هذا بالمعاينةِ ما
ليس عند أحد خرجت مع ابن اخي هذا ومع ابن عمّي هذا ومع ابني هذا أريد
قَريتي الفُلانية فإذا بقُرب الجادّةِ بعير قد نهشته أفعى وإذا هو وافرُ
اللحم وكل شيء )
واليه من الطير والسباع ميت ، فقمنا منه على قاب أرماح تتعجب ، وإذا عليه بعوض كثيرة .
فبينا أنا أقول لأصحابي : يا هؤلاء إنكم لترون العجَب : أولُ ذلك أن
بعيراً مثل هذا يتفسَّخ من عَضةِ شيء لعله أن لا يكون في جسم عرقٍ من عروقه
أو عَصَبة من عصَبه فما هذا الذي مَجَّه فيه وقذفه إليه ثم لم يرضَ بأن
قتلَه حتى قتلَ كلّ طائر ذاق منه وكلّ سبُعٍ عضّ عليه وأعجب من هذا قتلُه
لأكابر السِّباع والطيرِ وترْكه قتْلَ البعوضة مع ضَعفها ومهانتِها .
فبينا نحن كذلك إذ هبَّت ريحٌ من تلقاء الجى فةِ فطيّرت البعوض إلى شِقّنا
وتسقط بعوضة على جبهتي فما هو إلا أن عضتْني إذ اسْمَأَدَّ وجهي تورَّم
رأسي فكنت لا أضرِبُ بيدي إلى شيء أحكُّه من رأسي وحاجِبي إلا انتثر في يدي
فحُمِلْت إلى منزلي في محمل
وعولِجْت بأنواع العلاجِ فَبَرَأت بعد دهر طويل على أنه أبقى عليَّ من الشَّين أنه تركني أقَرعَ الرأس أمرط الحاجبين .
قال : والقومُ يخوضون معه في ذلك الحديث خَوْضَ قوم قد قتَلوا تلك القصة يقيناً .
قال : فتبسمْت ونَكَس الفتى القيسيُّ رأسه فظن الشيخ أنه قد جرى بيننا في
ذلك ذَرْء من القول فقال : إن هذا القيسيّ خبيث ولعله أن يكون قد احتال لكَ
بحيلة قال إبراهيم : فلم أسمع في السموم بأعجبَ من هذا الحديث .
طلسمات البعوض ويزعم أهلُ أنطاكية أنهم لا يُبْعَضونَ لِطلَّسمٍ هناك
ولو ادعى أَهلُ عقْر الدَّير المتوسطة لأجمةِ ما بينَ البصرةَ وكَسْكَر لكان طِلَّسْمُهُمْ أَعجب .
ويزعم أَهلُ حِمْص أن فيها طِلَّسْماًَ من أَجلِهِ لا تعيشُ فيها العقارب
وإنْ طُرحَتْ فيها عقَربٌ غريبةٌ ماتَتْ من ساعتها . و لَعَمري إنه ليجوزُ
أَن تكون بلدة تضادُّ ضرباً من الحيوان فلا يعيش فيها ذلك الجنس فيدعي
كذَّابو أهلها أَن ذلك برُقْية أَو دعوة أَو طلّسم .
ألم عضة البرغوث والقملة
والبرغوثُ إذا عض وكذاك القملة فيس هناك من الحُرقة والألم ما لَه مدةٌ قصيرة ولا طويلة .وأما البعوضُ فأشهد أن بعوضةً عضتْ ظهر قدمي وأَنا بقرب كاذَة والعَوْجاء وذلك بعد أَن صلى الناسُ المغرب فلم أَزَل منها في أُكالٍ وحُرْقَة وأنا أَسير في السفينة إلى أن سِمعتُ أَذانِ العشاء .
ولذلك يقال : إن البعوضة لو ألحقت بمقدار جرْم الجرَّارة فإنَّها
أصغرُ العقارب ثم زيدتْ مم تضاعيف ما معها من السُّمِّ عَلَى حَسَبِ ذلك
لكانت شَرّاً من الدُّوَيْبّة التي تسمى بالفارسية : دَدَهْ وهي أَكبر من
القملة شيئاً وتكون بمهرجان قَُذُق فإنها مع صِغر جسمها تفسَخ الإنسان في
أَسرعَ من الإشارة باليد وهي تعضُّ ولا تلسع وهي من ذوات الأفواهِ وهي التي
بزعمهم يقال لها قملة النَّسر وذلك أن النّسر في بعض الزمان إذا سقط بتلك
الأرض سقطت منه قملة تستحيل هذه الدابةَ الخبيثةَ .
والبعوضةُ من ذواتِ الخراطيم .
وحدّثني محمد بن هاشم السِّدريّ قال : كنتُ بالزُّطِّ فكنت واللّه أرَى البعوضَة تطير عن ظهر الثور فتسقط على الغُصْن من
الأغصان فتقلِس ما في بطنها ثم تعود .
والبعوضة تَغْمِس خرطومها في جلد الجاموس كما يغمِسُ الرجلُ أصابعَه في الثريد .
ومن العجب أن بين البصرة وواسط شطرين فالشَّطر الذي يلي الطّف وباب طنج
يبيت أهله في عافية وليس عندهم من البَعوض ما يذكر والشطر الذي يلي زقاق
الهِفَّة لا ينامُ أَهله من البعوض فلو كان هذا ببلاد الشام أَو بلاد مصر
لأدَّعوا الطِّلَّسم .
وحدَّثني إبراهيم النَّظام قال : وردنا فم زقاق
الهفة في أجَمة البصرة فأردنا النفوذ فمنعنا صاحبُ المسْلحة فأرَدْنا
التأخُّر إلى الَهوْر الذي خرَجْنا منه فأبى علينا وورَدْنا عليه وهو سكران
وأَصحابُه سُكارى فغضِب عََلَى مَلاَّح نَبَطِيٍّ فشدّهُ قِماطاً ثم رمى
به في الأجمة على موضعِ
أرض تتصل بموضع أكواخ صاحب المسْلَحةَ فصاح
الملاح : اقتلني أيَّ قتلة شئتَ وأرحْني فأبى وطرحه فصاح ثم عاد صياحُه إلى
الأنين ثم خَفَتَ وناموا في كِلِلِهم وهم سكارى فجئتُ إلى المقموط وما
جاوز وقت عتمةٍ فإذا هو ميتٌْ وإذا هو أَشد سواداً من الزنجي وأشد انتفاخاً
من الزقِّ المنفوخ وذلك كله بقدر ما بين العشاء والمغرب فقلت : إنها لمَّا
)
لسَبَتْه ولسَعته من كلِّ جانب لسْعا عَلى لسع إن اجتماعَ سمومها
فيه أَرْبَتْ عَلَى نهشة أَفعى بعيداً فهي ضررٌ ومحنةٌ ليس فيها شيءٌ من
المرافق .
نفع العقرب والعقاربُ بأكلها مَشويةً من بعينه ريح السّبَل
فيجدُها صالحة ويرمَى بها في الزيت حتى إذا تفسَّخت وامتصَّ الزيتُ ما فيها
من قواها
فطلوْا بذلك الدهنِ الخُصى التي فيها النفخ فرّق تلك الريح حتَّى تخمُصَ الجلِدة ويذهب الوجع .
فإذا سمعْتَ بدُهْن العقارب فإنما يعنون هذا الدهن . ( في البقّ والجِرجس
والشَّرَّان والفَرَاش والأدي ) وقال اللّه تعالى : إنَّ اللّه لا
يَسْتَحْيِِ أَنْ يَضْرِبَ مَثلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها قال : يريد
فما دونها .
وهو قول القائل للرجل يقول : فلانٌ أسفلُ الناسِ وأنذلهُم
فيقول : هو فوق ذلك يضعُ قوله فوق في موضع : هو شَرٌّ من ذلك .
قال : وضروب من الطير لا تلتمسُ أرزاقها إلا بالليل منها الخُفَّاش والبُومة والصَّدى والضُّوْع وغُرابُ الليل .
وللبعوض بالنهار تؤذي بعض الأذى وإنما سلطانها بالليل وكذلك البراغيث .
وأما القملُ فأمره في الحالات مستوٍ وليس للذِّبَّانِ بالليل عملٌ إلا
أنّي متى بيَّتَ معتي في القبة ما صار إليها وسكن فيها من الذِّبّان ولم
أطرُدْها بالعشيِّ وبعد العصر فإني لا أجدُ فيها بعوضة واحدة .
شعر ورجز في البعوض
وقال الرَّاجز في خرطوم البعوضة :
وقال الهذليّ : ( كأنَّ وغَى الخَموشِ بجانِبَيْه ** وغَى رَكْبٍ أمَيْمَ
ذوِي هِيَاطِ ) والخموش : أصناف البعوض والوغى : أصوات الملتفة التي لا
يُبين واحدُها عن معنى وهو كما تسمع من الأصوات الجيشين إذا التقيا عَلَى
الحرب وكما تسمعُ من ضجَّة السوق .
وقال الكُمَيت وهو يذكر قانصاً وصاحب قُتْرَة لأنه لا يَبتَنِي بيته إلاّ عند شريعةٍ ينتابها )
الوحْش فقال وهو يصف البعوض :
( به حاضرٌ من غير جِنٍّ تروُعه ** ولا أنسٌ ذو أَرْنانٍ وذُو زَجَلْ ) والحاضر : الذي لا يبرحه البعوض لأن البعوض من الماء يتخَلق فكيف يفارقه والماءُ الراكد لا يزال يولدُهُ فإن صار نطافاً أو ضَحْضَحاً استحال دعاميص وانسلخت الدَّعاميص فصارت فراشاً وبعوضاً وقال ذو الرُّمّة : ( وأيقنّ أنّ القِنْعَ صارتْ نِطافُه ** فَرَاشاً وأن البقْل ذاوٍ و يابسُ ) وصفَ الصَّيف وقال أبو وجْزَةَ وهو يصِفُ القانصَ والشريعة والبعوض :
( تَبِيتُ جارَتَهُ الأفعى وسامرُه ** رُمْدٌ به عاذِرٌ مِنهنَّ كالجَربِ ) رَُمْدٌ في لونها يعني البعوض وهي التي تسِامرُ القانِصَ وتُسْهِره والعاذِر : الأثر يقول : في جلده وقال الراجز يصف البَعُوض : ( ولَيلةٍ لم أدرِ ما كَراها ** أمارِسُ البَعُوضَ في دُجَاها ) ( كلُّ زَجُول خَفِقٍ حَشاها ** سِتٌّ لدَى إيفائها شَوَاها )
( لا يطْربُ السامعُ من
غناَها ** حَنّانة أعظَمُها أذاها ) أرجل الجرادة والعقرب والنملة والسرطان
وكذلك قوائم الجرادة هي ستّ : يدان ورجلان والميشاران وبهما تعتمد إذا
نَزَت .
فأما العقرب فلها ثمان أرجل وللنملة ست أرجل .
وللسَّرَطان ثمان أرجل وهو في ذلك يستعين بأسنانه فكأنه يمشي على عَشر
وعيناه في ظهره وما أكثر من يشويه ويأكله للشهوة لا للحاجة ولا للعلاج .
شعر ورجز في البعوض
وقال الرَّاجز ووصَفَ حالَهُ وحَالَ البَعوض : ( لم أرَ كاليوم ولا مُذْ قَطِّ ** أطولَ من ليلي بنهر بَطِّ ) ( كأنما نجومُه في رُبْط ** أبيتُ بينَ خُطَّتي مشتطِّ )( سقط : بيت الشعر ) ( من البعوض ومن التغطى ** إذا تغنين غناء الزط ) ( وهُنّ منّي بمكانِ القرطِ ** فثِقْ بوقْعٍ مثلِ وقْعِ الشَّرطِ ) وقال أيضاً : ( إذا البعوضُ زجَلَت أصواتُها ** وأخذ اللحنَ مغنِّياتُها ) ( لم تطرب السامعَ خافضاتُها ** كلُّ زجُولِ تُتَّقى شَذاتُها ) ( صغيرةٌ عظيمة ٌْ أذاتها ** تنقُص عن بُغيتها بُغاتُها ) ( ولا تصيبُ أبداً رُماتُها ** رامحةٌ خُرطومُها قَنَاتُها )
وأنشدني جعفر بن سعيد : ( ظَلِلْتُ بالبصرة في تَهْوَاشِ ** وفي براغيثَ أذاها فاشي ) ( من نافر منها وذي اهتماش ** يرفع جَنْبَيِّ عن الفراش ) ( فأنا في حَكَ وفي تخْراش ** تتركُ في جنبيِّ كالخراش ) ( وزوجةٍ دائمةِ الهراش ** تغلي كغلي المِرجَلِ التَّشَّاشِ ) ( تأكلُ ماجَمَّعت من تَهباش ** بل أمُّ معروف خَموشٌ ناشِ ) وقال رجل من بني حِمَّانَ وقَع في جُنْد الثغور : ( أأنصُرُ أهل الشام ممن يكيدهم ** وأهلي بنَجدٍ ساءَ ذلك من نصرِ )
( سقط : بيت الشعر ) ( براغيث ترذيني إذا الناس نوموا ** وبق أقاسيه على ساحل البحر ) ( فإن يك فرضٌ بَعدها لا أعُدْ لَهُ ** وإن بذلوا حُمْرَ الدنانيرِ كالجمْر )
في العنكبوت
قال اللّه عز وجل : مَثَل الَّذينَ اتخذوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلمُونَ ثم قال على إثر ذلك : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضرِبُها للِنَّاسِ وَمَا يَعقِلها إلاّ العَالِمُونَ يريد ذكره بالوهَن وكذلك هو ولم يُرِدْ إحكام الصنعة في الرِّقَّة والصَّفاقة واستواء الرقعة وطول البقاء إذا كان لا يعمل فيه تعاوُرُ الأيام وسَلِمَ من جنايات الأيدي .
شعر في العنكبوت
وقال الحُدَّانيّ : ( يزهِّدُني في وُدِّ هارونَ أنه ** غَذَتْهُ بأَطْباءٍ مُلَعَّنَةٍ عُكْلُ ) ( كأنّ قَفَا هارُونَ إذْ قَامَ مُدْبراً ** قفا عنكبوت سَلّ من دُبْرِهَا غَزْلَ ) ( ألا ليت هاروناً يسافرُ جائعاً ** وليس عَلَى هارون خفٌّ ولا نعْلُ ) ( ولو أنَّ شيخاً ذا بَنِينَ كأنما ** على رأسِهِ من شاملِ الشَّيْب قَوْنَسُ ) ( ولم يَبْقَ من أضراسه غير واحدٍ ** إذ ا مَسَّه يَدْمى مِرَاراً ويَضْرَسُ ) ( تبيِّت فيه العنكبوتُ بناتِها ** نواشئَ حتى شِبْنَ أَوْ هُنّ عُنَّسُ ) ( لظَلَّ إليها رَانِياً وكأنه ** إذا كشّ ثورٌ من كريص مُنَمِّسُ ) ( أجناس العنكبوت ونسْجها )
قال : ومن أجناس العنكبوت جنس رديء التدبير لأنه ينسِجُ سِترهُ على وجه
الأرض والصخور ويجعله على ظهر الأرض خارجاً وتكونُ الأطرافُ داخلة فإذا وقع
عليه شيءٌ مما يغْتَذِيه من شكل الذّبّان وما أشبه ذلك أخذه .
وأما
الدقيق الصَّنعة فإنه يصعِّد بيته ويمدُّ الشَّعرة ناحيةَ القرون والأوتاد
ثم يسدِّي من الوسط ثم يهيِّئُ اللُّحمة ويهيَّئُ مَصيدَتَه في الوسط فإذا
وقع عليها ذباب تحرَّك ما هناك ارتبط ونشِبت به فيتركه على حاله حتى إذا
وثق بوَهْنِهِ وضَعْفه غَلَّه وأدخَلَه إلى خزانته وإن كان جائعاً مصَّ من
رطوبته ورمَى به فإذا فَرَغَ رمّ ما تشعَّثَ من نَسْجه .
وأكثرُ ما يقعُ عَلَى تلك المصيدة من الصَّيدِ عند غيبوبة الشمس .
وإنما اتنسج الأنثى . فأما الذكر فإنه ينقض ويفسد .
وولد العنكبوتِ أعجبُ من الفرُّوج الذي يظهر إلى الدنيا كاسباً محتالاً مكتفياً .
قال : وولد العنكبوت يقومُ عَلَى النسج ساعةَ يولد .
قال : والذي ينسِجُ به لا يخرجُ من جوفه بل من خارج جسده .
وقال الحُدَّانيُّ : ( كأن قفا هارون إذ قام مُدْبراً ** قفا عنكبوت سُلَّ
من دُبْرها غزْلُ ) فالنحل العنكبوت ودود القزّ تختلف من جهات ما يقال إنه
يخْرُج منها .
العنكبوت الذي يسمى الليث
ومن العناكبِ جنسٌ يصيد الذُّبابَ صيد الفهود وهو الذي يسمى : الليث وله ستُّ عيون وإذا رأى الذُّبابَ لطِئَ بالأرض وسكَّنَ أطرافه وإذا وثَبَ لم يخطئْ وهو من آفات الذّبّان ولا يصيدُ إلا ذِبّان الناس .
ذبان الأسد والكلاب
وذِبَّانُ الأُسْدِ علَى حِدَة وذِبّانُ الكِلاب على حِدَة وليس يقوم لها
شيءٌ وهي أشدُّ من الزنابير وأضرُّ من العقارب الطيّارة وفيها من الأعاجيب
أنها تعضُّ الأُسْدَ كما يعضُّ الكلبَ وكذلك ذِبّانُ الكلأَ لما يغشَى
الكَلأ من بعير وغير ذلك ولها عضٌّ مُنكَر ولا يبلغُ مبلغَ ذِبَّانِ
الأُسْد .
فمن أعاجيبها سِوى شدةِ عضِّها وسَمِّها وأنها مقصورة علَى
الأسد وأنها متى رأت بأسد دماً من جراح أو رمْي ولو في مقدار الخُديش
الصغير فإنها تستجمعُ عليه فلا تقلعُ عنه حتى تقتله .
وهذا شبيهٌ بما يُرْوَى ويُخبَر عن الذَّرّ فإن الذَّرّ متى رأتْ بحيَّة خدْشاً لم تقْلِعْ عنه حتى تقتله وحتى تأكله .
ولوع النمل بالأراك ولقد أردتُ أن أغْرسَ في داري أراكةً فقالوا لي : إن الأراكة
إنما تنبت من حبِّ الأراك وفي نباتها عسْرٌ وذلك أن حبّ الأراك يغرس في
جوف طين وفي قواصِرَ ويُسقى الماءَ أياماً فإذا نبتَ الحبُّ وظهر نباتُه
فوق الطين وُضِعت القَوْصَرَة كما هي في جوف الأرض ولكنها إلى أنْ تصير في
جوف الأرض فإن الذرَّ يطالبها مطالبة شديدة وإن لم تُحفظ منها بالليل
والنهار أفسدتها .
فعمدتُ إلى منارات من صُفر من هذه المسارج وهي في
غاية الملاسة واللِّين فكنتُ أَضَعُ القوصَرَة عَلَى التُّرسِ الذي فوق
العمود الأملس فأجد فيها الذرّ الكثير فكنتُ أنقُل المنارةَ من مكان إلى
مكان فما أفلحَ ذلك الحبُّ .
ضروب العناكب
قال : والعناكب ضروبٌ : منها هذا الذي يقال له الليث وه و الذّي يصيد الذبّان صيد الفهد وقد ذكرنا في صدر هذا الكلام حِذقه ورفْقه وتأتّيه وحيلته .
ومنها أجناس طِوَالُ الأرجلُ والواحدةُ منها إذا مشت علَى جلْد الإنسان
تبثَّر ويقال إن العنكبوت الطويلة الأرجل إنما اتخذت بيتاً وأعدَّت فيه
المصايد والحبائل والخيوطَ التي تلتفُّ على ما يدخُل بيتها من أصناف
الذّبان وصغارِ الزنابير لأنها حين علِمَتْ أنها لا بدّ لها من قوت وعرفت
ضعفَ قوائمها وأنها تعجزُ عما يقْوَى عليه الليث احتالت بتلك الحيل .
فالعنكبوتُ والفأر والنحلُ والذَّرّ والنمل من الأجناس التي تتقدم في إحكام
شأنِ المعيشة ومنها جنس رديء مشنوء الصورة غليظ الأرجل كثيراً ما يكون في
المكان التَّرِب من الصناديق والقماطر والأسفاط وقد قيل : إنَّ بينه وبين
الحيَّة كما بين الخنفساء والعقرب .
وإناث العناكب هي العوامل :
تغزل وتنسج والذَّكَرُ أخرقِ ينقضُ ولا ينْسِجُ وإن كان ما قال صاحب
المنطق حَقّاً فما أغرَبَ الأُعجوبة في ذلك وذلك أنه زعم أن العنكبوت
تقْوَى على النَّسْج وعلى التقدمِ في إحكام شأن المعاش حين تولد .
الكاسب من أولاد الحيوان وقالوا : وأشياءُ من أولاد الحيوان تكونُ عالمةً
بصناعتها عارفة بما يُعيشها ويُصْلحها حتى تكون في ذلك كأُمهاتها وآبائها
حين تخرجُ إلى الدنيا وكالفرُّوج من وََلد الدجاج والحِسْل من ولد الضبِّاب
وفرخ العنكبوت .
وهذه الأجناسُ مع الفأر والجرذان هي التي من بين جميع الخلق تدَّخرُ لنفسها ما تعيش به من الطُّعم .
في النحل
زعمَ صاحبُ المنطق أن خلِيَّة من خلايا النحل فيما سلف من الزمان اعتلتْ ومَرِض ما كان فيها من النحل وجاء نحلٌ من خَلِيَّةٍ أخرى يقاتلُ هذا النحل حتى أخرجت العسل وأقبل القيِّم على الخلايا يقتل بذلك النحل الذي جاء إلى خليته .
قال : فخرج النحلُ من الخليَّة يقاتلُ النحلَ الغريب والرجل بينها يطردُ
الغريب فلم تلسعه نحل الخليَّة التي هو حافظُها لدفعه المكروهَ عنها .
قال : وأجودُ العسل ما كان لونه لون الذهب .
نظام النحل
قال : والنحل تجتمع فتقسم الأعمال بينها فبعضَها يعملُ الشّمع وبعضها يعملُ العسل وبعضها يبني البيوتَ وبعضها يَسْتَقي الماء ويصبُّه في الثقْب ويلطخه بالعسل .ومنه ما يبكِّر إلى العمل ومن النحل ما يَكفُّه حتى إذا نهضتْ واحدةٌ طارت كلها يقال : بَكَرَ بُكورَ اليَعْسوب يريد أمير النحل لأنها تتبعه غُدوةً إلى عملها
ومنها ما ينقل العسل من أطرافِ الشجر ومنها ما ينقل الشَّمعَ الذي تبني به فلا تزالُ في عملها حتى إذا كان الليل آبت إلى قال : والأرْي : عمل العسل يقال : أرت تأري أرْياً والأرْي في غير هذا الموضع : القيء وقال أبو ذؤيب : ( بأرى ِ التي تأرِي إلى كل مَغْربٍ ** إذا اصفرَّ ليطُ الشمس حان انقلابُها ) ومغارب : جمع مغرب وكل شيء واراك من شيء فهو مغرب كما جعله أبو ذؤيب والأصل مغرب الشمس وقال أبو ذؤيب : ( فباتَ بجَمْعٍ ثُمَّ تمَّ إلى مِنًى ** فأصبحَ رَأْداً يبتغي المزْجَ بالسَّحْلِ ) المزْجُ : العسل والسَّحْل : النقد .
ما
له رئيس من الحيوان ومن الحيوان ما يكون لكل جماعة منها رأس وأمير ومنها ما
لايكونُ ذلك له فأما الحيوان الذي لا يجد بدّاً ولا مصلحة لشأنه إلا في
اتخاذ رئيس ورقيب فمثل ما يصنع الناس ومثلُ ما تتخذ النحلُ والغَرانيق
والكَرَاكيّ .
فأما الإبل والحمير والبقر فإن الرياسة لفحْل الهجْمة ولعَير العانة ولثَور الرَّبرَب وذكورتها )
لاتتخذ تخذ الرُّقباء من الذُّكورة .
وقد زعم ناس أن الكراكيَّ لا تُرَى أبداً إلا فُرادَى فكأَن الذي يجمعها
الذكر ولا يجمعُها إلا ولا أدري كيف هذا القول والنحل أيضاً تسير بسيرة
الإبل والبقر والحمير لأن الرئيس هو الذي يورِدُها ويُصْدِرها وتنْهَضُ
بنهوضه وتقع بوقوعه واليعسوب
هو فحلها فترى كما ترى سائر الحيوان
الذي يتخذ رئيساً إنما هي إناث الأجناس إلا الناس فإنهم يعلمون أن صلاحهم
في اتخاذ أمير وسيِّد ورئيس .
وزعم بعضهم أن رياسة اليعسوبِ وفحل
الهجْمة والثورِ والعَير لأحد أمرين : أحدهما لاقتدار الذَّكر على الإناث
والآخر لما في طباع الإناث من حبّ ذكورتها .
ولو لم تتأمَّرْ عليها الفحولُ لكانت هي لحبِّها الفحولِ تغدو بغدوِّها وتروح بَروَاحها .
قالوا : وكذلك الغرانيق والكراكيّ فأما ما ذكروا من رؤساء الإبل والبقر والجواميس والحمير فما أبعدهم في ذلك عن الصواب .
وأما إلحاقهم الغرانيقَ والكراكي بهذه المنزلة فليس علَى ما قالوا .
وعلى أنَّا لا نجدُ بُدّاً من أن يعلم أن ذكورتها أقوى على قسرِ الإناث
وجمعها إليها من الإناث وعلى أنه لا بد من أن يكون بعض طاعة الإناث لها من
جهة ما في طباعها من حبِّ ذكورتها
ولو كان اتخاذ الغرانيق والكراكيّ
الرؤساءَ والرُّقباء إنما علته المعرفة لم يكن للغرانيق والكراكيِّ في
المعرفة فضلٌ على الذّرِّ والنمل وعلى الذِّئب والفيل وعلى الثعلب والحمام .
وقد تخضع الحياتُ للحية والكلاب للكلب والدُّيوك للديكِ حتى لا
تروِّمَه ولا تحاول مدافعتَه قصة في خنوع الكلب ولقد خرجت في بعض الأسحار
في طلبِ الحديث فلما صرتُ في مربَّعة المحلَّة ثار إليّ عِدّةُ من الكلابِ
من ضًخامها ومما يختارُه الحُرّاس فبينا أنا في الاحتيال لهنَّ وقد
غشِينَني إذ سَكَتْنَ سكتةً واحدة معاً ثم أخذ كل واحد في شقًّ كالخائف
المستخفي وسمعت نغمة إنسان فانتهزتُ تلك الفُرصةَ من إمساكهنَّ عن النُّباح
فقلتُ : إنَّ هَهُنَا
لَعِلَّة إذ أقبلَ رجلانِ ومعها كلبٌ أزبُّ
ضخمٌ دَوسر وهو في ساجور ولم أرَ كلباً قط أضخم منه فقلت : إنهنَّ إنما
أمْسَكن عن النُّباح وتسترن من الهيبة له وهي مع ذلك لا تتخذ رئيساً .
سادة الحيوان )
ورُوِي عن عبّاد بن صهيب عن عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زُهير قال : قال
أبو موسى : إن لكل شيء سادة حتى إن للنمل سادة فقال بعضهم : سادة النمل :
المتقدِّمات .
وهذا تخريج ولا ندري ما معنى ما قال أبو موسى في هذا .
ولو كان اتخاذُ الرئيس من النحل والكراكيِّ والغرانيق والإبل والحمير
والثيران لكثرة ما معها من المعرفة لكانت القرود والفيلة والذرّ والثعالبُ
أولى بذلك فلا بد من معرفةٍ ولا بد
والحمام يُزْجَلْن من لُؤلؤة وهنَّ بَصريَّات وبغداديَّات وهنّ جُمَّاعٌ من هاهنا و هاهنا فلا تتخذ رئيساً . ( طعن ناس من الملحدين في آية النَّحل ) وقد طعنَ ناسٌ من الملحدين وبعضُ من لا علم له بوجوه اللغِة وتوسُّع العرب في لُغتها وفَهْمِ بعضها عن بعض بالإشارة والوحي فقالوا : قد علمْنا أن الشمع شيءٌ تنقله النحل مما يسقط على الشجر فَتَبني بيوت العسل منه ثم تنقل من الأشجار العسل الساقط عليها كما يسقط التَّرَنْجُبين والمنُّ وغير ذلك إلا أن مواضع الشمع وأبدانه خفيٌّ
وكذلك العسل أخفى وأقلّ فليس العسل بقيءٍ ولا رجْع ولا دخَلَ للنحلة في بطْنٍ قطُّ .
وفي القرآن قول اللّه عز وجل : وَأَوْحَى رَبُّك إلَى النَّحْلِ أَنِ
اتَّخِذِي مِنَ الجِبْال بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
ثمَّ كُلي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاَسْلكِي سبُلَ رَبِّكِ ذُللاً
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فيهِ شِفَاءٌ
للِنَّاسِ إنَّ في ذلكَ لآيةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرون .
ولو كان إنما
ذهبَ إلى أنه شيءٌ يُلتَقَطُ من الأشجار كالصُّموغِ وما يتولد من طِباع
الأنداء والأجْواء والأشجارِ إذا تمازجت لمان كا في ذلك عجبٌ إلا بمقدار ما
نجده في أمور كثيرة .
قلنا : قد زعم ابن حائط وناسٌ ُ من جُهَّالِ
الصُّوفيَّة أن في النحل أنبياء لقوله عز وجل : وَأوْحَى رَبُّك إلَى
النَّحْل وزعموا أن الحَوَاريِّينَ كانوا أنبياء لقوله عز وجل : وَإذْ
أَوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ .
قلنا : وما خالف إلى أن يكون في النحل أنبياء بل يجبُ أن تكون النحل كلها أنبياء لقوله عز وجل على المخرج العامّ : وَأَوْحَى
رَبُّك إلَى النَّحُلِ ولم يخصّ الأمهات والملوكَ واليعاسيب بل أطلقَ القول إطلاقاً .
وبعدُ فإن كنتم مسلمين فليس هذا قولَ أحد من المسلمين وإلا تكونوا مسلمين فلِمَ تجعلون الحجة )
علي نبوة النحل كلاماً هو عندكم باطل قول في المجاز وأما قوله عز وجل :
يَخْرجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ فالعسل ليس بشرابٍ وإنما هو شيء يحوَّلُ
بالماء شراباً أو بالماء نبيذاً فسماه كما ترى شراباً إذ كان يجيء منه
الشراب .
وقد جاء في كلام العرب أن يقولوا : جاءت السماءُ اليوم بأمر عظيم .
وقد قال الشاعر : ( إذا سقط السماءُ بأرْضِ قوْمٍ ** رَعيناه وإن كانوا
غِضَابَا ) ومتى خرج العسلُ من جهةِ بطونها وأجوافها فقد خرج في اللغة من
بطونها وأجوافها .
ومَنْ حمل اللغة علي هذا المركب لم يفهم عن
العرب قليلاً ولا كثيراً وهذا الباب هو مفخرُ العربِ في لغتهم وبه وبأشباهه
اتسعت وقد خاطبَ بهذا الكلام أهل تِهامة وهُذيلاً وضواحِيَ كِنانة وهؤلاء
أصحابُ العسل والأعرابُ أعرَف بكل صَمْغَةٍ سائلة وعَسلة ساقطة فهل سمعتم
بأحد أنكر هذا الباب أو طعنَ عليه من هذه الحجة
أحاديث في العسل
حُدِّثَ عن سفيان الثَّوريّ قال حدَّثنا أبو طُعْمة عن بكر بن ماعز عن ربيع ابن خُثَيْم قال : ليس للمريض عندي دواءٌ إلا العسل .
وعن هشام بن حسان عن الحسن أنه كان يعجبه إذا استمشي الرجُل أن يشربَ
اللبنَ والعسل إبراهيمُ بنُ أبي يحيى قال : بلغني عن ابن عباس : أن النبيَّ
صلى اللهّ عليه وسلم سُئِل : أبى ُّ الشراب أفضل قال : الحُلْو البارد .
وسفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال : عليكم بالشفاءين : القرآن والعسلِ .
شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال : مضى رجل
إلى ابن مسعود فقال : إن أخي يشتكي بطنَه وقد نُعِتَت له الخمر فقال :
سبحان اللّه ما كان اللّه ليجعلَ شفاءهُ في رجس وإنما جُعلَ الشفاءُ في
اثنين : في القرآنِ والعسل .
سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة عن أبي
المتوكّل الناجيّ عن أبي سعيد الخدريّ : أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه
وسلم فقال إن أخي يشتكي بطنَه فقال عليه السلام : اسقهِ عسلاً ثم )
أتاه فقال : قد فعلت قال : اسقهِ عسلاً ثم أتاه فقال قد فعلتُ فقال : اسقهِ
عسلاً ثم أتاه الرابعَة فقال : صدق اللّه وكذئَبَ بطْنُ أخيك اسقه عسلاً
فسقاه فبَرأ الرجُل .
قال : والذي يدلُّ على صحةِ تأويلنا لقول اللّه عز وجل : يَخْرُجُ
منْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِف أَلْوَانُهُ فيهِ شفَاءٌ لِلنَّاسِ أن تكون المعجوناتِ كلها إنما بالعسل وكذلك الأنْبَجات .
نفع العسل وإذا ألقي في العسل اللحمُ الغريضُ فاحتاجَ صاحبه إليه بعد شهر أخرَجه طريّاً لم يتغير .
وإذا قطَرَت منه قَطْرَة علي وجه الأرض فإن استدار كما يستدير الزِّئبقُ
ولم يَتَفَشَّ ولم يختلط بالأرض والتراب فهو الصحيح وأجودُه الذهبي .
ويزعمُ أصحابُ الشراب أنهم لم يروا شراباً قطُّ ألذَّ ولا أحسنَ ولا أجمعَ
لما يريدون من شراب وفيه أعجوبةٌ : وذلك أنهم لا يعملونه إلا بماء النّيل
أكْدَرَ ما يكون وكلما كان أكدرَ كان أصْفى وإن عملوه بالصافي فسَد .
وقد يُلقَى العسلُ على الزّبيب وعلى عصير الكرْم فيجوِّدهم .
التشبيه بالعسل وهو المثَلُ في الأمور المرتفعة فيقولون : ماءٌ كأنه العسل
ويصفُون كلَّ شيء حلْوٍ فيقولون : كأنه العسل ويقال : هو معسول اللسان
وقال الشاعر : ( لسانُكَ معسولٌ ونفسُك شَحَّةٌ ** ودون الثُّرَيَّا مِن
صديقِك مالكا )
التنويه بالعسل في القرآن وقال اللّه عزَّ وجل في
كتابه وذكر أنهار الجنة فقال : مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِد المُتَّقون
فِيها أَنْهارٌ مِنْ مَاء غيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
يَتَغيَّرْ طَعْمهُ وأَنهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ للشَّارِبينَ وأنْهَارٌ
منْ عَسَلٍ مُصَفًّى فاستفتح الكلام بذكر الماء وختمه بذكر العسلِ وذكر
الماء
واللبنَ فلم يذكرْهُما في نعتهما ووصفهما إلا بالسلامةِ من الأسَنِ والتغيُّر وذَكَرَ الخمر والعسلَ فقال : مِنْ خَمْر لَذَّةٍ للشَّاربين و مِنْ عَسَل مُصفَّى فكان هذا ضرباً من التفضيل وذكرها في مواضع أُخَر فنفى عنها عيوَب خَمْر الدنيا فقال عز وجل اسمه : لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزفُونَ فكان هذا القول
في القراد
يقال : أسمَعُ من قُراد وألزَقُ من قُرَاد وماهُو إلا قراد ثَفَر وقال الشاعر : ( هم السمنُ بالسنُّوتِ لا ألْسَ فيهم ** وهم يمنعون جارهم أن يُقَرَّدَا ) السنُّوت عند أهل مكة : العسل وعند آخرين : الكمُّون .
وقال الحطيئة : ( لَعَمْرُك ما قُرَادُ بنيكَُليْب ** إذا نُزِعَ
القُرَادُ بمستطاعِ ) قال : وذلك أن الفحلَ يَمنَعُ أن يُخطَم فإذا نزعوا
من قُرَاداتِه شيئاً لذّ لذلك وسكَنَ إليه ولانَ لصاحبه فعند ذلك يلقي
الخطامَ في رأسه .
قال : وأخبرني فِراس بنُ خَنْدَقٍ وأبو
برْزةَ قال : كان جحدرٌ إذا نزلت رُفْقةٌ قريباً منه أخذ شَنَّةً فجعل فيها
قِردَاناً ثم نثرها بقرب الإبل فإذا وجدَتِ الإبلُ مَسّها نهضتْ وشدّ
الشّنَّةَ في ذنب بعضِ الإبل فإذا سمعتْ صوتَ الشَّنّة وعمِلتْ فيها
القردانُ نفرت ثم كان يثبُ في ذِروة ما ندّ منها ويقول : ارحم الغارَّة
الضِّعاف يعني القِرْدان .
قال أبو بَرْزة : ولم تكن هِمَّتُه تجاوزُ بعيراً .
القراد في الهجو
قال رُشَيد بن رُمَيض : ( لنا عِزٌّ ومأوَانا قريبٌ ** ومَولى لا يدِبُّ
مع القُرَادِ ) وهجاهم الأعشَى فقال : ( فلسنا لباغي المهمَلاتِ بِقِرْفَةٍ
** إذا ما طَمَا بالليلِ مُنْتشِرَاتها ) ( أبا مِسْمَعٍ أقْصِرْ فإن
قصيدةً ** متى تأتِكمْ تُلْحَقْ بها أخَوَاتها )
وهجاهم حُضَين بن المنذرِ فقال :
( تنازعني ضبيعةُ أمْرَ قومِي ** وما كانتْ ضُبيعةُ للأمورِ ) ( وهل كانت ضُبيعةُ غيرَ عبدٍ ** ضَمَمناه إلى نسَبٍ شطيرِ ) وأوصاني أبي فحفظتُ عنهُ بفكِّ الغُلِّ عن عُنُقِ الأسير وأوصَى جَحْدَرٌ فَوَقى بَنيهِ بإرسال القُرَادِ على البَعيرِ قال : وفي القردان يقول الآخر قال : وبعضهم يجعلها في البراغيث وهذا باطلٌْ : ( ألا يا عبادَ اللّهِ مَنْ لِقَبيلةٍ ** إذا ظَهَرَتْ في الأرض شَدَّ مُغيرُها ) ( فلا الدِّينُ ينهاها ولا هي تنتهي ** ولا ذُو سلاحٍ من مَعَدٍّ يَضِيرُها ) فمن أصناف القِرْدان : الحَمْنان والحَلم والقِرشام والعَلُّ والطِّلْح .
شعر ومثل في القراد
وقال الطِّرمَّاح : ( لمَّا وَرَدَتِ الطوى ّ والحوضُ كال ** صيرة دفن
الإزاء ملتبدهُ ) ( سافتْ قليلاً عَلى نصائبه ** ثم استمرَّت في طامسٍ تخده
) ( وقد لوى أنفهُ بمشفرِها ** طلحُ قراشيمَ شاحبٌ جسده ) علٌّ طويلُ
الطوى كبالية السفع متى يلق العلو يصطعده
وفي لُزوق القُرادِ يقولُ
الراعي : ( نبتَتْ مرافقهُنَّ فَوْقَ مَزِلَّةٍ ** لا يستطيعُ بها القُرَاد
مَقيلا ) والعربُ تقولُ : ألْزَقُ من البرَام كما تقول : ألْزَقُ من
القُراد وهما واحدٌ .
شعر لأمية في الأرض والسماء وذكر أميةُ بنُ أبي
الصَّلْتِ خلق السماء وإنه ذكرَ من مَلاَسَتِها أن القُراد لا يَعْلقُ بها
فقال : ( والأرضُ معقلنا وكانتْ أمنا ** فيها معاقلنا وفيها نولدُ ) ( فيها
تلاميذ على قذفاتها ** حبسوا قياماً فالفرائص ترعد )
( فبنى الإله
عليهم مخصوفة ** خلقاء لا تبلى ولا تتأود ) ( فلو أنه تحدو البرام بمتنها
** زلَ البرام عن التي لا تقردُ ) قال : القُرَادُ أول ُ ما يكون وهو الذي
لا يكاد يُرَى من صِغَر قَمْقَامَة ثم يصير حَمْنَانة ثم يصير قراداً ثم
يصير حَلَمة . )
قال : ويقال للقُراد : العَلّ والطِّلْح والقَتِين والبُرام وَالقِرْشام .
قال : والقُمّل واحدتها قمَّلة وهي من جنس القِردان وهي أصغر منها .
تخلق القراد والقمل
قال : والقِرْدانُ يتخلَّق من عرَق البعير ومن الوسخ والتلطُّخ بالثُّلُوط والأبوال كما يتخلَّق من جلد الكلب وكما يتخلق القملُ من عرق الإنسان ووسَخه إذا انطبق عليه ثوبٌ أو شعرٌ أو ريش .والحَلَم يعرض لأُذنَيِ الكلب أكثرَ ذلك .
أمثال وأخبار في القراد
قال : ويقال أَقطَفُ مِنْ حَلمَة وألزَقُ من بُرَام وأذلُّ من قُرَاد وقال الشاعر :
( يكاد خَليلي من تقارُبِ شَخصِه ** يَعَضُّ القرَادُ باسْتِه وهو قائمُ )
وقال أبو حَنش لقيس بن زهير : واللّه لأنْتَ بها أذلُّ من قُراد فقدَّمَه
وضَرَبَ عُنقَه .
وقال الراجز : من الخَلاءَ ومن الخُوِيِّ .
ويقال كلمة الثدي : القراد وقال عديُّ بن الرَّقاعِ :
( كأنَ قرَادَيْ صدرِه طَبعتْهُمَا ** بطينٍ من الجَوْلان كتّابُ أعْجَمِ ) والقُرَادُ يعرضُ لاسْتِ الجَملِ والنمل يعرضُ للخُصَى وقال الشاعر : ( وأنتَ مكانُك من وائل ** مكان القُرَاد مِنْ اسْتِ الجَملْ ) قال الممَّزِق : ( تُنَاخُ طليحاً ما تُرَاعُ من الشَّذا ** ولو ظلَّي في أوصالها العَلُّ يرتَقي )
ويروَى : فباتَتْ ثلاثاً لا تُرَاع يصف شدةَ جزعها من القردان .
وقال بشار بنُ بُرد : ( أعادي الهمَّ منفرداً بشوق ** عَلَى كَبِدي كما
لزق القُرَادُ ) وكانوا إذا خافوا الجَدبَ والأزمة تقدموا في عمل العِلهِز
والعلْهِز . قِردَانٌ يُعالج بدم الفصْد مع شيء من وَبر فيدّخرون ذلك كما
يدّخرُ مَن خاف الحصار الأكارعَ والجاوَرْس .
والشُّعوبيّة تهجو العربَ بأكلِ العِلْهِز والفثِّ والدُّعاع
والهبيد والمغافير وأشباِه ذلك وقال ) ( لم يُعَلَّلْنَ بالمغافير والصَّمْ ** غِ ولا شَرْيِ حنظلِ الخُطْبانِ ) وقال الطِّرِمَّاح : ( لم تأكلِ الفثّ والدعاعَ ولم ** تنقف هَيبداً يَجْنيه مُهْتَبِدُه ) وقال الأصمعيُّ : قال رجلٌ من أهل المدينة لرجل : أيسْرُّك
أن تعيشَ حتى
تجيء حَلَمةٌ من إفريقية مشياً قال : فأنت يسرُّك ذلك قال : أخافُ أن يقول
إنسانٌ : إنها بمخيض فيُغْشَى عليَّ ومخيض على رأسِ بَريد من المدينة .
ويقولون : أمّ القرَاد للواحدِة الكبيرة منها ويتسمَّوْنَ بقرَاد ويكتنون
بأبي قراد وقد ذكر ذلك أبو النجم فقال : للأرض من أمِّ القُرادِ الأطْحَلِ
وفي العرب بنو قُراد .
في الحبارى
ونَُقولُ في الحُبارى بِقول مُوجز إن شاء اللّه تعالى .قال ابنُ الأعرابي : قال أعرابيٌّ إنه ليقتلُ الحُبارَى هزلاً ظلمُ الناس بعضهم لبعض قال يقول : إذا كثرت الخطايا منَع اللّه عز وجل دَرَّ السَّحاب وإنما تصِيب الطيرُ من الحبِّ ومن الثمر عَلَى قدْر المَطر .
وقال
الشاعر : ( يسقُط الطيرُ حيثُ ينْتَثِر الحَ ** بُّ وتغشَى منازلُ
الكُرَماءِ ) وهذا مثل قوله : ( أَمَا رأيتَ الألسُنَ السِّلاطَا **
والأذرُعَ الواسعةَ السِّباطا ) إن الندَى حيثُ تَرَى الضِّغاطا
ما قيل من المثل في الحبارى
وقالوا في المثل : مات فلانٌ كَمَدَ الحُبارَى : وقال أبو الأسود الدؤلي : ( وزَيْدٌ ميَّتٌ كَمَدَ الحُبَارَى ** إذا ظعنت هُنيدةُ أو تُلمُّ ) وذلك أن الطير تتحسَّر وتتحسّر معها الحُبارى والحُبارى إذا نُتِفتْ أو تحسّرتْ أبطأ نبات ريشها فإذا طار صُوَيحِباتها ماتت كمداً .
وأما قوله : أو تلمّ يقول : أوْ تقارِب أن تَظْعَن .
وقال عثمان بن عفان رضي اللّه عنه : كلُّ شيء يحبُّ ولدَهُ حتى الحُبارى يضرب بها المثل في المُوق .
سلاح الحبارى وغيرها من الحيوان
قال : وللحبارَى خِزانة بين دُبُره وأمعائه له فيها أبداً سَلْحٌ رقيق لزج فمتى ألحّ عليها الصقرُ وقد علمت أن سُلاحها منْ أجود سِلاحها وأنها إذا ذرقتْهُ بقي كالمكتوف أو المدبَّقُ المقيَّد فعند ذلك تجتمع الحبارياتُ على الصقر فينتفن ريشَه كلَّه طاقةً طاقةً وفي ذلك هلاكُ الصقر .
قال : وإنما الحُبارى في سُلاحِها كالظَّرابيِّ في فُسائها وكالثعلب في
سُلاحه وكالعقرب في إبرتها والزنبور في شعرته والثور في قرنه والدِّيك في
صِيصِيَته والأفعى في نابها والعُقابِ في كفَّها والتمساح في ذنبه .
وكلُّ شيء معه سلاحٌ فهو أعلم بمكانه وإذا عدم السِّلاحَ كان أبعصَرَ بوجوه
الهرب كالأرنب في إيثارها للصَّعْداء لقصر يديها وكاستعمال الأرانب
للتوبير والوطء على الزَّمَعات واتخاذ اليرابيعِ القاصعاءَ والنَّافقاء
والدَّامَّاء والراهِطاء .
شعر في الحبارى
وقال الشاعر : ( وهم تركوك أسْلَحَ مِنْ حُبَارَى ** رأَتْ صقراً وأَشْردَ من نَعَامِ ) يريد : نعامة وقال قيسُ بن زهير : ( متى تتحزَّمْ بالمناطق ظالماً ** لتجري إلى شَأوٍ بعيد وتسبحِ ) ( تكُنْ كالحُبارَى إن أصيبتْ فمِثْلُها ** أُصيبَ وإن تفْلِتْ من الصَّقْر تسْلحِ ) وقال ابن أبي فَنَنٍ يصفُ ناساً من الكُتَّابِ في قصيدة له ذكرَ فيها خيانَتَهم فقال :( رَأَوْا مالَ الإمامِ لهمْ حَلالا ** وقالوا الدِّينُ دين بنَي صَهارى ) ( ولو كانوا يحاسبُهمْ أمينٌ ** لقد سَلَحُوا كما سَلَح الحُبارَى ) الخرب والنهار والخَرَب : ذكَر الحُبارى والنهارُ : فرْخ الحُبارى وفرخها حارض ساقطٌ لا خير فيه وقال متمِّمُ ( وضَيفٍ إذا أَرغى طُروقاً بَعيرَه ** وعانٍ ثوى في القِدِّ حتى تكنَّعا ) ( وأرملةٍ تمشي بأشعثَ مُحْثَل ** كفَرْخ الحُبَارَى رأسُه قد تصَوَّعا ) وقال أعرابيّ :
( أحبُّ أنْ أصطادَ ضبّاً سَحْبَلا ** وخَرَباً يرعى ربيعاً أرملا ) فجعل الخَرَب أرمَل لأن ريشه يكون أكثر وقد ذكرنا ما في هذا الباب فيما قد سلف من كتابنا .
خبر فيه ذكر الحبارى
وقال أبو الحسن المدائنيّ : قال سعيد النّواءُ : قدِمْت المدينةَ فلقيتُ عليَّ بن الحسين فقلت : يا ابنَ رسولِ اللّه متى يُبْعثَُ أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب قال : إذا بُعِثَ الناس .قال : ثم تذاكرنا أَيامَ الجملَ فقال : ليته كان ممنوعاً قبل ذلك بعشرين سنة أو كلمة غير هذه قال : فأتيت حسن بن حسَنٍ فذكرتُ له ما قال فقال : لَوَدِدْتُ واللّه أنه كان يقاتلهم إلى اليوم قال : فخرجت من فَوري ذلك إلى عليِّ بن الحسين فأخبرته بما قال فقال : إنه لقليلُ الإبقاء على أبيه .
قال : وبلغ الخبرُ
المختارَ فقال : أيُضَرِّبُ بين ابنَي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
لأقتلنَّه فتواريت ما شاء اللّه ثم لم أشعر إلا وأنا بين يديه فقال : الحمد
للّه الذي أمكنَني منكقال فقلت : أنت استمكنْتَ منِّي أمَا واللّه لولا
رؤيا رأيتها لَمَا قَدرْتَ عليّ قال : وما رأيت فقلت : رأيتُ عثمان بن عفان
فقالت : أنت عثمانُ بنُ عفان فقال : أنا حُبَارى تركتُ أصحابي حَيَارى لا
يهود ولا نصارى .
فقال : يا أهل الكوفة انظروا إلى ما أرى اللّه
عدوّكم ثم خلَّى سبيلي وِقد رُوي هذا الكلامُ عن شُتَيْر بن شَكَل أَنه
رأَى معاوية في النوم فقال الكلامَ الذي رُوي عن عثمان .
ووجْهُ كلامِ
عليِّ بن الحسين الذي رواه عنه سعيدٌ النواءُ إن كان صادقاً فإنه للذي كان
يسمعُ من الغالية من الإفراط والْغلوِّ والفُحْش .
فكأنه إنما أرادَ كسرهم وأن يحُطَّهم عن الغلوّ إلى القصْد
فإن دين اللّه عزّ وجلّ بَيْنَ التقصير والغلوّ وإلا فعليُّ بن الحسين
أَفْقَهُ في الدين وأعلمُ بمواضع الإمامة من أن يخفَى عليه فضلُ ما بين
عليِّ بين طلحة والزُّبير .
شعر ومعرفة في الحبارى وقال الكميت : والحبارى طائرٌ ٌ حسن وقد يُتَّخَذُ في الدور .
وناسٌ كثيرٌ من العرب وقريش يستطيبون مَحْسِيَّ الحُبارَى جدّاً .
قال : والحُبارى من أَشد الطير طيراناً وأَبعَدها مَسْقَِطاً وأَطولها شوْطاً وأقلِّها عُرْجةً وذلك أَنها تُصْطاد بظهر البَصرة
عندنا فيشقَّق عن حواصلها فيوجد فيه الحبّة الخضراءُ غَضّةً لم )
تتغير ولم تفسُد .
وأَشجار البُطم وهي الحبّة الخضراء بعيدةُ المنابت مِنَّا وهي عُلوية أو
ثغْريّة أو جَبَلِيَّة فقال الشاعر : ( ترتعي الضّرْوَ من بَرَاقش أَو هيلا
** نَ أو يانعاً من العُتُمِ )
شجر الزيتون والضّرو شجر البُطُم وهي الحبَّة الخضراء بالجبال شجرتها .
وقال الكَودَن العِجْليّ ويروى العُكْلي : البطم لا يعرفه أهل الجَلْس وبلاد نجد هي الجلس وهو ما ارتفع والغور هو ما انخفض .
وبَراقِشُ : واد باليمن كان لقوم عاد وبراقشُ : كلبةٌ كانت تتشاءم بها العرب وقال حمزة بن بيض :
( بل جناها أَخٌ عَلَيَّ كريمٌ ** وعَلَى أَهلِها بَرَاقِشُ تجْنِي ) (
القول في الضأْن والمعز ) قال صاحب الضَّأن : قال اللّه تبارك وتعالى :
ثَمانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضّأْن اثْنَين وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ
فقدَّم ذِكرَ الضأن .
وقال عزّ وجلّ : وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ
وقد أَجمعوا على أَنه كبشٌ ولا شيءَ أَعظمُ مما عظّم اللّه عزّ وجلّ ومِنْ
شيء فُدِيَ به نبيٌّ .
وقال تعالى : إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجةٌ وَاحِدةٌ ولم يقل إنَّ هذا أَخي له
تسعٌ وتسعونَ عَنْزَاً وَلي عنزٌ واحدة لأن الناس يقولون : كيف النعجة
يريدون الزوجة .
وتسمي المها مِنْ بقَر الوحش نعاجاً ولم تسمّ بعُنُوز وجَعلهُ اللّه عزّ وجلّ السّنّةَ في الأضاحي والكبشُ للعقيقة وهدية العُرْس
وجعل الجذَع من الضأن كالثّنِيِّ من المعْز في الأُضْحِيَة .
وهذا ما فضَّل اللّه به الضأن في الكتاب والسُّنّة . ( فضل الضأْن على
المعز ) تولَّد الضأن مرة في السّنَة وتُفْرِد ولا تُتئِم والماعزة قد
تولَّد مرتين وقد تضعُ الثلاثَ وأكثرَ وأقلَّ .
والبركة والنَّماء والعددُ في الضأن والخنزيرةُ كثيرةُ الخنانيص يقال إنها تلد عشرينَ خِنَّوصاً ولا نماء فيها .
قال : و
فضل الضأن على المعز
أن الصوف أغلى وأثمنُ وأكثرُ قدراً من الشعر والمثلُ السائر : إنما فلانٌ كبشٌ من الكِباش وإذا هجَوه قالوا : إنما هو تيسٌ من التيوس إذا أرادوا النتن أيضاً فإذا أرادوا الغاية في الغباةِ قالوا : ما هو إلا تيسٌ في سفينة .
والحُمْلاَنُ يلعبُ بها الصبيان والجداءُ لا يُلعبُ بها ولبنُ الضأن أطيبُ
وأخثَرُ وأدسم وزُبْده أكثر ورؤوس الضأن المشوِيّةُ هي الطيبة المفضلة
ورؤوس المعْز ليس عندها طائل .
ويقال رؤوس الحُملان ولا يقال رؤوس العِرْضان .
ويقال لِلُّوطِيِّ الذي يلعب بالحُدَّر من أولاد الناس : هو يأكل رؤوس
الحُملان لمكان ألية الحَمل ولأنه أخْدل وأرطب ولم يقولوا في الكناية
والتعريض : هو يأكل رؤوس العِرضان .
والشِّواءُ المنعوتُ شِواءُ الضأن
وشحمُه يصير كلُّه إهالةً أوَّله وآخرُهُ والمعْز يبقى شحمُه على حاله
وكذلك لحمه ولذلك صار الخبَّازون الحُذَّاقُ قد تركوا الضأن لأن المعْز
يبقى شحمه ولحمه فيصلح
لأن يسخَّن مراتٍ فيكون أربَحَ لأصحاب العُرس .
والكباشُ للهدايا وللنطاح فتلك فضيلةٌ في النجدة وفي الثقافة ومن الملوك
من يُرَاهِنُ عليها والكبشُ الكراز يحمل الراعيَ وأداةَ الراعي وهو له
كالحمار في الوقير ويعيش الكرَّازُ عشرين سنة .
وإذا شَبِقَ الراعي
وَاغتَلم اختارَ النعجة على العنز وإذا نعتوا شكلاً من أشكال مشي البراذِين
الفُرَّه قالوا : هو يمشي مشْي النِّعاج .
وقال اللّه عزّ وجلّ : وَمِنْ أَصوَافِها وَأَوْبَارِها وَأَشْعَارِهَا فقدّم الصُّوف .
والبُخْت هي ضأن الإبل منها الجمّازات والجواميس هي ضأن البقر يقال للجاموس الفارسية : كاوْماش .
ولا يُذْكرُ الماعزُ بفضيلةٍ إلا ارتفاعَ ثمن جلده وغَزَارةَ لبَنه فإذا صِرْتَ إلى عدَدِ كثرة النِّعاج )
وجلودِ النعاج والضأن كلِّها أرْبَى ذلك على ما يفضُلُ به الماعزُ الضأن في ثمنِ الجلد والغَزر في اللبن .
قول ابنة الخس ودغفل في المعز
وقيل لابنة الخُسّ : ما تقولين في مائة من الماعز قالت : قِنًىقيل : فمائة من الضأن قالت : غِنًى قيل : فمائة من الإبل قالت : مُنًى وسئل دَغْفل بن حنظلة عن بني مخزوم فقال : مِعزَى مَطيرة عليها قُشَعْرِيرة إلا بني المغيرة فإن فيهم تشادُقَ الكلام ومصاهرة الكرام .
ما قيل من الأمثال في العنز
وتقول العرب : لهو أصْرَدُ من عَنزٍ جَرْباء وتقول العرب : العنز تُبْهِي ولا تُبْنِي لأن العنز تصعَد على ظهور الأخْبِيةِ فتقطعها بأظلافها والنعجةَ لا تفعل ذلك .
هذا وبيوتُ الأعراب إنما تُعْمَلُ من الصوف والوبَر فليس للماعز فيها
معونة وهي تخرِّقها وقال الأول : ( لو نزلَ الغيثُ لأَبْنَيْنَ امرأً **
كانت له قبَّةٌ سَحْقَ بجادْ ) أبناه : إذا جعل له بناء وأبنية العرب :
خيامهم ولذلك يقولون : بنى فلانٌ على امرأته البارحة
ضرر لحم الماعز
وقال لي شمؤون الطبيب : يا أبا عثمان إياك ولحم الماعز فإنه يورثُ الهمَّ ويحرِّك السّوداء ويورثُ النِّسيان ويُفسدُ الدمَ وهو واللّه يخبِّل الأولاد .
وقال الكلابيُّ : العُنُوق بعد النُّوق ولم يقل : الحمَل بعد الجمَل .
وقال عمرُو ابن العاص للشيخ الجُهنيِّ المعترض عليه في شأن الحكَمين : وما
أنتَ والكلامَ يا تيس جُهينة ولم يقلْ يا كبشَ جُهينة لأن الكبشَ مدحٌ
والتَّيس ذمٌّ .
وأما قوله : إن الظّلف لا يُرَى مع الخُفِّ فالبقرُ والجواميس والضأن والمعْز في ذلك سواء .
قال : وأُتُيَ عبدُ الملكِ بن مرْوان في دخوله الكوفة على موائد بالجِداء
فقال : فأين أنتم عن العماريس فقيل له : عماريس الشّام أطيب .
وفي المثل : لهو أَذَلُّ من النقَد النقَد هو المعز وقال الكذّابَ الحِرْمازيُّ :
( لو كنتمُ قولاً لكنتمُ فَندَا ** أو كنتمُ ماءً لكنتمُ زَبَدا ) ( أو كنتمُ شاءً لكنتم نَقَدا ** أو كنتم عوداً لكنتم عُقَدا )
اشتقاق الأسماء من الكبش
قال : والمرأة تسمى كَبْشَةً وكُبَيشة والرجل يكنى أبا كَبْشة وقال أبو قُردودة : ( كبيشة إذ حاولتْ أن تَبِ ** ينَ يستبقُ الدمعُ مني استباقا ) ( وقامتْ تريكَ غداة الفراقِ ** كشحاً لطيفاً وفخذاً وساقا ) ( ومنسدلاً كمثاني الحبا ** ل توسعه زَنْبقاً أو خلاقا ) ( كبيشةُ عِرْسي تريدُ الطَّلاقا ** وتسألُني بعْدَ وَهْنٍ فِراقا )
قول القصاص في تفضيل الكبش على التيس
وقال بعض القُصّاص : ومما فضل اللّه عزّ وجلّ به الكبْش أن جعله مستورَ العورة من قُبُل ومن دبُر وممَّا أهان اللّه تعالى به التيس أن جعله مهتوكَ الستر مكشوف القبُل والدُّبُرِ .التيس في الهجاء
وقال حسّان بن ثابتٍ الأنصاريُّ : ( سألت قريشاً كلها فشرارُها ** بنو عامر شاهتْ وجوهُ الأعابِدِ ) ( إذا جلسوا وسْطَ النَّدِيِّ تجاوبوا ** تجاوُبَ عِتْدَان الربيعِ السَّوافِدِ ) وقال آخر : ( أعثمانُ بنُ حَيّانَ بنِ أدم ** عَتوٌ ُ في مَفارِقِه يبولُ )( ولو أني أشاءُ قد ارفأنَّتْ ** نَعامَتُه ويعلمُ ما أقولُ ) وقال الشاعر : ( سُمِّيتَ زَيداً كي تزيد فلم تُزِدْ ** فعادَ لك المسْمِي فسَمَّاك بالقَحْرِ ) ( نتن التُّيوس ) فالتَّيس كالكلب لأنه يقزَحُ ببوله فيريدُ به حاقَّ خَيشومه وبول التَّيس من أخْثَر البَولِ وأَنتنِه وريحُ أبدانِ التُّيوس إليها ينتهي
المثَل ولو كان هذا العرَضُ في الكبش لكان أعذرَ له لأن الخموم واللخَن
والعفَن والنَّتْن لو عرض لجلدِ ذي الصُّوفِ المتراكم الصَّفيق الدقيق
والملتفِّ المستكثِف لأن الرِّيح لا تتخلَّله والنسيم لا يتخرّقه لكان ذلك
أشبه .
فقد علِمْنا الآن أن للتيسِ مع تخلخل شعره وبروز جلده وجفوف
عرَقه وتقطع بخارِ بدنه فضلاً ليس لشيء سواه والكلبُ يُوصَفُ بالنَّتْن إذا
بلّه المطَر والحيَّات توصفُ بالنّتن ولعل ذلك أن يجدَه من وَضع أنفه على
جلودها .
وبولُ التّيس يخالط خَيشومَه وليس لشيء من الحيوان ما يشْبِهُ هذا إلا ما ذكرْنا من الكلب على أن صاحب الكلب قد أنكَرَ هذا .
وجلود التُّيوس وجلود آباط الزِّنْج مُنتِنَة العرَق وسائر ذلك سليم
والتيس إبطٌ كله ونتْنه في الشتاء كنتْنه في الصيف وإنا لندخل السكّةَ وفي
أقصاها تَيَّاس فنجِدُ نتْنها من أدناها حتى
لا يكاد أحدُنا يقطعُ تلك السكة إلا وهو مخمَّرُ الأنف إلاما كان مما طبَعَ اللّه عزّ وجلّ عليه البَلَوِيّ )
وعليّاً الأسواري فإن بعضَهما صادقَ بعضاً على استطابة ريح التيوس وكان
ربما جلسا على باب التَّيَّاس ليستنشقا تلك الرائحة فإذا مرَّ بهما من
يعرفهما وأنكر مكانهما ادّعيا أنهما ينتظران بعض من يخرجُ إليهما من بعض
تلك الدُّور .
المكّيّ وجاريته فأما المكي فإنه تعشَّقَ جاريةً يقال
لها سَنْدَرة ثم تزوجها نَهاريَّة وقد دعاني إلى منزلها غيرَ مرّة
وخَبَّرني أنها كانت ذاتَ صُنان
وأنه كان معجَباً بذلك منها وأنها
كانت تعالجه بالمرتك وأنه نهاها مراراً حتى غضب عليها في ذلك قال : فلما
عرَفَتْ شهوتي كانت إذا سألَتْني حاجة ولم أقضها قالت : واللّه
لأتَمَرَْتَكَنَّ ثم واللّه لأتَمرتكَنَّ ثمَّ واللّه لأتَمَرْتكنَّ فلا
أجِدُ بُدّاً من أن أقضي حاجتها كائناً ما كان .
اشتهاء ريح الكرياس
وحدّثني مُويس بن عمران وكان هو والكذب لا يأخذان في طريق ولم يكن عليه في
الصدق مَؤونة لإيثاره له حتى كان يستوي عنده ما يضرُّ وما لا يضر قال : كان
عندنا رجل يشتهي ريح الكِرْياس لا يشفيه دونه شيء فكان قد أعدَّ مِجْوَباً
أو سكة حديد في صورة المِبرد فيأتي الكراييس التي تكون في الأزقة القليلة
المارة فيخرِق الكِرياس ولا يبالي أكان من خزَف أو قال : فلقي الناسُ من سَيَلان كرايِيسهم شرّاً حتى عثَروا عليه فما منعَهُم من حبسه إلا الرحمة له من تلك البليّة مع الذي رأوا من حسن هيئته فقال لهم : يا هؤلاء لو مررتم بي إلى السلطانِ كان يبلغُ من عقابي أكثر مما أبلغ من نفسي قالوا : لا واللّه وتركوه .
نتن العنز
قالوا : وهذا شأنُ التَّيس وهو أبو العنز ولا تلد الحيَّة إلا حيّة ولا بد لذلك النّتْن عن ميراث في ظاهر أو باطن وَأَنْشدوا لابن أحمر : ( إني وجدْت بني أعْيَا وجاملهم ** كالعنز تَعطفُ رَوقَيها فتَرتضعُ ) وهذا عيب لا يكون في النِّعاج .مثالب العنز
والعَنز هي التي ترتضع من خِلفِها وهي مُحَفَّلة حتى تأتيَ على أقصى لبنِها وهي التي تنزع الوتد وتقلِبُ المِعْلَف وتنثر ما فيه .
وإذا ارتعتِ الضائنة والماعزة في قصيل نبتَ ما تأكله الضائنة ولا ينبت ما
تأكله الماعزة لأن الضائنة تقرِض بأسنانها وَتقطع والماعزة تقبض عليه
فتثيره وتجذبه وهي في ذلك تأكله ويضرب ( فكانتْ كَعَنْزِ السُّوءِ قامتْ
بظِلْفِها ** إلى مُدْيَةٍ تحتَ التُّرابِ تُثيرُها )
تيس بني حمان
وقال الشاعر : ( لَعَمْرُك ما تَدْرِي فَوَارِسُ مِنْقَرٍ ** أَفِي الرأْسِ أَمْ فِي الإستِ تُلْقَى الشَّكائمُ ) ( وألْهى بَني حِمَّانَ عَسْبُ عَتودِهم ** عن المجْد حتى أحرزَتْهُ الأكارِمُ ) وذلك أن بني حمَّان تزعم أن تيسهم قرَعَ شاةً بعد أن ذُبح وأنه ألقحها .أعجوبة الضأن
قالوا : في الضأن أعجوبةٌ وذلك أن النعجة ربما عظمت ألْيَتُها حتى تسقطَ على الأرض ويمنعها ذلك من المشي فعند الكبش رِفقٌ في السِّفاد وحِذْقٌ لم يُسْمَعْ بأعجبَ منه وذلك أنه يدنو منها ويقف منها موقفاً يعرِفُه ثم يصكّ أحدَ جانبي الأليةِ بصدره بمقدارٍ منالصكّ يعرفه فيفرج عن حياها المقدار الذي لا يعرفه غيرُه ثم يسفَدُها في أسرَعَ من اللَّمح .
فضل الضأن على الماعز
وقالوا : والضأنُ أحمَلُ للبرد والجَمد ولِلرِّيح والمطر .قالوا : ومن مفاخر الضأن على المعز أن التمثيل الذي كان عند كسرى والتَّخييرَ إنما كان بين النعجة والنخلة ولم يكن هناك للعنز ذِكر وعلى ذلك الناسُ إلى اليوم .
والموتُ إلى المعزَي أسْرَع وأمرَاضها أكثر وإنما معادِن الغنَم الكثير الذي عليه يعتمدُ الناسُ الجبالُ والمعز لا تعيش هناك وأصوافُ الكِباش أمنَعُ للكِباشِ من غِلَظ جُلودِ المعز ولولا أن أجوافَ الماعز أبردُ وكذلك كُلاها لَمَا احتَشَتْ من الشّحم كما تحتشي .
جمال ذكورة الحيوان وقبح التيوس
وذكورة كلِّ جنس أتمُّ حُسناً من إناثها وربما لم يكنْ للإناث شيءٌ من الحُسنِ وتكون الذكورةُ في غاية الحسن كالطواويس
والتَّدارج وإناثها لا تدانيها في الحُسن ولها من الحسن مقدارٌ وربما
كُنَّ دونَ الذُّكورة ولهنّ من الحسن مقدار كإناث الدَّراريج والقَبَج
والدجاج والْحمام والوراشين وأشباه ذلك .
وإذا قال الناس : تيّاس عُرِف معناه واستُقْذِرَتْ صناعته وإذا قالوا : كَبَّاش فإنما يعنُون بيعَ الكبَاش واتخاذها للنِّطاح .
والتُّيوسُ قبيحة جدّاً وزاد في قبحها حُسْن الصَّفايا .
وإذا وصفوا أعذاق النخلِ العِظام قالوا : كأنَّها كِباش .
وقال الشاعر : كأنَّ كِباشَ السَّاجِسِيَّةِ عُلِّقت دُوينَ الخوافي أو
غرايرَ تاجِرِ وصَوّر عُبيدُ اللّه بن زياد في زقاق قصره أسداً وكلباً
وكبشاً فقَرَنَه مع سَبُعين عظيمَي الشأن : وحشيًّ وأهليّ تفاؤلاً به . )
شعر في ذم العنز
ومما ذمُّوا فيه العنز دونَ النعجةِ قولُ أبي الأسودِ الدُّؤَلي : ( ولستُ بمعراضٍ إذا ما لقيته ** يعبِّس كالغَضْبان حين يقولُ ) ( ولا بِسبس كالعنز أطولُ رِسْلها ** ورِئمانها يومان ثم يزولُ ) وقال أبو الأسود أيضاً : ( ومن خير ما يتعاطي الرجالُ ** نصيحةُ ذي الرأي للمجتبيها ) ( فلا تكُ مثلَ التي استخرجتْ ** بأظلافها مديةً أو بفيها ) ( فقام إليها بها ذابح ** ومن تدع يوماً شعوبُ يجيها )وقال مسكين الدارميّ : ( إذا صَبَّحَتْني من أُناسٍ ثَعالبٌ ** لترفع ما قالوا مَنَحْتُهُم حَقْرَا ) ( فكانوا كعنزِ السَّوءِ تثغُو لحَيْنها ** وتحفِرُ بالأظلافِ عن حتفها حَفْرَا ) وقال الفرزدق : ( وكان يُجيرُ الناس من سيف مالكٍ ** فأصبح يبغي نفسه من يُجيرُها ) ( وكان كعنز السُّوء قامت بظلفها ** إلى مُدْية تحت التراب تثيرها ) أمنية أبي شعيب القلال وقال رمضانُ لأبي شُعيبٍ القَلاَّل وأبو الهُذَيل حاضر : أيَّ شيء تشتهي وذلك نصفُ النهار وفي يومٍ من صَيف البصرة قال أبو شعيب : أشتهي أن أجيءَ إلى بابِ صاحب سَقَط وله على باب حانوته أليةٌ معلقة من تلك المبزَّرة المشرّجة وقد اصفرّت ووَدكُها يقطر من
حاقِّ السِّمَن فآخُذَ بحِضْنها ثم أفتح لها فمي فلا أزال كَدْماً كدماً ونهشاً نهشاً وودكها يسيلُ على شِدْقي حتى أبلغَ عَجْب الذّنب قال أبو الهذيل : ويلك قتلتَني قتلتني يعني من الشهوة .
باب في الماعز
قال صاحب الماعز : في أسماء الماعز وصفاتها ومنافعها وأعمالها دليلٌ على فضلها فمن ذلك أن الصفية أحسن من النعجة وفي اسمها دليل على تفضيلها ولبنها أكثر أضعافاً وأولادُها أكثرُ أضعافاً وزُبْدُها أكثرُ وأطيب .وزعم أبو عبد اللّه العتبيّ أن التيس المشْراطيّ قرع في يومٍ
واحد نيِّفاً وثمانين قَرْعَة وكان قاطعَ الشهادة وقد بِيع من نسل
المِشْراطيّ وغيره الجديُ بثمانين درهماً والشاةُ بنحوٍ من ذلك وتحلب خمسة
مَكاكيك وأكثر وربما بيع الجلد جلد الماعز فيشتَريه الباضورَكي بثمانين
درهماً وأكثر .
والشاة إذا كانت كذلك فلها غَلَّةٌ نافعة تقوم بأهل البيت .
والنعال البقريّة من السِّبت وغير السِّبت مقسومٌ نفعُها بين الماعز
والبقر لأن للشُّرُك من جلودها خطَراً وكذلك القِبال والشِّسْع .
ووصفَ حُميد بن ثَوْر جلداً من جلودها فقال : ( تتابَعَ أعوامٌ علينا أطَبْنها ** وأقبَلَ عامٌ أصْلحَ الناسَ واحدُ )
( سقط : بيت الشعر ) ( وجاءت بذي أونين ما زال شابه ** تعمر حتي قيل ها مات خالد ) وقال راشد بن سِهابُ : ( ترى رائداتِ الخيل حول بيوتنا ** كمِعْزَى الحجاز أعْوَزَتْها الزَّرائبُ )
لحم الماعز والضأن
ومن منافعها الإنتفاعُ بشحم الثرْب والكلية وهما فوق شحم الألْية وإذا مدحوا اللحمَ قالوا : لحم الماعز الخَصيِّ الثَّنيّ وقال الشاعر : ( كأن
القوم عُشُّوا لَحمَ ضأنٍ ** فَهُمْ نَعِجُون قد مالت طُلاَهمْ )
والمَمرورون الذين يصرَعون إذا أكلوا لحم الضأن اشتدَّ ما بهم حتى يصرعَهم
ذلك في غيرِ أوان الصرْع .
وأوان الصَّرْع الأهِلَّةُ وأنصاف الشهور
وهذان الوقتان هما وقتُ مدِّ البحر وزيادة الماء ولزيادة القمر إلى أن
يصيرَ بدراً أثرٌ بيِّنٌ في زيادة الدِّماء والأدمغة وزيادة جميع الرطوبات .
أمثال في المعز والضأن
ويقال : فلانٌ ماعزٌ من الرِّجال وفلانٌ أمْعَزُ مِنْ فلان والعِتاق مَعْزُ الخَيْل والبراذين ضأنها وإذا وصفوا الرّجُل بالضعف والموق قالوا : ماهو إلا نعجةٌ من النعاج ويقولون في التقديم وقال الشاعر : ( نشبى وما جمعتُ من صفدَ ** وحويتُ من سبدَ ومن
لبدِ ) ( هم تقاذفت الهموم بها ** فنزعن من بلدٍ إلى بلدِ ) ( يا روحَ منْ
حسمت قناعتُه ** سَببَ المطامع من غدٍ وغدِ ) ( من لم يكنْ لله متهماً **
لم يمسِ محتاجاً إلى أحدِ ) وهذا شعر رويتُه على وجْه الدهر .
وزعم لي حُسَين بن الضّحّاك أنه له وما كان لِيَدَّعيَ ما ليس له .
وقال لي سعدانُ المكفوف : لايكون : فنَزَعْنَ من بلد إلى بلَد بل كان ينبغي أن يقول : فنازعن .
فضل الماعز وقال : والماعزة قد تُولَّد في السنة مرتين إلا ما ألقي منها
في الدِّياس ولها في الدِّياس نفعٌ موقعُه كبير وربما باعوا عندنا بطنَ
الماعز بثمنِ شاةٍ من الضأن .
قال : والأقِط للمعز وقرونها هي المنتفع بها .
قال : والجدْيُ أطيبُ من الحمل وأكرم وربما قدموا على المائدةِ الحملَ مقطوع الألية من أصل الذَّنَب ليوهِمُوا أنه جَدْي . )
وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وعقولُ الخلفاء فوقَ عقولِ الرّعية وهم
أبْصَرُ بالعيش استعملوا ذلك أو تركوه فقال : أتُرَوْنَ أني لا أعرِفُ
الطيبات لبابُ البُرّ بصغار المعزى .
وملوكنا يُحمَل معهم في
أسفارهم البعيدة الصفايا الحواملُ المعروفاتُ أزمانِ الحمل والوضع ليكون
لهم في كل منزلٍ جِداءٌ مُعَدَّة وهم يقدرون على الحُملانِ السِّمان بلا
مؤونة .
والعَناق الحمراء والجِداءُ هي المثل في المعْز والطِّيب ويقولون : جِداء البَصرة وجِداء كَسْكر .
وسلْخ الماعز على القَصَّاب أهوَن والنَّجّار يذكر في خصال السَّاج سَلَسَهُ تحت القَدُوم والمثقَب والميشار .
أمارات حمل الشاة
وقيل لأعرابي : بأي شيءٍ تعرفُ حملَ شاتك قال : إذا تورَّم حيَاها ودجَتْ شَعْرتها واستفاضت خاصرتها .
وللداجي يقال : قد كان ذلك وقد دَجَا ثوبُ الإسلام وكان ذلك وثَوبُ
الإسلام داجٍ . ( المِرْعِزِيِّ وقرابة الماعزة من الناس ) قال : وللماعز
المِرْعِزِيّ وليس للضأن إلا الصوف .
والكِسَاءُ كلها صوفٌ ووبر وريشٌ وشعرٌ وليس الصوف إلا للضأن وذوات الوبر كالإبل والثعالب والخُزَز والأرنب وكلاب
الماء والسّمُّور والفَنَك والقاقُم والسِّنجاب والدِّباب .
والتي لها شعر كالبقر والجواميس والماعز والظباء والأُسْد والنمور والذئاب
والبُبور والكلاب والفهود والضباع والعِتاق والبراذين والبغالِ والحمير
وما أشبه ذلك .
والإنسان الذي جعله اللّه تعالى فوقَ جميع الحيوان في الجمال والاعتدال وفي العقل والكرم ذو شعر .
فالماعزة بقرابتها من الناس بهذا المعنى أفخر وأكرم .
الماعز التي لا ترد
وزعم الأصمعيُّ أن لبني عُقَيلٍ ماعزاً لا ترِد فأحَِسَبُ واديَهم أخصبَ واد وأرطبه أليس هذا من أعجب العجَب .جلود الماعز
ومن جلودها تكون القِربُ والزِّقاق وآلة المشاعِل وكلُّ نتِحْي وسعْن ووَطْب وشُكَيَّة وسِقاءٍ ومَزَادَةٍ مسطوحةً كانت أو مثلوثة ومنها مايكون الخون وعِكْمُ السَّلْف والبطائنوالجُرُب ومن الماعزة تكون أنطاع البُسط وجِلال الأثقال في الأسفار وجِلال قِبابِ الملوك وبقباب الأدَم تتفاخر العرب وللقباب الحمر قالوا : مضر الحمراء وقال عَبيد بن الأبرص : ( فاذهبْ إليكَ فإني من بني أسَدٍ ** أهلِ القِباب وأهلِ الجُردِ والنادي )
الفخر بالماعز
وقالوا : وفخرتم بكبشة وكبيشة وأبي كبشة فمِنَّا عنز اليمامة وعنز وائل ومنا ماعز بن مالك صاحب التوبة النَّصوح .
وقال صاحبُ الماعز : وطعنتم على الماعزة بحفرها عن حتفها فقد قيل ذلك
للضأن . من ذلك البكري للغنبرية وهي قيلة وصار معها إلى النبي فسأله
الدهناء فاعترضت عنه قيلة فقال لها البكري : إني وإياك كما قال القائل : عن
حتفها تبحث ضأن بأظلافها فقالت له العنبرية : مهلاً فإنك ما علمت : جواداً
بذي الرجل هادياً في الليلة الظلماء عفيفاً عن الرفيقة فقال : لا زلت
مصاحباً بعد أن أثنيت علي بحضرة الرسول بهذا
ضرر الضأن ونفع الماعز
وقالوا : والنعجة حرب واتخاذها خسران إلا أن تكون في نعاج سائمة لأنها لا ترفع رأسها من الأكل . والنعجة آكلُ من الكبش
والحجر آكل من الفحل والرمكة آكل من البرذون . والنعجة لا يقوم نفعها
بمؤونتها . والعنز تمنعُ الحيَّ الجلاء فإن العرب تقول : إن العنوق تمنع
الحيَّ الجلاء .
والصفية من العراب أغرر من بخُتيةٍ بعيداً .
ويقال : أحمق من راعي ضأن ثمانين .
كرم الماعز
وأصناف أجناسِ الأظلاف وكرامها بالمعز أشبه لأن الظباء والبقر من ذوات الأذناب والشعر وليست من ذوات الألايا والصوف . والشمُل والتعاويذ والقلائد إنما تتخذ للصفايا ولا تُتخذ للنعاج ولا يخاف على ضروعها العين والنفس .
والأشعار التي قيلت فلي الشاء إذا تأملتها وجدت أكثرها في المعز : في
صفاياها وفي حوها وفي تيوسها وفي عنوقها وجدائها . وقال مخارق ابن شهاب
المازني وكان سيداً كريماً وكان شاعراً فقال يصف تيس غنمه : ( وراحت
أصَيلاناً كأن ضروعَها ** دلاء وفيها واتدُ القرن لبلب ) ( له رعثات
كالشُّنوف وغُرَّةٌ ** شديخٌ ولون كالوذيلة مذُهبُ ) ( إذا دوحةٌ من مخلف
الضال أربلت ** عطاها كما يعوذُرى الضال قرْهَبُ )
( تلاد رقيق الخدّ إنْ عُدَّ نجرهُ ** فصردان نعمَ النجر منه وأشعب ) أبو الغُرِّ والحوِّ اللواتي كأنها من الحسن في الأعناق جزعٌ مثقبُ ( إذا طاف فيها الحالبانِ تقابلت ** عقائلُ في الأعناقِ منها تحلبُ ) ( ترى ضيفها فيها يبيت بغبطةٍ ** وضيفُ ابن قيس جائعٌ يتحوبُ ) قال : فوفد ابن قيس هذا على النعمان فقال له : كيف المخارقُ فيكم قال : سيد شريف من رجل يمدح تيسه ويهجو ابن عمه
وقال الراجز : أنعتُ ضاناً أمجرتْ غثاثاً والمِجَر : أن تشربَ فلا تروى . وذلك من مثالبها . )
وقال رجل لبعض ولد سليمان بن عبدِ الملك : ماتت أمُّك بغراً وأبوك بشما .
وقال أعرابي : ( مولى بني تيمٍ ألستَ مؤدياً ** منيحتنا كما تؤدى المنائح )
( فإنك لو أديت صعدةَ لم تزلْ ** بعلياء عندي ما ابتغى الربحَ رابح ) (
ولو أشليتْ في ليلةٍ رجبيةٍ ** لأرواقها هطلٌ من الماء سافحُ )
( لجاءت أمامَ الحالبينِ وضرعُها ** أمامَ صفاقَيها مبدٌّ مضارحُ ) ( وويلُ أمها كانت نتيجةَ واحد ** ترامى بها بيدُ الإكام القراوح ) أصناف الظلف وأصناف الحافر ليس سبيلُ الظلفِفي التشابه سبيلَ أصناف الحافر والخفة . واسم النعم يشتمل على الإبل والبقر والغنم . وبعد بعض الظلف من بعض كبعده من الحافر والخف لأن الظلف للضأن والمعز والبقر والجواميس والظباء والخنازير وبقر الوحش وليس بين هذه الأجناس تسافد ولا تلاقح لا الغنم في الغنم من الضأن والماعز ولا الغنم في سائر الظلف ولا شيء من سائر تلك الأجناس تسافدُ غيرها أو تُلاقِحُها . فهي تختلف
في الصوف والشعر
وفي الأنس والوحشة وفي عدم التلاقح والتسافد وليس كذلك الحافر والخف . (
رجَز في العنز ) وقال الراجز : ( لَهَفي على عنْزين لا أنساهما ** كأنَّ
ظِلَّ حَجَرٍ صُغْرَاهُما ) قوله : صالغٌ يريد انتهاء السنّ والمعطرة :
الحمراء مأخوذة من العِطر وقوله : كأن ظلّ حجَر صُغراهما يريد أنها كانت
سوداء لأن ظِلَّ الحجَر يكونُ أَسودَ وكلما كان الساتر أشدَّ اكتنازاً كان
الظلُّ أشدَّ سواداً .
قولهم أظل من حجر وتقول العرب : ليس شيءٌ أظلَّ
من حجَر ولا أدفأ من شجَر وليس يكون ظلٌّ أبرَدَ ولا أشدَّ سواداً من ظلِّ
جبل وكلما كان أرفع
سَمْكاً وكان مَسْقِطَ الشمس أبعَد وكان أكثر عرضاً وأشدَّ اكتنازاً كَان أشدَّ لسواد ظله .
ويزعم المنجِّمون أن الليلَ ظلٌّ الأرض وإنما اشتدَّ جدّاً لأنه ظلُّ
كُرةِ الأرض وبقدر ما زاد بدنها في العِظَم ازدادَ سوادُ ظِلِّها .
وقال حميد بن ثَور : ( إلى شَجَرٍ ألمَى الظلالَ كأنها ** رواهبُ أحْرَمْنَ
الشرابَ عُذُوبُ ) والشفَّة الحمَّاء يقال لها لَمْياء يصِفُون بذلك
اللِّثة فجعَل ظِلَّ الأشجار الملتفَّة ألمى .
أقط الماعز
( لنا غَنَمٌ نُسوِّقها غِزارٌ لنا ** كأنَّ قرُونَ جِلَّتِها العِصِيُّ ) فدلّ بصفة القرون عَلَى أنها كانت ماعزة ثم قال : ( فتمْلأُ بيتَنا أَقِطاً وسَمْناً ** وحَسْبُكَ من غِنًى شِبعٌ ورِيُّ ) فدلَّ عَلَى أن الأقط منها يكون .استطراد لغوي وقال : ويقال لذواتِ الأظلاف : قد ولِّدت الشاة والبقرة مضمومة الواو مكسورة اللام مشدودة يقال هذه شاة تُحلَب قفيزاً ولا يقال تحلُب والصواب ضم التاء وفتح اللام .
ويقال أيضاً : وضعَتْ في موضع وُلِّدت وهي شاة رُبَّى من حينِ تضعُ إلى خمسةَ عشَرَ يوماً وقال أبو زيد : إلى شهرين مِنْ غنم
رُباب مضمومة الرَّاء عَلَى فُعال كما قالوا : رَجُل ورُجال وظئر وظؤار وهي رُبَّى بيّنة الرِّباب والرِّبَّة بكسر الرّاء ويقال هي في رِبابها وأنشد : حَنِينَ أمِّ البَوِّ في رِبابها والرِّباب مصدر وفي الرُّبى حديث عمر : دَعِ الرُّبَّى والماخِض والأَكولة وقال أبو زيد : ومثل الرّبّى من الضأن الرّغوث قال طَرَفة : ( فليتَ لنا مكانَ المَلْكِ عَمرٍ و ** رَغُوثاً حَوْلَ قُبَّتِنا تخُور )
وقالوا : إذا وضعت العنز ما في
بطنها قيل سَليل ومَلِيط وقال أبو زيد : هي ساعةَ تضعَه من الضأن والمعز
جميعاً ذكراً كان أو أنثى : سخلةٌ وجمعُها سَخْل وسِخَال فلا يزال ذلك
اسمَه ما رضعَ اللبَن ثم هي البَهْمة للذكر والأنثى وجمعُها بَهْم وقال
الشاعر : ( وليس يَزْجُرُكُم ما تُوعَظُون به ** والبَهْمُ يزجرُها الراعي
فتنزجرُ ) ويروى : يُزْجَر أحياناً وإذا بلغَتْ أربعة أشرٍ وفُصِلتْ عن
أمهاتها وأكلَتْ من البقل واجترّت فما كان من أولاد المعز فهو جَفْر
والأنثى جَفْرة والجمع جِفَار ومنه حديث عمر رضي اللّه عنه حين قضى في
الأرنبِ يُصِيبها المحرمُ بجَفْر .
فإذا رَعَى وقوِيَ وأتى عليه حولٌ
فهو عريض وجمعه عِرْضان والعَتُود نحوٌ منه وجمعه أعْتِدة وعِتْدان وقال
يونس : جمعه أعْتدة وعتد وهو في ذلك كلِّه جدْيٌ والأنثى عَناق وقال الأخطل
: )
وعند , هو في ذلك كلمه جدي ، والأنثى عناق ، وقال الأخطل : (
واذْكرْ غُدَانةَ عِتْداناً مُزَنَّمَةً ** من الحبلَّق يُبْنَى حولها
الصِّيَرُ ) ويقال له إذا تبع أمَّه وفطِم : تِلوٌ والأنثى : تِلوة لأنه
يتلو أمَّه .
ويقال للجَدْي : إمَّر والأنثى أَمَّرَةٌ وقالوا : هِلّع
وهِلّعة والبدرة : العَناق أيضاً والعُطعُط : الجدي فإذا أتى عليه الحولُ
فالذكر تيس والأنثى عَنْز ثم يكون جذَعاً في السَّنة الثانية والأنثى
جَذَعة ثم ثَنِيّاً في الثالثة والأنثى ثَنِيَّة ثم يكون رَباعياً في
الرابعة والأنثى رباعيَة ثم يكون سَديساً والأنثى سَدِيس أيضاً مثل الذكر
بغير هاء ثم يكون صالغاً والأنثى صالغة والصالغُ بمنزلة البازل من الإبل
والقارحِ
من الخيل ويقال : قد صَلَغَ يَصْلغُ صُلوغاً والجمع
الصُّلَّغ وقال رؤبة : والحربُ شهباءُ الكباشِ الصُّلَّغ وليس بعد الصالغ
شيءٌ .
وقال الأصمعيّ : الحُلاّم والحُلاّن من أولاد المعز خاصة وجاء
في الحديث : في الأرنب يصيبها المحرِمُ حُلاَّم قال ابن أحمر : ( تُهدِي
إليه ذراعَ البكْر تَكرمَةً ** إمّا ذَكِيّاً وإمّا كان حُلاَّنا ) ويروى :
ذراع الجدي ويروى : ذَبيحا والذبيح هو الذي أدْرَك أن يضحَّى به وقال
مهلهل بنُ ربيعة :
( كلُّ قتيلٍ في كليبٍ حُلاَّمْ ** حتى ينال القتلُ آلُ هَمامْ ) وقالوا في الضأن كما قالوا في المعز إلا في مواضع قال الكسائي : هو خروف في موضع العريض والأنثى خروفة ويقال له حَمَل وَالأنثى من الحِمْلان رِخل والجمع رُخال كما يقال ظئر وظؤار وَتَوأم وتؤام والبَهْمة : الضأن وَالمعز جميعاً فلا يزال كذلك حتى يَصِيف فإذا أكل وَاجترّ فهو فرير وفُرارة وفُرفور وعمرُوس وهذا كله حينَ يسمَنُ ويجتر والجِلاَم بكسر الجيم وتعجيم نقطة من تحت الجيم قال الأعشى :
( سَوَاهِمُ جِذْعانها كَالجِلام ** وَأقرَحَ منها القيادُ النسورا ) يعني الحوافر .
واليَعْر : الجدي بإسكان العين وقال البُريقُ الهذليّ : مُقِيماً بأملاح
كما رُبط اليَعْرُ والبذَجُ : من أولاد الضأن خاصة وقال الراجز : ) ( قد
هَلَكَتْ جارتُنا من الهَمَجْ ** فإن تجُعْ تأكل عَتُوداً أو بَذَجْ )
والجمع بذجَان .
دعاء أعرابي وقال أعرابيّ : اللَّهم مِيتَةً كمِيتَةِ أبي خارجة قالوا :
وما ميتة أبي خارجة قال : أكل بذَجَاً وَشرب مِشعَلاً ونام في الشمس
فأتَتْه المنيَّةُ شبْعان ريانَ دفآن .
تيس بني حمان وفي المثل : أغلم
من تيس بني حِمّان وبنو حمّان تزعم أنه قَفَط سبعين عنزاً وقد فُريت
أوداجه . زعم لصاحب المنطق وقد ذكر أرسطوطاليسُ في كتاب الحيوان أنه قد ظهر
ثورٌ
وَثَب بعد أنْ خُصي فنزا على بقرةٍ فأحلبَها .
ولم يَحْكِ هذا عن مُعاينةٍ والصدورُ تضيق بالردِّ على أصحاب النظر وتضِيق بتصديق هذا الشَّكْل .
أحاديث وآثار في الغنم قال : وحدَّثنا سعد بن طريق عن الأصبغ بن نُباتة
قال : سمعت عليّاً يقول : ما أَهْلُ بيتٍ لهمْ شاةٌ إلا يُقَدَّسُون كُلَّ
لَيْلَةٍ .
وقال : حدثنا عنبسة القطَّان قال حدَّثنا السكن بن عبد اللّه بن عبد الأعلى القرشيّ عن رجل من الأنصار أن رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلم قال : امْسَحُوا رُعامَ الشَّاءِ ونَقُّوا مرابِضَها مِنَ الشَّوْكِ والحِجَارَةِ فإنَّها فِي الجَنَّةِ .
وقال : ما مِنْ مُسْلمٍ له شاةٌ إلا قدِّس كُلَّ يومٍ مَرَّةً فإنْ كانَتْ
لَهُ شَاتانِ قُدِّسَ في كلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ قال : وحدثنا عنبسة
القطان بهذا الإسناد أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : أُوصِيْكُمْ
بالشَّاءِ خَيْراً فَنَقُّوا مَرابِضَها مِنَ الحِجَارةِ والشَّوْكِ
فَإنَّها فِي الجَنَّةِ .
وعن محمد بن عجلان عن وهب بن كَيسان عن محمد
بن عمرو بن عطاء العامريّ من بني عامر بن لؤَيّ أن رجلاً مرَّ على أبي
هريرة رضي اللّه تعالى عنه وهو بالعقيق فقال : أين تريد قال : أريد غُنَيمة
لي قال : امسح رُعامها وأطِبْ مُرَاحها
وصلِّ في جانبِ مُراحها فإنها من دوابِّ الجنة . )
وعن فرج بن فضالة عن معاوية بنُ صالح عن رجل من أصحاب أبي الدرداء أنه
عَمِلَ طعاماً اجتهد فيه ثم دعاه فأكل فلما أكل قال : الحمد للّه الذي
أطعَمَنَا الخميرَ وأَلبسَنا الحَبيرَ بعد الأسودَينِ : الماء والتمر قال :
وعند صاحبِه ضائنة له فقال : هذه لك قال : نعم قال : أطِبْ مُراحها
واغسِلْ رُعامها فإنها من دوابِّ الجنة وهي صفوة اللّه من البهائم .
قال : وحدَّثنا إبراهيم بن يحيى عن رجل عن عطاء بن
أبي رباح عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : إن اللّه
عزّ وجلّ خَلَقَ الجنة بيضاءَ وخيرُ الزِّيِّ البياض قال : وبعث إلى
الرُّعيان : من كانت له غنمٌ سُودٌ فليَخْلِطْها بعُفْر فإنَّ دمَ عفراءَ
أزكى من دمِ سَودَاوين .
وحدثنا أبو المقدام قال : حدَّثنا عبد الرحمن
بن حبيب عن عطاء عن ابن عباس أن رسولَ اللّه صلّى اللّهُ عليه وسلم دعا
بالرُّعاة فجُمعوا له فقال : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَرْعَى غَنَماً سُوداً
قال : وجاءته امرأةٌ فقالت : يا رسول اللّه إني اتخذت غنماً
رجوت نسلها ورِسلها وإني لا أُراها تنمو قال : فما ألوانها قالت : سود قال : عفِّري أي اخلطي فيها بِيضاً .
قال : وحدثنا طلحة بنُ عمرو الحضْرَميّ عن عطاء أن رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلم قال : الغَنَمُ بَرَكَةٌ مَوْضُوعَةٌ والإبلُ جمالٌ لأَهْلِها
والخيرُ مَعْقُودٌ في نَواصِي الخَيْلِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ حنظلةُ بن
أبي سفيان المكّي قال : سمعت طاووساً يقول : من هاهنا أطلعَ الشيطان قرنَيه
من مطلع الشمس والجفاءُ والكِبْرُ في أهل الخيل والإبل في الفدَّادينَ أهل
الوبر والسكينةُ في أهل الغنم .
قال وحدثنا بكر بن خُنيس عن
يحيى بن عُبَيد اللّه بن عبد اللّه بن مَوْهب عن أبيه عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : رأسُ الكفر قِبَلَ المشرق والفخرُ
والخُيلاءُ في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم
والإيمانُ يمانٍ والحكمة يمانية .
وعن عوف بن أبي جَميلة عن الحسن أن
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : الفخرُ في أهل الخيل والجفاءُ في أهل
الإبل والسكينة في أهل الغنم .
وعن عثمان بن مقْسَم عن نافع أن ابنَ عمرَ حدثه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : السكينة في أهل الغنَم .
جاءت سُليمٌ ولها فَديدُ . )
أخبار ونصوص في الغنم وكان من الأنبياء عليهم السلام مَنْ رعى الغنم ولم
يَرع أحدٌ منهم الإبل وكان منهم شعيب وداود وموسى ومحمد عليهم السلام قال
اللّه جلّ وعزّ : وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قال هِيَ عَصَايَ
أَتَوَكَّأُ عَلَيهَا وأهُشُّ بهَا عَلَى غَنَمِي وَليَ فِيها مَآرِبُ
أُخْرَى .
وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يرعى غُنَيمات خديجة .
والمعْزبون بنزولهم البُعدَ من الناسِ في طباع الوحش .
وجاء في الحديث : من بَدَا جَفا .
ورِعاءُ الغنم وأربابها أرقُّ قلوباً وأبعد من الفظاظة والغلظة .
وراعى الغنم إنما يرعاها بقرب الناس ولا يُعْزِبُ ولا يبدو ولا ينتجع قالوا : والغنم في النوم غُنْمٌ .
وقالوا في الغنم : إذا أقبلتْ أقبلتْ وإذا أدبرت أقبلت .
الحامي والسائبة والوصيلة وكان لأصحاب الإبل مما يحرمونه على أنفسه : الحامي والسائبة ولأصحاب الشاءِ الوصيلة .
والعتيرة أيضاً من الشَّاء وكان أحدهم إذا نذر أن يذبحَ من العتائر والرجبية كذا وكذا شاة فبلغ الذي كان يتمنَّى في نذره
وشحّ على الشاء قال : والظِّباء أيضاً شاء وهي تُجْزِي إذا كانت شاء : فيجعل عتائره من صيدِ الظباء وقال الحارث بن حِلِّزة : ( عنَتاً باطلاً وظُلماً كما تُعْ ** تتَرُ عن حجْرَةِ الرَّبيضِ الظّباءُ ) وقال الطّرِمَّاح : ( كَلَوْنِ الغَرِيِّ الفَرْدِ أجْسَدَ رأسَه ** عَتائرُ مظلومِ الهَديِّ المذبَّحِ ) ومنها الغَدويُّ والغَذَوِيّ جميعاً وقال الفرزدق : ( ومهورُ نِسْوَتِهِمْ إذا ما أنكَحُوا ** غَذَوِيُّ كلِّ هبَنْقَعٍ تِنْبَالِ )
ميل الحيوان على شقه الأيسر وقال أبو عتَّاب :
ليس في الأرض شاة ولا بعيرٌ ولا أسَدٌ ولا كلْبٌ يريدُ الرُّبوض إلا مال
على شِقِّه الأيسر إبقاءً على ناحية كبده .
قال : ومتى تفقدتم الصفايا التي في البيوت والنعاجَ والجِداء والحُمْلاَن وجدتموها كذلك . )
معالجة العقاب الفريسة قال : والعقاب تستعمل كفها اليمنى إذا أصْعَدَتْ
بالأرانب والثعالب في الهواء وإذا ضربتْ بمخالبها في بطون الظِّباء والذئاب
فإذا اشتكت كبدها أحسّت بذلك فلا تزال إذا اصطادت شيئاً تأكلُ من كبدِه
حتى تبرأ وإن لم تُعاين فريسة فربما جلَّت على الحمار الوحشيِّ فتنقضُّ
عليه انقضاضَ الصخرة فَتقدُّ بدابرتها ما بين عجْب ذنبه إلى منسِجه وقد
ذكرنا من شأنها في باب القول فيها ما فيه كفاية .
أخذ الحيوان على يساره حين يهرب قال : وليس في الأرضِ هاربٌ من حَرْبٍ أو غيرها استعملَ
الحُضْر إلا أخَذَ على يساره إذا ترك عَزْمَه وسَوْم طبيعته وأنشد : (
تخامَصَ عن وحْشِيِّه وهو ذاهلٌ ** وفي الجوف نارٌ ليس يخبو ضِرامُها )
وأنشد الأصمعي للأعشى : ( ويسَّر سَهْماً ذا غِرَار يسوقُهُ ** أمين
القُوَى في ضالةِ المترنّمِ ) ( فمرّ نَضِيَّ السَّهْمِ تحت لبانِه **
وحالَ على وحْشِيِّهِ لم يعَتِّمِ ) قال : ووضع : على موضع : عن .
ميل شقشقة الجمل ولسان الثور وفي بابٍ آخرَ يقول أوسُ بن حَجَر : وذلك أنه ليس في الأرض
جملٌ هاج وأخرج شِقْشِقَتَه إلا عدَلَ بها إلى أحدِ شِقَّي حنَكه والثورُ إذا عدا عدل بلسانه عن شِقِّ شماله إلى يمينه وقال عَبْدَةَ بن الطبيب : ( مُستَقبِلَ الريحِ يهفو وهو مُبْتَرِكٌ ** لِسانه عن شِمَالِ الشِّدقِ معدولُ ) حال الثور عند الكر والفر قال : وإذا كرَّ الكلبُ أو الثور فهو يصْنَعُ خلاف صَنيعِه عند الفرّ وقال الأعشى : ( فلما أضاء الصبحُ قام مبادراً ** وحان انطلاقُ الشاةِ من حيثُ يمما )
( فصبحهُ عندَ
الشروق غديةٍ ** كلابُ الفتى البكري عوف بن أرقما ) ( فأطلَقَ عن مجنوبِها
فاتبعنَه ** كما هيَّج السامي المعسلُ خشْرَما ) ( فأنحَى علَى شُؤمي يديهِ
فذَادها ** بأظمأَ من فرع الذؤابةِ أسحَما )
ثم قال : ( وأدَبَر
كالشِّعْرَى وُضُوحاً ونُقْبَة ** يُواعِسُ من حُرِّ الصّرِيمةُ مُعظَما )
علة غزو العرب أعداءهم من شق اليمين قال : ولعلمِ العرب بأن طبع الإنسان
داعيةٌ إلى الهرب من شِقِّ
الشمال يحبُّون أن يأتوا أعداءهم من
شِقَّ اليمين قال : ولذلك قال شُتيم بن خُويلد : وأما روايةُ أصحابنا فهي :
فجئناهم من أيمنِ الشق عندهم .
الأعسر من الناس واليَسَر وإذا كان
أكثُر عمل الرجُل بيساره كان أعسَر فإذا استوى عملاً بهما قيل أعسرُ يسَرَ
فإذا كان أعسر مُصْمَتاً فليس بمستوى الخلق وهو عندهم إذا كان كذلك فليس
بميمون الخلْق ويشتقُّون من اليد العُسْرى العُسْر والعُسرة فلما سمَّوها
الشِّمال أجْرَوْها في الشؤْم وفي المشؤُوم على ذلك المعنى وسموها اليد
اليَسارَ واليدَ اليسرى على نَفْي العُسر والنكَد كما قالوا : سليم ومفازة
ثم أفصحوا بها في موضعِ فقالوا اليد الشؤْمَى .
مما قيل من
الشعر في الشمال ومما قالوا في الشمال قولُ أبي ذُؤيب : ( أ بِالصَّرمِ من
أسماء جَدَّ بكَ الذي ** جَرَى بيننا يومَ استَقَلَّت رِكَابُها ) (
زجَرْتَ لها طَيْرَ الشِّمالِ فإن يكن ** هَوَاك الذي تهوى يُصِبْكَ
اجْتنَابُها ) وقال شُتيم بن خويلد : ( وقلتُ لسَيّدِنا يا حليم ** إنّك لم
تَأْسُ أَسْواً رفيقَا ) ( زجرتَ بها ليلةً كلها ** فجئت بها مُؤيِداً
خَنفقيما )
( أَطَعْتَ غُرَيِّبَ إبْطَ الشِّمَال ** تُنَحِّي لحِد المَواسِي الحُلوقا ) وقال آخر : ( وهوَّنَ وجدْي أنني لم أكنْ لهم ** غرابَ شِمَال ينفضُ الرِّيشَ حاتما ) وإذا مال شِقُّة قالوا : احْولَّ شِقُّه وقال الأشتر بن عُمارة : ( عَشِيَّةَ يدعو مِعْتَرٌ يالَ جَعْفَرٍ ** أخوكم أخوكم أحُوَلُ الشِّقِّ مائِلُه ) وقال آخر : )
( أيَّ أخ
كانَ لي وكنتُ له ** أشفَق من والدٍ على ولدِ ) ( حتى إذا قاربَ الحوادثُ
من ** خَطْوِي وحلَّ الزمانُ من عُقَدي ) ( احوَلّ عنِّي وكان ينظُر مِن **
عيني ويرمي بِساعدِي ويَدِي ) الوقت الجيد في الحمل على الشاء قال
الأصمعيّ : الوقت الجيِّد في الحمل على الشاء أن تخلَّى سبعةَ أشهُرٍ بعد
ولادها ويكون حملها خمسة أشهر فتولَّد في كل سنَة مرة فإن حُمِل عليها في
كل سنة مرتين فذلك الإمغال يقال : أمغَل بنو فُلانٍ فهم مُمْغلون والشاةُ
ممغل .
وإذا وُلِّدت الشاةُ ومضَى لها أربعةُ أشهر فهي لجبة والجميع
اللِّجاب واللَّجبات وذلك حين استطراد لغوي قال : والأير من البعير :
المِقْلَم ومن الحافر الجُرْدَان ومن الظلف كله : القضيب ومن الفرَس العتيق
: النَّضِيّ زعم ذلك أبو عبيدة .
وما أراد من الحافر الفحلَ فهو
الوِداق وهو من الإبل الضَّبَعة ومن الضأن الحُنوّ ويقال : حنَت تحنو
حُنُوّاً وهي نعجةٌ حانٍ كما ترى وما كان من المعْز فهو الحِرْمَة ويقال :
عنز حَرْمَى وأنكر بعضهم قولهم : شاةٌ صارف وزعم أنه مولد .
قال : وهو من السباع الإجعال يقال : كلبةٌ مُجْعِل فإذا عظُم بطنها قيل أجَحَّتْ فهي مُجِحّ .
وما كان من الخف فهِو مِشْفَر وما كان من الغنم فهو مِرَمّة وما كان من الحافر فهو جَحْفَلةٌ .
وإذا قلتَ لكلِّ ذات حمْلٍ وضعتْ جاز فإذا ميزْتَ قلت للخف : نُتِجَتْ
وللظِّلف : ولِّدت والبقرةُ تجري هذا المجرى وقلتَ للحافر : نتِجَتْ .
ويقال للحافر من بين هذا كله إذا كان في بطنها ولد : نَتوج وإذا عظم بطنُ
الحافر قيل قد أعقّتْ فهي عَقوق والجماعُ عُقُقٌ وبعضهم يقول : عقائق .
ويقال للبقرة الوحشية نعجة والبقرة تجري مجرى الضائنة في حالها .
وما كان من الخف فصوته بُغام فإذا ضجَّتْ فهو الرُّغاء فإذا طرِّبت في إثر
ولَدها قبل حنَّتْ قال : والإلماعُ في السباع وفي الخيل دون البهائم وهو
أن تشرق ضروعها .
قال : والخروف في الخيل والضأن دون البهائم كلها .
قال : ويقال للطير : قد قمطها يقمطها ويقال للتيس والكلب : قد سَفِدَ يُسْفَد سِفاداً ويقال في )
الخيل : كامها يكُومُها كَوْماً وكذلك في الحافر كلِّه وفي في الحمار وحده : باكها يبُوكها بَوْكاً .
قولهم : ما له سَبَد ولا لَبَد وتقول العرب : ما له عندي سَبَدٌ ولا لَبَد
فقدّموا السّبَد ففي هذا المعنى أنهم قدموا الشَّعر على الصوف .
فإن
قال قائل : فقد قدَّموا في مواضع كثيرةٍ ذكرَ ما هو أخَسُّ فقالوا : ما له
عندي قليلٌ ولا كثير والعِير والنَّفير حتى قالوا : الخلّ والزيت وقالوا :
ربيعة ومُضَر وسُلَيم وعامر والأوس
والخزرج وقال اللّه : لاَ يُغادِرُ صَغِيرةً ولاَ كَبِيرةً إلاَّ أَحْصَاهَا .
والذي يدلُّ على أن ذلك الذي قلنا كما قلنا قولُ الراعي : ( حتى إذا هبَطَ
الغِيطانَ وانقطعت ** عنه سلاسل رَمْل بينها عُقَدُ ) ( لاقى أطيْلِسَ
مَشّاءً بأكْلُبِهِ ** إثْرَ الأوابد ما يَنْمِي له سَبَدُ ) فَقَدَّمَ
السَّبدَ ثم قال : وقال الراعي : ( أما الفقيرُ الذي كانت حَلُوبَتُه **
وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ ) وهو لو قال : لم يُترك له لَبَد
ولو قال : ما ينمي له لَبَدَ لقام الوزْنُ ولكان له معنى فدلَّ ذلك على أنه
إنما أراد تقديم المقدَّم .
مفاخرة بين صاحب الضأن وصاحب الماعز
قال صاحب الضأن : فَخَرتم على الضأن بأن الإنسان ذو شعر وأنه بالماعز أشبه فالإنسان ذو أْليةٍ وليس بذي ذنب فهو من هذا الوجه بالضأن أشبه .
قال صاحبُ الماعز : كما فخرتم بقوله : ثمَانِية أَزْوَاجٍ مِنَ الضّأنِ
اثْنَيْنِ وقلتم : فقد قدَّمها فقال اللّه : يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ
.
فإن وجب لضأنك التقديمُ على الماعز بتقديم هذه الآية وجَبَ للجنِّ التقديمُ بتلك الآية .
في الضفادع
علَّمك اللّه علماً نافعاً وجعلَ لك من نفسك سامعاً وأعاذك من العُجْبِ وعرّفك لباسَ التقوى وجَعَلك من الفائزين .اعلمْ رحمك اللّه تعالى أن اللّه جل وعز قد أضاف ست سُوَر من كتابه إلى أشكال من أجناس الحيوان الثلاثة منها مما يسمونها باسم البهيمة وهي سورة البقرة وسورة الأنعام وسورة الفيل وثلاثة منها مما يعدون اثنتين منها من الهمج وواحدةً من الحشرات .
فلو كان موقعِ ذِكر هذه البهائم وهذه الحشرات والهمج من الحكمة والتدبير موقِعَها من قلوب الذين لا يعتبرون ولا يفكرون ولا يميزون
ولا يحصلون الأمور ولا يفهمون الأقدار لما أضاف هذه السور العظامَ الخطيرة
و الشريفة الجليلة إلى هذه الأمور المحقّرة المسْخِفَة والمغمورة المقهورة
.
ولأمر ما وضعها في هذا المكان ونوَّه بأسمائها هذا التنويه فافهم
فإن الأديبَ الفَهِم لا يعوِّد قلبَه الاسترسال وخُذْ نفسَك بالفكرة وقلبَك
بالعبْرة .
وأنا ذاكرٌ من شأن الضفدع من القول ما يحضر مثلي وهو
قليلٌ في جنب ما عند علمائنا والذي عند علمائنا لا يحَسُّ في جنب ما عند
غيرهم من العلماء والذي عند العلماء قليل في جنب ما عند الأنبياء والذي عند
الأنبياء قليل في جنب ما عند اللّه تبارك وتعالى .
من ذلك الضِّفدِع
لا يصيحُ ولا يمكنه الصياح حتى يدخل حنكَه الأسفل في الماء فإذا صار في فمه
بعض الماء صاح ولذلك لا تسمعُ للضفادعِ نقيقاً إذا كُنَّ خارجاتٍ من الماء
.
زعم في الضفادع
والضفادعُ من الحيوان الذي يعيشُ في الماء ويبيضُ في الشطّ مثل الرّق والسُّلحفاة وأشباه ذلك . )والضفادعُ تنقّ فإذا أبصرت النار أمسكت . ( زعم في الضفادع ) والضفادع من الحيوان الذي يُخلقَ في أرحام الحيوان وفي أرحام الأرَضِين إذا ألقحتها المياه لأن اليَخَّ يخراسان يُكبس في الآزاج ويحالُ بينه وبين الرِّيح والهواء والشمس بأحكمِ ما يقدرون عليه وأوثقه ومتى انْخرق في تلك الخزانة خَرْقٌ في مقدار مَنْخِر الثور حتى تدخلَه الريح استحال ذلك اليخُّ كله ضفادع .
ولم نعرف حقَّ هذا وصدقَه من طريق حديث الرجل والرجلين بل نجدُ الخبرُ عنه كالإطباق
أعجوبة في الضفادع
وفيها أعجوبة أخرى : وذلك أنا نجد من كِبارها وصغارها الذي لا يحصى في غِبِّ المطر إذا كان المطر ديمة ثم نجدُها في
المواضع التي ليس بقربها بحرٌ ولا نهرٌ ولا حوضٌ ولا غديرٌ ولا وادٍ ولا
بيرٌ ونجدها في الصَّحاصح الأماليس وفوق ظهورِ مساجد الجماعة حتى زعم كثيرٌ
من المتكلفين ومن أهل الخسارة وممن لا يحتفل بسوء الحال عند العلماء ولا
يكترث للشكّ أنها كانت في السحاب .
ولذلك طمع بعضُ الكذَّابين ممن
نَكْرَهُ اسمه فذكر أن أهل أيذَج مُطِروا مرةً أكبر شبابيطَ في الأرض
وأسمنَها وأعذَبها وأعظمها وأنهم اشتوَوا وملَّحوا وقرّسوا وتزوَّدَ منه
مسافرهم وإنما تلك الضفادع شيءٌ يخلق في تلك الحال بمزاوجَة الزمان وتلك
المطرة وتلك الأرض وذلك الهواء .
معارف في الضفدع
والضفادعُ من الخلْق الذي لا عظامَ له .
ويزعم أصحاب الغرائب أن العَلاجيمَ منها الذكورة السود .
وتزعمُ الأعرابُ أن الضفدِع كان ذا ذنب وأن الضَّبَّ سلبه إياه وذلك في
خُرافة من خرافات الأعراب ويقول آخرون : إن الضفدع إذا كان صغيراً كان ذا
ذنب فإذا خرجتْ له يدانِ أَو رجلان سقَطَ .
جملة من الأمثال وتقول
العرب : لا يكون ذلك حتى يُجمع بين الأرْوَى والنعام وحتى يُجمع بين الماء
والنار وحتى يشِيبَ الغراب وحتى يَبيْضَّ القار وحتى تقع السماءُ على الأرض
.
ومن حديث الأمثال : حتى يجيءَ نشيطٌ من مَرْو وهو لأهل
البصرة وحتى يجيء مصْقلة من طَبرِسْتانَ وهو لأهل الكوفة .
وقال اللّه عزّ وجلّ : وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى يَلِجَ الجَملُ في سَمِّ الخِيْاطِ .
وتقول العرب : لا يكون ذلك حتي يُجمع بين الضب والنون وحتى يُجمع بين
الضفدع والضَّبّ وقال الكميت : ( يؤلِّفُ بين ضِفْدِعةٍ وضَبٍّ ** ويَعجبُ
أن نَبَرَّ بني أبينا ) وقال في النون والضبّ : ( ولو أنهم جاؤُوا بشيء
مُقارب ** لشيءٍ وبالشكْل الموافق للشِّكلِ )
معارف في الضفدع
وهو من الخلق الذي لا يصاب له عَظْم والضفدعُ أجْحظ الخلقِ عيناً والأسد تنتابُها في الشرائع وفي مَناقِع المياه والآجام والغياضِ فتأكلها أكلاً شديداً .
وهي من الخلق المائيّ الذي يصبرُ عن الماء أياماً صالحة والضفادع تعظُم
ولا تسمَن كالدُّرّاج والأرنب فإنَّ سِمَنهما أن يحتملا اللحم .
وفي سواحل فارس ناسٌ يأكلونها .
قول مسيلمة في الضفدع
ولا أدري ما هيّجَ مسيلمةَ على ذكْرِها ولِمَ ساء رأيه فيها حيثُ جعلَ بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه : يا ضفْدَعُ نِقَّي كَمْ تَنقِّين نصفُكِ في الماء ونصفُكِ في الطين لا الماء تُكَدِّرِين ولا الشارب تمنعين .معيشة الضفادع مع السمك
والضفادعُ من الخلْق الذي يعيشُ مع السمك في الماء وليس كل شيء يعيشُ في الماء فهو سَمَك وقد قال الصَّلتانُ العبْدِيّ في القضاء الذيقضى بين جرير والفرزدق و الفصْلِ الذي ( فإن يكُ بحرُ الحنظليَّين زاخراً ** فما تستوي حِيتانُه والضفادعُ ) ( طلب الحيَّات والضفادع ) والحيات تأني مناقِعَ الماء تطلب الضفادع والفأر تكون بقرب المياه كثيرةً فلذلك تأتي الحياتُ تلك المواضعَ ولأن صيدها من أسهل الصيد عليها وهي تعرف صيْدها ألا تراها تحيدُ عن ابن عُرْسٍ وإن رأتْ جُرَذاً أكبر منه لم تنهْنِهْه دون أَن تبتلعه وترى الوَرَلَ فتفرُّ منه وترى الوَحَرة فتشدُّ عليها وترى القُنفُذ وإن صغُر
فلا تجترئُ أنْ تمرّ به خاطفة وترى الوَبْرة وهي مثلُ ذلك القنفذِ مرتين فتأكلها .
ولطلبها الضفادعَ بالليل في الشرائع يقول الأخطل : ( ضفادعُ في ظلْماء
ليلٍ تجاوبَتْ ** فدلَّ عليها صوتها حَيَّةَ البحرِ ) وقد سرَق معناه بعضُ
الشُّعراء فقال وهو يذكر الضفدع وأنه لا ينقّ حتى يدخل حنَكه الماء : (
يُدْخِل في الأشداق ماءً ينصفُهُ ** كيما ينِقَّ والنَّقيقُ يُتلفه )
شعر في الضفادع
وقال زهير : ( يُحيلُ في جدولٍ تحبُو ضفادِعُه ** حَبْو الجوارِي ترى في مائه نُطُقَا )( يخرُجْن من شَرَبَاتٍ ماؤها طحِلٌ ** على الجُذوع يخَفْنَ الغَمّ والغَرَقا ) وقال أَوسُ بن حجَر : ( فباكَرْنَ جَوْناً للعلاجيم فوقَهُ ** مَجالِسُ غَرْقَى لا يُحَلاَ ناهِلُه ) جون قال : يريد غديراً كثيرَ الماء قال : وإذا كثر الماءُ وكثر عُمْقُه اسودَّ في العين والعلاجيم : الضفادع السود وجعلها غرقى يقول : هي فيما شاءت من الماء كقولك : فلان في خير غامر من قِبَل فلان وجعل لها مجالس حول الماء وفوقه لأن هذه الأجناس التي تعيش مع السمك في الماء وليست بسمك أكثرُ حالاتهن إذْ لم تكن سمكا خالصاً
أن تظهر علَى شُطوط المياه وفي المواضع التي تبيض فيها من الدَّغَل وذلك
كالسّرطان والسُّلحفاة والرَّق والضفدع وكلبِ الماء وأشباه ذلك .
استطراد لغوي ويُقال : نقّ الضفْدِع ينقُّ نقيقاً وأنقض ينقِضُ إنقاضاً
وقال رُؤبةُ : ) ( إذا دنا منهن إنقاض النُّقُقْ ** في الماء والساحلُ
خضخاضُ البَثَقْ ) وقد زعم ناسٌ أن أبا الأخْزَر الحِمّاني حيث قال :
تسمُّع القِنْقِنِ صوتَ القنقِن
إنما أراد الضفدع قالوا : وكذلك الطِّرماحُ حيث يقول : ( يخافِتْنَ بعض المضغِ من خشيةِ الرّدَى ** ويُنْصِتْنَ للصوتِ انتصاتَ القناقِنِ ) قالوا : لأن الضفِدع جيِّد السمع إذا تركَ النقيق وكان خارجاً من الماء وهو في ذلك الوقتِ أَحذر من الغراب والعصفور والعَقْعَق وأسمعُ من فرَس وأسمع من قُراد وأسمع من عُقاب وبكل هذا جاء الشعر .
ذكر ما جاء في الضفادع في الآئار
إبراهيم بن أبي يحيي عن سعيد بن أَبي خالد بن فارض عن سعيد بن لمسيب عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع .
قال : وحدَّثنا سعيد عن قتادة قال : سمعتُ زُرارةَ يحدِّث أنه سمع عبد
اللّه بن عَمْرو يقول : لا تسبُّوا الضفادع فإنَّ أصواتها تسبيح .
قال : وحدثنا هشامٌ صاحبُ الدّستوائي عن قتادة عن زُرارةَ بنِ أوفى عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال : لا تقتلوا الضفادعَ فإن
نقيقهُنَّ تسبيحِ ولا تقتلوا الخفاش فإنه إذا خرب بيت المقدس قال : يا ربِّ سلِّطني على البحر حتى أغرقهم .
وعن حماد بن سَلمةَ عن قتادة عن زُرارة قال : قال عبد الله بن عمرو : لا
تقتلوا الخفاش فإنه استأذن البحر أن يأخذ من مائه فيطفئَ بيتَ المقدس حيث
حرِّق ولا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح .
وعن محمد بن عبد الرحمن
بن أبي ذِئب وفي إسناد له : أن طبيباً ذكر الضِّفدِعِ عن النبي صلى اللّه
عليه وسلم ليُجْعل في دواء فنهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتل الضفدع .
ما يوصف بجودة الحراسة وشدة الحذر والعربُ تصف هذه الأصناف التي
ذكرناها بجودة الحراسة وبشدة الحذَر وأعطَوا الثعلبَ والذَّئب أموراً لا
يبلغها كثيرٌ من الناس .
قول صاحب المنطق في الغرانيق )
قول صاحب المنطق في الغرانيق
وقال صاحبُ المنطق في الغرانيق قولاً عجيباً فزعم أن الغرانيق من الطيور
القواطع وليست من الأوابد وأنها إذا أَحسّتْ بتغيُّرِ الزمان اعتزمت على
الرجوع إلى بلادها وأوكارها وذكر أنها بعيدةٌ سحيقة قال : فعند ذلك تتخذ
قائداً وحارساً ثم تنهض معاً فإذا طارت ترفعت في الجواء جدّاً كي لا يعرض
لها شيء من سباع الطير أو يبلغَها سهمٌ أَو بُنْدُق وإن عاينَتْ غيماً أو
مطراً أو خافَتْ مطراً أو سقطتْ لطلبِ ما لا بدَّ لها منه من طعم أو هجم
عليها الليل أمسكَتْ عن الصياح وضمَّتْ إليها أجنحتها فإذا أرادت النوم
أدخل كل واحد منها رأسَه تحتَ جناحِه لأنه يرى أن الجناح أحْمَلُ لما
يَرِدُ عليه من رأسه أَو بعض ما في رأسه : من العين وغير ذلك ويعلم أنه ليس
بعد ذهابِ الرأس حياة ثم ينام كل واحد
منها وهو قائم على رجليه
لأنه يظن أنه إن مكَّنهما نام إن كان لا يحب النوم أوْ نام ثقيلا إن كان
يحب أن يكون نومّه غراراً فأما قائدها وسائقها وحارسُها فإنه لا ينامُ إلا
وهو مكشوفُ الرأس وإن نام فإن نومُه يكونُ أقلُّ من الغِشاش وينظُرُ في
جميع النواحي فإن أحسَّ شيئاً صاحَ بأعلى صوته .
صيد طير الماء وسألتُ
بعضَ من اصطادَ في يومٍ واحد مائة طائر من طير الماء فقلت له : كيف تصنعون
قال : إن هذا الذي تراه ليس من صيْدِ يوم واحد وإن كلَّه صِيدَ في ساعة
واحدة قلت له : وكيف ذاك قال : وذلك أنا نأتي مناقعَ الماء ومواضِع الطير
فنأخذ قَرعةً يابسة صحيحة فنرمي بها في ذلك الماء فإذا أَبصرها الطير تدنو
منه بدفع الرِّيحِ لها في جهته مرة أو مرتين فِزع فإذا كثر ذلك عليه أنس
وإنما ذلك
الطير طير الماء والسّمكِ فهي أبداً على وجه الماء فلا
تزالُ الرِّيح تقرِّبها وتباعدها وتزداد هي بها أُنْساً حتى ربما سَقَط
الطائرُ عليها والقرعة في ذلك إما واقفةٌ في مكان وإما ذاهبةٌ وجائية فإذا
لم نرها تنفرُ منها أخذنا قَرعة أُخرى أو أخذناها بعينها وقطعنا موضِعَ
الإبريق منها وخرَقْنا فيها موضِعَ عينين ثم أخَذَها أحَدُنا فأدخَلَ رأسَه
فيها ثم دخل الماء ومشى فيه إليها مشياً رُويْداً فكلما دنا من طائر قبض
على رجليه ثم غمسه في الماء ودقّ جَناحَه وخَلاّهُ فبقي طافياً فوق الماء
يسبحُ برجليه ولا يطيقُ الطيران وسائرُ الطير لا ينكر انغماسه ولا يزال
كذلك حتى يَأتيَ على آخر الطير فإذا لم يبق منها شيء رَمى بالقرعة عن رأسه
ثمّ نلقطها ونجمعها ونحملها .
علاج الملسوع )
قال : ومن جيِّدِ ما يُعالجَ به الملسوعُ أن يُشَقَّ بطنُ الضفدع
ثم يرفَد به موضع اللسعة ولسنا نعني لدغة الحية وإنما نعني لسعة العقرب .
والضفدع إذا رأى النار أمسك عن النقيق وإذا رأى الفجر . والأُسدُ إذا رأت النار أحجمت عن الإقدام وإذا اشتد الأصوات .
استطراد لغويّ قال : ويقال للضفدع : نقّ ينقّ وهدر يهدِر وقال الراعي :
قول صاحب المنطق في الضفادع والسمك
وأما قولُ صاحبُ المنطق في أن الضفادع لا تنقّ حتى تُدِخَلَ فكها الأسفل في الماء لزن الصوت لا يجيئُها حتى يكون في فكها ماء فقد قال ذلك وقد وافقه عليه ناسٌ من العلماء وادعوا في ذلك العِيان .فأما زعمه أَن السمكة لا تبتلع شيئاً من الطعم إلا ببعض الماء فأيُّ عيان دلَّ على هذا وهذا عَسِرٌ .
القول في الجراد أَحضِرْني على اسم اللّه ذِهنك وفرِّغْ لما أُلقيه إليك
قَلْبَكَ فربَّ حرْف من حروف الحكم الشريفة والأمثال الكريمة قد عَفا أثرُه
ودثر ذكرُه ونبا الطَّرفُ عنه ولم يُشغَل الذهنُ بالوقوف عليه وربَّ بيتٍ
هذا سبيله وخطبةٍ هذه حالها .
ومدارُ الأمر على فهم المعاني لا
الألفاظ والحقائق لا العبارات فكم من دارس كتاباً خرَج غُفْلاً كما دخل وكم
من متفهِّم لم يفهم ولن يستطيع الفهم إلا من فرَّع قلبه للتفهم كما لا
يستطيعُ الإفهام إلا من صحت نيتُه في التعليم .
فضل الإنسان على سائر الحيوان
فأقول : إن الفرق الذي بين الإنسان والبهيمة والإنسان والسَّبُع والحشرة والذي صَبَّرَ الإنسان إلى استحاق قول اللّه عز وجلَّ : وَسَخَّرَ لَكمْ ما في السَّموَاتِ وما في الأرْضِ جَميعاً مِنْهُ ليس هو الصورة وأنه
خُلِقَ من نطفة وأن أباه خلق من تراب ولا أنه يمشي على رجليه ويتناول
حوائجه بيديه لأن هذه الخصالَ كلها مجموعة في البُلْه والمجانين والأطفال
والمنقوصين .
والفرق الذي هو الفَرق إنما هو الاستطاعة والتمكين وفي
وجُودِ الاستطاعة وجودُ العقل والمعرفة وليس يوجِبُ وجودُهما وُجودَ
الاستطاعة .
وقد شرَّف اللّه تعالى الجانَّ وفَضّله على السّبُع والبهيمة بالذي أَعطاه من الاستطاعة الدالة عَلَى وجود العقل والمعرفة .
وقد شَرَّف اللّه الملائكةِ وفضلهم عَلَى الجانّ وقدمهم علَى الإنسان
وألزمهم من التكليف عَلَى حسب ما خوَّلهم من النعمة وليست لهم صورة الإنسان
ولم يخْلَقُوا من النُّطَف ولا خلُق أبوهم من التراب وإنما الشأنُ في
العقل والمعرفة والاستطاعة .
أفتظنُّ أَن اللّه عز وجل يخصُّ بهذه
الخصال بعضَ خلقِه دون بعض ثم لا يطالبهم إلا كما يطالب بعضَ من أعدمه ذلك
وأعْراه منه َ فِلمَ أعطاه العقل إلا للاعتبار والتفكير ولِمَ أعطاه
المعرفة إلا ليؤْثر
الحقَّ على هواه ولِمَ أعطاهُ الاستطاعة إلا لإلزام الحجة .
فهل فكَّرتَ قطُّ في فصل ما بينك وبين الخلق المسخَّر لك وبين الخلق الذي
جُعِل لك والخلق المسلط عليك وهل فكَّرت قط في فصل ما بين ما جعله عليك
عادياً وبين ما جعله لك غاذياً وهل فكرتَ قطُّ في فصل ما بين الخلق الذي
جُعل لك عذاباً والخلق الذي جعُل لك قاتِلاً وبين ما آنسه بِك وبين ما
أوْحَشَهُ منك وبين ما صغَّره في عينك وعظّمه في نفسك وبين ما عظَّمه في
عينك وصغَّره في نفسك .
بل هل فكرت في النحلة والعنكبوت والنملة أنت
ترى اللّه تقدَّس وعزّ كيف نوّه بذكره ورفع من قدرها وأضاف إليها السُّوَر
العظامَ والآياتِ الجسامَ وكيفَ جعل الإخبارَ عنها قرآناً وفرقاناً حيث
يقول : وَأَوْحَى ربُّكَ إلى النَّحْلِ فقفْ عَلَى صغر النحلة وضعْفَ
أيْدِها ثم ارْم بعقلك إلى قول اللّه : ثمَّ كلي مّنْ كلِّ الثَّمَرَاتِ
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً فإنك تجدُها
أكبر من الطَّود وأوسعَ من الفضاءِ ثم انظر إلى قوله : حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وادِي النَّمْلِ فما ترى في )
مقدار النملة في عقل الغبيِّ وغير الذّكيّ فانظر كيف أَضاف الوادي إليها
وخبر عن حذرها ونصحها لأصحابها وخوفها ممن قد مُكّنَ فإنك تجدُها عظيمةَ
القدر رفيعةَ الذكر قد ( عَجزُ الإنسان وصِغَرُ قَدْرِهِ ) وخبِّرني عن
اللّه تعالى أمَا كان قادراً أن يعذِّب الكنعانيينَ والجبابرة والفراعنة
وأبناءَ العمالقة : من نَسْلِ عاد وثمود وأهل العتوِّ والعُنُود بالشياطين
ثم بالمردةَ ثم بالعفاريت ثم بالملائكة الذين وكّلهم اللّه تعالى بسَوْق
السحاب وبالمدِّ والجزْر وبِقبضِ أرواح الخلق وبقلب الأرَضين وبالماء
والريح وبالكواكب والنيران وبالأسْد والنمور والبُبُور وبالفيَلة والإبل
وبالجواميس وبالأفاعُي والثعابين وبالعقارب والجرارات وبالعقبان والنسور
وبالتماسيح وباللُّخم والدُّلفِين .
فلمَ عذَّبهم بالجراد
والقُمَّل والضفادع وهل يتلقَّى عقلك قبل التفكير إلا أنه أراد أن يعرِّفهم
عجْزهم ويذكَّرهم صِغَر أقدارِهم ويدُلَّهم على ذلك بأذلِّ خلقه ويعرفهم
أن له في كل شيء جُنْداً وأن القَويَّ من قَوَّاهُ وأعانه والضعيف من
ضَعَّفه والمنصورَ من نصرَه والمخذول من خَلاّه وخذله وأنه متى شاء أن يقتل
بالعسل الماذي والماء الزُّلال كما يقتلُ بالسمّ الساري والسيف الماضي قتل
.
ولِمَ كان النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم إذا رأى على جسده البَثْرةَ
ابتهلَ في الدعاء وقال : إن اللّه ولم قال لنا : فَأَرْسَلَنَا عَليْهِمُ
الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ والقُمَّلَ والضَّفادِع وَالدَّمَ آياتٍ
مُفَصَّلاَتٍ . فافهمْ عنه تعالى ذكره وتقدست أسماؤه قوله : آيات ثم قال :
مُفَصَّلات فهل وقفت قطُّ عَلَى هذه الآياتِ وهل توهّمْت تأويلَ قوله : هذا
آية وغيرْ آية وهل وقفت علَى فصل ما بين الآية وغير الآية وإذا كانت
مفصَّلات كان ماذا وإذا لم تكن مفصلات كان ماذا .
فافهم قوله :
فَأَرْسلَنَا عَلَيْهِم وما في الأرض أنقصُ معرفة وعلماً ولا أضعفُ قوة
وبطشاً ولا أوْهَنُ رُكناً وعَظماً من ضِفدِع فقد قال كما ترى :
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ والْجَرَاد والقمَّلِ والضَّفَادِعَ
والدَّمَ فقد جعله كما ترى أُفضل آياته والعذابَ الذي أرسله عَلَى أعدائه .
وقد قال جل وعز : فإذَا جاءَ أَمْرُنَا وفارَ التَّنُّورُ فأظهر
الماء جلّ ثناؤه من أبعد مواضع الماء من ظنونهم وخَبَّرَنا بذلك كي لا
نخلِيَ أنفسنا من الحذر والإشفاق ولنكون علماء بالعِلم الذي أعطانا ولنكون
راجين خائُفين ليصحّ الاختيار ويحسُنَ الاختبار : فَتَبَارَكَ اللّه
أَحسَنُ )
الخَالِقينَ ما أحسنَ ما قدَّر وأتقَنَ ما برأ .
وكان
السبب الذي سلطه اللّه تعالى عَلى العَرِم وهو مُسَنَّاةُ جَنّتَيْ بلادِ
سبإ جُرَذاً فهو الذي خَرقه وبدَّل نعمتَهم بؤساً ومُلكهُمْ يَبَاباً
وعِزَّهمْ ذلاَّ إلى أن عادوا فقراء فقال اللّه : وَبَدَّلنَاهُمْ
بِجَنَّتَيْهمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكلٍ خَمطٍ وأَِثلٍ وشَيءٍ مِنْ
سِدْر قَليل هذا بعد
أن قال : لَقَدْ كانَ لِسَبأ في مسَاكِنهِمْ
آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَال كُلُوا من رِزْقِ رَبِّكُمْ
وَاشْكرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفْورٌ فَأَعْرَضوا
فَأَرْسَلْنَا عَليْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ .
شعر في سد مأرب وقال
الأعشى : ( ففي ذاكَ للمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ ** ومأربُ قفَّى عليه العَرِمْ )
( رُخامٌ بنَتْه لهم حميرٌ ** إذا جاء ماؤُهُمُ لم يَرِمْ ) وأنشد أبو
عمرو بنُ العلاء : ( من سَبَأ الحاضرِينَ مَأْرِبَ إذ ** يبْنُونَ منْ دونِ
سَيلهِ العَرِمَا )
معارف في الجراد
ثم انظر إلى الجراد وهذا باب القول فيه .
قال : فأولُ ما يبدو الجرادُ إذا باض سَرْءٌ وسَرؤُه : بيضُه .
يقال : سَرأَتْ تَسرأ سَرْءاً .
فانظر الآن فكم ترى فيه من أعجوبةٍ ومن آيةٍ بليغة فأوَّل ذلك التماسُها
لبيضها الموضعَ الصَّلد والصخور الصُّمَّ المُلْسَ ثقةً بأنها إذا ضربَتْ
بأذنابها فيها انفرجت لها .
ذنب الجرادة وإبرة العقرب
ومعلومٌ أن ذنَب الجرادةَ ليس في خلقة المسمارِ ولا طرف ذنبها كحدِّ السِّنان ولا لها من قوة الأسْر ولذنبها من الصّلابة ما إذا اعتمدَتْ به على الكُدْيِةَ والكَذّانة جرح فيهما فكيف وهي تتعدى إلى ما هو أصلبُ من ذلك وليس في طرف ذنبها كإبرة العقرب .
وعَلَى أن العقرب ليس تخرق القمقم من جهة الأيْد وقوة البدن بل إنما
ينفرجُ بطبعٍ مجعول هناك وكذلك انفراجُ الصخورِ لأذناب الجراد .
ولو
أن عُقاباً أرادتْ أن تخرق في جلد الجاموس لما انخرق لها إلا بالتكلُّفِ
الشديدِ والعُقابُ فإذا غرزَت الجرادة وألقت بيضها وانضمَّت عليها تلك
الأخاديد التي أحدثتْها وصارت كالأفاحيص لها وصارت حافظةً لها ومربِّية
وصائنة وواقية حتى إذا جاء وقتُ دبيبِ الرُّوح فيها أحدث اللّهُ في أمرها
عجباً آخر فسبحان من استخزنها حكمتَه وحشاها بالأدلة عليه وأنطقَها بأنها
مدبرة ومُذلَّلةٌ ميسرة ليفكر مفكر ويعتبر معتبر ذَلِكمُ اللّهُ رَبُّ
العَالمِينَ وتبارك اللّه ربُّ العالمين .
مراتب الجراد
وقال الأصمعي : يقال : قد سرأت الجرادة تسرأ سَرْءًا فإذا خرج من بيضه فهو دَباً والواحدة دَباة ويخرج أصهَبَ إلى البياض فإذا اصفرَّ وتلوَّنت فيه خطوطٌ واسودَّ فهو بُرقان يقال رأيت دباً بُرقاناً والواحدة بُرقانة فإذا بدت فيه خطوطٌ سُودٌ وبيضٌ وصُفر فهو المسَيَّح فإذا بدا حجْمُ جناحِه فذلك الكُتْفان لأنه حينئذٍ يكتف المشي واحدة كتفانة قال ابن كناسة : ( يكتِفُ المشْيَ كالذي يتخطَّى ** طنُباً أو يشكُّ كالمتمادِي ) يصف فرساً فإذا ظهرت أجنحتُه وصار أحمرَ إلى الغبْرة فهو الغَوْغاء والواحدة غوغاءه وذلك حين يستقلُّ ويموجُ بعضه في بعضِه ولا يتوجَّهُ جهةً ولذلك قيل
لرعاع الناس غوغاء فإذا بدتْ في لونه الحمرة والصفرة وبقي بعضُ الحمرة
واختلف في ألوانه فهو الخيفان والواحدة خَيفانة ومن ثمَّةَ قيل للفَرَس
خَيفانة .
فإذا اصفرّت الذكورةُ واسودّت الإناثُ ذهبت عنه أسماء غير الجراد فإذا باض قيل غَرَزَ الجرادُ وقد رزَّ .
فإذا كثر الجرادُ في السماء وكثُف فذلك السُّدُّ ويقال : رأيتُ سُدًّا
مِنْ جَرادٍ ورأيتُ رِجْلاً من ) جَرادٍ للكثير منه وقال العجاج : سَيْرَ
الجراد السُّدِّ يرتاد الخَضِرْ
مثل في الجراد
و مما تقول العرب : أصْرَد منْ جرادة وإنما يُصْطاد الجراد بالسّحَر إذا وقع عليه الندى طلبَ مكاناً أرفع من موضعه .
فإن كان مع النَّدى بَرَدٌ لبَدَ في موضعه ولذلك قال الشاعر : ( وكتيبةٍ
لبَّسْتُها بكتيبةٍ ** كالثائر الحيران أشرفَ للنَّدَى ) الثائر : الجراد
أشرف : أتى على شَرَف للندى : أي من أجْل الندى .
ويقال : سخّتِ
الجرادة تسخُّ سَخّاً ورزَّت وأرزّت وجرادةٌ رزَّاءُ ورازّ ومُرِزّ : إذا
غمزَت ذنبها في الأرض وإذا ألْقَت بيضها قيل : سَرأت تَسْرأ سَرْءًا .
ويقال : قد بَشرَ الجرادُ الأرضَ فهو يبشرها بشراً : إذا حَلقَها فأكل ما
عليها ويقال : جَردَ الجرادُ : إذا وقع على شيء فجردَه وأنشدني ابن
الأعرابي : كما جَرَد الجارودُ بكرَ بْنَ وائل ولهذا البيت سُمِّي الجارود .
وأنشدني آخر : ( يقول أمِيرٌ : ها جَرادٌ وضبَّةٌ ** فقد جَردَت بيتي وبيتَ عِياليا ) وهذا من الاشتقاق .
ومنه قيلُ ثوب جَرْدٌ بإسكان الراء إذا كان قد انجرد وأخْلَق قالت سُعدَى
بنت الشَّمَرْدان : ( سَبَّاءُ عادية وهادي سُرْبةٍ ** ومُقاتلٌ بطلٌ وليثٌ
مِسْلعُ ) ( أجَعلتَ أسعدَ للرِّماح دريئة ** هبِلتْكَ أُمُّكَ أيَّ
جَرْدٍ ترقعُ ) تطيرُّ النابغة ويدخلُ في هذا الباب ما حدّثنا به الأصمعيّ
قال : تجهز النابغةُ
الذبيانيُّ مع زَبَّان بن سَيَّارٍ الفزاريّ
للغزو فلما أراد الرحيلَ نظرَ إلى جرادة قد سقطتْ عليه فقال : جرادَةٌ
تجرُد وذات لونين غيري منْ خرج في هذا الوجه : ولم يلتفتْ زَبّانُ إلى
طِيرته وزجْره ونفذ لوجهه فلما رجع إلى موضعه الذي كان النابغةُ فارقه فيه
وذكر ما نال من السلامة والغنيمة أنشأ يذكر شأن )
النابغة فقال : (
تخبّر طيرَهُ فيها زيادٌ ** لتُخبره وما فيها خَبيرُ ) ( أقامَ كأنَّ
لُقمانَ بنَ عادٍ ** أشارَ له بحكمته مَشيرُ ) ( تعَلَّمْ أنهُ لا طيْرَ
إلا ** على متَطيِّر وهو الثِّبورُ ) ( بلى شيءٌ يوافقُ بعضَ شيء **
أحاييناً وباطله كثيرُ ) واسم النابغة زياد بن عمرو وكنيته أبو ثُمامة
وأنشدني أبو عبيدة : ( وقائلةٍ : مَنْ أَمّها واهتَدَى لها ** زيادُ بنُ
عمرو أمَّها واهتدى لها ) استطراد لغوي قال : ويقال أبشرت الأرض إبشاراً :
إذا بُذِرَتْ فخرج منها
بذرها فعند ذلك يقال : ما أحَسَنَ بَشرةَ الأرض .
وقال الكميت وكنية الجراد عندهم : أمُّ عوف وجناحاها : بُرْدَاها ولذا قال
: وأنشدنا أبو زيد : ( كأن رِجْليهِ رجْلا مُقْطفٍ عَجِلٍ ** إذا تجاوَبَ
مِنْ بُرْدَيْهِ ترنيمُ ) يقول : كأنَّ رجلَي الجندب حين يضربُ بهما الأرض
من شدة الحرِّ والرَّمضاء رِجلا رجل مُقْطِف والمقطف : الذي تحته دابَّةٌ
قَطوف فهو يهمزُها برجليه .
شعر في الجندب والجراد
وقال أبو زبيدٍ الطائي يصفَ الحرَّ وشدته وعملَ الجندب بكُراعيه : ( أيُّ ساعٍ سَعَى ليقْطع شَرْبي ** حينَ لاحَتْ للصابح الجوزاءُ ) ( واستَكَنّ العُصْفُورُ كَرْهاً مع الضَّ ** بُّ أوفى في عودِهِ الحِرباءُ ) ( ونفَى الجندَبُ الحصَى بكُراعَ ** يهِ وأذْكَتْ نيرانَها المعزاءُ ) وأنشد أبو زيد لعوف بن ذِرْوَة في صفة الجراد : ( قد خفت أن يحدَرَنا للمِصْرَينْ ** ويتركَ الدِّينَ علينا والدَّينْ ) ( زَحْفٌ من الخَيْفانِ بعد الزّحْفَيْنْ ** مِنْ كلِّ سَفْعاء القَفا والخدَّينْ )( مَلعونةٍ تسلَخْ لوناً عن لونْ ** كأنها مُلتفَّةٌَ في بُرْدينْ ) أنصبَه مُنصِبُه في قِحْفَين وعلى معنى قوله : ( تُنحي عَلَى الشمراخ مثلَ الفأسينْ ** أو مثلَ مِئشار عليظِ الحرفينْ ) قال حمادٌ لأبي عطاء : ( فما صفراءُ تُكنَى أمَّ عوفٍ ** كأن رُجَيْلتَيْها مِنْجَلانِ )
تشبيه الفرس بالجرادة
ويُوصَفُ الفرسُ فيشبه بالجرادة ولذا قال الشاعر :( فإذا أتيتَ أباكَ فاشترِ مثلها ** إنَّ الرِّداف عن الأحبَّة يَشْغَلُ ) ( فإذا رفعْتَ عِنانَها فجرادةٌ ** وإذا وضعْتَ عنانَها لا تفشل ) ولم يرض بشرُ بن أبي خازِم بأن يشَبهه بالجرادة حتى جعله ذكراً حيث يقول : ( بكلِّ قِيادِ مُسْنِفَةٍ عَنُودٍ ** أضَرَّ بها المسالِح والعِوارُ ) ( مُهارِشَةِ العِنَانِ كأنّ فيها ** جَرَادَةَ هَبْوةٍ فيها اصفرارُ ) فوصفها بالصُّفرة لأنَّ الصفرة هي الذكورة وهي أخفُّ أبداناً وتكونُ لخفة الأبدان أشدُّ
تشبيه مسامير الدرع بحدق الجرادة
ويوصف قَتيرُ الدِّرع ومساميرُها فيشَبَّه بحدَق الجراد وقال قيس بن الخطيم :( ولما رأيتُ الحرب حرباً تجرَّدَتْ ** لبست مع البردَيْنِ ثوبَ المحاربِ ) ( مضاعفةً يغشَى الأناملَ فضلُها ** كأنَّ قتيريْهَا عيونُ الجنادبِ ) وقال المقنَّع الكِنْديّ : ( ولي نَثرةٌ ما أبْصَرَتْ عينُ ناظرٍ ** كصُنْعٍ لها صُنعاً ولا سَرْدِها سَرْدَا ) ( تلاحَمَ منها سَردُها فكأنما ** عيونُ الدَّبا في الأرضِ تجردُها جَرْدا ) وقال عمرو بن معد يكرِبَ : ( تمناني ليقاني أبيٌّ ** وددتُ وأين ما منِّي ودادِي ) ( تمناني وسابغتي دلاصٌ ** خَوس الحسِّ محكمةُالسرادِ ) ( مضاعفةٌ تخيرَّها سُليمٌ ** كأنَّ سِكاكَها حَدَقُ الجرادِ )
تشبيه وسط الفرس بوسط الجرادة
ويوصفُ وسط الفرَس بوَسط الجرادة قال رجلٌ من عبد القيس يصف فرَساً :تشبيه الحباب بحدق الجراد
ويوصفُ حَباب الشراب بحدق الجراد قال المتلمِّس : ( كأني شاربٌ يومَ استَبدُّوا ** وحثّ بهم وراءَ البِيدِ حادِي ) ( عُقاراً عُتِّقَتْ في الدّنِّ حتى ** كأنَّ حَبابَها حَدَقُ الجراد )لعاب الجندب
وإذا صفا الشَّرابُ وراقَ شبَّهوه بلُعاب الجندب ولذا قال الشاعر :
( صفراء من حَلَبِ الكرومِ كأنّها ** ماءُ المفاصِل أو لُعابُ الجُنْدُبِ )
ولُعاب الجندب سمٌّ عَلَى الأشجار لا يقع على شيء إلا أحرقه .
زعم في
الدَّبا ولا يزالُ بعضُ من يدَّعي العِلمَ يزعمُ أن الدَّبا بُريد الخُضرة
ودونها النهر الجاري فيصيرُ بعضه جسراً لبعضِ وحتى يعبُر إلى الخضرة وأن
تلك حيلة منها .
وليس ذلك كما قال : ولكنّ الزَّحفَ الأول من الدبا
يريد الخضرة فلا يستطيعها إلا بالعبور إليها فإذا صارت تلك القطعة فوق
الماء طافيةً صارت تلك لعمري أرضاً للزحف الثاني الذي يريد الخضرة فإن
سمَّوا ذلك جسراً استقام فأما أن يكون الزحفُ الأولُ مهَّد للثاني وَمكّن
له وآثرَه بالكفاية فهذا ما لا يُعرُف .
ولو أن الزحْفين جميعاً أشرفا على النهر وأمسَكَ أحدُهما عن تكلُّف العبور إلى أن يمهِّد له الآخر كان ذلك قولاً .
استطراد لغوي ويقال في الجراد : خِرقة من جراد والجميع خِرَق وقال الشاعر :
( وكأنها خِرَقُ الجرَادِ ** يثورُ يومَ غُبارِ ) ويقال للقطعة الكثيرة
منها رجْل جراد ورجلةٌ من جراد والثَّوْل : القطعة من النحل .
وتوصف كثرة النّبْلِ ومرورها وسرعة ذلك بالجراد وقال أبو النجم : ( كأنما المَعْزاءُ من نِضالها ** رجلُ جرادٍ طار عن حِدَالها )
وإذا جاء منه ما يسدُّ الأفق قالوا : رأينا سُدّاً من جراد وقال المفضل
النُّكريّ : ( كأنَّ النَّبلَ بينهمُ جرادٌ ** تُهيِّجه شآمِيَةٌ خَرِيقُ )
والمرتجل : الذي قد أصابَ رجْل جرادٍ فهو يشويه .
وقال بعضُ
الرُّجَّاز وهو يصف خيلاً قد أقبلت إلى الحيّ : ولأن الحفانَ أتمُّها
أبداناً قال ابنُ الزِّبَعرَى : ( ليتَ أشياخي ببدرِ شهدوا ** جَزَع
الخزرجِ من وقعِ الأسلْ ) ( حينَ ألقتْ بِقُباء بَرْكَها ** واستَحَرَّ
القتلُ في عبدِ الأشَل )
( ساعةً ثمَّ استخفوا رَقصاً ** رَقَصَ الحفان في سَفْحِ الجَبَلْ ) ( وقبلنا الضَّعف منْ ساداتِهمْ ** وعدلنا مَيلَ بدرٍ فاعتَدَل )
طيب الجراد الأعرابي
والجرادُ الأعرابيُّ لا يتقدمه في الطِّيب شيء وما أُحصِي كم سمِعتُ من الأعرابُ مَنْ يقول : ما شبِعتُ منه قطُّ وما أدعُهُ إلا خوفاً من عاقبته أو لأني أعيا فأتركه .أكل الجراد والجرادُ يطيب حارّاً وبارداً ومشويّاً ومطبوخاً ومنظوماً في خيط ومجعولاً في الملَّة .
والبيض الذي يتقدَّمُ في الطيب ثلاثةُ أجناس : بيض الأسْبور وبيض الدَّجاج وبيضُ الجراد فوقَ بيض الأسبور
في الطيب وبيضُ الأسبور فوق بيض الدَّجاج .
وجاء في الأثر أن الجراد ذكرَ عندَ عمر فقال : ليت لنا منه قَفْعَةً أو قفعتين .
والجرادُ المأكولُ ضروبٌ فمنه الأهوازيّ ومنه المذنّب وأطيبُه الأعرابيّ وأهل خُراسان لا يأكلونه .
قصة في الولوع بأكل الجراد وحدَّثني رَتْبيل بن عمرو بن رَتْبيل قال :
واللّه إني لجالس على باب داري في بني صبير إذ أقبلت امرأةٌ لم أر قط أتم
حسناً ومِلحاً
وجسماً منها ورأيت في مشيها تأوُّداً ورأيتها تَتَلَفَّتُ فلم ألبَثْ أن طلعتْ أخرى لا أدري أيتهما أقدِّم إذ قالت التي رأيتها بديًّا للأُخرى : ما لك لا تلحقيني قالت : أنا منذ أيام كثيرة أُكثرُ أكلَ هذا الجراد فقد أضعفَني فقالت : وإنك لتحبِّينَه حُبًّا تحتملين له مثلَ ما أرى بكِ من الضَّعف قالت : واللّه إنه لأحبُّ إليَّ من الحبل .
طرفة في الجراد
وقال الأصمعي : قال رجلٌ من أهل المدينة لامرأته : لاجزَاكِ اللّه خيراً فإنك غيرُ مُرْعِيَةٍ ولا مبقية قالت : لأنا واللّه أرْعَى وأٍ بقى من التي كانت قبلي قال : فأنت طالقٌ إن لم أكنْ كنتُ آتيها بجرادةٍ فتطبخ منها أربعة ألوان وتَشْوي جنبَيها فرفعَتهُ إلى القاضي فجعل القاضي يفكر ويطلبُ له المخرج فقال للقاضي : أصلحك اللّه أأشكلتْ عليك المسألة هي طالقٌ عشرين . تشبيه الجيش بالدبا
ووصف الراجزُ حرباً فوصفَ دنوَّ الرّجَّالة من الرّجَّالة فقال : أو
كالدَّبا دبّ ضُحًى إلى الدَّبَا و أبي إسحاق في آية الضفادع وقرأ بعضُ
أصحابنا بحضرة أبي إسحاق : وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ
لِتَسْحَرنَا بِهَا فَما نَحْنُ لكَ بمُؤْمِنِينَ فأرْسَلْنَا عََلَيْهِمْ
الطُّوفانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ
مُفَصَّلاَتٍ فقال رجلٌ لأبي إسحاق : انظر كيف قرَنَ الضفادعَ مع ضعفها إلى
الطوفان مع قوة الطوفان وغلبته قال أبو إسحاق : الضفادعُ أعجبُ في هذا
الموضع من الطوفان وإذا أراد اللّه تعالى أن يصيِّر الضفادعَ أَضرَّ من
الطوفان فعل .
شعر في تشبيه بالجراد
وقال أبو الهنْدِي :( لمَّا سِمعتُ الدِّيك صاحَ بسُحْرة ** وتوسّط النَّسْرانِ بَطْنَ العقربِ ) ( وتتابعَتْ عُصَب النُّجوم كأنها ** عُفْرُ الظِّباء على فروعِ المرْقَبِ ) ( وبَدا سُهَيلٌ في السماء كأنه ** ثَوْرٌ وعارضَه هِجَانُ الرّبْرَب ) ( صفراءُ تنْزُو في الإناء كأنها ** عَيْنُ الجرادةِ أو لعابُ الجُنْدُبِ ) ( نَزْوَ الدَّبا مِنْ حَرِّ كلِّ ظهيرة ** وقَّادَةٍ حِرْباؤُها يتقلَّبُ ) وقال أبو الهنديّ أيضاً : ( فإنَّ هذا الوطْبَ لي ضائرٌ ** في ظاهر الأمر وفي الغامض ) ( إنْ كُنْتَ تَسْقِيني فَمِنْ قَهْوَةٍ ** صفراءَ مثلِ المُهْرَةِ الناهضِ ) ( تنْزُو الفقاقيعُ إذا شُعْشِعَتْ ** نَزْوَ جَرَادِ البلدِ الرَّامِض ) وقال الأفْوهُ : ( بمناقِبٍ بِيضٍ كأنَّ وجُوهَهُمْ ** زَهرٌ قُبيلَ ترَجُّل الشَّمسِ )
( دَبُّوا كمنتشر الجرادِ هَوَتْ ** بالبطن في دِرعٍ وفي تُرْسِ ) (
وكأنها آجالُ عادِية ** حَطَّتْ إلى إجْل من الخُنْسِ ) أقوال فيما يضر من
الأشياء وروى الأصمعي وأبو الحسن عن بعض المشايخ قال : ثلاثة أشياءَ ربما
صرعتْ أهلَ البيت عن آخرهم : أكلُ الجراد ولحوم الإبل والفُطْر من الكمْأة .
وقال غيرُهما : شربُ الماء في الليل يورث الخبل والنظر إلى المختصر
يُورث ضعف القلب والاطلاع في الآبار العادِيَّة ينقُض التركيب ويُسوِّل
مصارعَ السَّوء فأما الفُطْر الذي يُخْلق في ظلِّ شجر الزيتون
فإنما
هو حتفٌ قاض وسمٌّ ناقع وكل شيء يخلق تحت ظلال الشجر يكون رديئاً وأردؤه
شجر الزيتون وربما قتل وإن كان مما اجتنبوه من أوساط الصحارى قالوا : ومما
يقتُلُ : الحمَّامُ على الْمِلأة والجماع على البِطْنة والإكثارُ من
القديدِ اليابس .
وقال الآخر : شربُ الماء البارد على الظمإ الشديد إذا عجّل الكرْعَ وعظّم الجرع ولم يقطع النفس يقتُل . )
قالوا : وثلاثٌ تورثُ الهُزال : شرب الماء عَلَى الرّيق والنوم على غير وِطاء وكثرة الكلام برفع الصوت .
والجماعُ على الامتلاء من الطعام ودخوله وربما خِيف عليه أن يكون قاتل نفسه .
وقالوا : وأربعةُ أشياء تسرعُ إلى العقل بالإفساد : الإكثار مِنَ البَصل والباقلَّى والجماع والخُمَار .
وأما ما يذكرون في الباب من الهمِّ والوحدة والفِكرة فجميع الناس يعرفون
ذلك وأما الذي لا يعرفه إلا الخاصة فالكفاية التامة والتعظيم الدائم وإهمال
الفكر والأنَفُ من التعلمُّ هذا قول أبي إسحاق .
وقال أبو إسحاق :
ثلاثة أشياء تخلِق العقلَ وتُفسِد الذهِن : طول النظر في المرآة والاستغراق
في وقال مُعمّر : قُطعت في ثلاثة مجالس ولم أجِدْ لذلك علةً إلا أني
أكثرتُ في أحد تلك الأيام من أكل الباذنجان وفي اليوم الآخر من أكْل
الزيتون وفي اليوم الثالث مِنْ الباقلَّي .
وزعم أنه كلم رجلاً من
الملْحدين في بعض العَشايا وأنه علاه عُلُوًّا ظاهراً قاهراً وأنه بَكَرَ
على بقيةِ ما في مسألته من التخريج فأجْبَلَ وأصْفَى فقال له خصمه : ما
أحدثتَ بعدي قال : قلتُ : ما أتَّهِمُ إلا إكثاري البارحةَ من الباذنجان
فقال لي وماخالف إلى التُّهمة : ما أشكُّ أنك لم تُؤْتَ إلا منه .
وقال لي مَن أثقُ به : ما أخذت قط شيئاً من البلاذُر فنازعت أحداً إلا ظَهرتُ عليه .
وقال أبو ناضرة : ما أعرف وجهَ انتفاع الناس بالبلاذُر إلا أن يؤخذ للعصب
قلت : فأي شيءٍ بقي بعد صلاحِ العصب وأنتم بأجمعكم تزعمون أن الحسّ للعصب
خاصة .
في القطا
تقول العرب : أصْدَق من قطاة وأهْدَى من قطاة .وفي القطا أُعجوبةٌ وذلك أنها لا تضعُ بيضها أبداً إلا أفراداً ولا يكونُ بيضها أزواجاً أبداً وقال أبو وَجزَة : ( وَهُنَّ يَنْسُبْنَ وَهْناً كُلَّ صادقةٍ ** باتَتْ تُبَاشِرُ عُرْماً غير أزواج ) والعُرم التي عَنَى : بيض القطا لأنها منقَّطة وقال الأخطل :
( شَفَى النَّفْسَ قَتْلِى مِنْ سُليمٍ وعامرٍ ** ولم يَشْفِها قتلَى غَنِى ٍّ ولا جَسْرِ ) ( ولا جُشَمٍ شرِّ القبائل إنهم ** كبَيْضِ القطا ليسوا بسودٍ ولا حُمْرِ ) وقال مَعْقل بن خويلد : ( أبا مَعْقِل لا توطِئَنْكم بَغَاضتي ** رؤوسَ الأفاعي في مَرَاصِدِها العُرْمِ ) يريد : الأفاعي العُرْمِ في مراصدها وهي منقَّطة الظهور وما أكثرَ ما تبيض العُقاب ثلاث بيضات إلا أنها لا تلحم ثلاثةً بل تخرج منهنَّ واحدة وربما باضت الحمامةُ ثلاثَ بيضات إلا أن واحدة تفسد لا محالة وقال الآخر في صفة البيض :
( نتوجٍ ولم تُقرِفْ لِمَا يُمتنى
له ** إذا أنْتَجَتْ ماتَتْ وحيَّ سَليلُها ) يعني البيضة نَتوج حامل : ولم
تُقْرِف : لم تُدَانِ لما يُمتنَى : أي للضِّراب والامتناء : انتظارك
الناقة إذا ضُربت ألاقحٌ هي أمْ لا .
وقال ابنُ أحمر : ( بتيْهاءَ
قَفْرٍ والمطيُّ كأنها ** قطا الحزْن قد كانت فِراخاً بُيوضُها ) وذلك أنها
قد كانت قبل ذلك الوقت تشرَب من الغُدُر فلما أفرخت صافت فاحتاجت إلى طلب
الماء من مكان بعيد فذلك أسرعُ لها .
تشبيه مشي المرأة بمشي القطاة
ويشبَّه مشيُ المرأةِ إذا كانت سمينة غير خرّاجة طوّافة بمشي القطاة في القرمطة والدَّلِّ وقال ابنُ ميّادة : ( إذا الطِّوال سَدَوْنَ المشيَ في خطَلٍ ** قامت تريك قَوَاماً غير ذي أوَدِ ) ( تمشي ككدْريَّة في الجَوِّ فاردة ** تَهْدِي سُروب قطاً يشرَبْنَ بالثَّمدِ ) وقال جِران العَود : وقال الكميت : ( يمشينَ مشيَ قطَا البِطاحِ تأوُّداً ** قُبّ البُطُون رَواجحَ الأكفالِ )
شعر في التشبيه بالقطاة
وقال الآخرُ في غير هذا المعنى : ( كَأَنَّ القَلْبَ لَيْلةَ قِيلَ يُغدَى ** بِلَيْلَى العامِرِيَّةِ أو يُراحُ ) ( قَطاةٌ غَرَّها شَرَكٌ فباتَتْ ** تُجاذِبُه وَقَدْ عَلِقَ الجَناحُ ) وقال آخر : ( وَكُنَّا كَزَوْجٍ مِنْ قَطاً بمفازةٍ ** لَدَى خَفْضِ عَيْشٍ ُونِقٍ مُورِقٍ رَغْدِ ) ( فَخَانَهُمَا ريبُ الزَّمَنِ فأُفرِدا ** ولَمْ تَرَ عَيْني قَطُّ أقْبَحَ مِنْ فَردِ )
شعر في صدق القطاة
وفي صدق القطاة يقولُ الشاعر : ( وصادقة ما خبَّرت قد بعثتُها ** طُروقاً وباقي الليل في الأرض مُسْدِفِ ) ( ولو تركتْ نامتْ ولكن أعشَّها ** أذى من قِلاص كالحَنيِّ المُعَطَّفِ ) وتقول العرب : لو تُرِك القطا لنام ويقال : أَعْشَشْتُ القوم إعشاشاً : إذا نزلْتَ بهم وهم كارهون لك فتحوّلوا عن منزلهم .وقال الكميت : ( لا تكذبُ القوْلَ إن قالت قَطَا صدَقَتْ ** إذ كلُّ ذي نِسْبَة لا بد ينتحلُ ) وقال مُزاحمٌ العُقيليّ في تجاوب القطاةِ وفرْخِها : ( فنادتْ وناداها وما اعْوَجَّ صَدْرُها ** بِمِثْلِ الذي قالتْ له لم يُبدَّلِ )
والقطاة لم تُرد اسم َنفسها ولكن الناس
سموها بالحروف التي تخرج من فيها وزادَ في ذلك أنها على أبنيةِ كلام العرب
فجعلوها صادقَةَ ومُخبرة ومُريدة وقاصدة .
استطراد لغوي ويقال سِرْبُ
نساءٍ وسِربُ قطاً وسِرْبُ ظباء كل ذلك بكسر السين وإسكان الراء فإذا كان
من الطريق والمذهب قالوا : خَلِّ سَرْبَهُ و : فلانٌ خَلِيُّ السَّرْب بفتح
السين وإسكان الراء وهذا عن يونس بن حبيب وقال الشاعر : ( أما القطاةُ
فإنِّي سَوْفَ أَنْعتُها ** نعتاً يوافقُ نَعْتي بعضَ ما فيها ) ( سَكّاءُ
مخطوفَة في ريشها طَرَقٌ ** سُودٌ قوادمها صُهْبٌ خوافِيها )
ويقال في ريشها فَتَخ وهو اللِّين ويقال في جناحه طرَق : إذا غطى الرِّيشُ الأَعلى الأسفلَ وقال ذو الرُّمَّة : ( طراقُ الخَوافي واقعٌ فوقَ رِيعةٍ ** ندى ليْلِه في ريشِه يترقْرَقُ ) ويقال : اطَّرقَت الأرض : إذا ركب الترابُ بعضُه بعضاً ولزمَ بعضُه بعضاً فصار كطِراق النِّعال طَبَقاً وقال العجاج : فاطَّرَقَتْ إلا ثلاثاً دُخَّسا والطَّرْق بإسكان الراء : الضرْب بالحصى وهو من فِعال الحُزَاة والعائفين : وقال لبيدٌ أو البَعيث : )
( لعمرك ما تدري الطوارقُ بالحصَى ** ولا زاجراتُ الطير ما اللّهُ صانعُ ) قال : ويقال طرَّقت القطاةُ ببيضِها : إذا حان خروجه وتعضلّت به شيئاً قال أبو عبيد ولا يقال ذلك في غير القطاة وغَرَّهُ قولُ العَبْدِيِّ : ( وقد تخذتْ رِجلي لدى جَنْبِ غرزِها ** نسيفاً كأُفْحوصِ القَطاة المطرِّقِ ) وهذا الشاعرُ لم يقلْ إن التطريق لا يكونُ إلا للقطاة بل يكونُ لكل بَيَّاضةٍ ولكلِّ ذاتَ ولد وكيف يقول ذلك وهم يروُون عن قابلة البادية أنها قالت لجاريةِ تسمى سَحَابة وقد ضربها المخاضُ وهي تُطْلَق عَلَى يدها : ولا تُرينا طَرَفَ البُظَيْرِ
وقال أوسُ بنُ حجر : ( بكلِّ مكان ترى
شطبةً ** مولية ربها مسبطرْ ) ( وأحمَر جعداً عليه النسو ** رُ وفي ضبنه
ثعلبٌ منكسرْ ) ( وفي صدره مثلُ جيب الفتا ** ةِ تشهق حيناً وحيناً تَّهرّْ
) ( فإنا وإخوتَنا عامراً ** على مثلِ ما بيننا نأتمرْ ) ( لنا صرخةٌ ثم
إسكاتةٌ ** كما طرقتْ بنفاسٍ بِكِرْ ) فهذا كما ترى يردُّ عليه .
ولادة البكر وإنما ذكر أوسُ بن حجرٍ ِ البِكرَ دون غيرها لأن الوِلاد على
البِكر أشدّ وخروج الولد أعسر والمخرج أكزّ وأضيق ولولا أن البِكر أكثر ما تلدُ أصغرُ جثةً وألطفُ جسماً إلى أن تتسع الرحم بتمطِّي الأولاد فيها لكانَ أعسر وأشقّ .
أجود قصيدة في القطا
( بلادٌ مروراةٌ يحارُ بها القطا ** ترى الفرخَ في حافاتها يتحرقُ ) ( يظلُّ بها فَرخَ القطاةِ كأنهُ ** يتيمٌ جفا عنهُ مواليهِ مُطرقُ ) ( بديمومة قد مات فيها وعينُه ** على موته تغْضى مِراراً وثرمقُ ) ( شبيهٌ بلا شيء هنالك شخصهُ ** يواريه قيضٌ حولَه متفلقُ )( له محجرٌ ناب وعينٌ مريضةٌ ** وشدقٌ بمثل الزعفرانِ مخلقُ ) ( تُعاجيه كحلاءُ المدامعِ حرةٌ ** لها ذنبٌ وحفٌ وجيدٌ مطوقُ ) ( سِماكيةُ كدريةٌ عُرْعُرِيَّة ** سُكاكيَّة غبراء سمراءُ عسلقُ ) ( إذا غادرتْه تبتغي ما يُعيشُه ** كفاها رَذَاياها النجاء الهبنقُ ) ( غدت تستقي من منهل ليس دونه ** مَسيرةَ شَهْر للقَطا متعلَّقُ ) ( لأزغَبَ مطروحٍ بجوزِ تنُوفة ** تلظَّى سَمُوماً قيظه فهو أورقُ ) ( تراه إذا أمسى وقد كاد جلدُه ** من الحرِّ عن أوصاله يتمزقُ )
( غدت فاستقلَّت ثم ولَّت مُغيرةً ** بها حِين يزْهاها الجناحانِ أولقُ ) ( تيممُ ضحضاحاً من الماء قد بدتْ ** دعاميصه فالماء أطحلُ أورقُ ) ( فلما أتتهُ مقذ حراً تغوثَتْ ** تغوثَ مخنوقٍ فيطفو ويغرقُ ) ( فلما ارتوَتْ مِن مائه لم يكُنْ لها ** أناةٌ وقد كادتْ من الري تبصقُ ) ( طمتْ طَموة صُعداً ومدَّتْ جِرانَها ** وطارت كما طار السحابُ المحلقُ )
شعر البعيث في القطا
وقال البعيث :( نجتْ بُطوالات كأنَّ نجاءها ** هُوِي القطا تعروُ المناهلَ جُونَها ) ( طَوَين سقاء الخمسِ ثُمَّتْ قلصت ** لوردِ المياهِ واستتبتْ قرونُها ) ( إذا ما وَردْنَ الماء في غَلسِ الضُّحى ** بلَلْنَ أداوَي ليس خرزٌ يشينُها ) ( أداوَي خفيفاتِ المحاملِ أشنقتْ ** إلى ثُغَرِ اللبات منها حصينها ) ( جَعَلْنَ حَبابَ الماء حين حملنه ** إلى غُصصٍ قد ضاق عنها وتينها ) ( إذا شئْن أن يسمعنَ والليلُ واضعٌ ** هذا ليلهُ والريح تجري فُنُونُها ) ( تناوَمَ سربٌ في أفاحيصه السفا ** وميتةُ الخرشاء حيٌّ جَنينها ) ( يروَّين زغباً بالفلاةِ كأنَّها ** بقايا أفاني الصيفِ حُمراً بطونها ) يروِّين من قولك : روّيت : أي حملت في رواية .
( سقط : بيت الشعر ) ( إذا ملأت منها قطاة سقاءها ** فلا تعكم الأخرى ولا تستعينها )
ذكر نوادر وأحاديث وأشعار وكلام يتمُّ بها هذا الجزء قالوا : خرِف
النَّمْرُ بن تولب فكان هِجّيراه : اصبَحوا الركْب اغْبِقُوا الركْب .
وخرِفت امرأةٌ من العرب فكان هِجِّيراها : زوِّجوني زوِّجوني فقال عمر بن
الخطاب رضي اللّه عنه : لَمَا لهِج به أخو عُكل خيرٌ مما لهجتْ به صاحبتُكم
.
وحدثني عبد اللّه بن إبراهيم بن قُدامة الجمحي قال : كان عمر بن
الخطاب رضي اللّه عنه إذا رأى رجلاً يَضْرِبُ في كلامه قال : أشهدُ أن الذي
خلَقَكَ وخلقَ عمرو بنَ العاص واحد .
وقال عليُّ بن أبي طالب
رضي اللّه عنه لصعصعة بن صُوحان في المنذر بن الجارود : ما وجدْنا عند
صاحبك شيئاً قال : إن قلتَ ذاك إنه لنظَّارٌ في عِطفَيه تَفَّالٌ في
شِرَاكيه تُعجبه حُمرةُ بردَيه .
قال : وحدّثنا جريرُ بنُ حازم
القَطَعيّ قال : قال الحسن : لو كان الرجُل كلما قال أصاب وكلما عمل أحسنَ
لأوشك أن يُجَنَّ من العُجْب .
عن أبان بن عثمان قال : سمعتُ أبا بلال
في جِنازةٍ وهو يقول : كلُّ مِيتةٍ ظَنونٌ إلا ميتة الشَّجَّاء قالوا :
وما ميتة الشّجَّاء قال :
أخذها زيادٌ فقطع يديها ورجليها فقيل لها : كيف تَرَيْنَ يا شَجَّاء فقالت : قد شغلني هَول المُطَّلَع عن بَرْد حَديدِكم هذا . )
قال : وقيل لرابعة القيسيَّة : لو أذِنْتِ لنا كلَّمْنا قومَكِ فجَمعوا لك
ثمن خادمٍ وكان لك في ذلك مَرْقفقٌ وكفتْكِ الخدمةَ وتفرَّغت للعبادة
فقالت واللهّّ إني لأستحيي أن أسأل الدنيا من يملك الدنيا فكيف أسأل الدنيا
من لا يملكها .
والناسكات المتزهدات من النساء المذكورات في الزُّهد
والرياسة من نساء الجماعة وأصحاب الأهواء فمن نساء الجماعة : أمُّ الدرداء
ومُعاذةُ العدَوية ورابعة القيسيَّة .
ومن نساء الخوارج :
الشّجاء وحمادة الصُّفرية وغزالة الشَّيْبانية قُتِلْنَ جميعاً وصُلبت
الشجاء وحمادة قتل خالدُ بن عتّاب غَزَالة وكانت امرأَةَ صالح بن مُسرِّح .
ومن نساء الغالية : الميلاء وحُمَيدة وليلى الناعظية .
محمد بن سلام عن ابن جُعْدُبة قال : ما أبرم عُمر بنُ الخطاب أمراً قط إلا تمثل ببيت شعر .
وعن أبان بن عثمان قال عبد الملك : لقد كنت أمشي في الزَّرْع فأتَّقي
الجُندبَ أن أقتله وإن الحجاجَ ليكتب إليَّ في قتل فئامٍ من الناس فما
أحفِلُ بذلك .
وقيل له وقد أمر بضرب أعناق الأسَراء : أقْسَتك
الخلافةُ يا أمير المؤمنين وقد كنت رؤوفاً قال : كلا ما أقسَتْني ولكن
أقساني احتمال الضغن على الضغن .
قالوا : ومات يونسُ النحويُّ سنة
اثنتين وثمانين ومائة هو ابن ثمان وثمانين سنة وقال يونس : ما وحدثني محمد
بن يَسير قال : قال أبو عمرو المَدَايني : لو كانت البَلايا بالحِصص ما
نالني كل ما نالني : اختلفت جاريتي بالشاة إلى التّياس وبي إلى حملها حاجة
فرجعت جاريتي حاملاً والشاة حائلاً .
محمد بن القاسم قال : قال جرير : أنا لا أبتدي ولكني أعْتَدِي .
وقال القَيني : أنا مثل العقرب أضرُّ ولا أنفع .
وقال القينيّ : أنا أصدق في صغار ما يضرُّني لأكذبَ في كبارِ ما ينفعني .
قال أبو إسحاق : استراح فلانٌ من حيث تعبَ الكرامُ .
وقال الحجاج : أنا حديدٌ حقود حسود .
وحدثني نُفَيع قال : قال لي القَيْنيِ : أنا لا أصدُق مادام كذبي يخفى .
قال : وذُكر شبيب بن شيبة عند خالد بن صفوان فقال خالد : ليس له صديق في السر ولا عدوٌّ في العلانية . )
وقال أبو نخيلة في شبيب بن شبيبة : ( إذا غدَتْ سعدٌ على شَبيبِها ** على
فتاها وعلى خطيبها ) ( مِنْ مطلع الشمس إلى مغيبها ** عجِبْتَ مِن كثرتها
وطِيبها )
========================ج9999999999999----------------
ج999999999999999.
كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
وقال حسين بن أبي علي الكرخي : أنا إنسان لا أبالي ما استقبلت به
الأحرار . وقال عَمرو بن القاسم : إنما قويت على خصمي بأني لم أتستَّرْ
قطُّ عن شيء من القبيح فقال أبو إسحاق : نلتَ اللذَّة وهتكتَ المروءة
وغلبتك النفس الدَّنية فأرَتْك مكروهَ عملك محبوباً وشيء قولك حسناً ومن
كان عَلَى هذا السبيل لم يتلفتْ إلى خير يكون منه ولم يكترثْ بشرٍ يفعله .
وقال الفرزدق : ( وكان يُجيرُ الناس من سيفِ مالك ** فأصبح يبغي نفسَه من
يُجيرُها ) ومن هذا الباب قول التُّوتّ اليمانيِّ : ( عَلَى أيَّ باب
أطلُبُ الإذنَ بعد ما ** حُجِبْتُ عن الباب الذي أنا حاجبُه ) ومن هذا
الشكل قولُ عديِّ بن زيد : ( لو بغير الماء حَلْقِي شرِقٌ ** كنتُ
كَالغَصَّانِ بالماء اعتصاري ) وقال زُهير : ( فلما وَرَدْنَ الماءَ
زُرْقاً جمامُه ** وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المتَخَيِّمِ )
وكتب سُوَيد بن منجوف إلى مُصعب بن الزبير : ( فأبْلغْ مُصْعَباً عني رسولاً ** وهل يُلفَى النصيحُ بكل وادِ ) وحدثني إبراهيم بن عبد الوهاب قال : كتب شيخٌ من أهل الريّ عَلَى باب داره : جزى اللّه من لا يعرفنا ولا نعرفه خيراً فأمّا أصدقاؤنا الخاصة فلا جزاهمُ الله خيراً فإنا لم نُؤْتَ قطُّ إلا منهم وأنشدني النهشليُّ لأعرابي يصف نخْلاً : ( ترى مخارفَها ثِنيَيْ جوانبها ** كأَنَّ جانيَ بَيْضِ النَّحْلِ جَانِيها ) ووصف آخر نخلاً فقال : إذا عَلا قِمَّتَها الرَّاقي أهَلّ وقال الشاعر :
( ومن تَقْلِلْ حلوبَتُهُ وَينْكُلْ ** عن الأعداء يَغْبَقُهُ القَراحُ ) ( رأيتُ مَعاشِراً يُثْنى عليهم ** إذا شَبِعوا وأَوجُهُهُمْ قِبَاحُ ) ( ظلُّ المُصْرِمُونَ لهمُ سُجُوداً ** وإن لم يُسْقَ عندهُم ضَياحُ ) وقال الشاعر : ( البائتين قريباً من بيوتهمُ ** ولو يشاؤون آيبوا الحيّ أوْ طرَقوا ) يقول : لرَغبته في القِرَى وفي طعام الناس يبيت بهمْ ويدعُ أهلَه ولو شاء أنْ يبيت عندهم لَفعل . ( تَقرِي قدورُهم سُرَّاءَ ليلهِمُ ** ولا يبيتون دون الحيِّ أَضيافا ) وقال جرير : ( وإني لأسْتَحيي أخِي أن أرى له ** عَليَّ من الحق الذي لا يَرى لِيَا )
قال : أستحيي أن يكون له عندي يدٌ ولا يرى لي عندَه مثلها .
وقال امرؤ القيس : ( وهلْ ينعمْنَ إلا خلِيٌّ منعَّمٌ ** قليلُ الهموم ما
يبيتُ بأوْجالِ ) قال : وهو كقوله : استراحَ من لا عقْلَ لهَ وأنشد مع هذا
البيت قول عمر بن أبي ربيعة ويحكى أن المنصور كان يعجبُه النصف الأخير من
البيت الثاني جدّاً ويتمثل به كثيراً حتي انتقده بعض من قضى به عليه أَن
المعنى قدَّمَهُ دهراً وكان استحسانه عن فضل معرفته بإحقاقه فيه وصواب قوله
: ( وأعجَبَها من عيشها ظِلُّ غُرْفَة ** ورَيَّانُ مُلْتَفُّ الحدائِق
أخَضرُ ) ( ووالٍ كَفَاها كلَّ شيء يَهُمُّها ** فليَستْ لشيء آخر الدهرِ
تَسْهَرُ ) وأنشد : ( إذا ابْتَدَرَ الناسُ المعالي رأيتهمْ ** وقُوفاً
بأيديهم مسُوكُ الأرانب ) ( إذا ابتدرَ الناسُ المكارمَ والعُلاَ ** أقاموا
رُتوباً في النُّهُوجِ اللهاجمِ )
يخْبر أنهم يسألون الناس والنهج واللهْجم : الطريق الواسع .
وقال الآخر : ( لنا إبلٌ يَروين يوماً عِيالَنا ** ثلاثُ وإن يكثرْنَ
يوماً فأربعُ ) ( نُمِدُّهمُ بالماء لا مِنْ هَوانِهِمْ ** ولكِنْ إذا مَا
قلَّ شيءٌ يوسَّعُ )
وقال الآخر : ( من المُهْدَيات الماءَ بالماء
بعدما ** رمى بالمقادي كلُّ قادٍ ومُعْتَمِ ) وقال الآخر : ( وداعٍ دعا
والليلُ مُرخٍ سُدولَه ** رجاءَ القِرَى يا مُسلمَ بنَ حِمارِ ) ( دَعا
جُعَلاً لا يهتدي لِمَبيته ** من اللوم حتى يهتدي ابنُوبارِ ) وقال الحسن
بن هانئ : ( أَضْمرتُ للنِّيل هِجْراناً ومَقليةً ** إذ قيل لي إنما
التِّمساحُ في النيل ) ( فمن رأَى النِّيل رأيَ العَينِ من كثَبٍ ** فما
أرى النّيلَ إلا في البواقيل )
وقال ابن ميَّادة : ( فإن الذي ولاّكَ أمْرَ جماعةٍ ** لأنقَصُ مَن يمشي على قَدم عْقلا ) ومن هذا الباب قوله : ( إني رأيت أبا العوراء مُرتفقاً ** بشَطِّ دِجْلَة يَشْرِي التَّمر والسَّمكا ) ( كَشِرَّةِ الخيل تبقَى عند مِذْودِها ** والموتُ أَعلم إذْ قَفَّى بمن تركا ) ( هَذِي مساعيكَ في آثارِ سادَتِنا ** ومن تكنْ أنت ساعيه فقد هَلكا ) ومن هذا الباب قوله : ( ورِثنا المجدَ عن آباء صِدق ** أسأنا في ديارهم الصَّنيعَا ) ( إذا المجدُ الرفيعُ تعاورتْه ** وُلاة السُّوء أوشك أن يضِيعا ) وقال جِران العَوْدِ : ( أُراقبُ لمحاً من سُهيل كأنه ** إذا ما بَدَا في دُجْيةَ الليل يطرفُ )
وقال : ( ولَمْ
أَجِدِ الموقوذَ تُرجى حياتُه ** إذا لم يرعْه الماءُ ساعةَ يُنضَحُ ) وكان
أبو عبادِ النُّميريُّ أتى باب بعض العمال يسأله شيئاً من عمل السلطان
فبعثه إلى أُسْتقَانَا فسرقوا كل شيء في البَيْدر وهو لا يشعر فعاتبه في
ذلك فكتب إليه أبو عبّاد : ( فتقنَّصْتَ بيَ الصَّ ** عْو فأوهنْتَ
القُدَامى ) ( وإذا ما أُرسل البا ** زِي عَلَى الصعْو تَعَامَى )
أراد قول أبي النجم في الراعي : ( يمرُّ بين الغانيات الجهَّلِ ** كالصقر يجفو عن طِرادِ الدُّخّلِ )
وبات أبو عبّادِ مع أبي بكر الغِفاريّ في ليالي شهر رمضان في المسجد الأعظم فدبّ إليه وأنشأ يقول : ( يا ليلةً لي بتُّ ألْهُو بها ** مع الغِفاريِّ أبي بكرِ ) ( قمتُ إليه بعد ما قد مضى ** ثُلْثٌ من الليل على قدْرِ ) ( في للة القدْرِ فيا مَنْ رأى ** أدَبَّ منِّي ليلةَ القَدْرِ ) ( ما قام حَمْدانٌ أبو بكرِ ** إلا وقد أفزَعَهُ نَخْري ) وقال في قلْبانَ صديقتِه : ( إنَّ قلبانَ قد بَغَتْ ** لشقائي وقد طَغَتْ ) ( وإذا لم تُنَك بأيْ ** رٍ عظيم القِوى بكتْ ) وقال مسكينٌ الدَّارمي : ( لدَى كلِّ قرموص كأنَّ فراخهَ ** كُلًى غير أن كانت لهنَّ جُلودُ )
وقال أبو الأسود الدؤلي واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان : ( أمِنْتَ على السّرِّ امْرأً غيرَ كاتمٍ ** ولكنه في النصحِ غيرُ مُريبِ ) ( أذاعَ بِهِ في الناسِ حتَّى كَأَنَّهُ ** بعَلياء نارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ ) ( وكنتَ متى لم تَرْع سِرَّك تنتشرْ ** قوارعُه مِنْ مخطئ ومُصيبِ ) ( وما كل ذي لُبٍّ بمؤْتيكَ نُصْحَهُ ** وما كلُّ مؤتٍ نصحَهُ بِلَبيبِ ) ( ولكن إذا ما استَجْمعا عند واحدٍ ** فحقّ له مِنْ طاعةٍ بِنَصيبِ ) وقال أيضاً : ( إذا كنتَ مظلوماً فلا تُلفَ راضياً ** عَنِ القَوْمِ حتَّى تأخُذَ النصفَ واغْضَبِ ) ( وَإن كنتَ أنتَ الظَّالمُ القومَ فاطَّرِحْ ** مقالتهم وَأشْغب بهم كل مَشغَبِ ) ( وقارِبْ بذي جهلٍ وباعدْ بعالمٍ ** جَلوبٍ عليكَ الحقَّ مِنْ كلِّ مَجلبِ )
( فإن حَدِبوا فاقعَسْ وإن هم تقاعَسُوا ** ليستمسكون مما وراءك فاحدَبِ ) ( ولا تُذْعِنَنْ للحقِّ واصبر على التي ** بها كنتُ أَقضِي للبعيد على أبي ) ( فإني امرؤٌ أخشَى إلهي وأَتَّقي ** مَعادي وقد جرّبتُ ما لم تجربِ ) ( إني إذا الأصواتُ في القوم عَلَتْ ** في مَوْطِنٍ يَخشى به القومُ العَنَتْ ) ( مُوَطِّنٌ نفسي على ما خَيَّلَتْ ** بالصَّبر حتَّى تنجلي عَمَّا انجلَتْ ) وقال الكميت : ( وبيضٍ رِقاقٍ خفاف المُتُونِ ** تسمعُ للبَيْضِ منها صريرا ) ( تُشبَّهُ في الهامِ آثارُها ** مَشافِرَ قَرْحَى أكلْن البَريرا ) وأنشدني أبو عبيدة : ( نُصْبِحُها قيساً بلا استبقائها ** صفائحاً فيها فضولُ مائها ) ( من كلِّ غَضْبٍ علَّ من دِمائها ** إذا علا البيضة في استوائها ) ( رونقُه أوقَدَ في حِرْبائها ** ناراً وقد أمخض من ورائها ) وأنشدني لرجُل من طيئ : ( لم أَرَ فتيانَ صباحٍ أصبَراً ** منهم إذا كان الرماحُ كِسَرا )
( سفْعَ الحدودِ
دُرَّعاً وحُسَّرا ** لا يشتهون الأجَل المؤخَّرا ) وقال ابن مفرِّع : (
قبُّ البطون والهوادي قودُ ** إن حادتِ الأبطالُ لا تحيدُ ) ومن المجهولات :
( عليكَ سلامَ اللّه من مَنزلٍ قَفْرِ ** فقد هِجْتَ لي شوقاً قديماً وما
تدرِي ) ( عهدتك من شهر جديداً ولم أخَلْ ** صُروفَ النّوَى تُبلي مغانيك
في شهرِ ) الخرَيميُّ أبو يعقوب : ( لعمرك ما أخلقتُ وجهاً بذلتُه ** إليك
ولا عَرَّضْتُه للمعايرِ ) أي لا أعيَّرُ لقصدك . ( فتًى وفَرتْ أَيدي
المحامِدِ عِرضَه ** عليه وخلَّتْ ماله غيرَ وافرِ ) وقال مطيعُ بنُ إياسٍ :
( قد كَلَّفْتَني طويلةُ العُنُقِ ** وحُبُّ طُولِ الأَعْناقِ مِنْ خُلُقي
) ( أَقْلَقُ مِنْ بُعْدِها فإنْ قَربَتْ ** فالقُرْبُ أيضاً يزيدُ في
قَلَقي )
وقال سهلُ بنُ هارون : إذا امرؤٌ ضاقَ عنِّي لم يَضِقْ خُلُقي مِنْ أَنْ يراني غَنِيّاً عنه بالياسِ
( ولا يراني إذا لم يَرْعَ آصِرَتي ** مُسْتَمْرِياً دِرَراً منه بإبساسِ ) ( لا أَطْلُبُ المالَ كي أُغْنَي بفضلته ** ما كان مَطْلَبُهُ فقراً إلى الناسِ ) ( عدّ تلادِ المال فيما ينوبه ** منوعٌ إذا ما منْعُه كان أحْزَما ) ( فِسيَّان حالاه له فضْل منْعِه ** كما يستحقُّ الفضلَ إن هو أنْعَمَا ) ( مذلِّلُ نفس قد أبتْ غير أن ترى ** مَكارِهَ ما تأتي من الحقِّ مَغْنما ) وقال أبو الأسود لزياد : ( لعَمْرُكَ ما حَشاكَ اللّهُ رُوحاً ** به جَشَعٌ ولا نَفْساً شَرِيرهْ ) ( ولكنَّ أنتَ لا شَرِسٌ غليظٌ ** ولا هَشٌّ تنازِعُه خؤُورَهْ ) ( كأنا إذْ أتَيناهُ نزلْنا ** بجانِبِ رَوْضة رَيَّا مَطيرة ْ )
الجزء السادس
الخطوط ومرافقها
بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .اللهم جنبنا فضول القول بما عندنا ولا تجعلنا من المتكلفين . قد قلنافي الخطوط ومرافقها وفي عموم منافعها وكيف كانت الحاجة إلى استخراجها وكيف اختلفت صورها على قدر اختلاف طبائع أهلها وكيف كانت ضرورتهم إلى وضعها وكيف كانت تكون الهلة عند فقدها .
وقلنا في العقد ولم تكلفوه وفي الإشارة ولم اجتلبوها ولم شبهوا جميع ذلك ببيان اللسان حتى سموه بالبيان . ولم قالوا : القلم أحد اللسانين والعين أنم من اللسان .
وقلنا في الحاجة إلى المنطق وعموم نفعه وشدة الحاجة إليه وكيف صار أعم نفعاً ولجميع هذه الأشكال أصلاً وصار هو المشتق منه
والمحمول عليه وكيف جعلنا الأجسام الصامتة نطقاً والبرهان الذي في الأجرام الجامدة بياناً .
وذكرنا جملة القول في الكلب والدِّيك في الجزْأين الأوَّلين وذكرْنا جملة
القول في الحمام وفي الذِّبَّان ) و في الغربان وفي الخنافس وفي الجعلان
إلاّ ما بقي من فضْل القول فيهما فإنّا قد أخَّرنا ذلك لدخوله في باب
الحشرات وصواب موقعهما في باب القول في الهمج في الجزء الثالث .
وإذا
سمعت ما أودعها اللّه تعالى من عظيم الصَّنعة وما فطرها اللّه تعالى عليه
من غريب المعرفة وما أجْرى بأسبابها من المنافع الكثيرة والمِحن العظيمة
وما جعل فيها من الدَّاء والدَّواء أجلَلْتها أنْ تسميها همجاً وأكبرت
الصنف الآخر أنْ تسمِّيه حشرة وعلمت أنَّ أقدارَ الحيوان ليست على قدر
الاستحسان ولا على أقْدار الأثمان .
وذكرنا جملة القول في الذّرّة والنَّملة وفي القرد والخنزير وفي الحيَّات والنّعام وبعض القول في النَّار في الجزء الرابع .
والنار حفظك اللّه وإنْ لم تكن من الحيوان فقد كان جرى من السَّبب
المتَّصل بذكرها ومن القول المضمر بما فيها ما أوجبَ ذِكْرها والإخبار عن
جملة القول فيها .
وقد ذكرنا بقيَّة القول في النّارِ ثمَّ جملة القول
في العصافير ثمَّ جملة القول في الجرذان والسَّنانير والعقارب وِلجَمْعِ
هذه الأجناس في باب واحد سببٌ سيعرفه من قرأه ويتبيّنه من رآه .
ثمَّ القولَ في القمل والبراغيث والبعوض ثمَّ القول في العنكبوت والنَّحل ثمَّ القولَ في الحُبارى . ثمَّ
الإطناب والإيجاز
وقد بقيتْ أبقاك اللّه تعالى أبوابٌ توجب الإطالة وتُحوج إلى الإطناب وليس بإطالةٍ ما لم يُجاوزْ مِقْدارَ الحاجة ووقف عند منتهى البغية .
وإنما الألفاظ على أقدار المعاني فكثيرُها لكثيرها وقليلها لقليلها
وشريفُها لشريفها وسخيفها لسخيفها والمعاني المفردةُ البائنة بصٍُ ورها
وجهاتها تحتاج من الألفاظ إلى أقلَّ مما تحتاج إليه المعاني المشتركة
والجهاتُ الملْتبسة .
ولو جَهِد جميعُ أهل البلاغة أن يُخبروا من
دونهم عن هذه المعاني بكلام وجيز يُغْني عن التفسير باللِّسان والإشارة
باليد والرأس لما قَدَرُوا عليه وقد قال الأوّل : إذا لم يكنْ ما تُريدُ
فأرِدْ ما يكون وليس ينبغي للعاقل أن يسُوم اللُّغاتِ ما ليس في طاقتها
ويسومَ النُّفوس ما ليس في جِبلَّتها ولذلك صار يحتاجُ صاحبُ كتاب المنطق
إلى أنْ يفسِّره لِمَنْ طُلب مِنْ قبَلِه علم المنطق وإن كان المتكلمُ رفيق
اللِّسان حسن البيان إلاّ أنِّي لا أشُكُّ على حالٍ أنَّ النفوسَ إذْ
كانتْ إلى الطَّرائف أحنَّ وبالنَّوادر أشغف وإلى قصار الأحاديث أمْيل وبها
أصبَّ أنَّها خليقةٌ لاستثقال الكثير وإن استحقَّت
تلك المعاني الكثيرة وإنْ كان ذلك الطَّويلُ أنفعَ وذلك الكثيرُ أردّ .
رجع إلى سرد سائر أبواب الكتاب
وسنبدأ بعون اللّه تعالى وتأييده بالقول في الحشرات والهمج وصغار السباع والمجهولات الخاملة الذِّكْر من البهائم ونجعل ذلك كله باباً واحداً ونتَّكل بعد صُنْع اللّه تعالى على أنّ ذلك الباب إذْ كان أبواباً كثيرة وأسماء مختلفة أنّ القارئ لها لا يملُّ باباً حتَّى يخرجه الثَّاني إلى خلافه وكذلك يكون مقامُ الثَّالث من الرَّابع والرابع من الخامس والخامس من السَّادِسمقياس قدر الحيوان
وليس الذي يُعتمد عليه من شأن الحيوان عِظم الجثة ولا كثرة العدد ولا ثقل الوزن والغايةُ التي يُجرى إليها والغرض الذي نرمي إليه غير ذلك لأن خلْق البعوضة وما فيها من عجيب
التركيب ومن غريب العمل كخلْق الذَّرَّة وما فيها من عجيب التركيب ومن
الأحاسيس الصَّادقة والتدابير الحسنة ومن الرويَّةِ والنظر في العاقبة
والاختيارِ لكلِّ ما فيه صلاحُ المعيشة ومع ما فيها من البُرهانات النيرة
والحججِ الظَّاهرة .
وكذا خلق النَّحْلة مع ما فيها من غريب الحكم
وعجيب التَّدبير ومن التقدُّم فيما يُعيشها والادخارِ ليوم العجْز عن كسبها
وشمِّها ما لا يُشَمُّ ورؤيتها لما لا يُرى وحُسن هدايتها والتّدبير في
التأمير عليها وطاعة ساداتها وتقسيط أجناس الأعمال بينها على أقدار معارفها
وقُوّة أبدانها .
فهذه النَّحلة وإن كانت ذبابة فانظر قبل كل شيء في
ضروب انتفاع ضُروب الناس فيها فإنَّك تجدُها أكبر من الجبل الشامخ والفضاء
الواسع .
وكلُّ شيء وإن كان فيه من العجب العاجب ومن البُرهان النّاصع
ما يوسِّع فِكر العاقل ويملأ صدْر المفكّر فإنّ بعض الأمور أكثرُ أعجوبة
وأظهر علامة وكما تختلف بُرهاناتها في الغموض والظُّهور فكذلك تختلف في
طبقات الكثْرةِ وإن شملتها الكثرةُ ووقع عليها اسم البرهان .
(
رجْع إلى سرد سائر أبواب الكتاب ) ولعلَّ هذا الجزء الذي نبتدئُ فيه بذكر
ما في الحشرات والهمج أنْ يفضل من ورقه شيءٌ فنرفعه ونتِمَّه بجملة القول
في الظّباء والذئاب فإنَّهما بابان يقصُران عن الطوال ويزيدان على وقد بقي
من الأبواب المتوسِّطة والمقتصدة المعتدلة التي قد أخذت من القِصر لمنَ طلب
القصر )
بحظٍّ ومن الطُّول لمن طلب الطُّول بحظّ وهو القولُ في البقر
والقولُ في الحمير والقولُ في كِبار السِّباع وأشرافِها ورؤسائها وذوِي
النَّباهة منها كالأسد والنَّمر والبَبْر وأشباه ذلك مما يجمعُ قوَّة أصل
النَّاب والذَّرب وشَحْو الفم والسَّبُعيّة وحدّة البرثن وتمكُّنه في العصب
وشدّة القلب وصرامته عند الحاجة ووثاقة خَلْق البدن وقوّته على الوثْب .
وسنذكر تسالُمَ المتسالمةِ منها وتعادِي المتعادية منها وما الذي
أصلح بينها على السَّبُعيَّة الصِّرف واستواء حالها في اقتيات اللُّحمان حتَّى ربَّما استوت فريستُها في الجنس .
وقد شاهدْنا غير هذه الأجناس يكون تعاديها من قِبل هذه الأمور التي
ذكرناها وليس فيما بين هذه السِّباع بأعيانها تفاوتٌ في الشِّدَّة فتكون
كالأسد الذي يطلب الفهد ليأكله والفهدُ لا يطمع فيه ولا يأكله فوجدنا
التَّكافؤ في القُوَّة والآلة من أسباب التَّفاسُد وإنَّ ذلك ليعملُ في
طباع عقلاء الإنس حتَّى يخُرجوا إلى تهارُشِ السِّباع فما بالها لم تعمل
هذا العمل في أنفُس السِّباع وسنذكر علَّة التسالم وعِلَّة التعادي ولِم
طُبعت رؤساء السِّباع على الغفلة وبعض ما يدخلُ في باب الكرَم دون صغار
السِّباع وسفْلتها وحاشيتها وحَشْوها وكذلك أوساطها والمعتدلة الآلة والأسر
منها .
ولم نذكر بحمد اللّه تعالى شيئاً من هذه الغرائب وطريفة من هذه الطرائف إلا ومعها شاهد من كتاب مُنْزلٍ أو حديثٍ مأثور
أو خبرٍ مستفيض أو شعرٍ معروف أو مثل مضروب أو يكون ذلك ممّا يشهد عليه
الطبيب ومن قد أكثر قراءة الكتب أو بعض من قد مارَس الأسفار وركب البحار
وسكنَ الصَّحارِي واستَذْرى بالهضاب ودخل في الغياض ومشى في بطون الأودية .
وقد رأيْنا أقواماً يدَّعُون في كتبهم الغرائب الكثيرة والأمور
البديعة ويخاطرون من أجل ذلك بمروءاتهم ويُعرِّضون أقدارهم ويسلِّطون
السُّفهاء على أعراضهم ويجترُّون سُوء الظَّنِّ إلى أخبارهم ويحكِّمون
حُسّاد النِّعم في كتبهم ويمكِّنون لهم من مقالتِهم وبعضهم يتّكل على حُسْن
الظَّنِّ بهم أو على التسليم لهم والتقليد لدعواهم وأحسنهم حالاً من
يُحِبُّ أن يُتفضَّلَ عليه ببسط العُذْر له ويُتكلّف الاحتجاجُ عنه ولا
يبالي أن يُمَنّ بذلك على عقبه أو من دان بدينه أو اقتبس ذلك العلم من قِبل
كُتُبه .
ونحن حفظك اللّه تعالى إذا استنطقْنا الشَّاهد وأحَلْنا على المثل فالخصومة حينئذٍ إنَّما هي )
بينهم وبينها إذْ كنّا نحنُ لم نستشهد إلاّ بما ذكرنا وفيما ذكرنا مقنعٌ
عند علمائنا إلاّ أن يكون شيءٌ يثبتُ بالقياس أو يبطلُ بالقياس فواضعُ
الكتاب ضامنٌ لتخليصه وتلخيصه ولتثبيتِهِ فأمَّا الأبوابُ الكبارُ فمثلُ
القَوْل في الإبل والقولِ في فضيلة الإنسان على جميع الحيوان كفضل الحيوان
على جميع النامي وفضل النَّامي على جميع الجماد .
وليس يدخلُ في هذا
الباب القولُ فيما قسم اللّه عزّ وجلّ لبعض البقاع من التَّعظيم دون بعض
ولا فيما قسم من السّاعات والليالي والأيَّام والشُّهور وأشباه ذلك لأنّه
معنًى يرجع إلى المختبرين بذلك من الملائكة والجنّ والآدميِّين .
فمن أبواب الكبار القول في فصْل ما بين الذُّكورةِ والإناث وفي فصْل ما بين الرّجل والمرأة خاصَّة .
وقد يدخل في القول في الإنسان ذكر اختلاف النّاس في الأعمار وفي طول الأجسام وفي مقادير العقول وفي تفاضل الصِّناعات وكيف
قال من قال في تقديم الأوَّل وكيف قال من قال في تقديم الآخر .
فأما الأبوابُ الأُخر كفضْل الملكِ على الإنسان وفضلِ الإنسان على الجانّ
وهي جملة القول في اختلاف جواهرهم وفي أيِّ موضع يتشاكلون وفي أيِّ موضع
يختلفون فإن هذه من الأبوابَ المعتدلة في القصَر والطّول . وليس من الأبواب
بابُ إلاّ وقد يدخلُه نُتفٌ من أبوابٍ أُخرَ على قدْرِ ما يتعلّق بها من
الأسباب ويعرض فيه من التضمين ولعلك أن تكون بها أشدَّ انتفاعاً .
وعلى أني ربما وشّحْت هذا الكتاب وفصَّلت فيه بين الجزء والجزء بنوادر كلام
وطرف أخبار وغُرر أشعار مع طرف مضاحيك ولولا الذي نُحاول من استعطاف على
استتمام انتفاعكم لقد كنَّا تسخَّفْنا وسخَّفْنا شأن كتابنا هذا .
وإذا علم اللّه تعالى موقع النِّيَّة وجهة القصْد أعان على السَّلامة من كلّ مخوف .
العلة في عدم إفراد باب للسمك
ولم نجعل لما يسكن المِلحَ والعذوبة والأنهارَ والأدوية والمناقع والمياه الجارية من السَّمَك وممَّا يخالف السَّمك ممَّا يعيش مع السمك باباً مجرّداً لأنِّي لم أجدْ في أكثره شِعراً يجمع الشّاهد ويُوثق منه بحسْنِ الوصف وينشِّط بما فيه من غير ذلك للقراءة ولم يكن الشّاهد عليه إلاّ أخبار البحْريِّين وهم قومٌ لا يعدُّون القول في باب الفِعْل وكلّما كان الخبرُ أغرب كانوا به أشدّ عُجْباً مع عبارة غثَّة ومخارج سَمِجة .وفيه عيبٌ آخر : وهو أنّ معه من الطّول والكثْرة ما لا تحتملونه ولو غنَّاكم بجميعه مُخارِق وضرب عليه زلْزل وزمر به
بَرْصُوماً فلذلك لم أتعرَّضْ له .
وقد أكثر في هذا الباب أرسطاطاليس ولم أجد في كتابه على ذلك من الشّاهد إلاّ دعْواه .
ولقد قلت لرجل من البحريِّين : زعم أرسطاطاليس أنّ السّمكة لا تبتلعُ
الطُّعم أبداً إلاّ ومعه شيءٌ من ماء مع سعة المدخل وشرّ النفس فكان من
جوابه أن قال لي : ما يعلم هذا إلاّ مَنْ كان سمكة مرَّةً أو أخبرته به
سمكة أو حدَّثه بذلك الحواريُّون أصحاب عيسى فإنهم كانوا صيّادين وكانوا
تلامذة المسيح .
وهذا البحريُّ صاحبُ كلام وهو يتكلَّف معرفة العِلل وهذا كان
جوابه ولكني لن أدع ذِكْرَ بعض ما وجدته في الأشعار والأخبار أوْ كان
مشهوراً عند من ينزل الأسيافَ وشطوط الأودية والأنهار ويعرفه السَّمَّاكون
ويُقِرُّ بهِ الأطبَّاء بقدر ما أمكن من القول .
زعم إياس بن معاوية
في الشبُّوط وقد روى لنا غيرُ واحد من أصحابِ الأخبار أنّ إياسَ بن مُعاوية
زعم أنّ الشَّبُّوطة كالبغْل وأنّ أُمّها بُنيّة وأباها زَجْرٌ وأنّ من
الدّليل على ذلك أنّ الناس لم يجدوا في بطن شَبُّوطة قطُّ بيضاً .
وأنا أخبرك أنِّي قد وجدته فيها مِراراً ولكنِّي وجدتُهُ أصغر جُثّةً وأبعد
من الطِّيب ولم أجده عامّاً كما أجده في بطون جميع السمك .
فهذا قول أبي واثلة إياس بن معاوية المزني الفقيه القاضي وصاحب الإزكان
وأقْوف من كرْز الشك في أخبار البحريين والسّماكين والمترجمين فكيف أسكُنُ
بعد هذا إلى أخبار البحْريِّين وأحاديث السمَّاكين وإلى ما في كتابِ رَجُل
لعلَّه أنْ لو وجد هذا المترجم أن يُقِيمَهُ على المِصْطبة ويبرأ إلى
النَّاس من كذبه عليه ومن إفساد معانيه بسوء ترجمته .
فصيلة الضب
والذي حضرني من أسماء الحشرات ممَّا يرجع عمود صُورها إلى قالبٍ واحد وإن اختلفتْ بعد ذلك في أمور فأوَّل ما نذكر من ذلك الضبّ .
والأجناسُ التي ترجع إلى صورة الضّبّ : الورلُ والحرباء والوحرة والحُلْكة
وشحمة الأرض وكذلك العظاء والوزغ والحرذون وقال أبو زيد : وذكر العظاية هو
العضْرَفُوط ويقال في أمِّ حُبين حُبيْنة وأشباهُها مما يسكن الماء :
الرّقُّ والسُّلحفاة والغيلم والتِّمساح وما أشبه ذلك .
الحشرات
وممّا نحن قائلون في شأنه من الحشرات : الظربان والعُثّ والحُفَّاثوالعِربِدُ والعضْرفوط والوبْر وأم حبين والجعل والقرَنْبى والدَّسَّاس والخنفساء والحيّة والعقرب والشّبث والرُّتيلاء والطَّبُّوع والحرقُوص والدَّلم وقمْلة النَّسْر والمثل
والنِّبْر وهي دويْبَّة إذا دبَّتْ
على جلد البعير تورَّم ولذلك يقول الشاعر وهو يصف إبله بالسِّمن : (
كأنّها من بُدُنٍ واستيقارْ ** دَبَّتْ عليها ذربات الأنبارْ ) وقال الآخر :
( حمر تحقّنت النَّجيلَ كأنما ** بجلودهن مدارِجُ الأنبارِ )
والضَّمْج والقنفذ والنَّمْل والذّرِّ والدّساس ومنها ما تتشاكل في وجوه
وتختلف من وجوه : كالفأر والجرذان والزباب والخلد واليربوع وابن عِرس وابن
مقرض
ومنها العنكبوت الذي يقال له منونة وهي شرُّ من الجرَّارة والضّمْج .
ما فيه الوحشي والأهلي من الحيوان
وسنقول في الأجناس التي يكون في الجنس منها الوحشيُّ والأهليّ كالفيلة والخنازير والبقر والحمير والسَّنانير .والظِّباء قد تَدْجُن وتُولّد على صُعوبةٍ فيها وليس في أجناس الإبل جنس وحشيٌّ إلاّ في قول الأعراب .
وممَّا يكون أهليّاً ولا يكون وحشيّاً وهو سبعُ الكلاب وليس يتوحّش منها إلاّ الكلب الكَلِب فأمّا الضِّباع والذِّئاب
والأسد والنمور والبُبور والثعالب وبنات آوى فوحشيَّةٌ كلها وقد يقلّم
الأسد وتُنزع أنْيابه ويطول ثواؤُه مع الناس حتى يهرم مع ذلك ويحسّ بعجزه
عن الصَّيد ثمَّ هو في ذلك لا يُؤتمن عُرامه ولا شروده إذا انفرد عن
سوَّاسه وأبصر غيضة قُدّامها صَحراء .
قصة الأعرابي والذئب وقد كان
بعض الأعراب ربّى جرو ذئب صغيراً حتَّى شبَّ وظنَّ أنه يكونُ أغْنى غناءً
من الكلب وأقوى على الذّبِّ عن الماشية فلمَّا قوي شيئاً وثب على شاةٍ
فذبحها وكذلك يصنعُ الذِّئب ثمَّ أكل منها فلمَّا أبصر الرّجل أمرهُ قال : (
أكَلْتَ شوَيهتي وَربيت فينا ** فمن أنباك أنّ أباك ذيبُ )
وقد
أنكر ناسٌ من أصحابنا هذا الحديث وقالوا : لم يكنْ ليألفه ويقيم معه بعد أن
اشتدّ عظْمُه ولِمَ لَمْ يذهَبْ مع الذِّئاب والضِّباع ولم تكن الباديةُ
أحبَّ إليه من الحاضرة والقفارُ أحبَّ إليه من المواضع المأنوسة .
كيف
يصير الوحشيُّ من الحيوان أهلياً وليس يصير السبعُ من هذه الأجناس أو
الوحشيُّ من البهائم أهليّاً بالمقام فيهم وهو لا يقدر ما يعتري الوحشي إذا
صار إلى الناس وقد تتسافد وتتوالد في الدُّور وهي بعد وحشيَّة وليس ذلك
فيها بعامّ ومن الوحْش ما إذا صار إلى النّاس وفي دُورهم ترك السّفاد ومنها
ما لا يطعم ولا يشربُ البتَّة بوجْهٍ من الوجوه ومنها ما يُكره على
الطُّعْم
ويدخل في حلقة كالحيّة ومنها ما لا يسفد ولا يدْجُن ولا يطعم ولا يشرب ولا يصيحُ حتى يموت وهذا المعنى في وحشيِّ الطَّير أكثر .
السوراني ورياضته للوحوش والذي يحكى عن السوراني القَنَّاص الجبليّ ليس
بناقضٍ لما قُلنا لأنّ الشَّيء الغريبَ والنادر الخارجيّ لا يقاس عليه وقد
زعموا أنّه بلغ من حذْقه بتدريب الجوارح وتضْرِيتها أنّه ضرَّى ذئباً حتّى
اصطاد به الظِّباء وما دونها صيداً ذريعاً وأنه ألفه حتى رجع إليه من
ثلاثين فرسخاً وقد كان بعضُ العُمَّال سرقه منه وقد ذكروا أنّ هذا الذِّئب
قد صار إلى العسكر وأن هذا السُّوراني ضرّى أسداً حتى اصطاد له الحمير فما
دونها صيداً ذريعاً وأنه ضرَّى الزَّنابيرَ فاصطاد بها الذِّبّان وكلُّ هذا
عجب وهو غريبٌ نادرٌ بديعٌ خارجيّ
وذكروا أنّه من قيس عيلان وأن حليمة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم قد ولدته .
الحيوانات العجيبة وليس عندي في الحمار الهنديِّ شيء وقد ذكره صاحب المنطق
فأما الدِّباب وفأرة المسك والفنك والقاقُم والسِّنجاب والسَّمُّور وهذه
الدوابّ ذوات الفِراء والوبر الكثيف النّاعم والمرغوب فيه والمنتفع به فهي
عجيبة .
وإنّما نذكر ما يعرفه أصحابنا وعلماؤنا وأهلُ باديتنا ألا ترى أنّي لم أذكر لك الحريش والدُّخس ولا هذه السِّباع المشتركة الخلق
المتولّدة فيما بين السِّباع المختلفة الأعضاء المتشابهة الأرحام التي إذا
صار بعضُها في أيدي القرّادين والمتكسِّبين و الطوّافين وضعوا لها أسماء
فقالوا : مقلاس وكيلاس وشلقطير وخلقطير وأشباه ذلك حين لمْ تَكُنْ من
السِّباع الأصلية والمشهورة النسب والمعروفة بالنّفع والضّرر .
وقد ذكرنا منها ما كان مثل الضبع والسِّمع والعِسبار إذ كانت معروفةً عند الأعراب مشهورة في الأخبار منوَّهاً بها في الأشعار .
الاعتماد على معارف الأعراب في الوحش وإنَّما أعتمد في مثل هذا على ما عند
الأعراب وإن كانوا لم يَعْرِفوا شكل ما احتِيجَ إليه منها من جهة العناية
والفلاية ولا من جهة التذاكر والتكسُّب ولكن هذه الأجناس الكثيرة ما كان
منها سبعاً أو بهيمةً أو مشترك الخلْق فإنّما هي مبثوثة في بلاد الوحْش :
من صحراء أو وادٍ أو غائط أو غيضة أو رملةٍ أو رأس جبل وهي في منازلهم
ومناشئهم فقد نزلوا كما ترى بينها وأقاموا معها وهم أيضاً من بين النّاس
وحشٌ أو أشباه الوحش .
وربَّما بلْ كثيراً ما يُبتلون بالناب والمخلب
وباللدغ واللَّسع والعضّ والأكل فخرجتْ بهم الحاجة إلى تعرُّف حالِ الجاني
والجارح والقاتل وحال المجنيِّ عليه والمجروحِ والمقتول وكيف الطَّلبُ
والهرب وكيف الداء والدواء لطول الحاجة ولطول وُقوع البصر مع ما يتوارثون
من المعرفة بالدَّاء والدواء
4
معرفة العرب للآثار والأنواء والنجوم
ومن هذه الجهة عرفوا الآثار في الأرض والرَّمل وعرفوا الأنواءَ ونجوم الاهتداء لأنَّ كلَّ من كان بالصَّحاصح الأماليس حيث لا أمارة ولا هادي مع حاجته إلى بعد الشَّقّة مضطرٌّ إلى التماس ما ينجيه ويُؤْديه .ولحاجته إلى الغيث وفِراره من الجدْب وضنِّه بالحياة اضطرته الحاجة إلى تعرُّف شأنِ الغيث .
ولأنه في كلِّ حالٍ يرى السَّماء وما يجري فيها من كوكب ويرى التَّعاقب بينها والنّجوم الثوابت
4
أقوال لبعض الأعراب في النجوم
وسئلت أعرابيَّة فقيل لها : أتعرفين النجوم قالت : سبحانَ اللّه أما أعرف أشباحاً وُقوفاً عليَّ كلَّ ليلة .وقال اليقطريّ : وصف أعرابيٌّ لبعض أهل الحاضرة نجوم الأنواء ونجوم الاهتداء ونجوم ساعات اللّيل والسُّعودِ والنُّحوس فقال قائلٌ لشيخ عباديٍّ كان حاضراً : أما ترى هذا الأعرابيَّ يعرف من النُّجوم ما لا نعرف قال : ويل أمِّك منْ لا يعرف أجذاع بيته قال : وقلت لشيخٍ من الأعراب قد خرِفَ وكان من دُهاتهم : إني لا أراكَ عارفاً بالنُّجوم قال : أما إنّها لو كانت أكثر لكنتُ بشأنها أبصر ولو كانت أقلَّ لكنت لها أذْكر .
وأكثرُ سببِ ذلك كلِّه بعد فَرْط الحاجة وطول المدارسة دِقّةُ الأذهان وجودة الحفظ ولذلك قال مجنونٌ من الأعراب لَمّا قال
له أبو الأصْبَغِ بن رِبْعيّ : أما تعرِف النجوم قال : وما لي أعرفُ من لا يعرفني فلو كان لهذا الأعرابيِّ المجنون مثلُ عُقول أصحابه لعرف مثل ما عرفوا .
ما يجب في التعليم
ولو كان عندي في أبْدان السَّمُّور والفنَك والقَاقُم ما عِندي في أبدان الأرانب والثَّعالب دون فرائها لذكرتها بما قَلَّ أو كثُر لكنّه لا ينبغي لمن قلَّ علمُه أن يدعَ تعليم من هو أقلُّ منه علماً ( الدساس وعلة اختصاصه بالذِّكر ) ولو كانت الدَّسَّاس من أصناف الحيّات لم نخصَّها من بينها بالذِّكر ولكنها وإن كانت على قالب الحيَّات وخَرْطها وأفرغت كإفراغها وعلى عَمُود صُورها
فخصائصها دون خصائصها كما يناسبها في ذلك الحُفَّاث والعِرْبِد وليسا من
الحيّات كما أن هذا ليس من الحيّات لأنّ الدّسَّاس ممسوحة الأذن وهي مع ذلك
ممَّا يلد ولا يبيض والمعروف في ذلك أنّ الولادة هي في الأشرف والبيض في
الممسوح .
وقد زعم ناسٌ أنّ الولادة لا تُخرج الدَّسَّاسَ من اسم الحيّة كما أن الولادة لا تخرج الخفَّاش من اسم الطير .
وكلّ ولد يخرج من بيضه فهو فرْخ إلا ولد بيض الدَّجاج فإنّه فَرُّوج .
والأصناف التي ذكرناها مع ذكر الضَّبّ تبيض كلُّها ويسمى ولدُها بالاسم الأعم فرْخاً .
وزعم لي ابنُ أبي العجوز أنّ الدّسّاس تلد وكذلك خبّرني به محمد بنُ أيوبَ ابن جعفر عن أبيه وخبَّرني به الفضل بنُ إسحاق
بن سليمان فإن كان خبرهما عن إسحاق فقد كان إسحاق من معادن العلم .
وقد زعموا بهذا الإسناد أنّ الأرْويَّة تضعُ مع كلِّ ولد وضعَتْه أفعى في مشيمةٍ واحدة .
وقال الآخرون : الأرويّة لا تعرف بهذا المعنى ولكنه ليس في الأرض نمرة إلا
وهي تضعُ ولدها وفي عنقه أفعى في مكان الطَّوق وذكروا أنَّها تنهش وتعضّ
ولا تقتل .
ولم أكتب هذا لتقرَّ بهِ ولكنها رواية أحببت أن تسمعها ولا
يعجبني الإقرار بهذا الخبر وكذلك لا يعجبني الإنكار له ولكن ليكنْ قلبك
إلى إنكاره أميلَ .
الشك واليقين
وبعد هذا فاعرف مواضع الشّكّ وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له وتعلم الشَّكّ في المشكوك فيه تعلُّماً فلو لم يكن في ذلك إلاّ تعرُّف التوقُّف ثمَّ التثبُّت لقد كان ذلك ممَّا يحتاج إليه .ثمّ اعلم أنّ الشكّ في طبقاتٍ عند جميعهم ولم يُجْمعوا على أن اليقين طبقاتٌ في القوَّة والضعف .
ولمّا قال ابن الجهم للمَكِّيِّ : أنا لا أكاد أشكّ قال المكّيّ : وأنا لا أكاد أوقن ففخر عليه المكيّ بالشكّ في مواضع الشّك كما فخر عليه ابنُ الجهم باليقين في مواضع اليقين .
وقال أبو إسحاق : نازعت من الملحدين الشاك والجاحد فوجدتُ الشُّكّاك أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود .
وقال أبو إسحاق : الشاك أقربُ إليك من الجاحِد ولم يكنْ يقينٌ
قط حتى كان قبله شكّ ولم ينتقل أحدٌ عن اعتقادٍ إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حالُ شكّ .
وقال ابنُ الجهم : ما أطمعني في أوْبة المتحيِّر لأنّ كل من اقتطعته عن اليقين الحيرة فضالته التبيُّن ومنْ وجد ضالته فرِح بها .
وقال عمرو بن عُبيد : تقرير لسانِ الجاحد أشدُّ من تعريفِ قلب الجاهل .
وقال أبو إسحاق : إذا أردت أن تعرِف مقدار الرجل العالِم وفي أيِّ طبقةٍ
هو وأردت أن تدخِله الكورَ وتنفخ عليه ليظهر لك فيه الصّحَّةُ من الفساد أو
مقدارُه من الصّحَّة والفساد فكن عالماً في صورة متعلِّم ثم اسأله سؤال من
يطمع في بلوغ حاجتهِ منه .
فصل ما بين العوام والخواص في الشك والعوامُّ أقلُّ شكوكاً من الخواص لأنَّهم لا يتوقَّفون في التصديق
والتكذيب ولا يرتابون بأنفسهم فليس عندهم إلاّ الإقدامُ على التَّصديق
المجرّد أو على التكذيب المجرد وألغوا الحال الثالثة من حال الشَّكّ التي
تشتمل على طبقات الشك وذلك على قدر سُوء الظنِّ وحُسن الظّن بأسباب ذلك
وعلى مقادير الأغلب .
حرمة المتكلمين وسمع رجلٌ ممَّن قد نظر بعض
النظر تصويب العلماء لبعض الشكّ فأجرى ذلك في جميع الأمور حتّى زعم أنّ
الأمور كلها يُعرف حقها وباطُلها بالأغلب .
وقد مات ولم يخلّف عَقِباً
ولا واحداً يدينُ بدينه فلو ذكرت اسمه مع هذه الحال لم أكنْ أسأت ولكنِّي
على حالٍ أكرهُ التّنويه بذكر من قد تحرّم بحُرمة الكلام وشارك المتكلِّمين
في اسم الصِّناعة ولا سيَّما إنْ كان ممّن ينتحل تقْديم الاستطاعة .
الأوعال والثياتل والأيايل فأمّا القولُ في الأوعال والثّياتِل والأيايل
وأشباه ذلك فلم يحضرْنا فيها ما إن نجعل لذكرها باباً مبوباً ولكننا
سنذكرها في مواضِع ذكرها من تضاعيف هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى .
الضب
وأنا مبتدئٌ على اسم اللّه تعالى في القول في الضَّبّ على أنِّي أذمُّ هذا الكتابَ في الجملة لأنَّ الشواهد على كلِّ شيء بعينه وقعتْ متفرِّقة غير مجتمعة ولو قدرتُ على جمعها لكان ذلك أبلغفي تزكية الشَّاهد وأنور َ للبُرهان وأملأ للنفس وأمْتع لها بحسن الرّصف وأحمده لأنّ جُملة الكتاب على حالٍ مشتملةٍ على جميع تلك الحجج ومحيطة بجميع تلك البرهانات وإن وقع بعضُه في مكان بعضٍ تأخَّر متقدِّم وتقدّم متأخر .
جحر الضب وما قيل فيه من الشعر
وقالوا : و من كيْس الضّبّ أنّه لا يتخذ جُحره إلاّ في كُدْية وهو الموضع الصُّلب أو في ارتفاعٍ عن المسيل والبسيط ولذلك توجدُ براثنُه ناقصةً كليلة لأنّه يحفر في الصَّلابة ويعمِّق الحفْر ولذلك قال خالد بن الطَّيْفان : ( ومَولى كمولى الزِّبرقانِ دَمَلْته ** كما دُمِلَتْ ساقٌ تهاضُ بها كَسْرُ )( إذا ما أحالتْ والجبائرُ فَوْقها ** مضى الحوْل لا بُرْءٌ مُبينٌ ولا جَبرُ ) ( تراه كأنّ اللّه يَجْدَعُ أنفه ** وأذْنَيْهِ إنْ مولاهُ ثابَ له وفرُ ) وقال كثيِّر : ( فإن شئت قلت له صادقاً ** وجدْتك بالقُفِّ ضَباً جَحُولا ) ( من اللاءِ يحفِرْن تحت الكُدى ** ولا يَبْتَغين الدِّماث السُّهولا ) وقال دُريد بن الصِّمَّة : وجدْنا أبا الجبَّار ضَبّاً مورَّشاً لهُ في الصَّفاة بُرثنٌ ومعاوِلُ
( له كدْيَةٌ أعيت على كلِّ قانصٍ ** ولو كان مِنهمْ حارشان وحابلُ ) ( ظَلِلْتُ أراعي الشمس لولا ملالتي ** تزلَّع جلدي عِنْدَهُ وهو قائِلُ ) وأنشد لدريد بن الصمة : ( وعوْراء مِنْ قيلِ امرئٍ قد ردَدْتُها ** بسالمةِ العَيْنينِ طالبةٍ عُذْرا ) ( ولو أنني إذ قالها قلْت مِثْلَها ** وأكثر منها أورثتْ بَيْنَنا غِمْرا ) ( فأعْرَضْتُ عنها وانتظرت به غداً ** لعلَّ غداً يُبدي لمُنْتظِر أمرا ) ( لأُخرج ضباً كان تحت ضلوعِه ** وأقْلِمَ أظفاراً أطال بها الحفرا )
وقال أوسُ بنُ حَجَر في أكل
الصَّخرِ للأظفار : ( فأشرط فيها نفسهُ وهو مُعْصِمٌ ** وألْقى بأسبابٍ
لَهُ وتوَكّلا ) فقد وصفوا الضَّبّ كما ترى بأنه لا يحفِرُ إلاّ في كدية
ويطيلُ الحفْرَ حتّى تفنى براثنه ويتوخّى به الارتفاع عن مجاري السّيل و
المياه وعن مدق الحوافر لكيلا يَنْهارَ عليه بيته .
الموضع الذي يختاره الضب لجحره
ولمّا علم أنَّهُ نَسَّاءٌ سيِّئ الهداية لم يحفر وجاره إلاَّ عند أكمة أو صخْرةٍ أو شجرة ليكون متى تباعد من جُحره لطلب الطُّعم أو لبعض الخوف فالتفت ورآه أحسن الهداية إلى جحره ولأنّه إذا لم يُقِمْ عَلَماً فلعلّه أن يلِجَ على ظرِبانٍ أو وَرَل فلا يكون دون أكله له شيءٌ .
فقالت العرب : خبٌّ ضبّ و : أخبُّ من ضبّ و أخْدع من ضبّ و : كلُّ ضبٍّ عِنْد مِرْداتِهِ .
وإذا خَدع في زوايا حفيرته فقد توثَّق لنفسه عند نفسه .
حذر بعض الحيوان ولهذه العلّة اتخذ اليربوع القاصعاء والنافقاء
والدَّامَّاء والرَّاهطاء وهي أبوابٌ قد اتخذها لحفيرته فمتى أحسَّ بشرٍّ
خالف تلك الجهة إلى الباب .
ولهذا وشبهه من الحذر كان التوبير من الأرانب وأشباهها والتوبير : أنْ تطأ على زمعاتها فلا
ولما أشبه هذا التَّدبير صار الظبي لا يدخل كناسَه إلاّ وهو مستدبر يستقبل بعينه ما يخافه على نفسه وخشفه .
شعر في حزم الضب واليربوع
وقد جمع يحيى بن منصورٍ الذُّهليّ أبواباً من حزم الضب وخبثه وتدبيره إلاّ أنّه لم يرد تفضيل الضب في ذلك ولكنه بعد أنْ قدَّمه على حمْقى الرِّجال قال : فكيف لو فكّرتم في حزْم اليربوع والضبّ .وأنشدني فقال : ( وبعضُ النّاسِ أنقصُ رأي حَزْمٍ ** من اليربُوع والضبِّ المكونِ )
( يَرى مِرْداتهُ مِن رأسِ مِيلٍ ** ويأمَنُ سَيْلَ بارقةٍ هَتُونِ ) (
وَيَحْفِرُ في الكُدى خَوْفَ انهيارٍ ** ويجعلُ مَكْوَهُ رأسَ الوجينِ ) (
ويخْدَعُ إنْ أردْتَ له احتيالاً ** رواغَ الفهْدِ من أسدٍ كمينِ ) (
ويدخِلُ عَقْرَباً تحت الذّنابى ** ويعمِلُ كيد ذي خدٍ ع طبينِ ) ( فهذا
الضبُّ ليس بذي ** حريمٍ مع اليربوعِ والذِّئب اللَّعين ) وقد ذكر يحيى
جميع ما ذكرنا إلاّ احتياله بإعداد العقرب لكفِّ المحترش فإنه لم يذكر هذه
الحيلة من عمله وسنذكر ذلك في موضعه والشِّعر الذي يُثبتُ له ذلك كثير .
فهذا شأنُ الضّبُ في الحفر وإحكام شأن منزلِه .
الورل وعدم اتخاذه بيتاً ومن كلام العرب أنّ الورل إنَّما يمنعه من
اتِّخاذ البُيوت أنَّ اتخادها لا يكونُ إلاّ بالحفر والورل يُبقي على
براثنه ويعلم أنّها سلاحه الذي به يقوى على ما هو أشدُّ بدناً منه وله ذنبٌ
يؤكل ويُستطاب كثيرُ الشَّحم .
قول الأعراب في مطايا الجن من الحيوان
والأعراب لا يصيدون يربوعاً ولا قُنفذاً ولا ورلاً من أول الليل وكذلك كل شيءٍ يكونُ عندهم من مطايا الجنّ كالنَّعام والظّباء .ولا تكون الأرنبُ والضَّبع من مراكب الجن لأن الأرنب تحيض ولا تغتسل من الحيض والضبِّاع تركبُ أيورَ القتلى والموتى إذا جيَّفتْ أبدانهم وانتفخوا وأنعظوا ثم لا تغتسل عندهم من الجنابة ولا حنابة إلا ما كان للإنسان فيه شِرْك ولا تمتطي القرود لأن القرد زان ولا يغتسل من فإنْ قتلَ أعرابيٌّ قُنفذاً أو ورلاً من أول الليل أو بعض هذه
المراكب لم يأمنْ على فحل إبله ومتى اعتراه شيءٌ حكم بأنه عقوبةٌ من قبلهم .
قالوا : ويسمعون الهاتف عند ذلك بالنَّعي وبضروب الوعيد .
قول الأعراب في قتل الجان من الحيات وكذلك يقولون في الجانّ من الحيّات
وقتلُ الجان عندهم عظيم ولذلك رأى رجلٌ منهم جاناً في قعر بئر لا يستطيع
الخروج منها فنزل على خطر شديد حتَّى أخرجها ثم أرسلها من يده فانسابت
وغمَّض عَيْنيه لكيلا يرى مدخلها كأنّه يريد الإخلاص في التقرُّب إلى الجن .
قال المازني : فأقبل عليه رجلٌ فقال له : كيف يقدر على أذاك مَنْ لم ينقذه من الأذى غيرك
ما لا يتم له التدبير إذا دخل الأنفاق
وقال : ثلاثة أشياء لا يتمُّ لها التَّدبير إذا دخلت الأسراب والأنفاق والمكامِن والتّوالج حتَّى يغص بها الخرْق . فمن ذلك :
أن الظربان إذا أراد أن يأكل حِسلة الضب أو الضبّ نفسه اقتحم جُحر الضّب
مستدبراً ثم التمس أضيق موضع فيه فإذا وجده قد غَصَّ به وأيقنَ أنّه قد حال
بينه وبين والآخر : أن الرجل إذا دخل وِجَارَ الضبع ومعه حَبْل فإن لم
يسُدّ ببدنه وبثوبه جميع المخارق والمنافذ ثم وصل إلى الضبع من الضياء
بمقدار سمّ الإبرة وثبتْ عليه فقطّعته ولو كان أشدّ من الأسد . والثالث :
أنّ الضب إذا أراد أن يأكل حُسوله وقف لها من جحرها في أضيق موضعٍ من منفذه
إلى خارج فإذا أحكم ذلك بدأ فأكل منها فإذا امتلأ جوفه انحطَّ عن ذلك
المكان شيئاً قليلاً فلا يُفْلِتُ منه شيءٌ من ولده إلا بعد أنْ يشبع
ويزولَ عن موضعه فيجد منفذاً .
وقال بعض الأعراب :
( ينْشب في المسلكِ عِنْدَ سَلَّتِهْ ** تزاحمَ الضبِّ عصى في كُدْيتِهْ ) ( شعر في أكل الضبّ ولدَه ) وقال : الدَّليل على أنّ الضّبّ يأكلُ ولدَه قول عَمَلَّس بن عقيل بن عُلّفَة لأبيه : ( أكَلْتَ بَنيك أكْل الضّبِّ حتى ** وجدت مَرارَة الكلأ الوبيلِ ) ( فلو أنّ الأُولى كانوا شهوداً ** مَنَعْتَ فِناءَ بيتكَ من بجيلِ ) وأنشد لغيره :
وقال عمرو بن مسافر : عتبت
على أبي يوماً في بعض الأمر فقُلت : ( كيف ألومُ أبي طيْشاً ليرْحَمَني **
وَجَدُّه الضَّبُّ لم يَتْرك لَهُ وَلَدَا ) وقال خداش بنُ زُهير : ( فإن
سمعُتْم بجيشٍ سالِكاً سَرِفاً ** أو بطْن قَوٍّ فأخْفُوا الجرْس
واكتَتِمُوا ) ( ثمَّ ارجِعُوا فأكِبُّوا في بُيُوتِكُمُ ** كما أكبّ على
ذي بَطْنه الهرِمُ ) جعله هَرِماً لطول عمره وذي بطنه : ولده .
وقال
أبو بكر بن أبي قُحافة لعائشة رضي اللّه عنهما : إنِّي كنتُ نحلتكِ سبعين
وَسْقاً من مالي بالعالية وإنّك لمْ تحُوزيه وإنما هو مالُ الوارث وإنما هو
أخواك وأختاك قالت : ما أعرِفُ
لي أختاً غير أسماء قال : إنَّه قد أُلقي في رُوعي أن ذا بطن بنت خارجة جارية .
قال آخرون : لم يعْنِ بذي بطنه ولده ولكنَّ الضَّبَّ يرمي ما أكل أي يقيء
ثم يرجعُ فيأكله فذلك هو ذو بَطْنه فشبَّهُوه في ذلك بالكلب والسّنّور .
وقال عمرو بن مسافر : ما عنى إلا أولاده فكأنَّ خداشاً قال : ارجعوا عن الحرب التي لا تستطيعونها إلى أكل الذُّريَّة والعيال .
قول أبي سليمان الغنوي في أكل الضبة أولادها
قال : وقال أبو سليمان الغنويّ : أبرأ إلى اللّه تعالى من أن تكون
الضَّبَّة تأكل أولادها ولكنها تدفنهنَّ وتطمُّ عليهنَّ التُّراب
وتتعهدهنَّ في كلِّ يوم حتَّى يُخرَّجن وذلك في ثلاثة أسابيع غير أنّ
الثَّعالب والظَّرِبان والطَّير تحفر عنهنَّ فتأكلهنَّ ولو أفلت منهنَّ
كلُّ فراخ الضِّباب لَملأْنَ الأرض جميعاً .
ولو أنَّ إنساناً نحل
أمَّ الدَّرداء أو مُعاذة العدويَّة أو رابعة القيسيَّة أنهنَّ يأكلن
أولادهنَّ لما كان عند أحدٍ من النّاس من إنكار ذلك ومن التكذيب عنهنَّ ومن
استعظام هذا القول أكثر مما قاله أبو سليمان في التَّكذيب على الضِّباب أن
تكون تأكل أولادها . )
قال أبو سليمان : ولكن الضبّ يأكلُ بعْره وهو
طيِّبٌ عنده وأنشد : ( يَعود في تَيْعِه حِدْثانَ مَوْلدِهِ ** فإنْ أسنَّ
تغدَّى نَجْوَهُ كَلِفا )
قال : وقال أفَّار بن لقيط : التَّيْع : القيء ولكنّا رويناهُ هكذا إنما قال : يعودُ في رَجْعِه وكذلك الضَّبُّ يأكُلُ رجْعَه .
وزعم أصحابنا أنَّ أبا المنْجُوف السَّدوسيَّ روى عن أبي الوجيه العُكْليّ
قوله : ( وأفطنَ مِنْ ضَبٍّ إذا خافَ حَارِشاً ** أعدَّ لهُ عِنْدَ
التلمُّس عَقْرَبا )
جملة القول في نصيب الضباب من الأعاجيب
والغرائب أوَّل ذلك طولُ الذَّماء وهو بقيَّة النَّفْس وشدَّة انعقاد
الحياة والرُّوحِ بعد الذبحِ وهَشْمِ الرّأس والطَّعنِ الجائف النافذ حتَّى
يكون في ذلك أعجب من الخنزير ومن الكلب ومن الخنفساء وهذه الأشياء التي قد
تفرَّدت بطول الذَّماء .
ثمَّ شارك الضَّبُّ الوزغة والحيَّة فإن
الحية تُقطعُ من ثلث جسمها فتعيش إن سلمت من الذَّرّ فجمع الضَّبُّ
الخصلتين جميعاً إلا ما رأيت في دَخّال الأذن من هذه الخصلة الواحدة فإنِّي
كنتُ أقطعُه بنصفين فيمضي أحدُ نصفيه يمنةً والآخر يَسرة إلا أنِّي لا
أعرفُ مقدار بقائهما بعد أن فاتا بَصَرِي .
ومن أعاجيبه طولُ العمر
وذلك مشهورٌ في الأشعار والأخبار ومضروبٌ به المثلُ فشارك الحيَّات في هذه
الفضيلة وشارك الأفعى الرّمْليَّة والصَّخرية في أنَّها لا تموتُ حتْفَ
أنفِها وليس إلا أن تُقْتل أو تصطاد فتبقى في جُون الحوّائين تذيلها الأيدي
وتُكره على
الطّعم في غير أرضِها وهوائها حتى تموت أو تحتملها السُّيولُ في الشِّتاء وزمان الزَّمْهرير فما أسرع موتها حينئذ لأنَّها صردة . 4
مثل في الحية
وتقول العرب : أصرد من حيّة كما تقول : أعرى من حية وقال القشيريّ : واللّه لهي أصْردُ من عنزٍ جرْباء . 4 ( حُتوف الحيّات ) وحُتوفها التي تُسرع إليها ثلاثة أشياء : أحدها مُرور أقاطيع الإبل والشَّاء وهي منبسطةٌ على وجه الأرض إما للتشرُّق نهاراً في أوائل البرد وإما للتبرُّد ليلاً في ليالي الصَّيف وإمّا لخروجها في طلب الطُّعم . )والخصلة الثانية ما يسلَّط عليها من القنافذ والأوعال والورل فإنها
تطالبها مطالبة شديدة وتقوى عليها قوّةً ظاهرة والخنازير تأكلها . وقد ذكرنا ذلك في باب القول في الحيّات .
والخصلة الثالثة : تكسُّب الحوَّائين بصيدها وهي تموت عِندهم سريعاً .
ما يشارك الضب فيه الحية والضَّبُّ يشاركها في طول العمر ثمَّ الاكتفاء
بالنسيم والتَّعيشِ ببرد الهواء وذلك عند الهرم وفناء الرُّطوبات ونَقْص
الحرارات وهذه كلها عجب .
عود إلى أعاجيب الضب ثم اتخاذه الجحر في
الصَّلابة وفي بعض الارتفاع خوفاً من الانهدام ومسيل المياه ثم لا يكون ذلك
إلا عند عَلََم يرجع إليه إنْ هو أضلَّ جُحره ولو رأى بالقُرْب تراباً
متراكِباً بقدر تلك المِرداة والصَّخرة لم يحفِلْ بذلك فهذا كله كيْسٌ وحزم
وقال الشَّاعر :
( سقَى اللّه أرضاً يَعْلم الضب أنّها ** عَذيّة
بَطْنِ القاع طيّبةُ البَقْلِ ) ( يرود بها بيتاً على رأس كُدْيةٍ ** وكل
امرئٍ في حِرْفة العيْشِ ذو عقْلِ ) وقال البُطين : ( وكلُّ شيءٍ مصيبٌ في
تعيُّشِه ** الضبُّ كالنُّون والإنسانُ كالسّبُعِ ) ومن أعاجيبه أنّ له
أيرَين وللضبة حِرَين وهذا شيءٌ لا يُعْرف إلاَّ لهما فهذا قولُ الأعراب
وأمَّا قولُ كثير من العلماء ومن نقّب في البلاد وقرأ الكتب فإنّهم يزعُمون
أنَّ للسَّقَنْقور أيرين وهو الذي يتداوى به العاجزُ عن النكاح ليورثه ذلك
القوة .
قالو : و إن للحِرْذون أيضاً أيرين وإنّهم عاينوا ذلك
معاينة وآخر من زعم لي ذلك موسى بن إبراهيم .
والحِرذون دويبة تشبه الحِرباء تكون بناحية مِصْرَ وما والاها وهي دويِّبَة مَليحة موشّاة بألوانٍ ونقط .
وقال جالينوس : الضبُّ الذي له لسانان يصلُح لحمه لكذا وكذا فهذه أيضاً
أعجوبة أخرى في الضبِّ : أن يكونَ بعضه ذا لسانين وذا أيرين .
ومن أعاجيب الضَّبَّة أنّها تأكل أولادها وتجاوز في ذلك خلُق الهِرَّة حتّى قالت الأعراب : أعقُّ من ضَبٍّ . )
احتيال الضب بالعقرب وزعمت العرب أنّه يُعِدّ العقربَ في جُحره فإذا سمع
صوت الحرْش استثفرها فألصقها بأصْل عَجْب الذَّنَب من تحتُ وضمّ عليها فإذا
أدخل الحارشُ يده ليقبض على أصْل ذنبه لسعَتْه العقرب .
وقال علماؤهم : بل يهيِّئ العقارب في جحره لتلسع المحترِشَ إذا أدخل يده .
وقال أبو المنجد بن رويشد : رأيت الضب أخْور دابّة في
الأرض على الحر تراه أبداً في شهر ناجر بباب جُحره متدخِّلاً يخاف أن يقبض
قابضٌ بذنبه فربّما أتاه الجاهلُ ليستخرجه وقد أتى بعقرب فوضَعَها تحت
ذنبه بينه وبين الأرض يحبسها بعَجْب الذنب فإذا قبض الجاهلُ على أصلِ ذنبه
لسعَتْه فَشغِل بنفسه .
فأما ذو المعرفة فإنّ معه عُويْداً يحرِّكه هُناك فإذا زالت العقرب قبض عليه .
وقال أبو الوجيه : كذب واللّه من زعم أنّ الضّبّة تستثفر عقرباً ولكنَّ
العقارب مسالمة للضِّباب لأنها لا تعرض لبيضها وفراخها والضبُّ يأكل الجراد
ولا يأكل ُ العقارب وأنشد قول التميميّ الذي كان ينزل به الأزديُّ : إنه
ليس إلى الطعام يقصد وليس به إلا أنه قد صار به إلفاً وأنيساً فقال : (
أتأنسُ بي ونَجْرُك غير نَجْري ** كما بين العقارب والضِّبابِ )
وأنشد : ( تجَمَّعْن عند الضّبّ حتى كأنه ** على كلِّ حال أسودُ الجِلدِ
خنْفَسُ ) لأن العقارب تألف الخنافِس وأنشدوا للحَكم بن عمرو البَهْراني : (
والوزَغُ الرُّقطُ على ذُلِّها ** تُطاعِمُ الحيّاتِ في الجحرِ ) (
والخُنفَسُ الأسود من نَجْره ** مودّةُ العقربِ في السِّرِّ ) لأنك لا
تراهُما أبداً إلاّ ظاهرتين يطَّاعمان أو يتسايران ومتى رأيت مكنة أو
اطَّلعْتَ على جُحر فرأيت إحداهما رأيت الأخرى .
قال : ومما يؤكِّد القول الأوَّل قولُه : ( ومُسْتثْفرٍ دون السَّوِيّةِ عقرباً ** لقد جئت بجْرياً من الدَّهْرِ أعوجا )
يقول : حين لم ترض من الدهاء والتنكر إلا بما مخالف عنده الناس وتجوزهم 0
إعجاب الضب والعقرب بالتمر وأنشدني ابن داحة لحذيفة بن دأب عمّ عيسى بن
يزيد الذي يقال له ابن دأب في حديث طويل من أحاديث العشَّاق : ( لئن
خُدِعتْ حُبَّى بِسبٍّ مُزَعفرٍ ** فقدْ يُخْدع الضَّبُّ المخادع بالتّمرِ )
لأن الضب شديد العُجْب بالتّمر فضرب الضب مثلاً في الخُبْث والخديعة .
والذي يدلُّ على أن الضب والعقرب يُعجبان بالتّمر عجباً شديداً ما جاء من
الأشعار في ذلك وأنشدني ابن الأعرابيِّ لابن دَغْماء العِجْلي : ( سوى أنكم
دُرِّبْتُم فجريْتم ** على دُرْبةٍ والضّبُّ يُحْبَلُ بالتّمْرِ ) فجعل
صيده بالتّمر كصيده بالحِبالة وأنشدني القُشيريُّ : ( وما كنت ضباً يُخرج
التّمر ضِغْنه ** ولا أنا ممنْ يزدهِيهِ وَعيدُ ) وقال بشر بن المعتمر في
قصيدته التي ذكر فيها آيات اللّه عز ذكره في صُنوف خلْقه مع ذكر الإباضيّة
والرافضة والحشوية
والنابتة فقال فيها : ( وهِقْلةٌ تَرتاعُ من ظِلِّها ** لها عِرارٌ ولَها زَمْرُ ) ( وضبّة تأكلُ أولادها ** وعُتْرُفانٌ بطنُه صِفْرُ ) ( يؤثِر بالطُّعْم وتأذينهُ ** مُنَجِّمُ ليس له فِكرُ ) ( وظبيةٌ تخضَمُ في حَنْظل ** وعقربٌ يُعجبها التمرُ ) وقال أيضاً بشرٌ في قصيدةٍ له أخرى : ( أما ترى الهِقْلَ وأمعاءَهُ ** يجمعُ بين الصَّخْر والجمْر ) ( وفأرة البيشِ على بيشِها ** أحْرص مِنْ ضبٍّ على تمرِ ) وقال أبو دارة وقد رأيتهُ أنا وكان صاحب قَنْص : ( وما التمْر إلا آفةٌ وبليّةٌ ** على جُلِّ هذا الخَلْقِ من ساكن البَحْرِ ) ( وفي البَرِّ من ذئب وسمع وعقربٍ ** وثُرمُلةٍ تسْعى وخُنفسة تسْري ) ( وقد قيل في الأمثالِ إن كنت واعياً ** عذيرك إنَّ الضَّبَّ يُحْبَلُ بالتمرِ )
وسنفسِّر معاني هذه الأبيات إذا كتبْنا القصيدتين على وجوههما بما يشتملان عليه من ذكر )
الغرائب والحكم والتّدبير والأعاجيب التي أودع اللّه تعالى أصناف هذا
الخلْق ليعتبر مُعتبر ويفكر مفكر فيصير بذلك عاقلاً عالماً وموحِّداً
مخْلصاً .
طول ذماء الضب والدّليل على ما ذكرْنا من تفسير قولهم :
الضّبّ أطولُ شيءٍ ذماء قولهم : إنَّه لأحيا مِن ضَبّ لأنّ حارشه ربّما
ذبحه فاستقْصى فرْي الأوداج ثم يدعُه فربما تحرك بعد ثلاثة أيام .
وقال أبو ذؤيبٍ الهذلي : ( ذكر الورُود بها وشاقى أمْرَهُ ** شؤماً وأقْبلَ
حينه يتتبَّعُ ) ( فأبَدَّهُنَّ حُتُوفَهُنَّ فهاربٌ ** بذمائه أو ساقطٌ
متَجَعْجِعُ ) وكان النّاس يروون : فهاربٌ بدمائه يريدون من الدم وكانوا
يكسِرون الدال حتى قال الأصمعيّ : بذمائِه معجمة الذال مفتوحة وقال كثير : ( ولقد شهدْت الخيل يحْمِل شِكَّتي ** متلمِّظٌ خذم العِنانِ بَهيمُ ) ( باقي الذماءِ إذا مَلَكْت مُناقِلٌ ** وإذا جَمَعْتُ به أجشُّ هَزيمُ ) خبث الضب والضّبّ إذا خدَع في جُحره وُصِف عند ذلك بالخبث والمكر ولذلك قال الشاعر : ( إنَّا مُنينا بِضَبٍّ من بني جُمحٍ ** يرى الخيانة مِثْلَ الماء بالعسَلِ ) وأنشد أبو عصام : ( إنّ لنا شيخَين لا ينفعاننا ** غنيَّينِ لا يجْدي عَلَيْنا غِناهُما )
( سقط : بيت الشعر ) ( كأنهما ضبان ضبا مغارة ** كبيران غيداقان صفر كشاهما ) ( فإن يُحْبَلا لا يوجدا في حبالةٍ ** وإنْ يُرصدا يوماً يخبْ راصِداهُما ) ولذلك شبَّهُوا الحِقد الكامنَ في القلْب الذي يسري ضررُه وتدبُّ عقاربُه بالضَّبّ فسمَّوا ذلك الحقد ضبّاً قال مَعنُ بنُ أوس : ( ألا مَنْ لمولًى لا يزالُ كأنَّهُ ** صفاً فيه صَدْعٌ لا يُدانيه شاعِبُ ) ( تدِبُّ ضِبابُ الغشِّ تحت ضُلوعِه ** لأهلِ النّدى من قومِه بالعقارب ) وقال أبو دَهْبل الجمحيّ : ( فاعلمْ بأنِّي لِمَنْ عاديتَ مضطغنٌ ** ضبّاً وإني عليك اليوم مَحْسودُ ) وأنشد ابن الأعرابيّ : ) ( يا رُبَّ مولًى حاسدٍ مُباغضِ ** عليَّ ذي ضغنٍ وضبٍّ فارِضِ )
له قُرُوءٌ كقُروءِ الحائضِ كأنّه ذهب إلى أنّ حِقده يخبو تارةً ثمَّ يستعر ثم يخبو ثم يستعر .
وقال ابن ميّادة وضرب المثل بنفخ الضب وتوثُّبِه : ( فإن لقيسٍ من بغيضٍ
أقاصياً ** إذا أسدٌ كَشّتْ لفخْر ضِبابُها ) وقال الآخر : ( ولو ضبَّ أعلى
ذي دميثٍ حَبلتما ** إذاً ظلَّ يمطو من حبالكم حَبْلا ) والضب يُوصف بشدّة
الكبر ولا سيّما إذا أخصب وأمِنَ وصارَ كما قال عبْدة بن الطَّبيب فإنهَ
ضرب الضبّ مثلاً حيثُ يقول ليحيى بن هزّال :
( لأعرِفنّك يومَ الوِرْدِ ذا لغَطٍ ** ضخْم الجُزارةِ بالسَّلْمَينِ وَكّارُ ) ( تكفي الوليدة والرُّعيانَ مؤتزراً ** فاحلُبْ فإنّك حلاّبٌ وصرّارُ ) ( ما كُنْتَ أول ضب صاب تلْعَتَهُ ** غيثٌ فأمْرعَ واسترخت به الدارُ ) وقال ابن مَيّادة : ( ترى الضَّبّ أنْ لم يرهبِ الضَّبُّ غيْرهُ ** يكشُّ لهُ مُسْتكْبِراً ويُطاوِلُهْ ) وقال دَعْلَجٌ عبدُ المِنْجاب : ( إذا كان بيتُ الضب وسْط مَضبّةٍ ** تطاول للشخص الذي هو حابله ) المضبَّة : مكان ذو ضباب كثيرة ولا تكثر إلاّ وبقربها حَيّة أووَرل أو ظرِبان ولا يكون ذلك إلاّ في موضع بعيد من النّاس فإذا أمِن وخلا لَهُ جوُّه وأخصب نفخ وكشَّ نحو كل شيء يُريده .
ما يوصف بالكِبْر من الحيوان ومما يوصف
بالكِبْر الثَّوْرُ في حال تشرُّقه وفي حالِ مشيته الخُيلاء في الرِّياض
عند غِبِّ ديمة ( كشبوبٍ ذي كِبرياء من الوَحْ ** دة لا يبْتَغي عليها
ظهيرا ) وهذا كثيرٌ وسيقع في موضعه من القول في البقر .
ومّما يُوصف
بالكِبْر الجملُ الفَحْل إذا طافت به نوق الهجمة ومرَّ نحو ماءٍ أو كلأ
فتبعنه وقال الرّاجز : ( فإنْ تشرَّدْن حواليْهِ وَقَفْ ** قالِبَ
حِمْلاقيهِ في مثل الجرُفْ ) ( لو رُضَّ لحدُ عَيْنِهِ لما طرفْ ** كِبراً
وإعجاباً وعِزّاً وتَرَفْ ) والنَّاقة يشتدُّ كِبْرها إذا لَقِحت وتزُمُّ
بأنفها وتنفرد عن صحاباتها وأنشد الأصمعيّ :
( وهو إذا أراد منها
عِرْسا ** دَهْماءَ مِرْباع الِّلقاح جَلْسا ) ( عاينها بعد السِّنان أنسا
** حتّى تلقَّتْهُ مخاضاً قُعْسا ) ( حتَّى احتشت في كلِّ نفسٍ نفْسا **
على الدّوامِ ضامِزاتٍ خُرْسا ) خُوصاً مُسِرَّاتٍ لقاحاً مُلْسا وأمَّا
قول الشَّمَّاخ : ( جُماليَّة لو يُجعلُ السَّيفُ غَرضها ** على حَدِّه
لاستكبرتْ أنْ تضوّرا ) فليس من الأوَّل في شيء .
والمذكورون من النَّاس بالكِبْر ثَمَّ من قريشٍ : بنو محزوم وبنو أميَّة ومن العرب : بنو جعفر بن كلاب وبنو زرارة بن عُدس خاصّة .
فأمَّا الأكاسرة من الفرْس فكانوا لا يعُدُّون النَّاس إلاّ عبيداً وأنفسهم إلاّ أرباباً .
ولسنا نُخْبر إلا عن دهماء النّاس وجُمهورهم كيف كانوا من ملوك وسوقة .
الكبر في الأجناس الذليلة والكِبر في الأجناس الذَّليلة من النّاس أرسَخ
وأعمُّ ولكنّ الذلة والقلّة مانعتان من ظهور كبرهم فصار لا يعرف ذلك إلاّ
أهلُ المعرفة كعبيدنا من السِّنْدِ وذِمَّتنا من اليهود .
والجملةُ
أنّ كلّ من قدر من السِّفلة والوُضعاء والمحقرين أدنى قدرةٍ ظهر من كِبره
على منْ تحت قدرته على مراتب القدرة ما لا خفاء به فإنْ كان ذمِّياً
وحَسُنَ بما لَهُ في صدور النّاس تزيَّد في ذلك واستظهرت طبيعته بما يظنُّ
أنّ فيه رَقْع ذلك الخرْق وحِياص ذلك الفتق وسد تلك الثُّلمة
فتفقدْ ما أقول لك فإنك ستجده فاشياً .
وعلى هذا الحسابِ من هذه الجهة صار المملوك أسوأ ملكةً من الحُرّ .
وشيءٌ قد قتلته عِلماً وهو أنِّي لم أرَ ذا كِبْر قطُّ على منَ دونه إلا وهو يذلُّ لمن فوقه بمقدارِ ذلك ووزْنه .
فأمّا بنو مخزوم وبنو أمَيَّة وبنو جعفر بن كلاب وبنو زرارة بن عُدُس
فأبْطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة ولو كان في قُوى عقولهم وديانتهم
فضلٌ على قوى دواعي الحميّة فيهم )
لكانوا كبني هاشمٍ في تواضُعِهم وفي إنصافهم لمنْ دونهم .
وقد قال في شبيهٍ بهذا المعنى عَبْدةُ بن الطبيب حيث يقول : ( إن الذين
تُرَوْنَهُمْ خلاَّنكُمْ ** يَشْفي صُداع رؤوسهم أن تُصْرعوا ) ( فضلت
عداوتهم على أحلامِهم ** وأبتْ ضِبابُ صُدورهم لا تنزعُ ) من عجائب الضب
فأمَّا ما ذكروا أنَّ للضبّ أيرين وللضَّبَّة حِرَين فهذا من العجب
العجيب ولم نجدْهم يشكُّون وقد يختلفون ثمَّ يرجعون إلى هذا العمود وقال الفزاريّ : ( جبى المالَ عُمَّالُ الخراجِ وجِبْوتي ** مُحذَّفة الأذناب صُفْرُ الشّواكلِ ) ( رَعين الدَّبا والبَقْلَ حتى كأنما ** كساهُنَّ سُلطانٌ ثيابَ المراجلِ ) ( سِبحْل له نزكانِ كانا فضيلةً ** على كُلِّ حاف في البلاد وناعل )
( ترى كلَّ ذيَّال إذا الشمسُ عارضتْ ** سما بين
عِرْسَيْهِ سُمُوَّ المخايلِ ) واسم أيره النَّزْك معجمة الزّاي والنون من
فوق بواحدة وساكنة الزاي فهذا قول الفزاريّ ( تفرَّقتمُ لا زِلْتم قِرْنَ
واحدٍ ** تفرُّق أيْرِ الضّبِّ والأصل واحدُ ) فهذا يؤكد ما رواه أبو خالد
النميري عن أبي حيّة النُّميري قال أبو خالدِ : سئل أبو حيّة عن ذلك فزعم
أنّ أير الضبّ كلسان الحيّة : الأصل واحدٌ والفرعُ اثنان . 4 ( زعم بعض
المفسِّرين في عقاب الحية ) وبعضُ أهل التّفسير يزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ
عاقب الحيَّة حين أدخلتْ إبليس في جوفها حتَّى كلّم آدم على لسانها بعشر
خصال منها شقُّ اللسان .
قالوا : فلذلك ترى الحيّة أبداً إذا ضُربت لتُقْتل كيف تُخرجُ
لسانها تلويه كما يصنعُ المسترحمُ من النَّاس بإصبعه إذا ترحّم أو دعا لترِيَ الظالمَ عقوبة اللّه تعالى لها .
قول بعض العلماء في تناسل الضب قال أبو خالد : قال أبو حيّة : الأصل واحد
والفرع اثنان وللأنثى مَدخلان وأنشد لحبَّى المدنيَّة : ( وَدِدتُ بأنّه
ضبٌّ وأني ** كضبَّة كُدْيةٍ وجَدَتْ خلاءَ ) قال : قالت هذا البيت لابنها
حين عذلها لأنَّّها تزوّجتْ ابن أمِّ كلاب وهو فتى حدثٌ وقال ابن الأعرابيّ
: للأنثى سبيلان ولرحمها قُرْنتان وهما زاويتا الرَّحم فإذا امتلأت
الزَّاويتان أتأمتْ وإذا لم تمتلئْ أفردت .
وقال غيرُه من العلماء : هذا لا يكون لذوات البيض والفراخ وإنما
هذا من صفة أرحام اللواتي يحْبلن بالأولاد ويضعْن خلقاً كخلقهنَّ ويُرْضعن
وكيف تُفرِد الضبّة وهي لم تتئم قط وهي تبيض سبعين بيضةً في كلِّ بيضةٍ
حِسْل .
قال : ولهذه الحشرات أيورٌ معروفة إلاّ أنّ بعضها أحقر من بعض فأما الخصى فشيءٌ ظاهرٌ لمن شقّ عنها .
تناسل الذباب وجسر أبو خالد فزعم أنه قد أبصر أير ذباب وهو يكُوم ذبابة
وزعم أن اسم أيره المُتْك وأنشد لعبد اللّه بن همام السَّلوليِّ : ( لما
رأيْتُ القصْرَ غُلِّقَ بابه ** وتعلَّقَتْ همْدانُ بالأسبابِ ) ( أيقنْتُ
أنّ إمارة ابن مُضاربٍ ** لم يبْقَ منها قِيسُ أيرِ ذُبابِ ) وهذا شعرٌ لا
يدلُّ على ما قال .
وقال أصحابنا : إنّما المتك البظْر ولذلك يقال للعِلْج : يابن المتْكاء كما يقال له : يابن البظراء .
القول فيمن استطاب لحم الضب ومن عافه
روى أنَّه أُتي به على خوان النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكله وقال : ليس من طعام قومي وأكله خالد بن الوليد فلم يُنكر عليه .
ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا أحلُّه ولا أحرِّمه وأنكر ذلك
ابنُ عباس وقال : ما بعثه اللّه تعالى إلاّ ليُحلّ ويحرِّم .
وحرّمه قومٌ ورووا أنَّ أُمّتين مُسختا أخذت إحداهما في البَرِّ فهي الضِّباب وأخذت الأخرى في طريق البحر فهي الجِرِّيّ . )
وروَوْا عن بعض الفقهاء أنه رأى رجلاً أكل لحم ضبٍّ فقال : اعلمْ أنَّك قد أكلت شيخاً من مشيخة بني إسرائيل .
وقال بعضُ من يعافه : الذي يدلُّ على أنّه مِسْخ شبه كفِّه بكفِّ الإنسان .
وقال العُدار الأبرص نديم أيّوب بن جعفر وكان أيوبُ لا يغبّ أكل الضباب في
زمانها ولها في المِرْبد سوقٌ تقوم في ظلّ دار جعفر ولذلك قال أبو فرعون
في كلمة له طويلة : سُوقُ الضبابِ خير سوقٍ في العربْ وكان أبو إسحاق
إبراهيم النظام والعُدار إذا كان عند أيوب قاما عن خوانه إذا وضع له عليه
ضبّ ومما قال فيه العُدار قوله : قول العوام في المسخ
والعوامّ تقول ذلك وناسٌ يزعمون أن الحيّة مسخ والضبّ مِسْخ والكلبَ مِسْخ والإربيان مِسخ والفأر مسخ .
قول أهل الكتاب في المسخ ولم أر أهل الكتاب يُقِرُّون بأنَّ اللّه تعالى
مسخ إنساناً قط خنزيراً ولا قرداً إلاّ أنهم قد أجمعوا أنّ اللّه تبارك
وتعالى قد مسخ امرأة لُوطٍ حَجَراً حين التفتتْ .
وتزعم الأعراب : أنَّ اللّه عزّ ذكره
قد مسخ كلَّ صاحب مَكْس وجابي خراج وإتاوة إذا كان ظالماً وأنه مسخ ماكسين أحدهما ذئباً والآخر ضبعاً .
شعر الحكم بن عمرو في غرائب الخلق وأنشد محمَّد بن السَّكن المعلِّم
النحويّ للحكم بن عمرو البهراني في ذلك وفي غيره شعراً عجيباً وقد ذكر فيه
ضروباً كلُّها طريف غريب وكلها باطل والأعراب تؤمن بها أجمع .
وكان
الحكَم هذا أتى بني العنبر بالبادية على أنَّ العنبر من بَهْراء فنفوه من
البادية إلى الحاضرة وكان يتفقَّه ويفتي فُتيا الأعراب وكان مكفوفاً
ودهريّاً عُدْمُليّاً وهو الذي يقول : ( إنّ ربيِّ لمِا يشاءُ قديرٌ ** ما
لشيءٍ أرادهُ منْ مفرِّ )
( بعثَ النملَ والجرادَ وقفّى ** بنجيعِ الرُّعافٍ في حيِّ بكرِ ) ( خرقتْ فارةٌ بأنفِ ضئيلٍ ** عرماً محكمَ الأساسِ بصخرِ ) ( فجَّرته وكانَ جيلان عنهُ ** عاجزاً لو يرومُه بعد دهرِ ) ( مسخَ الضبّ في الجدالة قدْماً ** وسهيلَ السماءِ عمداً بصغرِ ) ( والذي كانَ يكتنى برغالٍ ** جعلَ اللهُ قبرهُ شرَّ قبرِ ) ( وكذا كلُّ ذى سفينٍ وخرجٍ ** ومكوسٍ وكلُّ صاحبِ عشرِ ) ( منكبٌ كافرٌ وأشراطُ سوءٍ ** وعريفٌ جزاؤه حرُّ جمرِ ) ( ونزوجتُ في الشبيبةِ غولا ** بغزالٍ وصدقتي زقُّ خمرِ ) ( ثيبٌ إن هويتُ ذلك منها ** ومتى شئتُ لم أجدْ غيرَ بكرِ ) ( بنتُ عمرو وخالها مسحَل الخي ** ر وخالي هميمُ صاحبُ عمرو ) ( ولها خطةٌ بأرضِ وبارٍ ** مسحوها فكان لي نصفُ شطرِ ) ( أرضُ حوشٍ وجاملٍ عكنانٍ ** وعروج من المؤبًّل دثرِ )
( سادة الجنّ ليس فيها من الج ** نِّ تاجر وآخرَ مكرِ ) ( ونفوْا عن حريمها كلَّ عفرٍ ** يسرقُ السمعَ كل ليلة بدرِ ) ( تأكل القولُ ذا البساطة مسياً ** بعد روثِ الحمار في كل فجر ) ( جعلَ اللهُ ذلك الروثَ بيضا ** من أنوقٍ ومن طروقة نسرِ ) ( ضربت فردةً فصارتْ هباءً ** في محاق القمير آخرَ شهرِ ) ( تركتْ عبدلاً ثمالَ اليتامَى ** وأخوه مزاحم كان بكرِى ) ( وضعتْ تسعةً وكانت نزورا ** من نساء في أهلها غير نزرِ ) ( غلبتني على النجابةِ عرسيْ ** بعد ما طار في النجابةِ ذكرى )
( وأرى فيهمُ شمائلَ إنسٍ ** غيرَ أنْ النجار صورةُ عفرِ ) ( وبها كنتُ راكباً حشراتٍ ** ملجماً قنفذاً ومسرجَ وبرِ ) ( كنت لا أركبُ الأرانب للحي ** ض ولا الضبع أنها ذاتُ نكر ) ( تركبُ المقعصَ المجيف ذا النع ** ظ وتدعو الضباع من كلِّ جحرِ ) ( جائباً للبحار أهدى لعرسي ** فلفُلا مجتنًى وهضمة عطرِ ) ( وأحِّلى هريرَ من صدفِ البح ** رِ وأسقى العيالَ من نيلِ مصرِ ) ( ويسنى المعقودَ نفثى وحلى ِّ ** ثم بخفى على السَّواحر سحري ) ( وأجوب البلاد تحتىً ظبيٌ ** ضاحكٌ سنهُ كثيرٌ التمرى ) ( يحسبُ الناظرون أنِّى ابن ماءٍ ** ذاكرٌ عشهُ بضفةِ نهر ) ( ربَّ يوم أكلت من كبدِ اللي ** ث وأعقبتُ بين ذئبٍ ونمر ) ( ليس ذا كم كمن يبيتُ بطيناً ** من شواءِ ومن قليةِ جزر )
( ثم لاحظتُ خلَّتي في غدوٍ ** بينَ عيني وعينها السمُّ يجرى ) ( ثم أصبحتُ بعد خفضٍ ولهوٍ ** مدنفاً مفرداً محالفَ عسرِ ) ( أتراني مقتُّ من ذبحَ الدي ** كَ وعاديتُ من أهابَ بصقرِ ) ( وسمعتُ النقيقَ في ظلمِ اللي ** لِ فجاوبته بسرٍ وجهرِ ) ( ثم يرمى بي الجحيمُ جهاراً ** في خمير وفي دراهم قمرِ ) ( فلعلْ الإله يرحمُ ضعفي ** ويَرى كبرتي ويقبلُ عذرى )
في حل الضب واستطابته
وسنقول في الذين استحلوه واستطابوه وقدّموه .قالوا : الشيء لا يحرم إلاّ من جهة كتابٍ أو إجماعٍ أو حجةِ عقل أو من جهة القياس على أصل في كتاب اللّه عزّ وجلّ أو إجماع ولم نجدْ في تحريمه شيئاً من هذه الخصال وإن كان إنَّما يُترك من قِبلِ التقزز فقد أكل الناسُ الدَّجاجَ والشبابيط ولحوم الجَلاَّلة وأكلوا السراطين والعقصير وفراخ الزّنابير والصحناء
والرَّبيثا فكان التقزُّز مما يغتذي العذِرةَ رطْبةً ويابسة أولى وأحقَّ من كلِّ شيء يأكل الضروب التي قد ذكرناها وذكرها الرَّاجز حيث يقول : ( يَا رُبَّ ضَبٍّ بين أكنافِ اللِّوَى ** رعى المُرار والكَبَاث والدَّبا ) ( حَتَّى إذا ما ناصِل البُهْمَى ارتمى ** وأجفِئَتْ في الأرض أعْرَافُ السّفَا ) ( ظَلَّ يباري هُبَّصاً وَسْط المَلا ** وهو بَعيْنَي قانصٍ بالمرْتَبَا ) ( كان إذا أخْفَقَ مِن غير الرعا ** رازَمَ بالأكباد منها والكُشَى )
فإن عفتموه لأكل الدَّبا فلا تأكلوا الجراد ولا تستطيبوا بَيضه .
وقد قال أبو حجين المنقريُّ : ( ألا لَيت شِعرِي هل أبيتنَّ ليلة ** بأسفل
وادٍ ليس فيه أذانُ ) ( وهل آكُلَنْ ضَبّاً بأسفَل تَلْعَةٍ ** وعرْفجُ
أكماع المَديد خِواني ) . أقومُ إلى وقْتِ الصَّلاةِ وريحُهُ بَكَفَّيَّ لم
أغسِلْهُما بشُنَانِ ) ( وهل أشرَبَنْ مِنْ ماءِ لِينةَ شرْبةً ** على
عطَشٍ من سور أمّ أبانِ ) وقال آخر :
( أحبُّ إلينا أنْ يجاورَ أرْضَنَا ** من السَّمكِ البُنّيّ والسَّلْجَم الوَخِمْ ) وقال آخرُ في تفضيل أكل الضّبّ : ( أقولُ له يوماً وقد راح صُحْبتي ** وباللّه أبغي صَيْدَهُ وأخاتِلُهْ ) ( فلمَّا التقَتْ كَفّي على فضْل ذَيلِهِ ** وشالت شمالي زايَلَ الضَبّ باطلُهْ ) ( فأصبح محنوذاً نضِيجاً وأصبَحَتْ ** تَمَشَّى على القِيزان حُولاً حلائلهْ ) ( شديد اصفرار الكُشْيَتَيْن كأنّما ** تطَلَّى بوَرْس بَطْنُه وشواكِلُهْ ) ( فذلك أشْهى عنْدَنا من بيَاحِكمْ ** لَحَى اللّه شارِيهِ وقُبِّح آكِلُهْ )
وقال أبو الهنْديّ من ولد شَبَثِ بنِ رِبْعيٍّ : ( أكَلْتُ الضِّبابَ فما عِفْتها ** وإنِّي لأهْوَى قديد الغَنَمْ ) ( ورَكَّبتُ زُبداً على تَمرةٍ ** فنِعْمَ الطَّعام ونِعْمَ الأُدُمْ ) ( وسَمْن السِّلاءِ وكمءَ القصيصِ ** وزينُ السَّديفِ كبودُ النَّعَمْ ) ( ولحمَ الخروف حَنيذاً وقدْ ** أُتيتُ به فائراً في الشَّبمْ )
( فأمَّا البَهطُّ وحِيتانُكمُ ** فما زِلْتُ منها كَثِيرَ السَّقَمْ ) ( وقد نِلْتُ ذاكَ كما نِلْتمُ ** فلم أرَ فيها كضَبٍّ هَرِمْ ) ( ومَكنُ الضِّبابِ طَعَامُ العُرَيبِ ** وَلا تَشْتَهيهِ نُفُوسُ العَجمْ ) وإلى هذا المعنى ذهب جران العود حين أطعمَ ضيفَه ضَبّاً فهجاه ابن عمٍّ له كان يُغمزُ في نسبِه فلما قال في كلمةٍ له : ( وتُطْعِمُ ضَيْفَك الجَوْعَانَ ضباً ** وتأكلُ دُونَهُ تمْراً بزبْدِ ) وقال في كلمةٍ له أخْرَى : ( وتُطْعِمُ ضَيْفَكَ الجَوْعانَ ضبّاً ** كأنَّ الضَّبَّ عندهم عَرِيبُ ) قال جران العود :
( فلولا أنَّ أصْلكَ
فارسيٌّ ** لَمَا عبْتَ الضِّبَابَ ومنْ قَرَاها ) ( قريتُ الضيفَ من
حُبِّي كُشَاها ** وأيُّ لَوِيّةٍ إلاّ كُشاها )
واللَّوِيّة :
الطُّعيِّم الطّيب واللَّطف يرفع للشَّيخِ والصبي وقد قال الأخطل : ( ففلتُ
لهُمْ هاتوا لَوِيةَ مالكٍ ** وإنْ كان قد لاقى لَبوساً ومَطْعما )
بزماورد الزَّنابير وقال مُويس بن عمران : كان بشر بن المعتَمر خاصّاً
بالفضل
بن يحيى فقدِم عليه رجلٌ من مواليه وهو أحد بني هلال بن عامر فمضى به يوماً إلى الفضْل ليكرمَه بذلك وحضرت المائدة فذكروا الضب ومن يأكلُه فأفرط الفضْلُ في ذمِّه وتابَعَهُ القوم بذلك ونظر الهلاليُّ فلم ير على المائدة عربيّاً غيره وغاظه كلامُهم فلم يلبث الفضل أن أُتِيَ بصَحْفة ملآنةٍ من فراخ الزَّنابير ليتّخذ لَه منها بزماورد والدَّبر والنَّحل عند العرب أجناسٌ من الذّبان فلم يشكّ الهلاليُّ أنَّ الذي رأى من ذِبّان البيوت والحشُوش وكان الفضْلُ حين وليَ خُراسان استظرف بها بزماورد الزَّنابير فلمَّا قدم العراق كان يتشَّهاها فتطلبُ له من كلِّ مكان فشمِت الهلاليُّ به وبأصحابه وخرجَ وهو يقول :
( وعِلْج يعافُ الضَّبّ لُؤْماً وبطْنةً ** وبعضُ إدام العِلْج هَامُ ذُبابِ ) ( ولو أن مَلْكاً في الْمَلا ناك أمَّه ** لقالُوا لقَدْ أُوتيتَ فَصلَ خطَابِ ) شعر أبي الطروق في مَهر امرأة لما قال أبو الطروق الضبي : ( يقولُون أصْدِقْها جَرَاداً وضَبَّةً ** فقد جَردَتْ بَيْتي وبَيْتَ عِياليا ) ( وأبْقتْ ضِباباً في الصُّدور جَواثماً ** فيا لك من دَعْوى تُصِمُّ المُناديا ) ( وعاديتُ أعمامي وهمْ شرُّ جِيرةٍ ** يُدِبُّونَ شَطْرَ اللَّيْلِ نحوي الأفاعيا )
( وقَدْ كانَ في قعبٍ وقوس وإنْ أشَأ ** من الأقط ما بلَّغن في المَهْرِ حاجيا ) ( فلو كان قَعباً رضّ قَعْبك جندلٌ ** ولَوْ كان قوساً كانَ للنَّبْلِ أذْكرا ) فقال عمُّها : دعوني والعبد .
شعر في الضب
ّ ) وأنشد للدُّبيري : ( أعامِرَ عبدِ اللّه إنِّي وجدتكمْ ** كعَرْفَجَةِ الضّبّ الذي يتذلَّلُ ) قال : هي ليّنة وعودُها ليّن فهو يعلوها إذا حضروا بالقيظ ويتشوَّف عليها ولستَ تَرَى الضّب إلا وهي ساميةٌ برأسها تنظر وترقب وأنشد :( بلاد يكون الخَيْمَ أطلال أهْلِها ** إذا حَضَروا بالقَيْظِ والضَّبَُّ نونُها ) وقال عمرو بن خويلد : ( ركاب حُسَيْلٍ أشْهُرَ الصَّيْف بُدَّنٌ ** وناقةُ عَمرٍ و ما يُحَلُّ لها رَحلُ ) ( إذا ما ابتَنيْنَا بيتَنا لمعيشةٍ ** يعُودُ لما نبْني فيهدمُه حِسْلُ ) ( ويزعم حِسْلٌ أنّه فَرْعُ قومِه ** وما أنت فرعٌ يا حُسيلُ ولا أصْلُ ) ( وُلِدْت بحادي النَّجم تسعى بسعيه ** كَما ولَدَتْ بالنَّحْسِ دَيَّانهَا عُكْلُ )
استطراد لغوي وهم يسمُّون بحسل وحسيل : وضبّ وضبّة فمنهم ضبّة بن أدّ وضبة بن محض وزيد بن ضبّ ويقال : حفرة ضب وفي قريش بنو حسل ومن ذلك ضبَّة الباب ويسمّى حلْب الناقة بخمس أصابع ضبّاً يقال ضبَّها يضبُّها ضبّاً : إذا حلبها كذلك وضبَّ الجُرح وبَضّ : إذا سال دماً مثل ما تقول : جذب وجبذ و : إنّه لَخبٌ ّ ضَبّ وإنّه لأخْدع من ضبّ والضبُّ : الحقد إذا تمكَّن وسَرَت عقاربُه وأخفى مكانه والضّبُّ : ورمٌ في خفِّ البعير وقال الرَّاجز : ليس بذي عرك ولا ذي ضبِّ
ويقال ضَبٌّ خَدِعٌ أي مراوغ ولذلك سموا الخزانةِ المخْدع وقال راشد بن شهاب : ( أرقتُ فلم تَخْدَعْ بعينَيَّ نعسةٌ ** وواللّه ما دَهْري بعشق ولا سَقَمْ ) وقال ذو الرُّمَّة : ( مناسِمها خُثمٌ صِلابٌ كأنّها ** روؤس الضِّباب استخرجَتها الظهائرُ ) شعر فيه ذكر الضبّ ويدلُّ على كثْرةِ تصريفهم لهذا الاسم ما أنشدَناهُ أبو الرُّدَينيّ : ( لا يعقر التقبيل إلا زُبِّي ** ولا يُداوي مِنْ صَميم الحُبِّ )
والضّبُّ في صوَّانِهِ مُجَبّ ) ( يا أم سَمَّال ألَمَّا تدْرِي ** أنِّي على مَيَاسري وعَسْرِي ) ( يَكفيكِ رِفْدي رجلاً ذَا وَفْر ** ضَخْم المثاليثِ صغير الأيرِ ) ( إذا تغَدّى قالَ تَمْري تمْري ** كأنَّه بين الذَّرى والكِسْرِ ) ضَبٌّ تَضَحَّى بمكانٍ قَفْرِ وقال أعرابيّ : ( قد اصطدتُ يا يقظان ضَبّا ولم يَكُنْ ** ليُصْطاد ضبٌّ مِثْلُه بالحبائلِ ) ( يَظََلُّ رِعاءُ الشَّاءِ يَرْتَمِضُونهْ ** حَنِيذاً ويُجْنى بَعضُه للحَلائلِ )
( عظيمُ الكشى مثلَُ الصَّبِي إذا عداْ ** يفوتُ
الضِّبابَ حِسلُه في السَّحابِلِ ) وقال العماني : ( إنّي لأرْجُو مِن
عَطَايا رَبّي ** ومِنْ وَليِّ العَهد بعد الغِبِّ ) ( رُومِيّةً أولجُ
فيها ضَبِّي ** لها حرٌ مُستهدِفٌ كالقبِ ) مُستَحصِفٌ نِعْم قرابُ
الزُّبِّ وقال الآخر : ( إذا اصْطلَحوا على أمْرٍ تَوَلَّوْا ** وفي
أجوافهم منه ضِبابُ ) ( ومن الموالي ضَبُّ جَنْدَلةٍ ** زَمِرُ المروءَة
ناقص الشَّبرِ ) فالأول جعل أيره ضَبّاً والثاني جعل الحقد ضبّاً .
وقال الخليل بن أحمد في ظهر البصرة مما يلي قَصْر أنَس :
( زُرْ وادِيَ الْقَصْر نِعْمَ القَصْرُ والوادي ** لا بُدّ مِنْ زوْرةٍ عَنْ غير مِيعادِ ) ( تَرَى به السُّفْنَ كالظِّلْمانِ واقفةً ** والضبّ والنُّون والملاح والحادي ) وقال في مثل ذلك ابنُ أبي عُيَينة : ( يا جنَّةً فاتَتِ الجِنان فَما ** يَبْلُغُها قِيمةٌ ولا ثَمنُ ) ( ألِفْتُها فاتَّخَذْتُها وَطَناً ** إنَّ فَؤادي لأهْلِها وطَنُ ) ( زُوِّجِ حِيَتانُها الضِّبابَ بها ** فهذه كَنَّةٌ وذا خَتَنُ ) ( فانظُرْ وفَكِّرْ فيما تُطيف به ** إنَّ الأريب المفكِّرُ الفَطِنُ )
( من سُفنٍ كالنّعامِ مقبلةٍ ** ومن نَعَامٍ كأنَّها سُفنُ )
وقال عقبة بن مُكَدَّم في صفة الفَرَس : ( وَلَها مَنْخِرٌ إذا رَفعَتْه
** في المُجاراةِ مثلُ وَجْرِ الضِّبابِ ) وأنشد : وقال أبو حَيّة
النُّميري : وَقرَّبوا كلَّ قِنعاس قُراسيةٍ أبَدَّ ليس به ضبٌّ ولا سرَرُ
وقال كثير : ( ومحترش ضبَّ العَداوة منهُم ** بِحُلْو الرُّقى حرش الضِّباب
الخْوادِعِ ) وقال كثير :
( سقط : بيت الشعر ) ( ومحترش ضب العداوة منهم ** بحلو الرقى حرش في الضباب الخوادع ) وقال كثيِّر أيضاً : وما زالتْ رُقاكَ تَسُلُّ ضِغْني وتُخْرِجُ مِنْ مضائبها ضِبابي
شعر في الهجاء فيه ذكر الضب
فأما الذين ذمُّوا الضب وأكْلَه وضربوا المثل به وبأعضائه وأخلاقه وأعماله فكما قال التميمي : ( لَكِسْرى كان أعْقَلَ مِنْ تميم ** لَيَاليَ فَرَّ مِنْ أرضِ الضِّبابِ ) ( فأنزَلَ أهْلَهُ ببلادِ رِيفٍ ** وأشجارٍ وأنهارٍ عِذابِ ) ( وصار بَنُو بَنِيه بها ملوكاً ** وصرْنَا نحنُ أمثالَ الكِلابِ )( فلا رَحِمَ الإلهُ صَدَى تميم ** فقد أزْرى بنا في كلِّ بابِ ) وقال أبو نواس : ( تُفاخِرُ أبناء المُلُوكِ سَفاهةً ** وبَوْلُكَ يَجْري فُوق ساقِكَ والكعْبِ ) وقال الآخر : ( فحبَّذَا همْ ورَوَّى اللّه أرضَهُمُ ** مِنْ كلِّ مُنْهمِرِ الأحشاء ذي بَرَدِ ) ( ولا سقى اللّه أياماً غنيتُ بها ** ببَطْنِ فَلْجٍ على اليَنسُوع فالعُقدِ ) ( مواطنٌ مِنْ تميم غير معجِبة ** أهْلِ الجفاءِ وعيْشِ البُؤس والصّرَدِ ) ( همُّ الكرامِ كريمُ الأمْرِ تفْعلُهُ ** وهَمُّ سَعْد بما تُلقي إلى المَعِدِ ) ( أصحاب ضبٍّ ويربوع وحَنْظلةٍ ** وعَيشةٍ سَكَنُوا منها على ضَمَدِ ) ( إنْ يأكلوا الضّبَّ باتوا مُخصبين به ** وزَادُها الجُوعُ إن باتَتْ ولم تصدِ )
( لو أنَّ سعداً لها ريفٌ لقد دُفعَتْ ** عنه كما دُفِعتْ عن صالح البلدِ ) ( من ذا يقارع سعْداً عَنْ مفازتها ** ومَنْ يُنافِسُها في عَيْشها النّكدِ ) وقال في مثل ذلك عَمرُو بنُ الأهتم : ( وتَرَكْنَا عُمَيْرَهُمْ رَهْنَ ضَبْعٍ ** مُسْلَحِباً ورَهْنَ طُلْسِ الذِّئابِ ) ( نَزَلُوا منزلَ الضِّيافة منا ** فقَرى القَومَ غِلمة الأعرابِ ) ( ورَدَدْنَاهُمُ إلى حَرَّتَيْهِم ** حَيْث لا يأكُلون غَير الضّبابِ ) ( جاؤُوا بحارشةِ الضِّباب كأنَّما ** جاؤوا ببنْتِ الحارثِ بن عُبادِ ) وقائلة هذا الشعر امرأةٌ من بني مُرَّة بن عباد .
وقال الحارث الكندي : ( لعمرك
ما إلى حَسَن أنخْنَا ** ولا جِئنا حُسيناً يابن أنسِ ) ( ولكنّ ضبّ
جَنْدلةٍ أتينا ** مُضِبّاً في مضابئها يُفسِّي ) ( فلمَّا أنْ أتينَاهُ
وقلْنا ** بحاجتنا تَلَوَّنَ لَوْنَ وَرْسِ ) ( وآضَ بكفِّه يحتكُّ ضِرْساً
** يُرينا أنّه وَجعٌ بضرْسِ ) ( فقلتُ لصاحبي أبهِ كُزازٌ ** وقلت
أُسِرُّه أتراه يُمسي ) ( وقمْنَا هاربيْن معاً جميعاً ** نحاذر أنْ نزَنّ
بقَتْلِ نَفْسِ ) وقالت عائشة ابنة عثمان في أبان بن سعيد بن العاص حين
خطبها وكان نزل أيْلَة وترك المدينة : ( نَزَلْتَ ببَيتِ الضَّبِّ لا أنت ضائرٌ ** عَدُوّاً ولا مستنفعاً أنت نافعُ ) وقال جرير : ( وجَدْنا بيتَ ضَبَّةَ في تميمٍ ** كبَيْتِ الضَّبِّ ليس له سَواري ) ( يا ضبُعَ الأكهافِ ذاتِ الشّعبِ ** والوثْبِ للعَنْزِ وغير الوثبِ ) ( عِيثي ولا تخشَيْنَ إلاَّ سَبِّي ** فلستُ بالطّبِّ ولا ابن الطَّبِّ ) ( إنْ لم أدع بيْتَك بيتَ الضّبِّ ** يضيق عند ذي القَرَد المكبِّ ) وقال الفرزدق :
(
لحى اللّه ماءً حنبلٌ خيرُ أهله ** قفَا ضبَّةٍ عند الصّفَاةِ مَكُونِ ) (
فلو عَلِمَ الحجَّاجُ عِلمَك لم تَبِعْ ** يمينُك ماءً مُسلماً بيَمينِ )
وأنشد : ( زعمْتَ بأنَّ الضبَّ أعمى ولم يفت ** بأعمى ولكن فاتَ وهْو
بصيرُ ) بل الضبُّ أعمى يوم يخنِسُ باسته إليك بصحراء البياضِ غريرُ وقالت
امرأةٌ في ولدها وتهجو أباه : ( وُهِبْتُه من ذي تُفالٍ خَبِّ ** يقْلبُ
عيْناً مثلَ عين الضَّبِّ )
ليس بمعشوق ولا مُحَبِّ وقال رجلٌ من فزارة : ( وجدناكم رَأْباً بين أمِّ قِرفةٍ ** كأسنانِ حِسْلٍ لا وَفاءٌ ولا غَدرُ ) ( ثلاثون رأباً أو تزيد ثلاثةً ** يقاتلنا بالقَرْنِ ألفٌ مقنَّعُ ) والرأب : السواء والمعنى الأولُ يشبه قوله : ( سَواسٍ كأسنان الحمار فلا تَرَى ** لِذي شَيْبةٍ منهمْ على ناشئٍ فَضلا )
وأنشد ابنُ الأعرابي : ( قُبِّحْتِ من سالفَةٍ ومن صُدُغْ ** كأنَّها كُشْية ضبٍّ في صُقُغْ ) أراد صُقْع بالعين فقلب وقال الآخر : أعقّ من ضبٍّ وأفْسَى من ظَرِبْ وأنشَد : ( فجاءت تهاب الذَّمَّ ليست بضَبّة ** ولا سلفعٍ يلْقَى مِراساً زمِيلُها )
يقول : لا تخدع كما يخدع الضّبُّ في جُحْره .
وأنشد ابنُ الأعرابي لحيّان بن عبيد الربعي جد أبي محضة : ( يا سهلُ لو
رأيْتَهُ يَوْمَ الجُفَرْ ** إذْ هو يَسْعى يَسْتَجيرُ للسُّوَرْ ) ( يَرمي
عن الصَّفو ويَرضى بالكَدَرْ ** لازْدَدتَ منه قذراً على قَذرْ ) ( يضحك
عن ثغر ذميم المُكْتَشَرْ ** ولِثَةٍ كأنَّها سَيرُ حَوَرْ ) وأنشد
السِّدري : ( هو القَرَنْبى ومَشْيُ الضب تعرفهُ ** وخُصْيَتَا صَرصَراني
من الإبلِ )
( والخالُ ذو قُحَم في الجرْي صادقةٍ ** وعاتِقٌ يتعقَّى مأبِض الرجُلِ )
واعلم حفظك اللّه تعالى أنّه قد أكتِفي بالشّاهد وتبقى في الشعر فَضلةٌ
ممّا يصلح لمذاكرة ولبعض ما بك إلى معرفته حاجة فأصلُه به ولا أقطعهُ عنه .
وأنشد لابن لجأ : ( وغَنَوي يَرْتمي بأسْهُمِ ** يلصق بالصّخْر لصوقَ الأرْقَمِ ) لو سئمَ الضبُّ بها لم يسْأم
وقال أعرابيُّ من بني تميم : ( تسخرُ مِنِّي أنْ رَأتْني أحتَرِش ** ولو حَرَشْتِ لكَشَفْتِ عن حِرشْ ) يريد عن حِرِك .
قال : وقال أبو سعنَة : ( قَلَهْزَمانِ جعدةٌ لِحَاهما ** عاداهما اللّهُ وقد عادَاهما ) ضَبّاً كُدًى قدْ غمِّرَت كشَاهما
وأنشد الأصمعي : ( إنِّي وجدتُك ياجُرثومُ من نفرٍ ** جرثومة اللُّؤم لا جُرْثومةِ الكرمِ ) ( إنِّا وجَدْنا بني جَلاَن كلَّهمُ ** كسَاعدِ الضَّبِّ لا طولٌ ولا عِظمِ ) وقال ابن ميّادة : ( فإنَّ لقيسٍ مِنْ بَغيضٍ لَنَاصراً ** إذا أسدٌ كَشّتْ لفخرٍ ضِبابُها ) وفي هذه القصيدة يقول : ( ولو أنّ قَيساً قيسَ عَيْلان أقسَمَتْ ** على الشَّمْسِ لم يَطْلُع عليك حجابُها ) وهذا من شكل قول بشَّار : ( إذا ما غضِبنا غَضْبةً مُضَريّةً ** هَتَكْنَا حِجابَ الشَّمْسِ أو مَطَرتْ دمَا )
وأنشد لأبي الطَّمَحانِ : ( مهْلاً نَميرُ فإنَّكُمْ أمسيتُمُ ** مِنَّا بثَغْرِ ثَنيَةٍ لم تسْتَرِ ) ( سُوداً كأنّكمُ ذئابُ خطيطةٍ ** مُطِرَ البلادُ وحِرْمُها لم يُمْطَرِ ) ( يحْبُون بينَ أجاً وبُرْقةِ عالجٍ ** حبّو الضِّبابِ إلى أصول السَّخْبَرِ ) ( وتَرَكْتُمُ قصب الشُّرَيفِ طوامياً ** تهوي ثَنيّتُهُ كعينِ الأعور )
مفاخرة العث للضب وقال العُثّ واسمه زيد بن معروف للضب غلام رُتْبيل بن غَلاق : وقد رأيت من سمّى عَنزاً )
وثوراً وكلباً ويربوعاً فلم نر منهم أحَداً أشبَه العنز ولا الثَّور ولا
الكلب ولا اليربوع وأنتَ قد تقيَّلتَ الضَّبَّ حتى لم تغادِرْ منه شيئاً
فاحتمَلَ ذلك عنه فلمَّا قال : ( من كان يدعى باسمٍ لا يناسِبهُ ** فأنتَ
والاسْمُ شَنٌّ فَوقه طبقُ ) فقال ضبٌّ لعثّ : ( إن كنْتُ ضَبّاً فإنَّ
الضّبَ مُحْتَبَلٌ ** والضبُّ ذو ثَمن في السُّوق مَعْلُومِ ) ( وليس
للعُثِّ حَبَّالٌ يُرَاوِغُه ** ولسْتَ شَيئاً سِوَى قرضٍ وتقليمِ ) وما
أكثر ما يجيء الأعرابي بقربةٍ من ماء حتى يفرغها في جحره
ليخرج فيصطاده ولذلك قال الكميت في صفة المطر الشديد الذي يستخرج الضِّباب من جِحَرتها وإن كانتْ لاتتّخذها إلا في الارتفاع فقال : ( وعلته بتركها تحفش الأُكْ ** مَ ويكفي المضبِّبَ التفجيرُ ) والمضبّب هو الذي يصيد الضباب . ( القول في سن الضب وعُمره ) ( تعلّقت واتّصلت بعكْلِ ** خِطْبي وهّزَْتْ رأسها تسْتبْلي )
( تسألني من السِّنينَ كمْ لي ** فَقُلْتُ لو
عمِّرتُ عمْر الحِسْلِ ) ( أو عُمرَ نوحٍ زَمَنَ الفِطَحْلِ ** والصَّخْرُ
مُبْتَلٌّ كطِينِ الوَحْلِ ) صِرْتُ رَهينَ هَرَمٍ أو قَتْلِ وهذا الشِّعر
يدلُّ على طول عمر الحِسْل لأنه لم يكن ليقول : ( أو عُمرَ نوحٍ زمنَ
الفِطَحْلِ ** والصّخرُ مبتلٌّ كطين الوَحْلِ ) إلاَّ وعمر الحِسل عنده من
أطول الأعمار .
وروى ابن الأعرابي عن بعض الأعراب أنّ سِنَّ الضبّ
واحدة أبداً وعلى حال أبداً قال فكأنه قال : لا أفعله ما دامَ سِنها كذلك
لا ينقص ولا يزيد .
وقال زيد بن كَثْوة : سنّ الحِسْل ثلاثة أعوام
وزعم أن قوله ثَمّةَ : لا أفعله سِنَّ الحسل غلَط ولكن الضبَّ طويلُ العمر
إذا لم يَعرِضْ له أمر .
وسنُّ الحِسل مِثلُ سنّ القَلوص ثلاث سنين حتى يلقح
ولو كانت سنُّ الحِسل على حال واحدة أبداً لم تعرف الأعرابُ الفتيَّ من المُذَكِّي . )
وقد يكون الضّبُّ أعظَمَ من الضّبّ وليس بأكبَر منه سِنّاً .
قال : ولقد نظرتُ يوماً إلى شيخٍ لنا يفُرُّ ضَبّاً جَحْلاً سِبَحْلاً قد
اصطاده فقلت له : لم تفعلُ ذلك فقال : أرجو أن يكون هرماً .
بيض الضب
قال : وزعم عمرو بن مسافر أن الضّبّة تبيض ستِّين بيضة فإذا كان ذلك سدَّت عليهن باب الجُحر ثم تدعهن أربعين يوماً فيتفقَّص البيض ويظهر ما فيه فتحفر عنهنَّ عند ذلك فإذا كشفَتْ عنهن أحْضَرْن وأحضرَتْ في أثرهن تأكلهن فيحفر المنفلت منها لنفسه جُحراً وَيرْعى من البقْل .
قال : وبيض
الضبّ شبيهٌ ببيض الحمام قال : وفرخه حين يخرج يخُرج كيّساً كاسياً خبيثاً
مُطيقاً للكَسْب وكذلك ولد العقرب وفراخ البطّ وفراريج الدَّجاج وولد
العناكب . ( سنّ الضب ) وقال زيدبن كَثْوة مَرَّةً بعد ذلك : إنّ الضب
ينبت سِنُّه معه وتكبر مع كِبر بدنه فلا يزال أبداً كذلك إلى أن ينتهي
بدنُه منُتهاه قال : فلا يُدعى حِسلاً إلا ثلاثَ ليال فقط .
وهذا
القول يخالف القول الأوَّل وأنشَدَ : نِعْمَ لعمرُ اللّه مهْر العِرْسَينْ
أنشدني ابن فَضَّال : أمْهَرتها وزعم أنّه كذلك سِمعها من أعرابيّ .
وقد يكون أن يكون الحسل لا يُثْني ولا يُرْبِع فتكون أسنانُه أبداً على أمر واحد ويكون قول رؤبة بن العجّاج في طول عمره حَقّاً .
ويدلُّ على أنّ أسنانَه على ما ذكروا قولُ الفزاريّ : ( وجدناكمُ رأباً
بني أمّ قِرفةٍ ** كأسنان حِسْلٍ لا وَفَاءٌ ولا غدْرُ ) يقول : لا زيادة
ولا نقصان .
قصة في عمر الضب
وقال زيد بن كَثْوَة المزني : قال العنبريّ وهو أبو يحيى : مكثْتُ في عنفوان شَبيبتي ورَيعانٍ من ذلك أُريغُ ضَبّاً وكان ببعض بلادنا في وِشاز من الأرض وكان عظيماً منها مُنْكراً ما رأيتُمِثله فمكثْت دهراً أُرِيغه ما أقدر عليه ثم إنّي هبطت إلى البصرة فأقمت بها ثلاثينَ سنةً ثمَّ إنِّي واللّه كرَرْتُ راجعاً إلى بلادي فمررتُ في طريقي بموضع الضّبّ معتمداً لذلك فقلت : واللّه لأعلمنَّ اليوم عِلمَه وما دَهرِي إلا أن أجعل من جلده عُكَّة للّذي كان عليه من إفراط العِظَم فوجَّهت الرَّواحل نحوه فإذا أنا به واللّه مُحْرنْبئاً على تَلعة فلمّا سمِع حِسّ الرّواحل ورأى سواداً مقبلاً نحوه مرَّ مسرعاً نحو جحره وفاتني واللّه الذي لا إله إلا هو . ( مكن الضَّبة ) وقال ابن الأعرابيّ : أخبرني ابن فارس بن ضِبْعان الكلبيّ أنَّ الضّبّةَ يكون بيضُها في بطنها وهو مكْنها ويكون بيضُها متَّسِقاً فإذا أرادَتْ أن تبيضَه حفَرَتْ في الأرض أُدْحيّاً مثلَ أُدْحِيِّ النعامة ثم
ترمي بمكنها في ذلك الأدحِيّ ثمانين مَكنة وتدفنه بالتُّراب وتدعُه أربعين يوماً ثم تجيءُ بعد الأربعين فتبحثُ عن مَكْنها فإذا حِسَلَةٌ يتعادين منها فتأكلُ ما قدَرت عليه ولو قدرَتْ على جميعهن لأكلتهنّ قال : ومَكنها جلدٌ ليّن فإذا يبست فهي جلد فإذا شويْتَها أو طبخْتها وجَدْت لها مُحّاً كمحِّ بيض الدّجاج . ( عداوة الضَّبة للحية ) قال : والضّبّة تقاتل الحيّة وتضربُها بذَنبها وهو أخشن من السَّفَن وهو سلاحها وقد أُعطيت فيه من القُوَّةِ مثل ما أعطيت العُقاب في أصابعها فربما قطعتها بضربة أو قتلتها أو قَدّتها وذلك إذا كان الضّبّ ذَيّالاً مذنِّباً وإذا كان مرائساً قتلته الحية .
والتذنيب : أنّ الضبّ إذا أرادت الحيّةُ الدُّخول عليه
في جُحره أخرَج الضبُّ ذنبه إلى فم جُحره ثم يضرب به كالمخراق يميناً
وشمالاً فإذا أصاب الحية قطعها والحية عند ذلك تهرُبُ منه والمراءسة : أن
يُخرِج الرَّأس ويدَعَ الذَّنَب ويكون غُمراً فتعضّه الحيَّة فتقتله .
استطراد لغوي قال : وتقول : أمكنت الضبّة والجرادة فهي تمكن إمكاناً : إذا
جمعت البَيضَ في جوفها واسم البَيض المَكن والضّبة مكُون فإذا باضت الضّبة
والجرادةُ قيل قد سرأت والمكن والسَّرء : البيض كان في بطنها أو بعد أن
تبيضه وضَبّة
سرُوء وكذلك الجرادة تسرَأ سرءاً حين تُلقي بيضها وهي حينئذ سِلْقة .
وتقول : رزّت الجرادة ذنبها في الأرض فهي ترزُّ رزّاً وضربت بذنبها الأرض ضرباً وذلك إذا أرادت أن تلقي بيضها .
المضافات من الحيوان ويقولون : ذئب الخمَر وشيطان الحماطة وأرنب الخُلّة
وتيس الرَّبْل وضبّ السَّحا والسَّحا : بقلة تحسُن حاله عنها .
ويقال : هو قنفذ بُرْقة إذا أراد أن يصِفَه بالخُبث .
وما أكثَر ما يذكرون الضَّبَّ إذا ذكَرُوا الصيف مثل قول الشاعر : ( سار
أبو مسلمٍ عنها بصِرْمَتِهِ ** والضبُّ في الجُحْر والعُصفورُ مُجتمعُ )
وكما قال أبو زبيد : ( أيُّ ساعٍ سَعَى ليقطَع شرْبي ** حين لاحت للصَّابح
الجوزاءُ ) ( واستكنَّ العُصفور كَرْهاً مع الض ** بِّ وأوْفى في عُودِهِ
الحِرباءُ ) وأنشد الأصمعيّ : ( تجاوَزْتُ والعصفور في الجُحر لاجئٌ ** مع
الضَّبِّ والشِّقْذَانُ تَسمُو صدورُها )
قال : والشِّقذان :
الحرَابيّ قوله : تسمو : أي تَرتَفِع في رؤوس العيدان الواحد من الشّقذان
بكسر الشين وإسكان القاف شَقذ بتحريك القاف .
أسطورة الضب والضفدع
وتقول الأعراب : خاصم الضبُّ الضفدعَ في الظّمأ أيُّهما أصبر وكان للضفدع ذنَب وكان الضبُّ ممسوحَ الذنب فلمّا غلبها الضبُّ أخذ ذنَبها فخرجا في الكلأ فصَبرت الضفدع يوماً ويوماً فنادت : يا ضبّ ورداً ورداً فقال الضبُّ : ( إلاّ عَرَاداً عَرِدا ** وصِلِّياناً بَرِدَا ) فلما كان في اليوم الثالث نادت : يا ضَبُّ وِرداً وِرداً قال :فلمّا لم يُجِبها بادَرَتْ إلى الماء وأتْبعها الضبُّ فأخذ ذنَبها فقال : في تصْداقِ ذلك ابن هَرْمة : ( ألم تأرَقْ لضوءِ البَرْ ** قِ في أسْحَمَ لمَّاحِ ) ( كأعناقِ نساء الهِنْ ** دِ قد شِيبَتْ بأوْضاحِ ) ( تُؤَامِ الوَدْق كالزّاحِ ** فِ يُزْجَى خَلْف أطلاحِ ) ( كأنّ العازف الجنِّ ** يَّ أو أصوات أنْوَاحِ ) ( على أرجائها الغُرّ ** تَهَدِّيها بمصْباحِ )
( فقال الضبُّ للضفدِ ** عِ في بَيداءَ قِرواحِ ) ( تأمّل كيف تنْجوُ اليو ** مَ من كرب وتطْواحِ ) ( فإنيَ سَابحٌ ناجٍ ** وما أنتَ بسَبَّاحِ ) ( فلمّا دق أنف المُزْ ** نِ أبْدَى خيرَ إرْواحِ ) ( وسَحَّ الماء من مُستحْ ** لَب بالماء سَحَّاحِ ) ( رَأى الضبُّ من الضفد ** عِ عَوماً غير مِنْجاحِ ) ( ثَقَالُ المشْي كالسَّكرا ** نِ يمشي خلفه الصَّاحي ) ثم قال في شأن الضفدع والضب الكميتُ بن ثعلبة :
( على أخْذِها يَوْمَ غِبِّ الوُرُود **
وعند الحكومة أذْنَابَها ) وقال عبيد بن أيوب : ( ظَللت وناقتي نِضْويْ
فَلاةٍ ** كفَرْخِ الضبّ لا يبغي ورُودا )
وقال أبوزياد : قال الضبّ لصاحبه : ( أهَدَموا بَيْتَكَ لا أبالَكا ** وزعموا أنك لا أخالكا ) وأنا أمشي الحَيكى حوالكا
قول العرب أروى من الضب
وتقول العرب : أرْوََى من ضبّ لأن الضب عندهم لا يحتاجُإلى شُرب الماء وإذا هرِم اكتفى بَبْرد النَّسيم وعند ذلك تفنى رطوبته فلا يبقى فيه شيءٌ من الدَّم ولا مما يُشبه الدّم وكذلك الحيَّة فإذا صارت كذلك لم تقْتُلْ بلعاب ولا بمجَاج ولا بمخالطةِ ريق وليس إلاّ مخالطة عظم السِّنَّ لدماء الحيوان وأنشدوا : فكلّما أقْصدَ منه الجوعُ شمّْ وأما صاحبُ المنطق فإنه قال : باضطرار إنه لا يعيش حيوانٌ إلاّ وفيه دمٌ أو شيء يشاكل الدم
إخراج الضب من جحره
والضبُّ تذْلقه من جُحره أمور منها السَّيل وربَّما صبُّوافي جحره قربةً من ماءِ فأذْلقوه به وأنشد أبو عبيدة : ( يُذلقُ الضبَّ وَيخفيه كما ** يُذلقُ السَّيلُ يَرابيعَ النُّفَقْ ) يَخفيه مفتوحة الياء وتذلقه وقْع حوافِر الخيل ولذلك قال امرؤ القيس بن حُجْر : ( خَفَاهُنَّ مِنْ أنْفاقهنَّ كأنَّما ** خَفَاهُنَّ وَدْقٌ من سَحابٍ مُرَكّبِ ) تقول : خَفَيْته أخفِيه خَفْياً : إذا أظهرته وأخفيته إخفاءً : إذَا ستَرته وقال ابن أحمر : ( فإن تَدْفِنُوا الدّاء لا نَخفِهِ ** وإنْ تبعثُوا الحربَ لا نقعُدِ ) ولا بدَّ من أن يكونَ وقعُ الحوافرِ هدَم عليها أو يكونَ أفزَعَها فخرجَتْ وأهلُ الحجاز يسمُّون النّبّاش المُخْتفي لأنّه يستخرج الكفَنَ من القَبْر ويُظهره .
وحكَوا عن بعض الأعراب أنّه قال : إنَّ بني
عامر قد جعلوني على حِنديرة أعينها تريد أن قول أبي عبيدة في تفضيل أبيات
لامرئ القيس وأنشد أبو عبيدة : ( دِيمةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ ** طبقُ
الأرض تَحَرَّى وتَدُرّْ ) ( تُخرِج الضبَّ إذا ما أشجَذتْ ** وتُواريه إذا
ما تَعْتكرْ ) ( وتَرَى الضّبَّ ذفيفاً ماهراً ** ثانياً بُرثُنَه ما
يَنْعَفِرْ )
وكان أبو عبيدة يقدِّم هذه القصيدة في الغيث على قصيدة
عَبيد بن الأبرص أوْ أوس بن حجر التي يقول فيها أحدهما : ( دانٍ مُسِفٍّ
فويْقَ الأرْض هَيْدَبه ** يَكادُ يَدْفعُه مَنْ قامَ بالرَّاحِ ) ( فمن
بنَجْوَتهِ كَمنْ بعَقْوَتِهِ ** والمُستَكنُّ كَمَنْ يمشي بقِرْواحِ )
وأنا أتعجّب مِنْ هذا الحكم .
قولهم : هذا أجلُّ من الحرش ومما يضيفون
إلى هذه الضِّباب من الكلام ما رواه الأصمعيّ في تفسير المثل وهو قولهم :
هذا أجَلُّ من الحَرْش أنّ الضَّبَّ قال لابنه : إذا سمعْتَ صَوْتَ
الحَرْشِ فلا تخْرُجَنَّ قال : والحَرْش :
تحريكُ اليدِ عند جُحر الضب ليخرج ويَرى أنّه حيّة قال : فسمع الحِسْل صَوْتَ الحفْر فقال
الضب والضفدع والسمكة
وقال الكميت : ( يُؤَلِّفُ بَيْنَ ضِفدِعَة وضَبٍّ ** ويَعْجَب أنْ نَبَرّ بني أبِينا ) وقال في الضَّبِّ والنُّون : ( وَلوْ أنَّهُمْ جاؤوا بشيءٍ مُقَارِبٍ ** لِشَيءٍ وبالشِّكْل المقارِبِ للشِّكْل ) ( ولَكِنَّهُمْ جاؤوا بحِيتان لُجَّةٍ ** قَوامسَ والمكنيِّ فينا أبا حِسْلِ ) وقال الكميت : ( وما خلْتُ الضّبابَ مُعطَّفاتٍ ** على الحيتان مِنْ شَبَهِ الحسولِ ) وقال آخر : والعَربُ تقولُ في الشَّيءِ المُمْتَنع : لا يكونَ ذلك حتى يَرِدَ الضبُّ وفي تبعيدِ ما بينَ الجِنْسَيْن : حتّى يؤلَّف بين الضَّبِّ والنُّون .
استطراد لغوي قال : ويقال أضبَّت أرض بني
فلان : إذا كَثرتْ ضِبابها وهذه أرضٌ مَضبَّة وأرضُ بني فلان مَضبَّة مثل
فَئِرة من الفأر وجَرِذة من الجُرذان ومَحوَاة ومَحْياة من الحيّات وجَرِدة
من الجراد وسرِفة من السُّرفة ومأسَدَة من الأسود ومَثْعلة من الثّعالب
لأن الثَّعلب يسمَّى ثعالة والذِّئب ذُؤالة . )
ويقال أرضٌ مَذبَّة من الذُّباب مَذْأبَة من الذِّئاب .
ويقال في الضّبِّ : وقَعْنا في مَضابَّ منكَرَة وهي قطعٌ من الأرض تكثر ضِبابُها .
قال : ويقال أرضٌ مرْبعة كما يقال مضَبَّة إذا كانت ذات يرابيع وضِباب واسمُ بيضها المَكْن والواحدة مكنِة .
ويقال لفرْخه إذا خرج حِسْل والجميعُ حَسَلة وأحسال وحُسول
وهو حِسْل ثم مُطَبِّخ ثم غيداق ثمَّ جَحْل والسَّحْبَلُ : ما عظم منها وهو في ذلك كلِّه ضبٌّ .
وبعضُهم يقول : يكون غَيداقاً ثم يكون مطبِّخاً ثمَّ يكون جَحْلاً وهو
العظيم ثمَّ هو خُضَرِمٌ ثمَّ يكون ضَباً وهذا خطأ وهو ضَبٌّ قبل ذلك وقال
الرَّاجز : ( ينفي الغياديقَ عن الطَّريقِ ** قلَّص عنه بيضُهُ في نيق ) ما
يوصف بسوء الهداية من الحيوان ويقال : أضَلُّ من ضبٍّ والضلال وسوء
الهِداية يكونُ في الضبِّ والورَل والدِّيك .
الضب وشدة الحر
وإذا غيّر الحَرُّ لون جلْدِ الضبِّ فذلك أشدُّ ما يكون من الحر وقال
الشَّاعر : ( وهَاجرةٍ تُنْجي عنِ الضَّبِّ جِلْدَه ** قَطَعْتُ حَشَاهَا
بالغُرَيريَّة الصُّهبِ )
أمثال في الضب
وفي المثل : خلِّ دَرَج الضبّ وفي المثل : تعْلِمني بضبٍّ أنا حرَشْتُه و : هذا أجَلُّ من الحَرْش و : أضلُّ من ضبٍّ و : أخبُّ من ضبّ و : أروى من ضبٍّ و : أعَقُّ منضبّ و : أحيَا من ضبٍّ و : أطوَلُ ذَماءً من ضبّ و : كلُّ ضَبٍّ عِندَ مِرْداته ويقال : أقصرُ من إبهام الضّبّ كما يقال : أقصر من إبهام القطاة وقال ابن الطَّثْريّةِ : ويومٍ كإبهام القطاة ومن أمثالهم : لا آتِيكَ سنَّ الحِسْل وقال العجاج :
ثُمَّت لا آتيه سِنَّ الحِسْلِ كأنّه قال حتّى يكون مَا لا يكون لأنَّ الحسل لايستبدل بأسنانه أسناناً .
أسنان الذئب وزعم بَعضُهم أنّ أسنان الذِّئب ممطولة في فكيه وأنشد : وليس
في هذا الشعر دَليلٌ على ما قال لأنَّ الشاعر يُشْبع الصفةَ إذا مَدَح أو
هَجا وقد يجوز أن يكونَ ما قال حقّاً .
ما قيل في عبد الصمد بن علي فأما عبد الصَّمد بن علي فإنه لم يُثغر ودخل القبر بأسنان الصِّبا .
استطراد لغوي وقد يقال للضَّبِّ والحيّة والورَل وما أشبَهَ ذلك : فحَّ
يفحُّ فحيحاً والفحيح : صوت الحية من جَوْفها والكشيش والقشيش : صَوت
جْلدها إذا حكَّت بَعضها ببعض .
وليس كما قال ليس يُسمع صوت احتكاك
الجلد بالجلد إلاَّ للأفعى فقط وقال رؤبة : ( فِحِّي فلا أفْرَقُ أن
تَفِحِّي ** وأن تُرَحّي كرَحَى المرحِّي ) وقال ابنُ ميادة : ( ترى الضبَّ
إن لم يرهب الضبُّ غيره ** يكِشُّ له مستكبراً ويطاولُه ) ( حديث أبي
عمرة الأنصاري ) ويُكتَب في باب حبِّ الضّب للتّمر
حديث أبي عمرة الأنصاري
____________________
رووه من كلِّ وجه أنّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قالَ لرجل من أهل
الطائف : الحُبْلة أفْضل أم النخلة قال : بل الحُبلة أتزببها وأشَمِّسها
وأستظل في ظلّها وأصلح بُرْمَتي منها قال عمر : تأبى ذاك عليك الأنصار .
ودخل أبو عمرة عبد الرحمن بن محْصن النجَّاري فقال له عمر : الحبلة أفضل
أم النَّخلة قال : الزبيب إنْ آكلْه أضْرَس وإن أتْرُكْه أغرث ليس كالصّقر
في رُؤوس الرَّقل الراسخات في
الوحل المطعمات في المَحْل خُرْفَة الصائم وتُحْفة الكبير وصُمْتة الصغير وخُرسة مريم ويُحْتَرَشُ به الضِّباب من الصَّلعاء يعني الصحراء .
دية الضب واليربوع
قال : ويقالُ في الضّب حُلاَّم وفي اليَربوع جفْرة والجفرة :
التي قد انتفخ جَنْبَاها وشَدنت والحُلاَّم فوق الجدي وقد صَلُح أن يُذبَح
للنُّسك والحُلاَّن بالنون : الجدي الصغير الذي لا يصلح للنُّسك .
وقال ابن أحمر : ( تهدِي إليه ذراع الجَدْي تَكْرِمَةً ** إمَّا ذَبيحاً
وإمَّا كان حُلاّنا ) والحُلاَّن والحُلوان جميعاً : رشوة الكاهن وقد نُهي
عن زَبْدِ المشركين وحُلوان الكاهن وقال مهلهِل : أقوال لبعض الأعراب وقال
الأصمعي : قال أعرابيٌّ يَهزَأ بصاحبه : اشتر لي شاةً قفْعاء
كأنَّها تضْحَك : مندلقةً خاصرتاها كأنّها في مَحْمِل لها ضرْعٌ أرقط كأنّه
ضبّ قال : فكيف العَفْلُ قال : أو لهذه عَفْل قال : وسأل مَدنيٌّ
أعرابيّاً قال : أتأكلون الضَّبَّ قال : نعم قال : فاليربوع قال : نعم قال :
فالورَل قال : نعم قال : أفتأكلون أمّ حُبَين قال : لا قال : فلْيَهْنِ
أمَّ حُبينٍ العافية .
شعر في الضب وقال فِراس بن عبد اللّه الكلابي : ( لَمّا خَشِيت الجُوع والإرمَالا ** ولم أجد بشَوْلِها بلالا )
( أبصرت ضَبّاً دَحِناً مُخْتالا ** أوفَدَ فَوْقَ جُحْرِهِ وذالا ) ( فدَبّ لي يخْتلني اختيالا ** حتّى رأيتُ دونيَ القَذالا ) ( ومَيْلةً ما مِلْتُ حينَ مالا ** فَدهِشَتْ كَفَّاي فاستطالا ) ( مِني فلا نزْعَ ولا إرسالا ** فحاجزا وبَرَّأَ الأوصالا ) ( مِنِّي ولم أرفَعْ بذاكَ بالا ** لمَّا رأتْ عيني كُشًى خِدَالا )
أسماء لعب الأعراب البُقَّير وعُظَيمُ وضّاح والخَطْرة والدَّارة والشّحمة والحلق ولُعبة الضّبّ .
فالبُقيْرَ : أن يجمع يديه على التراب في الأرض إلى أسفله ثم يقول لصاحبه : اشتَهِ في نفسك فيصيبُ ويخطئ .
وعُظيمُ وَضّاح : أن يأخذ بالليل عظماً أبيضَ ثم يرمي به واحدٌ من
الفَريقين فإنْ وجدَهُ واحدٌ من الفريقَين ركِب أصحابه الفريقَ الآخر من
الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رموا به منه .
والخطرة : أن يعملوا مِخْراقاً ثم يرمي به واحدٌ منهم من خلفه
إلى الفريق الآخر فإن عجزوا عن أخذه رموا به إليهم فإن أخذوه ركبوهم .
والدّارة هي التي يقال لها الخَراج .
والشّحمة : أن يمضيَ واحدٌ من أحد الفريقَين بغلامٍ فيتنحَّون ناحية ثم
يقبلون ويستقبلهم الآخرون فإن منَعوا الغلام حتَّى يصيروا إلى الموضع الآخر
فقد غلبوهم عليه ويُدفَع الغلام إليهم وإن هم لم يمنعوه ركبوهم وهذا كله
يكون في ليالي الصَّيف عن غِبِّ ربيعٍ مُخصِب ولُعبة الضّبّ : أن يصوِّروا
الضّبّ في الأرض ثم يحوِّل واحدٌ من الفريقين وجهَه ثم يضع َبعضهم يده على
شيءٍ من الضّبِّ فيقول الذي يحوِّل وجهه : أنف الضّبِّ أو عين الضبِّ أو
ذَنب الضّب أو كذا وكذا من الضّبِّ على الوِلاء حتّى يفرغ فإن أخطأ ما وضَع
عليه يدَهُ رُكِب ورُكِب أصحابه وإن أصابَ حَوَّل وجهه الذي كان وضع يده
على الضّبِّ ثم يصيرُ هو السائل .
ويقول : الأطبَّاء : إنَّ خُرء الضّب صالح للبياض الذي يصير في العين .
والأعرابُ ربَّما تداوَوْا به من وجَع الظهر .
وناسٌ يزعمون أنّ أكل لحمان الحيوان المذكور بطولِ العمر يزيد في العمر فصدَّق بذلك ابن )
الخارَكي وقال : هذا كما يزعمون أن أكل الكُلية جيِّد للكُلية وكذلك
الكبدُ والطِّحال والرِّئة واللّحم ينبت اللّحم والشّحم ينبت الشّحم فغَبرَ
سنةً وليس يأكلُ إلاّ قديد لحوم الحمر الوحشية وإلا الورشان والضِّباب
وكلَّ شيء قدَر عليه مما يقضي له بطول العُمر فانتقض بدنه وكاد يموت فعاد
بعدُ إلى غذائه الأوّل .
تفسير قصيدة البهراني نقول في تفسير قصيدة
البَهْراني فإذا فرغنا منها ذكرنا ما في الحشرات من المنافع والأعاجيب
والروايات ثم ذكرنا قصيدتي أبي سهل
بشر بن المعتمر في ذلك وفسرناهما
وما فيهما من أعاجيب ما أودع اللّه تعالى هذا الخلْق وركّبهُ فيهم إن شاء
اللّه تعالى وباللّه تبارك وتعالى أستعين .
أما قوله : ( مَسَخَ
الماكِسَينِ ضَبْعاً وذئبا ** فلهذا تناجلا أمَّ عَمْرِو ) فإن ملوك العرب
كانتْ تأخُذُ من التُّجَّار في البرِّ والبحر وفي أسواقهم المكْس وهو
ضريبةٌ كانت تؤخذ منهم وكانوا يظلمونهم في ذلك ولذلك قال التَّغلبي وهو
يشكو ذاك في الجاهلية ويتوعد وهو قوله : ( ألا تَسْتحِي منّا مُلوكٌ
وتَتّقِي ** حارِمنا لا يَبْوُؤُا الدَّمُ بالدَّمِ ) ( في كُلِّ أسْواقِ
العراقِ إتاوةٌ ** ي كلِّ ما باعَ امرؤٌ مَكْسُ دِرْهمِ ) والإتاوة
والأُربان والخرْج كله شيءُ واحد وقال الآخر :
( لاَ ابنَ المُعَلّى خِلْتَنا أمْ حسِبْتنا ** صراري نعطي الماكسينَ مُكُوسا ) وقال الأصمعيُّ في ذكر المكسِ والسُّفن التي كان تُعْشر في قصيدته التي ذكر فيها من أهلك الله عز ذكره من الملوك وقصم من الجبابرة وأباد من الأمم الخالية فقال : ( أعْلقَتْ تُبَّعاً حِبالُ المنونِ ** وانتحت بعده على ذي جُدُونِ ) ( ملكَ الحضر والفُراتِ إلى دِجْ ** لة شرقاً فالطور من عَبْدينِ ) ( كل حِمْلٍ يمرُّ فوق بعير ** فله مكسُهُ ومكسُ السُّفِينِ ) والأعراب يزعمون أن اللّه تعالى عزّ وجلّ لم يدعَ ماكساً ظالماً إلا أنزل به بليةً وأنَّه مسخَ منهم ضبُعاً وذئباً فلهذه القرابةِ
تسافدا وتناجلا وإن اختلفا في سوى ذلك فمن ولدهما السِّمع )
والعِسبار وإنما اختلفا لأنّ الأمَّ ربما كانت ضبعاً والأبُ ذئباً وربما كانت الأمُّ ذئبةً والأبُ ذيخاً والذِّيخ : ذكر الضِّباع .
ذكر من أهلك الله من الأمم وأمّا قوله : ( بَعَث الذَّرَّ والجراد وقفَّى
** بنجيع الرُّعافِ في حَيِّ بَكْرِ ) فإنّ الإعراب تزعم أن اللّه تعالى قد
أهلك بالذرّ أمما وقد قال أميّةُ بن أبي الصّلت : ( أرسل الذَّرَّ والجراد
عليهمْ ** وسنيناً فأهلَكَتْهم ومُورا ) ( ذكرَ الذَّرِّ إنَّه يفعلُ الش
** رّ وإنّ الجرادَ كان ثُبورا ) وأما قوله : وقفّي بنجيع الرُّعاف في حيِّ
بكر فإنّه يريد بكر بن عبد مناة لأنّ كنانةَ بِنزولها مَكَّة كانوا لا
يزالون يصيبهم من الرُّعاف ما يصير شبيهاً بالموتان ويجارف الطاعون وكان
آخِر من
وكان الرُّعاف مِنْ منايا جرهُم أيام جرهم ولذلك قال شاعرٌ
في الجاهلية من إياد : ( ونحنُ إيادٌ عبادُ الإله ** ورهط مُناجِيهِ في
سُلّمِ ) ( ونحنُ ولاةُ حجاب العتيق ** زمان الرُّعافِ على جُرهمِ ) ولهذا
المناجي الذي كان يناجي الله عز وجل في الجاهلية على سُلّم حديث .
سيل
العرم فأما قوله : ( خَرقتْ فأرةٌ بأنفٍ ضئيلٍ ** عَرِماً مُحكَمَ الأساسِ
بصَخْرِ ) فقد قال اللّه عز وجل : فَأَرْسَلْنا عَليْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ والعَرِم : المسنّاة التي كانوا أحكموا عملها لتكون حجازاً بين
ضِياعهم وبين
السيل ففجرته فارة فكان ذلك أعجبَ وأظهر في الأعجوبة
كما أفار اللّه تعالى عز وجل ماءَ الطوفان من جَوف تَنُّور ليكون ذلك أثبتَ
في العِبرة وأعجَبَ في الآية .
ولذلك قال خالدُ بنُ صفوان لليمانيّ
الذي فخر عليه عند المهديِّ وهو ساكت فقال المهدي : وما لكَ لا تقول قال :
وما أقول لقوم ليس فيهم إلا دابغُ جِلد وناسجُ بُرْدٍ وسائسُ قرد وراكب
عَرْد غرَّقتهم فارة وملَكَتْهم امرأة ودلَّ عليهم هدهد . ( فَجَّرتْه وكان
جِيلان عنه ** عاجزاً لو يَرُومُه بَعْدَ دَهْرِ )
فإنّ جيلان فَعَلة الملوك وكانوا من أهل الجَبَل وأنشد الأصمعي : ( أرسَلَ جِيلان يَنحَتون له ** ساتيدما بالحديد فانصدعا )
وأنشد : ( وتَبْني له جِيلانُ مِنْ نَحْتِها الصَّفا ** قُصوراً تُعالى بالصَّفيح وتُكْلَسُ ) وأنشد لامرئ القيس : ( أُتِيحَ له جَيلانُ عند جَذَاذِه ** ورُدِّدَ فيه الطَّرْفُ حتّى تحيَّرا ) يقول : فجَّرته فارةٌ ولو أنّ جيلان أرادت ذلك لامتَنعَ عليها لأنَّ الفارةَ إنما خرقته لما سخّر اللّه عز ذكره لها من ذلك العَرِم وأنشدوا : ( مِنْ سَبأ الحاضرِينَ مأرِب إذْ ** يَبْنُون مِنْ دُونِ سَيلِهِ العَرِما )
ومأرب : اسمٌ لقصر ذلك الملك ثم صار اسماً لذلك البلد ويدلُّ على ذلك قول أبي الطَّمحان القيني : ( ألا ترى مَأرباً ما كان أحَصَنَهُ ** وما حَوالَيْهِ مِنْ سُورٍ وبُنْيانِ ) ( ظلَّ العِباديُّ يُسقى فوق قُلّتهِ ** ولم يَهَبْ رَيْبَ دَهرٍ حقّ خَوَّانِ ) وقال الأعشى : ( ففي ذَاكَ للمُؤْتَسي أُسْوةٌ ** ومَأرِبُ قَفّى عليه العَرِمْ ) ( رخامٌ بَنتْه لهُ حِمْيَرٌ ** إذا جاء ماؤُهُم لم يَرِمْ ) ( فأروَى الحُرُوثَ وأعنابَها ** على ساعةٍ ماؤُهُم إذ قُسِمْ ) ( فطار الفُيولُ وفَيَّالها ** بِيَهْماءَ فيها سَرابٌ يطِمّ )
( فكانُوا بذلكمُ حِقْبةً ** فمال بِهمْ جارفٌ مُنْهدمْ ) ( فطارُوا سِراعاً وما يَقدِرُو ** نَ مِنْهُ لِشُرْب صَبِيٍّ فُطِمْ ) ( مسخ الضبّ وسهيل ) وأما قوله : ( مَسَخَ الضَّبّ في الجَدَالةِ قِدْماً ** وسُهَيلَ السَّماءِ عَمْداً بصُغْرِ ) فإنهم يزعمون أنّ الضّبَّ وسُهيلاً كانا ماكِسَين عَشّارين فمسخ اللّه عز وجل أحدهما في الأرض والآخَرَ في السماء والجدالة : الأرض ولذلك يقال : ضربه فجدَّله أي ألْزَقه بالأرض أي بالجَدالة وكذلك قول عنترة : وأنشد أبو زيدٍ سعيدُ بن أوسٍ الأنصاري : ( قد أركب الحالة بعد الحالهْ ** وأتْرُكُ العاجِز بالجَدالهْ )
أبو رغال وأما قوله : ( والذي كان يَكْتَني برِغال ** جَعَل اللّه قَبْرَهُ شَرَّ قَبْرِ ) ( وكذا كلُّ ذي سُفين وخَرْجٍ ** ومُكُوسٍ وكلُّ صاحب عُشْر ) فإنما ذكر أبا رِغال وهو الذي يرجم الناس قبره إذا أتوا مَكة وكان وجّهه صالحٌ النبي صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون على صدقات الأموال فخالف أمره وأساءَ السِّيرة فوثَب عليه ثقيف وهو قَسِيُّ بن مُنَبِّه فقتله قتْلاً شنيعاً وإنما ذلك لسوء سيرته في أهل الحرم فقال غيلان بن سلمة وذكر قَسوة أبيه على أبي رغال : نحنُ قسِيٌّ وقَسا أبونا وقال أُميّة بنُ أبي الصَّلت : ( نفوْا عن أرْضِهمْ عدْنانَ طُرّاً ** وكانوا للقبائل قاهِرِينا ) ( وهم قتلوا الرئيس أبا رغال ** بنخلة إذ يسوق بها الظعينا )
وقال عمرو بن دراك العبدي ، وذكر فجور أبي رغال وخبثه ، فقال : ( وإني إن قطعت حِبال قيسٍ ** وحَالَفْتُ المزُونَ على تمِيمِ ) ( لأعْظَمُ فَجْرةً مِنَ أبي رِغالٍ ** وأجْوَرُ في الحكومةِ من سَدُومِ ) وقال مسكينٌ الدارميّ : ( وأرجُمُ قَبْرَهُ في كلِّ عامٍ ** كرَجْمِ النّاس قَبْرَ أبي رغالِ ) وقال عُمرُ بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لَغَيلان بن سلَمة حين أعتق عبده وجعل ماله في ) رِتاج الكَعْبة : لئن لم تَرْجِعْ في مالك ثمَّ مُتَّ لأرجُمَنّ قبرك كما رُجِم قبرُ أبي رِغال وكلاماً غير هذا قد كلّمه به .
المنكب والعريف وأما قوله : ( مَنْكِبٌ كافرٌ وأشْرَاطُ سَوْءٍ ** وعَريفٌ
جزاؤُه حَرُّ جَمْرِ ) فإنما ذهب إلى أحكام الإسلام كأنه قد كان لقى من
المَنْكِب والعَرِيف جهْداً وهم ثلاثة : مَنْكِب ونقيب وعَريف وقال
جُبَيْهاءُ الأشجعيُّ : ( رعاع عاونَتْ بَكْراً علَيْه ** كما جُعِل
العريفُ على النَّقِيبِ ) الغول والسعلاة ( وتزوّجْتُ في الشَّبيبةِ غُولاً
** بغزال وصَدْقَتي زقُّ خَمْرِ ) فالغُول اسمُ لكلِّ شيءٍ من الجن يعرضُ
للسُّفّار ويتلوّنُ في ضُروب الصُّور والثِّياب ذكراً كان أو أنثى إلاّ أنّ
أكثر كلامهم على أنّه أنثى .
وقد قال أبو المطْراب عُبيدُ بن
أيُّوبَ العنبريّ : ( وحالَفْتَ الوحوشَ وحالَفْتني ** بقرب عُهودهنّ
وبالبعادِ ) ( وأمْسَى الذِّئبُ يرصُدُني مِخشّاً ** لخفّةِ ضربتي ولضعف
آدي ) ( وغُولاَ قفرةٍ ذكرٌ وأنثى ** كأنّ عَلَيْهمَا قِطعَ البجادِ ) فجعل
في الغِيلان الذَّكرَ والأُنثى وقد قال الشَّاعر في تلوُّنها : ( فما تدوم
على حالٍ تكون بها ** كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغُولُ ) فالغول ما كان
كذلك والسِّعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغوَّل لتفتِنَ
السُّفّار .
قالو : وإنما هذا منها على العَبث أو لعلّها أن تفزّع إنساناً جميلاً
فتغيِّرَ عقله فتداخِلَه عند ذلك لأنّهم لم يُسلَّطوا على الصَّحيح العقل
ولو كان ذلك إليهم لبدؤوا بعليّ بن أبي طالب وحمزَة بن عبد المطلب وبأبي
بكر وعُمر في زَمانهم وبغيلان والحسن في دهرهما وبواصل وعمرو في أيامهما . (
وساخرة منِّي ولو أنّ عَينَها ** رأتْ ما أُلاقيهِ من الهوْلِ جُنّتِ ) (
أزلُّ وسِعلاةٌ وغولٌ بقَفْرةٍ ** إذا اللّيل وارَى الجنَّ فيه أرنّتِ )
وهم إذا رأوا المرأة حديدة الطّرف والذِّهن سريعة الحركة ممشوقة مُمَحَّصة قالوا : سعلاة وقال الأعشى :
( ورجال قَتْلى بجنْبَيْ أريكٍ ** ونساءٍ كأنهنَّ السَّعالي )
تزاوج الجن والإنس
ويقولون : تزَّوج عمرو بن يربوعٍ السّعلاة وقال الرَّاجز : ( يا قاتلَ اللّهُ بني السّعلاةِ ** عمرو بن يَربوعٍ شِرارَ النَّاتِ ) وفي تلوُّن الغُول يقول عَبَّاسُ بنُ مرداسٍ السُّلَميُّ : أصابَت العام رِعلاً غولُ قومهم وَسْطَ البُيوتِ ولوْنُ الغُولِ ألوانُ وهم يتأوَّلون قوله عز ذكره : وَشَارِكْهُمْ في الأََمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ .
وقوله عز وجل :
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ قالوا : فلو كان الجانّ لم
يُصِب منهنَّ قَطّ ولم يأتهنّ ولا كان ذلك مما يجوز بين الجن وبين النساء
الآدميات لم يقل ذلك .
وتأوَّلوا قوله عزّ وجل : وَأنَّهُ كَانَ
رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فجعل منهنَّ
النِّساء إذ قد جعل منهم الرِّجال وقوله تبارك وتعالى : أَفَتَتَّخِذونَهُ
وَذُرِّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي .
وزعم ابنُ الأعرابيّ قال : دعا
أعرابيٌّ ربهُ فقال : اللّهم إني أعوذُ بك منْ عفاريت الجن اللهمَّ لا
تُشْرِكهمْ في ولدي ولا جسدي ولا دمي ولا مالي ولا تُدخلهم في بيتي ولا
تجعَلُهمْ لي شركاء في شيءٍ من أمر الدنيا والآخرة .
قال أبو عبيدة :
فقيل له : لمَ تدعو بهذا الدُّعاء قال : وكيف لا أدعو به وأنا أسمعُ أيُّوب
النبي واللّه تعالى يخبر عنه ويقول : واذكُرْ عَبْدَنا أيُّوب إذْ نادى
رَبّهُ أَنِّي مَسَّنيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ حتى
قيل له :
اركُضْ بِرجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ باردٌ وَشرابٌ وكيف لا أستعيذ باللَّه منه
وأنا أسمع اللّه يقول : الَّذين يأْكُلونَ الرِّبا لا يَقومُون إلاّ كما
يقُومُ الَّذي يَتَخبَّطُهُ الشَّيْطانُ من المَسِّ وأسمعه يقول : وإذْ
زَيَّن لَهُمُ الشَّيْطانُ أعمالَهُمْ وقالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
مِنَ النَّاسِ وإنِّي جارٌ لَكُمْ فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه كما قال
اللّه عزّ ذكره : فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكصَ على عَقِبيْهِ
وقَالَ إنّي بَريءٌ مِنكمْ إنّي أرى مَا لا تَرَوْنَ وقد جاءهم في صورة
الشَّيخ النّجدي وكيف لا أستعيذ بالله منه وأنا أسمع الله عز ذكره يقول :
ولقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيّنَّاهَا لِلنَّاظِرينَ
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شيْطانٍ رَجِيمٍ إلاَّ منِ اسْتَرقَ السَّمْعَ
فأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبينٌ وكيف )
لا أستعيذ باللّه منه وأنا أسمع
اللّه تعالى يقول : ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها
شَهْرٌ وأسلْنا لَهُ عيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ
يَديْهِ بإذْنِ ربِّهِ ثم قال : يَعْمَلَونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحاريبَ
وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِ
وقُدُورٍ راسِياتٍ وكيف لا أدعو بذلك وأنا
أسمع اللّه تعالى يقول : قال عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بهِ قَبْلَ
أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وإنّي عَلَيْه لقويٌّ أمِينٌ .
وكيف لا
أقول ذلك وأنا أسمع اللّه عزّ وجلَّ يقول : ربِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي
مُلْكاً لا يَنْبغي لأحدٍ مِنْ بَعْدي إنَّكَ أنْتَ الْوهّابُ فسخَّرْنا
لهُ الرِّيحَ تَجْري بِأمْرهِ رُخاءً حَيْثُ أصابَ والشَّياطينَ كُلَّ
بَنّاءٍ وغَوَّاصٍ وآخرِينَ مُقرَّنينَ في الأصفادِ .
تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن
والأعراب يتزيّدون في هذا الباب وأشباهُ الأعراب يغلطون فيه وبعضُ أصحابِ التأويل يجوّز في هذا الباب ما لا يجوز فيه وقد قلنا في ذلك في كتاب النُّبُوّات بما هو كافٍ إن شاء اللّه تعالى .مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن
وسيقع هذا الباب والجواب فيه تامّاً إذا صرنا إلى القول في الملائكة وفي فرق ما بين الجن والإنس وأما هذا الموضع فإنما مَغْزانا فيه الإخبارُ عن مذاهب الأعراب وشعراءِ العرب ولولا العلم بالكلام وبما يجوز مما لا يجوز لكان في دون إطباقهم على هذه الأحاديث ما يغلط فيه العاقل .
قال
عُبيدُ بن أيُّوب وقد كان جَوَّالاً في مجهول الأرض لمَّا اشتد خوفه وطال
تردُّدُه وأبعد في الهرب : ( لقد خِفْتُ حتَّى لو تمُرُّ حَمامَةٌ **
لقُلْتُ عَدُوٌّ أو طلِيعَة مَعْشَرِ ) ( وخِفت خليلي ذا الصَّفاء
وَرَابَني ** وقيل فلان أو فلانة فاحذرِ ) ( فلله دَرُّ الغُول أيُّ رفيقةٍ
** لصاحِبِ قفْر خائِفٍ متقتِّر ) ( أرنَّتْ بلحْن بعد لحن وأوقدَتْ **
حواليَّ نيراناً تلوح وتزهرُ ) ( وأصبحت كالوحْشيِّ يتبَعُ ما خلا ** ويترك
مَأبُوسَ البلادِ المدَعْثَرِ ) وقال في هذا الباب في كلمة له وهذا أولها :
( أذِقني طَعْمَ الأمن أو سَلْ حقيقةًً ** عليَّ فإن قامتْ ففصِّل بنانيا )
( خلعتَ فؤادي فاستُطيرَ فأصبَحَتْ ** ترامى بي البيدُ القِفارُ تراميا )
( كأني وآجال الظِّباء بقفرةٍ ً ** لنا نسبٌ نرعاه أصبح دانيا )
( رأين ضئيلَ الشَّخْصِ يظهَرُ مَرَّةًً ** ويخْفَى مراراً ضامِرَ الجسم عاريا ) ( فأجْفَلنَ نفْراً ثمَّ قُلنَ ابنُ بلدةٍ ً ** قليلُ الأذى أمْسى لكُنَّ مُصَافيا ) ألا يا ظِباءَ الوَحْشِ لا تُشْهِرُنَّنيً وأخفِينني إذ كنتُ فِيكن خافيَا ( أكلت عُرُوق الشَّرْي مَعْكُنَّ والْتَوىً ** بحَلقي نَوْرُ القَفْرِ حتَّى وَرانيا ) ( وقد لقيتْ مني السِّباعُ بليّةًً ** وقد لاقت الغيلانُ مِنِّي الدّواهيا ) ( ومنهنّ قد لاقيت ذاك فلم أكُنْ ** دجباناً إذا هَوْلُ الجبان اعترَانيا ) ( أبِيتُ ضجيع الأسْوَدِ الجَون في الهُوَى ** كثيراً وأثناءُ الحشاش وسادِيَا )
( إذا هِجْن بي في جُحْرِهنَّ اكتنفننيً ** فليت سُلَيمانَ بن وَبْرٍ يرانيا ) ( فما زِلت مُذ كْنتُ ابن عشرين حِجةً ** أخا الحرب مَجْنيّاً عليَّ وجانيا ) ومما ذكر فيه الغيلان قولُه : ( نقول وقد ألممتُ بالإنس لَمَّةً ** مُخضَّبةُ الأطرافِ خُرْسُ الخلاخِلِ ) ( أهذا خليلُ الغُول والذِّئب والذي ** يهيمُ بِرَبّاتِ الحِجال الكوَاهلِ ) ( رَأتْ خَلقَ الأدراس أشْعَثَ شاحباً ** على الجدْب بَسَّاماً كريمَ الشَّمائلِ ) ( تعوَّدَ من آبائه فَتكاتِهم ** وإطعامَهُمْ في كلِّ غبْراء شامِلِ ) ( إذا صاد صيداً لفَّه بضرامِهِ ** وشيكاً ولم ينْظر لنَصْب المراجلِ ) ( ونهْساً كنَهْس الصقر ثم مِراسهُ ** بكفّيه رأسَ الشَّيخة المتمايل )
( فلم يسحب المِنديلَ بين جماعةٍ ** ولا فارداً مذ صاحَ بيْن القوابلِ ) ومما قال في هذا المعنى : ( علام تُرَى ليلى تعذِّب بالمُنى ** أخا قفَراتٍ كان بالذئب يأنسُ ) وصار خليل الغُول بَعْد عداوةٍ صَفيّاً وربّتهُ القفارُ البسابسُ ( فلولا رجالٌ يا مَنيعُ رأيتَهم ** لهم خُلقٌ عند الجوار حَمِيدُ ) ( لنالكُمُ مِني نكالٌ وغارةٌ ** لها ذنبٌ لم تدركُوه بعيدُ ) ( أقلَّ بنو الإنسان حتَّى أغرتمُ ** على من يثير الجنّ وهي هجودُ )
أخبار وطرف تتعلق بالجن
وقال ابن الأعرابي : وَعدت أعرابيَّةٌ أعرابيّاً أن يأتيها فكمن
في عُشَرةٍ كانت بقربهم فنظر الزّوجُ فرأى شَبَحاً في العُشرَةَ فقال
لامرأته : يا هَنَتاهُ إنّ إنساناً لَيُطالعنا من العُشَرة قالت : مَهْ يا
شيخُ ذاك جانُّ العُشَرة إليك عنّي وعن ولَدِي قال الشيخ : وعنِّي يرحَمُك
اللّه قالت : وعن أبيهم إن هو غطَّى رأسه ورقد قال : ونام الشَّيخ وجاء
الأعرابي فسَفَع برجليها ثمّ أعطاها حتى رضيت .
وروى عن محمّد بن
الحسن عن مُجالِد أو عن غيره وقال : كنّا عند الشّعبي جُلوساً فمرَّ حمّالٌ
على ظهره دَنّ خَلٍّ فلما رأى الشّعبيَّ وضع الدّنّ وقال للشعبي : ما كان
اسمُ امرأة إبليس قال : ذاك نكاحٌ ما شهدناه .
وأبو الحسن عن
أبي إسحاق المالِكي قال : قال الحجاج ليحيى بن سعيد بن العاص : أخبرني عبدُ
اللّه بن هلال صديق إبليس أنّك تشبه إبليس قال : وما ينكر أنْ يكون سيد
الإنس يُشبه وروى الهيثم عن داود بن أبي هند قال : سئل الشّعبي عن لحم
الفيل فتلا قولَه عزّ ذكره : قُلْ لا أَجِدُ فيما أُوحِي إليّ مُحَرَّماً
على طاعِمٍ يطْعَمُهُ إلاَّ أنْ يكُونَ مَيْتَةً أوْ دمَاً مَسْفُوحاً أوْ
لَحْمَ خِنْزيرٍ إلى آخر الآية وسُئل عن لحم الشَّيطان فقال : نحن نرضى منه
بالكَفَاف فقال له قائل : ما تقولُ في الذِّبّان قال : إن اشتهيته فكُلْهُ
.
وأنشدوا قول أعرابي لامرأته : ألا تمُوتين إنا نبتغي بدلاإن
اللواتي يموِّتن الميامين ( أم أنت لازلتِ في الدنيا معَمَّرَةً ** كما
يُعَمَّر إبليسُ الشَّياطِين ) وقال أبو الحسن وغيرُه : كان سعيدُ بن خالد
بن عبد اللّه بن أسيد تصيبهُ مُوتة نصف سنة ونصفَ سنةٍ يصح فيحبو ويُعطي
ويكسُو
ويَحمِل فأراد أهلُه أنْ يعالِجُوه فتكلّمت امرأةٌ على لسانه
فقالت أنا رُقيَّة بنت ملْحان سيِّد الجنِّ واللّه أنْ لو علِمتُ مكانَ
رجل أشرَف منه لعلِقْتُه واللّه لئن عالجتموه لأقتُلنّه فتركوا علاجه .
وتقول العرب : شيطان الحمَاطة وغول القَفْرَة وجانُّ العُشرَة وأنشد : (
فانصَلتَتْ لي مِثْلَ سعلاةِ العُشَرْ ** تروح بالوَيْل وتَغْدُو بالغِيَرْ
) وأنشد : الغُملول : الخمرَ من الأرض اختبأ فيه هذا الرجل وضغب ضغبة
الأرنب ليفزعه ويوهمه أنّه )
عامر لذلك الخمر .
رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان
( من ادعى من الأَعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف الجان ) وما يشبهون بالجن والشياطين وبأعضائهم وبأخلاقهم وأعمالهم .وأنشد : ( كأنّه لَمَّا تدانى مَقْربُه ** وانقطعت أوْذامُه وكُرَبُهْ ) ( وجاءت الخيلُ جميعاً تَذنِبُهْ ** شيطان جنّ في هواء يرقُبهْ ) أذنب فانقضَّ عليه كوكبُهْ وأنشد : ( إنّ العُقَيليَّ لا تلقى له شَبهاً ** ولو صَبرْتَ لتلقاه على العِيسِ ) ( بَيْنا تَراهُ عليه الخزُّ متَّكِئاً ** إذ مَرَّ يهدج في خَيش الكرابيس )
( وقد تكنَّفَهُ غُرَّامُه زَمَناً ** أشباهُ جِنٍّ عكوفٍ حَوْل إبليسِ ) وهو الذي يقول : ( أصبحتَ مَا لَكَ غيرُ جِلْدِكَ تَلبَسُ ** قَطرَ السَّماء وأنْتَ عارٍ مُفْلِسُ ) وقال الخطفى : ( يَرْفَعْنَ بالليل إذا ما أسْدفَا ** أعْناقَ جِنَّانٍ وهاماً رُجَّفا ) وَعَنَقاً بعد الرسيم خيطفا
وأنشد ابنُ الأعرابي : ( غناءً كليبياً تَرَى الجنَّ تبتغي ** صَدَاهُ إذا ما آب للجشنِّ آيبُ ) وقال الحارث بن حلزة : ( ربُّنا وابننا وأَفضل منْ يَمْ ** شي ومَنْ دونَ ما لَديْه الثَّناءُ ) ( إرَميٌّ بمثْلهِ جالَتِ الج ** نُّ فآبتْ لخصْمها الأجْلاءُ ) وقال الأعشى : ( فإنِّي وما كَلَّفتُموني ورَبِّكم ** ليعلم من أمْسى أعَقَّ وأحْوَبا ) ( لكالثَّور والجْنيُّ يضربُ ظهْرَهُ ** وما ذنْبُه أنْ عافَتِ الماء مَشْربا )
وقال الزَّفيان العُوافيُّ واسمه عطاء
بن أسِيد أحد بني عُوافةَ بن سعد : وقال ذو الرُّمَّة : ( قد أعسِفُ
النَّازحَ المجهُولَ مَعْسِفُه ** في ظلِّ أغْضَف يَدْعو هامَهُ البُومُ ) (
للجِنِّ باللّيل في حافاتها زَجَلٌ ** كما تناوَحَ يوم الريح عيشومُ )
( داويّةٍ ودُجَى ليل كأنَّهما ** يَمٌّ تراطَنُ في حافاته الرُّومُ ) وقال : ( وكمْ عَرَّستْ بعد السُّرى من مُعَرَّس ** به من كلام الجن أصواتُ سامِرِ ) وقال : ( كمْ جُبْتُ دُونَكَ من يَهْماء مُظْلمةٍ ** تِيهٍ إذا ما مُغَنِّي جِنَّةٍ سَمَرا ) وقال : ( ورَمل عزيف الجنِّ في عَقِداتِه ** هزيزٌ كتضْرابِ المغنِّين بالطّبْلِ ) وقال :
( وتِيهٍ خَبَطْنا غَوْلها وارتمى بنا ** أبو البعد من أرجائها المتطاوحُ ) ( فلاةٌ لِصوت الجنِّ في مُنْكَراتها ** هزيزٌ وللأبوام فيها نوائحُ ) ( وطولُ اغتماسي في الدُّجى كلما دعت ** من اللَّيل أصداءُ المِتَانِ الصوائحُ ) ( بلاداً يبيتُ البومُ يدعُو بناتِه ** بها ومن الأصداءِ والجنِّ سامرُ ) وقال ذو الرمة : ( وللوحشِ والجِنّانِ كُلَّ عشِيةٍ ** بها خِلْفةٌ من عازفٍ وبُغامِ ) وقال الراعي : ( ودَاوِيّةٍ غبراءَ أكثرُ أهْلِها ** عزِيفٌ وبُومٌ آخِرَ الليل صائحُ )
( أقرّ بها جأشِي تأوُّل آيةٍ ** وماضي الحسام غمِدُه متصايحُ )
لطيم الشيطان
ويقال لمن به لقوة أو شتَر إذا سُبَّ : يا لطيم الشيطان .وكذلك قال عبيد اللّه بن زياد لعمرو بن سعيد حين أهوى بسيفه ليطعنَ في خاصرة عبد اللّه بن معاوية وكان مستضعفاً وكان مع الضّحّاك فأسِرَ فلمّا أهوى له السيفَ وقد استردفه عبيدُ اللّه واستغاث بعبيد اللّه قال عبيد اللّه لعمرو : يدك يا لطيمَ الشيطان .
قولهم : ظل النعامة وظل الشيطان ويقال للرَّجُل المفرط الطّول : يا ظلَّ النّعامة وللمتكبِّر الضخم : يا ظلَّ الشيطان كما قال الحجّاج لمحمد بن سَعْد بن أبي وقاص : بينا أنت يا ظلَّ الشّيطان أشدُّ النَّاس كِبْراً إذْ صِرتَ مؤذِّناً لفلان .
وقال جريرٌ في هجائه شَبّةَ بن عِقال وكان مُفْرط الطّول : ( فَضَح
المنابرُ يَوْمَ يَسْلَحُ قائماً ** ظِلُّ النّعامةِ شَبّةُ بنُ عِقالِ )
قولهم : ظل الرمح فأما قولهم : مُنينا بيوم كظلِّ الرمح فإنّهم ليس يريدون
به الطول فقط ولكنّهم يريدون أنّه مع الطول ضيق غيرُ واسع .
وقال ابن
الطّثرية : ( ويَوْمٍ كظِلِّ الرُّمح قَصَّر طُوله ** دَمُ الزِّقِّ عنّا
واصطِفاقُ المَزَاهِرِ ) قال : وليس يوجد لظلِّ الشخص نهاية مع طلوع الشّمس
.
التشبيه بالجن
قال : وكان عمر بن عبد العزيز أوّلَ من نهى النّاسَ عن حملالصِّبيان على ظهور الخيل يوم الحَلبة وقال : تحمِلون الصِّبيان على الجِنَّان . ( إنسٌ إذا أمنوا جِنٌّ إذا فزعوا ** مُرزَّؤُونَ بهاليلٌ إذا حَشدوا ) وأنشدوا : ( وقلتُ واللّه لنَرحَلنّا ** قلائصاً تحسِبهنَّ جنا ) وقال ابن ذي الزوائد : ( وَحَوْلي الشَّوْلُ رُزَّحاً شُسُباً ** بَكِية الدَّرِّ حينَ تُمْتَصَرُ )
( ولاذَ بي الكلبُ لا نُباحَ له ** يهِرُّ مُحْرنْجماً وينجَحِرُ ) ( بُحُورُ خَفْضٍ لمنْ ألمَّ بهِمْ ** جِنٌّ بأرماحِهمْ إذا خطروا ) وأنشدوا : ( إنِّي امرؤٌ تابعَني شيطانِيَه ** آخيتهُ عُمْرِي وقد آخانِيه ) ( يشْرَبُ في قَعْبي وقد سقانِيَه ** فالحمدُ للّه الذي أعطانِيَه ) ( قرْماً وخُرْقاً في خُدودٍ واضيه ** تربَّعَتْ في عُقدٍ فالماويه ) ( َبقلاً نَضِيداً في تِلاعٍ حاليه ** حتّى إذا ما الشّمْسُ مَرَّتْ ماضيه ) ( قام إليها فتيةٌ ثمانيه ** فثوَّروا كلَّ مَرِيٍّ ساجيَه )
أخلافها لِذي الأكف مالِيَه وقال ابنُ الأعرابي : قال لي أعرابي مَرّة مِن غنيٍّ وقد نزلت به قال : وهو أخفُّ ما نزلتُ به و أطيَبُه فقلت : ما أطيب ماءكم هذا وأعْذى منزلكم قال : نعم وهو بعيدٌ من الخَير كله بعيد من العراق واليمامة والحجاز كثير الحيات كثير الجنان فقلت : أتَروَنَ الجن قال : نعم مكانُهم في هذا الجبل وأشار بيدهِ إلى جبل يقال له سُواج قال : ثمَّ حدَّثني بأشياء .
شعر فيه ذكر الجن
وقال عبيد بن أوس الطائي في أخت عَدي بن أوس :( هلْ جاءَ أوساً ليلتي ونعيمها ** ومقامُ أوْسٍ في الخِباء الْمُشْرَجِ ) ( ما زِلتُ أطوي الجِنّ أسمع حِسَّهُمْ ** حَتّى دَفَعْتُ إلى ربيبة هودجِ ) ( فوضعت كفِّي عند مقطع خَصْرِها ** فَتَنَفّستْ بُهْراً ولمَّا تنهجِ ) ( فتناولتْ رأْسي لِتعرفَ مَسّهُ ** بمخضّبِ الأطرافِ غيرِ مُشنّجِ ) ( قالتْ بعَيْشِ أخي وحُرمة والدي ** لأُنَبِّهَنَّ الحيّ إنْ لم تخرجِ ) ( فخرجتُ خيفةَ قومها فتبسَّمَتْ ** فعلمْتُ أنّ يمينها لم تلججِ ) ( فلثمْت فاهاً قَابضاً بقُرونِها ** شُرْبَ النَّزيفِ ببرْدِ ماء الحشْرَج )
( ذَهَبْتُمْ فعُذْتمُ بالأمير وقُلْتُمُ ** تركْنا أحاديثاً ولحماً مُوضعاً ) ( فما زَادَني إلاّ سناءً ورِفعة ** ولا زادكُمْ في القوم إلاّ تخشّعا ) ( فما نفرتْ جِنِّي ولا فُلَّ مِبردِي ** وما أصبحت طيري من الخوفِ وُقَّعَا ) وقال حسّانُ بنُ ثابت في معنى قولِه : وللّه لأضربنَّه حتَّى أنزع من رأسِه شيطانه فقال : ( وداوِيةٍ سَبسَبٍ سَمْلَقٍ ** مِنَ البيِد تَعْزِفُ جنّانُها ) ( قطَعْتُ بِعَيْرانةٍ كالفَنِي ** قِ يَمْرَحُ في الآل شَيْطانُها ) فجمع في هذا البيت تثبيت عزيف الجن وأنَّ المراح والنشاط والْخُيلاء والغرب هو شيطانُها
وأبينُ منْ ذلك قولُ منظور بن رواحة : ( أتاني وأهْلي بالدِّماخ فغمرةٍ ** مَسبُّ عويفِ اللؤم حيَّ بني بدرِ ) ( فلمّا أتاني ما يقولُ ترقّصت ** شياطينُ رأسي وانْتشْينَ من الخَمْرِ )
من المثل والتشبيه بالجن
ومن المثَل والتّشبيه قولُ أبي النّجم : ( وقام جِنِّيُّ السَّنام الأميَلِ ** وامْتَهَدَ الغاربَ فِعْلَ الدُّمَّلِ ) ( بهَجْلٍ من قساً ذفِر الخُزامَى ** تداعى الجربياءُ به الحنينا )( تكسَّر فوقه القَلَعُ السَّوارِي ** وجُنَّ الخازِبازِ به جُنونا ) وقال الأعشى : ( وإذا الغيثُ صَوْبُه وضع القِدْ ** حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ ) ( لم يزدهم سفاهَةً شُرُبُ الْخمْ ** رِ ولا اللهوُ بينهُم والسِّباق ) وقال النابغة : ( وخَيِّس الجِنَّ إنِّي قد أذِنْتُ لَهُمْ ** يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ )
ما يزعمون أنه من عمل الجن
وأهلُ تدمُر يزعمون أنّ ذلك البناء بُنيَ قبل زمن سليمان عليه السلام بأكثرَ مما بيننا اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا : ولكنّكم إذا رأيتمْ بنياناً عجيباً وجهلتم موضع الحِيلة فيه أضفْتُموه إلى الجنِّ ولم تعانوه بالفكر .وقال العَرْجيُّ : ( سدّتْ مسامِعها بفرْجِ مراجِل ** مِنْ نَسْج جِنٍّ مثله لا يُنسَجُ )
وقال الأصمعيُّ : السيوف المأثورة هي التي يقال إنها من عمل الجن والشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام فأمّا القوارير والحمامات فذلك ما لا شك فيه وقال البعيث : ( بَنَى زِيادٌ لذِكْرِ الله مَصْنَعَةً ** من الْحِجارة لم تُعملْ من الطِّينِ ) ( كأنَّها غير أنّ الإنسَ ترفَعُها ** مما بنتْ لسليمانَ الشياطينُ ) وقال المقنَّع الكِنْديُّ : ( وفي الظّعائِنِ والأحْداجِ أمْلَحُ منْ ** حَلَّ العِراقَ وَحَلَّ الشامَ واليَمنَا ) ( جِنِّيّةٌ مِنْ نِسَاءِ الإنسِ أحسَنُ مِنْ ** شَمْسِ النّهارِ وبَدْرِ اللّيلِ لو قُرِنَا ) ( مَكتومةُ الذكرِ عندي ما حيِيتُ له ** قَدْ لَعَمْري مَلِلتُ الصَّرمَ والحَزَنَا ) وقال أبو النَّجم : ) ( أدرك عقلاً والرهان عمله ** كأنّ تُرْبَ القاع حينَ تَسحَلُه ) صيقُ شياطينَ زَفَتْهُ شَمْألهْ
وقال الأعشى في المعنى الأوّل من بناء الشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام : ( أرى عَادِيا لمْ يمنع الموْتَ رَبُّه ** ووَرْدٌ بتيماءِ اليهوديِّ أبلقُ ) ( بناهُ سُليمانُ بنُ داودَ حِقْبةً ** له جَنْدَلٌ صُمٌّ وطيٌّ موثَّقُ ) وكما يقولون : قنفذ بُرْقة وضبُّ سحاً وأرنب الخلَّة وذئب خَمر فيفرقون بينها وبينَ ما ليست كذلك إمَّا في السِّمن وإمّا في الخُبث وإمَّا في القوة فكذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن فإذا نَسبُوا الشّكل منها إلى موضعٍ معروف فقد خَصُّوه من الخُبث و القُوة والعَرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم قال لبيد :
( غُلْب تَشَذّرُ بالذُّحولِ كأنّها ** جنُّ البَدِيِّ رواسِياً أقدامُها ) وقال النّابغة : ( سهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهُمْ ** تحتَ السَّنَوَّرِ جِنَّةُ البقّارِ ) وقال زهير : ( عَلَيْهِنَّ فِتْيانٌ كَجِنّةِ عَبقرٍ ** جديرون يوماً أن يُنيفوا فيَسْتعلوا ) وقال حاتم : ( عليهنّ فِتْيانٌ كَجِنّة عبقر ** يهزُّون بالأيدي الوشِيجَ المقوّما ) ولذلك قيل لكلِّ شيء فائق أو شديدٍ : عبقري .
وفي الحديث في صفة عمر رضي اللّه عنه فلم أر عبقريّاً يفري فَرِيّه قال أعرابي : ظلمني واللّه ظُلماً عبقريّاً .
ثمَّ ينزلون الجن في مراتب فإذا ذكروا الْجِنِّيَّ سالماً قالوا : جني
فإذا أرادوا أنّه ممن سكن مع النَّاس قالوا : عامر والجميع عُمّار وإنْ كان
ممن يعرض للصبيان فهُمْ أرواح فإن خبُث أحدُهم وتعرَّم فهو شيطان فإذا زاد
على ذلك فهو مارد قال اللّه عز ذكره : وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
ماردٍ فإن زاد على ذلك في القوَّة فهو عفريت والجميع عفاريت قال اللّه
تعالى : قال عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أنَا آتيكَ بِهِ قبْلَ أنْ تَقْومَ منْ
مقامِك .
وهم في الجملة جنٌّ وخوافي قال الشاعر : )
ولا يُحَسُّ سِوى الخافي بها أثرُ
فإن طهَرَ الجني ونَظُف ونَقِيَ وصار خيراً كلُّه فهو مَلَك في قول من
تأول قوله عز ذكره : كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ على
أنّ الجنَّ في هذا الموضع الملائكة .
وقال آخرون : كان منهم على
الإضافة إلى الدّار والدّيانة لا على أنّه كان من جنْسهم وإنّما ذلك على
قولهم سليمان بن يزيد العدوي وسليمان بن طرْخان التّيمي وأبو علي الحرمازي
وعَمْرو بن فائد الأسواري أضافوهم إلى المحالّ وتركوا أنسابهم في الحقيقة .
استطراد لغوي وقال آخرون : كلُّ مُستْجِنٍّ فهو جِنّيٌّ وجانّ وجنين وكذلك الولدُ قيل له جنينٌ لكونه في البطْن
( ولا شمْطاءُ لم تَدعِ المنايا ** لها منْ تِسْعَةٍ إلاّ جنينا ) يُخبر أنّها قد دَفَنَتْهُم كلُّهم .
قالوا : وكذلك الملائكة من الحَفَظة والحمَلة والكَرُوبيِّينَ فلا بدّ من
طبقات وربُّما فُرِّق بينهم بالأعمال واشتُقَّ لهم الاسمُ من السّبب كما
قالُوا لواحدٍ من الأنبياء : خليل اللّه وقالوا لآخر : كليم اللّه وقالوا
لآخر : روح اللّه . 4
مراتب الشجعان
والعرب تُنزل الشُّجعاء في المراتب والاسم العامُّ شجاع ثمَّ بطلَ ثم بُهْمة ثم أليَس هذا قول أبي عبيدة .فأمّا قولهم : شيطان الحماطة فإنّهم يعنون الحيّة وأنشد الأصمعي : ( تُلاعِبُ مَثْنى حَضْرَميٍّ كأنّهُ ** تَعمُّجُ شيطان بذي خِرْوَع قَفْرِ )
وقد يُسَمُّون الكِبر والطغيان والخُنْزُوانة والغضبَ الشّديدَ شيطاناً
على التّشبيه قال عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : والله لأنزِعَنّ
نُعْرتَه ولأضربنَّه حتى أنزع شيطانه من نخرته .
مراتب الجن والأعراب
تجعل الخوافِي والمستجِنّات من قبل أن ترتِّب المراتب جنسين يقولون جِنّ
وحنّ بالجيم والحاء وأنشدوا : ( أبيتُ أهْوي في شياطينَ تُرِنّ ** مختلفٍ
نجواهمُ حِنٌّ وجنّ ) ويجعلون الجِنّ فوق الحنّ وقال أعشى سليم : ) ( فما
أنا منْ جِنٍّ إذا كنتُ خافياً ** ولستُ من النَّسْناسِ في عنصُرِ البَشَرْ
)
ذهب إلى قول من قال : البشر ناسُ ونسناس والخوافي حنّ وجنّ يقول : أنا من أكرم الجِنسين حيثما كنت .
شيطان ضعفة النُّسّاك والعباد وضَعَفة النسّاك وأغبياءُ العُبّاد يزعمون
أنّ لهم خاصّة شيطاناً قد وُكِّل بهم ويقال له المذهِب يُسْرِج لهم
النِّيران ويُضيء لهم الظُّلْمة ليفتنهم وليريهم العجب إذا ظنُّوا أنّ ذلك
من قِبَل اللّه تعالى .
شيطان حفظة القرآن وفي الحديث أنّ الشّيطانَ
الذي قد تفرّد بحفظة القرآن يُنْسِيهم القرآن يسمى خَنْزَب وهو صاحب عثمان
بن أبي العاص .
الخابل والخبل
قال : وأما الخابل والخَبَل
فإنما ذلك اسمٌ للجنّ الذين يخبلون النّاسَ بأعيانهم دون غيرهم وقال تناوح
جِنّان بهنَّ وخُبَّلُ كأنّه أخْرج الذين يخبلون ويتعرَّضون ممّن ليس عنده
إلاّ العزيف والنّوح وفصل أيضاً لبيدٌ بينهم فقال : ( أعاذلُ لو كان
النِّداد لقُوتلوا ** ولكنْ أتانا كُلُّ جنّ وخابلِ ) وقد زعم ناسٌ أنَّ
الخبلَ والخابل ناس قالوا : فإذا كان ذلك كذلك فكيف يقول أوس بن حجر :
تناوح جِنّان بهن وخُبّلُ 4
استطراد لغوي
قالوا : وإذا تعرّضَت الجنّيّة وتلوَّنتْ وعَبِثت فهي شيطانة ثم غُول والغُول في كلام العرب الدَّاهية ويقال : لقد غالَتْهُ غول وقال الشاعر :( تقول بيتي في عِزّْ وفي سعَةٍ ** فقدْ صدقْتَ ولكنْ أنت مدخولُ ) ( لا بأسَ بالبَيْتِ إلاّ ما صنعت به ** تَبْني وتَهْدِمُه هدّاً له غولُ ) وقال الرَّاجز : ( تَقْلِبُ للأوتارِ والذُّحُولِ ** حِملاقَ عَيْنٍ ليس بالمكْحُولِ )
زواج الأعراب للجن
ومن قول الأعراب أنهم يظهرون لهم ويكلِّمونهم ويناكحونهم ولذلك قال شمر بن الحارث الضّبي : ( ونارٍ قد حضأتُ بُعَيْدَ هَدْءٍ ** بدارٍ لا أُريدُ بها مُقامَا ) ( سِوى تَحْليلِ راحلةٍ وعينٍ ** أُكالئُها مخافَة أنّ تناما )( أتَوْا نَارِي فقلتُ منونَ قالوا ** سراةُ الجنِّ قلتُ عِموا ظلاما ) ( فقُلْتُ إلى الطَّعامِ فقالَ مِنْهُمْ ** زعيمٌ نحسد الإنسَ الطَّعاما ) وذكر أبو زيدٍ عنهم أن رجلاً منهم تزوج السِّعلاة وأنها كانت عنده زماناً وولدت مِنْه حتَّى رأت ذات ليلةٍ بَرْقاً على بلاد السَّعالي فطارَتْ إليهنّ فقال : ( رأى بَرْقاً فأوْضعَ فوقَ بَكْرٍ ** فلا بكِ ما أسال وما أَغامَا ) فمن هذا النِّتاج المشترك وهذا الخلْقِ المركَّب عندهم بنو السِّعلاة من بين عمرو بن يربوع وبلقيسُ ملكة سبأ وتأوَّلوا قول الشاعر :
( سقط : بيت الشعر ) ( لا هم إن جرهما عبادكا ** الناس طرف وهم
تلادكا ) فزَعموا أن أبا جُرهمٍ من الملائكة الذين كانوا إذا عصوا في
السَّماء أُنزلوا إلى الأرض كما قيل في هاروت وماروت فجعلوا سُهيلاً
عشّاراً مُسِخ نجماً وجعلوا الزُّهرة امرأة بغيّاً مُسِخت نجماً وكان اسمها
أناهيد .
وتقول الهند في الكوكب الذي يسمّى عُطارِدَ شبيهاً بهذا .
المخدومون ويقول الناس : فلانٌ مخدوم يذهبون إلى أنّه إذا عَزَم على
الشَّياطين والأرواح والعُمَّار أجابوه وأطاعوه منهم عبد اللّه بن هلال
الحميريّ الذي كان يقال له صديق إبليس ومنهم كرباش الهنديّ وصالح المديبري .
شروط إجابة العامر للعزيمة وقد كان عبيد مُجّ يقول : إن العامِر حريصٌ على
إجابة العزيمة ولكنّ البدنَ إذا لم يصلُحْ أن يكون له هيكلاً لم يستطعْ
دخوله والحيلةُ في ذلك أن يتبخَّرَ باللبان الذّكر ويراعي سَيْرَ المشتري
ويغتسلَ بالماء القراح ويدعَ الجماعَ وأكلَ الزُّهُومات ويتوحّش في الفيافي
ويُكثر دخول الخراباتِ حتى يرقَّ ويلطف ويصفو ويصير فيه مشابِهُ من الجنّ
فإن عزم عند ذلك فلم يُجب فلا يعودنّ )
لمثلها فإنه ممَّن لا يصلح أن يكون بدنه هيكلاً لها ومتى عاد خُبط فربما جُنّ وربما مات .
قال فلو كنت ممن يصلح أن يكون لهم هيكلا لكنت فوق عبد الله بن هلال .
رؤية الجن
قال الأعراب : وربما نزلنا بجمعٍ كثير ورأينا خياماً وقباباً وناساً ثم فقدناهم من ساعتنا .والعوامّ ترى أنّ ابن مسعود رضي اللّه عنه رأى رجالاً من الزُّطِّ فقال : هؤلاء أشبه من رأيت بالجنّ ليلة الجنّ .
قال : وقد رُوي عنه خلاف ذلك .
وتأوّلوا قوله تعالى : وأنَّه كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرجالٍ مِنَ الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهَقاً ولم يُهلك الناس كالتأويل .
ومما يدلُّ على ما قُلنا قولُ أبي النّجم حيث يقول : بحيثُ تُستنُّ مع الجنّ الغُولُ فأخرج الغول من الجِنّ للذِي بانَتْ به من الجنّ .
وهكذا عادتهم : أن يُخرجوا الشيء من الجملة بعد أنْ دخَلَ ذلك الشيء في الجملة فيظهر لأمر خاصّ .
وفي بعض الرِّواية أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمةٍ
وأن خالد بن الوليد حين هدم العُزَّى رمته بالشّرَر حتى احترق عامّةُ فخذه
حتى عادهُ النبيَ صلى الله عليه وسلم .
وهذه فتنةٌ لم يكن اللّه
تعالى ليمتحنَ بها الأعراب وأشباه الأعراب من العوامّ وما أشك أنه قد كانتْ
للسَّدنة حِيَلٌ وألطاف لمكان التكسُّب .
ولو سمعت أو رأيت بعض ما قد
أعدّ الهِنْدُ من هذه المخاريق في بيوت عباداتهم لعلمت أنّ اللّه تعالى قد
مَنَّ على جملة الناس بالمتكلِّمين الذين قد نشؤوا فيهم .
افتتان بعض النصارى بمصابيح
كنيسة قمامة وقد تَعْرِف ما في عجايز النصارى وأغمارهم من الافتنان بمصابيح كنيسة قمامة فأما علماؤُهم وعقلاؤُهم فليسوا بمتحاشِين من الكذب الصِّرف والجراءةِ على البُهتان البَحْت وقد تعوَّدُوا المكابرة حتى درِبوا بها الدَّرب الذي لا يفطن له إلا ذو الفِراسة الثّابتة والمعرفة الثّاقبة .
إيمان الأعراب بالهواتف
والأعرابُ وأشباهُ الأعراب لا يتحاشَون من الإيمان بالهاتف بل يتعجَّبون ممن ردَّ ذلك فمن ذلك حديث الأعشى بن نبّاش بن زرارة الأسدي أنه سمع هاتفاً يقول : قال : فقلتُ مجيباً له : ( ألا أيُّها الناعي أخا الجود والنّدَى ** مَن المرْءُ تَنْعاهُ لنا من بين فِهْرِ ) فقال : ( نَعيْت ابن جدْعان بن عمروٍ أخا النَّدى ** وذا الحسب القُدْمُوس والحسب القهرِ ) وهذا الباب كثير .
قالوا :
ولنَقل الجنّ الأخبارَ علمَ الناس بوفاةِ الملوك والأمور المهمة كما
تسامعُوا بموت المنصور بالبصرة في اليوم الذي تُوفي فيه بقرب مكة وهذا
الباب أيضاً كثير . ( من له رَئيٌّ من الجن ) وكانوا يقولون : إذا ألف
الجنّي إنساناً وتعطَّف عليه وخبّره ببعض الأخبار وجد حِسّه ورأى خياله
فإذا كان عندهم كذلك قالوا : مع فلان رئَيٌّ من الجن وممن يقولون ذلك فيه
عمرو بن لُحيّ بن قَمَعة والمأمور الحارثي وعتيبة بن الحارث بن شهاب في
ناسٍ معروفين من ذوي الأقدار من بين فارس رئيس وسيِّد مُطاع .
فأما الكهّان : فمثل حارثة جهينة وكاهنة باهلة وعُزّى سلمة ومثل شِقّ
وسَطيح وأما العرّاف وهو دون الكاهن فمثل الأبلق الأسدي والأجلح الزهري
وعروة ابن زيد الأسدي وعرّاف اليمامة رباح بن كَحْلة
وهو صاحب بنت
المستنير البلتعي وقد قال الشاعر : ( فقلت لعراف اليمامة داوِني ** فإنَّك
إنّ أبْرَأتني لَطبِيبُ ) وقال جُبَيهاء الأشجعيّ : ( أقامَ هَوى صفيَّة في
فؤادي ** وقد سيَّرتُ كلَّ هوى حبيبِ ) ( لكِ الخيراتُ كَيْفَ مُنِحتِ
وُدِّي ** وما أنا مِنْ هَواكِ بذي نَصيبِ ) ( أقول وعروةُ الأسديُّ يرقي
** أتاك برُقْيةِ المَلِق الكذوبِ ) ( لَعَمْرُك ما التّثاؤبُ يا ابن زيدٍ
** بشافٍ من رُقاك ولا مُجيبِ ) ( لَسَيْرُ النّاعجات أظنُّ أشفى ** لما بي
منْ طبيب بني الذَّهوبِ )
وليس البابُ الذي يدّعيه هؤلاء من جنس
العيافة والزّجر والخطوط والنّظر في أسرار الكفّ وفي مواضع قرض الفار وفي
الخيلان في الجسد وفي النظر في الأكتاف والقضاء بالنجوم والعلاج بالفكر .
وقد كان مُسيلمة يدّعي أن معه رئيّاً في أوّل زمانه ولذلك قال الشّاعر حين وَصَفَ مخاريقه وخُدَعه :
( سقط : بيت الشعر ) ( ببيضة قارور وراية شادن ** وخلة جني وتوصيل طائر ) ألا تراه ذكر خُلّة الجني .
ظهور الشق للمسافرين
ويقولون : ومن الجنِّ جنسٌ صورةُ الواحدِ منهم على نصف صورة الإنسان واسمه شٍ قّ وإنّه كثيراً ما يعرض للرّجُل المسافر إذا كان وحْدَه فرَّبما أهلَكه فزعاً وربما أهلَكه ضرباً وقتلاً .قالوا : فمن ذلك حديثُ علقمة بن صفْوان بن أميَّة بن محرِّث الكناني جدّ مروان بن الحكم خرج في الجاهلية وهو يريد مالاً له بمكة وهو على حمار وعليه إزارٌ ورداء ومعه مِقْرعة في ليلةٍ إضْحِيانة حتى انتهى إلى موضعٍ يقال له حائط حزمان فإذا هو بشقّ له يدٌ ورجل وعينٌ ومعه سيف وهو يقول : ( عَلْقمُ إني مقتولْ ** وإن لحمي مأكولْ )
( أضْربُهُمْ بالهذْلولْ ** ضربَ غلامٍ شُملولْ )
رحبِ الذَّراع بُهلولْ فقال علقمة : ( يا شِقَّها مالي ولك ** اغمِدَ عنِّي
مُنْصُلك ) فقال شِقّ : ( عَبيت لك عَبيتُ لك ** كيما أُتِيحَ مَقْتلك )
فاصبر لما قَدْ حُمَّ لَكْ قال : فضرب كلُّ واحدٍ منهما صاحبه فخرَّا
ميِّتين فممَّن قتلت الجنّ علقمةُ ابن صفوان هذا وحَرْب بن أميّة .
قالوا : وقالت الجنّ : ( وقَبْرُ حَرْبٍ بمكانٍ قفر ** وليس قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُِ )
قالوا : ومن الدَّليل على ذلك وعلى أنَّ هذين البيتين من أشعار الجن أن
أحداً لا يستطيع أن ينشدَهما ثلاث مراتٍ متصلة لا يَتتَعْتع فيها وهو
يستطيع أن يُنشد أثْقل شعر في الأرض وأشقَّه عشْر مرّات ولا يَتَعْتَعُ . (
ذكر من قتلته الجنّ أو استهوته ) قال : وقتلت مِرْداسَ بن أبي عامر أبا
عبّاس بن مرداسٍ وقتلت الغريضَ خنْقاً بعد أن غنَّى بالغناء الذي كانوا
نهَوه عنه وقتلت الجنُّ سعد بن عُبادة بن دُلَيم وسمعوا الهاتف يقول :
( سقط : بيت الشعر ) ( قد قتلنا سيد الخز ** ج سعد بن عباده ) ( رَمَيْناه
بِسَهمين ** فَلَمْ نُخْطِ فُؤادَهُ ) واستهوَوا سِنانَ بن أبي حارثة
ليستفحلوه فمات فيهم واستهووا طالب بن أبي طالب فلم يوجد له أثرٌ إلى يومنا
هذا .
واستهووا عَمرو بن عَدِيٍّ اللَّخميّ الملك الذي يقال فيه :
شَبّ عَمْرٌ و عن الطّوق ثمَّ ردُّوه على خاله جذيمة الأبرش بعد سنين وسنين
.
واستهوَوا عمارة بن الوليد بن المغيرة ونفخوا في إحليله فصار مع الوحش .
ويروون عن عبد اللّه بن فائد بإسنادٍ له يرفعه أنّ النبي صلى الله عليه
وسلم قال : خرافة رَجُل من عُذْرةَ استهوتْه الشّياطين وأنّه تحدَّث يوماً
بحديثٍ فقالت امرأةٌ من نسائه : هذا من حديث خُرافة قال : لا وخُرافةُ حقٌّ
.
طعام الجن
ورووا عن عُمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنّه سأل المفقود الذي استهوته الجن : ما كان طعامهم قال : الفول قال : فما كان شرابهم قال : الجدف .
ورووا أن طعامهم الرِّمة وما لم يذكر اسمُ اللّه عليه .
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح أنه قال : خَمِّروا
آنيتكم وأوكئوا أسقيتكم وأجيفُوا الأبواب وأطفئوا المصابيح واكفُفُوا
صِبيانكم فإن للشّياطين انتشاراً وخَطْفة
رؤوس الشياطين
وقد قال الناس في قوله تعالى : إنّها شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجحيمِ طلْعُها كأَنَّهُ رُؤُوس الشَّياطِين فزعم ناس أنّ رؤوس الشياطين ثمر شجرةٍ تكون ببلاد اليمن لها منظر كرِيه .والمتكلّمون لا يعرفون هذا التَّفسير وقالوا : ما عنى إلاّ رؤُوس
الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فَسَقة الجن ومَرَدتهم فقال أهل الطَّعن
والخلاف : كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نرَه فنتوهَّمه ولا وُصِفت لنا
صورته في كتابٍ ناطق أو خبر صادق ومخرج الكلام يدلُّ على التخويف بتلك
الصُّورة والتفزيع منها وعلى أنّه لو كان شيءٌ أبلغَ في الزَّجر من ذلك
لذكَرَه فكيف يكون الشَّأن كذلك والناس لا يفزعون إلاّ من شيء هائل شنيعٍ
قد عاينوه أو صوّره لهم واصفٌ صدوقُ اللسان بليغٌ في الوصف ونحن لم نعاينها
ولا صوَّرها لنا صادق وعلى أنَّ أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايشْ
أهل الكتابين وحَمَلَة القرآن من المسلمين ولم تسمع الاختلاف لا يتوهَّمون
ذلك ولا يقفون عليه ولا يفزعون منه فكيف يكون ذلك وعيداً عاماً .
قلنا : وإن كنّا نحن لم نر شيطاناً قطّ ولا صوّر رؤوسها لنا
صادقٌ بيده ففي إجماعهم على ضرْب المثل بقُبح الشيطان حتَّى صاروا يضعُون
ذلك في مكانين : أحدهما أن يقولوا : لهو أقبح من الشيطان والوجه الآخر أن
يسمَّى الجميلُ شيطاناً على جهة التطيُّر له كما تُسمَّى الفرسُ الكريمةُ
شَوهاء والمرأة الجميلة صَمّاء وقرناء وخَنْساء وجرباء وأشباه ذلك على جهة
التطيُّر له ففي إجماع المسلمين والعرب وكلِّ من لقيناهُ على ضرْب المثل
بقُبْح الشيطان دليلُ على أنه في الحقيقة أقبحُ من كل قبيح .
والكتابُ إنَّما نزل على هؤلاء الذين قد ثبّت في طبائعهم بغاية التثبيت .
وكما يقولون : لهو أقبحُ من السحر فكذلك يقولون كما قال عمر بن عبد العزيز لبعض من )
أحسنَ الكلام في طلب حاجته هذا واللّه السِّحر الحلال .
وكذلك أيضاً ربّما قالوا : ما فلانٌ إلا شيطان على معنى الشَّهامة والنَّفاذ وأشباه ذلك .
صفة الغول والشيطان والعامّة تزعم أنَّ الغول تتصوَّر في أحسن صورة إلا أنه لا بدَّ أن تكون رِجْلُها رجلَ حمارٍ .
وخبَّروا عن الخليل بن أحمد أنّ أعرابيّاً أنشده : ( وحافر العَير في ساقٍ
خَدَلَّجةٍ ** وجفنِ عينٍ خلاف الإنسِ في الطولِ ) وذكروا أنّ العامَّة
تزعم أنّ شقَّ عين الشيطان بالطول وما أظنُّهم أخذوا هذين المعنين إلاّ عن
الأعراب .
ردّ على أهل الطعن في الكتاب وأما إخبارهم عن هذه الأمم وعن
جهلها بهذا الإجماع والاتِّفاق والإطباق فما القول في ذلك إلاّ كالقول في
الزَّبانِية وخزنةِ جهنَّم وصُورِ الملائكة الذين يتصوّرون في أقبح الصُّور
إذا حضروا لقبْض أرواحِ الكفار وكذلك في صور مُنكر ونكير تكون للمؤمن على
مثال وللكافر على مثال .
ونحن نعلم أنّ الكفار يزعمون أنهم لا
يتوهّمون الكلامَ والمحاجَّةَ من إنسان ألقي في جاحِم أتُّون فكيف بأن
يُلَقى في نار جهنّم فالحجّة على جميع هؤلاء في جميع هذه الأبواب من جهةٍ
واحدة وهذا الجوابُ قريبٌ والحمد للّه .
وشقُّ فم العنكبوت بالطول وله ثماني أرجل .
سكنى الجن أرض وبار
ِ ) وتزعم الأعرابُ أن اللّه عزّ ذكره حين أهلك الأُمة التي كانت تسمَّى وبارِ كما أهلك طسْماً وجَدِيساً وأميماً وجاسماً وعملاقاً وثموداً وعاداً أنَّ الجنّ سكنت في منازلها وحمتها من كلِّ مَنْ أرادها وأنّها أخصبُ بلاد اللّه وأكثرها شجراً وأطيبُها ثمراً وأكثرها حبّاً وعنباً وأكثرها نخلاً وموزاً فإن دنا اليومَ إنسانٌ من تلك البلاد متعمِّداً أو غالطاً حَثوا في وجهه التراب فإن أبى الرُّجوعَ خبلوه وربّما قَتلوه .
والموضع نفسه
باطل فإذا قيل لهم : دُلُّونا على جهته ووقِّفونا على حدِّه وخلاكُم ذمٌّ
زعموا أنّ من أراد أُلقي على قلبه الصَّرْفة حتَّى كأنهم أصحابُ موسى في
التِّيه وقال الشاعر : ( وداعٍ دعا واللَّيلُ مرخٍ سُدوله ** رجاءَ القِرى
يا مُسْلِمَ بن حمارِ ) ( دعا جُعَلاً لا يهتدِي لمقيله ** من اللؤم حتّى
يهْتدي لوَبَارِ ) فهذا الشاعرُ الأعرابيُّ جعل أرض وبارِ مثلاً في الضلال
والأعراب يتحدّثون عنها كما يتحدّثون عمّا يجدونه بالدَّوِّ والصَّمّان
والدهناء ورمل يبرين وما أكثر ما يذكرون أرض وبارِ في الشِّعر على معنى هذا
الشاعر .
قالوا : فليس اليومَ في تلك البلاد إلاَّ الجنُّ والإبلُ الحُوشيَّة .
الحوشية من الإبل والحوشُ من الإبل عندهم هي التي ضربتْ فيها فحولُ إبل الجن فالحوشِيَّة من نَسْل إبل الجن
جَرَّت رَحانا من بلاد الحوشِ وقال ابن هريم : ( كأنّي على حُوشيَّةٍ أو نَعامةٍ ** لها نَسبٌ في الطَّيرِ وهو ظليمُ ) وإنما سمَّوا صاحبة يزيد بن الطَّثرية حُوشيّة على هذا المعنى . ( التحصُّن من الجنّ ) وقال بعضُ أصحاب التفسير في قوله تعالى : وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ من الإنسِ يَعُوذونَ بِرِجالٍ من الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهقاً : إنَّ جماعة من العرب كانوا إذا صاروا في تيه من الأرض وتوسَّطوا بلاد الحُوش خافوا عبث الجنَّانِ والسَّعالي والغيلان والشياطين فيقوم أحدهم فيرفع صوته : إنا عائذرن بسيِّد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحدٌ وتصير لهم بذلك خفارة .
أثر عشق الجن في الصرع
وهم يزعمون أن المجنون إذا صرعَتْه الجنّيّةُ وأنّ المجنونةَ إذا صرعها الجنيّ أنّ ذلك إنما هو على طريق العشْق والهوى وشهوة النِّكاح وأن
الشيطان يعشق المرأة منّا وأنَّ نظْرته إليها من طريق العُجب بها أشدُّ
عليها من حُمّى أيام وأنّ عين الجانّ أشدُّ من عين الإنسان .
قال :
وسمع عمرو بن عُبيد رضي اللّه عنه ناساً من المتكلّمين يُنْكِرون صَرْع
الإنسان للإنسان واستهواء الجنّ للإنس فقال وما ينكرون من ذلك وقد سمعوا
قول اللّه عزّ ذكره في أكَلة الرِّبا وما يصيبهم يوم القيامة حيث قال :
الَّذينَ يأْكُلُونَ الرِّبا لا يقومُون إلاّ كما يَقُومُ الَّذي
يَتَخبَّطهُ الشَّيْطانُ منَ المَسِّ ولو كان الشَّيطانُ لم يَخْبِطْ أحداً
لما ذكر اللّه تعالى به أكلة الرّبا فقيل له : ولعلّ ذلك كان مرّةً فذهب
قال : ولعله قد كثر فازداد أضعافاً قال : وما يُنكرون من الاستهواء بعد
قوله تعالى : كالَّذي استهْوَتْهُ الشّياطينُ في الأرض حَيْرانَ .
زعم
العرب أن الطاعون طعن من الشيطان قال : والعرب تزعم أن الطاعون طعنٌ من
الشيطان ويسمُّون الطَّاعون رماح الجنّ قال الأسديُّ للحارث الملك الغسّاني
:
( لَعَمْركَ ما خَشيتُ على أُبيٍّ ** رِماحَ بني مُقيِّدة
الحمارِ ) ( ولكني خَشيت على أُبيٍّ ** رِماحِ الجنِّ أو إياكَ حارِ ) يقول
: لم أكن أخاف على أُبيّ مع منعته وصرامته أن يقتله الأنذال ومن يرتبط
العير دونَ الفَرس ولكني إنما كنت أخافك عليه فتكونُ أنت الذي تطعَنه أو
يطعَنه طاعونُ الشّام .
وقال العُمانيّ يذكر دولة بني العبّاس : وقال
زيد بن جُندب الإياديّ : ( ولولا رِماحُ الجنِّ ما كان هزهم ** رِماح
الأعادي من فصيح وأعجم )
ذهب إلى قول أبي دؤاد : ( سُلِّط الموتُ والمنونُ عليهم ** فلهم في صَدى المقابر هامُ ) يعني الطاعون الذي كان أصاب إياداً .
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ذكر الطَّاعون فقال : هو
وَخْزٌ من عَدُوِّكم : وأنَّ عَمْرو بن العاص قام في النّاس في طاعون
عَمَواس فقال : إنّ هذا الطاعون قد ظهر وإنما هو وخْزٌ من الشَّيطان
ففِرُّوا منه في هذه الشِّعاب .
وبلغ مُعاذ بن جبَلٍ فأنكر ذلك القول
عليه . ( تصور الجنّ والغيلان والملائكة والناس ) وتزعم العامَّة أنّ
اللّه تعالى قد مَلّك الجن والشياطين والعُمَّار والغيلانَ أنْ يتحوّلوا في
أيِّ صورة شاؤوا إلاّ الغول فإنّها تتحوَّل في جميع صُورة المرأة ولباسها
إلاّ رجليها فلا بُدَّ من أن تكون رجليْ حمار .
وإنما قاسُوا
تصوُّر الجن على تصوُّر جبريل عليه السلام في صورة دَحْية بن خليفة الكلبي
وعلى تصوُّر الملائكة الذين أتوا مريم وإبراهيم ولوطاً وداود عليهم السلام
في صورة الآدميِّين وعلى ما جاء في الأثر من تصوُّر إبليس في صورة سُراقة
بن مالك بن جعْشم وعلى تصوّره في صورة الشيخ النجدي وقاسوه على تصوُّر
مَلَكَ الموت إذا حضر لقبض أرواح بني آدم فإنه عند ذلك يتصوّر على قدر
الأعمال الصالحة والطالحة .
قالوا : وقد جاء في الخبر أنّ من الملائكة من هو في صورة الرِّجال ومنهم من هو في صورة الثِّيران ومنهم من هو في صورة النسور ويدلُّ
على ذلك تصديقُ النبي صلى الله عليه وسلم لأميّة بن أبي الصّلت حين أُنشِد
: ( رَجُلٌ وثَوْرٌ تحت رِجْلِ يمينه ** والنَّسْر للأُخرى ولَيْثٌ
مُرْصدُ ) قالوا : فإذ قد استقام أن تختلف صُورهم وأخلاط أبدانهم وتتفق
عقولهم وبيانهم واستطاعتهم جاز أيضاً أن يكون إبليس والشّيطان والغول أن
يتبدلوا في الصُّور من غير أنْ يتبدلوا في العقل والبيان والاستطاعة .
قالو : وقد حوَّل اللّه تعالى جعفر بن أبي طالب طائراً حتى سماه المسلمون
الطّيّار ولم يخرجْه ذلك من أن نراه غداً في الجنة وله مثلُ عقل أخيه علي
رضي اللّه عنهما ومثل عقل عمه حمزة )
أحاديث في إثبات الشيطان
قالوا : وقد جاء في الأثر النهي عن الصّلاة في أعطان الإبل لأنّها خلقت من أعنان الشياطين .وجاء أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهى عن الصَّلاة عند طلوع الشَّمس حتى طلوعها فإنّها بين قرني شيطان .
وجاء أنَّ الشياطين تُغلّ في رمضان .
فكيف تنكر ذلك مع قوله تعالى في القرآن : والشَّياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاص وآخَرينَ مُقَرَّنينَ في الأصفادِ .
ولشهرة ذلك في العرب في بقايا ما ثبتوا عليه من دين إبراهيم عليه السّلام قال النابغة الذبياني : ( إلا سُلَيمانَ إذْ قال الإلهُ لَهُ ** قُم في البَرِيَّةِ فاحْددْها عن الفَنَد ) ( وخيِّس الجِنَّ إنِّي قدْ أذِنتُ لَهُمْ ** يَبْنُون تَدْمُر بالصُّفَّاح والعمدِ ) ( فمنْ عصاك فعاقِبْهُ مُعاقبةً ** تنهى الظّلوم ولا تقْعد على ضمدِ ) وجاء في قتل الأسود البهيم من الكلاب وفي ذي النُّكْتتين
وفي الحية ذات الطُّفْيتين وفي الجانّ .
وجاء : لا تشربوا من ثُلمة الإناء فإنَّه كِفْل الشَّيطان وفي العاقد
شَعره في الصلاة : إنَّه كِفْل الشيطان وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
تراصُّوا بينكم في الصلاة لا تتخللكم الشّياطين كأنّها بنات حذف وأنَّه
نهى عن ذبائح الجن .
ورووا : أن امرأة أتتْ إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقالت : إنّ ابني هذا به جنونٌ يصيبه عند الغداء والعَشَاء قال : فمسح
النبيُّ صلى الله عليه وسلم صدْرَه فثعَّ ثعة فخرج من جوفه جروٌ أسود يسعى
.
قالوا : وقد قضى ابن عُلاثة القاضي بين الجنّ في دم كان بينهم بحكمٍ أقنعهم .
رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة
البهّراني : أما قوله : ( وتزوّجْتُ في الشبيبة غولاً ** بغزال وصَدْقتي
زِقُّ خمرِ ) فزعم أنه جعل صداقها غزالاً وزِقَّ خمر فالخمر لطيب الرائحة
والغزالُ لتجعله مَرْكباً فإنّ الظَّباء من مراكب الجن . )
وأما قوله : ( ثيِّبٌ إن هَوِيتُ ذلك منها ** ومتى شئتُ لم أجِدْ غير بِكرِ )
شياطين الشعراء
وأما قوله : ( بنت عَمْرٍ و وخالها مِسحل الخي ** ر وخالي هُميمُ صاحب عَمْرِو ) فإنهم يزعمون أنّ مع كلِّ فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحلُ على لسانه الشعر فزعم البهراني أنّ هذه الجنّية بنت عمرو صاحب
المخبَّل وأن خالها مِسْحل شيطان الأعشى وذكر أن خاله هُمَيم وهو همّام
وهمّام هو الفرزدق وكان غالبُ بن صعصعة إذا دعا الفرزدق قال : يا هميم .
وأما قوله : صاحب عمرو فكذلك أيضاً يقال إن اسم شيطان الفرزدق عمرو وقد
ذكر الأعشى مِسْحلاً حين هجاه جُهُنَّام فقال : ( دَعَوْتُ خليلي مِسْحلاً
ودعَوا له ** جُهُنّامَ جَدْعاً للهجين المذَمَّمِ ) وذكره الأعشى فقال : (
حباني أخي الجنِّيُّ نفسي فداؤُه ** بأفْيَحَ جَيَّاشِ العَشيّات مِرْجمِ )
وقال أعشى سُليم :
( سقط : بيت الشعر ) ( وما كان جني الفرزدق قدوة ** وما كان فيهم مثل فحلي المخبل ) ( وما في الخوافي مثل عَمْرو وشيخِهِ ** ولا بعدَ عمرو شاعرٌ مثلٌ مِسْحلِ ) وقال الفرزدق في مديح أسد بن عبد اللّه : ( ليُبلغَنّ أبا الأشبال مِدْحتنا ** مَنْ كان بالغُورِ أو مَرْوَيْ خُراسانا ) ( كأنّها الذَّهب العقْيانُ حبّرها ** لسانُ أشْعر خلْقِ اللّه شيطانا ) وقال : ( فلو كنْتَ عنْدي يوم قوٍّ عذرْتني ** بيوم دهتْني جِنُّهُ وأخابلُه ) فمن أجل هذا البيت ومن أجل قول الآخر : ( إذا ما راعَ جارَتهُ فلاقى ** خبالَ اللّه منْ إنس وجِنِّ ) زعموا أنّ الخابل النّاس .
ولما قال بشّار الأعمى : ) ( دعاني شِنِقْناقٌ إلى
خَلْفِ بكرةٍ ** فقلتُ : اتركنِّي فالتفرُّدُ أحمدُ ) يقول : أحمدُ في
الشعر أن لا يكون لي عليه معين فقال أعشى سُليم يردُّ عليه : ( إذا ألِفَ
الجنّيُّ قِرداً مُشَنّفاً ** فقل لخنازير الجزيرةِ أبْشري ) فجزِع بشّارٌ
من ذلك جزعاً شديداً لأنّه كان يعلم مع تغزُّله أنَّ وجهه وجْهُ قردٍ وكان
أوّل ما ( ويا أقبحَ مِن قِرْدٍ ** إذا ما عَمِيَ القِرْدُ ) وأما قوله : (
ولها خِطَّةٌ بأرض وبار ** مسَحُوها فكان لي نصْفُ شطرِ ) فإنما ادّعى
الرُّبع من ميراثها لأنه قال :
( تركتْ عَبْدلاً ثمالَ اليتامى ** وأخوه مزاحم كان بكر ) ( وَضَعَتْ تِسْعةً وكانتْ نَزوراً ** من نِساءٍ في أهْلِها غير نُزْرِ ) وفي أنَّ مع كلِّ شاعر شيطاناً يقول معه قول أبي النجم : ( إني وكلّ شاعر من البَشرْ ** شيطانه أنْثى وشَيطاني ذكر ) وقال آخر : ( إني وإن كنتُ صغير السِّنّ ** وكان في العين نُبُوٌّ عنِّي ) فإنّ شيطاني كبير الجنِّ
كلاب الجن
وأما قول عمرو بن كلثوم : فإنهم يزعمون أنّ كلاب الجنِّ هم الشعراء .أرض الجن
وأما قوله : ( أرض حُوشٍ وجاملٍ عَكَنَانٍ ** وعُروجٍ من المؤبّلِ دَثْر )فأرض الحوش هي أرضُ وَبارِ وقد فسَّرنا تأويل الحوش والعَكَنَان : الكثير الذي لايكون فوقه عدد قوله : عروج جمع عَرْج والعَرْج : ألف من الإبل نقص شَيئاً أوْ زاد شيئاً والمؤبّل من الإبل يقال إبل مؤبَّلة ودراهم مُدَرهمة وبدَر مبدَّرة مثل قوله تعالى : وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَة وأما قوله : دثر فإنهم يقولون : مال دَثر ومالٌ دَبْر ومال حَوْم : إذا كان كثيراً .
استراق السمع
وأما قوله : ( ونَفَوْا عَنْ حريمها كلَّ عِفْر ** يسرقُ السَّمعَ كلَّ ليلةِ بَدْرِ ) فالعِفْر هو العفريت وجعله لا يسرق السمع إلا جهاراً في أضوإ ما يكون البدر من شدَّة معاندته وفرط قوته .وأما قوله : ( في فُتُوٍّ من الشَّنقناق غُرٍّ ** ونِساء من الزَّوابعِ زُهْرِ )
الزوابع : بنو زَوْبعة الجنِّيّ وهم أصحاب الرَّهج والقَتَام والتَّثوير
وَقال راجزهم : ( إنّ الشياطين أَتوْني أربعهْ ** في غَبَش الليل وفيهم
زَوبعه ) فأما شِنِقناق وشَيْصَبان فقد ذكرهما أبو النجم : لابن شنقْناق
وشَيْصَبَانِ فهذان رئيسان ومن آباء القبائل وقد قال شاعرهم : ( إذا ما
ترَعْرَعَ فينا الغلامُ ** فليس يقال له من هُوَهْ ) ( إذا لم يَسُدْ قبل
شدِّ الإزار ** فذلك فينا الذي لا هُوَهْ ) ( ولي صاحبٌ من بني الشَّيصبا
** ن فطوراً أقولُ وطوراً هُوَهْ )
وهذا البيت أيضاً يصلح أن يلحق في
الدَّليل على أنهم يقولون : إن مع كلِّ شاعر شيطاناً ومن ذلك قولُ بشَّار
الأعمى : ( دَعاني شِنِقْناقٌ إلى خَلْف بَكرَةٍ ** فقلت : اترُكَنِّي
فالتَّفَرُّدُ أحَمدُ ) قال : وأصحاب الرُّقى والأُخذ والعزائم والسِّحر
والشَّعبذة
يزعمون أنّ العدد والقوّة في الجنِّ والشياطين لنازلة
الشام والهند وأنَّ عظيم شياطين الهند يقال له : تنكوير وعظيم شياطين الشام
يقال له : دركاذاب .
وقد ذكرهما أبو إسحاق في هجائه محمد بن يَسِير
حين ادّعى هذه الصناعة فقال : ( قد لعمْرى جمعت مِلْ آصفيّا ** تِ ومن سفْر
آدم والجرابِ ) ( وتفردتَ بالطوالق والهي ** كل والرهنباتِ من كلِّ بابِ )
( وعلمتَ الأسماء كيما تُلاقى ** زُحلاً والمريخَ فوق السحابِ ) ( واستثرتَ الأرواح بالبحْر يأت ** ينَ لصرعِ الصحيح بعدَ المصابِ ) ( جامعاً من لطائف الدنهشيَّا ** تِ كبوسا نمقتها في كتابِ ) ( ثمَّ أحكمت متقن الكرويا ** ت وفعل الناريس والنجابِ ) ( ثمَّ لم تعْيك الشعابيذ والخد ** مةُ والاحتفاء بالطلابِ ) ( بالخواتيم والمناديل والسع ** يِ بتنكوير ودركاذابِ ) قتل الغول بضربة واحدة وأما قوله : فإنّ الأعرابَ والعامّة تزعُم أن الغول إذا ضربت ضَربةً ماتت إلاّ أن يُعيد عليها الضّارب قبل أن تقْضي ضربة أخرى فإنّه إن فعل ذلك لم تمُتْ وقال شاعرهم :
( فَثنّيتُ والمِقدارُ يحرُسُ أهلَهُ ** فَلَيْتَ يميني قبل ذلك شلّتِ ) وأنشد لأبي البلاد الطُّهَويّ : ( لهَانَ علَى جهينةً ما أُلاقي ** من الروعاتِ يومَ رحَى بطانِ ) ( لقيتُ الغول تسرِى في ظلامٍ ** بسهبٍ كالعباية صحصحانِ ) ( فقلتُ لها كلانا نقض أرضٍ ** أخُو سفَر فصدِّى عن مَكانى ) ( فصدتْ وانتحيتُ لها بعضبٍ ** حسامٍ غيرِ مؤتشبٍ يمانى ) ( فقدّ سَراتها والبرك منها ** فخرتْ لليدين وللجران ) ( فقالت زدْ فقلتُ رويدَ إنِّى ** على أمثالها ثبتُ الجنانِ ) ( شددتُ عقالها وحططت عنها ** لأنظرَ غدوةً ماذا دهانى ) ( إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ ** كوجْه الهرِّ مشقوق اللسانِ ) ( ورجلا مخدجٍ ولسانُ كلبٍ ** وجلدٌ من فراءِ أو سنانِ )
وأبو البلاد هذا الطهوي كان من شياطين الأعراب وهو كما ترى يكذِب وهو
يَعلَم ويُطيل ( فقالت زِدْ فقلتُ رُوَيْد إنّي ** على أمثالها ثَبْتُ
الجَنانِ ) لأنّهم هكذا يقولون يزعمون أنّ الغول تستزيد بعد الضَّرْبة
الأولى لأنّها تموت من ضربةٍ وتعيشُ من ألْف ضرْبة . ( مناكحة الجنِّ
ومحالفتهم ) وأمّا قوله : ( غلبتني على النَّجابة عرسي ** بعد أنْ طالَ في
النجابة ذكري ) ( وأرى فِيهِمُ شمائِل إنسٍ ** غيرَ أنّ النّجارَ صُورةُ
عِفرِ ) فإنَّه يقول : لما تركّب الولدُ منّي ومنها كان شبهُها فيه أكثر .
وقال عبيد بن أيُّوب : ( أخو قَفراتٍ حَالَفَ الجِنَّ وانتفى ** مِنَ الإنْس حتّى قد تَقَضّتْ وسائلُهْ )
( له نَسَبُ الإنسيّ يُعرَفُ نَجْلُه ** وللجِنِّ منه خَلْقه وشمائلُه )
وقال : ( وصارَ خليلَ الغُول بَعدَ عداوةٍ ** صَفِيّاً وربَّتْه القِفَارُ
البسابسُ ) ( يظلُّ ولا يبدوُ لشيءٍ نهارَه ** ولكنّه ينْباعُ واللّيْلُ
دامِس ) قال : وقال القَعقاع بنُ مَعْبَد بن زُرارة في ابنه عوف بن القعقاع
: واللّه لما أرى من شمائل الجنّ في عوف أكثر ممّا أرَى فيه من شمائل
الإنس .
وقال مَسلمة بن محارب : حدّثني رجلٌ من أصحابنا قال : خرجنا
في سَفرٍ ومعنا رجُلٌ فانتهينا إلى واد فدعَوْنا بالغَدَاء فمدّ رجلٌ يدَه
إلى الطعام فلم يقدر عليه وهو قبْلَ ذلك يأكلُ معَنا في كلِّ منزل فاشتدّ
اغتمامنا لذلك فخرجنا نسأل عن حاله فتلقَّانَا أعرابيٌّ فقال : ما لكم )
فأخبرناه خبَر الرَّجُل فقال : ما اسم صاحبكم قلنا : أسد
قال : هذا وادٍ قد أخِذَتْ سباعه فارحلوا فلو قد جاوزتم الواديَ استمرَى الرَّجُل وأكَل .
مراكب الجن
وأمَّا قوله : ( وبها كنتُ راكباً حشراتٍ ** مُلجِماً قُنفُذاً ومُسْرجَ وَبْر ) ( وأجوبُ البلادَ تحتيَ ظبيٌ ** ضاحكٌ سنُّه كثيرُ التمرِّي ) ( مُولجٌ دُبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ ** وهو باللّيل في العفاريت يَسري ) وأنشد ابنُ الأعرابي لبعض الأعراب : ( كلَّ المطايا قد ركبنا فلم نجد ** ألَذَّ وأشهى مِنْ مذاكي الثَّعالبِ ) ( وَمِنْ عنظوان صعبةٍ شمّرية ** تَخُبُّ برجْليها أمام الرَّكائبِ )( ومنْ جُرَذٍ سُرْح اليدين مفرَّج ** يعوم برَحْلي بين أيدِي المراكب ) ( ومنْ فارةٍ تزداد عِتْقاً وحدّةً ** تبرِّح بالخوصِ العِتاقِ النَّجَائبِ ) ( ومنْ كلِّ فتْلاء الذِّراعَينِ حُرَّة ** مدَرَّبة من عافيات الأرانبِ ) ( ومنْ وَرَل يغتالُ فضْلَ زِمامِهِ ** أضَرَّ به طول السُّرى في السَّباسِبِ ) قال ابنُ الأعرابي : فقلت له : أترى الجن كانت تركبُها فقال : أحلِفُ باللّه لقد كنتُ أجد بالظِّباء التَّوقيعَ في ظهورها والسِّمة في الآذان وأنشد :
( كلّ المطايا قد
ركبنا فلم نجدْ ** ألذَّ وأشْهَى من رُكوب الجَنادِبِ ) ( ومنْ عَضْرفوط
حطَّ بي فأقمتهُ ** يبادِرُ وِرداً من عظاءٍ قواربِ ) ( وشرُّ مطايا الجنِّ
أرْنبُ خُلّةٍ ** وذئبُ الغضا أوقٌ على كلِّ صاحبِ ) ( ولم أر فيها مِثْلَ
قُنفُذ بُرْقةٍ ** يَقُودَ قطاراً منْ عظام العناكبِ ) وقد فسَّرنا قولهم
في الأرانب لم لا تركب وفي أرنب الخَلّة وقنفذ البُرْقة .
وحدثني أبو
نُواس قال : بكرتُ إلى المِربَد ومعي ألواحي أطلبُ أعرابيّاً فصيحاً فإذا
في ظلِّ دار جعفر أعرابيٌّ لم أسمع بشيطان أقبَحَ منه وجهاً ولا بإنسان
أحسنَ منه عقلاً وذلك في يومٍ لم أر كبرده برداً فقلتُ له : هلاَّ قعدت في
الشمس فقال : الخَلْوة أحبُّ إليّ فقلت له
مازحاً : أرأيت القنفذَ إذا امتطاه الْجِنيُّ وعلا به في الهواء هل القنفذ يحمل الجنِّيّ أم الجنّيّ يحمل القنفذ قال : )
هذا من أكاذيب الأعراب وقد قلت في ذلك شعراً قلت فأنشِدْنيه فأنشَدَني بعد
أن كان قال لي : قلت هذا الشعر وقد رأيت ليلة قنفذاً ويربوعاً يلتمسان بعض
الرِّزق : ( فما يُعجبُ الجنَّانَ منك عَدِمتَهم ** وفي الأُسْد أفراسٌ
لهم ونجائبُ ) ( أتُسرِج يربوعً وتُلجِم قُنفذاً ** لقَدْ أعوزَتهُمْ ما
علمْتَ المراكِبُ ) ( فإن كانت الجنّانُ جُنّت فبالحَرى ** ولا ذَنْبَ
للأقدار واللّه غالبُ ) ( وما الناس إلا خادعٌ ومخدَّعٌ ** وصاحبُ إسْهَابٍ
وآخر كاذب ) قال : فقلت له : قد كان ينبغي أن يكون البيت الثالث والرابع
بيت آخر قال : كانت واللّه أربعين بيتاً ولكنَّ الحطمة واللّه حَطمتها قال :
فقلت : فَهلْ قلت في هذا الباب غير هذا قال :
نعم شيءٌ ُ قلتُهُ لزوجتي وهو واللّه عندها أصدقُ شيءٍ قلتُه لها : ( أراه سَميعاً للسِّرارِ كقنفذٍ ** لقد ضاع سِرُّ اللّه يا أمَّ مَعْبدِ )
شعر فيه ذكر الغول
ويكتب مع شعر أبي البلاد الطُّهوي : ( فمن لامَني فيها فَوَاجَه مِثلَها ** على غِرَّةٍ ألقَت عطافاً ومئزرا ) ( لها ساعِدَا غُولٍ ورجلا نعامةٍ ** ورأسٌ كمسْحاة اليهُوديِّ أزعَرَا ) ( وبَطْنٌ كأثناء المزادةِ رَفّعتْ ** جوانبُه أعكانَه وتَكَسَّرا )( وثدْيان كالخُرْجين نيطت عُرَاهُما ** إلى جُؤجُؤٍ جاني الترائب أزْوَرَا ) قال : كان أبو شيطان واسمه إسحاق بن رَزِين أحد بني السِّمط سِمْط جعدة ابن كعب فأتاهم أميرٌ فجعل ينْكُب عليهم جَوراً وجعل آخر من أهل بلده ينقب عليهم : أي يكون عليهم نقيباً . فجعل يقول : ( يا ذا الذي نَكَبَنَا ونَقَبَا ** زَوّجَهُ الرَّحمن غُولاً عقْرَبا ) ( جمّع فيها ماله ولبْلَبا ** لبالب التّيس إذا تَهَبْهبَا ) ( حتَّى إذا ما استطربَتْ واستطرَبَا ** عاينَ أشنا خَلقِ ربّيزرْنبَا ) ذات نواتين وسَلعٍ أُسْقِبَا
يعني فرجها ونواتها . يقول . لم تختن .
جنون الجن وصرعهم
وأما قوله : فإنْ كانت الجِنّان جُنّتْ فبالَحرى فإنهم قد يقولون في مثل هذا وقد قال دَعْلجُ بن الحكم : ( وكيف يفِيق الدهرَ كعبُ بنُ ناشبٍ ** وشيطانه عِندَ الأهلَّة يُصْرَعُ ) شعر فيه ذكر الجنون وأنشدني عبد الرحمن بن منصور الأُسَيْديِّ قبل أن يُجَنَّ : ( جُنونكَ مجنونٌْ ولستَ بواجِدٍ ** طَبيباً يُداوِي منْ جُنونِ جُنونِ ) وأنشدني يومئذ : ( أتَوني بمجْنون يَسِيلُ لُعابُهُ ** وما صاحبي إلا الصَّحيحُ المسَلَّمُ ) وفيما يشبه الأولَ يقولُ ابن ميَّادة :( فلما أتاني ما تقُولُ محاربٌ ** تَغَنَّتْ شياطيني وجُنَّ جُنونُها ) ( وحاكتْ لها ممّا أقول قصائداً ** ترامَتْ بها صُهْبُ المَهارِي وجُونُها ) ( إنّ شَرخَ الشّبابِ والشّعرَ الأَس ** ودَ ما لم يُعاصَ كان جُنونا ) وقال الآخر : ( قالت عَهِدْتُك مجنوناً فقلتُ لها ** إنّ الشّبابَ جُنُونٌ بُرؤُه الكِبَرُ ) وما أحسنَ ما قال الشّاعر حيث يقول : ( فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكمِلت ** فلو جُنَّ إنسانٌ من الحُسْنِ جُنَّتِ )
وما أحسن ما قال الآخر : ( حمراء تامِكةُ السَّنام كأنّها ** جَملٌ بهودج أهلِهِ مظعونُ ) ( جادَتْ بها عند الغداةِ يمين ** كلتا يَدَي عَمْرِو الغَداة يمينُ ) ( ما إن يجودُ بمثلها في مثلها ** إلاّ كريمُ الخِيمِ أو مَجنونُ ) وقال الجميح : ( لو أنّني لم أنَلْ مِنكم مُعاقبةً ** إلاّ السِّنَانَ لذاقَ الموتَ مظعونُ ) ( أُوْ لاختطبتُ فإني قد هَمْمتُ به ** بالسَّيفِ إنّ خطِيبَ السَّيف مجنونُ )
وأنشد : ( هُمُ أَحْمَوا حِمى الوَقَبى بضرْبٍ ** يؤلّفُ بَيْنَ أشتاتِ
المنُون ) وأنشدني جعفر بن سعيد : ( إنَّ الجنونَ سِهامٌ بين أربعةٍ **
الرِّيحُ والبحْرُ والإنسانِ والجَملُِ ) وأنشدني أيضاً : ( احْذَر مغايظَ
أقوامٍ ذوي حَسَبٍ ** إنّ المغيظ جَهُولُ السَّيفِ مجنونُ ) وأنشدني أبو
تمام الطائي : ( منْ كلِّ أصلَعَ قد مالَت عمامتُه ** كأَنّه من حِذار
الضَّيمِ مجنونُ ) وقال القطاميّ : ( يَتْبَعْنَ سَامِيةَ العَينين
تَحْسَبُها ** مجنُونةً أو تُرَى ما لا تُرَى الإبلُ )
وقال في المعني الأوَّل الزَّفَيانُ العُوافيّ : ( أنا العُوافيُّ فمنْ عاداني ** أذقتُه بوادِرَ الهوان ) حتّى تَرَاهُ مُطرِقَ الشّيطانِ وقال مروانُ بن محمد :
( وإذا تجنّنَ شاعرٌ أو مُفْحَمٌ ** أسعطْتُه بمرارة
الشيطانِ ) وقال ابن مُقبِل : وقد صغَر الدُّهيَم ليس على التحقير ولكن هذا
مثل قولهم : دبَّت إليهم دويهيَة الدهر .
أحاديث الفلاة وَقال أبو
إسحاق : وأما قول ذي الرُّمَّة : ( إذا حَثَّهُنََّ الرَّكبُ في
مُدْلهِمَّة ** أحاديثُها مثلُ اصطخاب الضّرائر ) قال أبو إسحاق : يكون في
النَّهار ساعاتٌ ترى الشّخص الصَّغيرَ في تلك المهامهِ عظيماً ويُوجَد
الصَّوت الخافضُ رفيعاً ويُسمع الصَّوتُ الذي ليس بالرَّفيع مع انبساط
الشّمس غدوة من المكان البعيد ويُوجَد لأوساط الفَيافي والقِفار والرِّمال
والحرار في أنصاف النّهار مثلُ الدَّويّ من طبع ذلك الوقت وذلك المكان عند
ما يعرض له ولذلك قال ذو الرُّمَّة : ( إذا قال حادينا لتَشْبيهِ نَبأةٍ **
صَهٍ لم يكنْ إلا دويُّ المسامع )
قالوا : وبالدَّويّ سمِّيت دوِّيّة وداوية وبه سمِّي الدوّ دَوّاً .
تعليل ما يتخيله الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان
وكان أبو إسحاق يقول في الذي تذكر الأعرابُ من عزيف الجنان
وتغوُّل الغيلان : أصلُ هذا الأمر وابتداؤه أنّ القوم لما نزلوا بلاد
الوحش عملتْ فيهم الوَحْشة ومن انفردَ وطال مُقامُه في والوَحدةُ لاتقطع
أيامهم إلا بالمُنى أو بالتفكير والفكرُ ربما كان من أسباب الوَسوَسة وقد
ابتلى بذلك غيرُ حاسب كأبي يس ومُثَنًّّى ولد القُنافر .
وخبَّرني الأعمش أنه فكّر في مسألة فأنكر أهله عقله حتّى حَمَوه وداووه .
وقد عرض ذلك لكثير من الهند .
وإذا استوحشَ الإنسانُ تمثّل له الشّيء الصغيرُ في صورة الكبير وارتاب
وتفرَّق ذهُنه وانتقضت أخلاطُه فرأى ما لا يُرى وسمع ما لا يُسمع وتوهم على
الشيء اليسير الحقير أنه عظيمٌ جليل .
ثمَّ جعلوا ما تصوَّر لهم من
ذلك شعرا تناشدوه وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ
ورُبّي به الطِّفل فصار أحدهم حين يتوسَّط الفيافيَ وتشتملُ عليه الغيظان
في اللَّيالي الحنادس فعند أوَّل وحْشةٍ وفزْعة وعند صياح بُوم ومجاوبة
صدًى وقد رأى كلَّ باطل وتوهَّم كلَّ زُور وربما كان في أصل الخلْق
والطبيعة كذّاباً نفّاجاً وصاحبَ تشنيعٍ وتهويل فيقولُ في ذلك من الشِّعر
على حسب هذه الصِّفة فعند ذلك يقول : رأيتُ الغيلان وكلّمت السِّعلاة
ثمَّ يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول قتلتها ثم يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول :
رافَقتها ثمَّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول : تزوَّجتها . ( فللّه دَرُّ الغُولِ
أيُّ رَفيقةٍ ** لصاحبِ قفْرٍ خائفٍ متقتّرِ ) وقال : ( أهذا خَليلُ
الغولِ والذئبِ والذي ** يهيمُ بَرَبَّاتِ الحِجالِ الهَرَاكِلِ ) وقال : (
أَخُو قَفَرَاتٍ حالَفَ الجِنّ وانتَفَى ** من الإنْسِ حتَّى قد تقضّت
وسائله ) ( له نسَبُ الإنْسيِّ يُعْرَفُ نجله ** وللجنِّ منهُ خَلْقُه
وشمائله ) وممّا زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومدَّ لهم فيه أنهم ليس
يلقون بهذه الأشعار وبهذه )
الأخبار إلا أعرابيّاً مثلهم وإلا
عَامِّيّاً لم يأخُذْ نفسه قط بتمييز ما يستوجب التّكذيب والتّصديق أو
الشّكّ ولم يسلُك سبيلَ التوقف والتثبّت في هذه الأجناس قطّ وإمَّا أن
يَلقَوْا رَاوِيَة شعر
أو صاحب خبَر فالرّاوية كلّما كان الأعرابيُّ أكذبَ في شعره كان أطْرَف عِنْده وصارت روايتُه أغلبَ ومضاحيكُ حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدّعي رؤية الغُول أو قتلها أو مرافقتها أو تزويجها وآخر يزعم أنّه رافقَ في مفازةٍ نمراً فكان يطاعمه ويؤاكله فمن هؤلاء خاصّة القَتّال الكِلابي فإنّه الذي يقول : ( أيرسِلُ مَرْوانُ الأميرُ رسالة ** لآتيه إني إذاً لَمَصلَّلُ ) ( سقط : بيت الشعر ) ( وما بي عصيان ولا بعد منزل ** ولكنني من خوف مروان أوجل )
( وفي باحة العَنْقاء أو في عَمايةٍ ** أو الأُدَمِى من رَهْبةِ الموتِ مَوْئلُ ) ( ولي صاحبٌ في الغارِ هَدَّكَ صاحباً ** هو الجَون إلاّ أنه لا يعلّل ) ( إذا ما التقَينا كان جُلّ حديثنا ** صُماتٌ وطرْفٌ كالمعَابلِ أطْحَلُ ) ( تَضَمَّنَتِ الأرْوَى لنا بطعامِنا ** كِلانا له منها نَصيبُ ومأكلُ ) ( فأغلِبُه في صَنْعة الزّادِ إنّني ** أُميطُ الأذى عنه ولا يتأمَّلُ )
( وكانتْ
لنا قَلتٌ بأرض مَضَلَّةٍ ** شريعتُنا لأيّنا جاءَ أوَّلُ ) ( كلانا عدُوٌّ
لو يرى في عدُوِّه ** مَحزّاً وكلٌّ في العداوة مُجْمِلُ ) وأنشد الأصمعيّ
: ( ظللْنَا معاً جارَينْ نحترسُ الثَّأى ** يُسائرُني من نُطفةٍ
وأسائرُهْ ) ذكر سبعاً ورجُلاً قد ترافقا فصار كلُّ واحدٍ منهما يدَعُ
فضْلاً من سُؤره ليشرَبَ صاحبه الثَّأى : الفساد وخبّر أنّ كلّ واحد منهما
يحترس من صاحبه .
وقد يستقيمُ أن يكونَ شعر النابغة في الحية وفي
القتيلِ صاحب القَبْر وفي أخيه المصالح للحيةِ أن يكون إنما جعل ذلك مثلاً
وقد أثبتناهُ في باب الحيات فلذلك كرهنا إعادَته في هذا الموضع فأما جميع
ما ذكرناه عنهم فإنما يخبرون عنه من جهة المعاينَة والتّحقيق وإنما المثل
في هذا مثل
( قد كان شيطانك منْ خطّابها ** وكان شيطاني منْ
طُلاَّبِها ) حيناً فلمّا اعتَركا ألْوى بها الاشتباه في الأصوات والإنسان
يجوع فيسمع في أذنه مثل الدويّ وقال الشاعر : ) ( دويُّ الفَيَافي رَابه
فكأنّه ** أَميمٌ وسارِي اللَّيلِ للضُّرِّ مُعْوِرُ ) مُعْوِر : أي
مُصْحِر .
وربما قال الغلام لمولاه : أدعوتني فيقول له : لا وإنما اعترى مسامعه ذلك لعرضٍ لا أنَّه سمعَ صوتاً .
ومن هذا الباب قول تأبَّط شراً أو قول قائل فيه في كلمة له :
( يَظَلُّ بمَوّْماةٍ ويُمسي بقَفرَةٍ ** جَحِيشاً ويَعرَوْرِي ظهورَ المهالِكِ ) ( ويَسْبِقُ وقدَ الرِّيح من حَيث ينْتحي ** بمنخَرِقٍ من شَدِّهِ المتدارِكِ ) ( إذا خاطَ عَينَيه كَرى النَّوم لم يزَلْ ** له كالئٌ من قَلبِ شَيْحانَ فاتكِ ) ( ويجعلُ عينيه رَبيئةَ قلبهِ ** إلى سلَّةٍ من حَدِّ أخْضَر باتكِ ) ( إذا هزَّه في عَظم قِرْنٍ تهلَّلتْ ** نواجذُ أفواهِ المنايا الضّواحكِ ) نزول العرب بلاد الوحش والحشرات والسباع ويدلُّ على ما قال أبو إسحاق من نزولهم في بلاد الوحْش
وبينَ الحشَراتِ والسِّباع ما رواه لنا أبو مُسْهرٍ عن أعرابيٍّ من بني تميم نزل ناحية الشَّام فكان لا يَعْدِمُهُ في كلِّ ليلة أن يعضَّه أو يَعضَّ ولدَه أو بعضَ حاشيته سبعٌ من السباع أو دابّة من دوابّ الأرض فقال : ( تعاوَرَني دَينٌ وذُلٌّ وغُربةٌ ** ومَزّقَ جلدي نابُ سبْع ومِخْلبُ ) ( وفي الأرض أحناشٌ وسَبْع وحاربٌ ** ونحن أُسارَى وَسْطَهَا نتقلبُ ) ( رُتَيْلا وطَبُّوعٌ وشِبْثَان ظُلْمةٍ ** وأرقطُ حُرْقُوصٌ وضَمْجٌ وعَقْربُ ) ( ونمل كأشخاصِ الخنافس قُطَّبٌ ** وأرْسالُ جعلانٍ وهَزْلى تَسَرَّبُ ) ( وعُثٌّ وحُفّاثٌ وضَبٌّ وعِربِدٌ ** وذرٌ ّ ودَحّاس وفَارٌ وعقربُ ) ( وهرٌّ وظِرْبانٌ وسِمْعٌ ودَوْبَلٌ ** وثُرْمُلةٌ تجرِي وسِيدٌ وثعلبُ )
( ونمر وفَهْدٌ ثم ضبعٌ وجَيألٌ ** وليثٌ يجُوس الألف لا يتهيّبُ ) ( ولم
أرَ آوى حيث أسمعُ ذِكرَه ** ولا الدُّبَّ إنّ الدُّبَّ لا يتنسَّبُ ) فأما
الرُّتَيلا والطَّبُّوع والشَّبَث والحُرقوص والضّمجُ والعنكبوت
والخنفُساء والجُعَل والعُثّ والحُفَّاث والدّحّاس والظّرِبان والذِّئب
والثَّعلب والنمر والفَهْد والضّبع والأسد فسنقول في ذلك إذا صرنا إلى ذكر
هذه الأبواب وقبل ذلك عند ذِكر الحشرات فأما الضّبُّ والورَل )
والعقرب والجُعل والخنفساء والسِّمْع فقد ذكرنا ذلك في أوّل الكتاب وأما قوله : وهَزْلى تسرب فالهزْلى هي الحيات كما قال جَرير :
مَزَاحف هزْلَى بينها متباعدُ وكما قال الآخر : ( كأنَّ مَزَاحِفَ
الهَزْلى عليها ** خدودُ رصائعٍ جُدِلَتْ تُؤَامَا ) وأما قوله : ولم أر
آوَى حيثُ أسمع ذِكرَه فإنّ ابنَ آوى لا ينزِلُ القفار وإنّما يكونُ حيث
يكونُ الريف .
وينبغي أن يكونَ حيث قال هذا الشّعر توهَّم أنّه ببياض نجد .
وأمَّا قوله : ولا الدبَّ إنَّ الدبَّ لا يتنسَّبُ فإنّ الدبَّ عندهم عجميٌّ والعجميُّ لا يقيم نسبَه .
وروَوْا في المُلَح أنّ فتًى قال لجارية له أو لصديقةٍ له : ليس في الأرض
أحسنُ منِّي : ولا أملحُ منِّي فصار عندها كذلك فبينا هو عِندها على
هذه الصّفة إذ قرع عليها الباب إنسانٌ يريدهُ فاطَّلعت عليه من خرق الباب
فرأت فتًى أحسنَ النّاس وأملحَهم وأنَبلهم وأتمّهم فلمَّا عاد صاحبُها إلى
المنزل قالت له : أَوَ ما أخبرَتني أنَّك أملحُ الخلْقِ وأحسنُهم قال : بلى
وكذلك أنا فقالت : فقد أرادك اليومَ فلانٌ ورأَيتُه من خَرق البابِ
فرأيتُه أحسنَ منك وأملَح قال : لَعْمري إنَّه لَحَسنٌ مَليح ولكنَّ له
جنِّى ّة تصرعه في كلِّ شهرٍ مرَّتين وهو يريدُ بذلك أن يسقطه من عينها
قالت : أوَ ما تصرعه في الشّهر إلاّ مرتين أمَا واللّه لو أنِّي جنّيَّة
لصرعْته في اليوم ألفين .
وهذا يدلُ على أنّ صرْع الشّيطان للإنسان ليس هو عند العوامِّ إلاّ على جهة ما يعرفون من الجِماع .
ومن هذا الضَّرب من الحديث ما حدَّثنا به المازنيُّ قال : ابتاع فتًى
صَلِفٌ بَذَّاخ جاريةً حسناءَ بديعةً ظريفة فلمّا وقع عليها قال لها مراراً
ويلَكِ ما أوسَعَ حِرَك فلمّا أكثَرَ عليها قالت : أنت الفداءُ لمن كان
يملَؤُه .
فقد سمع هذا كما ترى من المكروه مثلَ ما سِمع الأوّل . )
وزعموا أنّ رجلاً نظر إلى امرأَةٍ حسْناء ظريفةٍ فالحّ عليها فقالت : ما تنظر قُرَّة عينك
وزعم أبو الحسن المدائني أن رجلاً تبع جاريةً لقوم فراوغَتْه فلم ينقطع
عنها فحثّتْ في المشي فلم ينقطع عنها فلمّا جازَتْ بمجلس قومٍ قالت : يا
هؤلاء لي طريقٌ ولهذا طريق ومولاي ينيكني فسَلوا هذا ما يريدُ مني وزَعَمَ
أيضاً أن سياراً البرقيّ قال : مرّت بنا جاريةٌ فرأينا فيها الكِبْرَ
والتجبُّر فقال بعضنا : ينبغي أن يكون مولى هذه الجارية ينيكها قالت : كما
يكون .
فلم أسمع بكلمة عامّية أشَنََعَ ولا أدلّ على ما أرادت ولا أقصَر من كلمتها هذه .
وقد قال جحشويهِ في شعر شبيهاً بهذا القول حيث يقول : ( تواعدُني لتنكِحني
ثلاثاً ** ولكن يا مَشُوم بأيِّ أيْرِ ) فلو خُطِبَتْ في صفة أيرٍ خُطبةٌ
أطولُ من خطبة قيس بن خارجة بن سنان في شأن الحمالة لما بلغ مبلغَ قول
جحشويه : ولكن يا مَشُوم بأيِّ أير وقول الخادم : كما يكون .
وزعموا أن فتًى جلس إلى أعرابيّة وعلمت أنّه إنما جلس لينظر إلى محاسن
ابنتها فضربت بيدها على جنبها ثم قالت : ( عَلَنْداة يئطُّ الأيرُ فيها **
أطِيطَ الغَرْزِ في الرَّحْلِ الجديدِ ) ثم أقبلت على الفتى فقالت : ودخل
قاسم منزل الخُوارزمي النخَّاس فرأى عنده جارية كأنها جانّ وكأنها خُوط
بانٍ وكأنّها جَدْل عِنان وكأنه الياسمين نعْمةً وبياضاً فقال لها : أشتريك
يا جارية فقالت : افتحْ كيسَك تسرَّ نفسَك ودخلت الجارية منزل النخّاس
فاشتراها وهي لا تعلم ومضى إلى المنزل ودفعها الخوارزميُّ إلى غلامه فلم
تشعر الجارية إلا وهي معه في جَوف بيت فلما نظرتْ إليه وعرفتْ ما وقعَتْ
فيه قالت له : ويلكَ إنك واللّه لن تَصِل إليّ إلا بعد أن أموت فإن كنت
تجسُرُ على نَيك من قد أدرجوه في الأكفان فدونَك واللّهِِ إن زلتُ منذ
رأيتك ودخلتُ إلى الجواري أصف لهنَّ قبحك وبليّةَ امرأتك بك فأقبل عليها
يكلِّمها بكلام المتكلمين فلم تقبل منه فقال : فلم
قلتِ لي : افتَحْ
كيسَك تسرَّ نفسك وقد فتحت كيسي فدَعيني أَسُرُّ نفْسي وهو يكلِّمها وعينُ
الجارية إلى الباب ونفْسُها في توهُّم الطّريق إلى منزل النخّاس فلم يشعر
قاسمٌ حتّى وثبَتْ وثبةً إلى الباب كأنّها غزال ولم يشعر الخوارزمي إلاّ
والجارية بين يدَيه مغشيٌّ عليها فكرَّ قاسمٌ إليه )
راجعاً وقال :
ادفعْها إليّ أشفي نفسي منها فطلبوا إليه فصفَح عنها واشتراها في ذلك
المجلس غلامٌ أملحُ منها فقامت إليه فقبَّلت فاه وقاسمٌ ينظرُ والقومُ
يتعجَبون ممّا تهيأ له وتهيَّأ لها .
وأما عيسى بن مروان كاتب أبي
مروان عبد الملك بن أبي حمزة فإنّه كان شديد التغزُّل والتّصندل حتَّى شرب
لذلك النبيذَ وتَظَرَّف بتقطيع ثيابه وتغنَّى أصواتاً وحفظ أحاديثَ من
أحاديث العشّاق ومن الأحاديث التي تشتهيها النساء وتفهمُ معانِيها وكان
أقبحَ خلْق اللّه تعالى أنفاً حتَّى كان أقبحَ من الأخنَس ومن الأفطس
والأَجدع فإمّا أن يكون صادقَ ظريفةً وإما أنْ يكونَ تزوَّجها فلما خَلاَ
معها
في بيتٍ وأرادها على ما يريد الرَّجلُ من المرأة امتنعت فوهب
لها ومنَّاها وأظهر تعشقها وأرَاغَها بكلِّ حيلة فلما لم تُجِب قال لها :
خبِّريني ما الذي يمنعُك قالت : قبح أنفِك وهو يَستقِبلُ عيني وقتَ الحاجة
فلو كان أنفُك في قفَاك لكان أهونَ عليَّ قال لها : جعِلْت فِداك الذي
بأنفي ليسَ هو خِلقةً وإنّما هو ضربةٌ ضُرِبتُها في سبيل اللّه تعالى فقالت
واستغربَتْ ضحِكاً : أنا ما أبالي في سبيل اللّه كانَتْ أو في سبيل
الشَّيطان إنَّما بيَ قبحُه فخذْ ثوابَك على هذه الضَّربة من اللّه أمَّا
أنَا فلا . ( باب الجِدِّ من أمْر الجِنّ ) ليس هذا حفظك اللّه تعالى من
الباب الذي كُنَّا فيه ولكنّه كان مُستراحاً وجماماً وسنقول في باب من ذكر
الجنّ لتنتفع في دِينك أشد الانتفاع وهو جِدٌّ كلُّه .
والكلام الأوّل
وما يتلوه من ذكر الحشرات ليس فيه جِدٌّ إلاّ وفيه خَلْطٌ من هزْل وليس
فيه كلامٌ صحيح إلا وإلى جنبه خرافة لأن هذا الباب هكذا يقع .
وقد طعن قومٌ في استراق الشَّياطينِ السمعَ بوجوهٍ من الطَّعن فإذْ
قد جرى لها من الذّكر في باب الهزْل ما قد جرى فالواجبُ علينا أن نقول في
باب الجدِّ وفيما يرد على أهل الدِّين بجملة وإن كان هذا الكتابُ لم يُقصد
به إلى هذا الباب حيثُ ابتدئ وإن نحنُ استقصيناه كنَّا قد خرجْنا من حدِّ
القول في الحيوان ولكنا نقول بجملةٍ كافية واللّه تعالى المعين على ذلك .
رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن قال قوم : قد علمنا أن
الشياطينَ ألطف لطافةً وأقلُّ آفَةً وأحدُّ أذهاناً وأقلُّ فضُولاً وأخفُّ
أبداناً وأكثرُ معرفةً وأدقُّ فِطنةً منّا والدّليلُ على ذلك إجماعهم على
أنّه ليس في الأرض بدعةٌ بديعةٌ دقيقةٌ ولا جليلة ولا في الأرض مَعصِيةٌ من
طريق الهوى والشّهوة خفيّةً كانت أو ظاهرة إلاّ والشَّيطانُ هو الدَّاعي
لها والمزيِّنُ لها والذي يفتحُ بابَ كلِّ بلاء ويَنصِب كلَّ حبالةٍ وخدعة
ولم تَكن لتَعرِف أصناف جميع الشرور والمعاصي حتى تَعرف جميعَ أصناف الخير
والطّاعات .
ونحن قد نجدُ الرّجلَ إذا كان معه عقْل ثمّ عِلم أنّه إذا نقب حائطاً قُطِعت يدهُ أو أسمع إنساناً كلاماً قطع لسانه أويكونُ متى رام
ذلك حِيلَ دونَه ودونَ ما رام منْهُ أنّه لايتكلّف ذلك ولا يرُومه ولا يحاولُ أمراً قد أيقَنَ أنّه لا يبلغهُ .
وأنتم تزعمون أنّ الشّياطين الذين هم على هذه الصِّفة كلّما صعِد منهم
شيطانٌ ليسترقَ السّمعَ قُذِف بشهاب نار وليس له خواطئ فإمَّا أن يكون
يصيبه وإمَّا أنْ يكون نذيراً صادقاً أو وعيداً إنْ يقدمْ عليه رمى به وهذه
الرُّجوم لا تكون إلا لهذه الأمور ومتى كانت فقد ظهر للشَّيطان إحراق
المستمع والمسترِق والموانع دون الوصول ثمَّ لا نرى الأوَّلَ ينهي الثّاني
ولا الثّاني ينهي الثّالث ولا الثّالث ينهي الرّابع عَجَب وإن كان الذي
يعود غيرَه فكيف خفي عليه شأنهم وهو ظاهر مكشوف .
وعلى أنّهم لم
يكونوا أعلَمَ منّا حتّى ميّزوا جميع المعاصي من جميع الطاعات ولولا ذلك
لدعوا إلى الطّاعة بحساب المعصية وزينّوا لها الصَّلاح وهم يريدون الفساد
فإذا كانوا ليسوا كذلك فأدنى حالاتهم أن يكونوا قد عرفوا أخبار القرآن
وصدقوها وأنّ اللّه تعالى محقّق ما أوعَدَ
كما يُنجِز ما وعد وقد
قال اللّه عزّ وجل : وَلقَدْ زَيَّنّا السَّماء الدُّنيا بِمَصابيح
وجَعَلْنَاها رُجُوماً للشَّياطينِ وقال تعالى : وَلَقَدْ جَعَلْنَا في
السَّماءٍ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها للنَّاظِرينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كلِّ
شَيْطان رَجيمٍ وقال تعالى : إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينةٍ
الْكَوَاكِبِ وحفْظاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ وقال تعالى : هَلْ
أُنَبِّئكمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشّياطينُ تنَزَّلُ على كلِّ أفّاكٍ
أثيمٍ يُلْقون السَّمعَ وأكثَرُهم كاذِبُون مع قولِ الجنّ : أنَّا لا
نَدْري أشَرٌّ أُرِيدَ بمَنْ في الأرْضِ أمْ أرَاد بهمْ رَبُّهم رَشَداً
وقولهم : أَنَّا لَمسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلئَتْ حَرساً شديداً
وَشُهُباً وأنّا كنَّا نقعُدُ منْهَا مقَاعِد )
للسَّمع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهَاباً رصَداً .
فكيف يسترق السَّمع الذين شاهدوا الحالَتين جميعاً وأظهروا اليقين بصحَّة
الخير بأنَّ للمستمع بعد ذلك القذْفَ بالشُّهب والإحراقَ بالنار وقوله
تعالى : إنَّهُمْ عَنِ السَّمعِ لَمعْزولُونَ وقوله تعالى : وَحفْظاً مِنْ
كلِّ شيْطاَنٍ مَاردٍ لا يَسَّمَّعُون إلى الْملإ الأعْلى وَيُقْذَفُون مِن
كُلِّ جانبٍ
دُحوراً وَلَهُمْ عذَابٌ وَاصِبُ في آيٍ غيرِ هذا كثير فكيف يعُودُون إلى استراق السَّمع مع تيقنهم بأنَّه قد حُصِّن بالشهب ولو لم يكونوا مُوقِنين من جهة حقائق الكِتاب ولا من جهة أنّهم بَعْدَ قعودِهم مقاعدَ السَّمْع لمَسُوا السَّماء فوَجَدوا الأمرَ قد تغيَّر لكانَ في طول التَّجْربة والعِيان الظّاهِر وفي إخبار بعضِهم لبعض ما يكونُ حائلاً دُونَ الطّمع وقاطعاً دون التماس الصُّعود وبعد فأيُّ عاقل يُسرُّ بأنْ يسمع خبراً وتُقطعَ يدهُ فضْلاً عن أن تحرقه النَّار وبعد فأيُّ خبر في ذلك اليوم وهل يصِلون إلى النَّاس حتَّى يجعلوا ذلك الخبَر سبباً إلى صرْف الدّعوَى قيل لهم : فإنّا نقول بالصّرْفة في عامَّة هذه الأصول وفي هذه الأبواب كنحو ما أُلقي على قلوب بني إسرائيل وهم يجُولون في التِّيهِ وهم في العدد وفي كثرة الأدِلاَّء والتجّار وأصحاب الأسفار والحمّارين والمُكارينَ من الكثْرَة على ما قد سمعتم به وعرَفْتموه وهم مع هذا يمشُون حتّى يُصبِحوا مع شدّة الاجتهاد في الدَّهر الطويل ومع قُرْب ما بينَ طرفي التِّيه وقد كان طريقاً مسلوكاً وإنّما سمَّوه التّيه حين تاهوا فيه لأنَّ اللّه تعالى حين أرادَ أن يمتحِنَهم ويبتلِيهم صرَف أوهامَهم .
ومثل ذلك صنيعُه في أوهام الأُمة التي كان سُليمان مَلِكَها ونبيّها مع
تسخير الريح والأعاجيبِ التي أُعطِيَها وليس بينهم وبين ملِكهم ومملكتهم
وبين مُلك سَبأ ومملكةِ بِلقيس ملِكتهم بحارٌ لا تُركب وجبالٌ لا تُرام ولم
يتسامَعْ أهل المملكتين ولا كان في ذكرهم مكانُ هذه الملِكة .
وقد
قلنا في باب القول في الهُدهُد ما قلنا حين ذكرنا الصَّرفة وذكرنا حالَ
يعقوب ويوسف وحالَ سليمان وهو معتمدٌ على عصاه وهو مَيِّتٌ والجنُّ مُطيفة
به وهم لا يشعُرون بموته وذكرنا من صَرْف أوهام العرَب عن محُاولة معارضة
القرآن ولم يأتوا به مضطرِباً ولا مُلَفَّقاً ولا مُستكرَهاً إذا كان في
ذلك لأهل الشَّغبِ متعلّق مع غير ذلك ممّا يُخالَف فيه طريقُ الدُّهريّة
لأنّ الدّهريّ لا يُقر إلاّ بالمحسوسات والعادات على خلاف هذا المذهب .
ولعمري ما يستطيعُ الدّهريّ أن يقولَ بهذا القول ويحتجَّ بهذه الحجّة ما دام لا يقول بالتّوحيد )
وما دام لا يعرف إلا الفَلك وعمَلَه ومادام يرى أن إرسال الرسُل يستحيل وأن الأمر والنَّهي والثوابَ
والعقاب على غير ما نقول وأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يأمر من جهة
الاختبار إلا من جهة وكذلك نقول ونزعم أن أوهَام هذه العفاريت تُصرف عن
الذكر لتقع المحنة وكذلك نقول في النبي صلى اللّه عليه وسلم أنْ لو كانَ في
جميع تلك الهزاهز مَنْ يذكر قوله تعالى : واللّه يَعصِمُك من النّاسِ
لسَقَطَ عنه من المحنة أغلظها وإذا سقطَت المحنة لم تكن الطاعة والمعصية
وكذلك عظيم الطاعة مقرونٌ بعظيم الثّواب .
وما يصنع الدهري وغير
الدّهري بهذه المسألة وبهذا التسطير ونحن نقول : لو كان إبليس يذكر في كلِّ
حال قوله تعالى : وَإنَّ عَليْكَ اللّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ وعلم في
كلِّ حالٍ أنّه لا يُسْلِمُ لوَجَبَ أن المحنة كانت تسقط عنه لأن من علِم
يقيناً أنّه لا يمضي غداً إلى السوق ولايقبض دراهمَه من فلان لم يطمع فيه
ومن لم يطَمعْ في الشيء انقطعت عنه أسباب الدواعي إليه ومن كان كذلك
فمُحالٌ أن يأتيَ السّوق .
فنقول في إبليس : إنه يَنْسى ليكون
مُختَبراً ممتَحناً فليعلموا أن قولنا في مسترقي السمع كقولنا في إبليس وفي
جميع هذه الأمور التي أوْجَبَ علينا الدِّين أن نقولَ فيها بهذا القول .
وليس له أن يدفَع هذا القولَ على أصل ديننا فإن أحبَّ أن يسأل عن الدين
الذي أوجب هذا القول علينا فيلفعَلْ واللّه تعالى المعين والموفِّق .
وأما قولهم : منْ يُخاطر بذَهابِ نفْسِه لخبرٍ يستفيده فقد علِمْنا أن
أصحاب الرِّياساتِ وإن كان ولعلّ بعض الشّياطين أن يكون معه من النّفْخ وحب
الرِّياسة ما يهوِّن عليه أن يبلغ دُوَين المواضع التي إن دنا منها أصابه
الرَّجْم والرَّجمُ إنما ضمن أنه مانع من الوصول ويعلم أنه إذا كان شهاباً
أنه يُحرقه ولم يضمن أنه يتلف عنه فما أكثر من تخترقه الرِّماح في الحرب ثم
يعاودُ ذلك المكان ورزقُه ثمانون دِيناراً ولا يأخذ إلا نصفه ولا يأخذه
إلا قمحاً فلولا أن مع قَدَم هذا الجنديِّ ضروباً مما يهزُّه وينجِّده
ويدعو إليه ويُغْريه ما كان يعود إلى موضعٍ قد قطعت فيه إحدى يديه أو فقئت
إحدى عينَيه .
ولِمَ وقع عليه إذاً اسمُ شيطان وماردٍ وعفريتٍ
وأشباه ذلك ولِمَ صار الإنسانُ يُسمَّى بهذه الأسماء ويوصَف بهذه الصفات
إذا كان فيه الجزء الواحد من كلِّ ما همْ عليه .
وقالوا في باب آخر من
الطّعن غير هذا قالوا في قوله تعالى : وَأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها
مَقَاعِدَ للِسّمْعِ ) فَمَنْ يسْتَمعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهاباً رصداً
فقالوا : قد دلَّ هذا الكلام على أن الأخبار هناك كانت مُضَيَّعةً حتّى
حُصِّنت بعد فقد وصفْتُم اللّه تعالى بالتَّضييع والاستِدْراك .
قلنا :
ليس في هذا الكلام دليلٌ على أنهم سمعوا سِرّاً قط أوْ هجموا على خبر إن
أشاعوه فسد به شيءٌ من الدين وللملائكةِ في السَّماء تسبيحٌ وتهليلٌ
وتكبيرٌ وتلاوة فكان لا يبلغُ الموضعَ الذي يُسمَعُ ذلك منه إلا عفاريتُهم .
وقد يستقيم أن يكون العفريتُ يكذب ويقولُ : سمعت ما لم يَسْمع ومتى
لم يكن على قوله برهانٌ يدلُّ على صدقه فإنما هو في كذبه من جنس كلِّ
متنبئٍ وكاهن فإن صدقه مصدقٌ بلا حُجَّة فليس ذلك بحجّةٍ على اللّه وعلى
رسوله صلى اللّه عليه وسلم .
المحتجون بالشعر لرجم الشياطين قبل الإسلام وذهب بعضهم في الطّعن إلي غير هذه الحُجّة قالوا : زعمتم أن
اللّه تعالى جعل هذه الرَّجومَ للخوافي حُجّة للنبي صلى اللّه عليه وسلم فكيف يكون ذلك رَجْماً وقد كان قبل الإسلام ظاهراً مرْئيّاً وذلك موجودٌ في الأشعار وقد قال بشر بن أبي خازم في ذلك : ( فجأجأها من أول الرِّيِّ غُدوة ** وَلَمَّا يسَكّنْهُ من الأرْضِ مَرْتعُ ) ( بأكْلبةٍ زُرْقٍ ضوارٍ كأنّها ** خطاطيفُ من طول الطريدة تلمعُ ) ( فجال على نَفْر تعرُّضَ كوكبٍ ** وقد حالَ دُون النّقْعِ والنّقْعُ يسْطَعُ ) فوصف شَوْط الثّور هارباً من الكلابِ بانقضاض الكَوكب في سُرعته وحُسْنه وبريق جلده ولذلك قال الطّرِمّاح : ( يَبْدُو وتُضْمِرُه البلاد كأنّهُ ** سيفٌ علَى شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ ) وأنشد أيضاً قولَ بِشْر بن أبي خازم : ( والعير يُرْهِقُها الخبَار وجَحشُها ** ينقضُّ خلْفهُما انْقِضاض الكوكبِ )
قالوا : وقال الضّبّي : ( يَنَالها مهتك أشْجارها ** بذي غُروب فيه تحريبُ ) ( كأنّه حيِنَ نَحَا كوكبٌ ** أو قبَسٌ بالكفِّ مشبوبُ ) وقال أوس بن حَجَر : ( فانقضَّ كالدّريءِ يَتْبَعُهُ ** نَقْع يثُورُ تخالُه طُنُبَا ) ( يَخفى وأحياناً يلوح كما ** رفع المشيرُ بكفِّهِ لهبَا ) ورووا قوله : ( فانقضَّ كالدّرّي من مُتَحدِّر ** لَمْعَ العقيقةِ جُنْحَ لَيل مُظْلِمِ ) وقال عَوْف بن الخرِع :
( يردُّ علينا العَيْرَ من دون أَنْفه ** أو الثَّوْر كالدُّرّي يتْبَعُهُ الدَّمُ ) وقال الأفوه الأودي : ( كشِهاب القَذفِ يَرمِيكُمْ به ** فارسٌ في كفِّه للحَرْبِ نارُ ) وقال أُميَّةُ بن أبي الصّلْت : ( يُلْقى عليها في السَّماء مذلَّة ** وكواكبٌ تُرمى بها فتعرِّدُ ) قلنا لهؤلاء القوم : إن قَدَرتم على شعرٍ جاهليٍّ لم يُدرِكْ مَبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا مَولِده فهو بعضُ ما يتعلَّق به مثلُكم وإن كان الجوابُ في ذلك سيأتيكم إن شاء اللّه تعالى فأما أشعار المخضْرمين والإسلاميّين فليس لكم في ذلك حُجَّة والجاهليُّ ما لم يكن أدرك المولد فإنَّ ذلك ممَّا ليس ينبغي لكم أن تتعلَّقوا به وبِشرُ بنُ أبي خازم فقد أدرك الفِجار
والنبي صلى الله عليه وسلم شهِد الفِجار وقال : شهدتُ الفجار فكنْتُ أنبل على عمومتي وأنا غلام .
والأعلام ضروب فمنها ما يكون كالبشارات في الكتب لكون الصِّفة إذا واقفت
الصِّفة التي لا يقع مثلها اتفاقاً وعرضاً لزمتْ فيه الحجة وضروبٌ أُخَرُ
كالإرهاص للأمر والتأسيس له وكالتعبيد والترشيح فإنَّه قلَّ نبيٌّ إلاّ وقد
حدثت عند مولده أو قُبيلَ مولِده أو بعد مولده أشياءُ لم يكنْ يحدُث
مثلُها وعند ذلك يقول الناس : إنّ هذا لأَمرٍ وإنّ هذا ليراد به أمرٌ وقع
أو سيكون لهذا نبأ كما تراهم يقولون عند الذوائب التي تحدث لبعض الكواكب في
بعض الزمان فمن التّرشيح والتَّأسيس والتَّفخيم شأنُ عبد المطلب عند
القُرعة وحين خروج
الماء من تحت رُكْبة جملة وما كان من شأن الفيل
والطيرِ الأبابيل وغير ذلك مما إذا تقدم للرّجل زاد في نُبله وفي فَخامة
أمره والمتوقَّع أبداً معظّم .
فإن كانت هذه الشهب في هذه الأيام
أبداً مرئيّة فإنما كانت من التأسيس والإرهاص إلا أن يُنْشِدونا مثل شعر
الشعراء الذين لم يدركوا المولد ولا بعد ذلك فإنّ عددهم كثير وشعرهم معروف .
)
وقد قيل الشِّعر قبل الإسلام في مقدار من االدهر أطولَ ممّا بيننا اليوم وبين أوّل الإسلام وأولئكم عندكم أشعرُ ممن كان بعدهم .
وكان أحدهم لا يدع عظماً منبوذاً بالياً ولا حجراً مطروحاً ولا خنفساء ولا
جُعلاً ولا دودة ولا حيةً إلا قال فيها فكيف لم يتهيأ من واحدٍ منهم أن
يذكر الكواكب المنقضّة مع حُسْنها وسُرعتها والأعجوبة فيها وكيف أمسكُوا
بأجمعهم عن ذكرها إلى الزَّمان الذي يحْتَجُّ فيه خصومُكم .
وقد علمْنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذُكر له يوم ذي قار قال : هذا أوَّلُ يومٍ انتصفَتْ فيه العربُ من العجم وبي نُصروا .
ولم يكن قال لهم قبْل ذلك إنّ وقْعةً ستكون من صِفَتها كذا ومن شأنها كذا وتُنصرون على العجَم وبي تنصرون .
فإن كان بشرُ بن أبي خازمٍ وهؤلاء الذين ذكرتُم قد عايَنُوا انقضاض
الكواكب فليس بمستنكرٍ أنْ تكون كانت إرهاصاً لمن لم يُخبر عنها ويحتجُّ
بها لنفسه فكيف وبشر بن أبي خازم حيّ في أيّام الفِجار التي شهدها النبيُّ
صلى الله عليه وسلم بنفسه وأنّ كنانة وقُريشاً به نُصروا .
وسنقول في
هذه الأشعار التي أنشدتموها ونُخبِر عن مقاديرها وطبقاتها فأما قوله : (
فانقضَّ كالدُّرِّي من متحدِّرٍ ** لمْعَ العقيقةِ جُنْحَ ليل مُظلمِ )
فخبّرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبياتٍ أخر كان أسامة صاحب رَوْح بن أبي
هَمَّام هو الذي كان ولَّدها فإن اتَّهمت خبر أبي إسحاق فسمِّ الشّاعرَ
وهات القصيدة فإنَّه لا يُقبل في مثل هذا إلاّ بيتٌ صحيح صحيح الجوهَرِ من
قصيدةٍ صحيحة لشاعر معروف وإلاّ فإن كلَّ من يقول الشِّعر يستطيعُ أن يقول
خمسين بيتاً كل بيتٍ منها أجودُ من هذا البيت .
وأسامة هذا هو
الذي قال له رَوْحٌ : ( اسقِني يا أُسامَهْ ** مِنْ رحيق مُدامَهْ ) (
اسْقنيها فإنِّي ** كافرٌ بالقيامَهْ ) وهذا الشعر هو الذي قتله وأمَّا ما
أنشدتم من قول أوس بن حجر : ( فانقضَّ كالدريء يتبعه ** نَقْعٌ يثُور
تخالُه طُنبا ) وهذا الشّعر ليس يرويه لأوسٍ إلاّ من لا يفصِل بين شعر أوس
بن حجر وشُريح ابن أوس وقد ) ( والعير يرهقها الخبارُ وجَحْشها ** ينقضُّ
خلفهما انقضاض الكوكبِ ) فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصِفوا عََدْو الحمار
بانقضاض الكوكب ولا بَدَن الحمار ببدن الكوكب وقالوا : في شعر بشر مصنوعٌ
كثير مما قد احتملتْه كثيرٌ من الرُّواة على أنَّه من صحيح شعره فمن ذلك
قصيدته التي يقول فيها :
( فرجِّي الخيرَ وانتظِري إيابي ** إذا ما القارِظُ العَنَزِيُّ آبا ) وأما ما ذكرتم من شعر هذا الضَّبِّي فإنَّ الضّبيَّ مخضرم .
وزعمتم أنَّكم وجدتُم ذِكْر الشُّهب في كتب القُدماء من الفلاسفة وأنّه في
الآثار العُلْوية لأرسطاطاليس حين ذكر القول في الشُّهب مع القول في
الكواكب ذوات الذوائب ومع القول في القَوس والطَّوق الذي يكون حول القَمَر
بالليل فإن كنتم بمثل هذا تَستعِينونَ وإليه تفزعون فإنّا نوجدكم من كذب
التَّراجمة وزيادتهم ومن فساد الكِتاب من جهة تأويل الكلام ومن جهة جهْل
المترجِمِ بنقل لغةٍ إلى لغة ومن جهة فَسادِ النَّسخ ومن أنه قد تقادمَ
فاعترضَتْ دونه الدُّهورُ والأحقاب فصار لا يؤمن عليه ضروبُ التّبديل
والفساد وهذا الكلام معروفٌ صحيح .
وأما ما رويتم من شعر الأفوه
الأوديّ فلعمري إنّه لجاهليّ وما وجدْنا أحداً من الرُّواة يشكُّ في أن
القصيدة مصنوعةٌ وبعد فمِنْ أين علم الأفْوهُ أنّ الشهب التي يراها إنما هي
قذْفٌ ورجْم وهو جاهليٌّ
ولم يدَّعِ هذا أحدٌ قطُّ إلا المسلمون
فهذا دليلٌ آخر على أن القصيدة مصنوعة رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع
بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهرانيّ : وأما قوله : ( جائباً للبحار
أُهدي لِعِرْسي ** فُلفلاً مجتنًى وهَضْمة عِطْر ) ( وأحلّي هُرَيْرَ مِنْ
صدف البَحْ ** ر وأسْقي العِيال من نيل مِصرِ ) فإن الناس يقولون : إن
السَّاحر لا يكون ماهراً حتَّى يأتى بالفلْفُل الرّطب من سرنديب وهُريرة :
اسم امرأته الجنِّيّة .
وذكر الظِّبي الذي جعله مَرْكبه إلى بلاد
الهند فقال : ( وأجوبُ البلاد تحتيَ ظبيٌ ** ضاحكٌ سِنُّه كثيرُ التَّمرِّي
) ( مُولج دَبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ ** وهو باللَّيل في العفاريت يَسْري )
يقول : هذا الظَّبي الذي من جُبْنِهِ وحذره من بين جميع الوَحْش لا يدخل
حَراه إلا مستدبِراً لتكون عيناه تلقاء ما يخاف أن يغشاه
هو الذي يسري مع العفاريت باللَّيل ضاحِكاً بي هازئاً وأما قوله : ( يحسَبُ النَّاظِرُون أني ابنُ ماءٍ ** ذاكرٌ عُشَّهُ بضَفّةِ نَهْرِ ) فإن الجنّيَّ إذا طار به في جوِّ السماء ظنَّ كلُّ من رآه أنّه طائر ماء . ( قولهم : أروى من ضبّ ) وأما قولهم في المثل : أروى من ضبّ فإني لا أعرفه لأنَّ كلَّ شيء بالدوّ والدَّهْناء والصَّمَّان وأوساط هذه المهامه والصحاصح فإن جميع ما يسكنُها من الحشرات والسِّباع لا يرِدُ الماء ولا يريدُه لأنه ليس في أوساط هذه الفيافي في الصَّيف كله وفي القَيظ جميعاً مَنْقَع ماء ولا غدير ولا شريعة ولا وَشَلَ فإذا استقام أن يمرّ بظبائها وأرانبها وثعالبها وغير ذلك منها الصَّيفة كلَّها والقيظ كله ولم تذق فيها قطرة
ماء فهي له في الشتاء أتْرك لأنَّ من اقتاتَ اليبَس إذا لم يشرب الماء فهو إذا اقتات الرَّطب أترك .
وليس العجب في هذا ولكنّ العجب في إبلٍ لا ترِد الماء .
وزعم الأصمعيُّ أنَّ لبني عقيل ماعِزاً لم يرد الماءَ قطّ فينبغي على ذاكَ
أنْ يكون واديهم لا يزالُ يكونُ فيه من البقْل والورق ما يُعيشُها بتلك
الرُّطوبة التي فيها .
ولو كانت ثعالبُ الدّهْناء وظباؤُها وأرانبُها
ووحْشُها تحتاج إلى الماء لطَلبتْه أشدّ الطلب فإن الحيوان كلَّه يهتدي إلى
ما يُعيشه وذلك في طبْعه وإنما سُلِب هذه المعارفَ الذين أُعطوا العقل
والاستطاعة فوكِلوا إليهما .
فأمّا من سُلِبَ الآلة التي بها تكون
الرَّويّة والأداة التي يكون بها التصرُّف وتخرج أفعاله من حد الإيجاب إلى
حد الإمكان وعُوِّض التمكينَ فإن سبيله غيرُ سبيل من مُنِح ذلك فقسم اللّه
تعالى لتلك الكفاية وقسم لهؤلاء الابتلاء والاختيار .
قصيدتا بشر بن المعتمر
أوّل ما نبدأ قبل ذكر الحشرات وأصناف الحيوان والوحش
بشِعْرَي بشرِ بن المعتمر فإن له في هذا الباب قصيدتين قد جمع فيهما
كثيراً من هذه الغرائب والفرائد ونبَّه بهذا على وجوهٍ كثيرةٍ من الحكمة
العجيبة والموعظةِ البليغة وقد كان يمكننا أن نذكر من شأن هذه السِّباع
والحشرات بقَدْر ما تتسع له الرواية من غير أن نكتبهما في هذا الكتاب
ولكنهما يجمعان أموراً كثيرة .
أمّا أوّل ذلك فإنَّ حفظَ الشّعر أهونُ على النَّفس وإذا حُفظ كان أعلَقَ وأثبت وكان شاهداً وإن احتيج إلى ضرْب المثل كان مثلاً .
وإذا قسمنا ما عندنا في هذه الأصناف على بيوت هذين الشِّعرين وقع ذكرهما مصنّفاً فيصير حينئذٍ آنقَ في الأسماع وأشدَّ في الحفْظ .
القصيدة الأولى
قال بشرُ بن المعتمر : ( الناس دأباً في طلاب الغنى ** وكلهم من شأنهِ الخترُ ) ( كأذؤبٍ تنهشها أذؤبٌ ** لها عواءٌ ولها زفرُ ) ( تبارك الله وسبحانَه ** بينَ يديهِ النفعُ والضرُّ )( منْ خلقه في روقه كلهمْ ** الذيخُ والثيتلُ والغفرُ ) ( وساكنُ الجوِّ إذا ما علا ** فيه ومنْ مسكنهُ القفر ) ( والصدع الأعصمُ في شاهقٍ ** وجأبةٌ مسكنها الوعرُ ) ( والحيةُ الصماءُ في جحرها ** والتتفلُ الرائغُ والذرُّ ) ( وإلقةٌ ترغث رباحها ** والسهلُ والنوفلُ والنضرُ ) ( وهقلةٌ ترتاعُ من ظلها ** لها عرارٌ ولها زمرُ ) ( تلتهم المروَ على شهوةٍ ** أحبُّ شيءٍ عندها الجمر ) ( وضبة تأكلُ أولادها ** وعترفانٌ بطنهُ صفر ) ( يؤثر بالطعم وتأذينهُ ** منجمُ ليس له فكرُ )
( وكيف لا أعجبُ من عالمٍ ** حشوتهُ التأبيس والدغر ) ( وحكمةٌ يبصرها عاقلٌ ** ليس لها من دونها سترُ ) ( جرادةٌ تخرقُ متنَ الصفا ** وأبغثٌ يصطادهُ صقر ) ( سلاحه رمحٌ فما عذره ** وقد عراه دونه الذعر ) ( يحجم عن فرطِ أعاجيبها ** وعنْ مدى غاياتها السحر ) ( وظيبة تخضمُ في حنظلٍ ** وعقربٌ يعجبها التمرُ ) ( وخنفسُ يسعى بجعلانهِ ** يقوتها الأرواثُ والبعرُ ) ( يقتلها الورد وتحيا إذا ** ضمَّ إليها الروث والجعرُ ) ( وفارة البيشِ إمامٌ لها ** والخلد فيه عجبٌ هترُ )
( وقتفذٌ يسرى إلى حيةٍ ** وحيةٌ يخلى لهُ الجحرُ ) ( وعضر فوطُ ماله قبلةٌ ** وهدهدٌ يكفره بكرُ ) ( وفرةُ العقرب من لسعها ** تخبرُ أن ليسَ لها عذرُ ) ( والببر فيه عجبٌ عاجبٌ ** إذا تلاقى الليث والببرُ ) ( وطائرُ أشرفُ ذو جردة ** وطائرٌ ليسَ لها وكرُ ) ( وثرملٌ تأوى إلى دوبل ** وعسكرٌ يتبعه النسر ) ( يسالمُ الضبعَ بذى مرة ** أبرمها في الرحم العمرُ ) ( وتمسحٌ خللهُ طائرٌ ** وسابحٌ ليسَ لها سحرُ )
( والعثُّ والحفاثُ ذو فحفحٍ ** وخرنقٌ يسفدهُ وبر ) ( حرباؤها في قيظها شامسٌ ** حتى يوافى وقتهُ العصر ) ( يميل بالشقِّ إليها كما ** يميلُ في روضتهِ الزهر ) ( والظربانُ الوردُ قد شفه ** حبُّ الكشى والوحر الحمر ) ( يلوذُ منه الضبُّ مذلولياً ** ولو نجا أهلكهُ الذعرُ ) ( وليس ينجيه إذا ما فسا ** شيءٌ ولو أحرزه قصرُ )
( وهيشنة تأكلها سرفةٌ ** وسمعُ ذئبٍ همهُ الحضرُ ) ( لا تردُ الماءَ أفاعي النقا ** لكنما يعجبها الخمرُ ) ( وفي ذرى الحرملِ ظلُّ لها ** إذا غلا واحتدم الهجرُ ) ( فبعضها طعمُ لبعض كما ** أعطى سهامَ الميسرِ القمرُ ) ( وتمسحُ النيل عقابُ الهوا ** والليثُ رأسٌ وله الأسرُ ) ( ثلاثةٌ ليس لها غالبٌ ** إلاّ بما ينتقضُ الدهرُ ) ( إنِّى وإنْ كنتُ ضعيفَ القوى ** فالله يقضى ولهُ الأمرُ ) ( لست إباضيَّا عبيَّا ولا ** كرافضى ٍ غرهُ الجفرُ )
( كما يغرُّ الآل في سبسبٍ ** سفراً فأودَى عنده السفرُ ) ( لسنا من الحشو الجفاةِ الأولى ** عابوا الذي عابوا ولم يدروا ) ( أن غبتَ لم يسلمكَ من تهمة ** وإنْ رنَا فلحظهُ شزرُ ) ( يعرضُ إن سالمته مدبراً ** كأنما يلسبه الدبرُ ) ( أبلهُ خبٌّ ضغنٌ قلبه ** له احتيالٌ وله مكرُ ) ( وانتحلوا جماعةً باسمها ** وفارقوها فهمُ اليعر ) ( وأهوجُ أعوجُ ذو لوثةٍ ** ليس له رأى ٌ ولا قدر ) ( قد غره في نفسه مثله ** وغرهم أيضاً كما غروا ) ( لا تنجع الحكمةُ فيهم كما ** ينبو عن الجرولة القطرُ ) ( قلوبهم شتًى فما منهم ** ثلاثةٌ يجمعهم أمرُ )
( إلا الأذى أو بهتَ أهلِ التقى ** وأنهم أعينهمْ خزرُ ) ( أولئك الداءُ العضالُ الذي ** أعيا لديه الصابُ والمقر ) ( حيلة من ليست له حيلةٌ ** حسنُ عزاء النفسِ والصبر )
القصيدة الثانية
( ما ترى العالم ذا حشوةٍ ** يقصر عنها عدد القطر ) ( أوابد الوحشِ وأحناشها ** وكلُّ سبع وافر الظفرِ ) ( وبعضه ذو همجٍ هامجٍ ** فيه اعتبارٌ لذوي الفكر ) ( والوزغُ الرقط على ذلهَّا ** تطاعمُ الحياتِ في الجحر ) ( والخنفسُ الأسودُ في طبعه ** مودة العقرب في السر ) ( والحشراتُ الغبرُ منبثةٌ ** بين الورى والبلدِ القفرِ ) ( وكلها شرٌّ وفي شرها ** خيرٌ كثيرٌ عند من يدرى ) ( لو فكرَ العاقلُ في نفسه ** مدةَ هذا الخلقِ في العمر ) ( لم ير إلا عجباً شاملا ** أو حجةً تنقشُ في الصخرِ ) ( فكم ترى في الخلق من آيةٍ ** خفيةِ الجسمان في قعرِ )( أبرزها الفكر على فكرةٍ ** يحارُ فيها وضحُ الفجرِ ) ( لله درُّ العقلِ من رائدٍ ** وصاحبِ في العسرِ واليسرِ ) ( وحاكمٍ يقضى على غائبٍ ** قضيةَ الشاهدِ للأمرِ ) ( وإن شيئاً بعضُ أفعاله ** أن يفصلَ الخيرَ من الشرِّ ) ( بل أنت كالعين وإنسانها ** ومخرج الخيشوم والنحرِ ) ( فشرهم أكثرهم حيلةً ** كالذئب والثعلب والذر ) ( والليث قد جلده علمه ** بما حوى من شدة الأسر ) ( فتارة يحطمهُ خابطاً ** وتارة يثنيه بالهصر ) ( والضعفُ قد عرف أربابه ** مواضعَ الفرِّ من الكر ) ( تعرف بالإحساس أقدارها ** في الأسر والإلحاح والصبر ) ( والبختُ مقرونٌ فلأتجهلن ** بصاحبِ الحاجة والفقرِ ) ( وذو الكفايات إلى سكرةٍ ** أهونُ منها سكرةُ الخمر ) ( والضبعُ الغثراء مع ذيخها ** شرٌّ من اللبوة والنمر )
( لو خلى الليثُ ببطن الورى ** والنمرُ أو قد جىء بالببر ) ( كان لها أرجى ولو قضقضت ** ما بين قرنيه إلى الصدر ) ( والذئب إن أفلت من شره ** فبعد أن أبلغ في العذر ) ( وكلُّ جنس فله قالبٌ ** وعنصرٌ أعراقه تسرى ) ( وتصنع السرفة فيهم على ** مثلٍ صنيع الأرض والبذر ) ( متى يرى عدوه قاهراً ** أحوجهُ ذاك إلى المكرِ ) ( كما ترى الذئب إذا لم يطقْ ** صاحً فجاءت رسلاً تجرى ) ( وكلُّ شيءٍ فعلى قدره ** يحجم أو يقدم أو يجرى ) ( والكيس في المكسب شملٌ لهمْ ** والعندليب الفرخُ كالنسرِ )
( والخلدْ كالذئب على خبثه ** والفيلُ والأعلم كالوبر ) ( والعبدُ كالحرِّ وإن ساءه ** والأبغثُ الأغثر كالصقر ) ( لكنهم في الدين أيدى سبا ** تفاوتوا في الرأي والقدر ) ( قد غمر التقليدُ أحلامهم ** فناصبوا القياسَ ذا السبر ) ( فاقهم كلامى واصطبر ساعةً ** فإنما النجح مع الصبر ) ( وانظر إلى الدنيا بعين امرىء ** يكره أن يجري ولا يدري ) ( أما ترى الهقلَ وأمعاءه ** يجمعُ بين الصخرِ والجمرِ ) ( وفارةُ البيش على بيشها ** طيبةٌ فائقة العطر ) ( وطائر يسبح في جاحمٍ ** كماهرٍ يسبح في غمرِ ) ( ولطعة الذئب على حسوهِ ** وصنعة السرفة والدبر )
( وظبية تدخلُ في تولجٍ ** مؤخرها من شدة الذعر ) ( تأخذ بالحزم على قانصٍ ** يريغها من قبلِ الدبر ) ( والمقرمُ المعلم ما إنْ له ** مرارةٌ تسمعُ في الذكر ) ( وخصيةٌ تنصلُ من جوفه ** عندَ حدوثِ الموتِ والنحر ) ( ولا يرى من بعدها جازرٌ ** شقشقةً مائلة الهدر ) ( وليس للطرفِ طحالٌ وقد ** أشاعه العالمُ بالأمر ) ( وفي فؤاد الثور عظمٌ وقد ** يعرفه الجازر ذو الخبرِ ) ( وأكثرُ الحيتان أعجوبةً ** ما كان منها عاشَ في البحر ) ( إذْ لا لسانٌ سقى ملحه ** ولا دماغُ السمك النهرى ) ( يدخل في العذب إلى جمه ** كفعل ذى النقلةِ إلى البرِّ )
( تدير أوقاتاً بأعيانها ** على مثالِ الفلك المجرى ) ( وكلُّ جنسٍ فلهُ مدةٌ ** تعاقبَ الأنواء في الشهر ) ( وأكبدٌ تظهرُ في ليلها ** ثمَّ توارى آخرَ الدهر ) ( ولا يسبغ الطعم ما لم يكن ** مزاجه ماءً على قدر ) ( والتتفل الرائغ إما نضا ** فشطر أنبوب على شطر ) ( متى رأى الليث أخا حافر ** تجده ذا فشٍ وذا جزر ) ( وإن رأى النمر طعاماً له ** أطعمه ذلك في النمر )
( وإن رأى مخلبه وافياً ** ونابه يجرح في الصخر ) ( منهرتَ الشدقِ إلى غلصمٍ ** فالنمر مأكولٌ إلى الحشر ) ( وما يعادي النمرُ في ضيغمٍ ** زئيره أصبر من نمر ) ( لولا الذي في أصلِ تركيبه ** من شدةِ الأضلاع والظهر ) ( يبلغ بالجسر على طبعه ** ما يسحر المختالَ ذا الكبر ) ( سبحانَ ربِّ الخلقِ والأمر ** ومنشر الميتِ من القبر ) ( فاصبرْ على التفكير فيما ترى ** ما أقربَ الأجرَ من الوزرِ )
تفسير القصيدة الأولى
نقول بعون اللّه تعالى وقُوته في تفسير قصيدة أبي سهل بشر بن المعتمر ونبدأ بالأولى المرفوعة التي ذكر في آخرها الإباضية والرافضة والنابتة فإذا قلنا في ذلك بما حضرَنا قلنا في قصيدته ما قيل في الذئب أمَّا قوله : كأذْؤُبٍ تنهشُها أذْؤبٌ لها عُواءٌ ولها زَفرُفإنَّها قد تتهارشُ على الفريسة ولا تبلغ القتْل فإذا أدْمى بعضها بعضاً وثَبتْ عليه فمزّقته وأكلته وقال الرّاجز : ( فلا تكوني يا ابْنَة الأشَمِّ ** ورقاء دَمّى ذئبها المدمِّي ) وقال الفرزدق : ( وكنْتَ كذئبِ السَّوْء لمّا رأى دماً ** بصاحبه يوماً أحالَ على الدَّمِ ) نعم حتّى رُبما أقبلا على الإنسان إقبالاً واحداً وهما سواءٌ على عداوته والجزْم على أكله فإذا أُدْمي أحدُهما وثب على صاحبه المدْمى فمزّقه وأكله وترك الإنسان وإن كان أحدهما قد أدماه .
ولا
أعلمُ في الأرض خلقاً ألأمَ من هذا الخلق ولا شرّاً منه ويحدث عند رؤيته
الدَّم له في صاحبه الطمع ويحدث له في ذلك الطمع فضلُ قوة ويحدث للمدمَّى
جبنٌ وخوف ويحدث عنهما ضعف واستخذاء فإذا تهيأ ذلك منهما لم يكن دونَ أكله
شيء واللّه أعلم حيثُ لم يُعط الذئب قُوة الأسد ولم يعط الأسد جُبن الذئب
الهارب بما يرى في أثر الدم من الضعف مثل ما يعتري الهر والهرة بعد الفراغ
من السِّفاد فإن الهر قبل أن يفرُغ من سفاد الهرة أقوى منها كثيراً فإذا
سَفِدها ولّى عنها هارباً واتبعته طالبةً له فإنها في تلك الحال إن لحقَتْه
كانت أقوى منه كثيراً فلذلك يقطع الأرض في الهرب وربَّما رمى بنفسه من
حالق وهذا شيءٌ لا يعدمانِه في تلك الحال .
ولم أرهم يقِفون على حدِّ العلة في ذلك وهذا بابٌ سيقعُ في موضعه من القول في الذئب تامّاً بما فيه من الرِّواية وغير ذلك .
الذيخ والثيتل والغفر وأمَّا قوله : منْ خلقه في رزقِه كلَّهُمْ الذِّيخُ
والثّيْتلُ والغُفرُ الذِّيخ : ذكر الضّبع والثّيتل شبيهٌ بالوعل وهو ممَّا
يسكن في رؤوس الجبال ولا يكون في القُرى وكذلك الأوعال وليس لها حُضرٌ ولا
عملٌ محمود على البسيط وكذلك ليس للظباء حُضْر ولا عملٌ محمود في رؤوس
الجبال .
وقال الشاعر : وقال أيضاً : ( والظّبيُ في رأس اليفَاع
تخالُه ** عِنْد الهضاب مُقيَّداً مشْكولا ) والغُفْر : ولد الأُروية :
واحد الأرْوى والأرْوى : جماعةٌ من إناث الأوعال .
الصَّدع
والجأب وأما قوله : ( والصَّدَعُ الأعصمُ في شاهق ** وجأبةٌ مسكنُها
الوعْرُ ) فالصّدع : الشّاب من الأوعال والأعصم : الذي في عصمته بياضٌ وفي
المِعْصم منه سوادٌ ولونٌ يخالفُ لونَ جسده والأُنثى عصماء والجأب : الحمار
الغليظ الشَّديد والجأبة : الأتان الغليظة والجأب أيضاً مهموز : المَغرة
وقال عنترة : ( فنجا أمامَ رِماحِهنَّ كأنَّهُ ** فوْتَ الأسِنة حافر
الجأبِ ) شبَّهه بما عليه من لُطوخ الدِّماء برجُل يحفر في معدن المغْرة
والمغرة أيضاً المكْر ولذلك قال أبو زُبيد في صفة الأسد المخمر بالدماء : (
يعاجيهم للشّرِّ ثانِيَ عِطْفِهِ ** عنايته كأنّما باتَ يُمْكُر )
الحية والثعلب والذر وأما قوله : ( والحية الصماء في جُحرها ** والتَّتفل
الرائغ والذّرُّ ) فالتتفل هو الثّعلب وهو موصوفٌ بالرَّوغان والخبث ويضرب
به المثل في النَّذالة والدناءة كما يضرب به المثلُ في الخبْث والرَّوغان .
وقال طرفة : ( وصاحبٍ قد كنتُ صاحبْتُه ** لا ترك اللهُ لهُ واضحَه )
( كلهمُ أرْوغُ من ثعلبٍ ** ما أشبهَ اللّيلة بالبارحَهْ ) وقال دُريد بن
الصمَّة :
( ومُرّة قد أدركتُهم فتركتُهمْ ** يروغُون بالغَرّاءَ
روْغ الثَّعالبِ ) وقال أيضاً : ( ولستُ بثعلبٍ إن كان كونٌ ** يدُسُّ
برأسهِ في كُلِّ جُحْر ) ولمَّا قال أبو محجنٍ الثَّقفي لأصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم من حائط الطائف ما قال : قال له عمر بن الخطاب رضي اللّه
عنه : إنما أنت ثعلبٌ في جُحْر فابرزْ من الحصْن إن كنت رجلاً .
ومما قيل في ذلة الثعلب قال بعض السّلف حين وجد الثُّعلبان بال على رأس صنمه :
( إله يبول الثُّعلّبانُ برأسِه ** لقد ذَلّ منْ بالتْ عليه الثّعالبُ ) ( تمنَّيْتني قيْسَ بن سعدٍ سفاهةً ** وأنت امرؤٌ لا تحتويك المقانبُ ) ( وأنت امرؤٌ جَعْدُ القفا مُتَعَكِّسٌ ** من الأقِطِ الحوليِّ شبعان كانِبُ ) إذا انتسبوا لم يعرِفوا غير ثعْلبٍ إليهم ومن شرِّ السِّباع الثعالبُ وأنشدوا في مثل ذلك : ( ما أعجبَ الدَّهْرَ في تصرُّفِهِ ** والدَّهْرُ لا تنقضي عجائبُهُ ) ( يبسطُ آمالنا فنبسطها ودون ** آمالِنا نوائبُهُ ) ( وكم رأينا في الدَّهر من أسدٍ ** بالتْ على رأسهِ ثعالبهُ )
ففي
الثَّعلب جلدهُ وهو كريم الوبر وليس في الوَبر أغلى من الثعلب الأسود وهو
ضروبٌ ومنه الأبيضُ الذي لا يُفْصل بينه وبين الفَنَك ومنه الخلنْجيّ وهو
الأعمّ .
ومن أعاجيبه أن نَضِيَّهُ وهو قضيبه في خلقة الأنبوبة أحد شِطْريه عظْمٌ في صورة المثقب )
والآخر عصبٌ ولحم ولذلك قال بشرُ بنُ المعتمر : ( والتّتفل الرائغُ إمّا
نضا ** فشطْرُ أُنبوبٍ على شطْرِ ) وهو سَبُعٌ جبانٌ جدّاً ولكنَّه لفرط
الخبث والحيلة يجرِي مع كبار السّباع .
وزعم أعرابيٌّ ممن يُسمعُ منه
أنّه طاردهُ مرّة بكلابٍ له فراوغه حتّى صار في خَمر ومرّ بمكانه فرأى
ثعلباً ميّتاً وإذا هو قد زَكر بطنه ونفخه فوهّمه أنّه قد مات من يوم أو
يومين قال : فتعدّيته
وشمَّ رائحة الكلاب فوثب وثْبةً فصار في صحراء .
وفي حديث العامَّة أنَّه لما كثُرت البراغيثُ في فرْوته تناول بفيه إمَّا
صُوفةً وإمَّا ليقة ثم أدخل رجليه في الماء فترفّعتْ عن ذلك الموضع فما زال
يغمسُ بدنه أوّلاً فأوّلاً حتَّى اجتمعن في خَطْمه فلمّا غمس خطمه أوّلاً
فأوّلاً اجتمعنَ في الصُّوفة فإذا علم أنّ الصُّوفة قد اشتملت عليهنَّ
تركها في الماء ووثَبَ فإذا هو خارجٌ عن جميعها .
فإن كان هذا الحديثُ حَقّاً فما أعجبه وإن كان باطلاً فإنّهم لم يجعلوه له إلاّ للفضيلة التي فيه من الخبْثِ والكَيْس .
وإذا مشى الفرسُ مشْياً شبيهاً بمشْي الثعلب قالوا : مشى الثّعلبيّة قال
الراعي : ( وغَمْلى نَصِيٍّ بالمِتانِ كأنّها ** ثعالبُ مَوْتى جلدها قد
تسَلَّعا )
وقال الأصمعيُّ : سرق هذا المعنى من طفيلٍ الغنويّ ولم يُجِد السَّرق .
وفي تشبيه بعض مشيته قال المرَّار بن مُنقذ : ( صِفَةُ الثَّعلبِ أدنى
جَرْيِهِ ** وإذا يُرْكضُ يَعْفُورٌ أشِرْ ) وقال امرؤ القيس : والبيت الذي
ذكره الأصمعيُّ لطفيل الغنوي أنّ الرَّاعي سرق معناه هو قوله : ( وغمْلى
نصيٍّ بالمتان كأنّها ** ثعالبُ موتى جِلْدُها لم ينزعِ ) وأنشدوا في
جُبْنِه قولَ زُهير بن أبي سُلمى :
( وبَلدةٍ لا تُرام خائفةٍ **
زَوْراءَ مُغْبَرَّةٍ جوانبُها ) ( تسمَعُ للجِنِّ عازِفينَ بها ** تصِيحُ
مِنْ رَهْبَةٍ ثعالبُها ) ( كلّفْتُها عِرْمِساً عُذافِرَةً ** ذاتَ هِبابٍ
فُعماً مناكبُها ) ( تُراقبُ المُحْصَدَ الممَرَّ إذا ** هاجرةٌ لم تَقِلْ
جَنادبُها )
والذي عندي أنَّ زُهيراً قد وصف الثّعلب بشدَّة القلْب
لأنهم إذا هَوَّلُوا بذكر الظُّلْمة الوحشيَّة والغيلان لم يذكروا إلاَّ
فزع من لا يكاد يفزع لأنَّ الشاعر قد وصف نفسه بالجراءة على قطع هذه الأرض
في هذه الحال .
وفي استنذاله وجبنه قالت أمُّ سالم لابنها مَعْمر : ( أرى مَعْمراً لا زيّنَ اللّهُ مَعْمراً ** ولا زانَهُ منْ زائر يتقرّبُ )
( أعاديْتَنا عاداك عزٌّ وذلَّةٌ ** كأنك في السِّربالِ إذْ جئت ثعلبُ ) ( فلم تَرَ عيني زائراً مثل مَعْمر ** أحقَّ بأن يُجنى عليه ويُضْرَبُ ) ( تأمَّل لما قد نال أمَّك هِجْرِسٌ ** فإنَّك عَبْدٌ يا زُمَيل ذَليلُ ) ( وإني متى أضْرِبْك بالسَّيفِ ضَرْبة ** أُصبِّحْ بني عَمْرٍ و وأنتَ قتيلُ ) الهِجْرس : ولد الثَّعلب قال : وكيف يصْطادُ وهو على هذه الصِّفة فأنشد شعر ابن ميّادة : ( ألم تَرَ أنَّ الوَحْشَ يَخْدَعُ مَرَّةً ** ويُخْدَعُ أحياناً فيُصطاد نُورها ) ( بلى وضَوارِي الصَّيدِ تُخْفِقُ مَرَّة ** وإنْ فُرهتْ عقبانُها ونُسورها ) قال : وسألت عنه بعض الفقهاء فقال : قيل لابن عبّاس : كيف تزعمون أنّ سليمان بن داود عليهما السلام كان إذا صار في البراري حيث
لا ماء ولا شجر فاحتاج إلى الماء دلّه على مكانه
الهدهُد ونحن نغطّي له الفخَّ بالتراب الرَّقيق ونُبرز له الطُّعم فيقع فيه
جَهْلاً بما تحت ذلك التراب وهو يدلُّ على الماء في قعر الأرض الذي لا
يوصل إليه إلاّ بأن يحفر عليه القيِّم الكيِّس .
قال : فقال ابنُ عبّاس رضي اللّه عنهما : إذا جاء القدَرُ لم ينفع الحذر .
وأنشدوا : ( خير الصديق هو الصَّدوق مقالةً ** وكذاك شَرُّهم الميُون
الأكذبُ ) وقال حسّان بن ثابت رضي اللّه عنه : ( بني عابدٍ شاهَتْ وجُوهُ
الأعابِد ** بِطاءٌ عن المعروف يوم التّزايُدِ )
( فما كان صَيفيٌّ يفي بأمانة ** قَفا ثعلب أعْيا ببعض المراصِدِ ) وأنشد : ) ( ويشْرَبُه مَذْقاً ويسقِي عِياله ** سَجاجاً كأقرابِ الثَّعالبِ أوْرقا ) وقال مالك بن مِرْداس : ( يا أيُّها ذا الموعِدِي بالضرِّ ** لا تلعبنَّ لِعبةَ المغترِّ ) ( أخافُ أنْ تكونَ مثل هرِّ ** أو ثَعْلبٍ أُضيعَ بعد حُرِّ )
( هاجَتْ به مخيلة الأظفر ** عسراء في يوم شمال قَرِّ ) ( يجول منها لثق
الذعر ** بصردٍ ليس بذي محجر ) ( تنفض أعلى فرْوِهِ المغبرِّ ** تنفضُّ
منها نابها بشزر ) نفضاً كلون الشره المخمر المخيلة : العقاب الذّكر الأشبث
صرد : مكان مطمئن .
وقال اليقطري : كان اسمُ أبي الضّريس ديناراً
فقال له مولاه : يا دنينير فقال : أتصغِّرني وأنت من سلاح الثعلب ومن أشدِّ
سِلاح الثَّعلب عندكم الرَّوغان والتّماوُت وسلاحه أنتنُ وألزجُ وأكثرُ من
سُلاح الحبارى .
وقالت العرب : أدهى من ثعلب وأنتن من سُلاح الثَّعلب .
وله عجيبةٌ في طلب مقتل القنقذ وذلك إذا لقيه فأمكنهُ من ظهرهِ بالَ عليه فإذا فعل ذلك به ينبسط فعند ذلك يقبض على مَراقِّ بطْنه .
أرزاق الحيوان ومن العجب في قسمة الأرزاق أنّ الذّئب يصيد الثّعلب فيأكله
ويصيد الثّعلب القنقذَ فيأكله ويُريغ القنفذ الأفعى فيأكلها وكذلك صنيعُه
في الحيَّات ما لم تعظُم الحيَّة والحيَّة تصيدُ العصفور فتأكلهُ والعصفور
يصيد الجراد فيأكله والجراد يلتمس فِراخَ الزّنابير وكلّ شيء يكون أفحوصُهُ
على المستوي والزُّنبور يصيد النّحلة فيأكلها والنَّحلة تصيد الذبابة
فتأكلها والذبابة تصيدُ البعوضة فتأكلها .
الإلقة والسهل والنوفل والنضر وأمَّا قوله : فالإلقة هاهنا القردة تُرْغِث : ترضع والرُّبَّاح : ولد القِردة
والسَّهْل : الغراب والنَّوفل : البحر والنَّضْر : الذهب وكلُّ جَرِيَّةٍ من النِّساء وغيرِ ذلك فهي إلْقةٌ وأنشدني بشرُ بن المعتمر لرؤبة : جَدّ وجدّت إلقةٌ من الإلقْ وقد ذكرنا الهِقْلَ وشأنه في الجمر والصّخْر وأكلَ الضّبِّ أولاده في موضعه من هذا الكتاب وكذلك قوله في العُتْرُفان وهو الديك الذي يؤثر الدَّجاج بالحبّ وكأنّه منجِّم أو صاحبِ أسْطُرلاب وذكرنا أيضاً ما في الجراد في موضعه ولسنا نُعيدُ ذكر ذلك وإن كان مذكوراً في شعر بشر .
الأبغث وأمّا قوله : وأبغث يصطاده صقر ثم قال : ( سلاحُه
رُمْحٌ فما عُذْرُه ** وقد عَراه دُونه الذعرُ ) يقول : بدنُ الأبغث أعظمُ
من بدن الصقر وهو أشدُّ منه شِدَّة ومنقارُه كسنان الرُّمْح في الطول
والذّرب وربَّما تجلّى له الصَّقرُ والشّاهينُ فَعَلقَ الشّجر والعَرار
وهتك كلَّ شيء يقول : فقد اجتمعت فيه خصالٌ في الظّاهر معينةٌ له عليه
ولولا أنّه على حال يعلم أنَّ الصَّقر إنما يأتيه قبُلاً ودبُراً واعتراضاً
ومن عَلُ وأنه قد أعطى في سلاحه وكفِّه فضل قوَّة لما استخذى له ولما
أطمعه بهرَبِه حتّى صارت جُرأته عليه بأضعاف ما كانت .
قال بعضُ بني
مروان في قتل عبد الملك عَمْرو بن سعيد : ( كأنَّ بني مَرْوان إذ يقتلونه
** بغاثٌ من الطّيرِ اجتمعن على صقْر ) ما يقبل التعليم من الحيوان وأمَّا
قوله :
( والدُّبُّ والقِرد إذا عُلِّما ** والفيل والكَلْبة
واليَعْرُ ) فإن الحيوان الذي يَلْقَن ويَحْكِي ويَكيِسُ ويُعلَّم فيزداد
بالتّعليم في هذه التي ذكرنا وهي الدّبّ والقِرد والفيل والكلب .
وقوله : اليعر يعني صغار الغنم ولعمري أنَّ في المكّيّة والحبشيَّة لعباً .
حب الظبي للحنظل والعقرب للتمر وأمَّا قوله : ( وظبيةٌ تخضِمُ في حَنْظل
** وعَقْرَبٌ يُعْجِبها التَّمرُ ) ففي الظَّبي أعاجيبُ من هذا الضرب وذلك
أنّه ربّما رَعى الحنظل فتراه يقبِضُ ويعضُّ على نِصف حنظلةٍ فيقدّها قد
الخسْفة فيمضغُ ذلك النصفَ وماؤُه يسيلُ من شدقيه وأنت ترى فيه الاستلذاذ
له والاستحلاء لطعمه .
وخبرني أبو محجن العنزيّ خالُ أبي العميثل الرّاجز قال : كنت
أرى بأنطاكية الظّبي يُرِدُ البحر و يشربُ المالحَ الأجاج .
والعقْرب ترمي بنفسها في التَّمر وإنّما تطلب النَّوى المُنْقع في قعر الإناء .
فأيُّ شيء أعجبُ من حيوانٍ يستعذب مُلوحة البحر ويستحلي مرارة الحنظل .
وسنذكر خصال الظّبي في الباب الذي يقع فيه ذكره إن شاء الله تعالى ولسنا
نذكر شأن الضبِّ والنَّمل والجعل والرَّوث والورد لأنّا قد ذكرناه مرّة .
فأرة البيش وأمّا قوله : ( وفأرة البِيش إمامٌ لها ** والخلْدُ فيه عجبٌ
هترُ ) فإن فأرة البيش دُويْبة تشبة الفأرة وليست بفأرة ولكن هكذا تسمّى
وهي تكون في العياض والرِّياض ومنابت الأهضام وفيها سمومٌ كثيرة كقرون
السُّنْبل وما في القُسْط فهي تتخلَّل تلك
وقد ذكرنا شأن القنقذ والحيَّة في باب القول في الحيّات .
العضرفوط والهدهد وأمَّا قوله : وعضرفوطٌ ما له قِبْلة فهو أيضاً عندهم من
مطايا الجنّ وقد ذكره أيمنُ بن خُريم فقال : ( وخيلُ غزالة تَنْتابُهُمْ
** تجوب العِراقَ وتَجْبي النَّبِيطا ) ( تَكُرُّ وتُجْحِر فُرسانَهُمْ **
كما أجْحَرَ الحيَّةُ العَضْرفوطا )
لأن العضرفوط دويْبّة صفيرةٌ ضعيفة والحيّات تأكلها وتغصِبها أنفسها .
وأنشدوا على ألسنة الجنّ : ( ومن عَضْرَفوطٍ حَطَّ بي فأقمته ** يبادِرُ
وِرْداً مِنْ عظاءٍ قوارِبِ ) وأمّا قولُه : وهدهدٌ يُكْفِرُهُ بكرُ
فإنَّما ذلك لأنَّه كان حاجَّ بكر ابن أختِ عبد الواحد صاحب البكريَّةِ
فقال له : أتخبرُ عن حال الهدهُدِ بخبر إنه كان يعرفُ طاعة اللّه عزَّ وجل
من معصيته وقد ترك موضِعَه وسار إلى بلاد سبأ وهو وإن أطرف سليمان بذلك
الخبر وقبِله منه فإنَّ ذَنْبَه في ترْك موضعه الذي وُكِّل به وجولانِه في
البُلدان على حاله ولا يكون ذلك مما يجعل ذنبه السابق إحساناً والمعصيةُ لا
تنقلبُ
طاعة فلم لا تشهد عليه بالنِّفاق قال : فإني أفعل قال :
فحكى ذلك عنه فقال : أمّا هو فقد كان سلم على سُليمان وقد كان قال :
لأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شديداً أوْ لأذْبحنّهُ أوْ ليَأْتينِّي بِسُلْطانٍ
مُبينٍ فلمَّا أتاه بذلك الخبر رأى أنّه قد أدلى بحجّة فلمْ يعذِّبْه ولم
يذبَحْه فإن كان ذنبُه على حاله فكيف يكون ما هجم عليه ممَّا لم يُرسل فيه
ولم يقْصِد له حُجَّة وكيف يُبْقي هذا عليه .
وبكر يزعم أن الأطفال
والبهائم لا تأثم ولا يجوز أن يُؤْثم الله تعالى إلاّ المسيئين فقال بشرٌ
لبَكْر : بأيِّ شيءٍ تستدلُّ على أنّ المسيء يعلمُ أنه مسيء قال : بخجله
واعتذاره بتوبته قال : فإنّ العقرب متى لسعت فرّتْ من خوف القتْل وهذا
يدلُّ على أنَّها جانية وأنت تزعمُ أنّ كلَّ شيءٍ عاصٍ كافرٌ فينبغي للعقرب
أن تكون كافرة إذا لم يكن لها عذرٌ في الإساءة .
الببر والنمر وأمّا
قوله : ( والبَبْرُ فيه عجبٌ عاجبٌ ** إذا تلاقى الليث والنَّمْرُ ) لأنّ
الببر مسالِمٌْ للأسد والنَّمر يطالبه فإذا التقيا أعان الببر الأسد .
الخفاتش والطائر الذي له وكر
وأمّا قوله : ( وطائِرٌ أشْرَفُ ذو جُرْدة ** وطائِرٌ ليس له وكرُ ) فإنّ
الأشرفَ من الطَّير الخُفّاش لأنَّ لآذانها حجماً ظاهراً وهو متجرِّدٌ من
الزَّغب والرِّيش وهو يلد .
والطّائِر الذي ليس له وكرٌ هو طائرٌ يخبر
عنه البحريُّون أنّه لا يسقُط إلاّ ريثما يجعلُ لبيضه أُدحيّاً من تراب
ويغطّي عليه ويطير في الهواء أبداً حتّى يموت وإن لقى ذكرٌ أنثى تسافدا في
الهواء وبيضه يتفقص من نفسه عند انتهاء مُدَّته فإذا أطاق فرخُه الطّيران
كان كأبويه في عاداتهما .
الثعالب والنسور والضباع وأمّا قوله : (
وثُرْمُلٌ تأوي إلى دَوْبَلٍ ** وعسْكرٌ يتبعه النسرُ ) ( يُسالم الضّبْعَ
بذي مرةٍ ** أبرمها في الرحم العُمْرُ )
فالثرْملة : أنثى الثّعالب وهي مسالمِة للدَّوبل وأمَّا قوله : وعسكر يتبعه النّسر فإن النسور تتبع العساكر وتتبع الرِّفاق ذواتِ الإبل وقد تفعل ذلك العِقبان وتفعله الرَّخم وقد قال النَّابغة : ( وثقتً بالنصرِ إذ قيل لهً قد غدتْ ** كتائبُ من غسانَ غيرُ أشائب ) ( بنو عمِّه دنيا وعمرو بن عامر ** أولئك قومٌ بأسهمْ غيرُ كاذب ) ( إذا ما غزوا بالجيشِ حلقَ فوقهمْ ** عصائبُ طيرٍ تهتدى بعصائب ) ( جوانحُ قد أيقنَّ أن قبيله ** إذا ما التقى الجمعانِ أوّل غالبِ ) ( تراهنَّ خلفَ القومِ خزراً عيونها ** جلوسَ الشيوخِ في مسوك الأرانب )
والأصمعي يروي : جلوسَ الشيوخ في ثياب المرانِب .
وسباع الطير كذلك في اتباع العساكر وأنا أرى ذلك من الطمع في القتلى وفي الرَّذايا والحسْرَى أو في الجهيض وما يُجْرح .
وقد قال النّابغة : ( سَمَاماً تُباري الرِّيحَ خُصوماً عُيونُها **
لَهُنَّ رذَايا بالطَّريقِ وَدائِعُ ) وقال الشاعر : ( يشُقّ سماحِيقَ
السّلا عن جَنينِها ** أخو قَفْرَةٍ بادِي السَّغابَةِ أطْحَلُ )
وقال حميد بن ثور في صفة ذئب : ( إذا ما بدا يوماً رأيتَ غيايةً ** من
الطير ينظرْن الذي هو صانعُ ) لأنّه لا محالة حين يسعى وهو جائع سوف يقع
على سبع أضعف منه أو على بهيمةٍ ليس دونها مانع .
وقد أكثر الشُّعراءُ
في هذا الباب حتّى أطنب بعضُ المحدثين وهو مسلم بن الوليد بن يزيد فقال : (
يكسو السيوف نفوس الناكثين به ** وَيجعلُ الهامَ تِيجان القنا الذُّبُلِ )
( قد عَوَّدَ الطَّيرَ عاداتٍ وثِقْنَ بها ** فهُنَّ يتْبعْنَه في كلِّ
مُرْتَحلِ ) ولا نعلم أحداً منهم أسرَفَ في هذا القول وقال قولاً يُرغبُ
عنه إلا النابغة فإنَّه قال : ( جوانحُ قد أيقنَّ أنّ قبيلهُ ** إذا ما
التقى الجمعانِ أوّلُ غالبِ ) وهذا لا نُثْبته . وليس عند الطَّير
والسِّباع في اتّباع الجموع إلاَّ ما يسقط من ركابهم ودوابِّهم وتوقّع
القتل إذْ كانوا قد رأوا من تلك الجُموع مرَّةً أو مراراً فأمّا أن تقصد
بالأمل واليقين إلى أحد الجمعين فهذا ما لم يقلْه أحدٌ .
نسر لقمان وقد أكثر الشُّعراءُ في ذكر النسور وأكثر ذلك قالوا في لُبَد .
قال النَّابغة :
فضربه مثلاً في طُول السَّلامة وقال لبيد : ( لما رأى صبحٌ سوادَ خليله ** من بين قائمِ سيفهِ والمحمل ) ( صبحنَ صبحاً يوم حقَّ حذاره ** فأصاب صبحاً قائماً لم يعقل ) ( فالتفَّ منقصفاً وأضحي نجمهٌ ** بين التراب وبين حنو الكلكل ) ( ولقد جرى لبدٌ فأدركَ جريه ** ريبُ الزمانِ وكان غير مثقلِ ) ( لما رأى لبد النسور تطايرتْ ** رفعَ القوادمَ كالفقير الأعزل )
( من تحته لقمانُ يرجو نفعه ** ولقد رأى لقمانُ أن لم يأتل ) وإن أحسنت الأوائل في ذلك فقد أحسن بعض المحْدَثين وهو الخزرجي في ذكر النَّسر وضرب المثل به وبلبد وصِحَّة بدنِ الغراب حيث ذكرَ طولَ عمر مُعاذِ بن مُسلم بن رجاء مولى القعقاع بن شَور وكان من المعَمرين طعن في السن مائَةً وعشرينَ سنةً وهو قوله : ( إن معاذَ بنَ مسلمٍ رجلٌ ** قد ضجَّ من طولِ عمره الأبدُ ) ( قد شابَ رأسُ الزمانِ واختضب ال ** دهرً وأثوابُ عمرِ جدد ) ( يا نسرَ لقمانَ كمْ تعيشُ وكمْ ** تلبسُ ثوبَ الحياةِ يا لبد )
( قد أصبحتْ دارُ آدمٍ خربتْ ** وأنتَ فيه كأنك الوند ) 4
شعر وخبر فيما يشبه بالنسور
وما تعلق بالسَّحاب من الغيم يشبَّه بالنَّعام وما تراكبَ عليه يُشبَّه بالنسور قال الشاعر : ( خليلى َّ لا تستسلما وادعوا الذي ** له كلُّ أمر أنْ يصوبَ ربيعُ ) ( حياً لبلادٍ أنفذ المحلُ عودها ** وجبرٌ لعظمٍ في شظاه صدوعُ ) ( بمنتصر غرِّ النشاصِ كأنها ** جبالٌ عليهنّ النسورُ وقوعُ ) ( عسى أن يحلّ جزعاً وإنها ** وعلَّ النوى بالظاعنينَ تريعُ )وشبّه العُجير السّلوليّ شُيوخاً على باب بعضِ الملوك بالنسور فقال : ( فمنهن إسآدي على ضوء كوكبٍ ** له من عمانيّ النُّجوم نظيرُ ) ( ومنهن قرْعي كلَّ بابٍ كأنّما ** به القومُ يرْجونَ الأذين نُسورُ ) ( إلى فَطِنٍ يستخرج القلبَ طرْفُه ** له فوق أعواد السَّريرِ زئيرُ ) وذكرت امرأةٌ من هُذيلٍ قتيلاً فقالت : ( تمشى النسورُ إليه وهي لاهِيَةٌ ** مشيَ العذارى عَلَيهِنَّ الجلابيبُ ) تقول : هي آمنةٌ أنْ تُذعر . ( وعند الكلابيِّ الذي حلَّ بيْتُه ** بجوٍّ شِخَابٌ ماضرٌ وصَبُوحُ )
( ومكسورةٌ حمْرٌ
كأنَّ مُتونها ** نُسورٌ إلى جَنْبِ الخوان جُنوحُ ) مكسورة : يعني وسائد
مثنيَّة وقال ابن ميّادة : ( ورَجَعْتُ مِنْ بَعْدِ الشَّبابِ وعصرِه **
شيخاً أزبَّ كأنَّه نَسْرُ ) وقال طرفة : ( فلأ منعنَّ مَنَابتَ الضّ **
مران إذ منع النسور ) وفي كتاب كليلة ودمنة : وكُنْ كالنَّسْرِ حَوْلَهُ
الجيفُ ولا تكنْ كالجِيفِ حولها النسور فاعترض على ترجمة ابن المقفَّع بعضُ
المتكلِّفين من فتيان الكتّاب فقال : إنما كان ينبغي أن يقول : كُنْ
كالضِّرس حُفَّ بالتُّحَف ولا تكنْ كالهبْرة تطيف بها الأَكَلة أطنّه أراد
الضُّروس فقال الضّرس وهذا من الاعتراض عجبٌ .
ويوصف النسر بشدّة الارتفاع حتّى ألحقوه بالأنوق وهي الرَّخمة .
وقال عديُّ بن زيد :
( فوق عَلْياءَ لا يُنال ذُراها ** يَلْغَبُ النّسرُ دُونها والأَنوقُ ) وأنشدوا في ذلك : ( يَدْنون ما سألوا وإن سُئلوا ** فهُمُ معَ العَيُّوق والنَّسْرِ ) وقال زيد بن بِشْر التّغلبي في قتل عمير بن الحباب : ( لا يجُوزنَّ أرْضنا مُضَرِيُّ ** بخفير ولا بغيرِ خَفيرِ ) ( طحنَتْ تغلبٌ هوازِنَ طحْناً ** وألحَّت على بني مَنْصورِ ) ( يومَ تَرْدي الكماةُ حول عمير ** حَجَلانَ النسور حَوْلَ جَزُورِ ) وقال جميل : ) ( وما صائبٌ من نابلٍ قذفتْ به ** يدٌ وممرُّ العقدتينِ وثيقُ )
( له من خوافى النسرِ حمٌّ نظائرٌ ** ونصلٌ كنصل الزاعبى ِّ رقيقُ ) ( على نبعةٍ زوراءً أما خطامها ** فمتنٌ وأما عودها فعتيق ) ( بأوشكَ قتلاً منكِ يومَ رميتنى ** نوافذَ لم تظهرْ لهن خروق ) ( فلمْ أرَ حرباً يا بثينَ كحربنا ** تكشفُ غماها وأنتِ صديقُ ) مسالمة النسر للضبع وأما قوله : ( يُسالم الضّبْع بذي مِرّةٍ ** رَمها في الرَّحِمِ العُمْرُ )
لأنَّ النَّسر طيرٌ ثقيلٌ
عظيمٌ شرِهٌ رغيبٌ نهم فإذا سقط على الجيفة وتملأ لم يستطعِ الطّيران حتى
يثب وثباتٍ ثمّ يدور حولَ مسقطهِ مِراراً ويسقُط في ذلك فلا يزالُ يرفع
نفسه طبقةً طبقةً في الهواء حتى يُدخِلَ تحته الرِّيح فكلُّ من صادفه وقد
بَطِن وتملأ ضربه إن شاء بعصاً وإن شاء بحجر حتّى ربما اصطاده الضَّعيف من
الناس .
وهو مع ذلك يشارك الضَّبع في فريسة الضبع ولا يثبُ عليه مع
معرفته بعجْزِه عن الطّيران وزعَمَ أنّ ثقته بطول العمر هو الذي جرَّأه على
ذلك . 4
ستطراد لغوي
ويقال : هوت العُقاب تهوي هُوِيّاً : إذا انقضّت على صيدٍ أو غيره ما لم ترِغه فإذا أراغتْه قيل أهوت له إهواءً والإهواء أيضاً التَّناول باليد والإراغة أن يذهب بالصيد هكذا وهكذا .ويقال دوَّم الطائر في جوّ السّماء وهو يدوِّم تدويماً : إذا دار في السماء ولا يحرك جناحيه .
ويقال نسره بالمِنْسَر وقال العجَّاج : ( شاكي الكلاليب إذا أهْوى ظَفَرْ
** كعَابِرَ الرؤوس منها أو نسَرْ ) والنسر ذو منسر وليس بذي مخلب وإنما له
أظفارٌ كأظفار الدّجاج .
وليس له سلاحٌ إنّما يقوى بقوّة بدنه وعِظمه
وهو سبعٌ لئيمٌ عديم السِّلاح وليس من أحرار ولوع عتاق الطير بالحمرة
ويقال إنّ عتاق الطير تنقضُّ على عُمود الرّحل وعلى الطِّنفسة والنمرق
فتحسبه لحمرته لحماً وهم مع ذلك يصفونها بحدَّة البصر ولا أدري كيف ذلك . )
وقال غيلان بن سلمة : ( في الآل يخفِضُها ويرفَعُها ** رَيعٌ كأنّ مَتونَه
السَّحلُ ) ( عَقْلاً ورَقْماً ثمَّ أردفه ** كِللٌ على ألوانها الخَمْلُ )
( كدم الرُّعافِ على مآزرها ** وكأنَّهنَّ ضوامراً إجلُ ) وهذا الشِّعر
عندنا للمسيَّب بن عَلس وقال علْقمة بن عَبدة : ( ردّ الإماءُ جمالَ الحيِّ
فاحتملوا ** وكلّهَا بالتَّزيدِياتِ مَعْكُومُ )
( عَقْلاً
ورَقْماً يظلُّ الطّيرُ يتبعُه ** كأنّه من دَمِ الأجوافِ مَدْمُومُ ) شعر
في العقاب وقال الهذليّ : ( ولقد غَدَوْتُ وصاحبي وحشيَّةٌ ** تحتَ
الرِّداء بصيرةٌ بالمشرفِ ) يعني عقاباً وقوله : بصيرة بالمشرف يريد الرّيح
من أشرفَ لها أصابتْه .
وقال الآخرُ في شبيهٍ بهذا : ( فإذا أتتْكُمْ هذه فتلبّسُوا ** إنّ الرِّماح بصيرةٌ بالحاسِرِ ) وقال آخر :
( كأنِّي إذْ عَدَوْا ضَمَّنْتُ بزِّي ** مِن العِقْبانِ خائِتَةً طَلُوبا ) ( جريمةَ ناهضٍ في رأس نيقٍ ** تَرى لعِظامِ ما جَمعَتْ صليبا ) وقال طُفيل الغنويّ : ( تبيتُ كعِقْبان الشُّرَيف رجاله ** إذا ما نَوَوْا إحداثَ أمْرٍ مُعَطّبِ ) أي أمهلوا وقال دُريد : ( تعللتُ بالشطاء إذْ بانَ صاحبى ** وكلُّ امرىءٍ قد بانَ إذْ بان صاحبه ) ( كأنى وبزى فوقَ فتخاءَ لقوةٍ ** لها ناهضٌ في وكرها لا تجانبه )
( فباتتْ عليه ينفضُ
الطلًّ ريشها ** تراقبُ ليلاً ما تغورُ كواكبه ) ( فلما تجلى الليلُ عنها
وأسفرت ** تنفض حسرى عن أحصٍ مناكبه ) ( رأت ثعلباً من حرةٍ فهوتْ لهُ **
إلى حرةٍ والموتُ عجلانُ كاربه )
جفاء العقاب زعم صاحبُ المنطق أنّه
ليس شيءٌ في الطّير أجفى لفِراخه من العُقاب وأنّه لا بدّ من أن يُخْرجَ
واحداً وربما طردَهُنَّ جميعاً حتّى يجيء طائرٌ يسمّى كاسر العظام فيتكفّل
به .
ودريدُ بن الصِّمَّة يقول : ( كأني وبزِّي فوق فتخاءَ لقْوةٍ **
لها ناهضٌ في وكْرها لا تجانِبُه ) ما يعتري العقاب عند الشبع وقد يعتري
العُقاب عند شِبعها من لحم الصّيد شبيهٌ بالذي ذكرنا في النسر وأنشد أبو
صالحٍ مسعود بن قنْد لبعض القيسيِّين :
( قرى الطّير بعد اليأس زيدٌ
فأصبحتْ ** بوحْفاء قَفْرٍ ما يدِبُّ عُقابُها ) ( وما يتخطّى الفحلَ زيدٌ
بسيفهِ ** ولا العِرْمسَ الوَجناء قد شقَّ نابُها ) ( وإن قيل مَهْلاً
إنّه شدنِيّةٌ ** يقطِّع أقران الجِبالِ جذابُها ) خبّر أنّه يعتري العُقاب
من الثِّقل عند الطيران من البِطْنة ما يعتري النسر .
شعر في العقاب وقال امرؤُ القيس إن كان قاله
: فأبصرت شخصهُ من فوقِ مرقبةٍ ودونَ موقعها منهُ شناخيب ( فأقبلتْ نحوه في الجوِّ كاسرةً ** يحثُّها من هوى ِّ اللوح تصويب ) ( صبتْ عليه ولم تنصبّ من أممٍ ** إنَّ الشقاء على الأشقين مصبوبُ ) ( كالدلو بتتُ عراها وهي مثقلةٌ ** إذْ خانها وذمٌ منها وتكريب ) ( لا كالتي في هواء الجوِّ طالبةً ** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب ) ( كالبرق والريح مرآتاهما عجبٌ ** ما في اجتهادٍ على الإصرار تغبيب ) ( فأدركته فنالته مخالبها ** فانسل من تحتها والدفُّ مثقوب ) ( يلوذُ بالصخر منها بعدَ ما فترت ** منها ومنه على الصخر الشآبيب )
( سقط : بيت الشعر ) ( يلوذالصخر منها بعد ما
فترت ** منها ومنه على الصخر الشآبيب ) ( ثم استغاثت بمتنِ الأرض تعفرهُ **
وباللسان وبالشدقين تتريب ) ( ما أخطأته المنايا قيسَ أنملةِ ** ولا تحرزَ
إلاّ وهو مكتوب ) ( يظلُّ منجحراً منها يراقبها ** ويرقب الليلَ إنَّ
الليلَ محبوب )
وقال زهير : ( تنبذُ أفلاذهَا في كلِّ منْزلةٍ **
تَنتِخُ أعيُنَها العِقبانُ والرَّخَمُ ) تنتِخ : أي تنزع وتستخرج والعرب
تسمِّي المنقاش المِنتاخ . ( حديثاً من سماعِ الدَّلِّ وعر ** كأنَّ
نَقيقَهُنَّ نقيِقُ رُخمِ ) والنقيق مشترك يقال : نقّ الضفدع ينقُّ نقيقاً .
ويقال : أعزُّ من الأبْلق العَقُوق و : أبعدُ من بيض الأنوق .
فأمَّا بيض الأنوق فربما رئي وذلك أنَّ الرَّخم تختارُ أعاليَ الجبال
وصدُوعَ الصَّخر والمواضِعَ الوحشيّة وأمّا الأبلق فلا يكون عقوقاً وأما
العقوق البلْقاء فهو مَثلٌ وقال : ( ذكرناكِ أن مَرَّتْ أمامَ ركابنا ** من
الأُدْمِ مخماص العشيِّ سلوبُ ) ( تدلّتْ عليها تَنفُضُ الرّيش تحتها **
براثِنُها وراحُهنَّ خَضيبُ ) ( خداريَّة صقْعاء دُون فراخِها ** من
الطَّودِ فأْوٌ بينها ولهوبُ ) ( إذا القانِص المحروم آبَ ولم يُصِبْ **
فمطعَمُهُ جُنْحَ الظّلامِ نَصيبُ ) ( فأصبحت بعد الطير ما دون فارة ** كما
قام فوق المنْصِتِين خطيبُ ) وقال بشرُ بن أبي خازم :
( فما صَدْعٌ بِخيَّة أو بَشَرْقٍ ** على زَلق زُمَالقَ ذي كهافِ ) ( تَزلُّ اللِّقْوة الشَّغْواء عنها ** مخالبُها كأطْرافِ الأشافي ) وقال بشر أيضاً : فإن تجعلِ النَّعماء منك تمامَةًونُعماك نعمى لا تزال تفيضُ ( تكنْ لك في قومي يدٌ يشكرونها ** وأيدي النّدى في الصالحين قروض ) وعلى شبيهٍ بهذا البيت الآخر قال الحطيئة : ( مَنْ يفعل الخيرَ لا يَعدَمْ جوازيَهُ ** لا يذْهبُ العُرْفُ بين اللّهِ والنَّاسِ )
ج10..كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
وقال عقيل بن العرندس : ( حبيبٌ لقرطاسٍ يؤدِّي رسالة ** فيالكِ
نفساً كيف حان ذُهولها ) ( وكنت كفرخِ النسْر مُهِّد وكْرُه ** بملتفَّةِ
الأفنانِ حيلٌ مقيلُها )
التمساح والسمك وأما قوله : ( وتِمْسحٌ
خَلَّلَهُ طائرٌ ** وسابحٌ ليس له سَحْرُ ) فالتمساح مختلف الأسنان فينشب
فيه اللحم فيغمُّه فيُنتن عليه وقد جُعل في طبعه أن يخرُج عند ذلك إلى الشط
ويشحا فاه لطائر يعرفه بعينه يقال إنه طائرٌ صغير أرقط مليح فيجيء من بين
الطير حتى يسقط بين لحييه ثم ينقرُه بمنقاره حتّى يستخرج جميع ذلك اللحم
فيكون غذاءً له ومعاشاً ويكونُ تخفيفاً عن التِّمساح وترفيهاً فالطائر
الصغير يأتي ما هنالك يلتمس وأما قوله : وسابح ليس له سَحْر فإن السمك
كلَّه لا رئة
له قالوا : وإنما تكون الرِّئة لمن يتنفس هذا وهم يرون
منخري السَّمك والخرق النَّافذ في مكان الأنف منه ويجعلون ما يرون من نفسه
إذا أخرجوه من الماء أن ذلك ليس بنفس يخرج من المنخرين ولكنه تنفس جميع
البدن .
العث والحفاث وأما قوله : ( والعُث والحُفّاث ذو نفخةٍ **
وخرنقٌ يسفِده وَبْرُ ) فإنَّ الحُفَّاث دابّة تشبه الحيّة وليست بحيّة وله
وعيدٌ شديدٌ ونفْخ وتوثُّب ومن لم يعرفْه كان له أشدَّ هيبةً منه للأفاعي
والثّعابين وهو لا يضرُّ بقليل ولا كثير والحيّات تقتله وأنشد : ( أيفايشون
وقد رأوْا حُفّاثهم ** قَدْ عضَّه فقضى عليه الأسودُ ) والعثُّ : دويْبة
تقرض كلَّ شيء وليس له خطرٌ ولا قوّة ولا بدن .
قال الرَّاجز :
( يحثُّني ورْدانُ أيَّ حثّ ** وما يحثُّ من كبيرٍ عَثِّ ) إهابُه مثلُ
إهاب العُثّ ( وعَثٍّ قدْ وكلْتُ إليه أهْلي ** فطاحَ الأهلُ واجتِيحَ
الحريمُ ) ( وما لاهى به طرفٌ فيوحي ** ولا صَكٌّ إذا ذكر القضِيمُ ) وأنشد
آخر : ( فإن تشتمونا على لُؤْمِكُمْ ** فقد يقرض العثُّ مُلْسَ الأديمِ )
وقالوا في الحُفَّاث هجا الكروبي أخاه فقال : ( حُبارى في اللِّقاء
إذا التقينا ** وحُفَّاثٌ إذا اجتمع الفريقُ ) وقال أعرابي : ( ولستُ
بحفَّاثٍ يُطاوِلُ شَخْصَهُ ** وينفخُ نَفْخَ الكيرِ وهو لَئيمُ ) وقع بين
رجلٍ من العرب ورجل من الموالي كلامٌ فأربى عليه المولى وكان المولى فيه
مَشابهُ من العرب والأعراب فلم يشكَّ ذلك العربيُّ
أن ذلك المولى
عربيُّ وأنَّه وسط عشيرتِه فانخزل عنه فلم يكلمْه فلما فارقه وصار إلى
منزله علم أنه مولى فبكر عليه غُدوةً فلما رأى خِذْلان جلسائه له ذلَّ
واعتذر فعند ذلك قال العربيُّ في كلمةٍ له : ( ولم أدْرِ ما الحفاثُ حتّى
بلوتُه ** ولا نفض للأشخاصِ حتّى تكشّفَا ) وقد أدركتُ هذه القضية وكانت في
البحرَين عند مسحر بن السكن عندنا بالبصرة فهو قوله : والعثّ والحفّاث ذو
نفخةٍ لأن الحفاث له نفْخ وتوثُّب وهو ضخمٌ شنيعُ المنظر فهو يهول من لا
يعرفه .
وكان أبو ديجونة مولى سليمان يدَّعي غاية الإقدام والشَّجاعة
والصَّرامة فرأى حُفّاثاً وهو في طريق مكة فوجده وقد قتله أعرابيٌّ ورآه
أبو ديجونة كيف ينفخ ويتوعّد فلم يشك إلا أنه أخبتُ من الأفعى ومن الثعبان
وأنه إذا أتى به أباه وادعى أنه قتله سيقضي له بقتل الأسد والببْر والنمر
في نِقاب فحمله وجاء به إلى أبيه وهو مع أصحابه وقال : ما أنا اليوم إلا
ذيخ وما ينبغي لمن أحسَّ بنفسه مثل الذي أُحِس أن يُرمى في المهالك
والمعاطب وينبغي أن يستبقيها لجهادٍ
أو دفعٍ عن حُرْمة وحريمٍ يذبُّ عنه وذلك أني هجمْت على هذه الحيّة وقد منعت الرِّفاق من السُّلوك وهربت منها الإبل وأمعَنَ في الهرب عنه كلُّ جمّالٍ ضخم الجزارة فهزتني إليه طبيعة الأبطال فراوغتها حتى وهب اللّه الظَّفر وكان من البلاء أنها كانت بأرضٍ ملساء ما فيها حصاة وبصُرْتُ بفهر على قاب غلوة فسعيت إليه وأنا أسوارٌ كما تعلمون فو اللّه ما أخطاتُ حاقَّ لهِزْمته حتى رزق اللّه عليه الظَّفر وأبوه والقومُ ينظرون في وجْهه وهم أعلم النَّاس بضعْف الحُفّاث وأنَّه لم يؤذ أحداً قط فقال له أبوه : ارم بهذا من يدك لعنك اللّه ولعنهُ معك ولعنَ تصديقي لك ما كنْت تدَّعيه من الشَّجاعة والجراءة فكبّروا عليه وسمَّوة قاتل ومما هجوا به حين يشبِّهون الرَّجل بالعث في لؤْمه وصِغر قَدرِه قول مُخارق الطائي حيث )
( سقط : صفحة من الكتاب ) ( عن الأضياف والجيران عزب ** فأودت والفتى دنس لئيم ) ( وإني قد علمت مكان ظرف ** أغر كأنه قرس كريم ) ( له نعم يعام المحل فيها ** ويروى الضيف والزق العظيم ) الوبر والخرنق وأما قوله : وخِرنقٌ يسفدُه وبْرُ فإنَّ الأعراب يزعمون أنّ الوبْر يشتهِي سِفاد العِكرشَة وهي أنثى الأرانب ولكنّه يعجز عنها فإذا قدَر على ولدِها وثَبَ عليه والأنثى تسمى العِكرِشة والذَّكر هو الخُزَر والخِرنِق ولدهما قال الشاعر : ( قبَحَ الإلَه عِصابةً نادمتُهمْ ** في جَحْجَحان إلى أسافِلِ نقنقِ ) ( أخَذُوا العِتَاق وعرَّضُوا أحسابَهُمْ ** لمحَرَّبٍ ذَكَرِ الحديدِ مُعرِّقِ )
( ولقد قرعتُ
صَفاتَكمْ فوجدْتُكم ** مُتشبِّثين بزاحفٍ متعلِّقِ ) ( ولقد غَمَزْتُ
قناتَكم فوجدتها ** خرْعاءَ مَكْسِرُها كعودٍ محرَقِ ) ( ولقد قبَضْتُ
بقلبِ سَلْمةَ قبضةً ** قبْضَ العُقابِ على فؤاد الخِرنقِ ) قالوا : إنه
قالها أبو حبيب بعد أن قال جُشَمُ ما قال وقد قدَّم إليه طعامه .
مايشبه الخزز ووصف أعرابيٌّ خلْقَ أعرابيٍّ فقال : كأن في عََضَلته خُزَزاً وكأنّ في عضده جُرذاً .
وأنشدوا لماتحٍ ووصفَ ماتحاً ورآه يستقي على بئرهِ فقال : ( أعدَدْت
للوِرد إذ الوِردُ حَفزْ ** دَلواً جَرُوراً وجَلالاً خُزَخِزْ ) (
وماتِحاً لا ينْثَني إذا احتجَزْ ** كأنَّ تحتَ جِلْدِه إذا احتفزْ ) في
كلِّ عضوٍ جُرَذين أو خُزَزْ وسنقول في الأرنب بما يحضرنا إن شاء اللّه
تعالى .
وسنقول في الأرانب بما يحضرنا إن شاء الله تعالى .
القول في الأرانب قال الشاعر : ( زَعَمَتْ غُدانة أن فيها سيِّداً ** ضخماً
يوازِنه جنَاحُ الجنْدبِ ) ( يُروِيه ما يُروِي الذُّبابَ فينتَشي **
سُكراً ويُشْبِعه كراعُ الأرنب ) وإنما ذكرَ كراعَ الأرنب من بين جميع
الكراعات لأنَّ الأرنب هي الموصوفة بقصر الذِّراع وقصر اليد ولم يُرد
الكُراع فقط وإنما أراد اليدَ بأسْرها وإنما جعل ذلك لها بسببٍ نحن ذاكروه
إن والفرس يُوصف بقِصر الذِّراع فقط . 4
التوبير
والتَّوبير لكلِّ محتالٍ من صغار السِّباع إذا طَمِع في الصيد
أو خاف أنْ يُصاد كالثّعلب وعَناقُ الأرض هي التي يقال لها التُّفَة وهي
دابّة نحو الكلْب الصَّغير تصيد صَيداً حسناً وربَّما واثبَ الإنسان
فعقَرَه وهوأحسن صيداً من الكلْب .
وفي أمثالهم : لأَنتَ أغنى من
التفَةِ عن الرُّفة وهو التِّبن الذي تأكله الدوابُّ والماشية من جميع
البهائم والتُّفة سبعٌ خالصٌ لا يأكل إلا اللحم .
والتَّوبير : أن
تَضمَّ بَرَاثنِها فلا تطأ على الأرض إلا ببطن الكفِّ حتى لا يُرَى لها أثر
براثِنَ وأصابع وبعضها يطأ على زمَعاته وبعضها لا يفعل ذلك وذلك كله في
السهل فإذا أخذت في الحُزونة والصَّلابة وارتفعت عن السَّهل حيث لا تُرَى
لها آثارٌ قالوا : ظلفت الأثر تظلفه ظلْفاً وقال النُّميري : أظلفَت الأثر
إظلافاً .
بعض ما قيل في الأرنب وعن عبد الملك بن عمير عن قَبيصة بن جابر : ما الدُّنيا
في الآخرةِ إلاّ كنفْجة أرنب .
وقال أبو الوَجيه العُكْلي : لو كانت واللّه الضبّة دجَاجةً لكانت الأرنب
دُرَّاجة ذهب إلى أنّ الأرانب والدُّرَّاج لا تستحيل لحومها ولا تنقلِبُ
شحوماً وإنّما سِمَنها بكثرة اللّحم وذهب إلى ما يقول المعجبون منهم بلحْم
الضّبّ فإنّهم يزعُمون أنّ الطعمين متشابهان وأنشد : ( وأنتَ لو ذُقْتَ
الكشى بالأكبادْ ** لما تَرَكْتَ الضَّبَّ يَسعَى بالوادْ ) قال : والضبّ
يعرض لبيض الظّليم ولذلك قال الحجَّاج لأهل الشّام : إنّما أنا لكم
كالظّليم الرَّامح عن فراخه ينفي عنها المَدَر ويباعدُ عنها الحجَر
ويُكِنُّها من المطَر ويحميها من الضِّباب ويحرُسُها من
الذئاب يا أهلَ الشّام أنتم الجُنّة والرِّداء وأنتم العُدّة والحذاء . 4
ما يشبه بالأرنب
ثم رجع بنا القول إلى الأرانب فممَّا في الخيل مما يُشبِه الأرنب قول الأعشى : ( أمَّا إذا استقبلتَه فكأنَّه ** جِذعٌ سَمَا فوقَ النَّخيل مشذَّبُ ) ( وإذا تصفَّحه الفَوارِسُ مُعْرِضاً ** فتقولُ سِرْحَانُ الغَضَا المتنصِّبُ ) ( أمَّا إذا استدبرته فتسوقُه ** ساقٌ يُقمِّصُها وظيف أحْدَبُ ) ( مِنْه وجاعرةٌ كأنّ حَماتَها ** كشَطتْ مَكان الجَلِّ عَنْهَا أَرْنَبُ ) ( كأنّ حَماتَيْهمَا أرْنَبا ** ن غيضتا خيفةَ الأَجْدَلِ )4
طول عمر الأغضف والأرنب
وأنشد الأثرم : ( بأغْضَفَ الأُذْنِ الطَّوِيل العمر ** وأرنب الخُلّةِ تِلْوُ الدَّهرِ ) قد سمعتُ من يذكر أنّ كِبَرَ أذنِ الإنسان دليلٌ على طُول عمره حتَّى زعُموا أنّ شيخاً من الزَّنادقة لعنهم اللّه تعالى قدّموه لتُضرب عنقُه فعَدَا إليه غلامٌ سعديٌّ كان له فقال : أليسَ قد زعمتَ يا مولايَ أنّ من طالت أذُنه طال عمره قال : بلى قال : فهاهم يقتلونك قال : إنما قلت : إن تركوه .وأنا لا أعرف ما قال الأثرم ولا سمعتُ شِعراً حديثاً ولا قديماً يُخبرُ عن طول عُمر الأرنب قال الشّاعر : ( مِعْبلة في قِدْح نَبْعٍ حادِرْ ** تسقى دَم الجوفِ لظفرِ قاصرْ ) ( إذ لا تزال أرنبٌ أو فادِرْ ** أو كروانٌ أو حُبارى حاسِرْ ) إلى حمار أو أتان عاقرْ
لبن الأرانب قال : ويزعمون أنه ليس شيءٌ من الوحْش في مثل جسم الأرنب أقلَّ لبناً ودُرُوراً على ولَدٍ منها ولذلك يُضرَبُ بدَرِّها المثل فممَّن قال في ذلك عَمرو بن قَميئة حيث يقول : ( ليس بالمطعم الأرانِب إذْ قلّ ** ص دَرُّ اللِّقاح في الصِّنَّبْرِ ) ( ورأيتَ الإماء كالجِعثن البا ** لي عُكوفاً على قُرارة قِدْرِ ) ( ورأيتَ الدُّخانَ كالودع الأه ** جَنِ يَنباع من وراء السِّترِ ) ( حاضرٌ شرُّكُمْ وخَيْرُكمُ دَ ** رُّ خرُيسٍ من الأرانب بِكرِ ) 4
قصر يدي الأرنب
والأرنب قصير اليدين فلذلك يخفُّ عليه الصَّعْداء والتوقُّل في الجبال وعَرف أنّ ذلك سهلٌ عليه فصرَفُ بعضَ حِيله إلى ذلك عند إرهاق الكلاب إيَّاه ولذلك يعجَبون بكلِّ كلبٍ قصير اليدين لأنه إذا كان كذلك كان أجدر أن يلحقها . 4من أعاجيب الأرنب
وفي الأرانب من العجب أنها تحيض وأنها لا تسمن وأن قضيب الخُزَزِ ربَّما كان من عظمٍ على صورة قضيب الثّعلب .
ومن أعاجيبها أنّها تنام مفتوحةََ العَين فربَّما جاء الأعرابيُّ حتّى يأخذها من تلقاء وجهها ثقةً منه بأنَّها لا تبصر .
وتقول العرب : هذه أرنبٌ كما يقولون : هذه عُقاب ولايذكّرون وفيها
التَّوبير الذي ليس لشيءٍ من الدوابِّ التي تحتال بذلك صائدةً كانت أو
مصيدةً وهو الوطْء على مؤخر القوائم كي لا تعرف الكلابُ آثارها وليس يعرفُ
ذلك من الكلابِ إلاّ المَاهر وإنَّما تفَعل ذلك في الأرض اللَّيِّنة وإذا
فعلَتْ ذلك لم تسرع في الهرَب وإن خافت أن تدرَك انحرفت إلى الحُزونة
والصَّلابة وإنما تستعمل التَّوبير قبل دنو الكلاب .
وليسَ لشيء من الوَحْش ممّا يُوصَف بِقصَر اليدَينِ ما للأرنَب من السرعة والفرس يوصف بقصر الكُراع فقط . 4
تعليق في كعب الأرنب
وكانت العربُ في الجاهليَّة تقول : مَن عُلّق عليه كعبُ أرنب لم تصبهُ عينٌ ولا نفسٌ ولا سِحر وكانت عليه واقيةٌ لأَنَّ الجنَّ تهرب منها وليست من مطاياها لمكان الحيض .وقد قال في ذلك امرؤ القيس :
( مُرَسِّعَةٌ بين أرساغه ** به عَسَمٌ يبتغي أرْنبا ) ( ليجْعَل في يَدِهِ كَعْبَهَا ** حِذَار المنيَّة أنْ يَعْطَبا ) وفي الحديث : بكى حتَّى رسعت عينه مشَدَّدة وغير مشدَّدة أي قد تغيَّرت ورجلٌ مرسِّع وامرأة مرسِّعة . 4
تعشير الخائف
وكانوا إذا دخل أحدهم قريةً من جِنِّ أهلها ومن وباء الحاضرة أشدّ الخوف إلاّ أن يقِف على باب القَرية فيعشِّرَ كما يعشِّرُ الحمارُ في نهيقه ويعلِّق عليه كعبَ أرْنب ولذلك قال قائلهم : ( ينفع التَّعشيرُ في جَنْبِ جِرْمة ** ولا دَعدعٌ يغني ولا كعبُ أرْنبِ ) الجِرمة : القطعة من النّخل وقوله : دعدع كلمةٌ كانوا يقولونها عند العِثار وقد قال الحادرة : ( ومَطِيَّةٍ كلّفْتُ رَحْلَ مَطِيَّةٍ ** حَرَجٍ تُنمُّ من العِثَارِ بدَعْدَعِ )وقالت امرأةٌ من اليهود : ( وليس لوالدةٍ نَفْثُها ** ولا قَوْلُها لابنها دَعْدَعِ ) ( تداري غراء أحواله ** وربُّك أعْلَمُ بالمصْرَعِ ) لَعمْري لئنْ عشَّرْتُ من خيفةِ نُهاقَ الحَمير إنّني لجَزوعُ 4
نفع الأرنب
وللأرنب جلدٌ وَوَبَرٌ يُنتَفع به ولحمه طيِّب ولا سيَّما إنْ جُعل مَحْشياً لأنّه يجمع حُسنَ المنظر واستفادة العلم مما يرون من تدبيرها وتدبير الكلاب والانتفاع بالجلد وبأكل اللّحم وما أقلَّ ما تجتمع هذه الأمورُ في شيءٍ من الطَّير .
وأما قوله : ( إذا ابتدَرَ النّاسُ المعالي رأيتَهم ** قياماً بأيديهم
مسوكُ الأرانبِ ) فإنّه هجاهم بأنّهم لا كسب لهم إلاّ صيدُ الأرانبِ وبيع
جلودها .
الحُلكاء وأمّا قوله : ( وغائصٌ في الرمل ذو حدَّةٍ ** ليس
له نابٌ ولا ظُفْرُ ) فهذا الغائص هو الحلكاء والحلكاء : دويْبّة تغوصُ في
الرمل كما يصنع الطَّائر الذي يسمّى الغَمّاس في الماء وقال ابن سُحيم في
قصيدته التي قصَد فيها للغرائب : شحمة الرمل وممَّا يغوص في الرَّمل ويسبح
فيه سباحة السَّمكة في الماء شحْمةُ الرَّمل وهي شحمة الأرض بيضاء حَسَنَةٌ
يشبّه بها كفُّ المرأة وقال ذو الرُّمَّة في تشبيه البَنان بها :
(
خراعيب أمْثالٌ كأنّ بنانَها ** بَناتُ النقا تخْفَى مراراً وتظهرُ ) وقال
أبو سليمان الغَنَوي : هي أعرض من العظاءة بيضاء حسنةٌ منقطة بحمرة وصُفرة
وهي أحسنُ دوابِّ الأرض .
وتشبّه أيضاً أطرافُ البنانِ بالأساريع
وبالعنم إذا كانت مُطَرَّفة وقال مرقّش : ( النَّشْرُ مِسْكٌ والوُجوهُ دنا
** نيرُ وأطراف الأكُفِّ عَنَمْ ) وصاحب البلاغة من العامَّة يقول : كأنّ
بَنانها البَيَّاح والدُّواج ولها ذراعٌ كأنها شَبُّوطة .
ويشبه أيضاً بالدِّمقس .
شعر فيه خرافة ومن خرافات أشعار الأعراب يقول شاعره : ( أشكو إلى اللّه العليِّ الأمجد ** عشائراً مثلَ فراخ السرهدِ )
( عشائراً قد نبَّفوا بفَدفَدِ ** قد ساقَهمْ خبث الزمان الأَنكَدِ ) ( وكلّ نفّاض القفا ملهّد ** ينصِبُ رِجْليَه حِذار المعتدي ) ( وشحْمة الأرض وفَرْخ الهُدهُد ** والفَار واليَرْبوع ما لم يسفَدِ ) ( فنارهم ثاقبةٌ لم تخْمُد ** شواء أحناشٍ ولم تفرّدِ ) ( من الحُبينِ والعظاء الأجردِ ** يبيتُ يَسْري ما دنا بفدفدِ ) ( وكلِّ مقطوعِ العرا معلكدِ ** حَتَّى ينالوه بعود أوْ يَدِ ) ( منها وأبصار سَعَالٍ جُهَّدِ ** يغدون بالجهد وبالتشرُّدِ ) زَحْفاً وحَبْواً مثل حَبْوِ المُقْعَدِ الحرباء
الحرباء وأمّا قوله : ( حِرباؤها في قيْظها شَامِسٌ ** حتَّى يوافي وَقته العَصْرُ ) ( يَميل بالشِّقِّ إليها كما ** يميل في رَوْضَتِهِ الزّهْرُ ) قال : والحِرباء دويْبَّة أعظَم من العظاءة أغبَرُ ما كان فرخاً ثم يصفرّ وإنّما حياتُه الحر فتراه أبداً إذا بدت جَونة يعني الشَّمس قد لجأ بظهْره إلى جُذيل فإن رمضت الأرضُ ارتفع ثم هو يقلّب بوجهه أبداً مع الشَّمس حيث دارت حتَّى تغرب إلا أنْ يخاف شيئاً ثم تراه شَابحاً بيدَيه كما رأيت من المصلوب وكلما حميت عليه الشَّمس رأيتَ جلدَه قد يخضرّ وقد ذكره ذو الرُّمَّة بذلك فقال : ( يظلُّ بها الحِرباءُ للشَّمس ماثلاً ** على الجِذلِ إلاّ أَنّه لا يكبِّرُ )
( إذا حَوَّل الظّلَّ العِشيِّ رأيتَه ** حَنِيفاً وفي قرْن الضُّحَى يَتَنَصَّرُ ) ( غَدَا أصفَرَ الأعْلى ورَاحَ كأنَّ ** من الضِّحِّ واستقبالهِ الشَّمْسَ أخضَرُ ) خضوع بعض الأحياء للشمس وكذا الجمل أيضاً يستقْبل بهامته الشَّمس إلاّ أنه لا يدور معَها كيف دارَت كما يفعل الحرباء وشقائقُ النُّعمان والخِيريّ يصنع ذلك ويتفتَّحُ بالنهار وينضمُّ بالليل والنِّيلُوفر الذي ينبت في الماء يغيب الليل كلّه ويظهر بالنهار والسَّمك الذي يقال له الكَوسج في جوفه شحمة طيّبة وهم يسمُّونها
الكَبِد فإن اصطادُوا هذه السَّمكة ليلاً وجدوا هذه الشَّحمة فيها وافرةً وإن )
اصطادُوها نهاراً لم تُوجَد وقد ذكر الحطيئة دوران النّبات مع الشمس حيث
يقول : ( بمُستأسدِ القُرْيانِ حُوٍّ تِلاعُه ** فنُوَّارُه مِيلٌ إلى
الشَّمس زَاهِرُه ) وقال ذو الرُّمَّة : ( إذا جعَلَ الحِرباءُ يغبرُ لونُه
** ويخضرُّ من لَفْحِ الهَجير غَباغِبُه ) وقال ذو الرُّمَّة أيضاً : (
وهاجرةٍ من دُونِ مَيَّةَ لم يَقِل ** قلوصي بها والجُندبُ الجَوْنُ
يَرْمحُ ) ( إذا جعَل الحِرباءُ ممَّا أصابَه ** من الحَرِّ يلوِي رأسَه
ويرنِّحُ ) وقال آخر : ( كأنّ يدَيْ حِربائها متشَمِّساً ** يَدَا مُجرمٍ
يَستغفِرُ اللّه تائب ) وقال آخر :
( لظًى يلفَحُ الحِرباءَ حتَّى كأنّه ** أخو حَرَباتٍ بُزَّ ثَوْبيه شابحُ ) وأنشدوا : ( قد لاحها يوَمٌ شموسٌ مِلهابْ ** أبْلجُ ما لشمسه منْ جلبابْ ) ( يرمي الإكام من حصاة طبطاب ** شال الحَرابيُّ له بالأذْنابْ ) وقال العباس بن مرداس : ( على قُلصٍ يعلو بها كلَّ سَبْسَبٍ ** تخالُ به الحِرباءَ أنشط جالِسا ) وقال الشّاعر : ( تجاوَزتُ والعُصفورُ في الحجرِ لاجئ ** الصَّبِّ والشِّقذانُ تسمو صُدورُها ) ( واستَكَنّ العُصفورُ كَرْهاً مع الضَّ ** بِّ وأوَفى في عُودِهِ الحرْباءُ ) والشِّقْذان : الحرابي وقوله : تسمو أي ترتفع في الشجرة
وعلى رأس العود والواحدِ من الشِّقذَان بإسكان القاف وكسر الشِّين شَقَذ بتحريك القاف .
وأنشد : ( ففيها إذا الحِرباءُ مَدَّ بكفّه ** قام مَثيلَ الرَّاهبِ
المتعبِّدِ ) وذلك أنّ الحِرباء إذا انتصف النّهار فعلا في رأس شجرةٍ صار
كأنَّه راهبٌ في صومعتِه .
وقال آخر : ) ( أنَّى أُتيحَ لَكُم حِرباءُ
تنضبةٍ ** لا يترُكُ السَّاق إلاّ مُمْسكاً سَاقَا ) التشبُّه بالعرب قال :
وكان مولى لأبي بكر الشّيباني فادَّعى إلى العرب مِنْ ليلته فأصبح إلى
الجُلوس في الشمس قال : قال لي محمد بن منصور : مررْتُ به
فإذا هو في ضاحيةٍ وإذا هويحكُّ جلده بأظفاره خمْشاً وهو يقول : إنما نحن إبل .
وقد كان قيل له مرَّة : إنَّك تتشبّه بالعرب فقال : ألي يقال هذا أنا
واللّه حِرباء تنضُبة يشهدُ لي سوادُ لَوني وشَعاثَتي وغَوْر عينيّ وحُبي
للشَّمس .
قال : والحِرباء ربَّما رأى الإنسان فتوعَّدَه ونفَخ وتطاول له حتَّى ربَّما فزِع منه مَن لم يعرفْه وليس عندَه شرٌ ولا خير .
وأمَّا الذي سمعناه من أصحابنا فإنَّ الورَل السّامد هو الذي يفعل ذلك ولم أسمعْ بهذا في الحِرباء إلا من هذا الرجل .
قال : والحِرباء أيضاً : المسمار الذي يكون في حَلقة الدِّرع وجمعه حرابي .
استدراك لما فات من ذكر الوبر وقد كنا غفلنا أنْ نذكر الوَبْر في البيت الأول قال رجلٌ من بني تغلب :
( إذا رَجوْنَا ولداً من ظَهْرِ ** جاءَتْ بهِ أسْوَد مثلَ الوَبر ) من بارد الأدنَى بعيدِ القَعْر وقال مُخارقُ بنِ شهاب : ( فيا راكباً إمَّا عرَضْتَ فبلِّغن ** بني فالج حيثُ استقرَّ قرارُها ) ( هلُمُّوا إلينا لا تكونوا كأنَّكم ** بلاقعُ أرضٍ طار عنه وِبارُها ) ( وأرض التي أنتم لقيتم بجوِّها ** كثيرٌ بها أوعالُها ومدارها ) فهجا هؤلاء بكثرة الوِبار في أرضهم ومدح هؤلاء بكثرة الوعول في جَبَلهم وقال آخر : ( جُعَلٌ تمَطّى في غَيابتهِ ** زَمِرُ المروءةِ ناقص الشَّبْرِ ) ( لِزَبابةٍ سَوداءَ حَنْظلةٍ ** والعاجز التّدبيرِ كالوَبْرِ ) ويَضرب المثل بنتْن الوبْر ولذلك يقول الشاعر :
( تطلّى وهْيَ سيِّئة المُعَرَّى ** بوضْر الوَبر تحسَِبُه مَلابَا )
ونتن الوبر هو بَول مما يتمازح به الأعراب ومما تتمازح به الأعراب فمن ذلك
قول الشاعر : ( قد هدَمَ الضِّفدعُ بيتَ الفاره ** فجاء الرُّبْيةِ
والوِبارَهْ ) وحلَمٌ يَشدُّ بالحِجاره وهذا مثلُ قولهم : ( اختلط النَّقد
على الجِعْلانْ ** وقد بقي دريهمٌ وثلْثانْ )
الظرِبان وأمَّا قوله :
( والظَّربانُ الوَرْدُ قد شفّه ** حُبُّ الكشي والوحَرُ الحُمْرُ ) (
وليس يُنْجيه إذا ما فسَا ** شيءٌ ولَوْ أحرَزَهُ قَصْرُ ) قال أبو سليمان
الغنويُّ : الظّربان أخبثُ دابَّةٍ في الأرض وأهلَكه لفراخ الضَّبّة .
قال : فسألت زيدَ بن كثْوَة عن ذلك فقال : إي واللّه وللضَّبّ الكبير .
والظَّرِبان دابّة فسّاءَه لا يقوم لشَرِّ فسْوها شيءٌ قلت : فكيف يأخذها
قال : يأتي جُحر الضَّبّ وهو ببابه يستَروِح فإذا وجد الضّبُ ريحَ فسْوه
دخل هارباً في جُحره ومَرَّ هو معه من فوق الجُحر مستمعاً حَرْشَه وقد أصغى
بإحدى أذُنيه من فوق الأرض نحوَ صوته وهو أسمع دابَّةٍ في الأرض فإذا بلغ
الضبُّ منتهاه وصار إلى أقصى جُحره
وكفَّ حَرشَه استدَبَر جُحره ثم يَفْسُو عليه من ذلك الموضع وهو متى شمّه غُشيَ عليه فيأخذه .
قال : والظّرِبان واحدٌ والظِّرْبان : الجميع مثل الكَرَوان للواحد
والكِرْوان للجميع وأنشد قولَ ذي الرُّمَة : ( من آلِ أبي موسى تَرَى
القَوْمَ حَوْلَهُ ** كأنَّهمُ الكِرْوان أبصَرْن بازِيا ) والعامّة لا
تشكُّ في أنَّ الكَرَوَان ابنُ الحُبارَى لقول الشاعر : ( ألم تَر أنّ
الزُّبد بالتَّمْرِ طَيِّبٌ ** وأنّ الحُبارَي خالَةُ الكَرَوَانِ ) وقال
غيره : الظَّربان يكونُ على خلقة هذا الكلب الصِّينيِّ وهو منتنٌ جدّاً
يدخل في جُحر والضّباب الدلالي أيضاً التي يدخُل عليها السَّيلُ فيخرجها
وأنشد : ) ( يا ظَرباناً يتعشّى ضَبّاً ** رَأى العُقاب فَوْقهُ فخبّا ) (
كأنَّ خُصْييَه إذا أكبّا ** فَرُّوجتان تطلبان حَبَّا ) أوْ ثَعلبَان
يَحْفِزان ضبَّا
وأنشد الفرزدق : ( أبوك سليمٌ قَدْ عَرَفْنا مكانه
** وأنت بجيريّ قصيرٌ قوائمُهُ ) ( ومن يجعل الظِّرْبى القصار ظُهورُها **
كمنْ رفَعَتْهُ في السماء دعائمهُ ) سلاح بعض الحيوان قال : والظَّرِبان
يعلم أنَّ سلاحه في فسائه ليس شيءٌ عندَه سواه والحبارى تعلم أنَّ سِلاحها
في سَلْحها ليس لها شيءٌ سواه قال : ولها في جوفها خِزانةٌ لها فيها أبداً
رَجْعٌ مُعدٌّ فإذا احتاجتْ إليه وأمكنَها الاستعمال استعملَتْه وهي تعلم
أنَّ ذلك وقايةٌ لها وتعرف مع ذلك شدَّة لَزَجه وخبث نَتْنِه وتعلم أنها
تساور بذلك الزُّرَّق وأنها تُثقله فلا يصيد .
ويعلم الدِّيك أنَّ سلاحه في صيصيته ويعلم أنَّ له سلاحاً ويعلم أنّه تلك الشوكة ويدري لأيّ مكانٍ يعتلج وأيَّ موضعٍ يطعن به .
والقنافذ تعلم أنّ فروتها جنّة وأنّ شوك جلدها وقايةٌ فما كان منها مثل
الدُّلدل ذوات المداري فإنها ترمي فلا تُخْطِئ حتى يمرَّ مُرُورَ السهم
المُسدَّد وإن كانت من صغارها قبضتْ على الأفعى وهي واثقةٌ بأنّه ليس في
طاقة الأفعى لها من المكروه شيء ومتى قبضتْ على رأس الأفعى فالخطب فيها
يسير وإن قبضتْ على الذنَبِ أدخلَتْ رأسها فقرضتها وأكلتها أكلاً وأمكنَتها
من جسمها تصنع ما شاءت ثقةً منها بأنّه لايصل إليها بوجهٍ من الوجوه .
والأجناس التي تأكل الحيَّاتِ : القنافذُ والخنازير والعِقْبانُ
والسّنانيرُ والشاهُمرْك على أن النّسور والشاهمرك لا يتعرَّضان للكبار .
ويعلم الزُّنبور أن سلاحه في شَعْرته فقط كما تعلم العقربُ أن سلاحها في
إبرتها فقط وتعلم الذِّبان والبعوضُ والقَملة أن سلاحها في خراطيمها وتعلم
جوارحُ الطّير أن سِلاحها في مخالبها ويعلم الذِّئبُ والكلبُ أنّ سلاحهما
في أشداقهما فقط ويعلم الخنزير والأفعى أنّ سلاحهما في أنيابهما فقط .
ويعلم الثّور أنّ سلاحه قرنُه لا سلاحَ له غيره فإن لم يجد الثّورُ
والكبشُ والتّيس قروناً )
وكانت جُمّاً استعملتْ باضطرارٍ مواضع القُرون .
والبِرذون يستعمل فمه وحافر رجله .
ويعلم التِّمْساح أنّ أحدّ أسلحته وأعْونَها ذَنبُه ولذلك لايعرِض إلاّ
لمن وجَدَه على الشريعة فإنّه يضربه ويجمعُه إليه حتى يُلقيَه في الماء .
وذنَب الضبّ أنفع من براثنه . لُجوء بعض الحيوان إلى الخبث وإنما تفزع هذه
الأجناس إلى الخُبث وإلى ما في طبعها من شدَّة الحُضْر إذا عَدِمت
السِّلاح فعند ذلك تستعمل الحيلَة : مثلَ القُنفذِ في إمكان عَدوِّهِ من
فرْوته ومثلَ الظّبي واستعمال الحضْر في المستوي ومثل الأرنب واستعماله
الحضْر في الصَّعْداء .
وإذا كان ممن لا يرجع إلى سلاحه ولا إلى خبثه
كان إمَّا أن يكون أشدَّ حُضْراً ساعة الهربِ من غيره وإمَّا أن يكون ممَّن
لا يمكنه الحضْر ويقطَعه الجبْن فلا يبرح حتَّى يؤخذ .
ما يقطعه
الجبن من الحيوان وإنما تتقرَّب الشّاة بالمتابعة والانقياد للسّبع تظنُّ
أن ذلك ممّا ينفعها فإن الأسد إذا أخذ الشّاة ولم تتابعه ولم تعِنْه على
نفسها
فربما اضطُرّ الأسد إلى أن يجرَّها إلى عرينه وإذا أخذها
الذئب عدَتْ معه حتّى لا يكونُ عليه فيها مَؤُونة وهو إنما يريد أن
ينحِّيَها عن الراعي والكلب وإن لم يكن في ذلك الوقت هناك كلبٌ ولا راع
فيرى أن يجري على عادته .
وكذلك الدَّجاج إذا كُنَّ وُقَّعاً على
أغصان الشَّجر أو على الرُّفوف فلو مرَّ تحتها كلُّ كلبٍ وكلُّ سنّور وكلُّ
ثَعلب وكلُّ شيءٍ يطالبها فإِذا مرَّ ابن آوى بقُربها لم يبق منها واحدةٌ
إلاّ رمت بنفْسها إليه لأنّ الذِّئب هو المقصود به إلى طباع الشاة وكذلك
شأنُ ابن آوى والدَّجاج يخيَّلُ إليها أن ذلك مما ينفع عنده وللجُبن تفعل
كلّ هذا .
ولمثل هذه العلَّة نزل المنهزم عن فرسه الجوادِ ليُحْضر
ببدنه يظنُّ اجتهاده أنجى له وأنّه إذا كان على ظهر الفرَس أقلُّ كَدّاً
وأنَّ ذلك أقرب له إلى الهلاك .
ولمثل هذه العلَّة يتشبَّثُ الغريق
بمن أراد إنقاذه حتَّى يُغرِقَه نفسَه وهما قبل ذلك قد سمعا بحال الغريق
والمنهزم وأنّهما إنّما هما
في ذلك كالرجل المعافَى الذي يتعجَّب
ممن يشرب الدَّواء من يد أعلم النَّاس به فإن أصابتْه شقيقة أو لسعة عقرب
أو اشتكى خاصِرته أو أصابه حُصْر أو ) أُسْر شرب الدَّواءَ من يد أجهل
الخليقة أو جَمع بين دواءين متضادَّين .
فالأشياء التي تعلم أنَّ
سِلاحها في أذنابها ومآخرها الزُّنبور والثَّعلب والعقرب والحُبارى
والظَّرِبان وسيقع هذا البابُ في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
وليس
شيءٌ من صنف الحيوان أردأَ حيلةً عند معاينة العدوِّ من الغنم لأنها في
الأصل موصولةٌ بكفايات النَّاس فأسندت إليهم في كل أمْرٍ يصيبها ولولا ذلك
لخرَّجت لها الحاجة ضروباً من الأبواب التي تعينها فإذا لم يكن لها سلاحٌ
ولا حيلة ولم تَكن ممن يستطيع الانسياب إلى جُحرهِ أو صدع صخرة أو في ذرْوة
جبل كانت مثل الدَّجاجة فإنَّ أكثر ما عندها من الحيلة إذا كانت على الأرض
أن ترتفع إلى رَفٍّ وربّما كانت في الأرض فإذا دنا المغرب فزعت إلى ذلك .
ما له ضروب من السلاح وربّما كان عند الجنس من الآلات ضروبٌ كنحو زبرة
الأسد ولبدته فإنَّه حَمولٌ للسِّلاح إلاَّ في مراقِّ بطنه فإنّه من هناك
ضعيفٌ جدّاً وقال التغلبي : ( تَرى النَّاسُ مِنَّا جلدَ أسْودَ سالخٍ **
وزُبْرَة ضِرْغامٍ من الأُسدِ ضَيغَمِ ) وله مع ذلك بَعدُ الوثبة
واللُّزوقُ بالأرض وله الحبس باليد وله الطَّعن بالمخلب حتى ربَّما حبَسَ
العَيرَ بيمينه وطعن بِمِخْلب يساره لبَّته وقد ألقاه على مؤخره فيتلقَّى
دمَه شاحياً فاه وكأنه ينصبُّ من فَوَّارَة حتى إذا شربه واستفرغه صار إلى
شقِّ بطنه وله العضُّ بأنيابٍ صلابِ حداد وفكُّ شديد ومنخر واسع وله مع
البُرثُن والشكِّ بأظفاره دقُّ الأعناق وحطم الأصلاب وله أنه أسرعَ حُضْراً
من كلِّ شيءٍ أعمَلَ الحُضْرَ في الهرب منه وله من الصَّبر
على
الجوع ومن قلَّة الحاجة إلى الماء مع غيره وربّما سار في طلب الملح ثمانين
فرسخاً في يوم وليلة ولو لم يكن له سلاحٌ إلاَّ زئيره وتوقُّد عينيه وما في
صدور النَّاس له لَكفاه .
والإنسان يستعملُ في القتال كفّيه في ضروبٍ
ومرفقيه ورِجليه ومنكبيه وفمه ورأسَه وصدرَه كلُّ ذلك له سلاحٌ ويعلم
مكانه يستوي في ذلك العاقلُ والمجنونُ كما يستويان في الهداية في الطَّعام
والشراب إلى الفم .
سلاح المرأة والمرأة إذا ضعُفت عن كلِّ شيءٍ فزعت
إلى الصُّراخِ والولولة التماساً للرَّحمة واستجلاباً للغياث من حُماتِها
وكُفاتها أو من أهل الحسبة في أمرها . )
باب أسماء أولاد الحيوان قال : ويقال لولد السَّبع الهِجرِس والجمع هجارس ولولد الضبع
الفرعُل والجمعُ فراعل قال ابن حبناء : ( سلاحين منها بالرّكوب وغيرها **
إذا ما رآها فُرعُلُ الضَّبع كَفَّرا ) قال : والدَّيسم ولد الذّئب من
الكلبة .
وسألت عن ذلك أبا الفتح صاحبَ قطرب فأنكر ذلك وزعم أنَّ الدَّيسمة الذَّرة واسم أبي الفتح هذا ديْسم .
ويقال إنَّه دويْبَّة غير ما قالوا .
ويقال لولد اليربوع والفأرِ درص والجمع أَدْرَاصٌ ويقال لولد الأرنب
خِرنِق والجمع خرانق قال طرفة : ( إذا جَلسوا خيّلْتَ تحت ثيابهم ** خرانقَ
تُوفي بالضَّغيبِ لها نَذْرا ) أشعارٌ فيها أخلاط من السباع والوحش
والحشرات .
قال مسعود بن كبير الجرمي من طيئ يقولها في حمارٍ اشتراه فوجدَهُ على خلاف ما وصفهُ به النخّاس :
( إنّ أبا الخرشن شيءٌ هِنْبُ ** معجِّبٌ ما يحتويه العُجْبُ ) ( قد قلتُ لما أنْ أجدّ الرَّكبُ ** واعتر القوم صحار رحبُ ) ( يا أجْنحُ الأُذنِ ألا تخبُّ ** أهانك اللّه فبئسَ النَّجْبُ ) ( ما كان لي إذ أشتريك قلبُ ** بَلى ولكنْ ضاع ثَمَّ اللُّبُّ ) ( إن الذي باعك خبٌّ ضبُّ ** أخبرني أنّك عَيْرٌ نَدْبُ ) ( وشرُّ ما قال الرِّجال الْكذِبُ ** صَبَّ عليه ضبُعٌ وذئبُ ) ( سرْحانَةٌ وجَيْأَلٌ قِرْشَبّ ** ذيخٌ عَدتْهُ رَمْلةٌ وهضبُ )
كأنه تحت الظَّلام سَقْبُ يأخذ منه من رآه الرُّعْبُ ( وأنت نَفَّاقٌ هناك
ضبُّ ** وصبَحَ الراعي مُجَرّاً وغبُ ) ( ورخمات بَيْنهُنَّ كعبُ **
وأكرُعُ العَيْرِ وفرْثٌ رطْبُ ) يقول : أدنوني إلى شرائه ويقال ثرية لقيك
لغة طائيَّة . )
وقال قِرْواش بن حَوْط : ( نبّئْتُ أن عقالاً بنَ خويلدٍ ** بنعافِ ذي عدَمٍ وأنَّ الأعلما )
( ضَبُعاً مجاهَرةٍ وليثَا هُدنةٍ ** وثعَيلبَا خمرٍ إذا ماء أظلَما ) ( لا تسأماني من رَسِيسِ عَداوَةٍ ** أبداً فلستُ بسائمٍ إنْ تسأمَا ) ( غُضَّا الوعيدَ فما أكونُ لموعِدِي ** فيئاً ولا أكُلاً له متخَضَّمَا ) ( فمتى ألاقِكما البراز تُلاَقيا ** عَرِكاً يفلُّ الحدَّ شاكاً مُعْلِمَا ) الوحر قال : وقال العَدَبّس الكنانيّ : والوَحَرةَ دويْبَّة كالعظاءة حمراء إذا اجتمَعَتْ تلصق بالأرض وجمع وحَرَة وحَرٌ مفتوحة الحاء ومنه قيل وَحَرُ الصَّدر كما قيل للحقدِ ضبٌّ ذهبوا إلى لزوقه بالصّدر كالتزاق الوَحَرة بالأرض وأنشدَ :
( بئسَ عَمْرَ اللّه قومٌ طُرِقُوا **
فَقَرَوْا أضيافُهُمْ لَحْماً وحِر ) يقال لحم وَحر : إذا دبّت عليه
الوَحرة مقرف : مُوبئ ويقال فِئر : إذا وقعتْ فيه فارةٌ وقال الحكَميّ : (
بأرضٍ باعدَ الرَّحْمَ ** نُ عَنْهَا الطّلْحَ والعُشَرَا ) ( ولم يَجْعلْ
مصايِدَها ** يَرَابيعاً ولا وَحَرا )
لهيْشَة وأمّا قوله : (
وَهيْشةٌ تأكلها سُرْفَةٌ ** وَسِمْعُ ذئْبٍ هَمُّهُ الحُضْرُ ) فالهيشة أم
حبين وأنشد : ( أشكو إليك زماناً قدْ تعرَّقن ** كما تعرَّق رأسَ الهيْشَة
الذِّيبُ ) وأمُّ جُبَيْن وأمُّ حُبَيْنَة سواءٌ وقد ذكرنا شأنها في صدر
هذا الكتاب
ويقال إنّها لا تقيم بمكانٍ تكون فيه هذه الدُّودة التي
يقال لها السُّرفة وإليها ينتهي المَثل في الصَّنْعة ويقال : أصْنَعُ من
سُرفة ويقال إنّها تقوم منْ أمِّ حُبين مَقامَ القراد من البعير إذا كانتْ
أمُّ حبَيْنٍ في الأرض التي تكون فيها هذه الدُّودة .
ذكر من يأكل أم
حبين والقرنبي والجرذان قال : وقال مَدَنيٌّ لأعرابي : أتأكلون الضَّبََّ
قال : نعم قال : فاليربوع قال : نعم قال : فالوَحرة قال : نعم حتَّى عدَّ
أجناساً كثيرةً من هذه الحشرات قال أفتأكلون أمَّ حُبيْنٍ قال : لا قال :
فلْتَهنِ أمَّ حُبينٍ العافيةُ .
قال ابنُ أبي كريمة : سألَ عمرُو بنُ
كريمةَ أعرابيّاً وأنا عنده فقال : أتأكلونَ القرنْبى قال : طال واللّه ما
سال ماؤُه على شدقي .
وزعم أبو زيدٍ النحويُّ سعيدُ بنُ أوْس
الأنصاريُّ قال : دخلتُ على رُؤبة وإذا قُدَّامه كانونٌ وهو يَمُلُّ على
جَمْرِهِ جُرذاً من جرذان البيت يخرج الواحدَ بعد الواحد فيأكله ويقول :
هذا أطيبُ من اليربوع يأكل التّمرْ والجُبْنُ ويحسو الزَّيْت والسَّمْن .
وأنشد : ( تَرَى التَّيْميَّ يزحَفُ كالقَرَنْبى ** إلى تَيْميَّة كقَفا
القَدُّوم ) وقال آخر : ( يدِبُّ عَلَى أحشائها كلَّ لَيْلَةٍ ** دَبيبَ
القَرْنبى باتَ يعلو نقا سهلا ) اليربوع قال : واليربوع دابَّة كالجُرذ
منْكبٌّ على صدره لقِصرِ يديه طويل الرِّجلين له ذنبٌ كذنب الجرذ يرفعه في
الصعداء إذا هَرْولَ وإذا رأيتَه كذلك رأيتَ فيه اضطراباً وعجباً والأعراب
تأكله في )
الجَهْد وفي الخِصب .
أخبث الحيوان قال : وكلُّ
دابّةٍ حشاها اللّه تعالى خُبْثاً فهو قصيرُ اليدين فإذا خافت شيئاً لاذت
بالصّعداء فلا يكاد يلحقُها شيء .
أكل المسيب بن شريك لليربوع
قال : وأخبرني ابنُ أبي نُجَيح وكان حجّ مع المسيّب بن شريك عامَ حجَّ
المهديُّ مع سلسبيل قال : زاملْت المسيِّب في حَجَّته تِلك فبينا نحنُ
نَسير إذ نظرنا إلى يربوع يتخلل فرَاسن الإبل فصاحَ بغلمانه : دونَكم
اليَربوع فأحضرُوا في إثره فأخذُوه فلمَّا حططْنا قال : اذَبحوه ثمَّ قال :
اسلخوهُ واشوُوه وائتوني به في غَدائي قال : فأتي به في آخر الغداء على
رغيف قد رَعَّبوه فهو أشدُّ حمرة من الزَّهوة يريد البُسرة فعطف عليه فثنى
الرَّغيف ثم غمزه بين راحتيه ثم فَرَج الرغيف فإذا هو قد أخذَ من دسمه
فوضعه بين يديه ثمَّ تناول
اليربوع فنزع فخذاً منه فتناولها ثم قال : كل يا أبا محمد فقلت : ما لي به حاجة فضحك ثم جعلَ يأتي عليه عضواً عضواً .
قال : وأمَّا أمُّ حُبين فهي الهَيشة وهي أم الحبين وهي دويْبَةٌ تأكلُها
الأعراب مثل الحرباء إلاّ أنَّها أصغر منها وهي كدْرَاءٌ لِسوادٍ بيضاءُ
البطن وهو خلافُ قول الأعرابيِّ للمدني .
وصاة أعرابي لسهل بن هارون
وقال أعرابيٌّ لسهل بن هارون في تواري سهل من غُرمائه وطلبهم له طلباً
شديداً فأوصاه الأعرابيُّ بالحزْم وتدبير اليَربوع فقال : ( انزل أبا عمرو
على حَدِّ قريةٍ ** تَزيغ إلى سَهْلٍ كثير السَّلائقِ ) ( وخُذْ نَفَقَ
اليربوع واسْلُكْ سبيلَه ** ودَعْ عنك إني ناطقٌ وابنُ ناطق ) ( وكنْ كأبي
قُطْنِ على كلِّ زائغ ** له منزلٌ في ضيق العَرْض شاهقِ )
وإنّما
قال ذلك لاحتيال اليربوع بأبوابه التي يخرج من بعضها إذا ارتاب بالبعض
الآخر وكذا كانت دار أبي قطنة الخناق بالكوفة في كندة و يزعمون أنَّه كان
مولًى لهم وأنشد أبو عُبيدة قال : أنشدني سفيان بن عيينة : ( إذ ما سَرَّكَ
العَيشُ ** فلا تمرُرْ على كِنْدَهْ )
وقد قُتل أبو قُطْنة وصُلِب .
الخناقون وممَّن كان يخنق النّاس بالمدينة عَدِيَّة المدنيّةُ الصَّفراءُ
وبالبصرة رادويْه والمرميُّون بالخنق من القبائل وأصحاب النِّحل والتأويلات
هم الذين ذكَرَهم أعشى هَمْدان في قوله : ( إذا سِرْتَ في عِجلٍ فسِرْ في
صَحابةٍ ** وكِنْدَةَ فاحذَرْهَا حِذَارك للخسْفِ ) ( وفي شيعة الأعمى
خِناقٌ وغِيلةٌ ** وقَشْبٌ وإعمال لجندلة القذفِ ) ( وكلُّهُمُ شَرٌّ على
أنَّ رأسهم ** حميدة والميلاءُ حاضِنة الكِسْفِ )
( متى كُنْتَ في
حَيَّيْ بجيلةَ فاستمعْ ** فإِنَّ لها قصفاً يدلُ على حَتْفِ ) ( إذا
اعتزموا يوماً على قَتْل زائر ** تداعَوْا عَلَيه بالنُّباح وبالعَزْفِ )
وذلك أن الخناقين لا يسيرون إلاّ معاً ولا يقيمون في الأمصار إلاّ كذلك
فإذا عزَم أهلُ دارٍ على خنْق إنسانٍ كانت العلامةُ بينهم الضرب على دُفٍّ
أوْ طبلٍ على ما يكون في دوُر الناس وعندهم كلابٌ ُ مرتَبطة فإذا تجاوَبُوا
بالعزْف ليختفي الصَّوت ضربوا تلك الكِلاب فنبحَتْ وربّما كان منهم معلِّم
يؤدّب في الدّرب فإذا سمع تلك الأصوات أمَرَ الصِّبيانَ برفع الهجاء
والقِراءة والحساب .
المغيرية والغالية والمنصورية وأما الأعمى فهو
المغيرة بن سعيدٍ صاحبُ المغيرية مولى بجيلة والخارج على خالد بن عبد
اللّّه ( تقول من النَّواكَة أطعموني ** شراباً ثمَّ بُلتَ على السّريرِ ) (
لأعلاجٍ ثمانيةٍ وشيخ ** كَليلِ الحدّ ذي بصر ضريرِ ) وأمَّا حميدة فكانت
من أصحاب لَيلى الناعظية ولها رياسة
في الغالية والمَيْلاء حاضنة
أبي منصور صاحب المنْصوريَّةَ وهو الكِسْف قالت الغالية : إيَّاه عَنَى
اللّه : وإنْ يَرَوْا كِسْفاً من السَّماء سَاقِطاً يقُولُوا سَحابٌ
مَرْكومٌ وإيَّاه عنى مَعْدان الأعمى حيثُ يقول : ( إنَّ ذا الكِسْفَ صَدَّ
آل كُميل ** وكميلٌ رَذْلٌ من الأرْذَالِ ) ( تَرَكا بالعِراق دَاءً
دويّاً ** ضَلَّ فيه تلطُّف المحتالِ )
تفسير بيت وأمَّا قوله : انزل
أبا عمرو على حَدِّ قريةٍ تَزيغ إلى سهْل كثيرٍ السّلائق فأراد الهرب لأنه
متى كان في ظهرٍ فظٍّ كثير الجوَادّ والطرائق كان أمكرَ وأخفى وما أحسن ما
قال النابغةُ في صفة الطّريق إذا كان يتشعَّب حيث يقول : ( وناجيةٍ عدَّيتُ
في ظهر لاحبٍ ** كَسَحْل اليماني قاصداً للمناهلِ )
( له خلجٌ تَهْوِي فُرادى وتَرعوي ** إلى كلِّ ذي نِيرَين بادِي الشَّواكلِ ) وهذا موضع اليربوع في تدبيره ومكره . أرجوزة في اليربوع وأكل الحشرات والحيات وقال الآخر في صفة اليربوع وفي حيلته وفي خلْقه وفي أكل الحشَرات والحيات : ( يا رُبَّ يَربوع قَصيرِ الظَّهر ** وشاخصِ العَجْب ذليل الصَّدْرِ ) ( ومُحْكم البيتِ جميع الأمر ** يَرْعى أُصولَ سَلم وسِدْرِ ) ( حتّى تراهُ كمِداد العكرِ ** باكرتُه قبلَ طُلوع الفَجرِ ) ( بكلِّ فيَّاض اليدين غَمر ** وكلِّ قَنَّاصٍ قليلِ الوَفرِ ) ( مُرتفع النّجم كريم النَّجْر ** فعاد منّي ببعيد القَعْرِ ) ( مختلفِ البَطْن عجيبِ الظهر ** وتدْمُريٌّ قاصعٌ في جُحرِ )
( في العُسر إنْ كان وبعدَ العُسْرِ ** أطيب عندي مِنْ
جَنيِّ التّمرِ ) ( وشَحْمةُ الأرضِ طعامُ المُثرِي ** وكلِّ جبار بعيد
الذِّكرِ ) وهيْشة أرفعها لفطري ليوم حفْل وليوم فَخْرِ ( وكلُّ شيءٍ في
الظلام يَسْري ** من عقْرَبٍ أو قُنفذ أو وَبْرِ ) ( أو حيّةٍ أَمُلَّها في
الجَمْر ** فتلك هَمِّي وإليها أجري ) ( في كلِّ حالٍ من غنًى وفَقْرِ **
وكلُّ شيءٍ لقَضَاءٍ يجري ) ( والذّيخُ والسِّمْعُ وذئبُ القَفْرِ **
والكلبُ والتَّتْفل بعد الهِرِّ ) ( والضّبُّ والحوتُ وطيرُ البَحْر **
والأعورُ النَّاطقُ يومَ الزّجْرِ ) ( آكُلُهُ غيرَ الحرابي الخُضْرِ ** أو
جُعل صلَّى صلاة العصْرِ ) ( يشكر إن نالَ قِرًى من جَعْرِ ** يا ويلَه من
شاكرٍ ذي كُفْرِ )
أفسدَ واللّه عليّ شُكري فزعم أنَّه يستطيبُ كلَّ شيءٍ إلاّ الحِرباء الذي قد اخضرَّ من حرِّ الشَّمس
وإلاّ الجُعَل الذي يصلِّي العصر وزعَمَ أنّه إنما جعَل ذلك شكراً على ما
أُطعِم من العَذِرة وأنَّ ذلك الشُّكر هو اللُّؤم والكفر .
ولا أعرِفُ
معنى صلاة الجعَل وقد روى ابن الأعرابي عن زاهر قال : يا بُنَيّ لا تصلِّ
فإنّما يصلِّي الجُعل ولا تَصُمْ فإنما يصوم الحِمار وما فهمتُه بعد .
وأراه قد قدّم الهَيْشة وهي أمُّ حبين وهذا خلافُ ما رووا عن الأعرابي والمدني .
اليرابيع وأمَّا قوله : وَتَدْمُريٌّ قاصعٌ في جحْرِ ( وإنِّي لأصطاد اليَرابيعَ كُلّها ** شُفَاريَّها والتّدمُريَّ المقَصِّعَا )
واليرابيع ضربان : الشُّفاريُّ والتَّدمُري مثل الفَتِّي والمذكِّي .
وقال جريرٌ حينَ شبَّه أشياء من المرأة بأشياء من الحشرات وغيرها وذكر
فيها الجُعل فقال : ( ترَى التَّيميَّ يزْحفُ كالقرنبى ** إلى تيميةٍ كعصَا
المَليلِ ) ( تشينُ الزَّعفران عَروسُ تيْمٍ ** وتمْشي مِشْية الجُعلِ
الدّحُولِ ) ( يَقولُ المجتَلون عروسَ تيمٍ ** شَوى أمِّ الحُبَين ورأسُ
فيلِ ) شعر فيه ذكر اليربوع وقال عُبيد بن أيُّوب العنبري في ذكر اليربوع :
( حَمَلْتُ عليها ما لوَ أنَّ حمامةً ** تُحَمَّلُه طارتْ به في الخفاخفِ )
( نطوعاً وأنساعاً وأشلاء مُدْنَفٍ ** بَرى جًسمَه طولُ السُّرى في المخاوفِ ) ( فرُحْنا كما راحَتْ قَطاةٌ تنوَّرَتْ ** لأزغَبَ مُلْقى بين غُبْر صَفاصفِ ) ( ترى الطّير واليربوعَ يبحثن وطأها ** وينقرنَ وطء المنسمِ المتقاذِفِ ) وقال ابنُ الأعرابيّ وهو الذي أنشدَنيه : ترى الطير واليربوع يعني أنّهما يبحثانِ في أثر خُفّها ملجأ يلجآن إليه إمَّا لشدَّة الحر وإما لغير ذلك وأنشد أصحابنا عن بعض الأعراب وشعرائهم أنَّه قال ( فما أمُّ الرُّدينِ وإن أدَلّتْ ** بعالمةٍ بأخْلاقِ الكرامِ )
( إذا الشّيطان قصَّع في قَفَاها ** تَنَفّقْنَاه بالحبْل التؤَامِ ) يقول : إذا دخل الشَّيطان في قاصعاء قفاها تنفقناه أي أخرجْناه من النافقاء بالحبل المثنّى وقد مَثَّل وقد أحسن في نعت الشِّعر وإن لم يكن أحْسَن في العُقوق وأنشد قي قوس : ( لا كَّزة السَّهم ولا قلوعُ ** يدرُج تحت عَجْسها اليربوعُ ) القَلوع من القسي : التي إذا نُزِع فيها انقلبت على كفِّ النازع وأما قوله : وأما قوله : ( تخالُ به السِّمعَ الأزلَّ كأنّه ** إذا ما عدا ) قيام الذئب بشأن جراء الضبع ويقولون : إن الضبع إذا هلكَتْ قام بشأنِ جرائها الذِّئب وقال الكُميت :
( كما خامَرَتْ في حضْنها أمُّ عامر
** لِذي الحَبْل حتَّى عالَ أوسٌ عِيالها ) وأنشد أبو عبيدة في ذلك شعراً
فسَّر به المعنى وهو قوله : ( والذّئبُ يغذُو بناتِ الذِّيخ نافلةً ** بلْ
يحسبُ الذِّئبُ أنَّ النَّجْل للذِّيبِ ) يقول : لكثرة ما بين الذئاب
والضباع من التّسافُد يظن الذّئب أنّ أولاد الضبع أولادُه .
والأمرُ
في الأعراب عجب في أكل السِّباع والحشرات فمنهم من يظهر استطابتها ومنهم من
يفخَر بأكلها كالذي يقول : ( أيا أمَّ عمرو ومَنْ يَكُنْ عُقرُ داره **
جِوَارَ عَدِيٍّ يأكل الحَشراتِ )
ما تحبه الأفاعي وما تبغضه وأمَّا قوله : ( لا تَرِدُ الماء أفاعي النّقا ** لكنّها يُعْجِبُها الخمْرُ )
( وفي ذَرَى الحَرْمَلِ ظلٌّ ** إذا علا واحْتدَم الهَجْرُ ) فإن من
العجبَ أنّ الأفعى لا ترِدُ الماءَ ولا تريدُه وهي مع هذا إذا وجدت الخَمر
شربَت حتّى تسكر حتّى ربَّما كان ذلك سبب حتفها .
والأفاعي تكره ريح
السَّذاب والشّيح وتستريح إلى نبات الحَرمَل وأمَّا أنا فإنِّي ألقيْتُ على
رأسها وأنفها من السّذاب ما غمرها فلم أر على ما قالوا دليلاً .
أكل
بعض الحيوان لبعض وأمّا قوله : ( وبعضها طُعْمٌ لبعضٍ كما ** أعْطَى سِهام
الميْسِرِ القَمْرُ ) فإن الجرذ يخرُج يلتمسُ الطُّعم فهو يحتالُ لطُعمه
وهو يأكل ما دونَه في القُوَّة كنحو صغارِ الدّوابِّ والطّير وبيضِها
وفراخِها ومِما لا يسكن في جُحْر أو تكون أفاحيصُه على وجْه الأرض فهو
يحتال لذلك ويحتال لمنْع نفسه من الحيّات ومن سِباع الطيَّر .
والحيّة
تُريغ الجرذ لتأكله وتحتال أيضاً للامتناع من الوَرل والقنفذ وهما عليه
أقْوى منه عليهما والوَرل إنما يحتال للحية ويحتال للثَّعلب والثعلب يحتال
لما دُونه .
قال : وتخرج البعوضة لطلب الطُّعمِ والبعوضة تعرف بطبعها أنّ الذي
يعيشها الدم ومتى أبصرتْ الفيلَ والجاموسَ وما دونهما علمت إنّما خلِقت
جلودهما لها غذاءً فتسقطُ عليهما وتطعُنُ بخرطومها ثقةً منها بنفوذ سلاحها
وبهجومها على الدَّم .
وتخرجُ الذُّبابة ولها ضروبٌ من المطعم
والبعوضُ من أكبرها صيدها وأحبُّ غذائها إليها ولولا الذِّبان لكان ضررُ
البعوض نهاراً أكثر .
وتخرج الوزَغَةُ والعنكبوت الذي يقال له الليث فيصيدان الذُّباب بألطف حِيلة وأجود تدبير ثم تذهب تلك أيضاً كشأن غيرهما .
كأنه يقول : هذا مذهبٌ في أكل الطيِّبات بعضها لبعض وليس لجميعها بُدٌّ من
الطُّعم ولا بدّ للصائد أنْ يصطاد وكلُّ ضعيفٍ فهو يأكُلُ أضعف منه وكلُّ
قويٍّ فلا بدَّ أن يأكله من هو أقوى )
منه والنَّاسُ بعضُهم على بعض شبيه بذلك وإن قصروا عن دَرْك المقدار فجعل اللّه عزّ وجلَّ بعضها حياةً لبعض وبعضها موتاً لبعض .
شعر للمنهال في أكل بعض الحيوان لبعض وقال المنهال : ( ووثبة من خُزَزٍ أعفرٍ ** وخِرنقٍ يلعَبُ فَوْقَ التُّرابْ )
( وَعَضرَ فُوطٍ قد تقوَّى على ** مُحْلوْلِكِ البقة مثل الحباب ) ( وظالم
يَعْدُو على ظالمٍ ** قد ضَجَّ منه حَشراتُ الشِّعابْ ) وهذان الظَّالمان
اللذان عنى : الأسودُ والأفعى فإنَّ الأسود إذا جاع ابتلع الأفعى .
آكل الأَسود للأَفاعي وشكا إليّ حَوّاءٌ مرةً فقال : أفقرني هذا الأَسْوَد
ومنعني الكَسْبَ وذلك أنّ امرأتي جهلت فرمَتْ به في جُونةٍ فيها أفاعي
ثلاثٌ أو أربعٌ فابتلعهنَّ كلّهن وأراني حيَّةً مُنْكَرةً ولا يبعد ما قال .
والعرب تقول للمسيء : أظْلَمُ من حيَّة وقد ذكرنا ذلك في موضعه من هذا الكتاب .
ولا يستطيع أنْ يروم ذلك من الأفعى إلاّ بأن يغتالها فيقبض على رأسها
وقَفاها فإنّ الأفعى وصف سم الحية وإذا وصفوا سمّ الحيّة بالشدَّة والإجهاز
خبَّروا عنها أنّه لم يبقَ في بدنها دمٌ ولا بِلّة ولذلك قال الشاعر :
( لو حُزّ ما أخرجتْ منه يَدٌ بَللاً ** ولو تَكَنّفَهُ الراقون ما سَمِعا
) وقال آخر : ( لُميمةً من حنشٍ أعْمى أصمّ ** قد عاش حتّى هو ما يمشي
بِدَمْ ) سلاح الحيوان والشأن في السِّلاح أنّه كلما كان أقلَّ كان أبلغ
وكلما كان أكثر عدَداً وأشدَّ ضرراً كان أشجع وآخذَ لكلِّ من عَرفَ أنه
دونه وأنشد أبو عبيدة : ( مشْي السَّبَنْتى إلى هَيْجاءَ مُفْظِعَةٍ ** له
سلاحانِ أنيابٌ وأظفارُ ) كالأسد له فم الذِّئب وحسبك بفم الذِّئب وله فضلُ
قوة المخالب وللنَّسر منْسرٌ وقُوَّة )
بدن يكون بهما فوقَ العقاب ولذلك قال ابن مُناذر :
( أتجعلُ ليثاً ذا عرين تَرى له ** نُيوباً وأظْفاراً وعِرساً وأشبُلاَ ) (
كآخرَ ذا نابٍ حديدٍ ومِخْلبٍ ** ولم يتَّخذ عِرْساً ولم يَحْم مَعْقِلاَ )
وذلك أن فتيين تواجئا بالخناجر أحدهما صُبيريّ والآخر كلْبيّ فَحُملا إلى
الأمير فضرب الصُّبيريَّ مائة سوط فلم يحمدوا صبره وشغل عن الكلبي فضربه
يوم العَرْض خمسمائة سوط فصبر صبراً حمِدوهُ ففخر الْكلبيُّ بذلك على
الصُّبيري .
وابن مناذر مولى سُليمان بن عبيد بن علاّن بن شَمّاس
الصُّبيري فقال هذا الشعر ومعناه أنّ شُجاعاً لو لقي الأسد وهو مسلَّح
بأرضٍ هو بها غريبٌ وليس هو بقرب غيضتِهِ وأشباله لما كان معه مما يتخذه
مثل الذي يكون معه في الحال الأخرى يقولُ : وإنما صبرَ صاحبُكم لأنّه إنما
ضُرِبَ بحضرة الأكفاء والأصدقاء والأعداء فكان هذا مما أعانه على الصّبر
وضُربَ صاحبُنا في الخلاء وقد وُكل إلى مقدار جودة نَفْسه وقطعت المادةُ
بحضور البطالة .
حمدان وغلامه وسمعتُ حمدانَ أبا العقب وهو
يقولُ لِغلامٍ له وكيف لا تستطيل عليَّ وقد ضربُوك بين النّاس خمسِين سوطاً
فلم تنطِق فقلت : إذا ضربه السَّجَّانُ مائة قناةٍ في مكانٍ ليس فيه أحدٌ
فصبرَ فهو أصبرُ النّاسِ .
تفسير بيت الخنساء وأمّا قوله : مشْي
السّبَنْتَى فإن السبَّنتى هو النمر ثمَّ صار اسماً لكلِّ سبع جريء ثم
صاروا مَشْي السَّبتى وجد السَّبَنْتى
رؤساء الحيوان وأمّا قولُهُ :
وَتمْسح النِّيلِ عُقاب الهوا والليثُ رأسٌ وله الأسْرُ ( ثلاثةٌ ليْسَ
لَهُمْ غالبٌ ** إلاَّ بما يَنْتَقِضُ الدَّهْرُ )
فإنّهم يزعمون
أنَّ الهواء للعقُاب والأرض للأسد والماء للتِّمساحِ وليس للنّارِ حظٌّ في
شيءٍ من أجناس الحيوان : فكأنّه سلّم الرياسةَ على جميع الدُّنيا للعُقاب
والأسد والتمساح ولم يَمُد الهواءَ وقصْرُ الممدود أحْسَنُ من مدِّ
المقصورِ .
رواية المعتزلة للشعر وروت المعتزلةُ المذكورون كلُّهمْ رواية عامَّةِ الأشعارِ وكان بِشرٌ أرواهم للشِّعر خاصَّةً .
الهوائي والمائي والأرضي من الحيوان وقولهم : الطائر هوائيٌّ والسمك
مائيٌّ مجازُ كلام وكلُّ حيوان في الأرض فهو أرضيٌّ قبل أن يكون مائيّاً أو
هوائياً لأنَّ الطَّائر وإنْ طار في الهواء فإنّ طيرانَهُ فيه كسباحةِ
الإنسان في الماء وإنّما ذلك على التكلفِ والحيلة ومتى صار في الأرض ودلّى
نفسه لم يجدْ بُدّاً من الأرض .
وأمّا بَقِيَّةُ القصيدةِ التي فيها ذكر الرَّافضة والإباضيَّةِ والنَّابتة فليس هذا موضع تفسيره .
وسنقولُ في قصيدته الأخرى بما أمكننا من القول إن شاء اللّه تعالى .
انقضت قصيدةُ بشر بن المعتمر الأولى .
تفسير القصيدة الثانية
وأما قوله : أوابد الوحش وأحناشها فإن الأوابد المقيمة والأحناشُ الحيّات ثم صار بعدُ الضبُّ والوَرَلُ والحِرباء والوحَرة وأشباه ذلك من الأحناش .وأما قوله : ( وكلُّها شرٌّ وفي شَرِّها ** خيرٌ كثيرٌ عند مَنْ يدري ) يقولُ : هي وإن كانَتْ مؤذيَةً وفيها قواتل فإن فيها دواءً وفيها عبرةً لمن فكّر وأذاها محنة واختبارٌ فبالاختبار يطيع النّاسُ وبالطاعة يدخلون الجنّة . وَسئلَ علي بن أبي طالب كرم اللّه وجههُ غير مرَّةٍ في عِللٍ نالته فقيل لهُ : كيف أصبحت فقال : بشرٍّ ذَهبَ إلى قوله عزّ وجلّ : قُلْ أعوذُ بِربِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خلَقَ .
وأمّا قوله : ( فَشَرُّهُمْ أكثرُهُمْ حِيلةً ** كالذِّئْبِ والثّعْلَبِ والذَّرِّ )
فقد فسره لك في قوله : ( والليث قد بلّده عِلْمُهُ ** بما حوى من شدّةِ الأسْرِ ) وهكذا كلُّ من وثِقَ بنفسه وقلَّت حاجته .
ويزعم أصحابُ القنصِ أنّ العُقاب لا تكادُ تراوغ الصَّيد ولا تعاني ذلك
وأنَّها لا تزال تكونُ على المرقَبِ العالي فإذا اصطاد بعضُ سباع الطير
شيئاً انقَضّتْ عليه فإذا أبصرها ذلك الطائرُ لم يكن همه إلا الهرب وترْك
صيدِه في يدها ولكنها إذا جاعت فلم تجدْ كافياً لم يمتنعْ عليها الذّئْبُ
فما دونَه وقد قال الشّاعرُ : ( مُهَبّلٌ ذئبها يوماً إذا قَلَبَتْ ** إليه
من مُسْتَكَفِّ الجوِّ حملاقا ) وقال آخر : ( كأنّها حين فاض الماءُ
واحتمِلَتْ ** صَقْعاءُ لاحَ لها بالقَفرَةِ الذِّيبُ ) ( صُبَّتْ عليه ولم
تنصبَّ من أمم ** إنَّ الشَّقاء على الأشقيْنَ مصبوبُ ) وأمَّا قوله : (
تَعْرِفُ بالإحساسِ أقدارها ** في الأسرِ والإلحاح والصَّبرِ )
يقول : لا يخفى على كلِّ سبع ضعفُه وتجلدُه وقوته وكذلك البهيمةُ
الوحشيَّةُ لا يخفى عليها مقدارُ قوةِ بدنِها وسلاحها ولا مقدارُ عَدْوِها
في الكرِّ والفر وعلى أقدار هذه الطّبقات تظهر وأمّا قوله : ( والضَّبُع
الغَثراء مع ذيخها ** شرٌّ من اللّبْوَة والنَّمرِ ) ( كما تَرى الذِّئب
إذا لم يُطِق ** صاح فجَاءَت رَسلاً تجرِي ) ( وكُلُّ شيءٍ فعلى قَدْرِهِ
** يُحْجِمُ أو يُقْدِمُ أو يَجْري ) فإنَّ هذه السِّباع القَويَّة
الشَّريفَةَ ذواتِ الرِّياسةِ : الأُسْد والنُّمور والبُبُورَ لا تعرِض
للنَّاس إلاّ بعد أن تهرم فتعجِزَ عن صيد الوَحش وإن لم يكنْ بها جوعٌ
شديدٌ فمرَّ بها إنسانٌ لم تعْرِضْ له وليس الذِّئبُ كذلك لأن الذِّئْبَ
أشدُّ مطالبةً فإن خاف العجز عوى عُواء استغاثة فتسامعت الذِّئاب وأقبلتْ
فليس دون أكل ذلك الإنسانِ شيءٌ .
وقسّم الأشياء فقال : إنّما هو نكوصٌ وتأخُّر وفِرارٌ وإحجام وليس بفرار ولا إقدام وكذلك هو
المنديل والنسر وأمَّا قوله : ( والكَيْسُ في المكسبِ شَمْلُ لهم **
والعندليل الفرخ كالنَّسْرِ ) فالعندليل طائرٌ أصغر من ابن تمرة وابنُ تمرة
هو الذي يُضرب به المثلُ في صغر الجسم والنَّسر أعظمُ سباع الطَّير
وأقواها بدناً .
وقال يونسُ النحويُّ وذكر خلفاً الأحمر فقال : يضربُ
ما بين العندليل إلى الكُركيّ وقد قال فيه الشّاعر : ( ويضربُ الكركي إلى
القُنبرِ ** لا عانساً يبقى ولا مُحْتلِمْ ) وقال : ( وبما أقولُ لصاحبي
خلفٍ ** إيهاً إليك تَحَذّرَنْ خَلَفُ ) ( فلو أنّ بيتك في ذُرى عَلمٍ **
من دُونِ قُلَّةِ رأسِهِ شَعَفُ ) ( لخشيتُ قدرك أن يبيتها ** إن لم يكن لي
عنه مُنصرفُ ) وفي المثل : كلُّ طائرٍ يصيدُ على قَدْرِه .
كسب الذئب وخبثه وأمَّا قوله : ( والخُلد كالذِّئب على كَسْبِهِ ** والفيلُ
والأعلمُ كالوَبْرِ ) فإنّه يقالُ : أغدرُ من ذئب وأخبث من ذئب وأكسبُ من
ذئب على قول الآخر : أكسبُ لِلْخَيْرِ من الذِّئْبِ الأزَلّ والخير عنده في
هذا الموضع ما يُعيش ويقُوت والخير في مكانٍ آخر : المالُ بِعينه على قوله
عزّ وجلّ : إنْ ترَكَ خيْراً الْوصِيَّةُ وعلى قوله : وإنَّهُ لِحُبِّ
الخيْرِ لَشَديدُ أي إنّه من أجل حبِّ المال لبخيلٌ عليه ضنين به متشدِّد
فيه .
والخير في موضعٍ آخر : الخصب وكثرة المأكول والمشروب تقول : ما أكثر خير بيتِ فلان والخير المحض : الطّاعة وسلامة الصدر .
وأمَّا قولهم : أخْبث من ذِئْبِ خَمَر فعلى قول الرَّاجز : ( أما أتاك
عَنِّي الحديثُ ** إذْ أنا بالغائط أستغيثُ ) ( والذِّئْبُ وسط أعنُزي
يَعِيثُ ** وصحتُ بالغائط يا خبيث ) وقالوا في المثل : مُستودع الذئب أظلم .
الخلد والخُلد دويبةٌ عمياءُ صماءُ لا تعرف ما يدنُو منها إلا بالشّمِّ
تخرُج من جُحرها وهي تعلم أن لا سمع ولا بصَر لها وإنما تَشْحا فاها وتقفُ
على باب جُحرها فيجيء الذُّباب فيسقط على شِدقها ويمرُّ بين لَحييها فتسُّد
فمها عليها وتستدخلها بجذْبة النّفس وتعلمُ أن ذلك هو رِزقها وقسمها فهي
تعرِض لها نهاراً دون اللّيل وفي السّاعات من النهار التي يكون فيها الذباب
أكثر لا تفرِّط في الطَّلب ولا تقصِّر في الطّلب ولا تخطئ الوقْت ولا تغلط
في المقدارِ .
وللخلد أيضاً ترابٌ حواليْ جُحره هو الذي أخرجه من الجحر يزعمون أنّه يصلُحُ لصاحب النِّقرس إذا بُلّ بالماء وطُلي به ذلك المكان .
الأعلم وأمّا قوله : والفيل والأعلم كالوبْرِ فالفيل معروف والأعلم : البعير وبذلك يسمّى لأنّه أبداً مشقوقُ الشَّفةِ
العليا ويسمّى الإنسان إذا كان كذلك به .
ويدلُّ على أن الأعلم والبعير سواء قولُ الراجز : ( إني لمن أنكر أو
توسَّما ** أخو خناثيرَ أقود الأعلما ) وقال عنترة : ( وحليل غانيةٍ تركتُ
مجدَّلاً ** تمْكُو فريصتُه كشِدْق الأعْلمِ ) يريد شِدْق البعير في السعة
وقال الآخر : ( كم ضربةٍ لك تحْكي فاقراسِيَةٍ ** من المصاعِب في أشداقِهِ
عَلَمُ ) بعض ما قيل من الشعر في صفة الضرب والطعن مَشافِرَ قَرْحى أكلْن
البَريرا وقال آخر : ( بضربٍ يُلقِحُ الضِّبْعانُ مِنْهُ ** طرُوقَته
ويأتنِفُ السِّفادا ) وقال الشاعر الباهليّ : ( بضَرْبٍ كآذان الفِراء
فُضولُه ** وطعَنٍ كإيزاغِ المخاضِ تَبُورُها )
كأنّه ضربَه بالسَّيف فعلِق عليه من اللحم كأمثال آذان الحمير .
وقال بعضُ المحدثين وهو ذو اليمينين : ( ومقْعصٍ تشْخَبُ أوداجُه ** قد
بانَ عن مَنْكِبه الكاهلُ ) ( فصارَ ما بينهما هُوَّةً ** يمشي بها
الرَّامحُ والنّابِلُ ) وفي صفات الطَّعنة والضَّربة أنشدني ابنُ الأعرابيّ
: ( تمنَّى أبو اليقظانِ عندي هَجْمَةً ** فسهَّل مأوى ليلها بالكلاكِلِ )
( ولا عَقْلَ عندي غيرُ طعنِ نوافذٍ ** وضربٍ كأشداق الفِصال الهوازلِ ) (
وسَبٍّ يود المرءُ لو ماتَ دُونه ** كوقْعِ الهضابِ صُدِّعَتْ بالمعاوِلِ )
وقل الآخر : وقال البعيث : ( أئن أمرعَت مِعْزى عطِيَّة وارتعتْ **
تِلاعاً من المرُّوت أحْوى جميمها )
( تعرَّضْت لي حتّى ضربتُك ضربةً ** على الرّأس يكبو لليدينِ أميمها ) إذا قاسها الآسِي النِّطاسيُّ أُرعِشَتْ أناملُ آسيها وجاشَتْ هُزُومها وقال الآخر : ( ونائحة رافعٍ صوْتُها ** تَنُوحُ وقد وقعَ المِهْذَمُ ) ( تَنُوحُ وتُسْبَرُ قَلاّسَةً ** وقد غابت الكفُّ والمعْصَمُ ) وقال آخر : ( ومُستَنَّةٍ كاستنانِ الخرُو ** فِ قدْ قطعَ الحبلَ بالمِرْودِ ) ( دفوعِ الأصابع ضَرْحَ الشَّمُو ** سِ نجلاءَ مُؤْيسةِ العُوَّدِ ) وقال محمد بن يسير :
( وطعن خليسٍ كفرْغ النّضيح ** أُْفْرِغَ منْ ثَعبِ الحاجِرِ ) ( تُهالُ العوائدُ من فَتْقِها ** تردُّ السِّبارَ على السّابرِ ) وأنشدوا لرجلٍ من أزْد شنوءة : ( إذا باشرُوها بالسِّبار تقطّعتْ ** تقطع أم السكر شيب عقوقُها ) وروي للفِندْ الزِّمَّاني ولا أظنُّه له : ) ( كففنا عن بنى هندٍ ** وقلنا القومُ إخوانُ )
( عسى الأيامُ ترجعهم ** جميعاً كالذي كانوا ) ( فلمَّا صرحَ الشرُّ ** وأضحى وهو عريانُ ) ( شددنا شدةَ الليثِ ** عدا والليثُ غضبانُ ) ( بضربٍ فيه تفجيعٌ ** وتوهينٌ وإرنانُ ) ( وطعن كفم الزقِّ ** وهي والزقُّ ملآنُ ) وأنشد السُّدّيّ لرجل من بلحارث : ( أتيت المحرم في رحله ** فشمرَ رحلى ِ بعنسٍ خبوبْ )
( تذكر منِّى خطوباً مضت ** ويومَ الأباء ويومَ الكثيب ) ( ويومَ خزازَ وقدْ ألجموا ** وأشرطت نفسى بأن لا أثوب ) ( ففرجتُ عنهم بنفاحةٍ ** لها عائدٌ مثلُ ماء الشعيب ) ( إذا سبروها عوى كلبها ** وجاشتْ إليهم بآنٍ صبيبْ ) ( طعنةً ما طعنتُ في جمحِ الذَّ ** مَّ هلالٍ وأين منِّى هلالُ ) ( طعنة الثائر المصمم حتى ** نجم الرمحُ خلفه كالخلال ) وقال الحارث بن حِلِّزَة : ( لا يقيم العزيز بالبلدِ السه ** ل ولا ينفعُ الذليلَ النجاءُ ) ( حولَ قيسٍ مستلئمين بكبشٍ ** قرظىً كأنهُ عبلاءُ )
( فرددناهم بضربٍ كما يخ ** رجُ من خربة
المزادِ الماءُ ) ( وفعلنا بهمْ كما علم الله ** وما إنْ للحائنين دماءُ )
وقال ابن هَرْمة : ( بالمشرفيّة والمظاهر نَسْجُها ** يَوْمَ اللَّقاء
وكلِّ وَرْدٍ صاهِل ) ( وبكلِّ أرْوَعَ كالحريق مُطاعنٍ ** فمسايفٍ فمعانقٍ
فمُنازِل ) ويروى : فمعاذل .
الإفراط في صفة الضرب والطعن وإذْ قد ذكرنا شيئاً من الشِّعر في صفة الضرب والطعن فقد ينبغي أن نذكر بعض ما يشاكلُ )
هذا الباب من إسرافِ من أسْرَفَ واقتصادِ من اقتصد فأما من أفْرط فقول مُهلهل :
وقال الهذلي : ( والطعن شَغْشَغَةٌ والضّرْبُ هَيْقَعة ** ضَرْبَ المعوِّل تحتَ الدِّيمة العضدا ) ( وللقسيِّ أزاميلٌ وغَمْغَمَةٌ ** حِسَّ الجنوبِ سوق الماء والقردا ) ومن ذلك قول عنترة : ( بِرَحيبة الفَرْغين يهدي جرْسُها ** باللّيْل مُعْتسَّ السِّباع الضُّرَّمِ ) وقال أبو قيس بن الأسلت : ( قد حصَّت البيضةُ رأسي فما ** أطْعَمُ نوماً غيرَ تَهجاعِ ) وقال دُريد بن الصِّمَّة : ( أعاذِلُ إنَّما أفْنى شبابي ** رُكوبي في الصَّريخ إلى المنادي )
( مع الفتيان حتّى خلّ جِسْمي ** وأقْرَحَ عاتِقي حَمْل النِّجادِ ) ومّما يدخُل في هذا الباب قولُ عنترة : ( رُعْناهم والخيلُ تَرْدي بالقنا ** وبكُلِّ أبْيضَ صارمٍ قَصَّالِ ) ( وأنا المنيّة في المواطِنِ كلِّها ** والطَّعْنُ مِنِّي سابِقُ الآجالِ ) وأمَّا قوله : وقال نهشل بن حَرِّيّ : ( وما زال رُكْني يرتقي من ورائه ** وفارسُ هيجا ينفض الصدر واقفُ ) فوصف نفسه بأنّه مجتمع القلب مرير لا يبرح .
وقد كان حميد بن عبد الحميد يوصف بذلك لأنّه كان لا يرمي بسَهْم ولا يطعنُ
برُمحٍ ولا يضربُ بسيفٍ ولكن التصبير والتَّحريض والثّبات إذا انهزمَ كلُّ
شُجاع منْ نذر في حميّة المقتول نذْرا فبلغ في طلب ثأره الشفاء . قال
العبسيّ : ( دَعَوْتُ اللّه إذْ قدْنا إليهمْ ** لَنَلْقى مِنْقراً أو
عَبْدَ عَمْرِو ) ( وكانَتْ حَلْفَةً حُلِفَتْ لِوِتْرٍ ** وشاء اللّهُ أنْ
أدْرَكْتُ وتِري ) ( وإنّي قد سَقِمْتُ فكان بُرئي ** بقِرْواش بن حارثة
بن صَخْرِ )
والأعرابُ تعدُّ القَتْلَ سُقماً وداءً لا يبرئه أخذ ثأره دون أخٍ أو ابن عمٍّ فذلك الثّأرُ المنيم .
وممَّن قال في ذلك صَبار بن التوءم اليشكري في طلب الطّائلة وأنّ ذلك داءٌ
ليس له بُرء وكانوا قتلوا أخاه إساف بن عباد فلما أدرك ثأره قال :
( ألمْ يأتِها أنِّي صَحَوْتُ وأنَّني ** شفاني من الدَّاء المُخامِرِ شافِ ) ( وكنتُ مغطّى في قناعِي حِقْبةً ** كَشَفْتُ قناعي واعتطَفْتُ عطافي ) وفي شبيه بهذا المذهب منْ ذكر الدّاء والبُرء قال الآخر : ( قالتْ عهدِتك مجنوناً فقلتُ لها ** إن الشّبابَ جُنونٌ بُرؤهُ الكبرُ ) وفي شبيهٍ بالأوّل قول الشّيخ الباهليِّ حين خرج إلى المبارزَةِ على فرسٍ أعجف فقالوا : بالٍ على بالٍ فقال الشّيخ : ( رآني الأشْعَرِيُّ فقالَ بالٍ ** على بالٍ ولم يعرِفْ بلائي ) ( ومثلُك قد كَسَرْتُ الرُّمْحَ فيه ** فآبَ بدائه وشفَيْتُ دائي ) وقالت بنتُ المنذر بن ماء السَّماءِ : ( بعين أُباغ قاسَمْنا المنايا ** فكان قَسِيمُها خيْرَ القَسيمِ ) وقالوا فارس الهيْجاء قلنا كذاك الرُّمح يَكْلَفُ بالكريمِ
وقال الأسدي : ( رفعْنا طريفاً بأرْماحنا ** وبالرَّاح مِنَّا فلم يدفعونا ) ( فطاح الوَشيظُ ومالَ الجْمُوحُ ** ولا تأكلُ الحَرْبُ إلا السَّمينا ) وقال الخريمي : وقال السموءلُ بنُ عاديا : ( يقرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنا لنا ** وتَكْرَهُه آجالهمْ فتطولُ ) ( لأنّا أُناسٌ لا نرى القَتْلَ سُبّةً ** إذا ما رأتْه ُعامرٌ وسلولُ ) وقال أبو العيزار :
( يَدْنُو وتَرْفَعُهُ
الرِّماحُ كأنّهُ ** شِلْوٌ تَنَشَّبَ في مخالِبِ ضارِي ) ( فتوى صرِيعاً
والرِّماحُ تَنُوشُه ** إنّ الشُّراة قصيرةُ الأعمارِ ) وقال آخر وهو يُوصي
بلُبْس السِّلاح : ) ( فإذا أتَتْكُمْ هذه فتلبَّسُوا ** إنَّ الرِّماحَ
بصيرةٌ بالحاسرِ ) وقال الآخر : ( يا فارسَ الناس في الهيجا إذا شُغلتْ **
كِلتا اليدينِ كرُوراً غَيْرَ وقّافِ ) قوله شُعِلَتْ يريد بالسّيف
والتُّرس وأنشد أبو اليقظان : وكان ضروباً باليدينِ وباليَدِ أمَّا قوله :
ضروباً باليدين فإنّه يريد القِداح وأمّا قوله : باليد فإنّه يريد السَّيف .
وأمّا قول حسّان لقائده حين قرَّبوا الطّعام لبعض الملوك : أطعام
يدين أم يد فإنه قال هذا وإن كان الطعام حَيْساً أو ثريداً أو حريرة فهو
طعام يدٍ وإن كان شواءً فهو طعام يدَين .
من أشعار المقتصدين
في الشعر ومن أشعار المقتصدين في الشِّعر أنشدني قطرب : ( تركْت الرِّكابَ
لأربابها فأجْهَ ** دْتُ نفسي على ابن الصَّعِقْ ) ( جَعَلْتُ يديَّ
وِشاحاً له ** وبعضُ الفوارِس لا يعتنق ) وممن صدق على نفسه عمرو بن
الإطنابة حيثُ يقول : ( وإقْدامي على المكْروهِ نَفْسي ** وضرْبي هامَة
البطلِ المشِيحِ ) ( وقولي كُلَّما جَشأتْ وجَاشَتْ ** مَكانَكِ تُجْمَدي
أوْ تَسْتريحي ) وقل آخر : ( وقلتُ لِنفسي إنّما هو عامرٌ ** فَلا ترهَبيه
وانظُري كيف يركبُ ) وقال عَمرو بن مَعْدِ يكرب : ( ولّما رأيتُ الخيلَ
زُوراً كأنَّها ** جَدَاوِلُ زَرْعٍ أُرْسِلَتْ فاسْبَطَرَّتِ ) ( فجاشَتْ
إليّ النَّفْسُ أوَّل مَرَّةٍ ** فَرُدَّتْ على مَكْرُوهِها فاسْتقَرَّتِ )
وقال الطّائيُّ : ( ركضتْ فِينا وفِيهمْ ساعةً ** لَهذْميَّاتٌ وبيضٌ كالشُّهُبْ ) ( تروا القاعَ لنا إذْ كَرِهُوا ** غمراتِ الموتِ واختارُوا الهَربْ ) وقال النّمر بنُ تولب : ( سَمَوْنا ليشْكُر يَوْمَ النِّهابِ ** نهزُّ قناً سَمْهريّاً طِوالاَ ) ( فلمّا التقينا وكان الْجلادُ ** أحَبّوا الحياة فولَّوْا شِلالا ) وكما قال الآخر : ( هُم المقْدِمُون الْخيلَ تَدْمى نُحورُها ** إذا ابيضَّ من هَوْل الطِّعان المسالحُ ) وقال عنترة : ( إذْ يتَّقون بي الأسنِّةَ لم أخِمْ ** عنْها ولكني تضايقَ مُقْدمي ) وقال قَطريُّ بن الفُجاءة : ( وقولي كلّما جشأتْ لنفسي ** من الأبطالِ ويْحكِ لا تُراعي )
( فإنّكِ لوْ سألتِ حياةَ يومٍ ** سوى الأجلِ الذي لكِ لم تُطاعي ) وقالت الخنْساء : ( يُهِينُ النُّفوس وهَوْن النفوس ** غداة الكريهةِ أبقى لها ) ( أقولُ لنفسٍ لا يجادُ بمثلها ** أقِلِّي المراح إنَّني غيرُ مُقْصِر ) وقال جرير : إن طارَدُوا الخيل لم يُشْوُوا فوارِسها أو نازلوا عانَقُوا الأبطال فاهتصروا وقال ابن مقروم الضّبيّ : ( وإذا تُعلَّل بالسِّياطِ جيادُها ** أعطاك ثائبةً ولم يَتَعَلَّل ) ( فدعوا نَزالِ فكنتُ أوّل نازلٍ ** وعلامَ أرْكبهُ إذا لم أنزلِ )
وقال كعب الأشقري : ( إليهم وفيه منتهى الحزم والندى ** وللكربِ فيهم والخصاصةِ فاسحُ ) ( ترى علقاً تغشى النقوش رشاشه ** إذا انفرجت من بعدهنّ الجوانح ) ( كأن القنا الخطى َّ فينا وفيهم ** أشاطينُ بئرٍ هيجتها المواتحُ ) ( هناك قذفنا بالرماح فمائلٌ ** هنالك في جمع الفريقين رانحُ ) ( ودرنا كما دارتْ على قطبها الرحى ** ودارت على هامِ الرجال الصفائح )
وقال مهلهل : ( ودلَفْنا بجمعنا لبني شَيْ ** بان إن الخليل يبغي الخليلاَ ) وقال عبدة وهو رجلٌ من عبد شمس : ) ( ولما زجرْنا الخيلَ خاضْتْ بنا القنا ** كما خاضت البُزْلُ النِّهاءَ الطَّواميا ) ( رمَوْنا برشْقٍ ثمَّ إنَّ سيوفنا ** ورَدْن فأنكرْن القبيل المراميا ) ( ولم يكُ يثْني النَّبل وقعُ سُيوفنا ** إذا ما عقدنا للجلادِ النّواصيا ) في ذكر الجبن ووهل الجبان قال اللّه عزَّ وجلّ : يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحةٍ عَلَيْهمْ هُمُ الْعَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ قاتلَهُمُ اللّه أنّى يُؤْفكُون ويقال إن جريراً من هذا أخذ قوله : ( ما زلتَ تحسِبُ كُلَّ شيءٍ بعدَهُمْ ** خيلاً تكرُّ عليكم ورِجالا )
وإلى هذا ذهب الأوَّل : ( ولو أنّها عصفورةٌ لحسبتها ** مُسَوَّمةً تدعُو عُبيداً وأزْنما ) وقال جران العود : ( يومَ ارْتحلت برَحْلي قَبْل برذعتي ** والقَلْبُ مُسْتَوْهِلٌ للبَيْنِ مشغولُ ) ( ثمَّ اغترزتُ على نِضْوى ليحملني ** إثر الحُمول الغوادي وهو معقولُ ) وهذا صفة وهل الجبان وليس هذا من قوله : وقال الذَّكواني أو زمرة الأهوازيُّ ففسر ذلك حيث يقول : ( يجعلُ الخيل كالسّفينِ ويَرْقى ** عادياً فوق طِرْفِهِ المَشْكولِ ) لأنهم ربّما تنادوا في العَسكر : قد جاؤوا ولا بأس فيُسرج الفارس
فرسه وهو مشكولٌ ثم
يركبه ويحثُّه بالسَّوط ويضربُه بالرِّجل فإذا رآه لا يُعطيه ما يريدُ نزل
فأحْضر على رجليه ومنْ وهل الجبان أن يُذْهل عن موضع الشِّكال في قوائم
فرسه وربما مضى باللِّجام إلى عَجْب ذنبه وهو قوله : يجعل الخيْل كالسّفين
لأنّ لجام السفينة الذي يغمزها به والشِّكال هو في الذَّنب .
وقال سهل
بن هارون الكاتب في المنهزِمة من أصحاب ابن نهيك بالنَّهروان من خيل
هَرْثمة بن أعْين : ( يُخيِّلُ للمهزومِ إفراطُ رَوْعِه ** بأنّ ظهورَ
الخيل أدنى من العَطبْ ) لأنّ الجُبْنَ يُريه أنّ عَدْوَه على رجليه أنجى
له كأنّه يرى أنّ النَّجاة إنّما تكونُ على قدر الحمل للبدن .
وقال آخر حينَ اعْتلَّ عليه قومُه في القتال بالورع : ) ( كأنّ ربَّك لم
يَخْلقْ لِخَشيته ** سِواهُمُ مِنْ جميعِ النّاس إنسانَا ) وقال آخر : وقال
الشّاعر : يروِّعه السِّرارُ بكُلِّ أرضٍ مخافة أن يكون به السِّرارُ
وأنشدني ابن رُحيم القراطيسي الشاعر ورمى شاطراً بالجبن فقال : ( رأى في
النَّوم إنساناً ** فوارَى نفْسَهُ أشهرْ ) ويقولون في صفة الحديد إذا
أرادوا أنّه خالص فمن ذلك قول هِميان : يمشون في ماء الحديدِ تنكُّبا
وقال ابنُ لجأ : أخضر من ماءِ الحديدِ جِمْجِم وقال الأعشى في غير هذا : ( وإذا ما الأكسُّ شبه بالأرْ ** وَق عند الهيجا وقَلَّ البُصاقُ ) وقال الأعشى : ( إذ لا نقاتل بالعِصيِّ ** ولا نُرامي بالحجارَه ) وقال الأخطل : ( وما تركتْ أسيافُنا حينَ جُرِّدَتْ ** لأعدائنا قيس بن عيلان من عُذر ) ( وبنو فزارة إنّها ** لا تُلْبث الحلبَ الحلائبْ ) يقول : لا تُلْبِثُ الحلائِبَ حَلَباً حتى تَهْزِمَهُم .
يقول : لا تلبث الحلائب حلبا حتى تهزمهم .
السّندل وأمَّا قوله : ( وطائر يسبح في جاحمٍ ** كماهِرٍ يسبحُ في غَمرِ )
فهذا طائرٌ يسمَّى سَنْدل وهو هِنْديّ يدخل في أتون النّار ويخرج ولا
يحترق له ريشة .
ذكر ما لا يحترق وزعم ثُمامة أن المأمون قال : لو أخذ
إنسانٌ هذا الطُّحلب الذي يكون على وجّه الماء في مناقع المياه فجفَّفه في
الظلّ وألقاه في النّار لما كان يحترق .
وزعموا أنّ الفلفل لا يضرُّه الحرق ولا الغرق والطَّلق لا يصير جمراً أبداً قال : وكذلك المَغْرة .
فكأنّ هذا الطَّائرَ في طباعه وفي طباع ريشه مزاجٌ من طلاء النّفاطين وأظنُّ هذا من طلق وخَطْمِيٍّ ومَغْرة .
وقد رأيْت عُوداً يُؤْتى به من ناحية كِرْمان لا يحترق وكان عندنا
نصرانيٌّ في عنقه صليبٌ منه وكان يقول لضعفاء الناس : هذا العود من الخشبة
التي صُلب عليها المسيح والنّار لا تعمل فيها الماهر وأمّا قوله : كماهِرٍ
يسبحُ في غَمْرِ
فالماهر هو السَّابح الماهر وقال الأعشى : ( مِثلَ
الفراتيّ إذا ما طما ** يقذِفُ بالبُوصيِّ والماهرِ ) وقال الربيع بن
قَعْنب : ( وترى الماهِرَ في غَمْرتِه ** ثْل كَلْبِ الماء في يومٍ مَطِرْ )
لطعة الذئب صونعة السرفة والدبر وأمَّا قوله : ( ولطعة الذِّئب على
حَسْوِهِ ** وصَنْعَة السّرْفَة والدَّبرِ ) قال : فإنّ الذِّئب يأتي الجمل
الميِّت فيفضي بغمغمته فيعتمدُ على حجاج عينه فيلْحسُ عينه بلسانه حسْياً
فكأنّما قُوِّرت عينُه تقويراً لِما أعُطيَ من قوَّة الرَّدَّة وردُّه
لسانه أشدُّ مرّاً
في اللَّحم والعصب من لسان البقر في الخلى .
فأمّا عضّتُه ومصّتُه فليس يقعُ على شيء عظماً كان أو غيره إلاّ كان له
بالغاً بلا معاناةٍ من ويقال : إنّه ليس في الأرض سبعٌ يعضُّ على عظمٍ إلاّ
ولَِكَسرْته صَوتٌ بين لحييه إلاّ الذئب فإنّ أسنانه توصف بأنّها تبري
العظم برْي السَّيف المنعوت بأنّ ضربته من شدّة مُرورها في العظم ومن قلّة
ثبات العظْم له لا يكون له صوت قال الزُّبير بن عبد المطّلب : ( ويُنْبِي
نخوَةَ المحتال عَنّي ** غموضُ الصوت ضَرْبته صَمُوتُ ) ولذلك قالوا في
المثل : ضربه ضربةً فكأنما أخطأه لسرعة المرِّ لأنّه لم يكن له صوت .
وقال الرَّاجز في صفة الذِّئب :
( أطلس يخفي شخصه غُبارُه ** في شدْقِه شَفْرته ونارُهُ ) وسنأتي على صفة
الذئب في غير هذا البابِ من أمره في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
وأمَّا ذِكر صَنْعة السُّرْفة والدَّبْر فإنّه يعني حكمتها في صنعة بيوتها فإنّ فيها صنْعَةً عجيبةً .
سمع القُراد والحِجر وأمّا قوله : ( ومَسْمع القِرْدان في مَنْهَلٍ **
أعجبُ ممّا قيل في الحِجْرِ ) فإنهم يقولون : أسمعُ مِنْ فَرَسٍ ويجعلون
الحجْر فرساً بلا هاء وإنَّما يعنون بذلك الحِجْر لأنها أسمع .
قال : والحِجْر وإن ضُرِبَ بها المثل فالقُرادُ أعْجب منها
لأنها تكون في المنهل فتموج ليلة الوِرْد في وقت يكون بينها وبين الإبل
التي تريد الورود أميالٌ فتزعمُ الأعراب أنها تسمعُ رغاءها وأصوات أخفافها
قبل أنْ يسمعها شيء .
والعرب تقول : أسمعُ منْ قُراد وقال الرَّاجز :
أسمعُ منْ فَرْخِ العُقابِ الأسحمِ ما في الجمل من الأعاجيب وأمَّا قوله : (
والمقْرم المعْلم ما إن له ** مَرارة تُسْمَعُ في الذِّكرِ ) ( وحصيةٌ
تنصُلُ من جَوفِه ** عِنْدَ حُدوث الموتِ والنَّحْرِ ) ( ولا يرى بعدهما
جازرٌ ** شقشقةً مائلة الهدْرِ ) فهذا بابٌ قد غلط فيه من هو أعْنى بتعرُّف
أعاجيب ما في العالم من بِشْر .
ولقد تنازع بالبصرة ناسٌ وفيهم رجلٌ
ليس عندنا بالبصرة أطيبُ منه فأطبقوا جميعاً على أنَّ الجمل إذا نُحِر ومات
فالتُمست خُصْيته وشقشقتُه أنهما لا توجدان فقال ذلك الطيِّب : فلعلَّ
مرارة الجمل أيضاً
كذلك ولعلّه أن تكون له مرارةٌ ما دام حيّاً ثمَّ
تبطل عند الموت والنَّحر وإنّما صرنا نقول : لا مرارَة له لأنّا لا نصلُ
إلى رؤية المرارة إلاّ بعد أن تفارقه الحياة فلم أجد ذلك عمل في قلبي مع
إجماعهم على ذلك فبعثت إلى شيخٍ من جزَّاري باب المغيرة فسألته عن ذلك فقال
: بلى لعمري إنهما لتوجدان إن أرادهما مريد وإنّما سمعت العامّة كلمةً
وربّما مزَحْنا بها فيقول أحدنا : خُصية الجمل لا توجد عند مَنْحره أجلْ
واللّه ما توجدُ عند منحره وإنما توجد في موضعها وربّما كان الجمل خياراً
جيّداً فتلحق خصيتاه بكليتيه فلا توجدان لهذه العلّة فبعثت إليه رسولاً :
إنّه ليس يشفيني إلاّ المعاينة فبعث إليَّ بعد ذلك بيومٍ أو يومين مع )
خادمي نَفيس بشقشقةٍ وخُصية .
ومثل هذا كثيرٌ قد يغلط فيه من يشتدُّ حرصُه على حكاية الغرائب .
ما في الفرس والثور من الأعاجيب وأمّا قوله : ( وليس للطّرْفِ طِحالٌ وقد
** أشاعَهُ العالمُ بالأمرِ ) ( وفي فُؤاد الثّورِ عَظْمٌ وقدْ ** يعرِفُه
الجازِرُ ذُو الخبرِ )
وليس عندي في الفرَس أنّه لا طحال له إلاّ ما
أرى في كتاب الخيل لأبي عبيدة والنّوادر لأبي الحسن وفي الشِّعر لبشْر فإن
كان جوف الفرس كَجوف البرذون فأهلُ خراسان من أهل هذا وأمّا العظم الذي
يوجد في قلب الثّور فقد سمعنا بعضهم يقول ذلك ورأيتهُ في كتاب الحيوان
لصاحب المنطق .
أعجوبة السمك وأمّا قوله : ( وأكثرُ الحيتان أعجوبةً
** ما كان منها عاشَ في البَحْرِ ) ( إذ لا لسانٌ سُقي ملحه ** ولا دماغ
السمك النهري ) فهو كما قال : لأنَّ سمك البحر كلّه ليس له لسانٌ ولا دِماغ
. 4
القواطع في السمك
وأصنافٌ من حِيتان البحْر تجيء في كلِّ عام في أوقاتٍ معلومةٍ حتّى تدخل دجلة ثم تجوز إلى البطاح فمنها الأسبور ومنها البرسْتوك
ووقته ومنها الجُواف ووقته وإنما عرِفَتْ هذه الأصناف بأعيانها وأزمانها
لأنها أطيبُ ذلك السَّمك وما أشكّ أنّ معها أصنافاً أُخر يعلم منها أهلُ
الأبلّة مثل الذي أعلم أنا من هذه الأصناف الثّلاثة .
كبد الكوسج (
وأكبدٌ تَظْهر في ليلِها ** ثمَّ توارى آخرَ الدَّهرِ ) ( ولا يُسيغ
الطُّعمَ ما لم يكنْ ** مِزاجُه ماءً على قدْرِ ) ( ليس له شيءٌ لإزلاقه **
سوى جِرابٍ واسعِ الشَّجْرِ ) فإنّ سمكاً يقال له الكوسج غليظ الجلد أجرد
يشبه الجِرّيَّ وليس بالجِرِّي في جوفها شحمةٌ طيِّبة فإن اصطادُوها ليلاً
وجدوها وإن اصطادوها نهاراً لم يجدوها .
وهذا الخبر شائعُ في الأبُلة وعند جميع البحريِّين وهم يسمُّون تلك الشَّّحمة الكبد .
وأما قولهم : السَّمكة لا تسيغ طعمها إلاّ مع الماء فما عند بِشْرٍ ولا
عندي إلاّ ما ذكر صاحبُ المنطق وقد عجِب بشرٌ من امتناعها من بلْع الطّعم
وهي مستنقعة في الماء مع سعة جِرابِ فيها .
والعرب تسمِّي جوف البئر من أعلاه إلى قعرِه جراب البئر .
وأمّا ما سوى هذه القصيدة فليس فيها إلاّ ما يعرف وقد ذكرناه في موضعٍ غير هذا من هذا الجزء خاصَّة .
الضبع
وسنقول في باب الضّبع والقنفذ والحرقوص والورل وأشباه ذلك ما أمكن إن شاء اللّه تعالى .قال أبو زياد الكلابيّ : أكلت الضّبع شاة رجلٍ من الأعراب فجعل يخاطبُها ويقول : ( ما أنا يا جعارِ من خُطّابِكْ ** عليَّ دَقُّ العُصْلِ من أنيابكْ ) على حذا جُحْرِك لا أهابُكْ جَعَارِ : اسمُ الضبع ولذلك قال الراجز : ( يا أيُّها الجفْر السَّمين وقَومُه ** هزْلى تجرُّهُمُ ضِباعُ جَعارِ ) ثم قال الأعرابيّ : ( ما صَنَعتْ شاتي التي أكلْتْ ** ملأْت مِنْها البَطْنَ ثُمَّ جُلْتْ ) وخُنْتَني وبئْسَ ما فَعلْتْ
( قالت له : لا زلتَ تلقى الهمّا ** وأرسل اللّه عليكَ الحمّى ) لقد رأيْت رجلاً معتمّا ( قال لها : كذبتِ يا خباثِ ** قد طال ما أمسيتُ في اكتراثِ ) ( قالت له والقولُ ذو شُجونِ : ** أَسهبْتَ في قولك كالمجنوِن ) ( أما وربِّ المْرسَلِ الأمين ** لأفْجَعَنْ بِعيركَ السَّمينِ ) ( وأمِّه وجَحشِه القرين ** حتَّى تكونَ عُقْلةَ العُيُونِ ) ( قال لها وْيحَكِ حذِّريني ** واجتهدي الجهد وواعديني ) ( وبالأمانيِّ فعلِّليني ** لأقطعَنَّ مُلتقى الوتينِ ) ( مِنْكِ وأشفى الهمَّ مِنْ دَفيني ** فصدِّقيني أو فكذِّبيني ) ( أو اتركي حَقِّي وما يليني ** إذاً فشلّتْ عندها يميني ) تعرّفي ذلك باليقينِ قالت : أبالقتلِ لنا تهدِّد وأنت شيخٌ مُهْترٌ مفَنّدُ
( سقط : بيت الشعر ) ( قالت : أبا القتل لنا تهدد ** وأنت شيخ مهتر مفند ) ( قولُكَ بالجُبْنِ عليك يشهدُ ** منك وأنت كالذي قد أعهدُ ) ( قال لها : فأبشِري وأبشري ** إذا تجردتُ لشأني فاصبري ) ( أنتِ زعمتِ قد أمنتِ منكري ** أحلفُ باللّه العليِّ الأكبر ) ( يمين ذي ثرية لم يكفرِ ** لأخْضِبنَّ منك جَنْبَ المنحَر ) ( برمْيةٍ من نازع مذَكّرٍ ** أو تتركين أحْمري وبَقَرِي ) ( مكبوبةً لوَجْهِها والمنخر ** والشَّيخُ قد مالَ بغربِ مجزرِ ) ( ثمّ اشتوى من أحمرٍ وأصفر ** منها ومقدورٍ وما لم يُقْدر )
جلد الضبع
وقال الآخر : ( يا ليت لي نَعلينُ من جلد الضّبُعْ ** وشَرَكاً من استها لا يَنْقطِعْ ) كُلَّ الحذاء يحتذي الحافي الوَقعْ وهذا يدلُّ على أنّ جلدها جلدُ سوء .وإذا كانت السَّنةُ جدبةً تأكلُ المال سمّتُها العربُ الضّبع قال الشّاعر : ( أبا خُراشة أمّا كُنْتَ ذا نفرٍ ** فإنّ قَوْمي لم تأكلُهم الضّبعُ )
تسمية السنة الجدبة بالضبع
وقال عُمير بن الحباب :( فبشِّري القيْنَ بطَعْنِ شَرْجِ ** يشبعُ أولادَ الضباعِ العُرْجِ ) ( ما زال إسدائي لهمْ ونَسْجي ** حتّى اتّقَوني بظهُورٍ ثُبْجِ )
مما قيل من الشعر في الضباع
وقال رجلٌ من بني ضبَّة : ( يا ضبعاً أكلت آيارَ أحمرةٍ ** ففي البطون وقد راحتْ قراقير ) ( ما منكم غير جعلانٍ ممددة ** دسمُ المرافق أنذالٌ عواويرُ ) ( وغيرُ همزٍ ولمز للصديق ولا ** تنكى عدوكم منكم أظافير ) ( وإتكم ما بطنتم لم يزلْ أبداً ** منكك على الأقربِ الأدنى زنابير )وأنشد : ( القوْم أمثال السِّباع فانشَمِر ** فمنهُم الذِّئب ومنهم النَّمِرْ ) والضّبْع العَرجاءُ واللّيثُ الهصِرْ وقال العلاجم : ( معاورِ حلباته الشخص أعم ** كالدِّيخ أفنى سِنّه طول الهرم ) وأنشد : ( فجاوز الحرض ولا تشمِّمه ** لسابغ المِشفر رحبٍ بلعمه )
يقول : وبَرُ لحييها كثيرٌ كأنّه شعر ذيخ قد بلّه المطر وأنشد : ( لما رأين ماتِحاً بالغَرْبِ ** تخلَّجَتْ أشداقُها للشُّربِ ) تخْليجِ أشداقِ الضَّباع الغُلْبِ يعني من الحرص والشّرهِ وتمثّل ابنُ الزُّبير : ( خُذيني فَجُرِّيني جَعارِ وأبشري ** بلحْمِ امرئٍ لم يَشْهدِ اليومَ ناصرهُ )
وإنّما خصَّ الضّباع لأنّها تنبش القبور وذلك من فرط طلبها للحوم النّاس إذا لم تجدْها ظاهرة وقال تأبّط شرّاً : ( فلا تَقْبُرُوني إنَّ قَبْري مُحَرَّمٌ ** عليكمْ ولكن خامري أمَّ عامر ) ( إذا ضربوا رأسي وفي الرّأس أكثري ** غُودر عِند الملتقى ثمَّ سائري ) ( هنالك لا أبْغي حياةً تسرُّني ** سميرَ الليالي مُبْسلاً بالجرائر ) ( إعجابُ الضِّباع بالقتلى ) قال اليقطري : وإذا بقي القتيلُ بالعراء انتفخ أيره لأنّه إذا ضربت عنقه يكون منبطحاً على وجهه فإذا انتفخ انقلب فعند ذلك تجيء الضّبع فتركبُه فتقضي حاجتها ثمَّ تأكله .
وكانت مع عبد الملك جاريةٌ شهِدت معه حربَ
مُصعَب فنظرت إلى مصعبٍ وقد انقلبَ وانتفخ أيره وورم وغلظ فقالت : يا أمير
المؤمنين ما أغلظ أُيور المنافقين . فلطمها عبد الملك 4
حديث امرأة وزوجها
ابنُ الأعرابي : قالت امرأةٌ لزوجها وكانت صغيرة الرّكب وكان زوجُها صغير الأير : ما للرّجل في عِظَم الرّكَب منفعة وإنّما الشّأن في ضِيق المدخل وفي المصِّ والحرارة ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما ليس من هذا في شيء وكذلك الأير إنّما ينبغي أن تنظر المرأة إلى حَرِّ جلدته وطيب عُسيلته ولا تلتفت إلى كِبَره وصِغره وأنعظ الرجل على حديثها إنعاظاً شديداً فطمع أن ترى أيره في تلك الحال عظيماً فأراها إيّاه وفي البيت سِراجٌ فجعل الرَّجلُ يشير إلى أيره وعينُها طامحةٌ إلى ظلِّ أيره في أصْل الحائط فقال : يا كذابة لشدّة شهوتك في عظم ظلِّ الأير لم تفهمي عنِّي شيئاً قالت : أما إنَّك لو كنت جاهلاً كان أنعم لبالك يا مائق لو كان منفعةُ عِظم الأير كمنفعة عِظم الرَّكب لما طمَحَتْ عيني إليه قال الرجل : فإنَّ للرَّكب العظيم حَظّاً في العين وعلى ذلك تتحرّك له الشَّهوة قالت : وما تصنع بالحركة وشكٍّ يؤدِّيإلى شكّ الأير إنْ عَظم فقد ناك جميع الحِر ودخل في تلك الزَّوايا التي لم تزل تنتظمُ من بعيد وغيرها المنتظم دونَها وإذا صغُر قال اليقطري : أمكنها واللّه من القول ما لم يمكنه . 4
حديث معاوية وجاريته الخراسانية
وقال : وخلا معاوية بجاريةٍ له خراسانيّة فما همَّ بها نظر إلى وصيفةٍ في الدّار فترك الخراسانيّة وخلا بالوصيفة ثمَّ خرج فقال للخراسانيّة : ما اسم الأسد بالفارسيّة قال : كَفْتار فخرج وهو يقول : ما الكفتار فقيل له : الكفتار الضّبع فقال : ما لها قاتلها اللّه أدركتْ بثأرها والفُرْسُ إذا استقبحت وجه الإنسان قالت : رُوي كَفْتار أي وجه الضبع . 4كتاب عمر بن يزيد إلى قتيبة بن مسلم
قال : وكتب عمر بن يزيد بن عمير الأسدي إلى قتيبة بن مسلم حين عزل وكيع بن سُودٍ عن رياسة بني تميم وولاَّها ضِرار بن حسين الضّبي : عزلْت السِّباعَ وولَّيت الضِّباع . )4
شعر فيه ذكر الضبع
وأنشد لعبّاس بن مِرداسٍ السُّلميِّ : ( فلو مات مِنهمْ مَنْ جَرَحْنا لأصْبحتْ ** ضباعٌ بأكناف الأراك عرائسا ) وقال جريبة بن أشْيم : ( فلا تدفننَّى في ضراً وادفنّننى ِ ** بديمومةٍ تنزو على َّ الجنادبُ ) ( وإنْ أنتَ لم تعقرْ على ّ مطيتى ِ ** فلا قام في مالٍ لكَ الدهرَ حالبُ ) ( فلا يأكلني الذئبُ فيما دفنتني ** ولا فرعلٌ مثل الصريمة حاربُ )( أزلُّ هليبٌ لا يزال مآبطا ** إذا ذربت أنيابه والمخالب ) وأنشد : ( تركوا جارهم تأكله ** ضبعُ الوادي وترميه الشجر ) يقول : خذلوه حتّى أكله ألأم السِّباع وأضعفها وقوله : وترميه الشَّجر يقول : حتّى صار يرميه من لا يرمي أحداً .
بقية الكلام في الضبع
وقد بقي من القول في الضّبُع ما سنكتبه في باب القول في الذئب .الحرقوص
وأمَّا الحرقوص فزعموا أنّه دويْبَّة أكبر من البُرغوث وأكثرُ ما ينبت له جناحان بعد حينٍ وذلك له خير .وهذا المعنى يعتري النّمل وعند ذلك يكون هلاكه ويعتري الدَّعاميص إذا صارت فَراشاً ويعتري الجِعلان .
والحرقوص دويْبَّة عضُّها أشدُّ من عضِّ البراغيث وما أكثر
ما يَعضُّ أحراحَ النساء والخُصى وقد سميِّ بحرقوص من مازِنٍ أبو كابية بن حُرقوص قال الشّاعر : ( أنتم بني كابية بن حُرقُوصْ ** كلّهُمُ هامته كالأفْحُوصْ ) وقال بشرُ بن المعتمر في شعره المزاوج حين ذكر فضل عليٍّ على الخوارج وهو قوله : نق صفحة من الكتاب قال : والحرقوص يسمى بالنُّهيك وعضَّ النُّهيك ذلك الموضع من امرأة أعرابيّ فقال :
( وما أنا للحرقوص إنْ عضَّ عَضةً ** لها بَيْنَ رجليها بِجِدِّ عَقُورِ ) ( تطيب بنفْسي بعد ما تستفزُّني ** مقالتُها إنَّ النُّهيك صغيرُ ) ( ولو أنّ حُرقوصاً على ظَهْرِ قَمْلة ** يَكرُّ على صَفَّيْ تميمٍ لوَلّتِ ) قالوا : ولو كان له جناحانِ لما أركبه ظَهْر القملة وليس في قول الطِّرمَّاح دليلٌ على ما قال وقال بعضُ الأعراب وعض الحرقوص خُصيتَه : ( لقدْ مَنَعَ الحراقيصُ القَرَارَا ** فلا ليلاً نَقَرُّ ولا نَهارَا ) ( يُغالِبْنَ الرِّجالَ على خُصاهم ** وفي الأحراحِ دَسّاً وانجِحارا ) وقالت امرأةٌ تَعْني زوجَها : ( يغارُ من الحرقوصِ أنْ عَضَّ عَضةً ** بفخذِيَ منها ما يَجُذُّ غيورُ )
( لقد وقَعَ الحُرقوصُ مِنِّي موقِعاً ** أرى لَذّةَ الدُّنيا إليه تصيرُ ) وأنشدوا لآخر : ( بَرَّحَ بي ذُو النُّقطتين الأملسُ ** يَقْرُضُ أحياناً وحيناً ينهَسُ ) فقد وصفَه هذا كما ترى وهذا يصدِّق قول الآخر ويردُّ على من جعل الحراقيص من البراغيث قال الآخر : ) ( يَبيت باللّيل جوّاباً على دَمِثٍ ** ماذا هُنالك من عَضِّ الحراقيصِ )
الورل
وسنقول في الورَل بما أمكنَ من القول إن شاء اللّه تعالى وعلى أنَّا قد فرَّقنا القولَ فيه على أبواب قد كتبناها قبل هذا .قالوا : الورَل يقتل الضَّبَّ وهو أشدُّ منه وأجودُ سلاحاً وألطفُ بدناً قالوا : والسَّافِد منها يكون مهزولاً وهو الذي يَزيِف إلى الإنسان وينفخ ويتوعَّد .
قال : واصطدت منها واحداً فكسرت حجراً وأخذتُ مَرْوةً
فذبحته بها حتَّى قلت قد نخعته فاسبطَرَّ لحِينِه فأردت أن أصغي إليه
وأشرْتُ بإبهامي في فيه فعضَّ عليها عضةً اختلعَت أنيابَه فلم يخلِّها حتى
عضضْت على رأسِه .
قال : فأتيتُ أهلي فشققْتُ بطنَه فإذا فيها حيّتان عظيمتان إلاَّ الرَّأس .
قال : وهو يشدخ رأسَ الحيَّة ثمّ يبتلعُها فلا يضرُّه سمُّها وهذا عنده
أعجب ما فيه فكيف لو رأى الحوَّائين عندنا وأحدُهم يُعطَى الشيءَ اليسير
فإن شاء أكل الأفْعى نِيّاً وإن شاء شِواءً وإن شاء قَديداً فلا يضرُّه ذلك
بقليلٍ ولا كثير .
وفي الوَرل أنه ليس شيءٌ من الحيوان أقوَى على أكل
الحَيَّات وقتلها منه ولا أكثر سفاداً حتى لقد طمّ في ذلك على التَّيس
وعلى الجمل وعلى العُصفور وعلى الخِنزير وعلى الذِّبَّانِ في العدد وفي
طُول المكث
وفيه أنَّه لا يحتفر لنفسه بيتاً ويغتصب كلَّ شيء بيتَه
لأنها أيَّ جُحر دخَلتْه هربَ منه صاحبُه فالورَل يغتصب الحيَّة بيتَها كما
تغتصب الحيَّةُ بيوت سائر الأحناش والطّير والضَّب .
وهو أيضاً من
المراكِب وهو أيضاً مما يُستطاب وله شَحمة وَيَستطيبون لحمَ ذنبه والورل
دابَّة خفيفُ الحَركة ذاهباً وجائياً ويميناً وشمالاً وليس شيء بعد
العَظَاءة أكثر تلفُّتاً منه وتوقفاً .
زعم المجوس في العظاءة
وتزعم المجوس أنّ أَهْرِمَن وهو إبليس لمَّا جلس في مجلسه في أوَّل الدهر ليقسِّم الشَّرَّ والسُّموم فيكون ذلك عدّةً على مناهضة صاحب الخير إذا انقضى الأَجل بينهما ولأنَّ من طباعه أيضاً فعلَ الشر على كلِّ حال كانت العظاءَة آخِرَ من حَضَر فحضَرَتْ وقد قسم السمَّ كلَّه فتداخلها الحسرةُ والأَسف فتراها إذا اشتدّت وقفَتْ وِقْفةَ تذكُّرٍ لما فاتَها من نصيبها من السُّم )
ولتفريطها في الإبطاء حتى صارتْ لا تسكن إلاَّ في الخرابات والحُشُوش
لأنها حين لم يكن فيها من السمّ شيءٌ لم تطلبْ مواضعَ الناس كالوزَغِة التي
تسكنُ معهم البيوت وتكرَع في آنيتهم الماءَ وتمجُّه وتُزاقُّ الحيَّات
وتهيِّجها عليهم ولذلك نفرت طباعُ النَّاس من الوزَغة فقتلوها تحت كلِّ حجر
وسلمت منهم العظاءَة تسليماً منهم .
ولم أر قولاً أشدَّ تناقضاً ولا
أمْوق من قولهم هذا لأنّ العظاءَة لم يكن ليعتريَها من الأسف على فوت السمّ
على ما ذكروا أوَّلاً إلاَّ وفي طبعها من الشّرَارة الغريزيَّة أكثرُ
ممَّا في طبع الأفعى .
شعر فيه ذكر للورل
قال الرَّاجز في معنى الأوَّل : ( يا وَرَلاً رقرق في سَرَابِ ** أكانَ هذا أول الثّوَاب ) قال : ورقرقتُه : سُرعتُه ذاهباً وجائياً ويميناً وشمالاً .قال أبو دُؤاد الإيادي في صفة لسان فرسه : ( عَنْ لسان كَجُثَّة الورَل الأحْ ** مَر مَجَّ الثَّرَى عليه العَرارُ ) وقال خالد بن عُجْرة :
( كأنّ لسانه ورلٌ عليه ** بِدارِ مَضِنّةٍ مَجُّ العرارِ ) ووصف الأصمعيُّ حمرته في بعض أراجيزه فقال :
فروة القنفذ
قد قلنا في القُنفذ وصنيِعه في الحيَّات وفي الأفاعي خاصَّة وفي أنه من المراكب وفي غير ذلك من أمره فيما تقدم هذا المكانَ من هذا الكتاب .ويقول من نزَع فروته بأنها مملوءة شحيمة والأعراب تستطيبُ أكله وهو طيِّب للأرواح .
شعر فيه ذكر للقنفذ والقنفذ لا يظهر إلا بالليل كالمستخفي فلذلك شبه به
قال أيمن بن خُريم : ( كقنفذ الرَّمل لا تخفى مدارِجُه ** خِبٌّ إذا نام
عنْهُ النّاسُ لم يَنَم ) وقال عَبْدَة بن الطبيب : ( قومٌ إذا دَمَسَ
الظّلامُ عليهمُ ** حَدَجوا قَنافِذَ بالنّمِيمةِ تمْزَعُ ) وقال : ) (
شَرَيْتُ الأُمور وغالَيْتُها ** فأوْلَى لَكُمْ يابَني الأعرجِ ) (
تدبُّون حول رَكِيَّاتكُمْ ** دَبِيبَ القنافِذِ في العَرْفَجِ ) وقال
الآخر في غير هذا الباب :
وقال عبَّاس بن مِرداس السُّلَمِيُّ يَضرب المَثَلَ به وبأذنيه في القلّة والصَّغَر : ( فإنَّك لم تك كابن الشَّرِيد ** ولكنْ أبوك أبو سَالِم ) ( حَمَلْتَ المئين وأثقالها ** على أذنَي قنفُذٍ رازم ) ( وأشبْهتَ جَدَّكَ شرّ الجدودِ ** وَالعِرْقُ يَسْرِي إلى النّائمِ ) وأنشدنيِ الدَّلهمُ بن شهاب أحد بني عوف بن كنانة من عُكل قال : أنشدنيه نفيع بن طارق في تشبيه رَكَب المرأة إذا جَمَّمَ بجلد القنفذ : ( علقَ من عنائه وشقوته ** وقد رأيتَ هدجاً في مشيته ) ( وقد جلاَ الشيبُ عذارَ لحيته ** بنتَ ثماني عشرةٍ من حجته ) ( يظنها ظنًّا بغير رؤيته ** تمشى بجهمٍ ضيقهُ من همته )
( لم يخزه الله برحب سعته ** جممَ بعدَ حلقهِ ونورته ) ( كقنفذ القفِّ اختفى في فروته ** لا يبلغ الأيرُ بنزعِ رهوته ) ( ولا يكرُّ راجعاً بكرته ** كأنَّ فيه وهجاً من ملته ) من تسمى بقنفذ ويتسمَّون بالقَنافذ وذو البرة الذي ذكره عَمرو بن كلثوم هو الذي يقال له : بُرة القُنفذ وهو كعب ( وذو البُرة الذي حُدِّثتَ عَنه ** بهِ نَحْمَى وَنَشْفِيس المُلْجَئِينَا ) كبار القنافذ ومن القنافذ جنس وهو أعظم من هذه القنافذ وذلك أنّ لها شوكاً كصَياصي الحاكة وإنَّما هي مدارَى قد سُخِّرَتْ لها وذلِّلت
تلك المغارز والمنابت ويكون متى شاء أن ينصل منها رمى به الشخصَ الذي يخافُه فَعلاَحتّى كَأنّه السهم الذي يخرجه الوتر .
ولم أر أشبه به في الحذف من شَجر الخِرْوع فإنَّ الحبَّ إذا جفَّ في
أكمامه وتصدَّع عنه بعضَ الصَّدع حذف به بعضُ الغصون فربَّما وقَع على قاب
الرّمح الطويل وأكثر من ذلك
تحريك بعض أعضاء الحيوان دون بعض
)والبرذون يسقُط على جلدِهِ ذبابةٌ فيحرِّك ذلك الموضعَ فهذا عامٌّ في الخيل فأمَّا النَّاس فإن المخنَّث ربما حرَّك شيئاً من جسدَه وأيَّ موضعٍ شاء من بدنه .
والكاعاني وهو اسم الذي يتجنّن أو يتفالج فالج الرِّعدة والارتعاش فإنّه يحكي من صَرْع الشَّيطان ومن الإزباد ومن النَّفضة ما ليس يصدرُ عنهما وربّما جمعهما في نِقابٍ واحد فأراك اللّه تعالى منه مجنوناً مفلوجاً يجمع الحركتين جميعاً بما لا يجيء من طباع المجنون .
والإنسان العاقلُ وإن كان لا يحسُن يبني كهيئة وَكْر الزُّنبور ونسج العنكبوت فإنه إذا صار إلى حكاية أصوات البهائم وجميع الدوابّ
وحكاية العُمْيان والعُرْجان والفأفأء وإلى أنْ يصوِّر أصنافَ الحيوان
بيده بَلَغ من حكايته الصُّورةَ والصوت والحركة ما لا يبلغه المحكيّ .
الحركات العجيبة وفي النَّاس من يحرِّك أذنَيه من بين سائر جسده وربَّما
حرَّك إحداهما قبل الأخرى ومنهم من يحرِّك شعر رأسه كما أنَّ منهم من يبكي
إذا شاء ويضحَك إذا شاء .
وخبَّرني بعضهم أنّه رأى من يبكي بإحدى عينيه وبالتي يقترحُها عليه الغير .
وحكى المكّي عن جَوارٍ باليمن لهنّ قرونٌ مضفورةٌ من شعر رؤوسهن وأنَّ
إحداهنَّ تلعب وترقُص على إيقاعٍ موزون ثمَّ تُشخِص قرناً من تلك القرون
ثمَّ تلعب وترقص ثمَّ تُشِخص من تلك الضَّفائر المرصَّعة واحدةً بعد أخرى
حتَّى تنتصب كأنها قرونٌ أوَابدُ في رأسها فقلت له : فلعلَّ التَّضفير
والترصيع أن يكون شديد الفتْل ببعض
الغِسْل والتّلبيد فإذا أخرجَتْه
بالحركة التي تُثْبِتُها في أصل تلك الضفيرة شخَصت فلم أره ذهبَ إلى ذلك
ورأيته يحقّقه ويستشهد بأخيه .
نوم الذئب وتزعمُ الأعراب أنّ الذّئب
ينامُ بإحدى عينيه ويزعمون أنّ ذلك من حاقِّ الحذر وينشد شعر ( يَنامُ
بِإحدى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّقِي ال ** مَنَايا بأُخْرَى فهو يَقظانُ هاجعُ )
وأنا أظنُّ هذا الحديث في معنَى ما مُدح به تأبَّط شرّاً : ( إذا خاط
عينيه كرَى النّوم لم يَزلْ ** له كالئٌ من قلب شَيْحَانَ فاتكِ ) (
ويجعَلُ عيَنَيه رَبِيئَة قلْبهِ ** إلى سَلّةٍ منْ حَدّ أخْضَرَ باتكِ )
قولهم : أسمع من قنفذ ومن دلدل ويقال : أسمَعُ من قُنْفُذ وقد ينبغي أن يكون قولهم : أسمعُ من الدُّلدُل من الأمثال المولّدة . )
المتقاربات من الحيوان وفرق ما بين القنفذِ والدُّلدُل كفرق ما بين
الفَأْر والجُرْذان والبقر والجواميس والبَخَاتيِّ والعِراب والضّأن والمعز
والذّر والنّمل والجوَاف والأسبور وأجناس من الحيّات وغير ذلك فإنّ هذه
الأجناس منها ما يتسافد ويتلاقح ومنها ما لا يكون ذلك فيها .
قولهم :
افحش من فاسية ويقال : إنّه لأفْحشُ من فاسية وهي الخنفساء لأنّها تفسو في
يد من مَسَّها وقال بعضهم : إنّه عنى الظَّربان لأنّ الظّربان يفْسُو في
وسط الهجْمة فتتفرَّق الإبل فلا تجتمع إلا بالجهد الشّديد
قولهم : ألج من الخنفساء ويقال : ألجُّ من الخنفساء وقال خلفٌ الأحمرُ وهو يهجو رجلاً : رجز في الضبع وأنشد أبو الرُّديني عن عبد اللّه بن كُراع أخي سُويد بن كُراع في الضّبع : ( مَنْ يجن أولاد طريفٍ رَهْطا ** مُرْداً أوله شُمطا ) ( رَأى عَضاريط طِوالاً ثُطَّا ** كأضْبعٍ مُرْطٍ هَبطْنَ هَبْطَا ) ( ثم يفسِّينَ هَزِيلاً مَرْطَا ** إنَّ لكم عندي هناءً لَعْطَا ) خطماً على آنِفُكُمْ وعلطا
قصة أبي مجيب وحكى أبو مجيب ما أصابه من أهله ثمَّ قال : وقد رأيت رؤيا عبَّرتها : رأيتُ كأني طردت أرنباً فانَجحرتْ فحفرتُ عنها حتَّى استخرجتها فرجوت أن يكون ذلك ولداً أُرزقه وإنه كانت لي ابنة عمٍّ هاهنا فأردتُ أن أتزوَّجها فما ترى قلت : تزوَّجْها على بركة اللّه تعالى ففَعل ثمَّ استأذنني أنْ يقيم عندنا أيَّاماً فأقام ثم أتاني فقلتُ : لاتخبرْني بشيءٍ حتى أنشدَك ثمَّ أنشدْتُه هذه الأبيات : ( يا لَيت شِعْرِي عَن أبي مجيبِ ** إذْ باتَ في مَجَاسِدٍ وطيبِ )
( مُعانقاً للرَّشأ الرَّبيبِ ** أأقْحَمَ الحِفارَ في القَليبِ ) قال : بلى كان واللّه رخْواً يابسَ القضيب واللّه لكأنّكَ كنتَ معنا ومُشاهِدَنا .
خصال الفهد
فأمَّا الفهد فالذي يحضُرنا من خصاله أنّّه يقال إن عظام السِّباع تشتهي ريَحه وتستدلُّ برائحته على مكانهِ وتُعجَب بلحمه أشدّ العجب .وقد يصادُ بضروبٍ منها الصَّوت الحسَن فإنّه يُصغِي إليه إصغاءً حسناً وإذا اصطادوا المسنَّ كان أنفعَ لأهله في الصَّيد من الجرو الذي يربُّونه لأنَّ الجرو يخرج خَبّاً ويخرج المسنُّ عَلَى التأديب صَيُوداً غيرَ خِبٍّ ولا مُوَاكِلٍ في صيده وهو أنفع من صيد كلِّ صائد وأحسن في العين وله فيه تدبيرٌ عجيب .
وليس شيءٌ في مثل جِسْم الفَهد إلاّ والفَهد أثقلُ منه وأحطمُ لظهر الدابَّة التي يَرقَى على مؤخَّرها .
والفهد أنْوَم الخلق وليس نومه كنوم الكلب لأن الكلب نومه نعاس واختلاس
والفهد نومه مُصْمَت : قال أبو حيَّة النّميري : ( بعذاريها أناساً نام
حلمهمُ ** عَنّا وعنك وعنها نومةَ الفَهَدِ ) وقال حُميد بن ثَورٍ
الهِلاليّ :
أرجوزة في صفة الفهد
وقال الرقاشيُّ في صفة الفهد : ( قد أغتدى والليلُ أحوى السدِّ ** والصبحُ في الظلماء ذو تهدى ) ( مثل اهتزازِ العضب ذى الفرندِ ** بأهرتِ الشدقين ملتئد ) ( أربدَ مضبورِ القرا علكدِ ** طاوى الحشا في طى ِّ جشمٍ معدِ )( كزَّ البراجيمِ هصور الجدِّ ** برامز ذى نكتٍ مسودِّ ) ( وسحر اللجين سحر وردِ ** شرنبثٍ أغلبَ مصعدِّ ) ( كالليث إلاَّ عاين بعدَ الجهدِ ** على قطاة الردف ردف العبد ) ( سر سرعتنا بحس صلد ** وانقضَّ يأدو غيرَ مجرهدَّ ) ( في ملهبٍ مه وختلٍ إدِّ ** مثل انسياب الحية العربد ) وقوله : مثل انسياب الحيَّة العربدِّ هذه الحيَّة عين الدابّة التي
يقال لها العربِد وقد ذكرها مالك بن حريم في قوله لعمْرو بن معد يكرب : ( يا عمرو لو أبصرتني ** لرفوتنى ف يالخيل رفوا ) ( فلقيت مني عربداً ** يقطو أمامَ الخيلِ قطوا ) ( لما رأيتُ نساءهم ** يدخلنَ تحت البيت حبوا ) ( وسمعتُ زجرَ الخيل في ** جوفِ الظلام هبى وهبوا ) ( في فيلقٍ ملمومةٍ ** تسطو على الخبراتِ سطوا )
وقال الرَّقاشي أيضاً في الفهد : ( لما غدا للصَّيدِ آلُ جَعْفَرِ ** رَهْطُ رسولِ اللّه أهلُ المفْخَر ) ( بفَهْدَةٍ ذات قَراً مُضَبَّر ** وكاهلٍ بادٍ وعنْق أزْهر ) ( ومُقْلةٍ سال سَوادُ المحجرِ ** منها إلى شِدقٍ رُحابِ المفْغَر ) ( وذنبٍ طالَ وجلْدٍ أنْمَر ** وأيْطلٍ مستأسدٍ غضنفر ) ( وأذنٍ مكسورةٍ لم تجْبرِ ** فَطْساءَ فيها رَحَبٌ في المنخر ) ( مثل وجار التتفل المقوَّر ** أرثها إسحاق في التعذر ) منها على الخدَّين والمُعذّر )
نعت ابن أبي كريمة للفهد
( كأنَّ بناتِ القَفْر حين تشعّبَتْ ** غدوت عليها بالمنايَا الشواعبِ )( بذلك نبَغي الصيد طوراً وتارةً ** بمُخْطفة الأحشاء رحْبِ التّرائبِ ) ( مُوَقَّفة الأذناب نُمرٍ ظهورها ** مخطّطة الآماق غلبِ الغَوَارب ) ( مُوَلَّعةٍ فُطْح الجِبَاهِ عوابسٍ ** تخالُ على أشْداقها خطّ كاتبِ ) ( فوارسُ ما لم تلقَ حرْباً ورجلةٌ ** إذا آنَسَتْ بالبيد شُهبَ الكتائبِ ) ( تضَاءَلُ حَتَّى ما تكاد تُبينُها ** عيونٌ لدى الصّرّاتِ غير كواذب ) ( توسّد أجيَادَ الفرائس أذرُعاً ** مُرَمَّلة تحْكي عِناقَ الحَبائب )
ما يضاف إلى اليهود من الحيوان
قال : والصبيان يصيحون بالفهد إذا رأوه : يا يهوديّ وقد عرفنا مَقالهم في الجِرِّيّ .
والعامَّة تزعم أن الفأرة كانت يهوديَّةَ سحّارة والأرضة يهودية أيضاً عندهم ولذلك يلطِّخون الأجذاع بشحم الجزُور .
والضبّ يهوديّ ولذلك قال بعضُ القصَّاص لرجل أكل ضبّاً : اعلمْ أنّك أكلت
شيخاً من بني ولا أراهم يضيفون إلى النّصرانية شيئاً من السِّباع والحشرات .
ولذلك قال أبو علقمة : كان اسم الذئب الذي أكل يوسف رجحون فقيل له :
فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب وإنما كذبوا على الذِّئب ولذلك قال اللّه عزَّ
وجلّ : وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ قال : فهذا اسمٌ للذئب الذي
لم يأكلْ يوسف .
فينبغي أن يكونَ ذلك الاسمُ لجميع الذِّئاب لأنَّ الذئابَ كلها لم تأكله .
زعم المجوس في لبس أعوان سومين
وتزعمُ المجوس أنّ بَشُوتَن الذي ينتظرون خروجه ويزعُمون أنّ الملك يصيرُ إليه يخرج على بقرةٍ ذاتِ قرون ومعه سبعون رجلاً عليهم جلود الفهود لا يعرفُ هرّا ولا بِرّاً حتى يأخذ جميع الدنيا .
الهرّ والبرّ وكذلك إلغازهم في الهرّ والبرّ وابن الكلبي يزعم عن الشّرقي بن القطاميّ أن الهرّ السنّور والبرّ الفارة .
جوارح الملوك
وليس ترى شريفاً يستحسِنُ حملَ البازي لأنّ ذلك من عمل البازيار ويستهجن حمل الصُّقور والشواهين وغيرها من الجوارح وما أدري علّة ذلك إلا أنّ البازَ عندهم أعجميّ والصَّقر عربيّ .ومن الحيوان الذي يدرّب فيستجيب ويَكيس وينصَح العَقْعَقُ فإنّه يستجيبُ من حيثُ تستجيبُ الصُّقور ويُزْجِر فيعرف ما يُرَاد منه ويخبأ الحَلي فيُسأل عنه ويُصاح به فيمضي حتى يقفَ بصاحبه على المكان الذي خبَّأه فيه ولكن لا يلزم البحث عنه .
وهو مع ذلك كثيراً ما يُضيع بيضه وفِراخه .
مخبئات الدراهم والحلى وثلاثة أشياءَ تُخبِّي الدَّراهم والحليَ وتَفْرَحُ
بذلك من غير انتفاع به منها : العَقعقُ ومنها ابن مِقْرض : دويْبّةٌ آلَقُ
من ابن عِرْس وهو صعبٌ وحْشيٌّ يحبُّ الدَّراهم ويفْرَحُ بأخذها ويخبيها
وهو مع ذلك يصيد العصافير صيداً كثيراً وذلك أنّهُ يُؤْخَذ فيُربَطُ بخيطٍ
شديد الفتْل ويُقابلُ به بيت الْعُصفور فيدخُلُ عليه فيأخذه وفراخَه
ولايقتلها حتى يقتلها الرّجل فلا يزال كذلك ولو طاف به على ألف جُحْر فإذا
حلّ خيطه ذهَبَ ولم يقُم .
وضرب من الفار يسرق الدَّراهِمَ والدنانير
والحَلْي ويفرح به ويُظْهِرهُ ويغيِّبه في الجُحر وينظُر إليه ذَنَبُ
الوزغة قال : وخطب الأشعث فقال : أيُّها الناسُ إنه مابقي من عدوِّكم إلا
كما بقي من ذَنَب الوزَغة تضرِب به يميناً وشمالاً ثم لاتلبث أن تموت
فمر به رجلٌ من قشير فسمع كلامه فقال : قَبَّح اللّه )
تعالى هذا ورأيَه يأمر أصحابَه بقلَّة الاحتراس وتركِ الاستعداد .
وقد يُقطَع ذنبُ الوزَغةِ من ثلثها الأسفل فتعيش إن أفلتَتْ من الذَّرِّ .
أشد الحيوان احتمالاً للطعن والبتر وقد تحتمل الخنافسُ والكلابُ من
الطَّعْن الجائف والسّهم النَّافذ ما لا يحتملُ مثلَه شيء والخُنفَسَاءُ
أعْجبُ من ذلك وكفاك بالضّبِّ .
والجمل يكون سَنامُه كالهدف فيُكشَف
عنه جلدُه في المجهدَة ثمَّ يُجتث من أصله بالشِّفار ثمَّ تعاد عليه
الجلدةُ ويُدَاوَى فيبرأ ويحتمل ذلك وهو أعْجَب في ذلك من الكبش في قطع
أليته من أصل عَجْب ذنَبه وهي كالتُّرس وربما فعل ذلك به وهو لا يستطيع أن
يقُلَّ أليته إلاّ بأداةٍ تتَّخذ ولكنَّ الألية على كلِّ حال طرفٌ زائد
والسَّنام قد طبَّقَ على جميع ما في الجوف .
ذكاء إياس ونظر
إياسُ بن معاوية في الرَّحْبة بواسط إلى آجُرَّة فقال : تحت هذه الآجُرَّة
دابّة : فنزعوا الآجُرَّة فإذا تحتها حيَّة متطوِّقة فسُئِل عن ذلك فقال
لأنِّي رأيتُ ما بينَ الآجُرَّتين نَدِيّاً من جميع تلك الرَّحَبة فعلمتُ
أن تحتها شيئاً يتنفّس .
هداية الكلاب في الثلوج وإذا سقط الثّلج في
الصحارى صار كلَّه طبقاً واحداً إلاّ ما كان مقابلاً لأفواه جِحَرة الوحْش
والحشرات فإنّ الثّلج في ذلك المكان يَنْحسر ويرقّ لأنفاسها من أفواهها
ومنَاخِرها ووهَج أبدانها فالكلابُ في تلك الحال يعتادها الاسترواح حتى
تقفَ بالكلاّبين على رؤوس المواضع التي تنبت الإجْرِدّ والقَصيص وهي التربة
التي تُنبتُ الكَمْأة وتربِّيها .
تعرّف مواضع الكمأة وربما كانت
الواحدةُ كالرُّمانة الفخْمة ثم تتخلَّق من غير بزر وليس لها عرقٌ تمصُّ به
من قُوى تلك الأرض ولكنها قوى اجتمعَت
من طريق الاستحالات كما
يَنطبخُ في أعماق الأرض من جميع الجواهر وليس لها بدّ من تربةِ ذلك من
جوهرها ولا بدَّ لها من وسْميّ فإذا صار جانِيها إلى تلك المواضع ولا سيما
إن كان اليومُ يوماً لِشمسهِ وَقْعٌ فإنه إذا أبصر الإجرِدَّ والقَصِيص
استدلَّ على مواضعها بانتفاخ الأرض وانصداعها .
وإذا نظر الأعرابيّ
إلى موضع الانتفاخ يتصدّعُ في مكانه فكان تفتُّحه في الحالات مستوياً علم
أنَّه ) ( نوادرَ وأشعار وأحاديث ) قال الشّاعر : ( وعصَيتِ أمْرَ ذوي
النُّهى ** وأطعْتِ رأيَ ذَوي الْجَهالَهْ ) ( فاحتلتُ حِينَ صَرَمْتِنِي
** والمرءُ يَعْجَزُ لا المَحَاله ) ( والعبدُ يقرعُ بالعصا ** والحرُّ
تكفيه المقالهْ )
وقال بشّار : ( وصاحبٍ كالدُّمّل المُمِدِّ ** حَمَلْتُه في رُقْعَةٍ من جِلِدي ) ( الحُرُّ يُلْحَى والعصا للعَبْدِ ** وليس للملحِفِ مثلُ الرَّدِّ ) وقال خليفة الأقطع : ( العبد يُقْرَعُ بالعصا ** والحُرُّ تكفيه المَلامَهْ ) ( القول في العُرْجان ) قال رجلٌ من بني عِجْل : ( وشَى بيَ واشٍ عندَ لَيْلَى سَفاهةً ** فقالت له ليلَى مقالةَ ذي عقْلِ ) ( وخبَّرَها أنِّي عَرِجْتَ فم تكُنْ ** كَوَرْهَاءَ تجترّ الملامة للبَعلِ ) ( وما بيَ مِنْ عَيبِ الفتى غَيْرَ أنّني ** جَعَلْتُ العَصَا رِجلاً أقيمُ بها رِجلي ) وقال أبو حَيَّة في مثل ذلك : ( وقد جَعَلْتُ إذ ما قُمتُ يُوجِعُني ** ظهْري فَقُمت قِيَامَ الشّاربِ السَّكرِ )
( وكنتُ أمشي على رِجلْينِ مُعْتَدِلاً ** فصرتُ أمشي على أخرى من الشجر ) وقال أعرابيٌّ من بني تميم : ( وما بيَ منْ عيب الفتى غَيْرَ أنّني ** ألِفْتُ قناتي حِينَ أوجَعني ظَهْري ) وكان بنو الحَدَّاءِ عُرْجاناً كلّهم فهجاهُم بعض الشُّعراء فقال : ( للّه درُّ بَني الحَدّاءِ منْ نَفَرٍ ** وكلُّ جارٍ على جيِرانِهِ كَلِبُ ) ( إذا غَدَوْا وعصيُّ الطّلْح أرجُلُهُم ** كما تُنَصَّبُ وَسْطَ البيعَةِ الصُّلُبُ ) والذي طفَّفَ الجدار من الذُّع ر وقد بات قاسِمَ الأنفالِ
فغدا خامعاً بأيدِي هَشِيمٍ وبسَاقٍ كعُودِ طَلحٍ بالِ )
وله حديثٌ .
عصا الحكم بن عبدل
وكان الحكمُ بن عبدل أعرجَ وكان بعد هجائه لمحمد بن حسَّان بنِ سعد لا يبعث إلى أحدٍ بعصاه التي يتوكأ عليها وكتبَ عليها حاجَته إلاّ قضاها كيفَ كانت فدخل على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو أميرُ الكوفة وكان أعرجَ وكان صاحبُ شُرطته أعرَج فقال ابن عَبْدَل : ( ألقِ العَصَا ودَعِ التَّعَارجَ والتمِسْ ** عملاً فهذي دَولَةُ العُرجانِ )( فأميرنُا وأميرُ شُرطِتنَا مَعاً ** يا قومنا لكليهما رِجلان ) ( فإذا يكونُ أميرنُا ووزيرُه ** وأنا فإنّ الرَّابعَ الشيطانُ ) وقال آخر ووصف ضَعفه وكِبَر سنِّه : ( آتِي النديَّ فلا يُقرَّب مجلسي ** وأقودُ للشرَف الرفيع حمارِيا ) وكان من العُرجان والشعراء أبو ثعلب وهو كليب بن أبي الغول ومنهم أبو مالك الأعرج وفي أحدهما يقول اليزيدي : ( أبو ثعلبٍ للناطفيِّ مؤازِرٌ ** على خبثه والناطفيُّ غيورُ ) ( وبالبغلة الشهباء رِقَّةُ حافرٍ ** وصاحبُنا ماضي الجَنان جَسورُ ) ( ولا غَرْوَ أنْ كان الأعيرجُ آرَهَا ** وما الناسُ إلآ آيِرٌ ُ ومَئيرُ )
( البدء والثُّنيان ) وقال الشاعر : ( تَلَقى ثِنَانا إذا ما جاءٍ بَدَأَهم ** وبَدْؤُهم إنْ أتانا كان ثُنْيانَا ) فالبدء أضخم السَّادات يقال ثِنًى وثنيان وهو اسم واحد وهو تأويلُ قولِ الشَّاعرِ : ( يَصُدُّ الشَّاعر الثُّنْيَانُ عَنِّي ** صُدُودَ الْبَكْرِ عن قَرْمٍ هِجَانِ ) لم يمدح نفسه بأن لا يغلب الفحل وإنَّما يغلب الثّنيانَ وإنما
أراد أنْ يصغِّر بالذي هَجَاه بأنه ثنيان وإن كان عندَ نفسِه فحلاً وأمَّا قول الشَّاعر : وَمَنْ يَفْخَرْ بمثل أبي وجَدّي يجئْ قبل السّوابقِ وهو ثانِ
أحاديث من أعاجيب المماليك
أتيتُ باب السَّعدانيَ فإذا غلامٌ له مليحٌ بالباب كان يتْبع دابَّته فقلت له : قلْ لمولاك إن شئتَ بكَرتَ إليَّ وإن شئت بكَرتُ إليك قال : أنا ليس أكلّم مولاي ومعي أبو القنافذ فقال أبو القنافذ : ما نحتاج مع هذا الْخُبْرِ إلى معايَنَة .وقال أبو البصير المنجِّم وهو عند قثم بن جعفر لغلام له مليحٍ صَغيرِ السّنّ : ما حَبَسك يا حلَقيّ والحلقيُّ : المخنث ثمّ قال : أمَا واللّه
لئن قمتُ إليك يا حلَقيُّ لَتَعلمنَّفلمَّا أكثر عليه من هذا الكلام بكى و قال : أدعو اللّه على مَنْ جعلَني حَلَقياً .
حدَّثني الحسن بنُ المرْزبانِ قال : كنتُ مع أصحابٍ لنا إذ أُتينا بغلامٍ
سنديٍّ يُباع فقلتُ له : أشتريك يا غلام فقال : حتَّى أسألَ عنك قال
المكِّي : وأُتِيَ المثنّى بن بِشرٍ بِسِنْديٍّ ليشتريه على أنّه طبّاخ
فقال له المثنى : كَمْ تحسنُ يا غلامُ من لونٍ فلم يُجبْه فأعاد عليه وقال :
يا غلامُ كَمْ تحسنُ من لون فكلّم غيرَه وتركه فقال المثنّى في الثالثة :
ما له لايتكلم يا غلام كم تحسنُ من لون فقال السندي : كم تحسن من لون كم
تحسن من لون وأنت لا تحسن ما يكفيك أنت قال : حسبُك الآن : ثم قال المثنّى
للدَّلاّل : وحدَّثني ثمامة قال : جاءنا رجلٌ بغلامٍ سِنديّ يزعمُ أنّه
طباخٌ حاذق فاشتريتُه منه فلمَّا أمرتُ له بالمال قال الرَّجل : إنه قد غاب
عنا غيبةً فإن اشتريتَه عَلى هذا الشّرط وإلاّ فاتركْهُ فقلتُ للسندي :
أكنتَ أبقْتَ قطّ قال : واللّه ما أبقْتُ قطّ فقلت : أنت الآن قد جمعتَ مع
الإباق الكذب قال : كيف ذلك قلتُ : لأنّ هذا الموضعَ لا يجوز أنْ يكذِب فيه
البائع قال : جعلني اللّه )
تعالى فِدَاءَك أنا واللّه أخبرك عن قصّتي : كنت أذنَبتُ ذنْباً كما يُذْنِبُ هذا وهذا جميعُ غلمان النّاس
فحلف بكلّ يمين لَيضربنِّي أربَعمائة سوط فكنتَ ترى لي أن أقيم قلت : لا
واللّه قال : فهذا الآن إباق قلتُ لا قال : فاشتريته فإذا هو أحسنُ النّاس
خَبْزاً وأطيبُهم طبخاً .
وخبَّرني رجلٌ قال : قال رجلٌ لغلام له ذاتَ يوم : يا فاجر قال : جعلني اللّه فِداك مَولى القوم منهم .
وزعم روح بن الطائفية وكان روْحٌ عَبداً لأخْت أنَس بن أبي شيخ وكانت قد
فوَّضت إليه كلَّ شيءٍ من أمْرها قال : دخلت السُّوق أريدُ شراءَ غلامٍ
طبَّاخ فبينا أنا واقفٌ إذ جيءَ بغلامٍ يُعرَض بعشرة دنانير ويساوي على
حُسْن وجهه وجودة قدِّه وحداثة سنِّه دونَ صناعته مائَة دينار فلمَّا رأيته
لم أتمالك أنْ دنوتُ منه فقلت : ويحك أقلُّ ثمنِك على وجْهِك مائةُ دينار
واللّه ما يبيعُك مولاك بعشْرَة دنانيرَ إلاّ وأنت شرُّ الناس فقال : أمَّا
لهم فأنا شرُّ الناس وأمَّا لغيرهم فأنا أساوي مائةً ومائةً قال : فقلت :
التزيُّن بجمالِ هذا وطيبِ طبْخِه يوماً واحداً عند أصحابي خيرٌ من عشرة
دنانير فابتَعته ومضيتُ به إلى المنزل فرأيت من حِذقه وخِدمته وَقلَّة
تزيُّده ما إنْ بعثْتُه إلى الصيّرفي لِيأتيني من قِبَله بعشرين ديناراً
فأخذَها ومضى على وجْهه
فو اللّه ما شعَرت إلاّ والنَّاشد قد جاءني وهو يطلب جُعْله فقلت : لهذا وشبْهه باعك القَومُ بعشرة دنانير قال : لولا أنِّي أعلم أنَّك لا تصدِّق يميني و كيف طرَّت الدّنانير من ثَوبي ولكنِّي أقولُ لك واحدة : احتبسني واحترسْ مِنِّي واستمتعْ بخدمتي واحتسِبْ أنَّك كنت اشتريتني بثلاثين ديناراً قال : فاحتبسته لهوايَ فيه وقلت لعلَّه أنْ يكونَ صادقاً ثمَّ رأيتُ واللّه من صلاحه وإنابته وحُسْن خدمته ما دعاني إلى نسيان جميع قصَّته حتى دفعتُ إليه يَوماً ثلاثين ديناراً ليوصلها إلى أهلي فلمَّا صارت إلى يده ذهبَ على وجهه فلم ألبثْ إلاّ أيّاماً حتى ردّه النّاشد فقلت له : زَعمتَ أنّ الدَّنانير الأولى طُرَّتْ منك فما قولك في هذه الثانية قال : أنا واللّهِ أعلم أنَّك لا تقبل لي عُذْراً فدَعْني خارجَ الدار ولا تجاوِزْ بي خدمةَ المطبخ ولو كان الضَّرْبُ يردُّ عليك شيئاً من مالِك لأشرتُ عليك به ولكنْ قد ذهبَ مالُك والضَّرب ينقُص من أجْرك ولعلِّي أيضاً أموتُ تحتَ الضّرب فتندمَ وتأثمَ وتفتضحَ
ويطلبَك السلطان ولكنْ اقتصِرْ بي على المطْبخ فإنِّي سأسُرُّك فيه وأوفره
عليك وأستجيد ما أشتريه وأستصلحه لك وعدَّ أنْك اشتريتني بستّين ديناراً
فقلت له : أنت لا تفلح بعد هذا اذهبْ فأنتَ حرٌّ لوجه اللّه تعالى فقال لي :
أنت )
عبدٌ فكيف يجوز عتقُك قلت فأبيعُك بما عَزَّ أوْ هانََ فقال :
لا تَبعْني حَتَّى تُعِدَّ طبَّاخاً فإنّك إن بعتني لم تتغذّ غِذاءً إلاّ
بخبزٍ وباقِلاء قال : فتركته ومَرَّتْ بعد ذلك أيامٌ فبينا أنا جالسٌ يوماً
إذْ مرَّت عليّ شاةٌ لبونٌ كريمة غزيرة الدّرّ كنا فرَّقنا بينها وبين
عَناقها فأكثرتْ في الثُّغاء فقلت كما يقول النّاس وكما يقول الضّجر :
اللهمَّ العنْ هذه الشاة ليت أنَّ اللّه بعثَ إنساناً ذبحها أو سرَقها حتى
نستريحَ من صياحها قال : فلم ألبَثْ إلاّ بقدْر ما غاب عن عيني ثمَّ عاد
فإذا في يده سِكِّين وسَاطور وعليه قَميصُ العَمَل ثمّ أقبل عليّ فقال :
هذا اللّحم ما نصنع به وأيُّ شيءٍ تأمرني به فقلت : وأيُّ لحم قال : لحم
هذه الشاة قلت :
وأيُّما شاةٍ قال : التي أمرتَ بذبحها قلت : وأي شاةٍ أمرْت بذَبحها قال : سبحان اللّه أليس قد قلت السّاعة : ليت أن اللّه تعالى قد بعث إليها من يذبحها أو يسرقها فلما أعطاك اللّه تعالى سؤلك صرتَ تتجاهل قال روح : فبقِيت واللّه لا أقدرُ على حبَسه ولا على بيعه ولا على عِتقه . ( أشعارٌ حِسَان ) وقال مسكينٌ الدّارميّ : ( كأنّ على خُرطومه متهافِتاً ** من القُطن هاجته الأكفُّ النوادفُ ) ( وللَصَّدَأ المُسْوَدُّ أطيبُ عندَنا ** من المِسك دافته الأكْفُّ الدوائفُ )
( ويصبْح عِرفان الدُّرُوعِ جلودَنا ** إذا جاءَ يومٌ مُظلمُ اللّونِ كاسفُ ) ( تعلق في مثل السّواري سُيوفنا ** وما بينها والكعب مِنَّا تنائفُ ) ( وكلُّ رُدَيْنيٍّ كأنَّ كُعوبَه ** قطاً سابقٌ مستوردُ الماء صائفُ ) ( كأنّ هِلالاً لاحَ فوقَ قَنَاتِهِ ** جلا الغَيْمَ عنه والقتامَ الحَراجِفُ ) ( له مثلُ حُلقومِ النَّعامة حلة ** ومثل القدامى ساقها متناصفُ ) وقال أيضاً مِسكينٌ الدَّارِميّ : ( وإذا الفاحش لاقى فاحشاً ** فهناكُمْ وافَقَ الشَّنُّ الطبَقْ ) ( إنَّما الفُحشُ ومنْ يعتادُه ** كغُرابِ البَيْن ما شَاءَ نعَقْ ) ( أو حمارِ السَّوءِ إنْ أشبعْتَهُ ** رَمَحَ النَّاسَ وإنْ جَاعَ نَهَقْ )
( أو غُلامِ السَّوءِ إنْ جوَّعته ** سَرَق الجارَ وإن يشْبَع فسَق ) وقال ابن قيس الرقيات : ) مَعقل القوم من قُريشٍ إذا ما فازَ بالجهلِ مَعْشَرٌ آخرُونا وقال ابن قيس أيضاً واسُمه عبد اللّه : ( لو كانَ حَولي بنو أمَيّة لم ** ينطِق رجالٌ إذا همُ نَطقُوا ) ( إنْ جَلسُوا لم تَضقْ مجالسهُم ** أو ركِبوا ضاق عنهمُ الأُفقُ ) ( كَمْ فيهم من فَتًى أخي ثقَةٍ ** عن مَنْكِبَيه القميصُ منخرقُ ) ( تحبُّهم عُوَّذ النِّساء إذا ** ما احمَرَّ تحت القوانِسِ الْحَدَقُ ) ( وأنكَرَ الكَلْبُ أهلَه ورأى الشَّرَّ ** وطاحَ المروَّع الفَرِقُ ) وقال النابغة : ( سَهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهمْ ** تحتَ السَّنَوَّرِ جنّةُ البقَّارِ )
وقال بشار بن برد : ( يطيَّبُ ريحُ الخيزُرَانَةِ بينَهمْ ** على أنّها ريحُ الدِّماء تضُوع ) سنقول في الشهب وفي استراق السمع وإنّما تركْنا جمعَه في مكان واحد لأنّ ذلك كان يطولُ على القارئ ولو قد قرأ فضْل الإنسان على الجانّ والحجَّة على مَن أنكرَ الجانّ لم يستثقِلْه لأنّه حينئذٍ يقصد إليه على أنّه مقصورٌ على هذا الباب فإذا أدخلناه في باب القول في صغار الوحش والسِّباع والهَمج والحشراتِ قالوا : زعمتم أنَّ اللّه تعالى قال : وَلَقد زَيَّنا السَّمَاءَ الدُّنْيا بمصَابيحَ وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشّياطين وقال تعالى : وَحَفِظْنَاهَا منْ كُلِّ شيْطان رَجيم وقال تعالى : وجَعَلْناهَا رُجُوماً للِشَّياطين ونحنُ لم نجدْ قطُّ كوكباً خلا مكانهُ فما ينبغي أنْ يكون واحدٌ من جميع
هذا الخلق من سكّان الصحارى
والبحار ومن يَراعِي النُّجوم للاهتداء أو يفَكِّر في خلق السموات أن يكون
يرى كوكباً واحداً زائلاً مع قوله : وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشَّياطينِ .
قيل لهم : قد يحرِّك الإنسانُ يدَه أو حاجبَه أو إصبَعه فتضاف تلك الحركةُ
إلى كلِّه فلا يشكُّون أنّ الكلَّ هو العاملُ لتلك الحركة ومتى فصَل شهابٌ
من كوكب فأحرق وأضاء في جميع البلاد فقد حكَم كلُّ إنسانٍ بإضافة ذلك
الإحراق إلى الكوكب وهذا جواب قريبٌ سهل والحمد للّه .
ولم يقلْ أحد :
إنّه يجبُ في قوله : وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً للِشَّياطينِ أنّه يَعْني
الجميع فإذا كان قد صحّ أنّه إنَّما عَنى البعض فقد عَنى نُجُوم المجرّة
والنجومَ التي تظهر في ليالي الحنادس لأنّه محال )
أن تقعَ عينٌ على
ذلك الكوكبِ بعينه في وقت زوَاله حتّى يكون اللّه عزّ وجلَّ لو أفنى ذلك
الكوكَب من بين جميع الكواكب الملتفَّة لعرف هذا المتأمِّلُ
مكانه
ولوَجَدَ مَسَّ فقدِه ومن ظَنَّ بجهله أنَّه يستطيع الإحاطة بعدد النُّجوم
فإنه متى تأَمَّلها في الحَنادس وتأمَّل المجرَّة وما حولها لم يضرِب المثل
في كثرة العدد إلاّ بها دونَ الرّمل والتّراب وقطْر السَّحاب .
وقال
بعضُهم : يدنو الشِّهاب قريباً ونراه يجيء عَرْضاً لا مُنْقضاً ولو كان
الكوكب هو الذي ينقضُّ لم يُر كالخيط الدّقيق ولأضاء جميع الدُّنيا ولأحرق
كلَّ شيء مما على وجْه الأرض قيل له : قد تكون الكواكب أفقيّة ولا تكونْ
علوية فإذا كانت كذلك فصَل الشِّهابُ منها عَرْضَاً وكذلك قال اللّه تعالى :
إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ وقال اللّه
عزَّ وجلّ : أوْ آتيكُمْ بشِهابٍ قبس فليس لكم أن تقضوا بأنّ المباشر لبدَن
الشيطان هو الكوْكب حتى لا يكون غير ذلك وأنتم تسمعونَ اللّه تعالى يقول :
فأتبعَهُ شِهَابٌ ثَاقبٌ والشِّهاب معروفٌ في اللغة وإذا لم يُوجِبْ عليها
ظاهرَ لفظ القُرآن لم ينكر أنْ يكون الشِّهَابُ كالخطّ أو كالسهم لا يضيءُ
إلاّ بمقدار ولا يقوى على إحراق هذا العالم وهذا قريبٌ والحمد لله .
وطعن بعضهم من جهة أخرى فقال : زعمتم أنّ اللّه تبارك وتعالى قال :
وَحفظًاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ لا يَسَّمعُون إلى الملإ الأعْلى
وَيُقْذَفُونَ من كلِّ جانبٍ دُحوراً ولَهُمْ عَذابٌ واصبٌ وقال على سَنَنِ
الكلام : إلاّ مَنْ خَطفَ الخْطفَةَ فأتْبَعَهُ شهَابٌ ثاقبٌ قال : فكيف
تكون الخطفة من المكان الممنوع قيل له : ليس بممنوعٍ من الخطفة إذ كان لا
محالة مرمِيّاً بالشِّهاب ومقْتُولاً على أنّه لو كان سلِمَ بالخطْفة لما
كان استفاد شيئاً للتكاذيب والرِّياسة وليس كلُّ من كذب على اللّه وادَّعى
النبوَّة كان على اللّه تعالى أنْ يُظهر تكذيبه بِأن يخسِفَ به الأرْض أو
ينطِقَ بتكذيبه في تلك السَّاعة وإذا وجبت في العُقول السّليمة ألاّ يصدق
في الأخبار لم يكن معه بُرهان فكفى بذلك .
ولو كان ذلك لكانَ جائزاً ولكنَّه ليس بالواجب وعلى أنَّ
ناساً من النحويِّين لم يُدخلوا قوله تعالى : إلاّ منْ خطِف الخْطفَةَ في الاستثناء وقال : إنّما هو كقوله : ( إلاّ كخارجة المكلّفِ نفسَه ** وابنَي قبيصة أن أغيبَ ويشْهدَا ) وقوله أيضاً : ( إلا كناشرة الذي كَلّفتمُ ** كالغُصْنِ في غلوائه المتَنبّتِ )
وقال الشاعر في باب آخر
ممّا يكونُ موعظةً له من الفكر والاعتبار فمن ذلك قوله : ( مهما يَكن ريبُ
المنُون فإنني ** أرى قمَر اللّيلِ المعَذّر كالفَتى ) ( يَكُونُ صغيراً
ثمَّ يعظُم دائباً ** ويرجعُ حتّى قيلَ قد مات وانقضى ) ( كذلك زَيدُ
المرءِ ثمَّ انتقاصُه ** وتكراره في إثره بعد ما مضَى ) وقال آخر :
ومستنْبَتٍ لا باللّيالي نَباتُه وما إن تلاقي ما به الشّفَتانِ
( وآخر في خمسٍ وتسعٍ تمامُه ** ويُجْهد في سَبْعٍ معاً وثمانِ )
ما قيل من الشعر في إنقاص الصحة والحيا
وقال أبو العتاهية : أسرَعَ في نقْضِ امرئٍ تمامه وقال عبدُ هند : ( فإنّ السِّنان يركبُ المرءُ حَدّه ** من العارِ أو يعدُو على الأسد الوَرْدِ ) ( وإنّ الذي ينهاكُمُ عن طِلابِها ** يُناغي نساءَ الحيِّ في طرّة البُرْد ) ( يُعلّلُ والأيّامُ تنقص عمرَهُ ** كما تنقُصُ النِّيرانُ من طَرَف الزَّندِ ) وفي أمثال العرب : كلُّ ما أقامَ شَخَص وكلُّ ما ازداد نقص ولو كان يُميتُ النّاس الدَّاءَ لأعاشهم الدّواء .
وقال حميد بن ثور : (
أرى بَصَري قد رَابَني بعْدَ صحّةٍ ** وحَسْبُكَ داءً أن تصحَّ وتسلما )
وقال النَّمر بنُ تَولب : ( يُحبُّ الفَتى طُولَ السَّلامةِ والبقا **
فكَيفَ تَرَى طُول السَّلامةِ يفعَلُ ) وقيل للمُوبَذ : متى أبنك يعني أبنك
قال : يوم ولِد .
وقال الشّاعر : ( تصرّفتُ أطواراً أرى كُلَّ
عِبْرَةٍ ** وكان الصَّبَا منِّي جديداً فأخلقا ) ( وما زادَ شيءٌ قطُّ إلا
لنقصهِ ** وما اجتمع الإلفان إلاّ تفرَّقا ) وقيل لأعرابي في مرضه الذي
مات فيه : أيَّ شيءٍ تشتكي قال : تمام العِدّة وانقضاء المدّة . )
وقيل لأعرابي في شَكَاته التي ماتَ فيها : كيف تجِدُك قال : أجدُني أجدُ ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجِد .
وقيلَ لَعمرو بن العاص في مَرْضَته التي ماتَ فيها : كيف تجدك قال :
أجِدُني أذوب ولا أثُوب وقال مَعْمَرٌ : قلتُ لرجلٍ كان معي في الحبْس وكان
مات بالبطْن : كيفَ تجدُك قال : أجدُ روحي قد خرَجَتْ من نصفي الأسفل وأجد
السَّماءَ مُطْبقةً عليَّ ولو شئتْ أنْ ألمسَها بيدي لفعلت ومهما شككتُ
فيه فلا أشكُّ أنّ الموت بَرد ويُبس وأنّ الحياةَ حرارة ورطوبة .
شعر في الرثاء
وقال يعقوبُ بن الرَّبيع في مرثية جاريةٍ كانتْ له : ( رَجَعَ اليقين مطامعي يأساً كما ** رَجَعَ اليقينُ مطامِعَ المتلمِّسِ )
وقال يعقوبُ بن الربيعُ : ( لئن كان قُرْبكِ لي نافعاً ** لَبُعدُك قد كان
لي أنفعا ) ( لأني أمنْتُ رَزَايا الدُّهور ** وإنْ جلَّ خطبٌ فلن أجْزعَا
) وقال أبو العتاهية : ( وكانتْ في حياتِك لي عِظَاتٌ ** فأنتَ اليوم
أوْعظُ منك حيّا ) وقال التيميُّ : ( لقد عزَّى رَبيعَة أنَّ يوماً **
عليها مِثل يومكَ لا يعودُ ) ( ومن عَجبٍ قصَدنَ له المنايا ** على عَمْدٍ
وهُنَّ له جُنُودُ ) وقال صالحُ بنُ عبد القدُّوس : ( إن يكنْ ما أصِبت فيه
جليلاً ** فذهاب العزاء فيه أجَلُّ ) ونظر بعض الحكماء إلى جنازة الإسكندر
فقال : إنّ الإسكندرَ كان أمسِ أنطقَ منه اليوم وهو اليومَ أوعْظُ منه أمس
.
وقال غسان : ( واستُنفِد القَرْن الذي أنا مِنْهُمُ ** وكفى بذلك علامةً لحصادي ) وقال أعرابي :
( إذا الرِّجالُ ولدَتْ أولادُها ** واضطربتْ من كِبَر أعضادُها ) (
وَجعلتْ أسقامُها تعتادُها ** فهي زُروعٌ قد دَنا حصادُها ) وقال ضِرارُ
بنُ عمرو : منْ سرَّه بَنُوهُ ساءتْه نفسُه .
وقال عبدُ الرحمن بن أبي بكرة مَنْ أحَبَّ طُولَ العُمُر فليُوطِّن نفسَه على المصائب .
وقال أخو ذي الرُّمَّة : ( ولم يُنسني أوْفى المُلِمَّاتُ بعدَه ** ولكنَّ نَكْءَ القَرْح بالقَرْح أوْجَعُ )
بعض المجون
وقال بعض المُجّان : ( نُرقِّع دُنْيانا بتمزيقِ ديننا ** فلا دِينُنا يَبْقَى ولا ما نرقِّعُ ) وسُئل بعضُ المُجَّان : كيف أنتَ في دينك قال : أخرِّقه بالمعاصي وأرقّعه بالاستغفار .
شعر في معنى الموت ( نُراع
إذا الجنائزُ قابلتْنَا ** ويحزُننا بُكاءُ الباكياتِ ) ( كَرَوْعةِ
ثَلَّةٍ لمغازِ سَبْعٍ ** فلما غابَ عادَتْ راتِعَاتِ ) وقال أبو العتاهية :
( إذا ما رأيتم مَيِّتينَ جزعتمُ ** وإن لم تَرَوا ملتم إلى صَبواتِها )
وقالت الخنساء : ( تَرتَعُ ما غَفَلتْ حتَّى إذا ادَّكرت ** فإنَّما هي
إقبالٌ وإدبارُ ) وكان الحسن لا يتمثَّل إلا بهذين البيتين وهما : ( يسرُّ
الفتى ما كان قدَّمَ من تُقًى ** إذا عَرَفَ الدَّاءَ الذي هو قاتلُه )
والبيتُ الآخر : ( ليس مَنْ ماتَ فاستراح بَميْتٍ ** إنّما الميْتُ ميّتُ
الأحياءِ )
وكان صالحٌ المُرّيّ يتمثَّل في قصصه بقوله : ( فباتَ
يُروِّي أُصولَ الفسيلِ ** فَعاشَ الفَسيلُ ومات الرجلْ ) وكان أبو عبد
الحميد المكفوف يتمثَّل في قصصه بقوله : ( يا راقدَ اللّيل مسروراً بأوَّله
** إنّ الحوادث قد يطْرُقن أسحاراً ) ( عندَ الصّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ
السُّرَى ** وتنجلي عنهمْ غيابات الكَرَى )
وقال أبو النجم :
( كلنا يأمُل مدّاً في الأجلْ ** والمنايا هي آفاتُ الأملْ ) فأمَّا أبو النجم فإنَّه ذَهب في الموت مذهبَ زهيرحيث يقول : ( إنَّ الفتى يُصْبِحُ للأسقام ** كالغَرَضِ المنْصُوبِ للسِّهام ) أخطاهُ رامٍ وأصاب رامِ وقال زهير : ( رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ منْ تُصبْ ** تُمتْهُومَنْ تخطئ يُعَمّرْ فَيَهْرَمِ ) مقطعات شتى وقال الآخر : ( وإذا صنَعْتَ صنيعةً أتممتها ** بيدَين ليس نَداهُما بمكدّرِ ) ( وإذا تباعُ كريمةٌ أو تُشْتَرى ** فسواك بائعُها وأنت المُشْتري )
وقال الشاعر : ( قصيرُ يدِ السِّربال يَمْشي معرِّداً ** وشرُّ قريشٍ في قريشٍ مُرَكَّبا ) ( بعثتَ إلى العراقِ ورافِدَيه ** فزَاريّاً أحَذَّ يدِ القَميصِ ) ( تفيهق بالعراق أبو المثنَّى ** وعلّمَ قومه أكلَ الخبيصِ ) وقال الآخر : ( حَبَّذا رَجْعُها إليَّ يَدَيها ** بيدَيْ دِرعِها تحلُّ الإزَارا ) وأنشد : ( طَوَتْهُ المنايا وهو عنهنَّ غافلٌ ** بمنخَرِق السِّربال عارِي المناكبِ ) ( جريءٍ على الأهوال يَعْدِل دَرْءَهَا ** بأبيضَ سَقَّاطٍ وراءَ الضَّرائب )
وقال جرير : ( تركتُ لكم بالشّام حَبْلَ جماعةٍ ** مَتينَ القُوى مُسْتَحْصدِ الْفَتْل باقيَا ) ( وجدْت رُقى الشَّيطان لا تستفزُّه ** وقد كان شَيطاني من الجِنِّ راقيا ) وقال الأسديّ : ( كثير المناقب ِوالمكرمات ** يجود مجداً وأصلاً أثيلا ) ( ترى بيديه وَراء الكميّ ** تباله بعد نصال نصولا )
( تمنى السفاه ورأى الخنا ** وضَلَّ وقد كان قِدْماً ضَلولا ) ( سقط : بيت الشعر ) ( فإن أنت تنزع من ودنا ** فما أن وجدت لقلبي محيلا )
الجزء السابع
( بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ )
في إحساس أجناس الحيوان
اللهم إنَّا نَعوذ بك من الشَّيطان الرجيم ونسألك الهداية إلى صراطك المستقيم وصلّى اللّه على سيدنا محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامَّة ونعوذ باللّه أن تدعوَنا المحبَّةُ لإتمام هذا الكتاب إلى أنْ نَصِل الصِّدْقَ بالكذب ونُدْخِل الباطلَ في تضاعيف الحقِ وأن نتكثَّر بقول الزور ونلتمس تقوية ضعفِهِ باللفظ الحسن وستر قبحه بالتأليف المونِق أو نستعينَ على إيضاح الحقِّ إلا بالحق وعلى الإفصاح بالحجَّة إلاّ بالحجة ونستميلَ إلى دراسته واجتبائه ونستدعي إلى تفضيله والإشادة بذكره بالأشعار المولّدة والأحاديث المصنوعة والأسانيد المدخولة بما لا شاهد عليه إلاّ دعوى قائله ولا مصدِّق له إلاّ مَن لا يُوثَق بمعرفته ونعوذُ باللّه من فِتنة القول وخَطَله ومن الإسهاب وتقحُّم أهله والاعتمادُ فيما بينناوبين كثيرٍ من أهل هذا الزمان على حسن الظنّ والاتّكالُ فيهم على العُذر فإنّ كثيراً ممّن يتكلّف قراءة الكُتب ومدارسةَ العلم يقِفون من جميع الكتب على الكلمة الضعيفة واللَّفظة السَّخيفة وعلى موضع من التأليف قد عرض له شيءٌ من استكراهٍ أو ناله بعضُ اضطراب أو كما يعرض في الكتب من سَقَطات الوهْم وفَلَتات الضَّجَر ومن خَطأ النّاسخ وسوء تحفُّظ المعارِض على معنًى لعله لو تدبَّره بعقلٍ غير مفْسَدٍ ونظرٍ غير مدخول وتصفّحَه وهو محترِسٌ من عوارض الحسد ومن عادة التسرُّع ومن أخلاقِ مَن عسى أن يتَّسِع في القول بمقدار ضِيق صَدره ويُرسل لسانَه إرسالَ الجاهل بِكُنْه ما يكون منه ولو جعلَ بدلَ شُغله بقليلِ ما يرى من المذموم شُغْلََهُ بكثيرِ ما يرى من المحمود كانَ ذلك أشبهَ بالأدبِ المرضيِّ والخِيم الصَّالح وأشدّ مشاكلَةً للحكمة وأبعدَ من سلطان الطَّيش وأقربَ إلى عادة السَّلف وسيرة الأوَّلين وأجدَرَ أن يَهَبَ اللّه له السَّلامة في كتبه والدِّفاعَ عن حُجَّته يومَ مناضلةِ خصومه ومقارعةِ أعدائه .
وليس هذا الكتابُ يرحمك اللّه
في إيجاب الوَعد والوعيد فيعترض عليه المرجئ ولا في تفضيل عليٍّ فَينصِب
له العثمانيّ ولا هو في تصويب الحكمَين فيتسخّطَه الخارجيّ ولا هو في )
تقديم الاستطاعة فيعارضَه من يُخالف التقديم ولا هو في تثبيت الأعراض
فيخالفَه صاحبُ الأجسام ولا هو في تفضيل البَصرة على الكوفة ومكة على
المدينة والشَّام على الجزيرة ولا في تفضيل العجَم على العرب وعدنانَ على
قَحْطان وعمرٍ و على واصل فيردّ بذلك الهذيلي عَلَى النّظّامي ولا هو في
تفضيل مالكٍ على أبي حنيفة ولا هو في تفضيل امرئ القيس على النّابغة وعامر
ابن الطفيل على عمرو بن معد يكرب وعباد بن الحصين على عبيد اللّه بن الحُرّ
ولا في تفضيل ابن سُريج على الغَريض ولا في تفضيل سيبويهِ على الكسائيّ
ولا في تفضيل الجعفريِّ على العقيليّ ولا في تفضيل حلم الأحنف على حِلم
معاوية وتفضيل قَتادة على الزّهري فإنَّ لكلِّ
صِنفٍ من هذه الأصناف
شيعةً ولكلِّ رجل من هؤلاء الرجال جُند وعدداً يخاصمون عنهم وسفهاؤهم
المتسرعون منهم كثير وعلماؤهم قليل وأنصاف علمائهم أقلَّ .
ولا تنكر
هذا حفظكَ اللَّه أنا رأيت رجُلين بالبصرة على باب مُويس بن عِمران تنازعا
في العنب النَّيروزيِّ والرازقيِّ فجرى بينهما اللعين حتى تواثبا فقطع
الكوفيُّ إصبع البصريِّ وفقأ البصريُّ عينَ الكوفيّ ثم لم ألبَث إلاّ
يسيراً حتى رأيتهما متصافيَين متنادمين لم يقعا قطّ على مقدار ما يُغضب مِن
مقدار ما يُرضي فكيف يقَعَانِ على مقادير طبقات الغضب والرضا واللّه
المستعان .
وقد ترك هذا الجمهورُ الأكبر والسَّوَادُ الأعظمُ التوقفَ
عندَ الشبهة والتثبُّتَ عند الحكومة جانباً وأضربوا عنه صَفْحاً فليس إلاّ
لا أو نعم إلاَّ أَنَّ قولهم لاَ موصول منهم بالغضب وقولهم نعم موصولٌ منهم
بالرِّضا وقد عُزلت الحرِّيَّة جانباً ومات ذِكرُ الحلال والحرام ورُفض
ذكر القَبيحِ والحسن .
قد كتبْنا من كتاب الحيوان ستّة أجزاء
وهذا الكتابُ السابع هو الذي ذكرنا فيه الفِيل بما حضَرنا من جُمْلة القولِ
في شأنه وفي جملة أسبابه واللّه الموفق .
وإنما اعتمدنا في هذه الكتب
على الإخبار عمّا في أجناس الحيوان من الحجج المتظاهِرة وعلى الأدلة
المترادفة وعلى التنبيه على ما جلَّلها اللّه تعالى من البرهانات التي لا
تعرف حقائقُها إلا بالفكرة وغشَّاها من العلامات التي لا تنال منافعها إلا
بالعبرة وكيف فرَّق فيها من الحكم العجيبة والأحاسيس الدقيقة والصنعة
اللطيفة وما ألهمها من المعرفة وحشاها من الجُبن والجرأة وبصَّرها بما
يُقيتُها ويُعيشها وأشعرها من الفِطنة لما يحاول منها عدوُّها ليكونَ ذلك )
سبباً للحذر ويكون حذرُها سبباً للحِراسة وحراستُها سبباً للسلامة
حتى تجاوزت في ذلك مقدارَ حراسة المجرِّب من الناس والخائفِ المطلوب من أهل
الاستطاعة والروِيَّة كالذي يروى من تحارُس الغرانيق والكراكي وأشكالٍ من
ذلك كثيرة حتى صار الناسُ لا يضرِبون المثلَ إلا بها ولا يذمُّون
ولا يمدحون إلا بما يجدون في أصناف الوَحْش من الطَّير وغير ذلك فقالوا :
أحذر من عقْعَق وأحذَر من غراب وأحذَر من عصفور وأسمع من فَرْخ العُقاب
وأسمع من قُراد وأسمعُ من فَرَس وأجْبَنُ من صِفْرِد وأسخَى من لافِظَة
وأصنع من تُنَوِّطٍ وأصْنَع من سُرْفة وأصنع من دَبْر وأهدى من قَطاة وأهدى
من حمامٍ وأَهدَى من جمل وأزهى من غراب وأَزْهى من ذباب وأجرأ من اللَّيث
وأَكسب من الذِّئب وأَخدع من ضَبّ وأَرْوَغ من ثعلب وأَعقّ من ضَبّ وأَبرّ
من هِرَّة وأَسْرع من سِمْع وأَظلم من حيَّة وأَظلم من وَرَلٍ وأكذبُ من
فاخِتة وأصدق من قطاة وأمْوَق من رَخمة وأحزَم من فَرْخ العُقاب .
ونبَّهنَا تعالى وعزّ على هذه المناسبة وعلى هذه المشاركة وامتَحَن ما
عندنا بتقديمها علينا في بعض الأمور وتقديمنا عليها في أكثر الأمور وأراد
بذلك ألاّ يُخْلِينَا من حُجة ومن النَّظر إلى عبرةٍ وإلى ما يعود عند
الفكرة موعظة وكما كره لنا من السهو والإغفال ومن
البطالة والإهمال
في كلِّ أحوالنا لا تُفْتَح أبصارُنا إلا وهي واقعةٌ على ضربٍ من الدلالة
وعلى شكل من أشكال البرهانات وجعل ظاهرَ ما فيها من الآيات داعياً إلى
التفكير فيها وجعل ما استخزنها من أصناف الأعاجيب يُعرف بالتكشِيف عنها
فمنها ظاهرٌ يدعوك إلى نفسه ويشير إلى ما فيه ومنها باطنٌْ يَزيدك بالأمور
ثقةً إذا أفضيتَ إلى حقيقته لتعلم أَنَّك مع فضيلة عقلِك وتصرُّف استطاعتِك
إذا ظهر عجزُك عن عمل ما هو أعجز منك أنّ الذي فضَّلك عليه بالاستطاعة
والمنطق هو الذي فضَّله عليك بضروبٍ أُخَر وأنكما ميسَّران لما خُلقتُما له
ومُصَرَّفان لما سُخِّرتما له وأن الذي يعجِز عن صَنعة السُّرْفة وعن
تدبير العنكبوت في قلتهما ومَهانتهما وضُعفهما وصِغَر جرمهما لا ينبغي أن
يتكبّر في الأرض ولا يمشِيَ الخُيَلاء ولا يتهكَّمَ في القول ولا يتألَّى
ولا يستأمر وليعلم أنَّ عقله منيحة من ربه وأن استطاعتَه عاريَّةٌ عنده
وأنه إنما يستبقي النِّعمة بإدامة الشُّكْر والتعرُّض لسلبها بإضاعة الشكر .
ثم حبَّب إليها طلب الذَّرء والسِّفاد الذي يكون مَجْلَبَةً للذرء
وحبَّب إليها أولادَها ونجلَها وذَرءها ونسلها حتى قالوا : أكرم الإبل
أَشدُّها حنيناً وأكرم الصَّفايا أشدُّها حبّاً لأولادها )
وزَاوَجَ بين أكثرها
وجعل تألّفَها معَ بعضها من الطَّروقة إذا لم يكن الزِّواج لها خُلقاً وجعل إلف العِرْس لها عادة وقوَّاها على المسافَدة لتتمَّ النعمة وتعظم المنة وألهمها المبالغةَ في التربية وحُسْنَ التعبُّد وشدَّة التفقُّد وسوَّى في ذلك بين الجِنس الذي يُلَقِّم أولاده تلقيماً وبين الذي يُرْضِعُها إرضاعاً وبين الذي يزقُّها زَقّاً وبين ما يحضن وما لا يحضن ومنها ما أخرجها من أرحام البَيض وأرحام البطون كاسيةً ومها ما أخرجها كاسيةً كاسِبة وأمتَعَها وألذَّها وجعلها نِعمةً على عباده وامتحاناً لشكرهم وزيادةً في معرفتهم وجِلاءً لما يتراكم من الجهل على قلوبهم فليس لهذا الكتاب ضدٌّ من جميع مَن يشهد الشهادة ويصلِّي إلى القبلة ويأكل الذَّبيحة ولا ضدٌّ من جميع الملحدين ممَّن لا يقرُّ بالبعث وينتحل الشرائع وإن ألْحَدَ في ذلك وزاد ونقص إلا الدَّهريَّ فإن الذي ينفي الربوبيَّة ويُحيل الأمرَ والنَّهيَ ويُنكر جواز الرِّسالة ويجعل الطِّينة قديمة ويَجحد الثوابَ والعِقاب ولا يعرف الحلالَ والحرام ولا يقرُّ بأن في جميع العالَم برهاناً يدلّ عَلى صانعٍ ومصنوع وخالق ومخلوق ويجعلُ الفلك الذي لا يعرف نفسه من غيره ولا يفصل بين الحديث والقديم وبين المحسن والمسيء ولا يستطيع الزيادةَ في حركته ولا النُّقصانَ مِن دورانه
ولا مُعاقبةً
للسُّكون بالحرَكة ولا الوقوفَ طرْفَةَ عين ولا الانحرافَ عن الجهة هو الذي
يكون به جميع الإبرام والنَّقض ودقيقُ الأمور وجليلها وهذه الحِكم العجيبة
والتدابير المتْقنة والتأليف البديع والتَّركيب الحكيم على حسابٍ معلوم
ونسَق معروف على غايةٍ من دقائق الحكمة وإحكام الصَّنعة .
ولا ينبغي
لهذا الدهريِّ أيضاً أن يعرِض لكتابنا هذا وإن دلَّ على خلافِ مذهبه ودعا
إلى خِلافِ اعتقاده لأن الدَّهريّ ليس يرى أنَّ في الأرض ديناً أو نِحلةً
أو شريعة أو مِلة ولا يرى للحلال حُرْمَةً ولا يعرفه ولا للحرام نهايةً ولا
يعرفه ولا يتوقَّع العقابَ على الإساءة ولا يترجّى الثواب على الإحسان
وإنما الصواب عنده والحقُّ في حُكْمه أنه والبهيمةَ سِيّانِ وأنه
والسَّبُعَ سِيّان ليس القبيحُ عنده إلاّ ما خالف هواه وليس الحسَن عنده
إلاّ ما وافق هواه وأن مدار الأمر على الإخفاق والدّرَك وعلى اللذّة والألم
وإنما الصواب فيما نال من المنفعة وإن قتلَ ألفَ إنسانٍ صالحٍ لِمَنالةِ
درهم رديء فهذا الدهريّ لا يخاف إن ترك
الطّعْن على جميع الكتب عقاباً ولا لائِمة ولا عذاباً دائِماً ولا منقطعاً ولا يرجو إنْ ذمّها ونَصَب لها ثواباً في عاجل ولا آجل .
فالواجبُ أن يسلم هذا الكتابُ على جميع البريَّة إذا كان موضِعُه على هذه الصِّفة ومُجراه إلى )
هذه الغاية واللّه تعالى الكافي الموفِّق بلطفه وتأييده إنه سميع قريب فعال لما يريد .
ثم رجع بنا القولُ إلى الإخبار عن الحيوان بأيِّ شيء تفاضلتْ وبأيِّ شيء
خُصَّت وبماذا أبينتْ وقد عَرَفنا ما أُعطيت في الشَّمِّ والاستِرْواح قال
الرَّاجز وذكر الذئب : ( يستخبِرُ الرِّيحَ إذا لم يسمَع ** بمِثل
مِقْرَاعِ الصَّفا الموقَّعِ ) وقد عرفنا كيف شمُّ السّنانيرِ والسِّباع
والذئاب وأعجبُ من ذلك وِجدانُ الذَّرّة لرائِحة شيءٍ لو وضعْتَه على أنفك
لَمَا وجدْتَ له رائِحةً كرجل جرادةٍ يابسة منبوذةٍ كيف تجدُ رائحتها من
جوف جُحرها حتى تخرج إليها فإذا تكلّفَتْ حملَها فأعجَزْتَها كيف تستدعي
إليها سائر الذَّرّ وتستعينُ بكلِّ ما كان منها في الجُحر .
ونحوِ شمِّ الفَرَس رائحةَ الحِجْر
من مَسيرة ميل والفرس يسير قُدُماً والحِجر خلفه بذلك المقدار من غير
تلفُّتٍ ولا معايَنةٍ من جهة من الجهات وهذا كثيرٌ وقد ذكرناه في غير هذا
الموضع فأمّا السَّمع فدعنا من قوْلهم : أسمعُ من فَرس : أسمع من فرْخ
العقاب وأسمع من كذا وأسمع من كذا ولكنّا نقصد إلى الصّغير الحقير في اسمه
وخطَره والقليلِ في جسمه وفي قَدْره .
وتقول العرب : أسمع من قُراد
ويستدلون بالقِردان التي تكون حَوْل الماء والبئر فإذا كان ليلة ورود
القَرَب وقد بعث القومُ من يصلح لإبلهم الأرشِيةَ وأداةَ السقي وباتت
الرجال عند الماء تنتظر مجيء الإبل فإنها تعرف قربَها منهم في جوف الليل
بانتفاش القِرْدان وسرعة حركتها وخشخشتها ومرورها نحو الرعاء وزجر الرعاء
ووقْع الأخفاف على الأرض من غير أن يُحسّ أولئك الرجالُ حسّاً أو يشعروا
بشيء من أمرها فإذا استدلوا بذلك من القردان نهضوا فتلبَّبوا واتزرُوا
وتهيؤوا للعمل .
فأمّا إدراك البصر فقد قالوا : أبصر من غراب وأبصر من فرس وأبصر من هدهد وأبصر من عقاب .
والسَّنانير والفأرُ والجِرذان والسِّباع تُبصر بالليل كما تبصر بالنهار
فأمّا الطُّعم فيظنّ أنها بفرط الشَّرَه والشّهوة وبفرط الاستمراء وبفرط
الحِرص والنَّهم أن لذتها تكون عَلى قَدْر شَرهها وشهوتها تكون على قدر ما
ترَى من حركتها وظاهر حرصها . ونحن قد نرى الحمار إذا عاين الأتان والفرس
إذا عاينَ الحِجْر والرمكة والبغلَ والبغلةَ والتيسَ والعنز فنظن أن اللذة
على قدر الشهوة والشهوة على قدر الحركة وأن الصِّياحَ على قدر غلبة الإرادة
. ونجد الرجال إذا )
اعتراهم ذلك لا يكونون كذلك إلاّ في الوقت الذي هم فيه أشدَّ غُلْمة وأفْرَط شهوة .
فإن قال قائل : إن الإنسان يغشى النِّساء في كلِّ حالٍ من الفصلين والصَّميمين وإنما هَيْجُ السِّباع
( سقط : بيت الشعر ) ( ثم يسكن هيج التيس والجمل ** فالإنسان المدلوم أحسن
مالا ) قلنا : إنّا لم نَكن في ذكر المخايَرة بين نصيب الإنسان في ذلك
مجموعاً ومفرَّقاً وبين نصيب كلِّ جنسٍ من هذه الأجناس مجموعاً ومفرَّقاً
وإنما ذكرنا نفس المخالطة فقط وما يدريكم أيضاً لعلها أَنْ تَسْتَوْفيَ في
هذه الأيَّام اليسيرة أضعافَ ما يأتِي الإنسان في تلك الأيَّام الكثيرة .
وعلى أنَّا قد نرى ممّا يعتري الحمارَ والفرسَ والبغلَ وضروباً كثيرة إذا
عاينوا الإناث في غير أيام الهيج وهاهنا أصنافٌ تُديم ذلك كما يُدِيمه
الإنسان مثل الحمام والدِّيَكَةِ وغير ذلك .
وقد علمنا أنّ
السَّنانيرَ وأشباهَ السنانير لها وقتُ هيجٍ ولكنَّ ذلك يكون مراراً في
السّنة على أشدَّ مِن هَيج الإنسان فليس الأمر على ما يظنّون .
فإن
كان الإنسانُ موضعُ ذهنهِ من قلبه أو دماغه يكونُ أدقّ وأرقَّ وأنفَذَ
وأبصر فإنّ حواسَّ هذه الأشكال أدقّ وأرقّ وأبْصر وأنفذ وإن كان الإنسانُ
يبلغُ بالروِيّة والتصفُّح والتحصيل والتمثيل ما لا يبلغه شيءٌ من السِّباع
والبهائم فإنّ لها أموراً تدركها وصنعةً تحذِقها تبلغُ منها بالطبائع
سهواً وهويّاً ما لا يبلغ الإنسان في ما هو بسبيله إلا أن يُكرِه نفسَه على
التفكير وعلى إدامة التنقير والتكشيف والمقاييس فهو يستثقله .
ولكلِّ شيءٍ ضربٌ من الفضيلة وشكلٌ من الأمور المحمودة لينفيَ تعالى وعز
عن الإنسانِ العُجْب ويقبِّح عنده البَطر ويعرِّفه أقدار القَسْم .
وسنذكر من فطن البهائم وأحساس الوَحْش وضروب الطير أموراً تعرفون بها
كثْرَةَ ما أودعها اللّه تعالى من المعارف وسخَّر لها من الصنعة ثم لا نذكر
من ذلك في هذا الموضع إلاّ كلَّ طائر منسوبٍ إلى الموق وإلاّ كلَّ بهيمةٍ
معروفةٍ بالغثاثة بعِدّةِ ما فيه أشْكالُها من المعرفة والفطنة ولو أردنا
الأجناسَ المعروفةَ بالمعارف الكثيرةِ والأحساسِ اللَّطيفة لذكرنا الفيلَ
والبعير والذَّرة والنملة والذئب والثعلب والغرنوق والنحلة والعنكبوت
والحمامَ والكلب وسنذكر عَلى اسم اللّه تعالى بعضَ ما في البهائم والسِّباع
والطير من المعرفة ثم نخصُّ في هذا الكتابِ المنسوباتِ إلى المُوق
والمعروفاتِ بالغباوةِ وقِلة المعرفة كالرَّخمة والزنبور والرُّبَعِ من
أولاد الإبل والنَّسر من عظام الطير .
وقال المفضَّل الضبيّ : قلت
لمحمد بن سهل راوية الكميت : ما معنى قول الكميت في الرَّخمة : ) ( وذاتِ
اسْمَيْنِ والألوانُ شَتَّى ** تُحَمَّقُ وهْيَ كيِّسة الحَويل ) ( لها
خِبٌّ تلوذُ به وليست ** بضائعة الجَنين ولا مَذُولِ )
قال : كأَنّ
معناه عندي حفظُ فراخها أو موضع بيضها وطلب طعمها واختيارها من المساكن ما
لا يَطُوره سبع طائر ولا ذو أربع قال : فقلتُ : فأيُّ كيس عند الرّخمة إلاّ
ما ذكرت ونحن لا نعرف طائراً ألأم لؤماً ولا أقذَر طُعْمةً وَلا أظهر
مُوقاً منها حتى صارت في ذلك مثلاً فقال محمد بن سهل : وما حمقُها وهي تحضن
بيضها وتحمي فِراخها وتحبُّ ولدها ولا تمكِّنُ إلاَّ زوجها وتقطع في أوَّل
القواطع وترجِع في أوَّل الرواجع ولا تَطير في التحسير ولا تغترُّ بالشكير
ولا تُرِبُّ بالوكور ولا تسقط على الجَفير .
أمّا قوله : تقطع في أول
القواطعِ وترجع في أوّل الرواجع فإنَّ الرُّماة وأصحابَ الحبائلِ
والقُنَّاصَ إنما يطلبون الطير بعد أن يعلموا أنَّ القواطع قد قَطَعَتْ
فبِقطع الرّخمة يستدلُّون فلا بدَّ للرَّخَمَةِ مِنْ أن تنجوَ سالمةً إذا
كانت أوَّلَ طالعٍ عليهم .
وأمَّا قوله : ولا تُرِبُّ بالوُكور فإنّه
يقول : الوكر لا يكون إلا في عُرْض الجبل وهي لا تَرضى إلا بأعالي الهضاب
ثم مواضعِ الصّدوع وخِلالِ الصخور وحيث يمتنعُ على جميع الخلقِ المصيرُ إلى
فراخها ولذلك قال الكميت :
( ولا تجعلوني في رَجائيَ وُدَّكم ** كراجٍ على بيضِ الأنوق احتبالَها ) والأنوقُ هي الرّخمة وقال ابن نوفل : ( وأنتَ كساقطٍ بينَ الحشايا ** يَصِيرُ إلى الخبيثِ مِن المَصِيرِ ) ( ومثلُ نَعامةٍ تُدْعَى بعيراً ** تعاظُمِها إذا ما قيل طِيرِي ) ( وإن قيل احملي قالت فإنِّي ** من الطّير المُرِبَّة في الوكورِ ) وأما قوله : ولا تطير في التَّحسير ولا تغترُّ بالشّكير فإنها تدعُ الطيرانَ أيام التحسير فإذا نبت الشّكير وهو أول ما ينبت من الريش فإنها لا تَنهض حتى يصير الشكير قَصَباً وأمَّا قوله : ولا تسقط عَلَى الجَفِير فإنما يعني جعبة السِّهام يقول : إذا رأته علمت أنّ هناك سهماً فهي لا تسقط في موضع تخاف فيه وقع السِّهام .
اتباع الرخم والنسور والعقبان للجيوش
والرَّخم والنّسور والعِقبان تتبع الجيوشَ لتوقع القتال وما يكون لها من الجيف وتتبع أيضا الجيوشَ والحُجَّاج لما يسقط من كَسير الدَّواب وتتبعها أيضاً في الأزمنة التي تكون فيها الأنعام والحُجور حواملَ لِمَا تؤمِّل من الإجهاض والإخداج قال النابغة : ( وَثِقْتٌ له بالنَّصْرِ إذْ قِيلَ قد غَدَتْ ** كتائبُ من غَسّان غير أَشائِبِ ) ( بنو عمِّه دُنْيا وعمرُو بن عامر ** أولئك قومٌ بأسهُم غير كاذبِ ) ( إذا ما غَزَوْا بالجيش حَلَّقَ فوقهمْ ** عصائب طيرٍ تَهتدي بعصائب ) ( جوانح قد أيقنَّ أنّ قبيله ** إذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالبِ ) ( تراهُنّ خَلْفَ القَوْمِ خُزْراً عيونُها ** جُلوس شيوخٍ في مُسوك الأرانبِ ) ( إذا ما غزا يوماً رأيتَ عِصابةً ** من الطّير ينظُرْنَ الذي هو صانِعُ ) وقال آخر : ( يكسُو السيوفَ نفوس
النَّاكثين به ** ويجعل الرُّوسَ تِيجَانَ القَنا الذبُلِ ) ( قد عَوَّدَ
الطَّيْرَ عاداتٍ وَثِقن بها ** فهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كلِّ مُرْتَحَل )
فقال الكميت كما ترى : تحمّق وهي كيِّسةُ الحَوِيلِ فزعم أن النَّاس
يحمقونها وهي كيِّسة .
قول بعض الأعراب وقال بعضُ أصحابنا : قيل
لأعرابيٍّ : أتحسن أنْ تأكلُ الرَّأْسَ قال : نعم قيل : وكيف تصنع به قال :
أبخصُ عينيه وأَسْحَى خدَّيه وأعفص أذنيه وأَفكُّ لَحيَيْه وأرْمي بالمخِّ
إلى مَنْ هُو أحوجُ منِّي إليه قيل له : إنك لأحمق من رُبَع قال : وما حمق
الرُّبَع واللّه إنه لَيَجْتَنبُ العُدَاوَء ويتبع أمّه في المرعى
ويُرَاوِحُ بين الأطْباء ويعلم أن حَنينها رُغاء فأين حمقُهُ .
قتل المكاء للثعبان
وحدث ابنُ الأعرابيِّ عن هشام بن سالم وكان هشام من رهْط ذي الرُّمّة قال : أكلتْ حَيّة بيضَ مُكَّاء فجعل المُكَّاءُ يشرشِر على رأسها ويدنُو منها حتى إذا فتحت فاها تريده وهمَّتْ به ألقى فيه حَسَكة فلم يزل يُلقي فيه حسكةً بعد حسكة فأخذَتْ بحلقها حتى ماتت .وأنشد ابن الأعرابيِّ عند هذا الحديث قولَ الشاعر : ( كأنَّ لكلّ عند كُلّ سخيمةً ** يُرِيد بتخْرِيق الأدِيم استلالَهَا ) وأنشد أبو عمرو الشيباني بيت شعر وهو هذا المعنى بعينه وهو قول الأسدِيِّ الدُّبيريّ : ( إنْ كنتَ أبصَرْتني فذّاً ومُصْطَلَماً ** فرُبَّما قَتَلَ المُكَّاءُ ثُعبانا ) يقول : قد يظفر القليل بالكثير والقليلُ الأعوانِ بالكثير الأعوان والمُكَّاء من أصغر الطير وأضعَفِه وقد احتال للثُّعبان حتّى قتله .
قول جالينوس في معرفة أنثى الطير
وقال جالينوس في الإخبار عن معارف البهائم والطير وفي التعجُّب من ذلك وتعجب الناس منه : قولوا لي : مَن عَلَّمَ النسرَ الأنثى إذَا خافت على بيضها وفراخها الخفافيش أن تفرِش ذلك الوَكْر بورق الدُّلْب حَتى لا تقربه الخفافيش وهذا أعجب والأطباء والعلماء لا يتدافعونهحزم فرخ العقاب
وقال ابن الأعرابيّ وأبو الحسن المدائني : قال رجلٌ من الأعراب : كان سنان بن أبي حارثة أحزَم من فرخ العقاب وذلك أنَّ جوارح الطير تتخذ أوكارها في عُرْض الجبال فربّما كان الجبلُ عموداً فلو تحرَّك الفرخ إذا طلب الطعم وقد أقبل إليه أبواه أو أحدهما وزادَ في حركته شيئاً من موضع مَجثِمه لَهوَى من رأس الجبل إلى الحضيض وهو يعرف مع صِغره وضُعفه وقلّة تجربته أنّ الصواب في ترك الحركة .
اختلاف عادات صغار الحيوان
ولو وُضِع في أوكار الوحشيَّاتِ فرخٌ من فراخ الأهليَّات لتهافتن تهافُتاً كفراخ القطا والحجَل والقَبج والدُّرَّاج والدَّجاج لأنَّ هذه تَدْرُجُ على البَسيط وذلك لها عادة وفراخ الوحشيّة لا تجاوز الأوكار لأنها تعرِف وتعلم أنّ الهلكةَ في المجاوزة وأولادُ الملاّحين الذين وُلدوا في السفن الكبار والمنشآت العظام لا يخاف الآباءُ والأمَّهات عليهم إذا درجوا ومَشوا أنْ يقعوا في الماء ولو أن أولاد سُكان القصور والدّور صاروا مكان أولادِ أرباب السفن لتَهافتوا ولكلِّ شيء قَدْر وله موضعٌ وزمانٌ وجهةٌ وعادةٌ .وأبَوَا فَرخ الخطّاف يعلِّمانه الطيران تعليماً .
الختان عند اليهود والمسلمين والنصارى
وزعم ناسٌ من أطبَّاء النصارى وهم أعداءُ اليهود أن اليهود يختِنون أولادَهم في اليوم الثّامن وأن ذلك يَقَع ويوافِق أَنْ يكونفي الصَّميمين كما يوافق الفصلين وأنّهم لم يرَوْا قَطّ يهوديّاً أصابه مكروه من قِبَل الخِتان وأنهم قد رأَوْا من أولاد المسلمين والنصارى ما لا يُحصى مِمَّنْ لقي المكروهَ في ختانه إذا كان ذلك في الصَّميمين من ريح الحمرة ومن قطع طَرَف الكمرة ومن أن تكون المُوسَى حديثةَ العَهْد بالإحداد وسَقْي الماء فتشيط عند ذلك الكَمرة ويعتريها بَرَص والصبيّ ابن ثمانية أيام أعسرُ ختاناً من الغُلام الذي قد شَبَّ وشدن وقَويَ إلاّ أَنَّ ذلك البرصَ لا يتَفشى ولا يعدو مكانَه وهو في ذلك كنحو البرص الذي يكون من الكيِّ وإحراق النار فإنهما يفحشان ولا يتسعان .
ختان أولاد السفلة وأولاد الملوك وأشباههم
ويختن من أولاد السِّفْلة والفقراء الجماعة الكثيرة فيؤمَن عليهم خطأُ الخاتن وذلك غير مأمونٍ )على أولاد الملوك وأشباهِ الملوك لفِرط الاجتهاد وشدّة الاحتياط ومع ذلك يَزْمَعُ ومع الزَّمَع
والرعدة يقع الخطأ ، وعلى قدر رعدة اليد ينال القلب من الاضطراب على حسب ذلك . حسن التدبير في الختان وليس من التدبير أن يحضُر الصبيّ والخاتنَ إلاّ سفلة الخدم ولا يحضره من يهاب .
قدم ختان العرب
وهذا الختان في العرب في النِّساء والرجال من لدُنْ إبراهيم وهاجر إلى يومنا هذا ثم لم يُولَد صبيٌّ مختونٌ قط أو في صورةِ مختون .ختان الأنبياء
وناسٌ يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم وُلِدَا مختونين والسَّبيلُ في مثل هذا الرُّجوعُ إلى الرواية الصحيحة والأثر القائم .أثر الختان في اللذة
قال : والبظراء تجد من اللذة ما لا تجدُه المختونة فإنْ كانت مُستأصَلةً مستوعَبةً كان على قدر ذلك وأصل ختان النساء لم يُحاوَلْ به الحسنُ دونَ التماس نُقصان الشهوة فيكون العفاف عليهنَّ مقصوراً .قال :
ولذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلم للخاتنة : يا أم عطيَّة أشمِّيه ولا
تَنْهَكِيه فإنه أسْرَى للوَجْه وأحظَى عند البعل كأنه أراد صلى الله عليه
وسلم أن ينقُص من شهوتها بقدر ما يردّها إلى الاعتدال فإِن شهوتها إذا
قلَّتْ ذهبَ التمتُّع ونقَصَ حُبُّ الأزواج وحبُّ الزَّوج قَيْدٌ دون
الفجور والمرأة لا تكونُ في حالٍ من حالات الجماع أشدَّ شهوةً منها للكَوْم
الذي لقحت منه .
وقد كان رجلٌ من كبار الأشراف عندنا يقول للخاتنة : لا تقرضي إلاّ ما يظهر فقط .
أثر الختان في العفاف والفجور
وزعم جَناب بن الخَشخاش القاضي أنه أحصى في قرية واحدة النساءَ المختونات والمُعْبرَات فوجد أكثر العفائفِ مستوعَبات وأكثر الفواجر مُعْبَرَات .وأن نساء الهند والروم وفارس إنما صار الزنا وطلب
الرِّجال فيهنَّ أعم لأنَّ شهوتهنَّ للرجال أكثر ولذلك اتخذ الهند دوراً
للزَّواني قالوا : وليس لذلك علّة إلاّ وفارةَ البظْر والقُلْفة .
والهند توافِق العربَ في كلِّ شيء إلاّ في ختانِ النِّساء والرجال ودعاهم
إلى ذلك تعمُّقهم في توفير حظ الباه قالوا : ولذلك اتخذوا الأدوية وكتبوا
في صناعة الباه كتباً ودَرَسُوها الأولاد )
السحق قالوا : ومن أكبر ما
يدعو النساء إلى السحق أنهنَّ إذا ألصقن موضع مَحَزِّ الخِتان وجَدْنَ
هناك لذَّةً عجيبة وكلما كان ذلك منها أوفَرَ كان السَّحقُ ألذّ قال :
ولذلك صار حُذّاق الرِّجالِ يضعون أطراف الكمر ويعتمدون بها على محزِّ
الختان لأنَّ هناك مجتمع الشهوة . ( ظمأ الأيِّل إذا أكل الحيات ) ومن
هذا الباب الذي ذكرنا فيه صِدقَ إحساس الحيوان ثم اللاتي يضاف منها إلى
المُوق وينسب إلى الغثارة قال داود النبي عليه السلام في الزبور : شوقي إلى
المسيح مثل الأيِّل إذا أكل الحيَّات
والأيِّل إذا أكل الحيَّات
فاعتراه العطش الشديد تراه كيف يدور حَول الماء ويحجزه من الشرب منه علمُه
بأنَّ ذلك عطبُه لأن السموم حينئذٍ تجري مع هذا الماء وتدخل مداخل لم يكن
ليبلغها الطَّعامُ بِنفسه وليس علم الأيِّل بهذا كان عن تجربةٍ متقدمة بل
هذا يوجد في أوّل ما يأكل الحيّاتِ وفي آخِره .
تعلُّق رؤوس الحيات في
بدن الأيِّل وربما اصطيد الأيِّل فيجد القُنَّاصُ رؤوس الأفاعي وسائرِ
الحياتِ ناشبةَ الأسنان في عنقه وجلد وجهه لأنه يريدُ أكلها فرّبما بدرته
الأفعى والأسود وغيرهما من الحيات فتعضُّه وهو يأكلها ويأكل ما ينال منها
ويفوته ما تعلق به منها بالعضِّ فتبقى الرُّؤوس مع الأعناق معلَّقةً عليه
إلى أن
نصول قرن الوعل
قالوا : وليس شيءٌ من ذوات القرون ينصل قرنه في كلِّ عام إلا الوعل فإذا علم أنَّه غير ذي قرن وأنه عديم السلاح لم يظهر من مخافة السباع فإذا طال مُكثُه في موضعه سمن فإذا سمن علم أن حركته تفقدوتبطئ فزاد ذلك في استخفائه وقلَّة تعرُّضه واحتالَ بألاَّ يكون أبداً على علاوة الريح فإذا نجم قرنه لم يجد بُدّاً من أن يمظِّعه ويعرِّضه للشمس والريح حتى إذا أيقن أنه قد اشتد أكثر المجيء والذهاب التماساً أن يذهب شحمه ويشتد لحمه وعند ذلك يحتال في البعد من السِّباع حتى إذا أمكنه استعمال قرنيه في النزال والاعتماد عليهما والوثوب من جهتهما رجَع إلى حاله من مراعيه وعاداته ولذلك قال عصام بن زفر : ( تَرجو الثَّوَاب من صبيح يا حَمَلْ ** قد مصَّه الدهر فما فيه بَلَلْ ) ( إن صبيحاً ظاعِنٌ فمحتَمِلْ ** فلائذٌ منك بشِعبٍ من جَبَلْ ) كما يلوذ من أعاديه الوَعِلْ فضرب به المثل كما ترى في الاحتيال والهربِ من أعدائه : وقال الراجز : ( لما رأيتُ البرقَ قد تبسَّما ** وأخرج القَطْرُ القَرُوعَ الأعصَما )
بيوت الزنابير
وقال ابن الكلبي : قال الشرقي بن القطامي ذات يوم : أرأيتم لو فكَّر رجل منكم عُمرَه الأطولَ في أن يتعرَّف الشيء الذي تتَّخذ الزنابيرَ بيوتها المخرَّقة بمثل المجاوب المستوية في الأقدار المتحاجزة بالحيطان السخيفة في المنظر الخفيفة في المحمل
المستديرة المضمر بعضها ببعض المتقاربة الأجزاء وهي البيوت التي تعلم أنها
بُنيت من جوهرٍ واحد وكأنها من ورق أطباق صِغار الكاغد المزرّرة قولوا لي :
كيف جمعتْه ومن أي شيءٍ أخذته وهو لا يشبه البناء ولا النَّسجَ ولا
الخياطة .
ولم يفسر ابن الكلبيّ والشرقيُّ في ذلك شيئاً فلم يصِرْ في
أيدينا منهما إلا التعجُّب والتعجيب فسألت بعد ذلك مشايخ الأكرَة فزعموا
أنها تلتقطه من زَبَد المُدود فلا يدرى أمِن نَفْس الزَّبَدِ تأخذ أم مِن
شيءٍ يكون في الزَّبَد .
والذي عرَّف الزنابير مواضع تلك الأجزاء
ودلها على ذلك الجوهر هو الذي علَّم العنكبوتَ ذلك النسج وقد قال الشاعر : (
كأنَّ قفا هارون إذ يَعْتَلونَهُ ** قفا عَنْكبُوتٍ سُلَّ من دُبْرِها
غَزْلُ ) وأما دودة القزّ فلا نشك أنها تخرجه من جوفها .
معرفة الحقنة من الطير
وتزعم الأطباء أنهم استفادوا معرفة الحُقنة من قِبل الطائر الذي إذا أصابه الحُصْر أتى البحرَ فأَخَذَ بمنقاره من الماء المالح ثم استدخَلَه فمجَّه في جوفه وأمكنَه ذلك بطول العنق والمِنقار فإذا فعل ذلك ذَرَق فاستراحَ .
ما يتعالج به الحيوان
والقنفذ وابن عِرسٍ إذا ناهشا الأفاعيَ والحيَّاتِ الكبارَ تعالَجَا بأكل الصَّعتر البرّيّ .والعقاب إذا اشتكت كبدَها مِن رَفْعها الأرنَبَ والثعلبَ في الهواء وحَطِّها لهما مِرَاراً فإنها لا تأكل إلاّ من الأكباد حتى تبرأَ من وجَع كبدها .
رغبة الثعلب في القنفذ
قال : وسألتُ القُنّاصَ : ما رغبة الثعلب في أكل القنفذ وإن كان حشو إهابه شحماً سميناً وفي ظاهر جلده شوك صلابٌ حدادٌ متقاربٌ كتقارُب الشعر في الجسد فزعموا أنَّ الثعلبَ إذا أصابه قلبَه لظهره ثم بال على بطْنه فيما بين مغرِز عَجْبه إلى فكَّيه فإذا أصابه ذلك البولُ اعتراه الأسَنُ فأسبَطَ وتمدَّد فينقر عن بطنه فمن تلك الجهة يأكل جميعَ بدنه ومسلوخِه الذي يشتمل عليه جلدهُ .صيد الظربان للضب
وقالوا : وبشبيهٍ بهذه العلّة يصيد الظّرِبانُ الضبّ في جوف جُحْره حتى يغتصبه نفسَه وذلك أنّه يعلم أنّه أنتن خلق اللّه قَسوة فإذا دخل عليه
جُحره سَدَّ خَصاصَه وفروجَه ببدنه وهو في ذلك مستدبِرٌ له فلا يفسو عليه
ثلاثَ فَسَوَاتِ حتى يُعْطِيَ بيده فيأكله كيفَ شاءَ .
قالوا : وربّما
فسا وهو بقرْب الهَجْمة وهي باركةٌ فتتفرَّق في الصحراء فلا يجمعُها
راعِيها إلاّ بجهد شديد ولذلك قال الشاعر : ( لا تمنحوا صقراً فما لمنيحةٍ
** أتت آلَ صقرٍ من ثوابٍ ولا شُكْرِ ) ( فما ظَرِبانٌ يُؤْبِسُ الضبَّ
فَسْوُهُ ** بِألأَمَ لؤماً قد علمناه مِن صقْرِ ) ولذلك قال الراجز وهو
يذكر تكسُّب الظربان بفسوه لِطُعْمِهِ وقوته كما يتكسَّب الناس بالصِّناعات
والتِّجارات فقال : ( باتا يُحكَّان عراصِيفَ القَتَبْ ** مستمسِكَيْنِ
بالبِطانِ وَالحقَب ) ( لا ينفع الصاحبَ إلاّ أن يَسُبّ ** كالظَّرِبان
بالفُسَاءِ يكتسِبْ )
ما قيل في بلاهة الحمام
قال ابن الأعرابيّ : قلت لشيخ من قريش : مَن علّمك هذا وإنما يُحسِن من هذا أصحابُ التجارات والتكسُّب وأنتَ رجلٌ مكفيٌّ مودّع قال : علّمني الذي علم الحمامةَ على بَلَهها تقليبَ بيضها كي تعطي الوجهين جميعاً نصيبَهما من الحَضْن ولخوف طباع الأرض إذا دام على الشِّقِّ الواحد .والحمام أبله ولذلك كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقولون : كونوا بُلْهاً كالحمام ألا ترى أنّ الحمام في الوجه الذي ألهمه اللّه مصالح ما يُعيشه ويُصْلِح به شأنَ ذَرْئه ونسله ليس بدونِ الإنسان في ذرئه ونسله مع ما خُوِّل من المنطق وأُلهم من العقل وأُعطي من التّصريف في الوجوه
حيلة الفأرة للعقرب
وإذا جَمَعَ بعضُ أهل العَبث وبعضُ أهل التَّجرِبة بين العقرب وبين الفأرة في إناءِ زجاج فليس عندَ الفأرة حيلةٌ أبلغُ من قرض إبرة العقرب فإمّا أنْ تموتَ من ساعتها وإمَّا أنْ تتعجل السَّلامةَعلم الذرة
قال : ومَن علَّم الذّرَّة أن تفلق الحبَّةَ فتأكل موضع القِطمير لئلاّ
تنبتَ فتفسُد فإذا كانت الحبَّة من حبّ الكزْبُرة ففلقتها أنصافاً لم ترض
حتى تفلِقها أرباعاً لأن الكُزبُرة من بين جَميع الحبّ تنبُت وإنْ كانت
أنصافاً وهذا عِلْمٌ غامضٌ .
إذَا عرَفه الشّيخُ الفلاّح المجرِّب والفاشكار الرئيس والأكَّار الحاذِق فقد بلغوا النهاية في الرِّياسة .
معرفة الدب
ّ ) وقال جالينوس : ومن علّم الدبّ الأنثى إذا وضعت ولدَها أنْ ترفعَه في الهواء أياماً تهرُب به من الذَّرِّ والنمل لأنها تضعه كفِدْرة من لحمٍ غيرَ متميِّز الجوارح فهي تخاف عليه الذَّرَّ وذلك له حتفٌ فلا تزالُ رافعةً له وراصدة ومُتفَقِّدَةً وَمُحَوِّلةً له من موضع إلى موضع حتى يشتد وتنْفرج أعضاؤُه .شعر لبشار وقال بشَّار الأعمى : ( وكلُّ قسمٍ فللعقبان أكثَرُهُ ** والحظُّ شيءٌ عليه الدهر مقصورُ )
أمنِيَّة بشر أخي بشار وقال بشر أخو بشّار وكانوا ثلاثةً واحد حنفيّ وواحد
سدوسيّ وبشَّار عُقيليّ وإنما نزل في بني سدوس لسبب أخيه وقد كان قيل
لأخيه : لو خيَّرك اللّه أنْ تكون شيئاً من الحيوان أيَّ شيءٍ كنتَ تتمنى
أن تكون قال : عُقاب قيل : ولِمَ تمنّيت ذلك قال : لأنَّها تَبيتُ حيثُ لا
ينالها سَبُعٌ ذو أربعِ وتَحِيدُ عنها سباعُ الطَّير .
وهي لا تعاني
الصَّيد إلاّ في الفَرْط ولكنّها تسلُب كلّ صَيُودٍ صَيْدَه وإذا جامع
صاحبُ الصقر وصاحبُ الشّاهين وصاحبُ البازي صاحبَ العقاب لم يرسلوا أطيارهم
خوفاً من العُقاب وهي طويلة العمر عاقَّة بولدها وهي لا تحمِل على نفسها
في الكَسْبِ وهي إنْ )
شاءتْ كانت فوقَ كلِّ شيءٍ وإن شاءتْ كانت
بقُرْبِ كلِّ شيء وتتغدّى بالعِراق وتتعشَّى باليمن وريشُها الذي عليها هو
فَروُها في الشتاء وخَيْشُها في الصَّيف وهي أبصرُ خلق اللّه .
هذا قولُ صاحب المنطق في عُقوق العقاب وجفائها بأولادها فأمَّا أشعار العرب فهي تدلُّ على خلاف ذلك قال دريد بن الصِّمَّة :
( وكلُّ لَجُوجٍ في العِنانِ كأَنَّها ** إذا اغتمست في الماءِ فَتْخَاءُ كاسِرُ )
المحمق من الحيوان
والحيوان المحمّق الرّخَمة والحُبارَى قال عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه : كلُّ شيءٍ يحبُّ ولدَه حتّى الحبارى .وأنثى الذئاب وهي التي تسمَّى جَهِيزة والضبع والنَّعجة والعنز هذه من الموصوفات بالمُوق جدّاً .
قال : ومن الحيوان ما ليس عنده إلا الجمالُ والحسن كالطاوس وهو من الطير المحمَّق وكذلك التُّدْرُجُ مع جماله وحُسنه وعجيب وَشْيه والزرافةُ وهي أيضاً موصوفة بالمُوق وليس عندها إلا طَرَافة الصُّورة
وغرابة النِّتاج وهي من الخَلْق العجيب مَواضِعِ الأعضاء ويتنازعها أشباهٌ كثيرة .
والفيل عجيب ظريف ولكنه قَبيحٌ مَسيخ وهو في ذلك بهيٌّ نبيلٌ والعين لا
تكرهه والخنزير قبيح مَسيخ والعين تكرهه والقرد قَبيحٌ مليح .
وعند
البَبْغاء والمُكَّاء والعندليب وابن تَمْرة مع صغر أجْرامها ولَطافة
شُخوصها وضَعْف أسْرِها من المعرفة والكَيس والفِطنة والخُبث ما ليسَ عند
الزَّرافة والطاووس والببغاء عجيب
ما قيل في حمق الأجناس المائية وفطنتها
فأما الأجناس المائية من أصناف السَّمك والأجناس التي تُعايش السَّمك فإنَّ جماعتَها موصوفَةٌ بالجَهل والمُوق وقِلَّة المعرفة وليس فيها خُلُقٌ مذكور ولا خَصْلة من خِصال الفِطَن إلا كنحو ما يروى من صَيد الجرِّيِّ للجِرْذَان وحَمْل تلك الدابة للغَرْقى حتى تؤدِّيَهم إلى الساحل .
شدة بدن السمكة والحية والسمكة شديدة البدن وكذلك الحيّة وكلُّ شيء لا
يستعينُ بيدٍ ولا رجلٍ ولا جَناحٍ وإنما يستعمل أجزاءَ بدنه معاً فإنه
يكونُ شديد البدن .
حيلة الشبوط في التخلص من الشبكة
وخبَّرني بعضُ الصيّادين أنَّ الشبوطة تنتهي في النهر إلى الشَّبكة فلا تستطيع النفوذ منها فتعلم أنها لا يُنجيها إلا الوثوب فتتأخّر قدرَ قابِ رُمح ثم تتأخَّر جامعةً لجراميزها حتَّى تثِب فربّما كان ارتفاعُ وثْبتِها في الهواء أكثرَ من عَشْرِ أذرُع وإنما اعتمدَتْ على ما وصفنا وهذا العملُ أكثرُ ما روَوْه من معرفتها وليس لها في المعرفة نصيبٌ مذكور .
ما يغوص من السمك في الطين
وأنواعٌ من السمك يغوص في الطِّين وذلك أنها تَنْخَر وتتنفَّس في جوفه وتلزم أصول النبات إذا لم يرتفع وتلتمس الطُّعم والسِّفاد .ونحن لم نر قَطُّ في بطن دِجلةَ والفراتِ وجميع الأودية والأنهار عند نضوب الماء وانكشاف الأرض وظهور وجه الطين وعند الجزْر والنُّقصان في الماء في مَوَاخِر الصَّيْف وأيَّامِ مجاورة الأهلّة والأنْصاف جُحْراً قَطُّ فضلاً على ما يقولُون أنّ لها في بُطونِ الأنهار بيوتاً . ( جِحَرة الوحش ) ورأيْتُ عجَباً آخرَ وهو أنّي في طولِ ما دخلت البَراريَّ ودخلت البُلدان في صحارى جزيرة العرب والرُّوم والشّام والجزيرة وغير ذلك ما أعلمُ أني رأيتُ على لَقَمِ طريقٍ أو جادةٍ أو شَرَكٍ مُصَاقِبٍ ذلك
أو إذا جانبتُ
الطُّرُق وأمعنْتُ في البَراري وضربت إلى الموْضِع الوحشي جُحراً واحداً
يجوز أن يدخله ضبع أو تيس ظباء أو بعض هذه الأجناس الوحشيّة وما أكثر ما
أرَى الجِحَرةَ ولكني لم أرَ شَى ئاً يتسعُ للثّعلب وابنِ آوى فضلاً على
هذه الوحوش الكِبار مما هو مذكور بالتَّوْلَج والوِجار وبالكِناس والعَرين .
وجُحْر الضبّ يسمَّى عريناً وهو غير العَرين الذي يضاف إلى الشَّجَر .
وأمَّا حفظ الحياةِ والبصَر بالكَسْبِ والاحتراسُ مِن العدوّ والاستعداء بالِحِيَل فكما أعَدَّ الضبُّ واليَربوع .
أوقات اختفاء الفهد والأيل
والفهد إذا سِمنَ عَرَف أنه مطلوب وأنّ حركته قد ثقلت فهو يُخفي نفسَه بجهده حتى ينقضِيَ ذلك الزمان الذي تسمن فيه الفهود ويعلم أنّ رائحة بدنه شهيَّةٌ إلى الأسد والنَّمِر وهو ألطفُ شمّاً لأراييح السباع القويَّة من شمّ السباع للرائحة الشهيّة فهي لا تكاد تكون إلاّ على عُلاوةِ الريح .
والأيِّلُ ينصُل قَرْنَه في كلّ عام فيصير كالأَجمِّ فإذا كان ذلك الزمانُ
استخفَى وهربَ وَكَمن فإذا نبت قرنُه عرَّضَهُ للرِّيح والشَّمْسِ في
الموضع الممتنعِ ولا يظهرُ حتى يَصْلُب قرنه ويَصيرَ سلاحاً يمتنع به
وقرنُه مُصمَتٌ وليس في جوفه تجويفٌ ولا هو مصمتُ الأعْلَى أجوف الأسفل .
معرفة الإبل بما يضرها وما ينفعها
والبعير يدخل الرَّوضة و الغيَضة وفي النبات ما هو غذاءٌ ومنه ما هو سمٌّ عليه خاصة ومنه ما يخرج من الحاليْن جميعاً ومن الغِذاء ما يريده في حالٍ ولا يريده في حالٍ أخرى كالحَمْضِ وَ الخَلَّة ومنه ما يغتذيه غيرُ جِنسِه فهو لا يقرَبُه وإن كان ليس بقاتل ولا مُعْطِب فمن تلك الأجناس ما يَعرفه برؤية العين دون الشمّ ومنها ما لا يَعرفه حتّى يَشمَّه وقد تغلِطُ في البِيش فتأكلُه كصُنْع الحافرِ في الدِّفْلَى .
معرفة الإبل بالزجر
والناقة تعرفُ قولَهم : حَل والجمل يعرف قولهم : جاه قال الراجز وهو
يحمِّق رجلاً هَجاه : ( يقولُ للناقة قَوْلاً للجمَلْ ** يقُولُ جَاهِ
يَثْنِيهِ بِحَلْ )
قدرة الحيوان على رفع اللبن وإرساله
وممَّا فضلت به السِّباعُ على بني آدمَ أنّ اللّه جعَلَ في طِباع إناث السباع والبهائم من الوحشيّة والأهلية رَفْعَ اللَّبن وإرسالَه عند حضور الولد والمرأة لا تقدر أن تدرّ على ولدها وترفَعَ لبنها في صدرها إذا كان ذلك المُقَرَّبُ منها غيرُ ولدِها .والذي أعطى اللّه البهائم من ذلك مثل ما تعرف به المعنى وتتوهَّمه .
اعلم أَنّ اللّه تعالى قد أقدر الإنسانَ على أن يحبس بولَه وغائطه إلى مقدارٍ وأن يخرجهما ما لم تكن هناك عِلَّةٌ من حُصْرٍ وأُسْر وإنما يخرج منه بولُه ورَجِيعه بالإرادة والتوجيه والتهيؤ لذلك وقد جعل اللّه حبْسَه
وإخراجَه وتأخيرَه وتقديمَه على ما فسَّرْنا فعلى هذا الطريق طوْقُ إناثِ السِّباع والبهائم في رفْع اللّبَن .
حشر الحيوان في اليوم الآخر وقد قال اللّه جل ثناؤه : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ
فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ
أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ثُمَّ إلَى
رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فالكلمة في الحشر مطلقة عامّة ومرسلةٌ غيرُ مستثنًى
منها فأوجب في عموم الخبَرِ على الطَّير الحَشْرَ والطير أكثر الخلق
والحديث : إنَّ أكثرَ الخلْقِ الجراد .
ما يطرأ عليه الطيران
ومن العقارب طيَّارة قاتلة وزعم صاحب المنطق أنَّ بالحبشَة حياتٍ لها أجنحةٌ .وأشياءُ كثيرةٌ تطيرُ بعد أن لم تكن طيَّارة مثل الدعاميص والنَّمْلِ والأرَضةِ والجعلانِ .
والجرادُ تنتقل في حالاتٍ قبلَ نبات الأجنحة .
جعفر الطيار قالوا : وحين عظَّم اللّه شأن جعفر بن أبي طالب خلق له جناحين
يطير بهما في الجنّة كأنه تعالى ألحَقَه بشبه الملائكة في بعض الوُجوه .
ما يطير ولا يسمى طيراً وذكر اللّه الملائكةَ فقال : أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ . ولا يقال للملائكة طير ولا يقال إنها من
الطّير رفعاً لأقدارها .
ولا يقال للنمل والدعاميص والجِعلان
والأرَضةِ إذا طارت : من الطَّير كذلك لا يقال للجِرجِس والبَعُوضِ وأجناس
الهمَج إنها من الطير وضعاً لأقدارها عن أقدار ما يسمَّى طَيْراً
فالملائكةُ تطير ولا يسمُّونها طيْراً لرفْع أقدارِها عن الطير والهمج يطير
ولا يسمّى طيْراً لوضع أقدارها عن الطَّير .
ملائكة العرش وفي
الرواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُنْشِدَ قولَ أميّةَ بن أبي
الصَّلْت : ( رَجُلٌ وثورٌ تَحتَ رِجْلِ يَمينِه ** والنَّسرُ للأُخرَى
وليثٌ مُرْصِدُ ) فقال : صدَق وقوله نسر يعني في صورة نسر لأنَّ الملَك لا
يقال له نَسْرٌ ولا صقْرٌ ولا عُقابٌ ولا بازٍ .
ما جاء فيه الأثر من الطير
وذكروا غرابَ نوح وحمامة نوح وهدهد سليمان والنحل والدرّاج وما جاء من الأثر في ذلك الديكِ الذي يكون في السماء .
وقال الناس : غراب نوح وهدهد سليمان وحمامة نوح ورووا في الخطاف والصُّرَد .
أشرف الخيل والطير ولا نعرف شيئاً من الحيوان أشْرَفَ اسماً من الخَيل
والطَّير لأنّهم يقولون : فرس جواد وفرس كريم وفرسٌ وسيم وفرس عَتيق وفرس
رائع .
وقالوا في الطير لذوات المخالب المعقَّفة والمناسر المحدَّبة :
أحرار ومَضْرحِيَّات وعِتاق وكواسب وجوارح وقال لبيدُ بنُ ربيعة : (
فانتضَلْنَا وابنُ سَلْمَى قاعدٌ ** كَعتيقِ الطَّير يُغْضِي ويُجَلّ )
وقال الشّاعر : ( حُرٌّ صَنَعْنَاهُ لتُحْسِنَ كفُّهُ ** عَمَلَ الرفِيقة
واستلابَ الأخْرقِ ) ولولا أنا قد ذكرنا شأن الهدهُد والغراب والنمل وما
ذكرها به القرآن والخصالَ التي فيها من المعارف ومِنَ القَوْلِ والعمَل
لذكرناه في هذا الموضع .
ما جاء في ذكر الطير قال اللّه جلّ ثناؤه :
وَرَسُولاً إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإذْنِ اللّهِ وقال اللّه : وَإذْ
تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفخُ فِيهَا
فَتَكُونُ طَائراً بِإذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ بِإذْنِي
وَإذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإذْنِي وقال : وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلاَ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ
اللّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُم لا يَعْلَمُونَ وقال اللّه : أَمَّا
أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ
فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ وقال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِأَصَْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارةٍ مِن
سِجِّيل وقال اللّه : وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُد وَقَالَ يَا أَيُّها
النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ .
ولم يذكر منطق البهائم والسباع والهمج والحشرات .
وقال اللّه : فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانوا يَنْطِقُونَ لأنك حيثما تجد المنطقَ تجد الرُّوح والعَقل والاستطاعة .
وقالوا : الإنسان هو الحيُّ الناطقُ وقال اللّه : فَأَخْرَجَ لَهُمْ
عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقَالُوا هذا إلهُكمْ وَإله مُوسى وقال :
أفَلاَ يَرَوْنَ أَنْ لاَ يَرْجِعُ إلَيْهمْ قَوْلاً ثم قال : وَحُشِرَ
لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَ الإنْسِ وَالطَّيْرِ ولم يذكر
شيئاً من جميع الخلق وقد كان اللّه سخّر له جميعَ ذلك ثم ولم يتفقد شيئاً
ممَّا سخّر له ولا دلَّ سليمانَ على مَلِكة سبأ إلاّ طائِرٌ .
وقال
اللّه : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِن السَّمَاءِ
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ وقال اللّه : وَإنْ منْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَ تَفْقهُون تَسْبِيحَهُمْ فلما ذكر داود قال :
وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وقال اللّه :
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهم أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال : وَقَالُوا لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتمْ
عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ .
وقالوا : مَنطِق الطير على التشبيه بمنطق الناس ثم قالوا بعدُ : الصَّامت والناطق ثم قالوا بعد للدار : تنطق .
وقال اللّه : يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئةٍ قَبْلَ الحسَنَةِ لَوْلاَ
تَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا
بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ تُفْتَنُونَ .
وقال اللّهُ : وَإذَا وَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكلِّمُهُمْ أَنَّ
النَّاسَ كانُوا بِآيَاتِنَا لاَ ) يُوقِنُونَ .
وكان عبدُ اللّه بن
عبّاسٍ يقول : ليس يعني بقوله : تُكلِّمُهُمْ من الكلام وإنما هو من
الكَلْم والجِراح وجمع الكَلْم كُلوم ولم يكن يجعلُه من المنطق بل يجعله من
الخُطوط والوسم كالكتاب والعلامة اللذين يقومان مقام الكلام والمنطق .
وقال الآخرون : لا نَدعُ ظاهرَ اللفظ والعادةَ الدالّة في ظاهر الكلام إلى
المجازات قالوا : فقد ذكر اللّه الدابّة بالمنطق كما ذكروا في الحديث كلام
الذئب لأهبان بن أوس وقولُ الهدهد مسطورٌ في الكتاب بأطول الأقاصيص وكذلك
شأن الغراب .
وقال اللّه : وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وجعل
اللّه مقالة النملة قرآناً وقال : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ
طائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا
في الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ وقال في مكان آخر : وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ وقال : وَالطَّيْرَ مَحْشورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وذكر
الملائكة فقال : أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .
وأنشدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قول أميّة بن أبي الصَّلت : ( رَجُلٌ
وَثَوْرٌ تحتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ** والنَّسْرُ لِلأُخْرَى وَلَيْثٌ
مَرْصَدُ ) فقال : صدق .
وخلق اللّه لجعفرٍ جناحَين في الجنّة عوضاً
من يديه المقطوعتين في سبيل اللّه قالوا : ولو كانت في الأرض يدٌ تفضل
الجناحَ لجعلها اللّه بدل الجناح وسمّاه المسلمون الطيّار .
ويقال :
ما هو إلا طائر إذا أرادوا مديح الإنسان في السُّرعة وقال الفرزدق : (
جاؤوا مع الرِّيح أو طارُوا بأجنحةٍ ** وخَلَّفوا في جُؤاثَا سيِّدَيْ
مُضَرَا ) والأمم كلُّها تضرب المثلَ بعَنقاءِ مُغْرِبٍ وقد جاء في نسر
لقمان ما قد جاءَ من الآثار والأخبار وقال الخزرجي : ( إنّ مُعاذ بنَ
مُسلمٍ رَجُلٌ ** قد ضجَّ مِن طُول عُمره الأبَدُ ) ( قد شابَ رأسُ
الزَّمانِ وَاخْتَضَبْ ال ** دَّهْرُ وأثوابُ عمْرِه جُدُدُ ) ( يا نَسْرَ
لقمانَ كمْ تَعيشُ وكم ** تسحَبُ ذَيلَ الحياةِ يا لُبَدُ ) ( قد أصبحتْ
دارٌ آدمٍ خَرِبَتْ ** وأنتَ فيها كأنّكَ الوتِدُ ) ( تسألُ غِرْبانَها إذا
حجَلَتْ ** كيفَ يكونُ الصُّدَاعُ و الرّمدُ )
وقال النابغة : ( أضَحَتْ خَلاءً وأضْحَى أهلُها احْتَمَلوا ** أخنَى عليها الذي أخنى علَى لُبَدِ )
وقال اللّه : وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً لأن ذلك الصنم كان عَلَى صورة النَّسر .
وقالوا : أحرار فارسَ وأحرار الرَّياحين وأحرار البقول وأحرار الطير وهي الأحرار والعتاق والكواسبُ والجوارح والمضرحِيّات .
وقال اللّه : وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئنَّ
قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْر فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ ثمَّ
اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثمَّ ادْعُهُنَّ أسماء ما في
النجوم والبروج والفَرَسِ والنّاس وغير ذلك من أسماء الطير مما يُعدّ في
الفَرَسِ من أسماء الطير : الفَرَاش : وهو المنخر والذُّباب : وهو ذُباب
العَين والصُّلْصُل : وهو الدائرة في الجبهة والعصفور : وهو الجلدة تحت
الناصية والحِدَأة : وهو أصل الأذن والهامة : وهو الجلدة التي فيها الدماغ
والفرْخ : موضع الفَهقَة والنَّاهضَان : في المنكبين والصُّرَد : عرق تحت
اللسان والسَّمامة : الدائرة في عرض العنق والقَطاة : موضع الرِّدف
والغرابان :
العظمان الناتئان بين الوركين ويقال الغُراب طرف
الوَرِك والساق : ساق الفرس وهو ذكر الحمام والخُطَّاف : موضع الرِّكاب من
جنبه والرَّخَمة : البَْضعة الناتئة في ظهر الفخذ والأصقع : الأبيض الناصية
.
وقال اللّه : وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فََضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ .
وفي السماء النَّسر الطائر والنّسر الواقع .
وفي الأوثان القديمة وَثنٌ كان يسمَّى نَسرا ويزعمون أنه كان على صورة نسر
وقال اللّه : وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلاَ يغُوثَ وَيَعُوق
وَنَسْراً وَقدْ أَضَلُّوا كِثيراً وقال : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ
ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لهُ
أَوَّابٌ .
وفي أسماء الناس : غُراب وصُرَد وفي أسماء النساء : فاختة
وحمامة وفي أسماء الناس : يَمام ويمامة وسَمَامة وشاهين وفي أسماء النِّساء
: عقاب وقطاة وقُطَيَّة ودَجَاجة يكون للرِّجال والنساء ويسمُّون بعصفور
ونقّاز وحَجَل ويسمُّون الرجال بِقُطَامِيّ مثل أبي الشرقِيّ بن القُطامي
الشاعر وإذا كانت امرأةً قالوا قَطامِ مثل حَذَام وقال امرؤ القيس بن حجر :
)
( وأنا الذي عرَفَتْ مَعدٌّ فضْلُه ** ونشدت حُجراً ابنَ أُمِّ قَطَامِ ) ويسمون بمضرحِيٍّ وكبار الطير هي المضرحِيّة وأكثر ما يستعمل ذلك في عِتاق الطير وأحرارها ويسمون بحُرّ وليس الحر من الطير إلاّ العقيق وقال الشاعر : ( حرّ صَنعناه لتُحْسِنَ كَفُّهُ ** عَمَلَ الرَّفِيقَةِ وَاسْتِلاَبَ الأخْرَقِ ) ويسمُّون صَعْوة وسُمَانَى وسَمامَة ويسمُّون بجَناح ويلقّبون بمنقار ويسمون بفرخ وفُرَيخ وصقر وصُقير وأبي الصَّقر وطاوُس وطويس وفي الألقاب يُؤْيُؤ وَزُرَّق وفي الأسماء حَيْقُطان وهو الدُّرَّاج الذَّكر ويسمُّون بِحَذَف وَحُذَيفة وأبي حذيفة وفي الألقاب أبو الكراكيّ وفي الصفات الغرانيق والغُرنوق .
نطق الطير وقال
أميَّة أبي الصَّلْت : ( والوحشُ والأنعامُ كيفَ لُغاتُها ** والعلمُ
يُقْسَمُ بينهمْ ويُبَدّدُ ) وقال اللّه عزّ وجلّ مخبراً عن سليمان أنّه
قال : يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وقال الشاعر : (
يا لَيلةً لي بُحوَّارِينَ ساهرَةً ** حتَّى تَكَلَّمَ في الصُّبح
العَصَافيرُ ) وقال الشاعر : ( وَغَنَّتِ الطَّيرُ بعدَ عُجْمَتها **
واستوفَت الخمرُ حَوْلَها كَمَلاَ ) وقال الكميت : ( كالناطقات الصادقا ** ت
الواسِقاتِ من الذَّخائِر ) تدبير الحيوان قال : ولكلِّ جنسٍ من أجناس
الحيوان احترافٌ وتكسُّب وَرَوَغانٌ من الباغي عليه واحتيالٌ لما أراد صيده
فهو يحتالُ لما هو
دونه ويحتال في الامتناع مما فوقه ويختار الأماكنَ الحصينةَ ما احتملته والاستبدالَ بها إذا أنكَرَها .
( سقط : بيت الشعر ) ( بنى بيته منها على رأس كدبة ** وكل امرىء في حرفة العيش ذو عقل )
منطق الطير ولها منطقٌ تتفاهم بها حاجاتِ بعضها إلى بعض ولا حاجة بها إلى
أن يكونَ لها في منطقها فضْلٌ لا تحتاج إلى استعماله وكذلك معانيها في
مقادير حاجاتها .
وقيل لرجل من الحكماء : متَى عقَلتَ قال : ساعَةَ
وُلِدْتُ فلما رأَى إنكارَهم لكلامه قال : أمّا أنا فقد بكيت حِينَ خِفْت
وطلبت الأكل حين جُعْتُ وطلبت الثَّدَى حين احتَجْت وسكتُّ حين أُعطيت يقول
هذه مقاديرُ حاجاتي ومن عَرَف مقادير حاجاته إذا مُنِعَها وإذا أُعْطِيَها
فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثرَ من ذلك العقل ولذلك قال الأعرابيّ : (
سَقَى اللّهُ أرضاً يعلم الضّبُّ أنّها ** بَعِيدٌ من الآفات طيبةُ
البَقْلِ ) ( بني بيتَه منها عَلَى رأس كُدْيةٍ ** وكلُّ امرئٍ في حِرْفة
العَيش ذُو عَقْلِ ) منطق الطير وعقله فإن قال قائل : ليس هذا بمنطق قيل له
: أما القرآن فقد نطَق بأنّه منطِقٌ والأشعارُ قد جعلته مَنطِقاً وكذلك
كلامُ العرب فإن كنتَ إنما أخرجتَه من حدِّ البيان وزعمت أنّه ليس بمنطقٍ
لأنك لم تَفهم عنه فأنتَ أيضاً لا تفهم كلامَ عامَّةِ الأمم وأنتَ إن
سمَّيْتَ كلامَهم رَطانةً وطَمْطمةً فإنّك لا تمتَنِعُ من أن تزعم أنّ ذلك
كلامُهم ومنطقُهم وعامّة الأمم أيضاً لا يفهمون كلامَك ومنطِقَك فجائزٌ لهم
أن يُخْرِجوا كلامَك من البيان والمنطِق وهل صار ذلك الكلامُ منهم بياناً
ومنطقاً إلاّ لتفاهمهم حاجةَ بعضهم إلى بعض ولأنّ ذلك كان صوتاً مؤلّفاً
خرج من لسانٍ وفمٍ فهلاَّ كانت أصواتُ أجناس الطير والوحش والبهائم بياناً
ومنطقاً إذْ قد علمتَ أنّها مقطعة مصوّرة ومؤلّفة منظمة وبها تفاهموا
الحاجات وخرجت من فمٍ ولسان فإن كنتَ لا تفهم من ذلك إلاّ البعض فكذلك تلك
الأجناس لا تفهَمُ من كلامك إلاّ البعض .
وتلك الأقدارُ من الأصوات
المؤلّفة هي نهايةُ حاجاتِها والبيان عنها وكذلك أصواتك المؤلَّفةُ هي
نهايةُ حاجاتك وبيانِك عنها وعلى أنّك قد تعلِّم الطَّيرَ
الأصوات
فتتعلّم وكذلك يُعلَّم الإنسانُ الكلامَ فيتكلَّم كتعليم الصبيِّ والأعجميّ
والفرقُ بين الإنسان والطير أنّ ذلك المعنى معنًى يسمَّى منطقاً وكلاماً
على التشبيه بالنَّاس وعلى السبب الذي يجري والنَّاسُ ذلك لهمْ على كلّ حال
.
وكذلك قال الشاعر الذي وصفَها بالعقل وإنما قال ذلك على التَّشْبيه فليس للشاعر إطلاق )
هذا الكلام لها وليس لك أن تمنعها ذلك من كلِّ جهةٍ وفي كلّ حال فافهم
فهَّمك اللّه فإنَّ اللّه قد أمرك بالتفكّر والاعتبار وبالتعرُّف
والاتِّعاظ .
وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ مخبِراً عن سليمان : يَا
أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فجعل ذلك منطقاً وخصَّ
اللّه سليمانَ بأنْ فَهَّمه معانيَ ذلك المنطق وأقامه فيه مقامَ الطّير
وكذلك لو قال عُلِّمنا منطقَ البهائم والسِّباع لكان ذلك آيةً وعلامة .
وقد علّم اللّهُ إسماعيلَ منطِق العرَب بعد أن كان ابنَ أربعَ عشرة سنة
فلما كان ذلك على غير وقال ابنُ عبّاس وذكر عمرَ بن الخطاب فقال : كان
كالطائر الحذِر فشبّه عزْمَ عمرَ وتخوّفَه من الخطأ وحذَره من الخُدع
بالطائر .
ما قيل في تجاوب الأصداء والديكة وقال ابن مقبل : (
فلا أقومُ عَلَى المَوْلَى فأشتُمه ** ولا يخرّقه نابي ولا ظفُرِي ) ( ولا
تَهيَّبُني المَوْماةُ أركبُها ** إذا تجاوبت الأصداءُ بالسَّحَرِ ) فجعلها
تتجاوب وقال الطرِمّاح بنُ حكيم وذكر تجاوب الدِّيَكة كما ذكر ابنُ مقبلٍ
تجاوبَ الأصْدَاء فقال : ( فيا صُبْحُ كَمِّشْ غُبَّرَ اللّيْلِ مُصْعِداً
** بِبَمٍّ ونبِّهْ ذا العِفاء الموشَّحِ ) ( إذا صاح لم يُخْذَلْ وجاوَبَ
صوتَهُ ** حِماشُ الشَّوَى يصدَحْنَ مِنْ كلِّ مَصْدَحِ ) ما قيل في ضبحة
الثعلب وقبعة القنفذ والقرنبى وحدَّثَ أبو عبيدةَ عن أبي عمرو بن العلاء
قال : خطب ابن الزبير خطبة فاعترض له رجلٌ فآذاه بكلمة ثم طأطأ الرَّجلُ
رأسَه فقال ابنُ الزُّبير : أين المتكلم فلم يجبْه فقال : قاتله اللّه ضبح
ضَبْحَةَ الثَّعلب وقبَعَ قِبْعةَ القُنفذ وقال ابن مقبل :
( ما جاء في الشعر من إحساس الطّير . . )
وغير ذلك من الحيوان
قال أبو عبيدة : تسلَح الحُبارَى على الصّقر وذلك من أحدِّ سِلاحها وهي تعلم أنّها تدبّق جناحَيه وتكتِفُه حتى تجتمع عليه الحُبارَيات فينتفن ريشه طاقةً طاقة فيموت الصَّقْر .والحُبَارَى إذا تحسَّرت فأبطأ نبْت ريشِها وهي لا تنْهض بالشَّكير فربَّما طار صُويحباتها إذا )
تقدَّمَ نبْتُ ريشها قيل نبْت ريش تلك الحُبارى فعند ذلك تكْمَد حزناً حتى تموت كمداً ولذلك قال أبو الأسود الدّؤليّ : ( وزيدٌ ميّت كَمَدَ الحُبَارى ** إذا ظعنَتْ مَليحة أو تُلِمُّ ) وليس في الطَّيْر أسرعُ طيراناً منها لأنها تَصَادُ عِندنا بظهر البصرة فيوجَد في حواصلها حبَّة الخضراء غضّةً طريَّة وبينها وبين مواضع ذلك الحبِّ بلادٌ وبلاد ولذلك قال بشر بن مروان في قتل عبد الملك عَمرو بنَ سعيدٍ : ( كأنّ بني مروانَ إذ يقتلونه ** بُغاثٌ من الطَّيْرِ اجتمَعْنَ عَلى صَقْر ) وبُغَاث الطّيْر ضعاف الطير وسَفِلَتها من العِظام الأبدان والخشاش مثلُ
ذلك إلا أنها من صغار ( سألتُ النّاسَ عن أنسٍ فقالو ** بأندَلُسٍ وأندَلسٌ بعيدُ ) ( كأنّي بعد سكن مَضرِحيٌّ ** أصابَ جَناحَه عنَتٌ شديدُ ) ( فقد طمِعت عِتاقُ الطّيرِ فيه ** وكانت عن عَقِيرَتِه تحيدُ ) وقال الذَّكوانيّ : ( بِفَاثُ الطّير تعرِف قانِصِيهَا ** وكلَّ مكبَّدٍ منها لَهِيدِ ) يقول : لكلِّ جنس من الجوارح ضربٌ من الصيد وضربٌ من الطلب فالمصِيد منها يعرف ذكر فيجعل المهرب من الآخر ثم ذلك أنها تعرف الصائد المعتلّ من الصحيح وهو معنى الخرَيمي حيث يقول : ( ويعلم ما يأتي وإنْ كان طائراً ** ويعلم أقدارَ الجوارحِ والبُغْثِ ) وقوله البُغْث يريد به جمع أبغث وقال الأوَّل : ( بُغاث الطَّيْرِ أكثرها فروخاً ** وأمُّ البازِ مِقْلاتٌ نَزُورُ ) وأنشدني ابن يسير :
( بالجَدّ طوراً ثم بالجِدّ تارةٌ ** كذاك جميعُ الناس
في الجَدِّ والطَّلَبْ ) والجَدُّ مفتوح الجيم يقول : الطير كالناس فمرَّة
تصيد بالحظّ وبما يتفق لها ومرَّةً بالحيلة والطَّلب وبجَدِّهِ يتقلّبُ
العصفور قال : وقال زاهر لصبيانه : يرزقكم الذي يرزُق عصافير الدوّ وقال
صالح المُرّيّ : تغدو الطّيرُ خِماصاً وتَرُُوحُ شِباعاً واثقة بأنّ لها في
كلِّ غدْوةِ رزقاً لا يفوتُها والذي نَفْسي بيده أنْ لو )
غدوتُم على أسواقكم على مثل إخلاصها لرُحْتم وبطونُكم أبطنُ من بطون الحوامل .
وقال أعشى هَمْدان : ( قالت تعاتبني عِرْسي وتسألُني ** أين الدَّراهم
عَنّا والدَّنانيرُ ) ( فقلتُ أنفقْتُها واللّهُ يُخْلِفُهَا ** والدَّهر
ذو مرَّةٍ عسرٌ وميسورُ ) ( إنْ يرزقِ اللّهُ أعدائي فقد رُزِقَتْ ** من
قبلهم في مَراعيها الخنازيرُ ) ( قالت : فرزقُك رزقٌ غيرُ متَّسعٍ ** وما
لَدَيْكَ من الخبرات قِطميرُ ) ( وقد رضيتَ بأن تحيا على رَمَقٍ ** يوماً
فيوماً كما تحيا العصافير )
وإنما خصَّ العصافير بقلَّة الرِّزق
لأنها لا تتباعد في طلب الطعم وإلا فإنّ السِّباعَ ووحشَ الطَّير كلّها
تغدو خِماصاً وتروح بطاناً .
وقال لبيد : ( فإنْ تسألينا فيم نحنُ
فإنّنا ** عصافيرُ من هذا الأنامِ المُسحَّرِ ) ( عصافيرٌ وذِبَّانٌ ودودٌ
** وأجرأُ من مجلِّحة الذئابِ ) ولولا أنّ تفسير هذا قد مرَّ في باب القول
في العصافير في كتاب الحيوان لقلنا في ذلك .
اختلاف طبائع الحيوان وما يعتريها من الأخلاق
الذئب لا يطمع فيه صاحبُه فإذا دَمِيَ وثب عليه صاحبُه فأكلَه وإذا عضَّ الذِّئْبُ شاةً فأفلتتْ منه بضربٍ من الضروب فإنَّ عادة الغنم إذا وجدَتْ ريحَ الدَّمِ أن تشمَّ موضع أنياب الذئب وليس عندها عند ذلك إلاّ أن ينضمَّ بعضها إلى بعض ولذلك قال جريرٌ لعُمر بن لجأ التَّيميّ : ( فلا يضغمَنَّ اللَّيْثُ تَيماً بِغِرَّةٍ ** وتَيمٌ يَشمُّونَ الفَرِيسَ المَنَيَّبَا )
فذكر أنّهم كالغنم في العجز والجُبن وإذا دَمِيَ الحمارُ ألقى نفسَه إلى
الأرض وامتنع ممن يريده بالعضّ وبكلِّ ما قدر عليه غير أنه لا ينهض ولا
يبرحُ مكانَه وإذا أصاب الأسدَ خَدْش أو شَحْطَة بعد أن يَدْمَى مكانَه
فإنَّ ذبَّان الأسد تلحُّ عليه ولا تُقْلع عنه أبداً حتى تقتله .
وللأُسود ذِبَّانٌ على حدة وكذلك الكلاب وكذلك الحمير وكذلك الإبل وكذلك الناس .
وإذا دَمِيَ الإنسانُ وشمَّ الذئبُ منه ريحَ الدَّم فما أَقَلَّ من
يَنْجُو منه وإن كان أشدّ الناس بدَناً وإذا دَمِيَ الببرُ استكلب فخافه
كلُّ شيء كان يسالمهُ مِن كبار السِّباع كالأسود والنُّمور والببر على خلاف
جميع ما حكينا .
وإذا أصاب الحية خدْشٌ فإِنَّ الذرَّ يطالبه أشدَّ الطلب فلا يكاد ينجو ولا يعرف ذلك إلا في الفَرْط .
وإذا عضَّ الإنسانَ الكلبُ الكلِبُ فإنَّ الفأر يطالبه ليبولَ عليه وفيه هَلَكَتُهُ فهو يحتال له بكلِّ حيلة .
وربما أغَدَّ البعير فلا يعرف ذلك الجمَّالُ حتى يرى الذّبّانَ يطالبه .
وإذا وضعت الذِّئبةُ جَرْوَها فإنه يكون حينئذ ملتزقَ الأعضاء أمْعَطَ
كأَنه قطعة لحم وتعلم الذِّئبة أنّ الذرَّ يطالبه فلا تزال رافعة له بيديها
ومحوِّلةً له من مكانٍ إلى مكان حتى تفرج الأعضاء ويشتدّ اللحم .
وإذا وضعت الهرَّة جروَها فإنْ طرَحُوا لها لحماً من ساعتها أو رُوبة
أو بعض ما يشبه ذلك فأكلته لم تكد تأكل أجراءها لأنّ الهرة يعتريها عند ذلك جُوعٌ وجُنون وخفَّة .
والأجناس التي تحدث لها قوَّةٌ على غير سبب يعرف في تقدير الرأي منها
الذِّئبُ الضعيف الواثبُ على الذِّئب القويّ إذا رأى عليه دماً والهِرَّةُ
إذا سفِدها الهرُّ فإنها عند ذلك تشدُّ عليه )
وهي واثقةٌ باستخذائه لها وفضْل قوَّتها عليه والجُرذ إذا خصِي فإنّه يأكل الجرذان أكلاً ذريعاً ولا يقوم له شيءٌ منها .
فأمَّا الفيل والكركدَّنَ والجمل عند الاغتلام وطلَب الضِّراب فإنها وإن
تركت الشُّرْبَ والأكلَ الأيّامَ الكثيرة فإنّه لا يقوم لشيءٍ منها شيء من
ذلك الجنس وإن كان قويّاً شاباً آكلاً شارباً .
وأمَّا الغيرانُ
والغَضبان والسَّكران والمُعاين للحرب فهم يختلفون في ذلك على عللٍ قد
ذكَرْناها في القول في فضيلة المَلَك على الإنسان والإنسان على الجانّ فإنْ
أردتَه فالتمسْهُ هناك فإنَّ إعادة الأحاديث الطوال والكلامَ الكثيرَ مما
يُهجر في السَّماع ويهجِّن الكتب . ( ما يستدل به في شأن الحيوان على حسن
صنع اللّه ) وإحكام تدبيره وأن الأمور موزونة مقدرة قالوا : الأشياء
البيَّاضة طائر ومشترك وذو أربع ومُنْساح فمنها ما يبيض في صُدوع الصَّخر
وأعالي الهِضاب ومنها ما يعيش في الجِحَرة كسائر الحيات .
وأما الدَّسَّاس منها فإنَّها تلد ولا تبيض وهي لا تُرضِع ولا تُلقِم والخفَّاش تَلد ولا تبيض وترضع وهذا مختلف .
والدَّجاج والحجَل والقَطا وأشباه ذلك من الدّرَاريج وغيرِها أفاحيصُها في الأرض .
والحمام منها طُورانّي جبَلِيّ ومنها أَلوفٌ أهليّ فالجبليُّ تبيض في
أوكارٍ لها في عُرْض مقاطع الجبال والأهليُّ منها يبيض في البيوت والعصافير
بيوتُها في أصول أجذاع السُّقُف والخطاطيف تتّخذ بيوتَها في باطن السقف في
أوثق ذلك وأمْنَعِه والرّخَم لا ترضَى من الجِبال إلا بالوحشيّ منها ومن
البعيد في أسحَقِها وأبعدها عن مواضع أعدائها ثم من الجبال إلاّ في رؤوس
هضابها ثم من الهضاب إلا في صدوع صخورها ولذلك يُضرب بامتناع بيِضها المثل .
وأما الرِّقّ والضِّفدِع والسُّلَحفاة والتمساح وهذه الدوابّ المائية فإنها تبيض في الأرض وتحضن
ومن الحيوان ما لا يجثم كالضبَّة فإنها لا تجثِمُ على بيضها ولكن تغطّيها بالتراب وتنتظر أيّام انصداعها .
مواضع الفراخ والبيض
فإذا كان مواضع الفِراخ والبيض من القطا وأشباه القطا فهو أفحوصة وإذا كان من الطير الذي يهيئ ذلك المجثَِمَ من العِيدان والرِّيش والحشيش فهو عُشّ وإذا كان من الظّليم فهو أُدْحِيّ ذكر ذلك أبو عبيدة والأصمعي وكلُّها وُكور ووكون ووُكنات ووَكَرات . ( أكثر الحيوان بيضاً وأقله ) فالذي يبيض الكثيرَ من البيض الذي لا يجوزه شيءٌ في الكثرة السَّمَك ثم الجراد ثم العقارب ثم الضَّبة لأن السَّمَكَ لا تزقُّ ولا تلقِم ولا تُلحِم ولا تحضُن ولا تُرضع فحين كانت كذلك كثَّر اللّه تعالى ذَرْءَها وعددَ نسلِها فكان ذلك على خلاف شأن الحمام الذي يُزاوِج أصنافَ الحمام ومثل العصافير والنَّعام فإنها لا تزاوج .فأما الحمام فلما جعله اللّه يزق ويحضن ويحتاج إلى ما يغتذيه و يغذو به ولده ويحتاج إلى الزَّق وهو ضربٌ من القيء وفيه عليها وهْنٌ
وشدَّة ولذلك لا يُزْجَل إذا كان زاقًّا فلما أن ولما كانت الدَّجاجة تحضن
ولا تزُقّ وهي تأكل الحبَّ وكلَّ ما دبّ ودَرَجَ زاد اللّه في بيضها وعدد
فراريجها ولم يجعل ذلك في عدد أولاد السَّمك والعقارب والضِّباب التي لا
تحضُن البتةَ ولا تزُقّ ولا تُلقِم .
ولما جعَلَ اللّه أولادَ الضبّ لها معاشاً زاد في عدد بيضها وفراخها وصار ما يسلمُ كثيراً غير متجاوزٍ للقدر .
وكذلك الظَّليم لما كان لا يزق ولا يحضن اتسَع عليه مطلبُ الرِّزق من الحبوب وأصول الشَّجر .
وجعلها تبيض ثلاثينَ بيضةً وأكثر وقال ذو الرمة : ( أذاك أم خاضبٌ
بالسِّيِّ مَرْتَعُه ** أبو ثلاثين أمسى فهو منقلبُ ) وبيضها كبارٌ وليس في
طاقتها أن تَشتمل وتجثم إلاّ على القليل منها وكذلك الحيَّة تضع ثلاثين
بيضةً ولها ثلاثون ضِلعاً وبيضها وأضلاعها عدد أيام الشَّهر ولذلك قويَت
أصلابها لكثرة عدد الأضلاع وحمل عليها في الحضن بعض الحمل إذْ كانت لا ترضع
.
أثر الإلقام والزق في الحيوان
والطائر الذي يُلقِم فرخه يكون أقوى من الطائر الزاقّ وكذلك من البهائم المرضِعة .
ولما كانت العصافير تصيد الجراد والنمل والأرَضَة إذا طارت وتأكل الحبَّ
واللَّحم وكانت مع هذا تُلقم لم تكثِّر من البيض كتكثير الدجاج ولم تقلِّل
كتقليل الحمام .
ما يزاوج من الحيوان
وللعصافير فيها زِوَاجٌ وكذلك النّعام وليس في شيء من ذوات الأربع زِواج وإنما الزِّواج في اللاتي تمِشي على رِجْلين كالإنسان والطَّير والنَّعام وليس هو في الطير بالعامّ وهو في الحمام وأصناف الحمام من هذه المغنيات والنوائح عامٌّ وسبيل الحجل والقَبَج سبيلُ الدِّيكة والدَّجاج .والدَّجاجة تمكن كلَّ ديكِ والدِّيك يِثبُ على كلِّ دجاجة وربمَّا غبر الحمام الذَّكَر حياتَه كلَّها لا يقمط غير أنثاه وكذلك الأنثى لا تدعو إلا زوجها وربَّما أمكنت غيره وفي الحمام في هذا الباب من الاختلاف ما في النساء والرجال .
فأما الشِّفْنين فإنّه لا يقمُط غيرَ أنثاه وإن هلكت الأُنثى لم يزاوِجْ أبداً وكذلك الأنثى للذكر .
عجائب البيض
فأمَّا العلة في وضع القطا بيضَها أَفراداً وخروجِ البضة من جهة أوسع الرَّأسين واستدارِة بيض الرّقّ واستطالة بيض الحيات وما يكون منها أرقَطَ وأخضَر وأصفر وأبيض وأكدر وأسود
معارف في البيض قالوا : وإنما يعظُم البيض على قدر جُثَّة البيَّاضة وبيضُ
الأبكار أصغر فأمَّا كثرة العدد فقالوا إنه كلما كان أكثَر سِفاداً كانَ
أكثَرَ عدداً وليس الأمرُ كذلك لأنَّ العصفور أكثَرُ سِفاداً من أجناسٍ
كثيرةٍ هي أقلُّ بيضاً منه .
والجرادُ والسَّمَك لا حضنَ ولا زَقَّ
ولا رَضاعَ ولا تَلقيم عليهن فحين جَعَل الفراخَ كثيرةَ العدد وكانت
الأمَّهات والآباءُ عاجزة عنها لم يَجْعلْها محتاجةً إلى الأمَّهاتِ
والآباء .
فتفهَّمْ هذا التدبيرَ اللطيفَ والحكمةَ البالغة .
أقل الحيوان نسلاً وأكثره قالوا : والأقلّ في ذلك البازي والأكثر في ذلك الذَّرّ والسَّمك .
قال الشاعر : ( بغاثُ الطَّيْرِ أكثرها فُروخاً ** وأمُّ البازِ مِقْلاَتٌ نَزُورُ )
وقال صاحب المنطق : نسل الأُسد أقلُّ لأنه يَجْرح الرحم فيُعْقَم .
قالوا : والفِيَلة تضعُ في سبع سنين وأقلُّ الخْلق عدداً وذَرْءًا
الكركَدَّن لأنّ الأنثى تكون نَزُوراً وأيامُ حملها كثيرة جِدًّا وهي من
الحيوان الذي لا يلد إلاّ واحداً وكذلك عِظامُ الحيوان وهي مع ذلك تأكل
أولادَها ولا يكاد يسلم منها إلاَّ القليل لأنّ الولد يخرجُ سوِيًّا نابتَ
الأسنانِ والقرنِ شديد الحافر .
ما جاء في الفيلة
من عجيب التركيب وغريب التأليف والمعارف الصحيحة والأحاسيس اللطيفة وفي قبولها التثقيف والتأديب وسرعتها إلى التلقين والتقويم وما في أبدانها من أعضاء الكريمة والأجزاء الشريفة . ( بسم اللّه الرحمن الرحيم ) والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه وصلى اللّه على سيدنا محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامّة ونسأله التأييدَ والعصمة ونعوذ به من كلِّ سبب جانَبَ الطَّاعة ودعا إلى المعصية إنه قريبٌ مجيب فعَّالٌ لما يريد .قد قلنا في أول هذا الجزء وهو الجزء السابع من القول في الحيوان في إحساس أجناسها المجعولة فيها وفي معارفها المطبوعة عليها وفي أعاجيب ما رُكِّبَتْ عليه من الدَّفع عن أنفُسها والتقدُّم فيما يُحيِيها
وفي تحسُّسها عواقبَ أمورها وكلِّ
ما خوِّفت من حوادث المكروه عليها بقدر ما ينوبُها من الآفات ويعتريها من
الحادِثات وأنّها تدْرِك ذلك بالطَّبع من غير رَويّة وبحِسِّ النَّفس من
غير فِكرة ليعتبرَ مُعْتَبِرٌ ويفكرُ مفكِّر ولينفي عن نفسه العُجب ويعرفَ
مقدارَه من العجز ونهاية قوَّته ومبلغَ نفاذِ بصرِهِ وأنه مخلوق مدبَّر
ومصرّف وميسَّر وأنَّ الأعجمَ من أجناس الحيوان والأخرسَ من تلك الأشكال
يبلغ في تدبير معيشته ومصلحةِ شأنهِ وفي كلِّ ما هو بسبيله ما لا يبلغه ذو
الرَّويَّة التامّة والمنطقِ البليغِ وأنَّ منها ما يكون ألْطفَ مَدخلاً
وأدقَّ مسلكاً وأصنَعَ كَفّاً وأجودَ حنجرة وأطبَعَ على الأصوات الموزونة
وأقْوَم في حفظ ما يُعيشُه طريقةً إلاَّ أنّ ذلك منها مفرَّق غيرُ مجموع
ومنقطعٌ غير منظوم .
والإنسان ذو العقل والاستطاعة والتصرُّف والرويّة
إذا علم علماً غامضاً وأدركَ معنًى خفياً لم يكَدْ يمتنع عليه ما دونه إذا
قاس بعض أَمْرِهِ على بعض .
وأجناس الحيوانِ قد يعلَّم بعضُها علماً
ويصنع بكفِّه صنعةً يفوقُ بها الناس ولا يهتدي إلى ما هو دون ذلك بطبعٍ ولا
رويّة وعلى أنّ الذي عجز عنه في تقدير العقول دون الذي قَدَرَ عليه .
وأنا ذاكرٌ إن شاء اللّه ما جاء في الفيلة من عجيب التركيب وغريب التأليف
والمعارف الصَّحيحة والأحاسيس اللطيفة وفي قَبولها التّثقيفَ والتّأديب
وسرعتها إلى التلقين والتّقويم وما في أبدانها من الأعضاء الكريمة والأجزاء
الشريفة وكم مقدارُ منافِعها ومبلغُ مضارِّها )
وبكم فَضَلَتْ أجناسَ الحيوان وفاقَتْ تلكَ الأجناسَ .
وما جعل اللّه تعالي فيها من الآيات والبرهانات والعلامات النيِّرات التي
جَلاها لعُيون خلْقه وعرَّف بينها وبين عُقول عباده وقيَّدَها عليهم
وحفِظَها لهم ليكثِّر لهم من الأدلة ويزيدَهم في وضوح الحُجَّة ويسخِّرَهم
لتمام النِّعمة والذي ذكرها اللّه به في الكتاب الناطق والخبر الصادق وما
في الآثار المعروفة والأمثال المضروبة والتجارب الصحيحة .
وما قالت
فيها الشعراء ونطقَتْ به الخطباء وميَّزتْه العلماء وعجّبت منه الحكماء
وحالهِا عند الملوك وموضع نفعِها في الحروب ومهابتها في العيون وجَلالتها
في الصُّدور وفي طُول أعمارها وقوّة أبداِنها وفي اعتزامها وتصميمها
وأحْقادها وشدَّة اكتراثها وطلبها بطوائلها وارتفاعها عن مِلْك السُّقّاط
والحشْوة وعن اقتناءِ الأنذال والسِّفِلة وعن ارتخاصها في الثمن وارتباطها
على الخَسْف وابتذالها وإذالتها وعن امتناع طبائعها وتمنُّع غرائزها أن
تَصْلُحَ أبدانُها وتَنْبُتَ أنيابُها وتعظُمَ جوارحُها وتتسافدَ
وتتلاقَحَ إلاّ في معادنها وبلادها وفي منابتها ومَغارس أعراقها مع التماس
الملوك ذلك منها حتى أعجَزت الحِيل وخرجَتْ مِنْ حدِّ الطَّمَع وعن الإخبار
عن حملها ووضعِها ومواضع أعضائها والذي خالَفتْ فيه الأشكالَ الأربعةَ
التي تُحيط بالجميع مما ينْساح أو يعوم أو يمشي أو يطير وجميعِ ما ينتقل عن
أوَّليَّةِ خَلقه وما يبقى على الطّبائع الأُوَل من صُورته وعَمّا
يتنازَعُه من شِبه الحيوان أو ما يخالِفُ فيه جميعَ الحيوان وعن القول في
شدَّة قلبه وأسْرِه وفي جرأته على ما هو أعظمُ بدَناً وأشدُّ كلَباً وأحدُّ
أظفاراً وعن الإخبار عن خصاله المذمومة وأموره المحمودة وعن القول في
لَوْنه وجِلده وشعره ولحمه وشحمه وعظمه وبَوْله ونَجْوه وعن لسانه وفمه وعن
أذنه وعينه وعن خرطومه وغُرموله وعن مَقاتِلهِ وموضع سلاحه وعن أدوائه
ودوائه وعن القول في أنيابه وسائر أسنانه وسائر عظامه وفرْقِ ما بين عِظامه
وعظام غيره وعن مَوَاضع عجزه وقوّته والقَوْل في ألبانها وضُروعها وعدد
أخْلافها وأماكن ذلك منها وعن سياحتها ومشْيها وحُضْرها وسْرعتها وخِفَّة
وطئها ولين ظهورها وإلذاذ راكبها وعن ثباتِ خُفِّها في الوَحل والرَّمل وفي
الحدَر والصَّعْداء وعن أمْن راكبها من العِثار .
وكيف حالها عند اهتياجها واغتلامِها وعن سكونها وانقضاء هَيَجانها عند حملها
وعن طرَبها وطاعتها لسُوَّاسها وفهمِها لما يُراد منها وكيف حِدّةُ نَظَرها والفَهمُ الذي يُرَى في طَرْفِها )
مع الوقار والنُّبل والإطراق والسُّكون وَلِمَ اجتمعت الملوكُ عَرَبُها
وعجمُها وأحمرُها وأسودُها على اقتنائها والتزيُّنِ بها والفخر بكثرة ما
تهيَّأ لهم منها حتى صارت عندهم من أكرم الهدايا وأشْرَف الألطاف وحتى صار
اتخاذُها مُرُوءةً وعَتاداً وعُدّة ودليلاً على أنّ مُقْتَنِيَها صاحبُ حرب
.
وفي تفضيل خصال الفيل على خصال البعير وفي أيِّ مكانٍ يكون أنفع في
الحرب من الفَرس وأصبَرَ عند القتال من النَّمر وأقْتلَ للأسد من الجاموس
وأكلَبَ من الببر إذا تعرَّم وأشدَّ من الكرْكَدَّنِ إذا اغتلم حتى لا
يبلُغه مقدارُ ما يكون من تماسيح الخُلجان وخيل النِّيل وَعِقبان الهواء
وأُسْدِ الغياض .
قصيدة هاورن مولى الأزد في الفيل وقد جمع هاورنُ
مولى الأزد الذي كان يرُدُّ على الكميت ويفخر بقحطان وكان شاعرَ أهل
المُوْلتان ولا أعرف من شأنه أكثر من
اسمه وصِناعته وقد قال في صفات الفيل أشعاراً كثيرة ذكر فيها كثيراً ممّا قدَّمْنا ذِكرَه فمن ذلك قولُه : ( أليس عجيباً بأنْ خِلقةٌ ** له فِطَنُ الإنْس في جِرْم فيلِ ) وأنشدني هذا البيت صفوانُ بن صفوانَ الأنصاريّ وكان من رُواة داود بن مزيد : ( أليس عجيباً بأنْ خِلقةٌ ** له فِطَنُ الإنس في جِرْمِ فيلِ ) ( وأظرفُ مِنْ قِشَّةٍ زَولة ** بحِلْمٍ يجلُّ عن الخنشَلِيلِ ) ( وأوقصُ مختلفٌ خَلْقُهُ ** طويلُ النُّيُوب قصير النَّصِيلِ ) ( ويلقى العدُوَّ بنابٍ عظيم ** وجَوفٍ رَحيب وصوتٍ ضَئيلِ ) ( وأشبهُ شيءٍ إذا قِسْتَه ** بخنزير بَرٍّ وجاموسِ غِيلِ ) ( ويخضعُ للَّيثِ ليْثِ العَرينِ ** بأنْ ناسَبَ الهِرَّ من رأس مِيلِ ) ( ويعصِفُ بالبَبْر بعد النُّمورِ ** كما تعصف الرِّيحُ بالعندبيلِ )
( وشخصٌ تُرَى ِ يَدُه أنفَه ** فإن وصَلوه بسيفٍ صَقيلِ ) ( وأقبلَ كالطَّوْدِ هادِي الخميسِ ** بِهوْلٍ شديدٍ أمامَ الرَّعِيلِ ) ( ومرَّ يَسِيلُ كَسَيْل الأتيِّ ** بخطوٍ خفيفٍ وجِرْم ثقيلِ ) ( فإن شِمْتَه زادَ في هوله ** شناعةُ أُذْنَينِ في رأسِ غولِ ) ( وقد كنتُ أعدَدْتُ هِرًّا لهُ ** قليلَ التهيُّبِ للزَّندَبيلِ ) ( فلما أَحسَّ به في العَجاح ** أتانَا الإلهُ بفتحٍ جميلِ ) ( فطارَ وَرَاغَمَ فَيَّالَهُ ** بقلبٍ نجيبٍ وجسمٍ نبيلِ ) ( فسبحانَ خالِقهِ وحْدَه ** إلهُ الأنامِ وربُّ الفُيولِ )
احتيال هارون بالهر لهزيمة الفيل
وذكر صفوانُ بن صفوان أنّ هارون هذا خبَّأ معه هرّاً تحت حِضْنِه ومشى بسيفِه إلى الفيل وفي خرطومه السَّيف والفيالونَ يَذْمُرُونه فلما دنا منه رمى بالهرِّ في وجهه فأدَبَرَ هارباً وسنذكر الهرَّ في هذا الشِّعر كما كتبته لك .
استطراد لغوي وأمَّا قوله : بحِلم يَجِلُّ عن الخنْشليل
فقد قال الأنصاريُّ في صفة النَّخل : ( تُليصُ العِشَاءَ بأذنابها ** وفي
مَدَر الأرضِ عنها فُضُولُ ) ( ويشبعها المصُّ مصُّ الثَّرَى ** إذا جاعت
الشَّاةُ والخنْشلِيلُ ) وهذا غير قوله : ( قد علمتْ جاريةٌ عُطبولُ **
أنِّي بنَصْل السيف خنْشلِيلُ ) العندبيل وأما العَندبيل فهو طائرٌ صغيرٌ
جدّاً ولذلك قال الشاعر : ( وما كان يَوْمَ الرِّيح أوَّلَ طائرٍ **
يَرْوحَ كَرَوْحِ العَندبيل إلى الوكْرِ ) لأنَّ الرِّيح تعصف به من صِغره
فهو يعرفُ ذلك من نفسِه فإذا قويت الرِّيح دخلَ جُحْره ويقولون عندليب
وعَندبيل وكلٌّ صواب ولذلك قال هارون :
( سقط : بيت الشعر ) ( ويعصف بالببر بعد النمور ** كما تعصف الريح بالعندبيل ) وسنخبر عن تقرير ما في هذه القصيدة مفرَّقاً إذ لم نقْدِرْ عليه مجموعاً متَّصلاً ولو أمكن ذلك لكان أحسن للكِتاب وأصَحَّ لمعناه وأفهَمَ لمنْ قرَأه . ايدخل في ذكر الفيل . .
وفيه أخلاط من شعر وحديث وغير ذلك
)قال رؤبةُ في صفة الفيل : ( أَجْرَدُ كالحِصْنِ طويلُ النَّابَيْنْ ** مُشَرَّفُ اللَّحْيِ صغيرُ الفقْمَيْنْ ) عليه أُذْنَانِ كفضْل الثَّوْبَيْنْ وأنشد ابنُ الأعرابيّ : ( هو البعوضةُ إنْ كلّفتَه كَرَماً ** والفيل في كلِّ أمرٍ أصلُه لُومُ ) وقال أعرابيٌّ وَوَصَف امرأةً له : لو أكلتْ فِيلينِ لم تَخْشَ البَشَمْ وقال أعرابيُّ يصف الأكْرِياء :
( لو تركبُ البُختِيَّ مِيلاً لاَنْحَطم ** أو تركبُ الفِيلَ بها الفيلُ رَزَمْ ) ( أأرْكبُ شيطاناً ومِسْخاً وهَضبْةً ** إلا إنّ رأيي قبل ذاك مُضلَّلُ ) فقالوا له : لو علوتَه ما كانَ عندَك إلاّ كالبغْل فلما علاه صاحَ : الأرضَ الأرضَ فلما خافوا أنْ يرْمِي بنفسه وهو شيخٌ كبير أنزلوهُ فقال بعد ذلك في كلمة له : ( وما كان تحتي يومَ ذلك بَغْلةٌ ** ولكِنَّ جُلْباً مِنْ رَفِيع السَّحائبِ ) وقال بعض المتحدِثين والمملِّحين في بعض النساء : ( أرادت مرّةً بيتاً ** لها فيه تماثيلُ ) ( فلما أبصرْتَ سِتْراً ** لوجهَيْه تهاويلُ ) ( وفيه الفيلُ منقوشاً ** وفي مِشْفَرِهِ طُولُ ) ( قالت : اِنزعُوا الستر ** فلا يأكلْنيَ الفِيلُ )
وقال خلَف بن خليفةَ
الأقطع حين ذكر الأشرافَ الذين يدخلون على ابن هُبيرة : ( وقامتْ قريشٌ
قريشُ البِطاح ** مع العُصَبِ الأوَل الدَّاخِلهْ ) ( يقودهم الفِيلُ
والزَّنْدَبِيلُ ** وَذو الضِّرْسِ والشَّفَةِ المائله ) الفيل
والزّنْذَبيل : أبان والحكم ابنا عبد الملك بن بشر بن مَرْوان وذو الضِّرس :
خالد بن سَلَمة المخزومي الخطيب وهو ذو الشَّفة قتل مع يزيد بن عُمَر ابن
هبيرة فيمن قتل .
وقد فَصَل خلف بن خليفة الفيلَ من الزَّنْدَبِيل ولم يفسِّر وقد اختلفوا في ذلك وسنذكرهُ إذا جرّ سببه إن شاء اللّه تعالى . )
طرائف من اللغات والأخبار في الفيل
الفيلُ المعروف بهذا الاسم ويقال رجلٌ فِيلٌ إذا كان في رأيه فِيَالة والفِيَالة : الخطأ والفساد ويسمُّون أيضاً الرَّجل بفيل منهم فيلٌ مولى زياد وحاجبُه وفي أنهار الفرات بالبصرة نهر يقال له فيل بانان وموضعٌ آخر يقال له فِيلان .
وقد يعرض بقدم الإنسان ورَم جاسٍ حتَّى تعظم له قدمُه وساقُه وصاحبُه لا يبرأ منه ويسمّي ذلك الورمُ داءَ الفيل .
ويسمَّى الرَّجُل بدَغْفَلٍ وهو ولد الفِيل ولا يسمُّونَ بَزنْدبيل وبعض
العرب يقول للذَّكر من الفيلة فِيل وللأُنثى فِيلة كما يقولون أسد وأسدة
وذئب وذئبة ولا يقولون مثل ذلك في ثعلب وضبع وأمورٍ غير ذلك إلاّ أن يكون
اسماً لإنسان .
وبعث رجلٌ من العرب بديلاً مكانَه في بعض البعوث وأنشأ
يقول : ( إذا ما اختَبَّتِ الشَّقْرَاءُ مِيلاً ** فهانَ عَلَيَّ ما لقيَ
البَديلُ ) وأنشدنا الأصمعيّ : ( يفرُّون والفيل الجبان كأَنّه ** أزَبُّ
خَصِيٌّ نفّرتْه القَعاقِعُ ) قال سَلَمة بن عَيَّاش : قال لي رؤبة : ما
كنت أحب أن أرى في رأيك فِيالة .
وبالكوفة باب الفيل وبواسط باب الفيل .
ومنهم فِيلُويه وهو أبو حاتم بن فِيلُويه وكان أبو مسلم ربَّى أبا حاتمٍ
حتّى اكتهل وهُما سقَيا أبا مسلم السمّ حتى عُولج بالترياق فأفاق فقتلهما
أبو مسلم بعد ذلك وكانا على شبيهٍ بدين الخُرَّميّة .
ويقولون عنبسة
الفيل وهو النحويّ وهو أحد قدماء النحويِّين الحذّاقَ وهو عنبسةَ بن
مَعْدَانَ وكان معدانُ يروض فيلاً لزياد فلما أَنشَد عنبسةُ بنُ معدانَ
هجاءَ جريرٍ للفرزدق قال الفرزدق : ( لقد كان في مَعْدانَ والفيلِ زاجرٌ **
لغنبسةَ الرَّاوِي عَلَيَّ القصائدا ) فلمَّا تناشَدَ النّاسُ بعد ذلك هذا
الشعر قال عنبسةُ : إنَّما قال الفرزدق : لقد كان في مَعْدانَ واللُّؤْمِ
زاجرٌ فقالوا : إنَّ شيئاً فررتَ منه إلى اللُّؤْم لَنَاهِيكَ به قُبحاً
فعند ذلك سُمِّي عنبسةَ الفيل .
وغيلان الراجز كان يقال له غيلانُ راكب الفيل كان الحجّاج بن يوسف ربَّما حَمَلَه على الفيل )
قال أبو عبيدة : حدَّثني يونس قال : لما بنى فِيلٌ مولى زيادٍ دارَه
وحَمَّامَه بالسَّبابجة عمل طعاماً لأصحاب زياد ودعاهم إلى داره وأدْخلهم
حمَّامَه فلمَّا خرجوا منه غدَّاهم ثم ركِب وغَبَّر في وجوههم فقال أبو
الأسود الدُّؤلي : ( لَعَمْرُ أبيكَ مَا حمّامُ كِسرى ** على الثُّلُثَينِ
من حمَّام فيلِ ) وقال الجارود بن أبي سَبرة : ( وما إرقاصنا خَلْفَ
الموالي ** كَسُنّتِنا عَلَى عهدِ الرسولِ ) وأنشد الأصمعي وغيره : (
خلافاً علينا من فَيالة رأيه ** كما قيل قبلَ اليومِ خالفْ فَتُذْكَرا )
ويقال للرّجُل إذا عُنّف عند الرأي يراه : لِمَ تفيِّلُ رأيَكَ وقد فَال
رأي فلان .
وحدَّثنا عبد اللّه بن بكر عن حميد عن أنس قال : قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لمّا انتهيت إلى السّدْرَة إذا ورَقُها أمثالُ
آذانِ الفِيَلة وإذا ثمَرها أمثالُ القِلال فلما غشِيَها من أمر اللّه ما
غشِيها تحوَّلت ياقوتاً .
وقال صاحب الكيمياء في جرير بن يزيد : (
مهلاً أبا العبَّاس رِفقاً ولا ** تكنْ خَصيمَ المَعْشَرِ الخُونِ ) ( أنت
إذا ما عُدَّ أهلُ الحِجا ** والحِلْمِ كالأحنف في سينِ )
الفرخ
والفروج وكلُّ طائرٍ يخرج من البيض وكلُّ ولدٍ يخرج من البيض وإن لم يكن
طائراً فإنما يسمَّى فرخاً كفرخ الحمام والوزغة والعظاءَة والرقُ
والسُّلحفاءِ والحُكَاء وبنات النَّقا وشحمة الأرض والضب والحِرْذون والورل
والحرباء إلا ما يخرج من بيض الدجاج فإنه يقال له فرّوج ولا يقال له فرخ
إلا أنَّ الشعراءَ يتوسَّعون في ذلك قال شَّماخ بن أبي شداد : ( ألا مَن
مبلغٌ خاقان عَنَّا ** تأمَّلْ حين يضرِبُك الشِّتاءُ ) ( أتجعلُ في عيالك
من صغيرٍ ** ومن شيخِ أضَرَّ به الفَنَاءُ ) ( فراخَ دجاجةٍ يتبعن ديكاً **
يلُذْنَ به إذا حَمِسَ الوغاءُ ) وقال الآخر : ( أحبُّ إلينا من فراخ
دجاجة ** ومن ديك أنباط تنوسُ غَباغبهْ )
وإذا سمَّي أهل البصرة إنساناً بغيل فأرادوا تصغيره قالوا فِيلويه كما يجعلون عمراً عَمرويه ومحمداً حمدويه .
وكان محمد بن إبراهيم الرّافقي الفارسُ النَّجيد قتيل نصر بن شَبث مولى
بني نصر بن معاوية له كنيتان : أبو الفيل وأبو جعفر ولم يكن بالجزيرة
أفْرَسُ من داود بن عيسى وأبي الفيل وعيسى بن منصور من ساكني الرافقة .
حمل الفيل وعمره
وذَكرَ بعضُ الفيَّالين أنّ الفِيَلة تضعُ لِسبع سنينَ ولداً مستويَ الأسنان وأنهم يرصدون ذلك الوقتَ من الوحشية منها ويحتالون في أخذ الولد وأن ذلك الولدَ يعيش في أيديهم ما بين الثمانين سنةً إلى المائة وأنّ عُمر الوحشية أطولُ .وأنّ كلَّ شيءٍ منها اليومَ بالعَسْكر إناث وأَنّ الموتَ بالعراق إلى الذُّكورة أسرعْ وأنَّ نابَه لا يطول عندنا وأنَّهم يَعْملون من جلودها التِّرَسَة أجودَ من جلود الجواميس ومن الخيزُران ومن الدّرق والحَجَف التي تتخذ من جلود الإبل ومن هذه المعقَّبة المطليَّة ومن جميع ما يؤلَّف من أنواع الخشَب والجلودِ التي قد أُطيل إنقاعها في اللَّبن ومن كلِّ تُبَّتيّ وصينيّ .
مروج الفيلة
وذكر أن لها مُروجاً وأن المروج أصلحُ لها من القرى ومواضِعَهَا من الوحش أصلحُ لها من المُروج . فهم الفيل
وذكر رسولٌ ُ لي إلى سائسها أنه قد اتّبعها إلى دجلة وأنّ بعض الغَوغاء
صاح بها : يا حجَّام بابَك وهذا الكلام اليومَ ظاهرٌ على ألسنة الجهَّال
وأن فيلاً منها ركلَه برجله رَكلةً صكَّ بها الحائط حَتَّى خيف عليه منها
وأنه رأى منها الإنكارَ لذلك القول وأنَّ الفيّالَ كان يحثُّها على
الانتقام لَمَّا صاحَ بها .
وإذا عرفَ الكلبُ اسمه وكذلك السنّور
وكذلك الشّاة والفرس والطفل والمجنون المصْمَت الجنون وعرفت النّاقةُ فصْل
ما بين حَلْ وجاهِ وعرَف الحمارُ الصَّوتَ الذي يُلْتَمَسُ به وقوفُه والذي
يلتمس به سيُره وعرف الكلبُ مخاطبةَ الكلاَّب والبَبْغاءِ مناغاةَ
المُكَلِّم له فجائزٌ أن يكون الفيلُ بفضل فِطنته أنْ يفهم أضعافَ ذلك فإذا
أمروه بضرب إنسانٍ عند ضربٍ من الكلام استعاد ذلك وأدامَه لم ينكر أنْ
يعرفَه على طول الترداد .
فائدة نجو الفيل
قالوا : وإذا احتملت المرأة شيئاً من نَجْو الفيل بعد أن يُخْلَطَ به شيءٌ من عسَل فإنها لا تَحبَل أبداً .
قالوا : ومما يؤكِّد ذلك أنّك لو علّقتَ على شجرةٍ من نَجْوه شيئاً إنَّ
تلك الشجرةَ لا تحمِلُ في قالوا : وزواني الهند يفعلن ذلك استبقاءً للطّراء
وللشّباب ولأنها إذا كانت موقوفةً على جميع الأجناس من الرِّجال كانت
أسرَعَ إلى الحبَل لأنها لا تعدَم موافقاً لطبعها وإذا حملت ووضعت مراراً
بطلت .
ضروب من الدواء وليس هذا بعجيب لأنهم يزعمون أنَّ صاحب الحصاة
إذا أَخذَ روثَ الحمار حين يَرُوثه حارّاً فعصرهَ وشرِب ماءَه أنه كثيراً
ما يبول تلك الحصاة وفي ماء روثِ الحمارِ أيضاً دواءٌ للضِّرس المأكول .
وقال الأصمعيّ : سألتُ بعضَ الأكلة ممن كان يقدَّم على مَيْسرة التَّرَّاس
: كيف تصنعُ إذا جَهَدتك الكِظَّة والعرب تقول : إذاً كنت بطيناً فعدِّلْ
نفسَك زَمناً فقال : آخذ روْثَ حمار حارّاً )
فأعصرْه وأشرب ماءه فأختلف عنه مراراً فلا أثبت أنْ يلْحَقَ بطني بصُلْبي فأشتَهي الطّعامَ .
والمرأة من نسائنا اليومَ إذا استُحِيضَت استفَّتْ مثقالاً من الإثمد لأنها عندهن إذا فعلت ذلك لم تَلِد .
وأنا رأيتُ امرأة قد فعلتْ ذلك ثم ولدت .
وخُرء الكلب إذا كان الجعرُ أبيضَ اللَّوْن وكان غذاءُ الكلب العظامَ دون
اللحم فهو عجيبٌ وخرء الفار يكون شِيافاً للصِّبيان يحملونه إذا استوكى
بطنُ أحدهم وإن كان من خرء الجرذان وكان عظيماً كان الواحد منه هو الشِّياف
.
ويصلح أيضاً خُرْء الفار لداء الثَّعلب وهو القَرَع الذي يعرض لشَعر الرَّأس .
وخرء الحمام الأحمر يصلحُ من المَبْوَلات للرَّمْل والحصَى يُقمَحُ منه وزن درهم مع مثله من الدَّارصيني .
شعر في الفيل
وقال بعض المُحْدَثين : ( يا لحيةً طالت على نَوكها ** كأنها لحيةُ جِبريلِ )( لوْ كانَ ما ينصَبُّ من مائها ** نَهْراً إذا طمَّ على النِّيلِ ) ( أو كان ما يقطر من دهنها ** كَيْلاً لَوَفَّى ألفَ قِنديلِ ) ( فلو ترَاها وهي قد سُرّحَتْ ** حسبْتَها بَنداً على فيلِ ) وأنشد أبو عمرو الشيبانيّ لبعض المولّدين : ( إذا تلاقَى الفُيولُ وازدحَمتْ ** فكيفَ حالُ البَعوضِ في الوَسَطِ ) ( وما الفِيلُ أحمِلُه مُوقَرا ** رَصاصاً بأثْقَلَ من معْبَد ) ( ولا قِرْمليٌّ عليه الغَبيطُ ** ينوء بِعِدْلَين من إثمِدِ ) ( وجاموسةٍ أُوقِرَتْ زِئبقاً ** بأثْقَلَ منه ولا أنْكَدِ ) وقال آخر : ( بابٌ يرى ليس له داخلٌ ** إلاّ خِراً جُمِّع في الزَّاويهْ ) ( إن جئت فالفيلُ على هامتي ** ومثله نِيطَ بأوصالِيهْ ) ووصف مرَّة بن مَحْكَان قِدراً فقال : )
( تَرمي الصُّلاةَ بنبْلٍ غير طائشةٍ ** وَفْقاً إذا آنست من تَحِتها لهبا ) ( زيَّافة مثل جوفُ الفِيل مُجفَرة ** لو يُقذَف الرَّأْلُ في حيزومها ذَهَبا ) وقال بعض الأكرِياء في امرأة كان حَملَها : ( بيضاء من رُفقةِ عِمْرَانَ الأصمّ ** لا ثَعلٌ في سِنَّها ولا قَصَمْ ) ( بَهْكنَة لو تركب الفيلَ رَزَمْ ** كأنَّها يوم تُوافي بالحرمْ ) غمَامَةٌ غرَّاءُ عَنْ غِبِّ رِهَمْ وقال رؤبةُ بن العجَّاج :
( سقط : بيت الشعر ) ( إن الردافى والكرى الأرقبا ** يكفيك درء الفيل حتى تركبا ) ثم قال : ( يشقى بي الغيرانُ حَتّى أُحْسَبا ** سِيداً مُغِيراً أو لياحاً مُغْرَبا )
ما ورد في شأن الفيل من الأمثال في كليلة ودمنة
ومما قرأه الناسُ من الأمثال في شأن الفيل التي وجدوها في كتاب كليلة ودمنة فمن ذلك قوله : أفَلاَ تَرَى أنَّ الكلب يُبصبصُ بذنبَه مِراراً حتى تُلقَى له الكِسرة وإنّ الفيلَ المغتِلم لَيعرِف قوّتَه وفضله فإذا قُدِّمَ إليه عَلَفه مُكَرّماً لم يأكلْ حتى يُمَسح ويُتملّق .
قال : وقيل
في أعماله ثلاثة لا يستطيعها أحدٌ إلا بمعونةٍ من ارتفاع هِمة وعظيم خطر
منها عملُ السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدوّ وقالت العلماء في الرَّجُل
الفاضل الرشيد : إنّه لا ينبغي أن يُرَى إلا في مكانَين ولا يليق به غيرهما
إمَّا مع الملوك مُكرَّماً وإمَّا مع النُّسَّاك متبتِّلاً كالفيل إنما
بهاؤه وجماله في مكانَين : إمَّا في برّية وحشيّاً وإما مَرْكَباً للمُلوك .
قال : وقد قيل في أشياء ثلاثةٍ فضْلُ ما بينها متفاوِت : فضل المقاتل
على المُقاتل وفضل الفيلِ على الفيلِ وفضل العالم على العالم .
وقال
في كلام آخر : فإن لم تنجَع الحيلة فهو إذاً القَدَرُ الذي لا يُدفع فإنَّ
القدرَ هو الذي يسلب الأسَدَ قوَّتَه حَتى يُدْخِله التَّابُوت وهو الذي
يَحمِل الرَّجُل الضَّعيف على ظهر الفيل المغتلِم وهو الذي يسلِّط الحوّاء
على الحَيَّة ذات الحُمَة فينزِعُ حمتَها ويلعبُ بها .
قال :
ومَن لم يرضَ من الدُّنيا بالكفَاف الذي يُغْنيه وطمحت عيناه إلى ما فوق
ذلك ولم ينظر إلى ما يتخوّف أمامه كان مثله مثل الذباب الذي ليس يرضى
بالشجر والرياحين حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل المغتلم فيضربه
بأُذنهِ فيهلك . )
وقال : فأقام الجملُ مع الأسد حَتى إذا كان ذاتَ
يوم توجّه الأسد نحو الصيد فلقيَه فيلٌ فقاتلَه قتالاً شديداً وأفلَتَ
الأسد مُثْقَلاً يسيل دماً قد جرحه الفيل بأنيابه فكان لايستطيع أن يطلُبَ
صيداً فلبث الذئبُ والغرابُ وابن آوى أياماً لا يجدون ما يعيشون به من فضول
الأسد .
وقال : وكيف يرجو إخوانُك عندك وفاءً وكرَماً وأنتَ قد
صَنَعت بملكك الذي كَرَّمك وشَرَّفك ما صَنعتَ بل مَثلُك في ذلك كما قال
التاجر : إنَّ أرضاً يأكلُ جُِرذانها مائة مَنٍّ من حديد غيرُ مستنكَر أن
تخطِف بُزاتها الفِيَلة .
قال : وقال الجرذُ للغراب : أشد
العداوةِ عداوة الجوهر وعداوةُ الجوهر عداوتان منها عداوة متجازَية كعداوة
الفيل والأسد فإنّه ربَّما قتل الفيلُ الأسد وربَّما قتل الأسدُ الفيل
ومنها عداوة إنما ضرَرُها من أحد الجانبين على الآخر كعداوة ما بيني وبين
السنّور فإنّ العداوة بيننا وقال : إن الكريم إذا عَثَر لم يستعنْ إلا
بالكريم كالفيل إذا وَحِل لم يستخرجْه إلا الفيلة .
ضروب العداوات
وسنذكرُ عداوة الشيطان للإنسانِ والإنسان للشَّيطان وهما عداوتان مختلفتان
وعداوة اللّه للكافر وعداوة الكافر للّه وهاتان العداوتان غير تينك وهما في
أنفسهما مختلفتان وهما والتي قبلها مخالفة لعداوة العقرب للإنسان وعداوةُ
العقرب مخالفةٌ لعداوة الحيَّة وعداوة الإنسان لهما مخالفة لعداوة كلٍّ
منهما للإنسان وعداوة الذئب والأسد
والأسد والإنسان خلاف عداوة
العقرب والحية وعداوة النمر للأسد والأسد للنمر مخالفةٌ لجميع ما وصفنا
ومسالمة البَبر للأسد غير مسالمة الخنفساء والعقرب وشأن الحيات والوزغِ
خلافُ شأنِ الخنافس والعقارب وعداوة الإنسان خلافُ عداوة ذلك كلِّه وابن
عِرْس أشدُّ عداوة للجُرذان من السنَّور وعداوةُ البعير للبعير والبرذون
للبرذون والحمار للحمار شكل واحد وعداوة الذِّئب خلاف ذلك والشَّاةُ أشدُّ
فَرَقاً منه منها من الأسد والنمر والببر وهي أقوى عليها من الذِّئب وفَرَق
الدَّجاج من ابن آوى أشدُّ من فَرَقها من الثَّعلب والحمام أشدُّ فرَقاً
من الشاهين منه من الصَّقر والبازي .
عداوات الناس وأسباب عداوات
النَّاس ضروبٌ : منها المشاكلة في الصناعة ومنها التقارُب في الجِوار ومنها
التقارب في النَّسب والكثرة مِن أسباب التّقاطع في العشيرة والقبيلة
والسَّاكن عدو للمُسْكِن والفقير عدوٌّ للغني وكذلك الماشي والراكب وكذلك
الفحل والخصيّ و بَغْضاء السُّوَق موصولةٌ )
بالملوك وكذلك المعتق عن دُبُر والموصَى له بالمال الرغيب وكذلك الوارث والموروث ولجميع هذا تفسيرٌ ولكنه يطول .
عداوات الحيوان وذكر صاحب المنطق عداوةَ الغرابِ للحمار والنَّحويون
ينشدون في ذلك قولَ الشَّاعر : ( عاديتنَا لا زِلْتَ في تَبابِ **
عَدَاوَةَ الْحِمارِ للغُرَابِ ) ولا أدري من أينَ وقعَ هذا إليهم .
وذكر أيضاً عداوة البُوم للغراب وكذلك عصفور الشَّوك للحمار وفي هذا كلامٌ كثيرٌ قد ذكرنا بعضه في أوَّل كتابنا هذا من الحيوان .
رجع إلى الأمثال في كليلة ودمنة ثم رجعنا إلى الإخبار عن الأمثال .
قال : وأكيس الأقوام مَن لا يلتمس الأمرِ بالقتال ما وجد عن القِتال مذْهباً فإن القتال إنما النفقة فيه من الأنفس
وسائر الأشياء إنما النَّفقة فيها من الأموال فلا يكوننَّ قتال البوم من
رأيك فإنّ قال : فأجابه الجرذ فقال : إنّه رُبَّ عداوةٍ باطنةٍ ظاهرُها
صداقة وهي أشدُّ ضَرَراً من العداوة الظاهرة ومن لم يَحترسْ منها وقعَ
موقِعَ الرَّجُلِ الذي يَركب نابَ الفيل المغْتَلِم ثمَّ يغلبُه النُّعاس .
قال : واعلم أَنَّ كثيراً من العَدوّ لا يستطاع بالشدَّة والمكابرة
حتى يُصادَ بالرِّفق والملاينة كما يصاد الفيل الوحشيُّ بالفيل الأهليّ .
وقال : إنّ العُشب كما رأيتَ في اللِّينِ والضَّعف وقد يُجْمَعُ منه
الكثيرُ فيصنع منه الحبلُ القويُّ الذي يوثق به الفيل المغتلم .
قال : وقالوا : نريد أحبَّ بَنيك إليك وأكرمهم عليك
ونريد كالَ الكاتبَ صاحبَ سرِّك والسيف الذي لا يوجد مثله والفيلَ الأبيضَ الذي لا تلحقه الخيلُ الذي هو مَركبكَ في القتال ونريد الفيلين العظيمين اللذين يكونان مع الفيل الذَّكَر .
الفيلة في الحروب
وقد سمعنا في هذا الحديثِ والإخبار عن أيام القادسيَّة ويوم جسر مِهْرَان وقُسِّ النَّاطف وجَلولاء ويوم نَهاونَد بالفيل الأبقع والفيل الأسود والفيل الأبيض والناس لم يَرَوْا بالعراق فِيلاً أوبَرَ ولا فيلاً أشْعَرَ . الفيلة المستأنسة
والفيلة التي كانت مع الفرس حُكمُها حكمُ الفِيَلة التي كانت عند أمير
المؤمنين المنصور وعند سائر الخلفاءِ من بَعدِه وكلها جُردٌ مُغَضّبة ولم
نلْقَ أحداً رآها وحشيَّةً قبل أن تصير في القُرَى والمواضع التي يذكرها .
تبدل حال الحيوان إذا أخرج من موطنه وقد علمنا أنّ الطائر الصَّيود من
الجوارح لو أقام في بلاده مائة عام لم يحدُثْ لمنسره زوائد وعَيْرَ العانة
إذا أقام في غيرِ بلاده احتاجَ إلى الأخذ من حافره و إلى أن يُخْتَلَف به
إلى البَيطار والطائر الوحشيّ من هذه المغنِّيات والنوائح لو أقام عندنا
دهراً طويلاً لم يُصوِّتْ إذا أخذناه وقد كُرِّز وكذلك المزاوجة والتعشيش
والتَّفريخ .
التكاثر بالفيلة
قال : وكلُّ مَلكٍ كان يصلُ إلى أن تكون عنده فِى َلة فإنّه كان لا يَدَعُ الاستكثار منها والتجمل بها والتَّهويل بمكانها عنده ولا يَدَعُ ركوبَها في الحروب وفي الأعياد وفي يوم الزِّينة .الفيل في الشعر
وقد كانت عند حِمير والتبابعة والمقَاول والعباهلة من ملوكهم وأبي اليكسوم من ملوك الحبشة وعند ملوك سبأ مقرَّبة مكرَّمة يدلّ على ذلك الأشعارُ المعروفة والأخبار الصحيحة ألا ترى أن الأعشى ذكر مأرِب وملوك سَبأ وسَيلَ العرِم فقال :( ففي ذاك للمؤتسي أُسْوَةٌ ** ومأرِبُ عَفَّى عليها العَرِمْ ) ( رخَامٌ بنَتْه له حِمْيَرٌ ** إذا جاء ماؤُهُمُ لم يَرِمْ ) ( فأروى الحروثَ وأعنابَها ** على ساعة ماؤهم قد قُسِمْ ) ( وطار الفُيُولُ وفَيَّالُها ** بتَيْهَاءَ فيها سَرابٌ يَطمّ ) وكان الأقيبِل القينيّ مع الحجاج يقاتل ابنَ الزُّبير فلما رأى البيتَ يُرْمَى بالمنجنيق أنشأ يقول : ( ولم أَرَ جَيْشاً غُرَّ بالحجِّ قبلنا ** ولم أرَ جيْشاً مِثْلَنَا كلُّهم خرسُ ) ( دَلَفْنَا لِبَيْتِ اللّهِ نَرْمِي سُتُورَه ** بأحجارِنَا نَهْبَ الولائد للعُرْسِ ) ( دَلَفْنَا لهمْ يَوْمَ الثلاثاءِ مِنْ مِنًى ** بجيش كصَدْرِ الفيلِ ليس له رأسُ ) فلما فزِعَ وعاذ بقبر مروان وكتبَ له عبدُ الملك كتابا إلى الحجَّاج يخبره فيه وفوَّض الأمرَ إليه قال :
( وقد علمتُ لو انَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُني ** أَنَّ انْطِلاَقِي إلى الحجَّاج تغريرُ ) ( مُستَحْقِباً صُحُفاً تَدْمَى طَوَابعُها ** وفي الصَّحائِفِ حَيَّاتٌ مَناكيرُ )
لسان الفيل
وكلُّ حيوانٍ في الأرض ذو لسانٍ فأصْلُ لسانِه إلى داخل وطرفه إلى خارج إلاّ الفيل فإنّ طَرَف لسانه إلى داخل وأصله إلى خارج .بعض خصائص الحيوان وتقول الهند : إنّ لسان الفيل مقلوب ولولا أنّه مقلوب ثمَّ لقن الكلامَ لتكلم .
وكلُّ سمكٍ يكون في الماء العذْب فإنّ له لساناً ودِماغاً إلاّ ما كان منها في الماء الملح فإنّه ليس لسمك البحر لسانٌ ولا دِماغ .
وكلُّ شيءٍ يأكل بالمضغ دون الابتلاع فإنّه إنما يحرِّك فكه الأسفلَ إلاّ التمساح فإنَّه إنّما يحرِّك فكّه الأعلى .
وكلُّ ذي عينٍ من ذوات الأربع من السِّباع والبهائم الوحشية والأهلية فإنما الأشفار لجفونها الأعالي إلاّ الإنسان فإنّ الأشفار للأعالي والأسافل .
وكلُّ حيوانٍ ذي صَدْرٍ فإنَّه ضيِّق الصَّدْر إلاّ الإنسانَ فإنّه واسعُ الصَّدْر
وليس لشيء من ذكورةِ جميع الحيوان وإناثها ثديٌ في صدره إلا الإنسان والفيل وقال ابن مُقبل :
ضخم الفيل وظرفه
والفيل أضخم الحيوان وهو مع ضِخَمه أملَحُ وأظْرَف وأحْكَى وهو يفوق في ذلك كلَّ خفيفِ الجسم رشيق الطبيعة .وإنّما الحكاية من جميع الحيوان في الكلب والقِرد والدُّبّ والشّاة المكّيّة وليس عند البَبْغاء إلاّ حكايةُ صورِ الأصوات فصار مع غِلظه وضِخَمه وفخامته أرشقَ مَذهباً وأدقَّ ظرفاً وأظهَرَ طرَباً وهذا من أعجب العَجَب وما ظنُّكم بِعِظَم خَلْقٍ ربّما كان في نَابَيْهِ أكثر من ثلاثمائة مَنّ
أعظم الحيوان في قول المتعصبين على الفيل
فقال من يعارضهُم : قد أجمعوا على أنّ أعظمَ الحيوان خَلْقاً السمكةُ والسرَطان وحكَوْا عن عِظَم بعض الحيَّات حتى ألحقوه بهما وأكثروا في تعظيم شأن التّنّين فليس لكم أنْ تَدَّعُوا للفِيل ما ادّعيتم .رد صاحب الفيل على خصمه
قال صاحبُ الهند والمعبِّرُ عن خصال الفيل : أمَّا الفيل وعلوّ سَمْكه وعِظم جُفْرته واتِّساع صَهْوَته وطولُ خُرطومه وسعَةُ أذنه وكِبر غُرموله مع خِفّة وطئه وطول عُمره وثقل حمله وقلة اكتراثهِ لِما وُضع على ظهره فقد عايَنَ ذلك من الجماعات مَن لا يستطيعُ الردَّ عليها إلاّ جاهلٌ أو مُعاند وأمَّا ما ادّعيتم من عِظَم الحيَّة وأنّا متى مسَحْنا طولَها وثخنها وأخذْنا وَزْنَها كانت أكثرَ من الفيل فإنّا لم نَسْمَعْ هذا إلا في أحاديث الرقّائين وأكاذيب الحوّائين وتزيُّد البحريِّين .وأما التنِّين فإنّما سبيلُ الإيمان به سبيلُ الإيمان بِعَنْقَاءِ مُغْرِب وما رأيتُ مجلِساً قطُّ جَرَى فيه ذكر التنِّين إلاَّ وهم ينكرونه
ويكذِّبون
المُخبِر عنه إلاّ أنا في الفَرْط ربَّما رأينا بعضَ الشاميِّين يزعمُ أنَّ
التِّنِّين إعصارٌ فيه نار يخرج من قِبَل البحر في بعض الزَّمان فلا يمرُّ
بشيءٍ إلاَّ أحرَقه فسمَّى ذلك ناسٌ التِّنّين ثمَّ جعَلوه في صورة حيّة .
وأما السَّرَطان فلم نرَ أحداً قط ذكرَ أنَّه عايَنَه فإنْ كنَّا إلى
قول بعض البحريِّين نرجع فقد زَعَم هؤلاء أنَّهم ربما قَرُبوا إلى بعض
جزائر البحر وفيها الغِياض والأَودية واللَّخَاقيق وأنَّهمْ في بعض ذلك
أوقدُوا ناراً عظيمة فلما وصلَتْ إلى ظهر السرطان هَاجَ بهم وبكلِّ ما عليه
من النَّبات حتَّى لم ينْجُ منهم إلا الشريد . )
وهذا الحديثُ قد طمَّ على الخرافات والتُّرَّهات وحديث الخَلْوَة .
وأمّا السَّمك فلعمري إنَّ السمكة التي يقال لها البالُ لفاحشةَ العظم وقد عاينوا ذلك عياناً وقتلوه يقيناً ولكن أحَسِبوا أَنَّ
الشَّأن في البال على ما ذكرتم فهل علمتم أن فيه من الحسِّ والمعرفة
واللّقَن والحكاية والطَّرَبِ وحسن المَواتاة وشدَّة القتال والتمهُّد تحتَ
الملوك وغير ذلك من الخصال كما وجدنا ذلك وأكثر منه في الفيل .
وهل
رغبتْ في صيده الملوكُ واحتالت له التجار أو تمنَّى الظّفَرَ بأجزائه بعض
الأطبَّاء وهل يَصلح لدواءٍ أو غذاءٍ أو لبْس إنّما غاية البحريِّين أنْ
يسلَمُوا من عبثه إن هجموا عليه نائماً أو غافلاً حتّى ينفر ويفزع وينبّه
بقَرْع العصا واصطكاك الخشب .
وإنما قَدَّمْنا خصالَ الفيل على خِصال
الحيوان الذي في كفِّه ومنقاره الصنعةُ العجيبة أو يَكون فيه من طريف
المعرفة وغريب الحس وثقوب البصر أَو بعض ما فيه من الجمال والحُسْن ومن
التفاريج ومن التَّحاسين والوشي والتلاوين بالتأليف العجيب والتَّنضيد
الغريب أو بعض ما في حنجرته من الأصوات الملحَّنة والمخارج الموزونة
والأغاني الدَّاخلة في الإيقاع الخارجة من سبيل الخطأ ممَّا يجمع الطَّرَب
والشّجا ومما يفوق النوائح ويروق كلَّ مغنّ حتى يُضرب بحسن تخريجه وصفاء
صوتِه وشجَا مخرَجه المثلُ حتى يشبَّه به صوتُ المزمار والوَتر .
وأما
بعض ما يُعرف بالمكر والحِيَل والكَيْس والرَّوغان وبالفِطنة وبِالخديعة
والرِّفق والتكسُّب والعلم بما يُعِيشُه والحذَرِ ممّا يُعْطِبُه وتأتِّيه
لذلك وحِذقه به وأمّا بعضُ ما يكون في طريق الثِّقافة يوم الثِّقافة والبصر
بالمشاولة والصَّبر على المطاولة والعزم والرَّوغان والكرِّ والجَوَلان
ووضْع تلك التدابير في مواضعها حتى لا تردُّ له طعنة ولا تخطئ له وثْبة
وأما بعضُ ما يُعرَف بالنَّظر في العاقبة وبإِحكام شأن المعيشة والأخذ
لنفسه بالثقة وبالتقدُّم في حال المُهْلة والادِّخار ليوم الحاجة والأجناسُ
التي تدَّخر لأنفسها ليوم العجْز عن
الطلب والتكسُّب فَمِثْلُ الذَّرَّة والنملة والجُرَذ والفأرة وكنحو العنكبوت والنَّحل .
فإذا كان ليس للفيل إلا عِظَمه وإن كان العِظَم قد يدخل في باب من أبواب
المفاخرة فلا ينبغي لأحد أن يُنَاهِد به الأبدانَ التي لها الخصال الشّريفة
ويناضلَ به ذواتِ المفاخر العظيمة فما ظنُّكَ ببدنٍ قد جمع مع العِظَم من
الخصال الشريفة ما يُفنِي الطَّواميرَ الكثيرة ويستغرق الأَجلاد الواسعة
وقد علمت أنَّ مِنْ جَهْلِ هذه السمكة بما يُعِيشُها ويُصْلِحُها أنَّها
شديدةُ الطّلب والشَّهوة )
لأكل العَنبر والعنبرُ أقتَلُ للبال من الدِّفلَى للدوابّ فإذا أصابوه ميِّتاً استخرجوا من جَوفه عنبراً كثيراً فاسداً .
وما فيه من النفْع إلاّ أنّ دهنَه يصْلُح لتمرينِ سُفن البحريين .
تعصب غانم الهندي على الفيل
فسمِعنِي غانمٌ العبد يوماً وأنا أحكِي هذا الكلامَ وكان منْ أَمْوَق الناس وأرْقَعهم رَقاعةً مع تِيهِ شَدِيدٍ وعُجْب ورِضاً عن نفسه وسُخط على النَّاس فمِن حُمْقه أنه هنديٌّ وهو يتعصَّب على الفيل فقال لي : ما تقول الهند في الحوت الذي يحمل الأرض أليس أعمَّ نفعاً وأعْلَى أمراً قلت له :
يا هالكُ إنَّ مدارَ هذا الكلام إنما يقع على الأقسام الأربعة من بين جميع
الحيوان المذكورة في الماء وفي الأرض وفي الهواء كالذي ينساح من أجناس
الحيَّات والدِّيدان وكالذي يمشي من الدوابّ والنَّاس وكالذي يَطير مِن
أحرار الطير وبغاثها وخَشاشها وهَمَجها وكالذي يعوم كالسَّمك وكلِّ ما
يعايش السمك .
فأمَّا الحوت الذي تكون الأرض على ظهره فقد علمْنا
أَنَّ في الملائكة مَن هو أعظمُ من هذا الحوت مراراً ولولا مكانُ مَن قد
حَضَرَنا لكان ممن لا يستأهِلُ الجواب وهذا مقدارُ معرفته .
قوة الفيل
قالوا : والفيل أقوى مِن جميع الحيوان إنْ حُمِّل الأثْقال ومن قوة عظْمه وعصَبِه أنّه يمرُّ خلفَ القاعد مع عِظَم بَدَنه فلا يشعر بوطئه ولايُحسُّ بممَرِّه لاحتمال بعض بدَنه لبعض وهذه أعجوبةٌ أخرى .وليس في حوامل إناث الحيوان أطولُ مدَّة حبَل من الفيل
والكركَدَّن فإنه مذكورٌ في هذا الباب والفيلُ يزيد عليه في قول بعضهم .
فأمَّا الهِنْدُ ففتنتُهم بالكركدَّن أشدُّ مِن فِتنتهم بالفيل .
فأما ما كان دون ذلك من أجناس الحيوان فأطولُها حملاً الحافر والخفّ ولا
يزيدان على السّنَة إلا أن تُسحَب الأنثى وتُجرَّ أيَّاماً فأمَّا الظِّلف
فعلى ضربين فما كان منها من البقر فإنّ مدَّة حَمْلها وحمل النساء تسعة
أشهر وما كان من الغنم فإنّ حملها خمسةُ أشهر .
وقد ذكرنا حال أجناس الحيوان في ذلك فيما سلف من كتابنا هذا .
صولة الفيل
قالوا : والفيلة هَوْلُها في العين فاحْذَر أنْ تتخذ ظهورها كالمناظر والمسالح والأرصاد .وللفيل قتالٌ وضرب بخرطومه وخَبْطٌ بقوائمه وكانت الأكاسرة ربما قتلت الرَّجلَ بوَطْءِ الفيلة وكانت قد درّبت على ذلك وعُلِّمَتْه فإذا أَلقوا إليها الرّجل تركت العلَف وقصدَتْ نحوه فداسَتْه ولذلك أنشد
العباس بن يعقوب العامريّ لناهِض بن ثومة العامري قوله : ( أنا الشَّاعرُ الخطَّارُ مِن دون عامرٍ ** وذو الضَّغْم إذْ بعضُ المحامِين ناهشُ ) وأنشد الأصمعي وأبو عمرو لتميم بن مقبل : ( بني عامرٍ ما تأمُرُون بشاعر ** تَخَيَّرَ آياتِ الكتاب هِجائيا ) ( أأعفُو كما يعفُو الكريمُ فإنّني ** أرَى الشَّعب فيما بينَنا متدانِيا ) ( أمَ اخْبِطُ خبْطَ الفيل هامةَ رَأسِه ** بِجَرْدٍ فلا أُبقي مِن الرأس باقيا ) بعض من رمي تحت أرجل الفيلة وكانت الأكاسرة وهي الكُسُور تؤدِّبها وتعوِّدها وطْءَ الناس وخَبْطهم إذا أُلقِيَ تحت قوائمها بعض أهلِ الجنايات فكان ممنْ رُمِيَ
به تحتَ أرجل الفِيَلة النُّعمان بن المنذر وقال في ذلك الشاعر : ) ( إنّ ذا التّاجِ لا أبا لَكَ أضْحَى ** وَذرَى بَيْتِهِ بِجَوْزِ الفُيُولِ ) ( إِنّ كِسْرَى عَدَا على الملك النُّعْ ** مَانِ حَتَّى سقاه أمَّ البَليلِ ) كتاب ملك الصين وذكر الهيثم بن عديٍّ عن أبي يعقوب الثَّقفيّ عن عبد الملك بن عمير قال : رأيت في ديوان معاوية بعد موته كتاباً مِنْ ملك الصين فيه : من ملك الصِّين الذي على مَرْبِطه ألفُ فيل وبُنيت دارُه بلبِن الذهب والفضة والذي تخدمه بناتُ ألفِ ملكٍ والذي له نهرانِ يسقيان الألُوّة إلى قالوا : ولمَّا أراد كِسرى قتلَ زيوشت المغنِّي لقتله فهلبذ المغني وأمر أن يرمى به تحت الفيلة وقال : قتلتَ أحسنَ النّاس غِنَاءً وأجودَهم إمتاعاً للملِك حسداً له فلمّا سحبوه نحوالفيلة التفت إلى كسرى وقال : إذا قتلتُ زيوشت المُغني وقد قتل زيوشت فهلبذ فمن يُطربك فقال كسرى : المدة التي بقيت لك هي التي أنطقَتْكَ خلُّوا سبيله .
تأديب الهند الفيلة
وقال صفوان بن صفوان الأنصاريّ وكان عند داود بن يزيد بالمولتان : الهند تؤدّب الفيلة بأنواع من التّأديب وبضروب من التقويم فمنها آدابُ الحروب حتى ربَّما رَبَطُوا السَّيف الهُذَام الرَّغيب الشَّديد المتن الحديد الغَرْب التّام الطول الطَّويل السِّيلان في طرَف خُرطوم الفيل وعلموه كيف يضرب به قُدُماً يميناً وشمالاً وكيف يرفعُه بخرطومه حتى يكونَ فوقَ رؤوس الفَيَّالين القعودِ على ظهره .شعر هارون في الفيل
قال : وأنشدني هارون بن فلان المولى مولى الأزد قصيدته التي ذكر فيها خروجَه في الحرب إلى فيلٍ في هذه الصفة فمشَى إليه فلما كان حيثُ ينالُه السَّيفُ وثَبَ وَثْبَةً أعجَلَه بها عن الضَّربة ولصق بصدْر الفيل وتعلّق بأُصول نابَيه وهما عندهم قرناه فجال به الفيلُجوْلة كاد يحطِمُه مِن شدَّة ما جال به وكان رجلاً شدِيد الخَلْق رابط الجأش قال : فاعتمدتُ وأنا في تلك الحال وأصولُ الأنياب جُوف فانقلعا من أصلِهما وأدبَرَ الفيلُ وصار القرنان في يَدَيَّ وكانت الهزيمة وغَنِم المسلمون غنائمَ كثيرة وقلت في ذلك : ( مشيتُ إليه وادعاً متمهِّلا ** وقد وصَلُوا خُرطومَه بحُسَامِ ) ( فقلتُ لِنفسي : إنّه الفيلُ ضاربٌ ** بأبيضَ مِن ماءِ الحديد هُذَامِ ) ( فإنْ تَنْكلي عنْه فعذْرُكِ واضحٌ ** لَدَى كلِّ منخُوب الفُؤَادِ عَبامِ ) ( وعندَ شُجاع القومِ أكلفُ فاحمٌ ** كظُلمة لَيْلٍ جُلِّلت بقَتامِ ) ( ولما رأيتُ السيفَ في رأسِ هضبةٍ ** كما لاحَ برقٌ من خلالِ غمامِ ) ( فناهَشْتُه حَتى لَصِقتُ بصدْره ** فلما هوى لازَمْتُ أيَّ لِزامِ ) ( وَعذْتُ بِقَرْنَيْهِ أُرِيدُ لَبَانَهُ ** وذلك مِن عاداتِ كلِّ محامِي ) ( فجَال وهِجِّيراهُ صوتُ مُخَضْرَمٍ ** وَأُبْتُ بقرْنَيْ يَذبُلٍ وشَمامِ ) وقال هارون : ( ولمَّا أتاني أنّهُم يَعقِدُونه ** بقائمِ سَيفٍ فاضِل الطُّول والعَرضِ )
( وحين رأيتُ السَّيفَ يَهْتَزُّ قائِماً ** ويَلمَعُ لَمْعَ الصُّبْح بالبَلَدِ المفْضِي ) ( وصارَ كمِخراقٍ بِكَفِّ حَزَوَّرٍ ** يُصَرِّفه في الرَّفْع طوراً وفي الخَفْضِِ ) ( فأقبلَ يَفْري كلَّ شيءٍ سَما لَهُ ** وصرتُ كأَنِّي فَوقَ مَزْلقَةٍ دَحْضِ ) ( وأهوي لجارِي فاغتنمْتُ ذُهولهُ ** فلاذَ بقرنيه أخو ثقةٍ محضِ ) ( فجال وجَالَ القَرْن في كفِّ ماجدٍ ** كثيرِ مِراسِ الحرب مجتنبِ الخفْضِ ) ( فطاحَ وَوَلّى هارباً لا يَهيده ** رطانةُ هِنديٍّ برفعٍ ولا خفضِ )
نابا الفيل
والهندُ تزعمُ أنّ نابَي الفِيل يخرجان مستبطِنين حتى يخرِقا الحنك ويخرجا أعقَفين وإنما يجعَلهما نابين مَن لا يفهمُ الأمور قالوا : والدَّليل على ذلك أنّ لهما أصلين في موضع مخارج القرون يُوجَد ذلك عند سَلْخ جلده ولأنّ القرن لا يكون إلاّ مصْمت الأعلى مجوَّف الأسفل وكذلك صفةُ هذا الذي يسمِّيه مَن لا علم له ناباً ومع ذلك إنّا لا نجد الفيل يعضّ كعضِّ الأسد للأكل ولا كعضِّ الجمل الصَّؤُول للقتل ولا كعضِّ الأفعى لإخراج السمّ ولا تراه يصنع به ويستعمله إلاّ على شبيهٍ بما تستعمله ذوات القرن عند القِتال والغضب .
فقال لهم بعضُ من يردُّ عليهم : أمَّا قولكم إنّ القرنَ لا يكون إلاّ
مجوَّفَ الأصل فهذا قرنُ الأيِّل مُصمَت من أوَّله إلى آخره وهو ينصل في
كلِّ سنة فإذا نبتَ حديثاً لم يظهَرْ حتى يستحكِم في يُبسه وصَلابته وإذا
علم أنه قد بلغ ذلك ظهَرَ وأكثرُ القُرُونِ الجُوفِ يكون في أجوافها قرونٌ
وليس ذلك لقرن الفِيل .
قالوا : ولم نجد هذا القرنَ في لون القُرون ووجدناه بسائر أسنانه وأضراسه أشبهَ للبياض واليبس وليس كذلك صفةُ القرون .
وتقول الهند : فم الأيِّل صغير وهو أفقَم ولا يجوز أن يكون مثلُ ذلك
اللَّحي والفكِّ ينبُتُ فيه ومنه نابان يكون فيهما ثلاثمائة مَنّ وقد رأيتُ
قروناً كثيرة الأجناس بِيضاً وبُرْشاً وصُهْباً وهذه أيضاً من أعاجيب
الفيل .
وقرن الكركَدَّن أغلظُ من مقدار ذراع وليس طولُه على قدر غِلَظه وهو أصلب وأكرم مِن قرني الفيل .
أعضاء التناسل لدى الحيوان ويقال : إنّ أكبر أُيور الحيوان أيْر الفيل
وأصغَرَها قضيبُ الظبي وقضيب البطّ لا يذكر مع هذه الأشكال وليس شيءٌ على
قَدْره ومقدار جسمه أعظمُ أيراً من البغل .
وقد علمنا أنّ للضب أيرَين وكذلك الحِرذَون والسَّقَنْقُور وعرفنا مقدارَ ذلك ولكنَّه لا يدخل في هذا الباب لضَعفٍ لا يخفَى .
خرطوم الفيل
ولو لم يكن من أعاجيب الفيل إلاّ خرطومُه الذي هو أنفه وهو يدُه وبه يوصِل الطعامَ والشَّرَابَ إلى جوفه وهو شيءٌ بَيْنَ الغُضروف واللحم والعصبِ وبه يقاتِل ويضرِب ومنه يصيح وليس صياحُه في مقدارِ جرْم بدنه ويضرِبُ به الأرضَ ويرفعِه في السَّماء ويصرِّفه كيف شاء وهو مَقتلٌ من مقاتله والهند تربِط في طرَفه سيفاً شديدَ المتْن فيقاتِلُ به مع ما في ذلك من التهويل على من عايَنه .
سباحة الفيل والجاموس والبعير
وهو مع عِظم بدَنه جيِّد السِّباحة إلاّ أنه يخرج خرطومه ويرفعُه في الهواء صُعُداً لأنّه أنفه ألا ترى أنّ الجاموسَ يغيب جميعُ بدنِه في الماء إلاّ منخريه .والبعير قبيح السِّباحة : لأنه لا يسبح إلاَّ على جنبه فهو في ذلك بطيءٌ ثقيل والبعير مما يُخايَر بينه وبين الفيل فلذلك ذكرناه .
وقد علمنا أنَّ الإنسان يغرق في الماءِ ما لم يتعلَّم السِّباحة فأمّا الفَرس الأعسرُ والقِرد فإنَّهما يغرقان البتَّة والعقرب تقُومُ وسطَ الماءِ لا طافيةً ولا لازقة بالأرض .
أشراف السباع وساداتها وأشراف السِّباع وساداتها وكبارها ورؤساؤها ثلاثة : الكَرْكدَّن والفِيل والجاموس قال : ولعلَّ بعضَ مَن اعتاد الاعتراض على الكتب
يقول : وأينَ الخيل
والإبل وفيها من خصال الشَّرَف والمنافع والغَناء في السَّفر والحَضَر وفي
الحرْب والسّلم وفي الزِّينة والبهاء وفي العُدَّة والعتاد ما ليس عند
الكركدَّنِ ولا عندَ الفيل ولا عند الجاموس .
قال القوم : ليس إلى هذا
الباب ذَهبْنا ولا إليه قصدنَا ولا ذلك البابُ ممَّا يجوز أَن نُدخله في
هذا الباب ولكنَّا ذَهبْنا إلى المحاماة والدَّفع عن الأنفس والقتال دون
الأولاد وإلى الامتناع من الأضداد بالحيلة اللطيفة وبالبطش الشديد وليس عند
الخيل والإبل إذا صافت الأُسد والنُّمور والبُبُور ما عند الجاموس والفِيل
فأمّا الكركَدَّن فإن كلَّ شيء من الحيوان يقصِّر عن غايته التقصيرَ
الفاحش .
إنكار الكركدن والعنقاء وما أكثر مَن ينكر أن يكون في الدنيا حيوانٌ يسمّى الكَرْكدَّن ويزعمون أنَّ هذا وعَنْقاءَ مُغْرِِبٍ )
سواء وإنْ كانوا يرون صُورة العَنقاء مصوَّرَةً في بُسُط الملوك واسمها
عندهم بالفارسيَّة سِيمَرْكْ كأنه قال : هو وحدَه ثلاثون طائراً لأنَّ
قولهم بالفارسية سي هو ثلاثون
بالعربية ومرغ بالفارسيَّة هو الطائر
بالعربية والعرب إذا أخبرت عن هلاك شيءٍ وبطلانه قالت : حلّقت به في الجوِّ
عنقاءُ مغرب وفي بعض الحديث : أنّ بعضَ الأمم سألوا نبيَّهم وقالوا : لن
نؤمن لك حتى تفعل كذا وتفعل كذا أو تلقي في فم العنقاء اللِّجام وتردَّ
اليومَ أمسِ .
شعر في العنقاء قال أبو السّريّ الشُّميطي وهو مَعْدان
المكفوف المديبريّ : ( يا سَمِيّ النبيِّ والصادقَ الوَع ** دِ وَجَدَّ
الصبيِّ ذي الخَلخالِ ) ( صاحب التُّومة التي لم يشِنْها ** بعد حَرْسٍ
مَثاقبُ اللآلِ ) ( مَهَدتْه العنقاءُ وهي عقيمٌ ** رُبَّ مهدٍ يكون فوقَ
الهلالِ )
( يومَ تُصِغي له النَّعامة والأحْنا ** شُ طُرّاً لِشدّة الزَّلزالِ ) فأهل هذه النِّحلةُ يثبتون العنقاءَ ويزعمون أنها عقيم .
وقال زُرارة بن أعْيَن مولى بني أسعد بن همام وهو رئيس الشميطيَّة وذكر
هذا الصبي الذي تكفُله العنقاء فقال : ( ولكنّه ساعَى بأمٍّ وجَدّةٍ **
وقال سَيكفِيني الشقيقُ المقرّبُ ) ( وآخِرُ برهاناتِه قلبُ يومكم **
وإلجامُه العنقاءَ في العين أعجبُ ) ( يَصِيفُ بسَاباطٍ ويشتُو بآمِد **
وذلك سرٌّ لو علمناه معجب ) ( أماعَ له الكِبريتَ والبحرُ جامدٌ **
ومَلَّكَه الأبراجَ والشَّمْسُ تُجْنَبُ ) ( فيومئذٍ قامت شماط بقدرها **
وقام عسِيب القفر يُثْني وَيخْطُبُ ) ( وقام صبيٌّ دَرْدَقٌ في قِماطِهِ **
عليهم بأصناف اللِّسَانَيْنِ مُعْربُ )
====================ج11---------------------------ج11ححححح
ج1111.
كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
فثبّت زرارة بنُ أعيَنَ قولَ أبي السَّرِيِّ في العنقاء وزادنا
تثبيت الكِبريت الأحمر ولا أعلمُ في الأرض قوماً يُثَبِّتون العنقاءَ على
الحقيقة غيرَهم .
الكركدن قال : والذي يثبت الكركَدَّن أن داود النبي صلى الله عليه وسلم
ذكره في الزّبور حتّى سمّاه .
وقد ذكره صاحب المنطق في كتاب الحيوان إلاّ أنه سمَّاه بالْحِمار الهنديّ
وجعل له قرناً واحداً )
في وسْط جبهته وكذلك أجمع عليه أهلُ الهند كبيرُهم وصغيرُهم .
وإنما صار الشكُّ يعرِضُ في أمْرِهِ من قِبَل أنّ الأنثى منها تكون
نَزُوراً وأيام حَمْلها ليست بأقل من أيام حمل الفيلة فلذلك قلَّ عددُ هذا
الجنس .
وتزعم الهندُ أنّ الكركدَّن إذا كانت ببلاد لم يَرْعَ شيءٌ من الحيوان
شيئاً من أكناف تلك البلاد حتى يكونَ بينه وبينها مائةُ فرسَخٍ من جميع
جهات الأرض هيبةً له وخضوعاً له وهرباً منه .
وقد قالوا في ولَدها وهو في بطنها قولاً لولا أنّه ظاهرٌ على ألسِنَة
الهند لكان أكثرُ النّاس بل كثيرٌ من العلماء يُدْخلونه في باب الخرافة
وذلك أنهم يزعمون أنَّ أيامَ حَمْلها إذا كادت أن تتم وإذا نضجت وسُحِبتْ وجرّت وجرى وقت الولادة فربما أخرجَ الولدُ رأسَه من ظَبْيتها فأكل من أطراف الشجر فإذا شبع أدخَلَ رأسَه حتَّى إذا تمّت أيامُه وضاق به مكانَه وأنكرتْه الرَّحِم وضعَتْه مُطِيقاً قويّاً على الكسب والحُضْر والدفع عن نفسه بل لا يَعْرِضُ له شيءٌ من الحيوان والسِّباع . (
ولد الفيل
وقد زعم صاحبُ المنطق أنّ ولد الفيل يخرُج من بطن أمّه نابت الأسنان لطول لبثه في بطنها .وهذا جائزٌ في ولد الفيل غيرُ مُنكر لأن جماعةَ نساءٍ معروفاتِ الآباء والأبناء قد ولدْنَ أولادَهنَّ ولهم أسنانٌ نابتة كالذي روَوْا في شأن مالك بن أنس ومحمد بن عَجْلان وغيرهما أعاجيب الولادة وقد زعم ناسٌ من أهل البصرة أنَّ خاقانَ بنَ عبد اللّه بن الأهتم استوفى في بطن أُمِّه ثلاثةَ عشر شهراً وقد مُدِح بذلك وهُجِيَ وليس
هذا بالمستنكر وإنْ كنت لم أَرَ قطُّ قابلةً تُقرّ بشيء من هذا
الباب وكذلك الأطبّاء وقد روَوْه كما علمت ولكنَّ العجبَ كلَّ العجَب ما
ذكروا من إخراج ولَد الكركدَّنِ رأسَه واعتلافَه ثم إدخاله رأسَه بعد
الشِّبع والبِطْنة ولا بدَّ أكرمك اللّه لِمَا أكَلَ مِنْ نَجْوٍ فإن كان
بقي ذلك الولدُ يأكل ولا يرُوث فهذا عجبٌ وإن كان يروث في جَوْفها فهذا
أعجب .
وإنما جعلناه يروثُ حيثُ سمَّوه حماراً وهذا ممّا ينبغي لنا أن نذكرَه في
خصال الحمير إذا بلغْنا ذلك الباب .
ولا أُقِرُّ أنّ الولدَ يُخرج رأسه من فرج أمِّه حتى يأكل شبعه ثمَّ يدخل
رأسَه من فَرْج أمِّه )
ولستُ أراه مُحالاً ولا ممتنعاً في القُدرة ولا ممتنعاً في الطبيعة وأرى
جَوازَه مَوْهُوماً غيرَ مستحيل إلاّ أنَّ قلبي ليس يقبلُه وليس في كونه
ظُلْمٌ ولا عَبَثٌ ولا خطأ ولا تقصير في شيء من الصفات المحمودة ولم نجد
القرآنَ يُنكره ولا الإجماعَ يدفعُه واللّه هو القادر دون خَلْقه ولست
أبتُّ بإنكاره وإن كان قلبي شديدَ الميل إلى ردِّه وهذا ممّا لا يعلمه
النَّاسُ بالقياس ولا يعرفونه إلاّ بالعيان الظاهر والخبر المتظاهر .
عجيبة الدساس
وليس الخبر عنهُ مثلَ الخبرِ عن الدَّسَّاس التي تَلِدُ ولا تَبيض وإنما
أنكر ذلك ناسٌ لأنَّ الدَّسّاس ليس بأشرف كالخُفَّاش بل هو من الممسوح
كسائر الطير وكاللواتي يبضْن من ذوات الأربع من المائيَّات والأرضيَّات .
عجائب الدلفين واللُّخم والكوسج وليس الخبر عن الكركدَّن أيضاً كالخبر عن
الدُّلْفين أنَّها تَلِد وعن اللُّخْم مثل ذلك وأنَّ الكَوسج يتولَّد من
بين اللَّخْم وسمكةٍ أخرى وهذا كلُّه غيْرُ مستحيل إلاّ أنِّي لا أجعلُ
الشيءَ الجائزَ كونُه كالشيء الذي تثبِّته الأدلَّة ويخرِجه البرهان من
باب الإنكار والواجبُ في مثل هذا الوقفُ وإن كان القلبُ إلى نقض ذلك
أمْيَل .
والمَيْل أيضاً يكون في طبقات وكذلك الظن قد يكون داخلاً في باب الإيجاب
وربَّما قصَّر عن ذلك شيئاً .
زعم ولادة السمك وقد زعم ناسٌ من أهل العلم أنَّ السَّمَكَ كلَّه يلِد
وأنهم إنما سمَّوْا ذلك الحَبَّ بيضاً على التشبيه والتمثيل لأنّه لا قشر
له هناك ولا مُحّ ولا بَياضَ ولا غِرْقِئَ وأنّ السمكةَ لا تخرج أبداً
إلاَّ فارغةَ الْبَطْنِ أو محشوَّة ولم نر الحَبَّ الذي بقرب مَبالها
أعظمَ ولم نَرها ألقَتْ إحدى تلك الطّوامير وبقّت الأخرى وإنما غلط في ذلك
ناسٌ من قِبَل ضيق السبيل والمَسْلَكَ فظنوا أنّ خرق المبال يضيق عن عِظم
ذلك الجسم العظيم المجتمع من الحبِّ الصغار قالوا : فإنما تُخرج تلك
الطواميرَ واحداً فواحداً وأوّلاً فأولاً .
عجائب الولادة وما ذلك بأعجبَ ولا أضيق من حياء الناقة والسَّقبُ والحائلُ
يخرجان منه خروجاً سَلِساً إذا أذن اللّه بذلك وكذلك المرأة وولدها
والفِيلةُ والجاموسة والرَّمَكةُ والحِجْر والأتان والشاة في )
ذلك كلِّه مثلُ السمكة .
وقالوا : لا بُدَّ للبيض من حَضْن ومتى حَضَنَت السمَكةُ بيضَها لا تلتفت
إلى بيضها وفراخها .
زعم العوام في الكركدن والعوامُّ تضرِبُ المثلَ في الشدّة والقوَّة
بالكركدَّن وتزعم أنه ربما شطحَ الفيل فرفعه بقرنه الواتِد في وسْط
جَبْهته فلا يشعرُ بمكانه ولا يحسّ به حتّى ينقطع على الأيَّام .
وهذا القولُ بالخرافة أشبَه .
مزاعم في ضروب من الحيوان وأعجبُ من القول في ولد الكركدَّن ما يخبرنا به
ناسٌ من أهل النظر والطبّ وقراءة الكتب وذلك أنّهم يزعمون أنّ النمرة لا
تَضَعُ ولدَها أبداً إلاّ وهو متطوِّق بأفعى وأنها تعيش وتنهش إلاّ أنها
لا تقتل ولو كنتُ أجسُر في كتبي على تكذيب العلماء وَدَرَّاسِي الكتب
لبدأت بصاحب هذا الخبر .
وليس هذا عندي كزعمهم أنّ الأفعى تلد وتبيض لأنَّ تأويل ذلك أنَّ الأفعى
تتعضَّلُ ببيضها فإِذا طرَّقتْ بالبيض تلوّت فحطمَتْه في جَوفها ثم ترمي
بتلك القشور والخَرَاشِيّ أَوّلاً فأولاً كما لا بدّ لكلِّ ذات حملٍ أن
تُلْقِيَ مشيمتَها .
ويزعُم كثيرٌ من الأعراب أنّ الكَمْأَة تتعفَّن ويتخلّق منها أفاعي فهذا
الخبرُ وإن كنت لا أتسَرَّعُ إلى ردِّه فإنِّي على أصحابه أَلْيَن كَنفاً
.
قرن الكركدن وأمَّا قَرْن الكَرْكَدَّن فخبَّرَني من رآه ممَّن أثِقُ
بعقْله وأسكن إلى خَبَره أنَّ غِلظَ أصله وسَعة جسمه يكونُ نحواً من
شِبرين وليس طولُه على قدْرِ ثِخَنه وهو محدَّد الرأس شديدُ الملاسة ملموم
الأجزاء مُدْمج ذو لدونةٍ وعُلوكة في صلابة لا يمتنع عليه شيءٌ ويُجهز
مِنْ عِندنا بالبصرة إلى الصين لأنَّه يقع إلينا قبلهم فإذا قطعُوه ظهرت
في مقاطعه صُوَرٌ عجيبة وفيه خصال غير ذلك لها يطلب .
وقد كنا نزعُم أنّ الهواء للعقاب والماء للتمساح والغياض للأسَد حتى زعم
أصحابُنا أنَّ في نيل مصر خُيولاً تأكل التماسيح أكلاً ذريعاً
وتقوى عليها قوة ظاهرة وتغتصِبُها أنفسَها فلا تمتنع عليها
وعارَضوا مَن أنكر خيلَ الماء بخنازير الماء وبكلابِ الماء وبدُخّس الماء
. )
إنقاذ بعض حيوان البحر للغريق ولم أجدْهم يشكُّون أن بعضَ الحيوان الذي
يكون في البحر ممّا ليس بسمك وهو يعايش السمك وقد ذهبَ عنِّي اسمُه أنَّه
متى أبصر غريقاً عَرض له وصار تحت بَطنه وصَدْره فلا يزال كالحامل له
والمُزْجي والمعين حتى يقذفَ به إلى حزيرة أو ساحلٍ أو جبل .
وأصنافُ سمَك البحر وأجناسُ ما يعايش سمكَ البحر لا تكون في أوساط اللُّجج
وفي تلك الأهوَاز العِظام مثل لجَّة سقُوطْرَا وهركند وصنجى وكذلكَ أهلُ
البحرِ إذا عاينُوا نباتاً أو طيراً أيقَنُوا بقرب الأرض إلاَّ أنّ ذلك
القريب قد سمِّيَ بعيداً فلذلك سَلِم ذلك الغريقُ بمعونة ذلك الحيوان .
مسالمة الأسد للببر ومعاداته للنمر فأمّا الأسَد والبَبْر فَمُتسالمان
وأما الأسد والنمر فَمُتَعَاديان والظَّفَر بينهما سِجال والنَّمر وإن كان
ينتصف من الأسد فإنّ قُوَّتَه على سائر
الحيوان دون قوَّته على الأسد وبدنه في ذلك أحملُ لوَقْع
السِّلاح ولا يعرِضُ له البَبْر وقد أيقنا أنَّهما ليسا من بابته فلا يعرض
لهما لسلامة ناحيته وقلة شرِّه وهما لا يعرضان له لما يعرفان من أنفسهما
من العَجْز عنه وأمَّا البهائم الثلاث اللواتي ذكَرْناها فإنَّها فوق
الأسد والنمر .
والبَبْر هنديٌّ أيضاً مثل الفيل وأمَّا الكركدَّن فلا يقوم له سبعٌ ولا
بهيمة ولا يطمع فيه ولا يَرومُ ذلك منه .
مبارزة الجاموس للأسد وأمّا الجاموس والأسَد فخبَّرني محمد بن عبد الملك
أنّ أمير المؤمنِين المعتصمَ باللّه أبرَزَ للأسد جاموسَيْن فغلبَاه ثم
أبرز له جاموسةً ومعها ولدُها فغلبته وحمَتْ ولدَها منه وحَصّنته ثم أبرز
له جاموساً وحْدَه فواثَبَه ثم أدبر عنه .
هذا وفي طبع الأسد الجرأة عليه لأنّه يعدّ الجاموسَ من طعامه والجاموسُ
يعرف نفسَه بذلك فمع الأسد من الجُرأة عليه على حَسب ذلك
ومع الجاموس من الخوف على قَدْر ذلك وفي معرفة الأسد أنّ له في
فمه من السِّلاح ما ليس لشيء سواه وفي معرفة الجاموس بعدم ذلك السِّلاح
منه فمعه من الجرأة عليه بمقدار ما مع الجاموس من التهيُّب له فيعلم أنّه
قد أعطي في كفِّه ومخالبه من السلاح ما ليس لشيء سواه ويعلم الأسَد
والجاموسُ جميعاً أنّه ليس في فم )
الجاموس ويده وظِلْفه من السِّلاح قليلٌ ولا كثير فمع الأسد من الجَراءة
عليه ومع الجاموس من الخوف منه على حَسب ذلك ويَعلمُ الأسدُ أنّ بدنَه
يَمُوج في إهابه وأنّ له مِن القوَّة على الوثوب والضَّبْر والحُضْر
والطَّلَب والهرَب ما ليس في الجاموس بل ليس ذلك عند الفَهْد في وثوبه ولا
عند السِّمْع في سرعة مَرِّه ولا عند الأرنب في صَعْدَاء ولا هَبُوط ولا
يبلُغُه نَقَزان الظَّبي إذا جَمَعَ جراميزهُ ولا ركْضُ الخيلِ العِتاق
إذا أُجيد إضمارُها والجاموسُ يعرف كلَّ ذلك منه .
ومع الجاموس من النُّكوص عنه بقَدْر ما مع الأسد من الإقدام عليه ويعلم
أنّه ليس له إلاّ قرنُه وأنّ قرنَه ليس في حدّة قُرون بقَر الوحْش فضلاً
عن حِدّة أطراف مخالب الأسَد وأنيابه
وأن قرنه مُبْتَذَلٌ لا يصان عن شيءٍ ومخالب الأسد في أكمام
وصِوان .
وإذا قوي الجاموسُ مع هذه الأسباب المجبِّنة على الأسد مع تلك الأسباب
المشجِّعَة حتى يقتله أو يعرِّدَ عنه كان قد تقدَّمَه تقدُّماً فاحشاً وقد
علاه عُلوّاً ظاهراً فلذلك قدَّمنا الجاموسَ وهو بهيمة وقدَّمنا رؤساء
البهائم على رؤساء السباع هذا سِوى ما فيها من المرافق والمنافع
والْمَعاون .
والجاموس أجْزَعُ خلْق اللّه مِن عَضِّ جِرجسةٍ وبعوضةٍ وأشدُّهُ هرباً
مِنْهُما إلى الماء وهو يمشي إلى الأسد رَخِيَّ البال رابط الجأش ثابت
الجنان فأمَّا الفيلُ فلم يولّد الناسُ عليه وعلى
مغالبة الفيل للأسد
والهندُ أصحابُ البُبور والفُيول كما أنَّ النُّوبة أصحابُ الزَّرافات دونَ غيرهم من الأُمم وأهلُ غانةَ إنما صار لباسُهم جلودَ النمور لكثرة النمور بها إلا أنَّها على حالٍ موجودةٍ في كثيرٍ من البُلدان .وقد ذكَرُوا بأجمعهم قُوّةَ الفِيل الوحشيِّ على الأَسد وقالوا في الفِيَلة الأَهليَّة إذا لقِيتْ عندنا بالعِراق الأُسْد وجمعنا بينهما قالوا : أما واحدة فإنّ ذُكور الفِيَلة لا تكاد تعيشُ عندكم وأنيابُها التي هي أكبَرُ سلاحِها لا تنبُت في بلادكم ولا تعظُم ولا تزيدُ على ما كانت عليه ما أقامت في أرضكم وهي أيضاً لا تتناتج عندكم وذلك من شدّة مُخالَفة البلدة لِطبائعها ونقضها لقواها وإنما أسْرَعَ إليها الموتُ عندكم للذي يعتريها من الآفات والأعراض في دُوركم فاجتمعت عليها خصال أوّل ذلك أنها مع الوحش وفي صميم بلادها أجرأ وأقوى وأشهَمُ نفساً وأمضى فلمّا اصطَدْناها بالْحِيَل وصيَّرْناها مقصورة أهليَّة بعد أن كانت وحشيَّةً وفي غير غذائها لأنّها كانت تشرب إذا احتاجت وتأكل إذا احتاجت وتأخذ من ذلك على مقادير ما تعرف من مَوقعِ الحاجة فلما صارت
إلى قيام العبيد عليها والأجَراء بشأنها والوكلاء بما يصلحها دخل
ذلك من النقض والخوَر والخطأ والتقصير على حسب ما تَجِدُ في سائر الأشياء
ثم لم نَرْض بذلك حتَّى نقلناها من تلك البلدة على إنكارها لتلك اللدة
فصيَّرْناها إلى الضدِّ بعد أن كانت في الخلاف .
وقد علمنا أنَّ سبيلَها سبيلُ سائر الحيوان فإنّ الإبلَ تموت ببلاد الروم
وتَهلكُ وتسوءُ حالُها والعقارب تموت في مدينة حِمْص والتماسيح تموت إن
نُقلت إلى دِجلة والفرات والنَّاس يصيبهم الجَلاءُ فيموتون ويتهافتون وقد
علمنا أنَّ الزِّنج إذا أُخرجوا من بلادهم فما يحصل بالبصرة عندنا منهم
إلاَّ اليسير وكذلك لو نقلوا إليكم بزر الفُلفُل والسَّاج والصَّندل
والعُود وجميعَ تلك الأهضام فما امتناعُ نباتِ العاج ببلادكم إلاّ كامتناع
نباتِ الآبنوس وإن كان ينبت في حيوان والآخر في أرض .
فلا يفتخرنَّ مفتخر في الأسد في هذه البلدة إذا قاوم الفيل والأسد هاهنا
في بلاده وفي الموضع الذي تتوفّر أموره عليه لأنَّ أُسْد العراق هي الغاية
وأقواها أُسْد السّواد ثم أُسْد الكوفة ولأنّ الفِيَلَة عندكم أيضاً
تَرَى عندَكم السَّنانير وقد جَعَل اللّهُ في طَبْع الفيل الهربَ
من السِّنَّور )
والوَحشةَ منه كما أنَّ بعضَ شجعانِكم يمشي إلى الأسد ويقبض على الثُّعبان
ولا يستطيع النَّظَرَ إلى الفأر والجرذان حتى يهرُب منها كلَّ الهرب
ويعتريه من النّفضة واصفرار اللّوْن ما لا خوف عبد اللّه بن خازم من الجرذ
وذكر عليّ بن محمد السميري قال : بينما عبد اللّه بن خازم السُّلَميّ عند
عبيد اللّه بن زياد إذ أُدْخِلَ على عبد اللّه جرذ أبيض ليُعجَّبَ منه
فأقبل عبيدُ اللّه على عبد اللّه فقال : هل رأيتَ يا أبا صالحٍ أعجَب من
هذا الجرذ قط وإذا عبد اللّه قد تضاءَل حتى صار كأنه فرخ واصفَرَّ حتى صار
كأنَّه جرادة ذَكَرٌ فقال عبيد اللّه : أبو صالحٍ يَعصِي الرَّحمن
ويتهاوَن بالشيطان ويقبض على الثعبان ويمشي إلى الأسد ويَلقَى الرِّماح
بوجهه وقد اعتراه من جُرَذ ما ترون أشهَدُ أنَّ اللّه على كلِّ شيءٍ قدير
.
خوف الفيل من السنور
وإذا عاين الفِيلُ الأسدَ رأى فيه شَبَه السّنّور فيظنُّ أنه سنّور عظيمُ فلا يبلغ منه مقدارَ تلك المناسبة وذلك الشّبه ومقدارَ ذلك الظنّ ما يبلغ رؤيةُ السِّنَّور نفسهِ وليس هربُه منه مِن جهةِ أنّه طعامٌ له وأنّه إن ساوَرَه خافه على نفسه وإن كان في المعنى يرجع إلى أنّه طعامٌ لصغار السِّباع وكبارها وهَلْ قتل أسدٌ قطُّ فيلاً ومتى أكله وإنَّه مع ذلك لرُبَّما رَكَله الرَّكْلة فإمّا أنْ يقتُلَه وإمَّا أنْ يذهبَ عنه هارباً في الأرض وإمَّا أن يُجْلِيَهُ .وأيّة حُجَّة على الفيل في أن يرى سنوراً فينفر منه فالأسدُ يُشار إليه بِشُعلةٍ من نار أو يُضرَب له بالطَّسْتِ فيهربُ منه فإنما هذا كنحو تفزُّع الفَرَس من كلِّ شيءٍ يراه في الماء وهو عطشانُ فيأباه .
ويزعم ناسٌ من أصحاب الخيل أنّ الفَرَس ليس يضرب بيديه في الماءِ الصافي ليثوِّره لأنَّ الماء الكدرَ أحبُّ إليه وما هو إلا كالثَّور الذي يحبُّ الصافي ويختاره ولكنه إذا وقف على الماء الصافي رأى فيه ظِلّه وظلّ غيرِه من الأشخاص فيفزعه ذلك فلمعرفته بأنَّ الماء الكدرَ لا تتصوَّر فيه الصُّوَر يضرِب بيديه هذا قول هؤلاء وأمَّا صاحبُ
المنطق وغيرهُ ممَّن يدَّعي معرفةَ شأنِ الحيوان فإنّه يزعُم
أنَّ الفرسَ بالماء الكدِر أشدُّ عُجْباً منه بالماء الصافي كما أنَّ
الإبلَ لا يُعجِبها الماءُ إلاَّ أنْ يكونَ غليظاً وذلك هو الماءُ
النَّمير عندهم وإنَّما تصلُح الإبل عندَهم على الماء الذي تصلُح عليه
الخيل . )
تداوي الحبشة والنوبة بأضراس خيل الماء وأعفاجها ويزعُم مَنَ أقام ببلاد
السُّودان أنَّ الذين يسكُنون شاطئ النيل من الحبشة والنُّوبة أنهم يشربون
الماء الكدر ويأكلون السَّمك النِّيء فيعتريهم طحالٌ شديد فإذا شدُّوا على
بطونهم ضِرْساً من أضراس خَيل الماء وجدْوه صالحاً لبعض ما يعرض من ذلك
ويزعمون أن أعفاج هذا الفرس دفاع صاحب الأسد وقال بعض من يَنْصُرُ الأسَد
: إن الأُسْدَ في الهند أضعَفُ بل هي ضعيفةٌ جدّاً والفيل في بلادهم أقوى
والوحشي منها أجرأ والمغتلم لا يقوم له إلا الكركدَّن وإنه ليهجُم عليه
فيحجم عنه حتى
تذهب عنه سَكْرة الغُلْمة فيرجعُ إلى معرفةِ حال الكركدَّن فلا
يَطور طوَارَه ولا يحلُّ بأَدانِي أرضه .
وأما الفيل فإذا كان غيرَ هائجٍ والأسدُ في غير أيَّام هِيَاجِه ثم يكونُ
الأسَدُ عِراقيّاً ويكونُ سَوادِيّاً ويكون من أجَمَة أبْزيقيا فإنَّ
الفيلَ لا يقوم له . (
قول صاحب الفيل
وقال صاحب الفيل : الفيل لا يُعاينُ أسداً أبْزيقيّاً حتى تفسَخَه البلْدة وتَهدِمَهُ الوحشة ويُمرضه الغِذاء ويُفسده الماء وهو لا يصل إلى ذلك المكان حتى يجمع بينه وبين ذلك الأسد وحتى يَسْمَع تجاوُبَ السَّنانير وتَضَاغيها وهو أسمَعُ من قُراد فيغِبّ ذلك في صدره وتتزايد تلك الوَحشةُ في نفسه فمتى رأى أسداً قائماً فربَّما دعَته الوحشة منه والبغض المجعُول فيه إلى الصُّدُود والذَّهابعنه فيظنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ ذهابَه هرَب وأنّ صدودَه جُبْن
وإنَّما هو من الوَحشة منه والكَراهة لمنظَرَتِه وربَّما اضطرَّهُ الأسدُ
بخُرْقه حتى يُنقَضَ حِلمُه ويُغلَب وقارُه فيخبطُه خَبطةً لا يُفلح بعدها
أبداً .
فخر صاحب فرس الماء قال صاحبُ الفَرَس : زعمتم أنَّ الأسدَ في الأرض
كالعقاب في الهواء وكالتمساح في الماء وأنَّ تمساحاً وأَسداً اعتلجا على
شريعةٍ فقتَلَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبه وكأنَّ التمساح ضرب الأسد بذنبه في
الشريعة وضغمَ الأسدُ رأْسَه فماتا جميعاً .
قال : والفَرسُ المائيُّ بالنِّيل يقتُلُ التَّماسيحَ ويقهرُها ويأكلها
ولا يُساجلُها الحرب ولا تقَعُ بينهما مغالَبةٌ ومجاذَبة وتكون الأيام
بينهما دُوَلاً فهذه فضيلةٌ ظاهرة على الأَسد وشرفُ فَرس الماء )
راجعٌ إلى فرس الأَرض فإنْ كان فرسُ الأرض لا يقوى على الأَسَد ولا على
النَّمر ولا على البَبْر فإن ابنَ عمِّه وشكلَه في الجنْسِ قد قوِيَ على
التِّمساح وهو رئيسُ سُكان الماء .
قالوا : أَمَّا واحدة فإن التمساح ليس برئيسِ سُكان الماء إلا أَن تَريد
بعضَ سكان الأَودية والأَنهار والخُلجان والبُحَيْرات في بعض
المياه العذبة والكوسج واللُّخْم والسَّرَطان والدُّلْفين
وضَرُوبٌ من السباع مما يعايشَ السَّمك ليس التمساح من بابه وعلى أن
التمساح إنما يأكله ذلك الفرسُ وهو في الماء وليس للتمساح في جوف الماء
كبيرُ عملٍ إلا أن يحتمل شيئاً بذنبه ويحتجنَه إليه ويدخله الماء وربَّما
خرج إلى الأرض للسِّفاد ولحضْن البيض فلا يكونُ على ظهر الأرض شيءٌ أذلُّ
منه وذلُّه على ظهر الأرض شبيهٌ بذُلِّ الأسَد في وسط الماء الغَمْر
ولَعمري أَنْ لو عَرَض له هذا الفرسُ في الشرائع فغلبه لقد كان ذلك من
مفاخره فلذلك لم تُذْكَر الخيل في باب الغلبة والقتال والمساجلة والانتصاف
من الأعداء .
والفرَس قد يُقاتل الفرسَ في المُرُوج إذا أراد أن يحمِيَ الحُجور كما
يحمِي العيرُ العانة ويقاتل دونها كلَّ عيرٍ يريد مشاركتَه فيها وهذا شيءٌ
يعرض لجميع الفُحولة في زمن الهيج .
وقد يصاوِلُ الجملُ الجملَ فربَّما قتلَ أحدُهما صاحبَه ولكنَّ هذه
الفَحولَةَ لا تعرِض لشيءٍ من الحيوان في غير هذا الباب .
وإن أرادَ الفرسَ أسدٌ فليس عنده من إحراز نفسه وقَتْل عدوِّه ما عند
الجاموس فإنْ فضَلَه الجاموسُ بقرنيه فإن السِّلاح الذي في فَم الفَرس لو
استعمله لكان سِلاحاً ولو استدْبَرَ الأسدَ فركله ورَمَحه وعَضّه بفيه
لكان ذلك ممَّا يدفع عنه ويحمي لحمَه .
وليس للجاموس في أظلافه وفي يديه ورجليه وفي فمه سلاح فقد دلّت الحالُ على
أنّ مدارَ الأمر إنَّما هو في شَجاعة القلب .
وفي هذا القياس أنّ الصَّقْر إنَّما يواثِبُ الكُرْكيَّ لمكان سلاحه دون
شجاعة القلب التي يقوى بها وسأقرّب ذلك عندك ببعض ما تعرِفه لا نَشكّ أنّ
الهرّ أقوى من الهرَّة في كلِّ الحالات حتى إذا سفِدها فحدثَتْ بينهما
بغضاء ومطالبة حدثت للهرَّة شجاعةٌ وللهرِّ ضَعف فصارت الهرَّةُ في هذه
الحال أقوى منه وصار الهرُّ أضعف ولولا أنَّه يُمعِن في الهرب غايةَ
الإمعان ثمَّ لحقته لقطَّعته وهو مستخْذٍ .
ومثل ذلك أنَّ الجُرذ يُخْصَى ويرمى به في أنابِير التّجّار
وفي الأقرِحَة والبيادر فلا يدَعُ جُرذاً )
ضخْماً قد أعيا الهرّ وابن عِرْس إلاَّ قَتَلَه وإنْ كان أعظمَ منه وأشدّ
.
والخَصيُّ من كلِّ شيءٍ أضعَفُ قوَّةً من الفَحْل إلاّ الجرذ فإنه إذا
خُصي أحدث له الخصاء شجاعةً وجَراءة وأحدثَتْ له الشَّجَاعة قوَّة وأحدث
علم الجرذان بحال الخصاء لها جُبْناً وأحدَثَ الجُبنُ لها ضعْفاً .
والرَّجُلُ الشّدِيدُ الأسر قد يَفْزَعُ فتنحلُّ قُوَاهُ ويسترخي عصبُه
حتّى يضربه الصبيُّ والذِّئبُ القويُّ من ذئاب الخمر يكون معه الذئبُ
الضعيف من ذئاب البراري فيصيب القويَّ خدشٌ يسيرٌ فحينَ يَشمّ ذلك الذئبُ
الضعيف رائحةَ الدَّم وثب عليه فيعتري ذلك القويّ عند ذلك من الضّعف
بمقدار ما يعتري الضعِيفَ من القُوَّة حتى يأكله كيف شاء .
والأسَد الذي يعتريه الضَّعف في الماء الغَمْر حتّى يركبَ ظهرَه الصبيُّ
ثم يقبضَ على أذنيه فيُغطه وقد يفعل به ذلك غِلمان السَّوَادِ وشاطئ
الفرات إذا احتملت المدودُ الأسْدَ لا تملك من أنفُسها شيئاً وهو مع ذلك
يشدُّ على العسكر حتى يفرقه فَرْقَ الشَّعر ويطويه طيَّ السِّجِل ويهارِشُ
النمرَ عامّة يومه لا يقتلُ أحدُهما صاحبَه وإنْ كان الجمل الهائجُ باركاً
أتاه فضرب جنبَه ليثنِيَ إليه عنقَه كأَنه يريد عضّهُ فيضربُ بيساره إلى
مشْفره فيجذبه جذبةً يفصل بها بين دَأَيات عنُقه وإن ألفاه قائماً وثب
وثبة فإذا هو في ذروة سنامه فعند ذلك يصرِّفه كيف شاء ويتلعَّب به كيف
أحبّ .
ونحن لا نشكُّ أنّ للفَرس تحتَ الفارس غَناءً في الحرب لا يُشْبهه غَناء
ولذلك فُضِّل في القَسْم وإنما ذلك بتصرِيف راكِبه له وقتالِه عليه فأمَّا
هو نفسهُ فإنه إذ كان أوفَرَ سلاحاً من الجاموسِ
وخام عن قِرنه واستسلم لعدوِّه فإنّه من هاهنا لا يقدم على غيره
ولم يكن اللّه ليجعلَ انحصارَ جميع أقسام الخير في شخصٍ واحد ولكن لمَّا
أن كان الفَرَس عليه تقاتل الأنبياءُ وأتْباع الأنبياء ملوكَ الكفَّار
وأتْباعَ مُلوك الكُفار حتّى يقمَع اللّه الباطلَ ويُظْهِر الحقّ فلذلك
قدَّمناه على جميع البهائم والسِّباع وإنما نُقَدِّمه على الوجه الذي
قدَّمه اللّه فيه .
الرد على صاحب فرس الماء واعترضَ على أصحاب فرَس الماء معترِضون فقالوا :
الفرسُ لا يكون إلاّ بهيمة والبهائم لا تصيد ( والخيلُ في إطعامها اللّحمَ
ضرَرْ ** نُطْعمُها اللّحمَ إذا عَزّ الشَّجَرْ ) في كلمته التي يقول فيها
: )
اللّهُ من آياته هذا القمرْ وقد تُعلَف في تلك الحالاتِ اللّحمَ اليابس
وهسيسَ السّمك فأمّا الهسيس فلخُيول أهل الأسياف خاصّة .
الرد على صاحب فرس الماء قيل لهؤلاء المعترضين على فَرَس الماء : وقد يكون
في الخلْق المشترك وغير المشترك ما يأكلُ اللَّحمَ والحَبّ فالمشترك مثلُ
الإنسانِ الذي يأكل الحيوان والنبات وهذا العصفور من الخلق المشترك لأنّه
يأكل الحبّ ويصطاد النمل الطّيار والأرضة فيأكلُها ويأكل اللّحم
والدَّجاجُ تأْكل اللَّحمَ والدِّيدان وتحسُو الدَّمَ وتلقُط الحبّ
والغراب لا يَدَعُ شيئاً إلاَّ أكله .
وما خرج من حدِّ المشترك وهو كنحو الذِّئب والضَّبع وكنحو الشَّاهين
والصَّقر فإنّ هذه وأشباهَها لا تعرفُ إلا اللَّحم والحمامُ وضروبٌ من
الطيرِ لا تعرِف إلاَّ الحبَّ والنَّبات والمشتركُ أجمَعُ مما هو غير
مشترك .
والسّمكة تأكل الطِّين والنّبات وتأكل الجيف التي تصيب في الماء وتُصاد
بضروبٍ من الحيوان والجِرّيُّ يأكل الجرذانَ ويصيدُها وهو آكلُ لها من
السّنانير
والحيّات والكلابِ السَّلوقية ويأكلُ الجِرِّيُّ جميعَ جِيفِ
الموتى والسَّمك يأكل السّمكَ ويأكلُ من كلّ حَبّ ونبات يسقط في الماء .
وإن استفهَمَ مستفهِمٌ أو اعترض معترضٌ فقال : وكيف يأكل الجِرِّيُّ
الجرذان والجرذانُ أرضيَّةٌ بيوتيَّة والجِرّيُّ مائي قيل له : يخبِّرنا
جميعُ مَن يبيتُ في السُّفُن وفي المشارع في فيض البَصرة عندنا أنّ جرذان
الأنابير تخرُج أرسالاً باللّيل كأنّها بناتُ عِرْس والجرِّيُّ قد كَمَنَ
لهنَّ وهو فاتحٌ فاه فإذا دنا الجُرذُ من الماء فعبَّ فيه التهمه ليس دون
ذلك شيء بشَجْر فمٍ واسع يَدخُل في مثله الضبُّ الهرم وإنما يضَع بخطمه
على الشَّريعة .
وسنذكر شيئاً من الطُّرَف والحِكم والأشعار إذْ كُنَّا قد ذَكرْنا من
الكلام في الحيوان صدراً صالحاً وأبواباً جامعةً ثم نعود في ذكر الفيل إنْ
شاء اللّه واللّهُ الموفّق .
شيء من الطرف والحكم والأشعار قال الشّاعر : ( ونحنُ أناسٌ لا حجازَ
بأرْضِنا ** معَ الغَيْثِ ما نُلْقَى ومَن هو غالبُ )
( وإن قصُرَت أسيافُنا كان وصلُها ** خُطانا إلى أعدائنا فنضاربُ ) ) ( ترى كلّ قومٍ ينظرون إليهمُ ** وتقصُر عمَّا يبلغون الذَّوائبُ ) ( لكلِّ أناسٍ سُلَّمٌ يُرْتَقَى به ** وليس إلينا في السَّلاليمِ مطلعُ ) ( ومنزلُنا الأعلَى حجازٌ لمن به ** وكلُّ حجازٍ إن هبطناهُ بلقَعُ ) ( وينفِر منا كلُّ وحشٍ وينتمِي ** إلى وَحْشِنا وحشُ البِلاد فيَرْبعُ ) وقال حسَّان بن ثابت : ( ونَدْمانِ صِدقٍ تقطر الخيرَ كَفُّه ** إذَا راح فَضْفاضَ العشيَّاتِ خِضْرما ) ( وصلتُ به كفِّي وخالَطَ شِيمَتي ** ولم أكُ عِضّاً في الندامى مُلوّما ) ( لنا حاضرٌ فَعمٌ وبادٍ كأنّه ** شماريخُ رَضْوَى عِزَّةً وتكرُّما ) ( ولدْنا بني العَنْقاء وابْنَيْ محرِّقٍ ** فأكرِمْ بنا خالاً وأكرم بنا ابنما ) ( لنا الجفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى ** وأسيافُنا يقطرْنَ من نجدةٍ دَما ) وقال أعرابيٌّ غزليّ : ( بنفسي وأهلي مَن إذا عَرَضُوا له ** بِبَعض الأذَى لم يَدْرِ كيف يُجيبُ ) ( ولم يعتذِرْ عُذْرَ البريء ولم تَزَلْ ** به سَكْتةٌ حتّى يُقَالُ مُريبُ ) وقال أعرابيٌّ من هُذيل : ( رَعاكِ ضمانُ اللّهِ يا أمَّ مالكٍ ** وللّهُ أن يَسْقِيكِ أولَى وأوسَعُ )
قطعة من أشعار الاتعاظ قال الشاعر : ( عليك مِنَ امْرِكَ ما تستطيع ** وما ليس يُغْنِيك عنه فَذَرْ ) ( وللصَّمْتُ أجْمَلُ في حِينِهِ ** مِنَ القَوْلِ في خَطَلٍ أوْ هَذَرْ ) ( وكم غائبٍ كَانَ يَخشَى الرَّدَى ** فعادَ وَأوْدَى الذي في الحضَرْ ) ( وبينا الفَتى يُعجبُ النَّاظري ** نَ مال إلى عِطْفِه فانقعَرْ ) ( وبعضُ الحوادث إن يُبْقِهِ ** فإنَّ الفَنَا شأنُهُ وَالكِبَرْ ) ( وكم من أخي نجدة ماهرٍ ** تعلَّقَه الدَّهْرُ حتى عَثَرْ ) ( وكم من أخي عثرة مُقْتِرٍ ** تأتَّى لهُ الدَّهرُ حَتى انجَبَرْ ) وقال علقمة بن عبدة : ) ( وكلُّ قوْمٍ وإن عَزُّوا وإنْ كَثُرُوا ** عَرِيفُهُمْ بأَثافي الشَّرِ مرجومُ ) ( والحمدُ لا يُشْتَرَى إلا لهُ ثمنٌ ** ممَّا يَضِنُّ به الأقوامُ معلومُ ) ( والجهلُ مَنْقَصَةٌ شَيْنٌ لصاحبِهِ ** والحِلْمُ آوِنَةً في النَّاس مَعْدُومُ ) ( وكلُّ حِصْنٍ وإنْ طالَتْ سلامَتُه ** على دعائمه لا بدَّ مَهدومُ ) ( وَمُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الْغُنمِ مُطْعَمُهُ ** أنَّى تَوَجَّهَ والمحرومُ مَحْرُومُ ) وقال عديُّ بن زيد العباديّ وهو أحدُ من قد حُمِل عَلَى شعره الحَمْلُ الكثير ولأهل الحِيرة بشعره عنايةٌ وقال أبو زيدٍ النحويّ : لَو تمنَّيت أنْ أقولَ الشِّعر ما قلتُ إلا شعرَ عديِّ بن زَيد :
( كَفَى زاجراً للمرء أيَّامُ عمرهِ ** تروح له بالواعظاتِ
وتغتدي ) ( فنفسَك فاحفَظْها من الغيِّ والرَّدَى ** متى تُغْوِها تُغْوِ
الذي بك يَقتَدِي ) ( فإنْ كانتِ النَّعماءُ عندَك لامرئ ** فمثلاً بهَا
فاجْزِ المُطالب أو زِدِ ) ( عن المرْء لا تَسألْ وأبصِرْ قرينَه ** فإنَّ
القرين بالمقارَِنِ مُقتدِي ) ( ستُدرِك مِن ذي الجَهْل حقَّك كله **
بحلمك في رِفْق وَلَمَّا تَشَدَّدِ ) ( وظُلم ذوِي القرْبَى أَشدَّ عداوةً
** على المرء من وَقْع الحُسام المهنَّدِ ) ( وفي كثرة الأيدي عن الظُّلمِ
زاجرٌ ** إذا خَطرَتْ أيدي الرِّجال بمشهَدِ ) قال المهلب بن أبي صُفرة :
عجبْت لمن يشتري المماليك بمالِهِ كيف لا يشتري الأحرارَ بمعروفه .
وقال عبد اللّه بنُ جعفرٍ لرجلٍ يُوصِيه : عليك بصُحبةِ مَنْ إنْ
صحِبْتَهُ زَانَك وإنْ تركتَه شانَكَ إن سألتَه أعطاك وإن تركتَه ابتداك
إنْ رأى منك سيِّئة سدَّها وإن رأى حسنةً عدّها وإن وَعَدَك لم يُجْرِضْك
وإن ألجِئْتَ إليه لم يرفُضْك .
وسأل يزيدَ بنَ المهلَّب رجلٌ من أصحابه حاجةً وذَكَرَ له خَلّة فقال :
أوجِّهُ بها إليك ثمَّ حَمَلَ إليه خمسين ألفَ درهم ثم كتب إليه : قد
وجَّهتُ إليك بخمسينَ ألفَ دِرهم لم أذكُرْها تمنُّناً ولم أدَعْ ذكرها
تجبُّراً ولم أقْطَعْ بها لك رَجاء ولم أُرِدْ بها منك جزاء .
وقيل ليزيد : ما أحسَنُ ما مُدِحتَ به قال : قول زياد الأعجم : ( فتًى
زَادهُ السُّلطان في الحمد رَغبةً ** إذا غَيَّرَ السلطانُ كلَّ خليلِ )
شبيهٌ بقول الآخر : ( فتًى زادهُ عِزُّ المَهابةِ ذِلَّةً ** وكلّ عزيزٍ
عندَه متواضعُ ) )
وقال الآخر وهو يدخل في باب الشكر : ( شوقي إليك يا أبا العبّاس ** طيَّرَ
ما أبْلَيْتَني نُعاسِي ) ( إنّي لمعروفك غير ناس ** والشُّكرُ قِدْماً في
خيار النَّاسِ ) أبيات لبعض الشعراء العميان أنشدني ابنُ الأعرابيِّ لرجلٍ
من بني قُريع يَرْثي عينَه ويذكر طبيباً : ( لقد طُفتُ شرقيّ البلادِ
وَغَرْبَها ** فأعْيا عَليَّ الطبُّ والمتطَبِّبُ ) ( يقولون إسماعيلُ
نَقَّابُ أعيُنٍ ** وما خير عَيْنٍ بعد ثَقْبٍ بمثقبِ ) ( ولكنَّه أيّامَ
أنْظُرُ طيِّبٌ ** بعينَيْ قُطاميٍّ علا فوقَ مَرْقبِ ) ( كأنَّ ابنَ
حَجلٍ مدَّ فضلُ جناحه ** على ماء إنسانيهما ماءَ طُحلبِ ) وقال
الخُرَيميّ : ( كفى حزَناً أن لا أزورَ أحبّتي ** من القرْب إلاّ
بالتَّكَلُّفِ والجهدِ )
( وأنِّي إذا حُيِّيت ناجيتُ قائدِي ** ليَعدِلَني قبل الإجابة
في الردِّ ) ( إذا ما أفاضُوا في الحديث تقاصَرَتْ ** بيَ النَّفْسُ حتى
ما أحِيرَ وما أُبْدِي ) ( كأَني غريبٌ بينهم لستُ منهمُ ** فإنْ لم
يحولوا عن وفاءٍ ولا عَهدِ ) ( أقاسي خطوباً لا يقوم بثِقْلها ** من
الناسِ إلا كلُّ ذِي مِرَّةٍ جَلْدِ ) باب في الحاجة قال ابنُ الأعرابيّ :
قيل للأحنف : أتيناك في حاجةٍ لا تَرْزَؤُك ولا تنكؤك فقال : ليس مِثلي
يُؤْتى في حاجةٍ لا تَرْزأ ولا تَنكأ .
وقال أعرابيٌّ لرجل : إني لم أصُنْ وجْهي عن الطَّلب إليك فصُنْ وجهَك عن
رَدِّي وأنزِلْني مِنْ كرمك بحيثُ وَجْهي مِنْ رجائك .
وقال أبو عقيل بن دُرُسْت : لم يقْضِ ذِمامَ التَّأميل ولم يَقُم بحُرمة
الرَّجاء إلاّ مَن أعطاها حقَّها ووفّاها حظَّها وعرَف قدْرَها وكيف
يستبقي النِّعمة فيها وكيف الشُّكرُ على أداء حقِّها بالبِشْر عند المسألة
وقلّةِ التَّضجُّر عند المعاودة وتوكيد الضَّمان عند العِدَةِ وانتهازِ
الفرصة عند القُدرة ويكونُ النُّجح المعجل أحبَّ إليه من عُذْر المَصْدَق
وحتّى يرى أنَّ حقّك عليه في بذْل وجهك إليه أكثرُ من حقّه عليك في تحقيق
أملك فيه ثم إيجاب سترها فإنَّ سَتْرَها هو )
المخبر عنها والدالُّ عليها والزَّائد في قدرها والمتوَلِّي لنَشرها .
وقال الشاعر : ( فإنَّ إحياءَها إماتتُها ** وإنَّ مَنّاً بِهَا يكدِّرُها
) باب في الوعد والوفاء به والخلف له قال عمرو بن الحارث : كنتُ متى شئتُ
أن أجِدَ صفةَ من يَعِد ويُنجز وجدتُه فقد أعياني من يعدُ ولا ينجز .
وقال أبو إسحاق النَّظام : كنَّا نلهو بالأماني ونَطيب أنفساً بالمواعيد
فَذَهَبَ مَنْ يَعِدُ وقطعَتْنا الهمومُ عن فضُول الأماني .
وقال الشاعر : ( قد بَلوناك بحمد اللّه إن أغنى البلاءُ ** فإِذا جُلُّ
مواعيدِكَ والجَحدُ سواءُ )
وذمّ أعرابيٌّ رجلاً فقال : إذا أَوْعَدَ صدق وإذا وَعَدَ كذب
ويغضَبُ قبل أن يُشتم ويجزِم قبلَ أن يَعْلَم .
وقال عبدُ اللّه بنُ قيس الرقيَّات : ( اخْتَرْتُ عبدَ العزيزِ مرتغِبا **
واللّهُ لِلمرْءِ خَيرُ مَنْ قَسَمَا ) ( مِن البهاليل مِنْ أميَّةَ يَزْ
** دادُ إذا ما مَدَحْتَه كرَما ) ( جاءت به حُرّةٌ مهذّبةٌ ** كلبيّةٌ
كان بيتُها دِعَما ) ( هُنَّ العَرَانينُ من قضاعةَ أَمْ ** ثالُ بنيهنَّ
تمنع الذِّمما ) ( تُكِنُّهُ خِرْقةُ الدِّرَفْس من الشَّم ** سِ كلَيْثٍ
يُفرِّج الأَجما ) ( يقُوتُ شِبْلَين في مَغارِهما ** قد ناهَزَا للفِطام
أو فُطِما ) ( لم يأتِ يومٌ إلا وعندَهُما ** لحمُ رجال أو يَوْلَغان دَما
) ( فذاك أشبَهْتَهُ ابنَ ليْلَى ول ** كنَّ ابنَ ليلَى يفوقُه شيما )
( مَنْ يَهَبُ البُخْتَ والولائد كال ** غِزْلانِ والخيلَ تعلك اللجُما ) ( يُنكر لا إنّ لا لمنكَرَةٌ ** مِنْ فيه إلاّ مُحَالِفاً نَعَما ) وقال زيادَة بن زيد : ( فلم يجعلِ اللّهُ الأُمورَ إذا اغتدت ** عليك رِتاجاً لا يُرامُ مُضبَّبا ) ) ( كفاك الغِنى يوماً إذا ما تقلَّبتْ ** به صَيرفيّاتُ الأمور تقلبا ) ( وإني لمزْوَرٌّ قليلٌ تقلُّبي ** لوجِه امرئٍ يوماً إذا ما تجنَّبا ) ( قليلٌ ليوم الشَّرِّ وَيْكَ تعرُّضي ** فإنْ حَلَّ يوماً قلتُ للشَّرِّ مَرْحَبا ) ( مَلَكْنا ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُقَدْ ** وكان لنا حقًّا على الناس تُرْتُبَا ) وقال هُدْبة العُذْرِيّ : ( فأُب بي إلى خيرٍ فقد فاتني الصِّبا ** وصِيحَ بريْعان الشَّباب فنُفِّرا ) ( أمُورٌ وألوانٌ وحالٌ تقلَّبتْ ** بنا وزمانٌ عُرْفُه قد تنكّرا ) ( أُصِبْنا بما لو أنّ سَلْمى أصابَهُ ** لَسُهِّلَ من أركانه ما توعَّرا )
( فإن ننجُ من أهوالِ ما خاف قومُنا ** علينا فإنّ اللّهَ ما شاء
يَسَّرَا ) ( وإنْ غالَنا دهرٌ فقد غال قبلنَا ** ملوكَ بني نَصْرٍ وكِسرى
وقَيْصَرَا ) ( وذي نَيربٍ قد عابَني لينالَني ** فأعيا مَداهُ عن مَدَايَ
فقَصَّرا ) ( فإن يكُ دَهرٌ نالني فأصابَني ** برَيْبٍ فإنْ تُشْوِي
الحوادثُ مَعْشَرا ) ( فلست إذا الضَّرَّاءُ نابَتْ بجُبَّأ ** ولا جَزِعٍ
إنْ كان دَهرٌ تغيَّرَا ) وكان هُدبةُ هذا من شياطين عُذْرة وهذا شعرهُ
كما ترى وقد أُمِرَ بضرب عنقه وشَدّ خِناقه وقليلاً ما ترى مثلَ هذا
الشّعر عند مثل هذه الحال وإنَّ امرأً مجتمعَ القلب صحيحَ الفكر كثير
الرين عَضْبَ اللّسان في مثل هذه الحال لَنَاهِيكَ به مطلقاً غير موثق
وادِعاً غير خائف ونعوذ باللّه من امتحان الأخيار .
وهو القَائلُ في تلك الحال : ( فلا تعذليني لا أرى الدهر معتباً ** إذا ما
مضى يومٌ ولا اللوم مرجعا ) ( ولكن أرى أن الفتى عرضة الردى ** ولاقي
المنايا مصعدا ومفرعا )
( وإن التقى خير المتاع وإنما ** نصيب الفتى من ماله ما تمتعا ) ( فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ** أغم القفا والوجه ليس بأنزعا ) ( ضروبا للحييه على عظم زوره ** إذا القوم هشوا للفعال تقنعا ) ( وأخرى إذا ما زار بيتك زائرٌ ** زيالك يوماً كان كالدهر أجمعا ) ( سأذكر من نفسي خلائق جمةً ** ومجداً قديماً طالما قد ترفعا ) ) ( فلم أر مثلي كاوياً لدوائه ** ولا قاطعاً عرقاً سنونا وأخدعا ) ( وما كنت ممن أرث الشر بينهم ** ولا حين جد الشر ممن تخشعا ) وما قرأتُ في الشِّعر كشعر عبد يغوث بن صَلاءةَ الحارثيّ وطرفة بن العَبْد وهدبة هذا فإنّ شِعرَهم في الخوفِ لا يقصِّر عن شِعرهم في الأمْن وهذا قليلٌ جدّاً .
من أشعار الأعراب أنشدني ابنُ الأعرابيِّ في معنى قوله : كمخْض الماءِ ليس
له إنَاء وما كان مثلي يعتريكَ رجاؤُه ولكن أساءَتْ هِمّةٌ مِن فتى مَحْضِ
( وإنّي وإشرافي إليك بهمَّتي ** لكالمرْتجي زُبداً من الماء بالمخضِ )
وقال الآخر في مثل قول عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة : ( فلولا اتّقاءُ
اللّه قلتُ مقالة ** تسِير مع الرُّكبان أبْرَدُها يَغْلِي ) ( ابنْ لي
فكنْ مِثْلِي أوَ ابْتغ صاحباً ** كمثلكَ إني مُبْتغٍ صاحباً مِثلي ) (
ولا يلبثُ الأصحابُ أن يتفرَّقُوا ** إذا لم يؤلَّف رُوح شكلٍ إلى شكلِ )
فقال : ( لكلِّ امرئ شكلٌ يقرُّ بعينه ** وقُرَّةُ عينِ الفَسْل أن يتبع
الفَسْلا ) ( وتعرف في جُودِ امرئ جُودَ خالِه ** ويَنذُلُ أنْ تلقَى أخَا
أمِّهِ نَذْلا )
( أبلغ بني ثعَلٍ عنِّي مُغَلغَلةً ** فقدْ أنَى لكَ مِنْ نِيءٍ بإنْضَاجِ ) ( أمَّا النهارَ ففي قَيْدٍ وسِلسلةٍ ** واللّيْلَ فِي جوفِ منحُوتٍ من السَّاجِ ) وقال بعضُ اللصوص : ( أقَيْدٌ وَحَبْسٌ واغْترَابٌ وفرقةٌ ** وهَجْرُ حبيبٍ إنَّ ذَا لَعظيمُ ) ( وإن امرأً دَامت مَواثِيقُ وَدِّهِ ** عَلَى عُشْرِ ما بي إنَّه لَكريمُ ) ومن المراثي المستحسَنة قولُ حارثة بن بدر الغُدانيّ يرثي زياداً ابنَ أبيه : ( أبَا المغيرةِ والدُّنيا مغيِّرةٌ ** وإنّ مَن غَرّت الدُّنيا لَمَغْرُورُ ) ( قد كانَ عِندَك للمعروف مَعرِفةٌ ** وكان عندك للنَّكراء تنكيرُ ) ( وكنتَ تُؤْتَى فتُؤْتي الخيرَ من سعةٍ ** إن كان قبرُك أمْسَى وهو مهجورُ ) ) ( صلَّى الإلهُ على قبرٍ بِمَحْنِيةٍ ** دُونَ الثّويّة يسفي فوقَهُ المُورُ ) وأنشد ابنُ الأعرابيّ : ( وما حسَبُ الأقوامِ إلا فِعالهم ** ورُبَّ حسيب الأصلِ غيرُ حَسيبِ )
وقال الآخر في مثله : ( ليس الكريمُ بمَنْ يدنِّسُ عِرضَه **
وَيَرَى مُرْوءتَه تكون بمنْ مضَى ) وقال عبد اللّه بن معُاويةَ بنِ عبد
اللّه بن جعفر : ( لَسْنا وإنْ كرُمَتْ أوائِلنُا ** يوماً على الأحسابِ
نَتَّكِلُ ) ( نَبْني كما كانت أوائلُنا ** تَبْني ونَفْعَلُ مِثْل ما
فَعَلوا ) وقال عُمر بنُ الخطّاب : كفى بالمرء عيباً أن تكون فيه خَلةٌ من
ثلاث : أن يبدو له مِن أخيه ما يخفى عليه من نفسه أو يَعيبَ شيئاً ثم
يأتيَ مثله أو يؤذِيَ جليسَه فيما لا يعنيه .
ووصف أعرابيٌّ رجُلاً فقال : آخَذُ النَّاسِ بما به أمَرَ وأتْرَكُهم لما
عنه زَجَر .
من هجا امرأته قدِم أعرابيٌّ فحلَفَ بطلاقِ امرأتَيه على شيء فحنث ثم هربَ
فقال : ( لو يعلم الغرَماء منزلَتَيْهما ** ما خوَّفوني بالطّلاقِ العاجلِ
) ( قد مَلَّتا وَمَلِلْتُ من وجْهَيهما ** عجفاءُ مرضِعةٌ وأُخرَى حاملُ
) وقال الأقرع بن مُعاذ القُشَيريّ : ( لَعمرُك إنّ المسّ من أمِّ خالدٍ
** إليَّ وإنْ ضاجَعْتُها لَبغيضُ ) ( إذا بُزَّ عنها ثوبُها فكأنما **
على الثّوب نملٌ عاذمٌ وبَعوضُ )
وقال أعرابيٌّ يتألّهُ لامرأته وما الأعرابُ وهذا المذهبُ ولكن كذا وقَعَ واللّه أعلمُ بكثيرٍ من ( لولا مخافةُ ربِّي أنْ يُعاقِبَني ** وأنَّها عِدَّةٌ تُقْضَى وأوتارُ ) ( لقد جعلْتُ مكانَ الطّوقِ ذا شُطَبٍ ** وتُبْتُ بعدُ فإنّ اللّه غفَّارُ ) وقال بعض المولَّدين : ( تجهَّزي للطَّلاقِ وانصرِفي ** ذاكِ جَزَاءُ الجوامِحِ الشُّمُسِ ) ( للَيْلَتي حين بِتُّ طالقةً ** ألذُّ عِنْدِي مِنْ لَيلةَ العُرُسِ ) وأنشدني ابنُ الأعرابيِّ لأعرابي : ) ( قد قرنوني بعجوز جحمرش ** ناتية الناب كزوم قنفرش ) ( كأنما دلاها على الفرش ** من آخر الليل كلاب تهترش ) ( وجلدها من حكها القمل برش ** كأن طي بطنها كرش ) ( فقماء في حضن الضجيع تهتمش ** تخشخش الضب دنا للمحترش ) وقال رجلٌ من بني نُميرٍ لامرأته وكانت حضَرية : ( لَعمرِي لأَعرابيّةٌ بدويةٌ ** تظلُّ بِرَوْقَيْ بَيتها الرِّيحُ تخفقُ ) ( أحبُّ إلينا من ضِنَاكٍ ضِفِنَّةٍ ** إذا رُفعَت عنها المراويحُ تعرقُ ) ( كبِطّيخةِ البُسْتان ظاهرُ جِلدها ** صحيحٌ ويبدُو داؤها حين تُفْتَقُ ) ( أنْبِئْتُ أنَّ فتاةً كنتُ أخطبُها ** عُرقوبُها مِثلُ شَهر الصَّوم في الطولِ )
وأنشدني محمد بن يسير في امرأته أو في غيرها : ( سقط : بيت الشعر ) ( أنبئن أن فتاة كنت أخطبها ** عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول ) ( أسنانُها مائةٌ أو زِدْن واحدةً ** كأنّها حين يبدو وَجْهُها غُولُ ) وإنما أكتب لك من كلّ بابٍ طَرَفاً لأنّ إخراجَك مِن بابٍ إلى باب أبقى لنشاطك ولو كتبتُه بكمالِه لكان أكملَ وأنبل ولكن أخافُ التَّطْويل وأنتَ جديرٌ أن تعرف بالجملةِ التّفصيلَ والآخر بالأوّل . مَن هجتْه زوجته قالت عصيمة الحنظليّة : ( كأنّ الدّارَ حين تكونُ فيها ** علينا حُفْرَةٌ مُلِئَتْ دُخانا ) ( فليتَك في سَفين بني عِبادٍ ** فتصبِحَ لا نَرَاك ولا تَرانا ) ( فلو أنّ البُدور قَبِلْنَ يوماً ** لقد أعطيتُها مائةً هِجانا ) وقالت امرأةٌ من بني ضبة لزوجها : ( تراهُ أهْوَجَ ملعوناً خليقتُه ** يمشي على مِثْل معوَجِّ العراجينِ ) ( وما دعوتُ عليه قطُّ ألعنُه ** إلاّ وآخَرُ يَتْلُوهُ بآمِينِ ) ( فليتَه كان أرضُ الرُّوم مَنْزلَه ** وأنَّني قبلَه صُيِّرتُ بالصِّينِ )
( لعمرك ما إنْ أبو وائل ** إذا ذُكِرَ القومُ بالطائلِ ) ( فيا ليتني لم أكنْ عِرْسَه ** وعُوجِلْتُ بالحدَث العاجلِ ) وقالت امرأةٌ من بني زياد الحارثي : ) ( فلا تأمُرُوني بالتزوُّج إنّني ** أريد كرامَ النَّاس أو أتبتَّلُ ) ( أريد فتًى لا يملأُ الهَوْلُ صدرَه ** يُريحُ عليه حلمُه حين يجهلُ ) ( كمثل الفتَى الجعْدِ الطَّويل إذا غَدا ** كعالية الرُّمح الطويل أوَ اطوَلُ ) وقالت امرأةٌ من باهلة : ( أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُه ** كأنَّ به كلُّ فاحشةٍ وَقْرَا ) ( سليمُ دَوَاعِي الصَّدْرِ لا باسطٌ أذًى ** ولا مانع خيراً ولا قائلٌ هُجْرا ) ( كَمثل الفتى الذُّهْليِّ تحسِبُ وجهَه ** إذا ما بدا في ظلمةٍ طالعاً بَدْرا ) وقال لبيد بن ربيعة : ( إنما يحفطُ التقَى الأبرارُ ** وإلى اللّه يستقرُّ القَرَارُ ) ( وإلى اللّه تُرْجَعُونَ وعِنْدَ ** اللّه وِرْدُ الأمورِ والإصدارُ ) ( إنْ يَكنْ في الحياة خيرٌ فقد أُن ** ظِرتُ لو كان ينفع الإنظارُ ) وأنشدني الأصمعيُّ قال : أنشدني رجلٌ ولم يُسمِّهِ : ( إذا ما بَدا عمرٌ و بدَتْ منه صورةٌ ** تدلُّ على مكنونِهِ يُقْبِلُ ) ( بياضُ خُراسانٍ ولُكْنَةُ فارسٍ ** وَجُثَّةُ رُوميٍّ وشَعرٌ مُفَلْفَلُ ) ( لقد ألَّفَتْ أعضاءَُ عمرٍ و عصِابةٌ ** يدُلُّ عليها آخِر القَوْمِ أوَّلُ )
وقالت أخت ذي الرُّمّة ترثيه : ( تعزَّيت عن أوفَى بغَيلانَ
بعدَه ** عَزاءً وجفنُ العَين مَلآن متْرَعُ ) ( ولَمْ تنْسِني أوفَى
المصيباتُ بَعْدهُ ** ولكنَّ نَكْءَ القَرْح بالقَرْح أوجَعُ ) وذو
الرُّمَّة القائل : إذا قلت كأنَّ فلم أجِدْ مخْرجاً فقطَعَ اللّهُ
لِسَاني .
وأنشد : ( لا أتَّقي حَسَكَ الضَّغائنِ بالرُّقى ** فِعْلَ الذَّليلِ ولو
بَقِيتُ وحِيدا ) ( لكن أعِدُّ لها ضغائنَ مِثلها ** حتَّى أُدوايَ
بالحُقود حُقودا ) ( كالخمرِ خَيْرُ دوائها منها بها ** تَشْفي السَّقيمَ
وتُبْرِئُ المنجودا ) فأخذ الحِكَميُّ هذا فقال : ( وكأْس شرِبْتُ على
لذَّةٍ ** وأخرَى تداوَيْتُ منها بها ) ) ( إنَّ أياديك عندي غيرُ واحدةٍ
** جَلَّت عن الوَصْف والإحصاء والعددِ ) ( وليس منها يدٌ إلاَّ وأنْتَ
بها ** مُستوجِبُ الشُّكرِ منِّي آخِرَ الأبدِ ) وقال الآخر : ( سأشكُرُ
ما أبْقانيَ اللّهُ خالِداً ** كشكْري ولا يَدْرِي عليَّ بن ثابتِ ) (
حمَلْتُ عليه مُثْقِلاً فأطاقَهُ ** وحَمَّلَني مِن شكرِه فوقَ طاقَتي )
ورأى رجلٌ من النبيط الحجَّاج بعد موته في منامه فقال : يا حجَّاج
إلامَ صيَّرك ربُّك فقال : وماذا عليك يا ابن الزَّانية فقال :
ما سِلمْنا مِن قَولك مَيْتاً ولا مِن فِعْلكَ حَيّاً .
وقال الأشهب رجلٌ من أهل الكوفة يهجو نُوح بن دَرَّّاج : ( إنّ القيامة
فيما أحسَبُ اقتربتْ ** إذ صار حاكمنَا نوحُ بنُ درَّاجِ ) ( لو كان
حَيًّا لَهُ الحجَّاجُ ما سَلِمَتْ ** صَحيحةً يدهُ من نَقْش حَجَّاجِ )
وكان الحجَّاج يَشِمُ أيديَ النَّبَط علامةً يُعْرَفون بها .
وقال رجلٌ من طيّئ لرجلٍ من فَزارة وكان الرجل يتوعّده : ( فإن كان هذا يا
فزار تجلباً ** لنخشى فما نرتاع للجلباب ) ( أألآن لما أن علا الشيب مفرقي
** وصارت نيوب العود مختلفات ) ( ألست فزارياً تبين لؤمه ** إذ قام بين
الأنف والسبلات ) ( ترى الخيل تستحي إذا ما ركبتم ** عليها حياء البدن
الخفرات ) وقال أبو عبيدة : ما ينبغي أن يكون في الدُّنيا مثل النظَّام :
سألتُه وهو صبيّ عن عَيب الزُّجاج فقال : سريع الكَسْرِ بطيء الجبر .
ومَدَحوا النَّخلةَ عِندَه فقال : صعبةُ المرَتقى بعيدةُ المَهْوَى خشِنة
المسّ قليلة الظلّ .
وذكر النظّام الخليلَ بن أحمدَ فقالَ : توحَّدَ به العُجْبُ فأهلكَه
وصَوَّر له الاستبدادُ صوابَ رأيه فتعاطى ما لا يحسنُه ورامَ ما لا يناله
وفتنَتْه دوائرُه التي لا يحتاجة إليها غيره .
وكان أبو إسحاق إذا ذكر الوهمَ لم يشكَّ في جُنونه وفي اختلاط عقله وهكذا
كان الخليلُ وإن كان قد أحسَنَ في شيء .
وكان النطَّام كثيراً ما ينشد : ( فلو كنت أرضَى لا أبالكَ بالذي ** به
الخامل الجثَّامُ في الخفْض قانعُ ) ) ( قُصِرْتُ علَى أدْنى الهموم
وأصبحَتْ ** عَلَيّ وعندي للرِّجال صنائعُ ) وقال المَرِيسيُّ لأبي
الهُذيل بحضرة المأمون بعد كلامٍ جرى : كيف ترى هذه السِّهام قال : ليِّنة
كالزُّبد حُلوة كالشَّهد فكيفَ ترى سهامَنا قال : ما أحسستُ بها قال :
لأنَّها صادفَتْ وأُنشِدَ أبو الهذيل : ( فإذا توهَّمَ أنْ يَراها ناظرٌ
** ترَكَ التَّوهّمُ وجْهَها مَكلُوما ) فقال : هذِهِ تُناكُ بأيرٍ من
خاطر وأنشدني أبو الهذيل بعد أن أنشد هذا البيت : ( اسجُدْ لقِرد السَّوء
في زمانِهِ ** ولا تُسَائِلْ عن خَبيءِ شأنِهِ ) وقال آخر : ( كم من كريم
ضعْضَع الدَّهرُ حالَهُ ** وكم مِنْ لئيمٍ أصبَحَ اليومَ صاعِدا ) ( وقد
قال في الأمثال في النَّاسِ واعظٌ ** بتجربةٍ أهْدَى النَّصيحةَ جاهِدا )
( إذا دولةٌ للقِرد جاءت فكُنْ لهُ ** وذلك من حُسن المداراة ساجدا ) ( بذاك تداريِه ويُوشِكُ بعَدَها ** تَراه إلى تُبَّانِهِ الرَّثِّ عائدا ) وأنشدني الأصمَعيُّ في معنى قول الفرزدقِ : بهِ لا بظبيٍ بالصَّريمةِ أعفرا لرجل من بني القَين : ( أقول لصالحٍ لما دهته ** بنات الدهر ويحك ما دهاكا ) ( أتيتك زائراً فرجعت صفراً ** كذاك تكون أوبة من أتاكا ) ( أحب لك السلامة يا ابن أمي ** وإن كنت امرأ بخلت يداكا ) ( حفاظاً للعشيرة لا بعرفٍ ** فإن العرف من به سواكا ) وقال الفرزدق : ( ألا خبِّرُوني أيُّها الناس إنَّني ** سألتُ ومن يَسْأَلْ عن العِلم يَعْلَمِ ) ( سؤالَ امرئٍ لم يُغْفِل العلمَ صدرُه ** وما العالم الواعي الأحاديثِ كالعَمي ) وقال أيضاً : ( ألم تعلموا يا آل طَوْعةَ أنما ** تَهيجُ جَليلاِت الأمور دقيقُها ) ) ( سَأُثْني على سعدٍ بما قد عَلِمْتِهِ ** وخير أحاديث الرِّجال صدوقُها )
قال أبو عثمان : ومما أكتب لك من الأخبار العجيبة التي لا يجسُر
عليها إلا كلُّ وَقَاحٍ أخبارُ بعضِ العلماء وبعض من يؤلِّف الكُتب
ويقرؤها ويدارس أهل العبر ويتحفَّظها .
زعموا أنَّ الضبع تكون عاماً ذكراً وعاماً أنثى وسمعت هذا من جماعةٍ منهم
ممَّنْ لا أستجيز تسميته .
قال الفضل بن إسحاق : أنا رأيتُ العَفْص والبَلُّوط في غصن واحد .
قال : ومن العفْص ما يكونُ مثلَ الأُكَر وقد خبَّرني بذلك غيرُه وهو يشبه
تحوُّل الأنثى ذكراً والذَّكرِ أنثى .
وقد ذكرت العربُ في أشعارها الضِّباعَ والذِّئابَ والسِّمعَ والعِسبار
وجميعَ الوحوش والحشرات وهم أخْبَرُ الخلق بشأن الضَّبع فكيف تركَتْ ما هو
أعجبُ وأطرَفُ .
وقد ذكرت العلماء الضِّباعَ في مواضعَ من الفُتْيا لم نرَ أحداً ذكَرَ ذلك
وأولئك بأعيانهم هم الذين زعموا أن النمر الأنثى تضع في مشيمةٍ واحدةٍ
جرواً وفي عنقه أفعى قد تطوَّقَتْ به وإذا لم يأتِنا في تحقيق
هذه الأخبارِ شعرٌ شائع أو خبرٌ مستفيض لم نلتفتْ لِفْتَه وقد
أقرَرْنا أن للسَّقَنْقُور أيرَين وكذلك الحِرْذَون والضبّ حين وجَدْناه
ظاهراً على ألسنة الشُّعراء وحكاية الأطِبَّاء .
خرطوم الفيل والخرطوم للفيل هو أنفه ويقومُ مقام يده ومقام عنقه والخَرْق
الذي هُوَ فيه لا ينفذ وإنما هو وعاءٌ إذا ملأه الفيل من طعام أو ماء
أولجه في فيه لأنّه قصير العُنق لا ينال ماء ولا مرعى وإنما صار ولدُ
البُخْتِيِّ من البُختِيّة جَزُور لحمٍ لقصَر عنُقه ولعجْزه عن تناوُل
الماء والمرعَى .
خرطوم البعوضة وللبعوضة خرطومٌ وهي تُشَبَّه بالفيل إلاَّ أنَّ خرطومها
أجوفُ فإذا طَعَنَ به في جوف الإنسان وللذبابة خرطومٌ تخرِجُه إذا أرادَتٍ
الدَّم وتُدْخِلُه إذا رَوِيَتْْ فأمَّا
مَنْ سَمَّى خطمَ الخنزيرِ والكلبِ والذَّئبِ خرطوماً فإنما ذلك
على التشبيه وكذلك يقولون لكلِّ طويل الخطم قصير اللَّحييْنِ .
وقد يقال للخَطْم خرطوم على قوله : سَنَسِمُهُ عَلى الْخُرْطُومِ .
وأنشدنا ابنُ الأعرابي لفتًى من بني عامر : ( ولا أقومُ على شيخي فأشتُمُه
** ولا أمرُّ على تلك الخراطيمِ ) جعل سادةَ عشيرته في النَّادي والمجالس
كالخراطيم والمقاديم والهوادي وعلى ذلك قالوا : بنو فلانٍ أنفُ بني فلانٍ
ورؤوسُهم وخَراطيمُهم ومعنى العامريِّ الذي ذهب إليه في شعره كأنَّه عظّم
المشيخَة أن يمرّ بهم وقد قال الشاعر : هم الأنفُ المقدَّم والسَّنامُ
والفِيلُ والبَبْرُ والطَّاوس والبَبْغا والدّجاج السِّنديُّ والكركَدَّن
مما خص اللّه به الهندَ وقد عدَّد ذلك مطيعُ بن إياس حين خاطب جاريةً له
كانت تسمى رُوقَة فقال : ( روق أي روق كيف فيك أقول ** سادسنا دوني
وأرمائيل )
( وبعيدٌ من بينه حيثما كا ** ن وبين الحبيب قندابيل ) ( ببلاد بها تبيض الطواوي ** س وفيها يزاوج الزندبيل ) ( وبها الببغاء والصفر والعو ** د له في ذرى الأراك مقيل ) ( والخموع العرجاء والأيل الأق ** رن والليث في الغياض النسول ) وقال أبو الأصلع الهنديُّ يفخر بالهِند وما أخرجت بلاد الهند : ( لقد يعذلني صحبي ** وما ذلك بالأمثل ) ) ( وفي مدحتي الهند ** وسهم الهند في المقتل ) ( وفيه الساج والعاج ** وفيه الفيل والدغفل ) ( وإن التوتيا فيه ** كمثل الجبل الأطول ) ( وفيه الدار صيني ** وفيه ينبت الفلفل ) والمتشابه عندهم من الحيوان الفيل والخنزير والبعوضة والجاموس وقال رؤبة : ( ليث يَدُقّ الأسَدَ الهَمُوسَا ** والأَقْهََبيْنِ الفيلَ والجاموسا )
هجاء أبي الطروق لامرأته ولما هجا أبو الطّروق الضبِّيُّ امرأتَه وكان اسمها شَغْفَر بالقُبح والشناعة فقال : ( جاموسة وفيلةٌ وخَنزرُ ** وكلُّهنَّ في الجمال شَغْفرُ ) ( كأنّ الذي يَبْدُو لنا من لِثامِها ** جَحافلُ عَيرٍ أو مشافر فِيلِ ) (
شعر في الفيل
والفيل يوصف بالفَقَم ولذلك قال الأعرابيّ : ( قد قادني أصحبي المعمم ** ولم أكن أخدع فيما أعلم ) ( إذا صفق الباب العريض الأعظم ** وأدنى الفيل لنا وترجموا ) ( وقيل إن الفيل فيلٌ مرجم ** خبعثنٌ قد تم منه المحزم )( أجرد أعلى الجسم منه أصحم ** يجر أرحاءً ثقالاً تحطم ) ( ما تحتها من قرضها وتهشم ** وحنكٌ حين يمد أفقم ) ( ومشفرٌ حين يمد سرطم ** يرده في الجوف حين يطعم ) ( لو كان عندي سببٌ أو سلم ** نجيت نفسي جاهداً لا أظلم ) وقال آخر : ( مَنْ يركبِ الفيلَ فهذا الفيلُ ** إنّ الذي يركَبُهُ محمولُ ) ( على تهاويلَ لها تهويلُ ** كالطَّودِ إلاَّ أنّهُ يجولُ ) وقال عمارة بن عقيل يضرب المثل بقوَّة الفيل : ( إذا أتانا أميرٌ لم يقلْ لهمُ ** هَيْداً وجالتْ بنا منه الأحابِيلُ )
( وعَضَّ مجهودنا الأقصَى وحَمَّله ** مِنَ المظالم ما لا يحمِلُ
الفِيلُ ) )
وقال أبو دَهْبَلٍ يمدح أبا الفيل الأشعريّ : ( إنّ أبا الفيل لا تحصى
فضائله ** قد عَمَّ بالعُرْفِ كلَّ العُجْمِ والعَربِ ) ونظر ابن شهلة
المدينيّ إلى خُرطوم الفيل وإلى غُرموله فقال : ( ولم أرَ خُرطومَينِ في
جسمِ واحدٍ ** قد اعتدَلاَ في مَشْرَبٍ ومَبالِ ) فقد غلِط لأنّ الفيلَ لا
يشرَبُ بخرطومه ولكن به يُوصِلُ الماءَ إلى فمه فشبَّه غُرموله بالخرطوم
وغُرموله يشبَّه بالجعْبة والقنْديل والبَرْبخ .
وقال المخبَّل في تعظيم شأن الفيل : ( أتهزأ منِّي أمُّ عمرة أنْ رأت **
نهاراً وليلاً بَلَّياني فأسْرَعَا ) ( فإن أكُ لاقيتُ الدَّهارِيسَ منهما
** فقد أفْنيا النُّعْمان قبلي وتُبَّعا ) ( ولا يلبثُ الدَّهرُ المفرِّق
بَيْنَهُ ** على الفيل حتى يستدير فيُصْرَعا ) وقال مروان بن محمد وهو أبو
الشَّمَقْمَق وحدّثني صديقٌ لي قال سألتُ أبا الشَّمقمقِ عن اسمه
( يا قوم إنَّي رأيتُ الفِيلَ بعدَكُم ** فبارَكَ اللّه لي في رُؤْيةِ الفيلِ ) ( رأيت بيتاً له شيءٌُ يحرّكه ** فكدتُ أصنعُ شيئاً في السراويلِ ) وقالت دودة لأمِّها : ( يا أمِّ إنّي رأيتُ الفِيلَ مِن كَثَبٍ ** لا بارَك اللّهُ لي في رؤية الفيلِ ) ( لمّا بصُرْت بأير الفِيل أذْهَلني ** عن الحميرِ وعن تلك الأباطيلِ ) (
خطبة بدوي فيها ذكر الفيل
وقال الأصمعي : جَنَى قومٌ من أهل اليمامة جناية فأرسل إليهم السُّلطانُ جنداً من بُخاريّةِ ابن زياد فقام رجلٌ من أهل البادية يُذمِّرُ أصحابَه فقال : يا معشَر العرب ويا بني المحصنات قاتِلُوا عَن أحسابكم ونِسائكم واللّه لَئنْ ظَهَرَ هؤلاء القومُ عليكم لا يَدَعُون بها لِينَةً حَمْراءَ ولا نخلةً خضراءَ إلاّ وضعُوها بالأرض ولا أغرُّكم مِن نُشّابٍ معهم في جِعاب كأنَّها أيور الفِيَلة يَنزِعُونَ في قسِيٍّ كأنَّها العَتَلُتئط إحداهُنّ أطِيطَ الزُّرنُوق يَمْغَطُُ أحدُهم فيها حتى
يتفرّق شعرُ إبطَيْه ثم يُرْسِل نُشَّابةً كأنها رِشاءٌ منقطع فما بينَ
أحَدِكم وبين أن تفضخ عينه أو يُصدَع قلبُه منزلةٌ .
قال : فخلَعَ قلوبَهم فطارُوا رُعْباً .
قالوا : الفِيَلة ضربانِ : فيلٌ وزندبيل وقد اختلفوا في أشعارهم وأخبارهم
فبعضهم يقول كالبُخْت والعراب والجواميسِ والبقَر والبَراذين والخيل
والفأر والجِرذان والذّرّ والنمل وبعضهم يقول : إنما ذهبوا إلى الذَّكَرِ
والأُنثى .
قال خالدٌ ُ القَنَّاص وفي قصيدته تلك المزَاوَجةِ والمخمَّسة التي ذكر
فيها الصَّيد فأطنَبَ فيها فقال حينَ صار إلى ذِكْر الفيل : ( ذاك الذي
مِشفَرُهُ طويلُ ** وهو من الأَفيال زَنْدَبيلُ )
فذهب إلى العِظَم وقال الذَّكْواني : وفيلة كالطّوْدِ زندبيل
وقال الآخر : مِن بين فِيلاتِ وزَنْدَبِيلِ فجعل الزَّنْدَبِيل هو الذكر
وقال أبو اليقظان سحيمُ بنُ حفص : إنَّ الزَّنْدَبيلَ هو الأنثى فلم
يقِفُوا مِن ذا على شيءٍ .
الجنّ والحن وبعض النّاس يقْسِم الجنَّ على قِسْمين فيقول : هم جِنّ وحِنّ
ويجعل التي بالحاء أضعفَها وأما أبِيتُ أهْوِي في شَياطينَ تُرِنّ مختلفٍ
نَجْرَاهُمُ جِنٌّ وحِنّ ففرق هذا بين الجنسين .
الناس والنسناس )
الناس والنسناس
وسمع بعضُ الجهَّال قولَ الحسن : ذهبَ النَّاسُ وَبَقِيتُ في النِّسناس
فجعَلَ النَّسناس جنساً على حِدَة وسمع آخرون هم أجهلُ من هؤلاء قولَ
فجعَلَ النَّسناس جنساً على حِدَة وسمع آخرون هم أجهلُ من هؤلاء قولَ
الكميت : نَسناسهم والنَّسانسا فزعموا أنّهمْ ثلاثةُ أجناسٍ : ناس
ونَسْناس ونَسانِسُ هذا سوى القول في الشِّق وواق واق وذوال باي وفي
العُدَار وفي أولاد السَّعالِي من الناس وفي غير ذلك مما ذكرناه في موضعه
من ذكر الجنّ والإنس .
وقد علم أهلُ العقلِ أنّ النّسناس إنما وقَعَ على السِّفْلة والأوغاد
والغَوْغاء كما سمَّوا الغوغاء الجراد إذا ألقى البيض وسخُف وخفّ وَطار .
(
هياج الفيل
قال : وإذا اغْتَلمَ الفيلُ قَتَلَ الفِيَلَة والفيَّالين وكلََّ مَن لَقِيَه من سائر النَّاس ولم يقمْ له شيءٌ حتى لا يكونُ لسُوَّاسِه هَمٌّ إلاّ الهرَبُ وإلاّ الاحتيالُ لأنفسهم .
وتزعُم الفرُس أنّ فيلاً من فِيَلة كِسرى اغتلمَ فأقبَلَ نحو النَّاس فلم
يقمْ له شيءٌ حتى دنا من مَجلس كِسرى فأقَشَعَ عنه جُندُه وأسلمتهُ
صنائعهُ وقصد إلى كسرى ولم يبقَ معه إلاّ رجلٌ واحدٌ من فرسانِه كان
أخصَّهم به حالاً وأرفعَهم مكاناً فلمّا رأى قُرْبَه من الملك شَدَّ عليه
بِطَبْرَزِينٍ كان في يده فضرَبَ به جبهتَه ضربةً غابَ لها جميعُ الحديدة
في جبهته فصدفَ عنها وارتدع وأبَى كِسرَى أن يزُولَ من مكانه فلمَّا
أيقَنَ بالسَّلامة قال لذلك الرجل : ما أنا بما وَهَبَ اللّه لي من
الحياةِ على يدك بأشدَّ سروراً منِّي بالذي رأيت من هذا الجلَد والوفاء
والصَّبْر في رجل من صنائعي وحين لم تخطئْ فِرَاسَتي ولم يَفِلْ رأيي فهل
رأيت أحداً قطُّ أشدَّ َّمنك قال : نعم قال : فحدِّثْني عنه قال : على أن
تؤمِّنني فأمّنه فحدَّث عنبِْهرام جُوبين بحديثٍ شقَّ على الملك وكرِهَه
إذ كان عدُوُّه على تلك الصّفة .
قال : إذا اغتَلمَ الفِيلُ وصَالَ وغَضبَ وخَمط خلاَّهُ الفيَّالون والرٍّ
وَّاضُ فربًَّما عاد وحشيًّا . ( أهليُّ الفيلة ووحشيُّها ) والفيلة من
الأجناس التي يكون فيها الأهليُّ والوحشيُّ كالسّنانير والظِّباء والحمير
وما أشْبَهَ ذلك وأنشد الكِرمانيّ لشاعر المُولْتانِ قولَه : فكنتُ في
طلبي مِنْ عندِه فرَجاً كراكب الفيل وَحْشِيّاً ومُغْتَلَمَا وهذه القصيدة
هي التي يقول فيها : قد كنت صَعَّدْتُ عن بُغْبُورُ مغترِباً حتى لقيت بها
حِلْفَ النَّدَى حَكَما ( قرَْمٌ كأنَّ ضياءَ الشَّمْس سُنَّتُه ** لو
نَاطقَ الشَّمْس ألقَتْ نحوَه الكَلِما )
خصال كسرى وتقول الفُرْس : أُعْطِيَ كسرى أبْرَوِيزَ ثمان
عشْرَةَ خَصْلةً لم يُعطها ملكٌ قطّ ولا يعطاها أحدٌ أبداً من ذلك أنّه
اجتمَعَ له تِسْعُمائة وخمسون فيلاً وهذا شيءٌ لم يجتمعْ عندَ ملِك قطّ
ومن ذلك أنّه أنْزَى الذُّكورة على الإناث وأنَّ فيلةً منها وضعَتْ عنده
وهي لا تتلاقح بالعراق فكانت أوَّل فِيلةٍ بالعراق وآخر فيلةٍ تضع .
قالو : ولقي رُسْتَمُ الآزَريّ المسلمين يوم القادسيّة ومعه من الفيلة
عشرون ومائة فيل وكنّ من بقايا فِيَلة كِسرى أبرويز .
قالوا : ومن خصاله أنّ النَّاس لم يَرَوْا قط أمَدَّ قامةً ولا أتمّ
ألواحاً ولا أبرَعَ جمالاً منه فلما مات فرسُهُ الشَّبْدِيز كان لا يحمله
إلاَّ فيلٌ من فِيَلته وكان يجمع وطاءةَ ظَهْر الفِيل وثَباتَ قوائمه
ولِينَ مشيته وبُعْدَ خَطوه وكان ألطفَها بدَناً وأعدلها جسماً .
( أكثَر خلفاء المسلمين فيلة ) قالوا : ولم يجتمع لأحد من ملوك المسلمين مِن الفيَلة ما اجتمع عندَ أمير المؤمنين المنصور اجتمع عنده أربعون فيلاً فيها عشرون فحلاً . (
شرف الفيل
قالوا : والفِيل أشرَفُ مراكب الملوك وأكثرُها تصرُّفاً ولذلك سأل وَهْرَز الأسْوارُ عن صاحب الحبشة حين صافَّهم في الحرب فقيل له : ها هو ذاكَ على الفيل فقال : لا أرميه وهو على مركب الملوك ثم سأل عنه فقيل له : قد نزل عنه ورَكِبَ الفرَس قال : لا أرميه وهو على مركب الحُمَاةِ قيل : قد نزلَ عنه وركب الحمار قال : قد نزل عن مَرْكبِه لحمارٍ فدعَا بعِصابةٍ رَفَع بها حاجِبَيْه وكان قد أسنَّ حتى سقط جاجباه على عينيه ثم رماه فقتَله .ذكاء الفيل
وكان سهلُ بنُ هارونَ يتعجَّبُ مِنْ نَظَر الفيلِ إلى الإنسان وإلى كلّ شيء يمرّ به وهو الذي ( ولمَّا رأيتُ الفيلَ ينظُرُ قاصداً ** ظننْتُ بأنّ الفيلَ يلزمُه الفرضُ )قال أبو عثمان : وقد رأيتُ أنا في عَين الفِيل من صحّة الفَهْم والتأمُّلِ إذا نظَر بها وما شبهت نظرَه إلى الإنسان إلاّ بنظرِ ملكٍ عظيم الكِبْر راجح الحِلم وإذا أرْدتَ أن ترَى من الفيل ما يُضحِك وترَاهُ في أسخَف حالاته وأجهِلهِ فألق إليه جوزةً فإنَّه يريد أن يأخذ بطَرَف خُرطومِه فإذا دنا منها تنفَّسَ فإذا تنفَّس طارت الجَوزة من بين يديه ثم يدنو ثانيةً ليأخذَها فيتنفسُ أخرى فتبعد عنه فلا يزال ذلك دأبَه . (
فضله في الحرب
قالوا : ويفضُل الفيلُ الفرسَ في الحرب أنّ الفيل يحمِي الجماعة كلهم ويقاتل ويَرمي ويزجّ بالمزاريق وله من الهول ما ليس للفرسِ وهو أحسن مطاوعةً ولا يُعْرَفُ بجماح ولا طِماحٍ ولا حِران .والخيولُ العِتاقُ ربَّما قتلَت الفُرسانَ بالحِران مَرَّةً وبالإقدام مَرَّة وبسُوء الطّاعة وشدّة الجزع وربّما شبَّ الفرسُ بفارسه حتى يلقِيَه بين الحوافر والسُّيوف للسَّهم يصيبه والحجرِ يقع به وما يشبه ظهرُ الفرسِ مِن ظهره وظهرُ الفيل منظرةٌ من المناظر ومَسْلَحَةٌ من المسالح .
عمر الفيل
وفي الفِيَلة عجبٌ آخرُ وذلك أنَّ قصَر الأعمارِ مقرونٌ بالإبل والبراذين
وبكلِّ خَلقٍ عظيم وكلُّ شيء يعايشُ النَّاسَ في دُورهم وقُراهم ومَنازلهم
فالناس أطولُ أعماراً منها كالجمل والفَرَس والبرذَوْن والبغل والحِمار
والثّوْر والشَّاة والكلْب والدَّجاج وكلِّ صغيرٍ وكبيرٍ إلا الفيل فإنّه
أطولُ عمراً .
والفيلُ أعظم من جميع الحيوان جسماً وأكثرُ أكلاً وهو يعيشُ مائة السنة
ومائتي السَّنة .
وزعم صاحبُ المنطق في كتاب الحيوان أنّه قد ظهَرَ فيلٌ عاش أربعمائةِ سنة
فالفيل في هذا الوجه يشارك الضِّباب والحيَّات والنُّسُور وإذا كان كذلك
فهو فوقَ الوَرَشان وعَيْر العانة وهو من المعمَّرين وفوق المعمَّرين وهو
مع ذلك أعظم الحيوان بدناً وأطولُها عمراً . (
الأسد والفيل
وقال بعض من يستفهم ويحب التَّعلمَ : ما بال الأسد إذا رأى الفيلَ عَلِم أنَّه طعام له وإذا رأى النَّمر والبَبْر لم يكونا عنده كذلك وكيف وهوأعظمُ وأَضخَم وأشْنَع وأهول فإن كانَ الأسدُ إنما اجترأ عليه
لأنّه من لحمٍ ودمٍ واللّحْمُ طعامُه والدَّم شرابُه فالببر والنَّمر من
لحمٍ ودم وهما أقلُّ من هؤلاء وأقمأ جسماً .
قال القوم : ومَتَى قَدّرَ الأسدُ في الفيل أنه إذا قاتله غلبه وإذا غلبه
قتَله وإذا قتلَه أَكلَه وقد نَجِدُ الببْرَ فوقَ الأسد وهو لا يعْرِض له
والأسد فوق الكلب وهو يشتهي لحمه ويشتهي لحم الفهد بأكثر ممّا يشتهي لحمَ
الضّبع والذئب وليست علَّته المواثبة التي ذهبتم إليها .
معرفة الحيوان فأمَّا عِلْم جميعِ الحيوان بمواضع ما يُعيشها فَمنْ علّم
البعوضة أنّ مِن وراء ظاهرِ جلد الجاموس دَماً وإنّ ذلك الدمَ غذاءٌ لها
وأنّها مَتَى طعَنتْ في ذلك الجلدِ الغليظ الشَّثْن الشديد الصُّلبِ أن
خرطومَها ينفذ فيه على غير مُعاناة .
ولو أن رجلاً منَّا طعنَ جلدَه بشوكةٍ لانكسرت الشَّوكةُ قبل أن تصل إلى
موضع الدم وهذا بابٌ يُدْرَك بالحسِّ وبالطبع وبالشبه وبالخِلْقة والذي
سخّر لخرطوم البَعوضِة جلدَ الجاموس هو الذي سخَّر الصخرةَ لذنَب الجرادة
وهو الذي سخَّر قمقُمَ النُّحاس لإبرة العقرب .
علة عدم تلاقح الفيلة بالعراق
وقال بعض خصماء الهند : لو كانت الفِيَلة لا تتلاقَحُ عندنا بالعِراق لأنها هنديَّة لتغيّر الهواءِ والأرض فعَقَر ذلك أرحامَها وأعْقَمَ أصلابها لكان ينبغي للطواويس أن لا تتزاوج عندنا ولا تبيض ولا تُفرخَ ونحن قد نَصيد البلابِل والدباسيّ والوراشين والفواخت والقمارى والقَبَجَ والدُّرَّاج فلا تتسافَدُ عندنا في البيوت وهي من أطيار بساتيننا وضياعنا ولا تتلاقَحُ إذا اصطَدْناها كرارزة بل لا تصوِّت ولا تغنِّي ولا تَنُوح وتبقى عندَنا وحشيّةً كمِدةً ما عاشت فإن أخذْناها فراخاً زاوَجتَ وعَشَّشت وباضت وفرّخت فلعلَّكم أن تكونوا لو أهديتم إلينا أولادَها صغاراً فنشأت عندنا وذهب عنها وحشة الخلاء وجدَتْ أُنسَ الأهليّ فإنَّ الوحشة هي التي أكْمَدَتْها ونقضَتْ قوّتَها وأفنت شهْوَتَها .وفاء الشفنين
وقد نجِد الشِّفْنينَ الذَّكر تهلِكُ أنثاه فلا يُزاوِج غيرَها أبداً في بلادها كان ذلك أو في غير بلادها ونحن لو جِئْنا بالأُسد والذِّئاب والنُّمور والبُبُور فأقامَتْ عِندنا الدَّهرَ الطَّويل لم تتلاقح قصة الذئب والأعرابي وقد أصاب أعرابيٌّ جروَ ذئبٍ فرّباه ورجَا حراستَه وأن يألفَه فيكونَ خيراً له من الكلب فلما قوِيَ وثب على شاةٍ له فأكلها فقال الأعرابي : ( أكلْتَ شُوَيْهَتي ورَبِيتَ فينا ** فما أدراك أنَّ أباكَ ذيبُ ) وقد تتسافد عندنا حمير الوحش وقد تلاقحتْ عندَ بعض الملوك .تلاقح الظباء في البيوت وكان جعفُر بنُ سليمانَ أحضَرَ على مائدته بالبَصرة يوم زارَهُ الرّشيدُ ألبانَ الظِّباء وزُبْدَها وسِلاها ولبَأها فاستطاب الرشيدُ جميعَ طعومِها
فسأل عن ذلك وغمَزَ جعفرٌ بعضَ الغِلمان فأطَلقَ عن الظّباء
ومَعَها خشْفانُها وعليها شُمُلها حتى مَرّتْ في عَرْصةٍ تُجاهَ عينِ
الرَّشيد فلما رآها على تلك الحال وهي مقرَّطة مخضّبة استخفَّه الفرح
والتعجُّب حتى قال : ما هذه الألبان وما هذه السُّمْنان واللِّبأ
والرَّائب والزُّبد الذي بينَ أيدينا قال : مِن حَلَبِ هذه الظّباء
أُلِّفَتْ وهي خشْفانٌ فتلاقحتْ وتلاحقت .
استنتاج الذئاب والأسد بالعراق )
ولو أطلقوا الذِّئابَ والأُسْد في مرْوجِ العراق وأقاموا لها حاجاتها
لتسافدَتْ وتلاقحت فلعلَّهم لو تقدَّموا في اصطناع أولاد الفِيَلة
واقتنائها صغاراً أن تأنس حتى تتسافد وتتلاقح وقد زعمتم أنَّ كسرى أبرويز
استنْتج دَغْفلاً واحداً .
احتجاج الهندي قال الهندي : تكفِينا هذه الحُجَّة وهي بيننا وبينكم أوَ
ليس قد جَهد في ذلك جميعُ الملوك من جميع الأمم في قديم الدهر فلم
يستنتجوا إلا واحداً وعلى أنَّ هذه الأحاديثَ من أحاديث الفُرْس وهم أصحاب
نَفْجٍ وتزيد ولا سيَّما في كلِّ شيء مما يدخل في باب العصبيَّة ويزيد في
أقدار الأكاسرة وإن كانوا كذلك فهم أظنَّاء والمتهم لا شهادة له ولكن هل
رأيتم قطُّ هندياً أقرَّ بذلك أو هل أقرَّت بقايا سائر الأمم للفرسِ بهذا
الأمر للفيلِ المعروفِ بهذا الاسم .
استطراد لغوي ويقال رجل فيلٌ إذا كان في رأيهِ فِيَالة والفِيالة الخطأ
والفساد وهم يسمُّون الرَّجل بفيل منهم فيلٌ مولى زياد ويكنون بأبي الفيل
منهم أبو الفِيل الأشعريّ الذي امتدحه أبو دَهْبَل .
وقال : الرَّاجز غَيْلان
يقال له راكبُ الفِيل : ومنهم عَنْبَسة الفيل وكذلك يقال لابنه
مَعدان وله حديث وقال الفرزدق : ( لقد كان في مَعْدانَ والفيلِ زاجرٌ **
لعَنْبسةَ الرّاوي عليَّ القصائدا ) وقال الأصمعيّ : إذا كان الرجلُ
نبيلاً جباناً قِيلَ هذا فِيلٌ وأنشد : ( يقولون للفِيلِ الجبان كأنّه **
أَزَبُّ خَصِيٌّ نَفَّرَتْهُ القَعاقِعُ ) وقال سلمة بن عَيَّاش : قال لي
رؤبة : ما كنتُ أُحِبُّ أَنْ أرَى في رأيك فيالة .
ويقول الرَّجل ُ لصاحبه : لم يَفِلْ رأيُك وهو رأيٌ فائل ورجلٌ فِيل
وبالكوفة بابُ الفيل ودار ( لَعمْرُ أبيكَ ما حمّامُ كِسرَى ** على
الثلثينِ من حمَّام فيلِ ) وقال الجارود بن أبي سبرة : ( وما إرْقاصُنا
خَلْفَ المَوَالي ** كسنَّتنا على عهد الرّسولِ ) وأبو الفيل محمد بن
إبراهيم الرافقي كان فارس أهل العراق .
وفِيلُويه السّقطي هو الذي كان يُجري لأمّه كلَّ أضْحى درهماً فحدثتني
امرأة قالت قلتُ لأمّ فِيلُويَهْ : أو ما كان يجري فِيلويَه في كلِّ
أضْحَى إلا درهماً قالت : إي واللّه وربَّما أدخل أضْحى )
في أَضحى .
مثالب الفيل
وقال بعضُ من يخالف الهند : الفيل لا يُنْتَفع بلحمه ولا بلبَنه ولا بسمْنِه ولا يزبده ولا بشَعره ولا بوبَره ولا بصوفه عظيم المؤُونة في النفقَة شديد التَّشزُّن على الرُّوَّاض وإن اغتلم لم تفِ جميعُ منافعه في جميع دهرِهِ بمضرَّة ساعة واحدة وهو مرتفعٌ في الثمن وإن أخطؤوا في تدبير مَطَمِه وَمَشربه وتعلُّمه وتلقنه هلَكَ سريعاً ولا يتصرَّف كتصرُّف الدّوابّ ولا يُركب في الحوائج والأسواق وفي الجنائز والزِّيارات ولو أنّ إنساناً عادَ مريضاً أو اتَّبع جنازة على فيل لصارَ شهرةًرؤيا الفيل
وسئِل ابن سِيرينَ عن رجلٍ رأى فيما يَرَى النَّائم كأنه راكبٌ على فيل فقال : أَمرٌ جسيمٌ لا منفعة له .قالوا : وقال رجلٌ للحجَّاج بن يوسف : رأيت في المنام رجلاً مِن عُمَّالك قدَّمَ فيلاً فضربَ عُنقَه فقال : إن صدقَتْ رؤْياك هلك دَاهَر بن بصبهرى .
حكم أكل لحمه
وسئل الشَّعبيُّ عن أكل لحمِ الفيل فقال : ليس هو من بهيمة الأنعام .خرطوم الفيل
وخرطومُه الذي هو سلاحُه والذي به يبطِشُ وبه يعيش مِنْ مَقاتلِه .وقال زَهْرة بن جُؤيَّة يوم القادسية : أمَّا لهذه الدابة مقتل قالوا : بلَى خُرطومه فشدَّ عليهم حتى خالَطهم ودنا من الفيل فحمَلَ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه فضَرَبَ خرطومَه فبَرَك وأدبر القوم .
بعض صفة الفيل
قال : والفيل أفقَمُ قصير العنق مقلوبُ اللسان مشوَّه الخَلْق فاحش القُبْح ولم يفْلِحْ ذو أربعٍ قطُّ قصير العُنق في طلبٍ ولا هرب ولولا أنّ مسلوخَ النَّور يجول في إهابه ولولا سعته وغَبَبُه لما خَطَامع قصَر عنقه ولذلك قال الأعرابي : ومن جَعَل الأوْقَص كالأعْنق والمطبّق كالضابع وقال الشَّاعر في غَبَبِ الثَّور وهو إسحاق بن حسان الخرَيميّ : ( وأغلبَ فضفاض جلد اللَّبَانِ ** يُدافع غَبْغَبَه بالوظِيفِ ) وليس يُؤتى البَعيرُ في حُضره مع طول عنقه إلاَّ من ضِيق جلْده والفيلُ ضئيل الصَّوت وذلك من أشدِّ عيوبه والفيل إذا بلغَ في الغلمة أشدَّ المبالغ أشبَهَ الجملَ في ترْك الماءِ والعَلف حتى تنضمّ أيْطلاه ويتورَّم رأسه وقد وصف الرّاجزُ الجملَ الهائج فقال : ( سامٍ كأنّ رأسَه فيه وَرَمْ ** إذْ ضَمَّ إطْليْهِ هَياجٌ وقَطَمْ ) وآضَ بعد البُدْنِ ذَا لحمٍ زِيَمْ
ولو لم يكنْ في الفِيَلة من العيب إلا أن عِدةَ أيام حملها كعمر بعض البهائم لكان ذلك عيباً وقد ترك أهلُ المدينة غِراسَ العَجْوة لمَّا كانت لا تطعِمُ إلاّ بعد أربعين سنة . (
قدرته على حمل الأثقال
قال : وليس شيءٌ يحمل من عدد الأرطال ما يحمل الفِيلُ لأنّ الذي يفضُل فيما بين حِمْل الفيل وحِمْل البُخْتيّ أكثرُ مِن قَدرِ ما يفضل بين جسم الفيل على جسم البُخْتي .وقد قال الأعرابيُّ الذي أُدخل على كِسرى ليعْجب من جفائه وجهله حين قال له : أيُّ شيء أبعَدُ صوتاً قال : الجمل قال : فأيُّ شيءٍ أطيَبُ لحماً قال : الجمل قال : فأيُّ شيء أنهض بالحِمْل قال : الجمل قال كسرى : كيف يكون الجملُ أبعَدَ صوتاً ونحن نسمَعُ صوتَ الكُركيِّ من كذا وكذا ميلاً قال الأعرابي : ضَعِ الكرْكيَّ في مكان الجمل وضَعِ الجملَ في مكان الكُركيّ حتى يُعرفَ أيُّهما أبعَدُ صوتاً قال : وكيف يكون لحمُ الجملِ أطيبَ من لحم البطّ والدّجاج والفِراخ
والدُّرَّاج والنَّوَاهِض والجِداء قال الأعرابيّ : يُطبَخ لحمُ
الدَّجاج بماء ومِلح ويُطبخ لحم الجملِ بماء وملح حتى يُعرَف فَضْل ما بين
اللّحمَين قال كِسرى : فكيف تزعُم أنّ الجملَ أحْمَلُ للثِّقْل من الفيل
والفيلُ يحمل كذا وكذا رطلاً قال الأعرابيّ : ليبركِ الفِيلُ ويَبركِ
الجمل وليُحمَل على الفيل حِمْل الْجمل فإنْ نهض به فهو أحمَلُ للأثقال .
قال القوم : ليس في استطاعة الْجمال النهوضَ بالأحمال ما يوجب لها فضيلةً
على حَمْل ما هو أثقل ولعمري إنَّ للجمل بِلينِ أرساغه وطُول عنقِه
لفضيلةً في النُّهوض بعد البروك فأمَّا نفس الثقل فالذي بَينهما أكثر من
أن يقع بينهما الخيار . (
مناقب الفيل
فأمَّا باب الحَمدِ فقد حُدِّثنا عن شَرِيكٍ عن جَابر الجُعْفي قال : رأيت الشعبيَّ خارجاً فقلت له : إلى أَينَ قال : أَنظُرُ إلى الفيل .قال : وسألتُ أبا عبيدةَ فقلتُ : ما لونُ الفيل قال : جَوْن .
ما يحث به الفيل
ومن أعاجيب الفيل أن سَوطه الذي به يُحَثُّ ويصَرَّف مِحجَنُ حديدٍ طرفُه في جبهته والطَّرَف الآخَر في يد راكبه فإِذا راد منه شيئاً غمَزَ تلك الحديدة في لحمه على قَدْر إرادته لوجوهِ التصرُّف .قصة الفيل
وقد ذكر ذلك أبو قيس بن الأسلت في الجاهليَّة وهذا الشِّعر حجَّة في صَرْفِ اللّه الفيلَ والطَّيرَ الأبابيل وصدِّ أبي يَكسوم عن البيت وسنذكر من ذلك طرفاً إن شاء اللّه تعالى قال أبو قيس : ( ومِن صُنْعِه يومُ فِيل الحُبو ** شِ إذْ كلّما بَعثُوه رَزَمْ ) ( محاجِنُهم تحتَ أقرابهِ ** وقد كَلَمُوا أنفه فانْخَرَمْ ) ( فأرسَلَ من فوقهم حاصِباً ** يلفُّهم مثلَ لَفِّ القَزَمْ )وقال أيضاً صَيْفيُّ بنُ عامر وهو أبو قيس بن الأسلت وهو رجلٌ يمان من أهل يثْرب وليس بمكيّ ولا تَهامٍ ولا قُرَشِيّ ولا حَليفِ قرشيّ وهو جاهليّ : ( قوموا فصلوا ربكم وتعوذوا ** بأركان هذا البيت بين الأخاشب ) ( فعندكم منه بلاءٌ مصدقٌ ** غداة أبي يكسوم هادي الكتائب ) ( فلما أجازوا بطن نعمان ردهم ** جنود الإله بين سافٍ وحاصبٍ ) ( فولوا سراعاً نادمين ولم يوب ** إلى أهله ملحبش غير عصائب ) ويدلُّ على صحَّة هذا الخبرِ قول طُفيل الغَنَوِيّ وهو جاهليّ وهذه الأشعارُ صحيحةٌ معروفةٌ لا يرتاب بها أحدٌ من الرُّواة وإنما قال ذلك طُفيلٌ لأنَّ غَنِيّاً كانت تنزل تِهامة فأخرجتها كِنانةُ فيمن أخرجَتْ فهو قوله : ( تَرْعَى مَذَانِبَ وَسْمِيٍّ أطاعَ له ** بالجِزْعِ حيثُ عَصَى أصحابَه الفِيلُ )
قال أبو الصَّلت واسمه ربيعة وهو أبو أميَّة بن أبي الصَّلت وهو
ثَقَفِيّ طائفيّ وهو جاهليٌّ )
وثقيفٌ يومئذ أضداد بالبلدة وبالمال وبالحدائق والجِنان ولهم اللاتُ
والغَبْغَب وبيتٌ له سَدَنة يضاهِئُون بذلك قريشاً فقال مع اجتماع هذه
الأسباب التي توجب الحسدَ والمنافسة : ( حَبسَ الفِيلَ بالمغمَّس حَتَّى
** ظَلَّ يَحْبُو كأنَّه مَعْقورُ ) ( واضعاً حَلْقَةَ الجِرَانِ كما
قُطِّ ** رَ صخرٌ من كَبْكَبٍ محدُورُ ) وقال بعضهم لأبْرَهَةَ الأشرم : (
أينَ المفرُّ والإله الطالبْ ** والأشرمُ المغلوبُ غير الغالب ) وقال عبد
المطَّلب يوم الفيل وهو على حِراء : ( لاهُمّ إنَّ المرءَ يم ** نَعُ
رَحْلَه فامْنَعْ حِلالَكْ )
( لا يغلبَنَّ صليبُهُمْ ** وَمِحَالُهُمْ أَبَداً مِحالَكْ ) ( إنْ كنتَ تاركَهُمْ وَقِبْ ** لَتَنا فأمْرٌ ما بَدَا لَكْ ) وقال نُفَيْل بن حَبيب الخثعميّ وهو جاهليٌّ شهِدَ الفيلَ وصُنْعَ اللّهِ في ذلك اليوم : ( ألاَ رُدِّي جِمالَكِ يا رُدَيْنَا ** نَعِمْنَاكُم مع الإصْباحِ عَيْنَا ) ( فإنَّكِ لو رأيتِ وَلَنْ ترَيْهِ ** لدى جنْبِ المحصَّبِ ما رأَيْنَا ) ( أكلُّ الناس يَسْأَلَ عن نُفيل ** كأنّ عَلَيَّ للحُبْشَانِ دَيْنَا ) ( حَمِدْتُ اللّهَ أَنْ عاينْتُ طيراً ** وحَصْبَ حجارة تُلْقَى علينا ) وقال المغيرة بنُ عبدِ اللّه المخروميّ : مُحْتَبَسٌ تزهَقُ فيه الأنفُسْ قال اللّه تبارك وتعالى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ ربُّكَ بِأَصْحَاب الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكَولٍ وأنزل هذه السورةَ وقريشٌ يومئذٍ مُجْلبون في الردِّ على النبي صلى الله عليه وسلم وما شيءٌ
أحبّ إليهم مِن أن يَرَوْا له سَقطةً أو عَثْرَةً أو كِذْبة أو
بعضَ ما يتعلَّق به مثلُهم فلولا أنّه كان أذكَرَهُم أمراً لا يتدافعونه
ولا يستطيع العدوُّ إنكارَه لِلذي يُرى من إطباق الجميع عليه لوجدوا أكبرَ
المقال فهذا بابٌ يكثُر الكلام فيه وقد أَتينا عليه في كتاب الحُجَّة .
وقال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ مثل قوله : أَلَمْ تَرَ
إلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وقال : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ وهذا كلُّه ليس من رؤية )
العين لنا .
استطراد لغوي وباب آخَرُ من هذا وهو قوله : وَتَرَاهُمْ يَنْظرُونَ
إلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ويقول الرجُل : رأيتُ الرجلَ قال كذا وكذا
وسمعتُ اللّه قال كذا وفلانٌ يرى السّيف وفلان يرَى رأيَ أبي حنيفة وقد
رأيت عَقْلَهُ حسناً وقال ابن مُقبل :
وإذا قابل الجبلُ الجبلَ فهو يراهُ إذْ قام منه مقام الناظر الذي
ينظر إليه .
وتقول العرب : دارُ فلانٍ تَنْظر إلى دار فلان ودُورُ بني فلان تتناظر .
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : أنا بريءُ من كلّ مسلمٍ مع مشرك قيل :
ولم يا رسول اللّه قال : لا تتراءى ناراهما .
ويقولون : إذا استقمت تلقاءَ وجهك فنظَرَ إليك الجبلُ فَخُذْ عن يمينك
وقال الكميت : ( وفي ضِبْنِ حِقفٍ يَرَى حِقْفَهُ ** خَطافِ وسَرْحَةُ
والأحْدَلُ ) (
جسامة الفيل
قال أبو عثمان : خرجتُ يومَ عيدٍ فلما صِرت بعيساباذ إذَا أنا بتَلٍّ مُجَلَّلٍ بقطوع ومقطَّعات وإذا رِجالٌ جلوسٌ عليهم أسلحَتُهمفسألتُ بعضَ مَن يشهَدُ العِيد فقلتُ : ما بال هذه المَسْلَحةِ
في هذا المكان وقد أحاطَ النّاس بذلك التَّلِّ فقال لي : هذا الفيلُ
فقصدتُ نحوَه وما لي هَمٌّ إلاّ النّظرُ إلى أذنيه فرجعتُ عنه بعد طول
تأمُّل وأنا أتوهّم عامَّة أعضائه بل جميعَ أعضائه إلاّ أذنَيه وما كانت
لي في ذلك عِلَّةٌ إلاَّ شَغْلَ قلبي بكلِّ شيءٍ هجمتُ عليه منه وكلُّه
كان شاغلاً لي عن أذنه التي إليها كان قَصْدي فذاكرتُ في ذلك سَهل بنَ
هارون فذكر لي أنَّه ابتُلِيَ بمثلها ( أتيتُ الفيل محتسِباً بقَصْدي **
لأُبصِرَ أُذنَه وَيطولَ فِكْرِي ) ( فلم أرَ أذْنَه ورأيتُ خَلْقاً **
يقرِّب بين نِسياني وذِكرِي ) أعجب الأشياء قال : وقال رجلٌ مرَّة : أخزى
اللّه الفيل فما أقبحه فقال بكر بن عبد اللّه المزَنيّ : لا تشتم شيئاً
جعله اللّه آيةً في الجاهليّة وإرهاصاً للنبوَّة .
وقال سعدان الأعمَى النحوي : قلتُ للأصمعيّ : أيُّ شيءٍ رأيت أعجبُ قال :
الفيل .
وقيل لابن الجهم : أيُّ أمورِ الدنيا أعجب قالَ : الشمّ . )
وقيل لإبراهيم النظّام : أيُّ أمور الدُّنيا أعجب قال : الرُّوح .
وقيل لأبي عقيل بن دُرُسْت : أيُّ أمورِ الدُّنيا أعجب قال : النَّوْم
واليقَظة .
وقيل لأبي شمر : أيُّ أمورِ الدُّنيا أعجب قال : النِّسْيان والذِّكر .
وقيل لسلم الخلاَّل : أيُّ أمور الدُّنيا أعجب قال : النار .
وقيل لبَطْلَيْمُوس : أيُّ أمور الدنيا أعجب قال : بَدَنُ الفلك وقال
مرَّة أخرى : الضِّياء .
وقيل لأبي عليٍّ عمرُ بن فائدٍ الأُسْواريّ : أيّ شيءٍ ممّا رأيت أعجب قال
: الآجال والأرزاق وكان إبراهيم بن سيَّارٍ النَّظامُ شديدَ التعجُّب من
الفيل .
قول الخضر في بعض الدواب أبو عقيل السّوّاق عن مُقاتل بن سليمان قال : قال
مُوسى للخضر : أي الدوابِّ أحبُّ إليك وأَيُّها أبغَض قال : أُحِبُّ
الفرسَ والحمارَ والبعيرَ لأنّها من مراكب الأنبياء وأُبغِض الفيل
والجاموسُ والثَّور .
فأمّا البعير فمركب هُودٍ وصالحٍ وشعيب والنبيِّين عليهم السلام وأما
الفرَس فمركب أُولِي العزْم من الرُّسل وكلِّ من أمرَهُ اللّه بحمل
السِّلاح وقتالِ الكفَّار وأمّا الحِمار فمركب عيسى بنِ مَريم وعُزَير
وبَلعَم وكيف لا أحبُّ شيئاً أحياه اللّه بعدَ موته قبل الحشْر .
قال : ولمّا نظر الفضلُ بن عيسى الرَّقاشيُّ إلى سَلْم بن قُتيبة على
حمارٍ يريد المسجد قال : قِعْدة نَبِيٍّ وبِذْلة جَبّار .
وأبغض الفيل لأنَّه أبو الخنزير وأبغض الثَّور لأنّه يشبه الجاموس وأبغض
الجاموسَ لأنّه يشبه الفيل .
وأنشدني في هذا المعنى جَعفرٌ ابنُ أختِ واصل في منزل الفضل بن عاصم
الباخَرزيّ :
( ما أبغض الخضر فيلاً منذ كان ولا ** أحب عيراً وذا كم غاية
الكذب ) ( وكيف يبغض شيئاً فيه معتبرٌ ** وكان في الفلك فراجاً من الكرب )
( ولو تتوجَ فينا واحدٌ فرأى ** زيّ الملوكِ لقد أوفى على الركبِ ) ( يغضى
ويركعُ تعظيماً لهيبته ** وليس يعدِ له النشوانُ في الطربِ ) ( وليس يجذل
إلا كلُّ ذي فخرٍ ** حرٍ ومنبته من خالص الذهبِ ) ( مثل الزنوج فإنّ الله
فضَّلهم ** بالجود والتًّطويل في الخطب ) )
قال : أنشدنيها يونس لابن رباح الشارزنجيّ فمدَحَ الفيل كما ترى بالطَّرب
والحِكاية وأنّه قد أُدِّب وعُلِّم السجودَ للملوك . (
سجود الفيل للملك
وزعموا أنّ أَوَّلَ شيءٍ يؤدّبونَه بهِ السجُودُ للملك قالوا : خرج كِسرى أبرويز ذات يومٍ لبعض الأعياد وقد صَفّوا له ألفَفيل وقد أحدق به وبها ثلاثونَ ألفَ فارِس فلما بصُرَتْ به
الفِيَلةُ سجدتْ له فما رفَعَتْ رأسَها حتى جُذِبَت بالمحاجن وراطَنَها
الفيَّالون .
وقد شهد ذلك المشهد جميعُ أصناف الدوابِّ : الخيلُ فما دونها وليس فيها
شيءٌ يفصِل بين الملوكِ والرعيَّة فلما رأى ذلك كسرى قال : ليت أنّ الفيلَ
كان فارسيّاً ولم يكن هنديّاً انظُروا إليها وإلى سائر الدوابّ وفضِّلوها
بقدر ما ترَون من فَهْمها وأدبها .
وأما ما ذَكَرَ بهِ الزِّنجَ من طول الخُطب فكذلك همْ في بلادهم وعند
نوائبهم ولكنَّ معانيهم لا ترتفع عن أقدار الدوابِّ إلاّ بما لا يذكر . (
ما قيل في تعظيم شأن الفيل
وأنشدوا في تعظيم شأن الفيل وصحة نظره وجَودة تحديقه وتأمُّله وسكونِ طرْفه والشّعر لبعض المتكلّمين : ( إذا ما رأيت الفيل ينظر قاصداً ** ظننت بأنّ الفيلَ يلزمُه الفَرْضُ ) وقد قيل إن الشِّعر لسهل بن هارون .
مثَل النون والضب وقال عبد الأعلى القاصّ : يقال في المثل : إنّ النون قال
للضبّ حينَ رأى إنساناً في الأرض : إني قد رأيتُ عجباً قال : وما هو قال :
رأيتُ خَلْقاً يمشي على رجليه ويتناول الطعام بيديه فَيُهْوِي به إلى فيه
قال : إنْ كان ما تقولُ حَقاً فإنّه سيُخرجُني من قعر البحر ويُنزِلُك من
وَكْرك من رأس الجبل . (
تناول الفيل والقرد طعامه
والفيل أعجَبُ منه لأنَّ يده أنفُه وأيدي البهائمِ والسِّباع على حال عاملة شيئاً والقِردُ يأكل بيديه وَيَنْقِي الجَوزة ويتفلَّى ويَفْلِي أُنثاه وليس شيءٌ يكرَع بأنفه ويُوصِلُ الطعامَ إلى فيه بأنفه غير الفيل .إطعام الدب ولدها والدب الأنثى تُقيم أولادَها تحت شَجرةِ الجوز ثم تصعَد الشّجرة فتجمَع الجوز في كفِّها ثم تضرب باليمنى على اليسرى فتحطم ذلك الجوز فترمي به إلى أولادها فلا تزال كذلك حتى إذا شبعْنَ نزلَتْ .
وربّما قطع الدّبُّ من الشجرة الغُصْن العَبْل الضّخمَ الذي لا يقطعه صاحب
الفأس إلاّ بالجهد الشديد ثم يشدّ به على الفارس قابضاً عليه في موضع مقبض
العصا فلا يصيبُ شيئاً إلاّ هَتَكه . (
قلة تصرف يدي الفيل
قال صاحب المنطق : ليس شيءٌ من ذوات الأربع إلاّ وتصرُّف يديهِ في الجهات أقلُّ من تصَرُّف يَدَي الفيل .وقال أبو عثمان : ويوصف جِلدُ الفيل وجلدُ الجاموس بالقوَّة قال جميل : ( إذا ما علَتْ نَشْزاً تمدُّ زِمامَها ** كما امتدّ نِهيُ الأصْلَفِ المترقرقِ ) ( وما يبتغِي مِنِّي العُداةُ تفاقدوا ** ومِن جِلدِ جاموسٍ سمين مطرَّقِ ) ( وأبيضَ مِن ماءِ الحديدِ اصطفيتُه ** له بعد إخلاص الضريبة رَوْنَقُ )
شعر فيه ذكر الفيل وقال كعبُ بن زهير في اعتذارِهِ إلى النبيِّ
صلى الله عليه وسلم : ( لقد أقومُ مقاماً لو يقوم به ** أَرى وأسمعُ ما
لوْ يَسْمَعُ الفيلُ ) ( لظَلَّ يُرعَدُ إلاّ أن يكون له ** مِنْ
الرَّسولِ بأمر اللّه تنويلُ ) وذكر أمية بن أبي الصلت سفينةَ نوح فقال :
( تصرخ الطَّيرُ والبريَّة فيها ** مَعْ قويِّ السِّباعِ والأفيالِ ) (
حينَ فيها من كلِّ ما عاشَ زوجٌ ** بين ظَهرَيْ غواربٍ كالجبالِ ) )
وقال أميَّة أيضاً : ( خَلَقَ النَّحْل مُعْصِرَاتٍ تَرَاها ** تَعْصِف
اليابسات والمخْضُورا ) ( والتماسيحِ والثيَاتِل والأيِّ ** لَ شَتَّى
والرِّيمَ واليعفورا )
( وأسوداً عوادِياً وفيولاً ** وسِباعاً والنّمرَ والخِنزيرا ) (
طيب عرق الفيل
وتزعم الهند أنّ جبهة الفيل في بعض الزمان تَعرق عرَقاً غليظاً غيرَ سائل يكون أطيبَ رائحة من المِسْك وهذا شيءٌ يعتريه كلَّ عامٍ وموضعُ ذلك الينبوعِ في جَبْهته .فأرة المسك والإبل والنّاسُ يجِدُون رِيحَ المسك في بيوتهم في بعض الأحايين وهي ريح فارةٍ يقال لها فارة المِسْك والذي يكون في ناحية خراسان الذي له فأر المسك ليسَ بالفأر وهو بالخِشْف حين تضَعُه الظّبيةُ أشبَه .
وتقول العرب في فارةِ الإبلِ صادرةً : إنَّ أرَجَ ذلك العرقِ أطيبُ من المسك الأذْفَر في ذلك الزمان وفي ذلك الوقت من اللّيل والنهار .
قال الراعي : ( لها فارةٌ ذَفْرَاءُ كلَّ عشِيَّةٍ ** كمَا فَتَقَ الكافورَ بالمسكِ فاتقُهْ ) قال الأصمعيّ قلت لأبي مهدية أو قيل لأبي مهدية : كيف تقول لا طِيب إلا المسك قال : فأين أنت من البان قال : فقيل له :
فقل : لا طيب إلا المسك والبان قال : فأين أنت عن أدهانٍ بحَجْر
قالوا له : فقل : لا طيبَ إلاَّ المسك والبانُ وأدهانٌ بحَجْر قال : فأين
أنتم عن فارة الإبل صادرة .
قالوا : وربّما وجَدَ النّاسُ في بيوتهم الجُرذَ يضرب إلى السَّوَاد
يجدونَ من بدَنه إذا عَدا إلى جُحْره رائحةً تشبه رائحةَ المسك وبعضُ
النّاس يزعم أنّ هذا الجنسَ هو الذي يَخْبأ الدَّنانير والدراهمَ والحُليّ
كما يصنع العَقْعق والغُرَابُ .
وهذا الجرذُ غير فارة المسك التي تكون بخُراسان وتلك بالخِشْف الصَّغير
أشبه وإنما يأخذون سُرَّتَه وهي ملأى من دمٍ عَبيط . (
الآية في الفيل
قالوا : وقد جعل اللّه الفيلَ من أكبر الآيات وأعظمِ البُرْهانات للبيت الحرام ولِقبْلة الإسلام وتأسيساً لنبوَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لشأنه ولما أجْرَى من ذلك على يَدَي جدِّه عبد المطلب حين غدَت الحبشةُ لِتهدمَ البيتَ الحرام وتُذِلَّ العرب فلم يذكر اللّهُ منهم ملِكاً ولا سُوقةً باسمٍ ولا نَسب ولا لقب وذكرَ الفيلَ باسمه المعروف وأضاف السورةَ التي ذكر فيها الفيل إلى الفيل وجعل فيه من الآية أنهمكانوا إذا قصَدُوا به نحوَ البيت تَعَاصَى وبَرَك وإذا خلَّوه
وسَوْمَه صَدَّ عنه وصَدَف وفي أضعاف ذلك التقَمَ أذنَه نُفيل بن حَبِيب
وقال : ابرُكْ محمود وكان ذلك اسمَه .
الطعن في قصة الفيل وقد طعن في ذلك ناسٌ فقالوا : قد يستقيم أن ينصرف عنه
وَيحْرِدَ دونَه كلّ ذلك بتصريف اللّه له وكيف يجوز أن يَفْهَمَ كلامَ
العرب ويعرفَ معنى قول نُفيل فإن قلتم : قد يفهم الفيل عن الفَيّال جميعَ
الأدب والتقويم وجميعَ ما يريد منه عند الحَطِّ والرَّحيل والمُقام
والمسير قلنا : قد يَفهم بالهنديّة كما يعرف الكلبُ اسمَه ويعرفُ قولَهم
اخسَأ وقد يعرِف السّنّورُ اسمَه ويعرف الدُّعاءَ والزَّجْر وكذلك
الطِّفلُ والمجنون وكذلك الحمارُ والفرس إذا كنَّ قد عُوِّدْن تلك الإشارة
وسماعَ تلك الألفاظ فأمّا الفيل وهو هنديٌّ جلبَه إلى تلك البلْدة حبشيٌّ
فخرجَ من عُجْمة إلى عجمة كيف يفهمُ مع ذلك لسانَ العرب وسِرار نُفَيل بن
حَبيب بالعربيّة
قلنا : قد يستقيم أن يكون قال له كلاماً بالهنديّة كان قد
تعوَّدَ سَماعه من الفيّالين فيكونَ ترجمتُه بالعربيّة هذا الكلامَ الذي
حكَوْه وقد يكون الذي أنطَقَ الذِّئبَ لأُهبانَ بنِ أوس وجعل عود المنبر
يحنّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوِّر لوهم الفيل إرادة نُفَيل بن
حبيب وقد يستقيم مع لَقَن الفيل وذكَائه وحكايته ومُؤاتاته أن يعرف ذلك
كلَّه وأكثرَ منه لطول مُقامِه في أرض الحبَشة واليمن وليس يبعُد أن يكون
بأرض الحبشة جماعةٌ كثيرةٌ من العرب من وافد وباغٍ وتاجر وغيرِ ذلك من
الأصناف فيسمع ذلك منهم الفيلُ فيعرفه وليس هذا المقدار بمستنكَرٍ من
الفيل مع الذي قد أجمَعُوا عليه من فَهم الفيل ومَعرفته .
وكان منكه المتطبّب الهنديّ صحيح الإسلام وكان إسلامَه بعد المناظرة
والاستقصاء والتثبُّت قالوا : فسمع مَرَّةً من رجل وهو يقرأ : أَفلاَ
يَنْظُرُونَ إلَى الإبِل كَيْفَ خُلِقَتْ وسمع )
بعضَ الجهال يقول : فكيف لو رأى الفيل فعذلَه قَوم فقال منكه : لا
تَعْذلُوه فإنَّه لا شكَّ أنَّ خَلْقَ الفيل أعجَبُ فقيل له : فكيف لم
يضرب به اللّه تعالى المثلَ دونَ البعير فقال أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار
النظام فقلت له : ليس الفيلُ بأعجبَ من البعير واجعَلْه يعجِّب من البعير
وهو
إنما خاطب العرب وهم الحجةُ على جميع أهل اللغات ثم تصير تلك
المخاطبةُ لجميع الأمم بعد الترجمة على ألسنة هؤلاء العرب الذين بهم
بَدَأت المخاطبة لجميع الأمم وكيف يجوز أن يعجِّب جماعةَ الأمم من شيءٍ لم
يروْه قطّ ولا كانَ على ظهرها يوم نزلَتْ هذه السورة رجلٌ واحد كان قد شهد
الفيلَ والحبشة وعلى أنَّ الفيلَ وافَى مكَّةَ وما بها أحدٌ إلاّ عبدُ
المطلب في نفير من بقيَّة النَّاس ولا كانوا حيث يتأمّلون الفيل .
وقد قال ناسٌ : كان النَّاسُ رَجلين رجلٌ قد سمِع بهذا الخبر من رِجالات
قريش الذين يجترُّون إلى أنفسهم بذلك التَّعظيم كما كانت السَّدنةُ تكذِب
للأوثان والأصنام والأنصاب لتجترَّ بذلك المنافع ورجلٌ لم يكن عندَه علمٌ
بأنّ هذا الخبرَ باطل فلم يتقدَّم على إنكار ذلك الخبر وجميعُ قريش
تثبِّته .
قيل لهم : إنَّ مكَّة لم تَزَل دارَ خُزاعة وبقايا جُرهم وبقايا
الأمم البائدة وكانت كنانة منها النَّسَأة وكانت مرّ بن أدّ مِنْ رَهْطِ صُوفة والرَّبِيط منها أصحاب المزدلفة وإليهم كانت السِّدانة وكانت عَدْوان وأبو سيّارة عَمِيلة بن أعزَل تدفع بالنّاس وقد كان بين خزاعة وبقايا جرهم ما كان حتى انتزعوا البيت منهم وقد كان بين ثقيف وقُريش لقُرب الدار والمصاهرة والتَّشابه في الثروة والمشاكَلة في المجاورة تحاسدٌ وتنافر وقد كان هنالك فيهم المولى والحُلفاء والقطّان والنازِلة ومَن يحجُّ في كلِّ عام وكان البيت مَزُوراً على وجْه الدهر يأتونه رجالاً ورُكباناً وعلى كل ضامرٍ يأتينَ من كلِّ فجٍّ عميق وبشِقِّ الأنفس كما قال اللّه تعالى : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وكانوا بقرب سُوق عُكاظ وذي المجاز وهما سوقان معروفانِ وما زالتا قائمين حتى جاء الإسلام فلا يجوز أن يكون السَّالب والمسلوب والمفتخر به والمفتخَر عليه والحاسد والمحسود والمتديِّن به والمنكر له مع
اختلاف الطبائع وكَثْرة العلل يُجْمِعُون كلهم على قَبول هذه
الآية والمحلُّون من العرب ممَّن كان لا يرى للحَرَم ولا للشَّهر الحرام
حُرمةً : طيِّئٌ كلها وخثعمٌ كلُّها وكثيرٌ من أحياء قُضاعة ويَشْكُرَ
والحارثِ بن كعب وهؤلاء كلُّهم أعداءٌ في الدِّين والنَّسَب هذا مع ما كان
في العرب من النّصارى الذين يخالفون دِينَ مُشركي العرب كلَّ الخلاف
كتغلبَ وشيبانَ )
وعبدِ القيس وقضاعةَ وغَسَّان وسَليح والعِباد وتَنوخَ وعاملةَ ولخمٍ
وجُذَامَ وكثيرٍ من بَلحارث بن كعب وهم خُلَطاء وأعْداء يُغاوِرون
ويَسْبُون ويُسْبَى منهم وفيهم الثُّؤُور والأوتار والطوائل وهي العربُ
وألسنتُها الحِداد وأشعارُها التي إنما هي مَياسم وَهِمَمُها البعيدة
وطلبُها للطّوائل وذمُّها لكلّ دقيقٍ وجليل من الحسَن والقبيح في الأشعار
والأرجاز والأسجاع والمزدَوِج والمنثور فهل سمْعنا بأحد من جميع هؤلاء الذين ذكرْنا أنكَرَ شأنَ الفيل أو عَرَضَ فيه بحرف واحد . (
كلام الفيل والذئب
ورَزِينٌ العَروضيُّ وهو أبو زهير لم أر قطُّ أطيبَ منه احتجاجاً ولا أطيب عبارة قال في شعرٍ له يهجو ولدَعقبةَ بنِ جعفر فكان في احتجاجه عليهم وتقريعِه لهم أن قال : ( تِهتُمْ علينا بأن الذِّئبَ كلّمكمْ ** فقد لعمري أبُوكُم كَلَّمَ الذِّيبا ) ( هذا السُّنَيديُّ لا أصلٌ ولا طرف ** يكلّم الفِيلَ تصعيداً وتَصويبا ) ولو كان ولد أُهبان بن أوسٍ ادَّعَوا أنّ أباهم كلم الذئب كانوا مجانين وإنما ادَّعوا أنّ الذئبَ كلّمَ أباهم وأنّه ذُكِرَ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّه صَدَّقه .والفيلُ ليس يكلِّم السنديّ ولم يدَّعِ ذلك السنديّ قطُّ وربَّما كان السِّندِيُّ هو المكلّم له والفيل هو الفَهِمَ عنه
فذهب رَزين العَرُوضيُّ من الغَلَط في كل مذهب .
ما يكلَّم من ضروب الحيوان والنَّاس قد يكلّمون الطيرَ والبهائم والكلابَ
والسَّنانير والمَرَاكب وكلَّ ما كان تحتَهم من أصناف الحيوان التي قد
خوِّلوها وسُخِّرَتْ لهم وربَّما رأيتَ القرَّادَ يكلّم القِرد بكلِّ ضرب
من الكلام ويُطيعه القِرد في جميع ذلك وكذلك ربَّما رأيتَه يلقِّن الببغاء
ضروباً من الكلام والبَبْغاء تحكيه وإنّ في غراب البَيْنِ لَعَجَباً وكذلك
كلامهم للدب والكلب والشاة المكّيَّة وهذه الأصنافِ التي تَلْقَن
وَتَحْكِي .
تكليم الأنبياء للحيوان وقد رَوَى الناسُ عن النبي صلى الله عليه وسلم في
كلام السِّباع والإبل ضروباً ولم يذهبوا إلى أنها نطقَتْ بحروفٍ مقطّعة
ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون اللّه أوحَى إليه بحاجاتها
وإمَّا أن تكون فِراسته وحِسّه وتثبُّتُه في الأمور مع ما يُحْضِرُهُ
اللّه من التوفيق بَيَّنَ له )
معانيَها وجلاَّها له واستدلَّ بظاهر على باطنٍ وبهيئة وحركةٍ على
موضع الحاجة وإمَّا أن يكون اللّه ألهمه ذلك إلهاماً .
وأمَّا جِهةَ سليمان بن داود صلى اللّه على نبينا وعليه في المعرفة بمنطق
الطير ومَنطِق كلِّ شيء فلا ينبغي أن يكون ذلك إلاّ أن يقوم منها في الفهم
عنها مَقامَ بعضِها من بعض إذا كان اللّه قد خصَّه بهذا الاسم وأبانَه
بهذه الدَّلالة وأعلام الرُّسُل لا يكثُر عددُها ولا تَعظم أقدارها على
أقدار فضائل الأنبياء لأن أكثر الأنبياء فوقَ سليمان بن داود وأدنى ذلك
أنّ داود فَوْقه لأن الحكم في الوارث والمورِّث والخليفة والذي استخلفه أن
يكون الموروثُ أعلى والمستخلِف أرفَعَ كذلك ظاهر هذا الحكم حتى يخصّ ذلك
برهانٌ حادث .
وإنما تكثر العلامات وتعظُم على قدْر طبائع أهل الزمان وعلى قدر الأسباب
التي تتَّفق وتتهيَّأ لقومٍ دون قوم وهو أن يكونوا جبابرةً عُتاةً أو
أغبياءَ مَنقوصين أو علماءَ معاندين أو فلاسفةً محتالين أو قوماً قد شملهم
من العادات السيِّئة وتراكمَ على قلوبهم من الإلف للأمور المرْدية مع طول
لبثِ ذلك في قلوبهم أو تكون نِحْلتهم وملتهم ودَعوتهم تحتمل من الأسْباب
والاحتيالات أكثَرَ ممَّا يحتملُ غيرها من ذلك فإنّ من الكفر ما يكون عند
المسألة والجواب أسرَع انتشاراً وأظهرَ انتقاضاً ومنه ما يكون أمْتَنَ
شيئاً وإن كانَ مصيرُ الجميع إلى الانتقاض وإلى الفساد ومنه شيء
يحتاج من المعالجة إلى أكثَرَ وأطولَ وإنما يتفاضَلُ العلماءُ عند هذه
الحال وقد يكون أن ينقدح في قلوب الناس عداواتٌ وأضغانٌ سَببها التَّحاسُد
الذي يقع بين الجيران والمتفقين في الصِّناعة وربما كانت العداوةُ من جهة
العصبيَّة فإنَّ عامَّةَ مَن ارتاب بالإسلام إنما كان أوَّل ذلك رأي
الشُّعوبية والتمادي فيه وطول الجدال المؤدِّي إلى القتال فإذا أبغض شيئاً
أبغضَ أهلَه وإنْ أبغَضَ تلك اللغةَ أبغض تلكَ الجزيرةَ وإذا أبغض تلك
الجزيرةَ أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة فلا تزال الحالاتُ تنتقل به حتى
ينسلخ من الإسلام إذ كانت العرب هي التي جاءت به وكانوا السَّلف والقدوة .
أثر الغُلمة في الجسم والعمر وتزعم الهندُ أنّ شِدّةَ غلْمة الفيل وطولَ
أيَّامه فيها وهجرانَه الطَّعامَ والشرَابَ وبقيَّة تلك الطبيعة وعملَ ذلك
العرقِ السَّاري هو الذي يمنع الفيل أن يصير في جسمه مَرَّتَين لأنّ ذلك
مِن أمتن أسباب الهُزَال وإذا تقادَمَ ذلك في بدن وغَبَّ فيه عمِل في
العظْم والعصَب
بعْدَ الشَّحم واللَّحم وإذا كان رفعُ الصوت والصِّياحُ وكثرةُ
الكلام والغضبُ والحدّة إنما صار يورثُ الهُزال )
لأنّ البدن يسخُن عن ذلك و إذا شاعَت فيه الحرارة أحرقَتْ وأكلَتْ وشربت
ولذلك صار الخَصيُّ من الدُّيوكِ والأنعامِ أسمَنَ .
وزعَمُوا أنَّه ليس فيما يعايش الناس من أصناف الحيوان أقصرُ عمراً من
العصفور ولا أطْوَلُ عمراً من البغل وللأمور أسبابٌ فليس يقع الظنُّ إلاّ
على قلّة سِفاد البغل وكثرة سفاد العُصفور .
قالوا : ونجد العمرَ الطَّويلَ أمراً خاصاً في الرُّهبان فنظنّ أيضاً أنّ
تركها الجِماعَ من أسباب ذلك .
قالوا : وإذا اغتلم الذكرُ من الحيوان فهو أخبَث ما يكون لحماً وإذا كثُر
سِفادُه تضاعَفَ فيه ذلك وصار لحمه أيبَسَ ودمُه أقلَّ .
قال الشاعر : ( أُحِبُّ أنْ أصطادَ ضَبّاً سَحْبَلاَ ** أو جُرَذاً يرعى
رَبيعاً أرْمَلاَ ) فجعله أرْمَلَ لا زوجةَ له ليكون أسمَنَ له لأنَّ
كثرةَ السفاد مما يورث الهزال ولا يكثر سفاده إلاّ من شدَّة غلْمته .
وهجا أعرابيٌّ صاحبه حين أكل لحمَ سَوْءٍ غَثٍّ فقال : ( أكلته من غَرَثٍ
ومن قَرَمْ ** كالوَرَلِ السافد يَغْنَى بالنَّسَمْ ) لأنّ لَحْمَ الورلِ
لا يشبه لحم الضبّ وهم لا يرغبون في أكله لأنه عَضِلٌ مَسِيخٌ ولأنهم
كثيراً ما يجدون في جوفه الحيَّاتِ والأفاعي وله ذنبٌ سمينٌ وذلك عامٌّ في
الأذناب وإنْ رأيتَها في العين كأنها عضَل فإذا كان لحمُها كذلك ثم كان في
زمن هيجه وسفاده كان شرّاً له .
وللورَل في السِّفاد ما يجوز به حَدّ الجملِ والخنزير .
قال : والنسم هو النَّسيم في هذا المكان .
وقالت أمُّ فَرْوَة القرنية : ( نفى نَسَمُ الرِّيح القَذَى عن مُتونِه **
فما إنْ به عيبٌ تراه لشاربِ ) وأنا أعلمُ أني لو فسَّرْتُ لك معانيَ هذه
الأشعار وغريبَها لكان أتمَّ للكتاب وأنفَعَ لمن قرأ هذه الأبواب ولكني
أعرف مَلالَة الناس للكتاب إذا طال قال الشاعر يهجو من قَرَاه لحمَ كلب :
( فجاءَ بخِرْشَاوَيْ شَعيرٍ عليهما ** كَرَادِيسُ من أوصالِ
أعقدَ سافِدِ ) )
فلم يرضَ أنْ جعله كلباً حتى جعله سافداً فأمَا ابنُ الأعرابيِّ فزعم أنّه
إنما عَنَى تيساً وقد أبطَلَ وعلى أنَّ المعنى فيهما سواء .
أثر الخصاء في اللحم قالوا : وإنما صار الخصيُّ من كلّ جنسٍ أسمنَ لأنّه
لا يَسْفَد ولا يَهيج .
السقنقور قالوا : والسقنقور إنما ينفَعُ أكلَه إذا اصطادوه في أيام هَيْجه
وسِفاده لأنَّ العاجز عن النِّساء يتعالج بأكل لحمه فصار لحمُ الهائج
أهْيَج له .
أبو نواس والحرامِي أقبل أبو نواسٍ ومعه الحرَامِيّ الكاتب وكان أطْيَبَ
الخَلْق وقد كانا قبل ذلك قد نظرا إلى الفيلة فأبصرا غُرمولَ فيل منها
وعلم الحَرَاميّ أنّ غُرمولَ الفيلِ يُوصَفَ بالجَعْبة فوصف لنا غرمولَه
وأنشدنا فيه شعراً لنفسه : ( كأنّه لمَّا بَدَا للسَّفْدِ ** جَعْبةُ
تُرْكيٍّ عليها لِبْدُ ) قلنا له : أقْوَيْتَ واجتلبتَ ذِكر اللِّبد عن
غير حاجة قال : فإني قد قلتُ غيرَ هذا قلنا : فأنشِدْنا فقال : ( كأنه
لمَّا دنا للشدِّ ** شمعةُ قَيلٍ لُفِّفَتْ في لِبْدِ ) قلنا : فلا نرى لك
بُدّاً من اللِّبد على حال قال : قال أبو نواس : فإني أقولُ عنك بيتين قال
: فهاتِهما فقال : ( كأنه لما دَنَا للوثْبَه ** أُيورُ أعيارٍ جمعن
ضَرْبَهْ )
قال الحَرَامي لأبي نواس : هَبهُما لي على أن لا تدَّعيهما فعسى
أن أنتحِلَهما قلت له : وما ترجُو من هذا الضَّرب من الأشعار قال : قد
رأيتُ غُرمولَه فما عُذْري عند الفيل إنْ لم أقُلْ فيه شيئاً . ( فهم
الفيلِ الهنديةَ ) وحدَّثني صديقٌ لي قال : رأيتُ الفيَّالينَ على ظهر
فيلٍ من هذه الفِيَلة وأقبل صبيٌّ يريد السِّنديّ الرّاكب فكلَّمَ الفيلَ
بالهنديَّة فوقف ثم كلَّمه فمدّ يدَه رافِعَها في الهواء حتى رَكِبَها
الغلامُ ثم رفع يَدَه حتى مدَّ السنديُّ يدَه فأخذ بيد الصبيِّ .
أخلاف الحيوان وأطْباؤه وللبقر والجواميس أربعةُ أخْلافٍ في مُؤخّر
بُطونها وللشاة خِلفان وللناقة أربعة في مؤخّر البطن وللمرأة والرّجُل
والفِيل ثديانِ في الصدر وثَدْيُ الفيل يصغُر جدّاً إذا قرنته إلى بدنه
وللسّنّور ثمانيةُ أطْباءٍ وكذلك الكلْبةُ في جميع بطونهما والخنزيرة
كثيرةُ الأطْباء وللفَهدةِ
في بطنها أربعةُ أطْباء وللَّبؤة طبْيانِ لا يصغُران عن مقدار بَدَنِها والبقرة والأتان والرَّمَكة والحِجْر في ذلك سواءٌ إلاّ أنها من الحافرِ أطْباء ومن الظّلْف أخلاف والسِّباعُ في ذلك والحافرُ سواءٌ . (
عضو الفيل
وقال صاحبُ المنطق : غُرمول الفِيل يصغُر عن مقدار بَدَنِه وخُصيتُه لاحقةٌ بكُلْيته لا تُرَى ولذلك يكونُ سريع السِّفاد .وزعم الهنديُّ صاحبُ كتاب الباه أنَّ أعظمَ الأُيور أيْرُ الفِيل وأصغرها أير الظَّبي .
الفيل في كتاب الحيوان
وما أعجَبَ ما قَرأتُ في كتاب الحيوان لصاحب المنطق وجدتُه قد ذكر رأس الفيل وقِصَر عنقه ولم يذكر انقلابَ لسانه وذلك أعجَبُ ما فيه ولم يذكر في كم يَضَعُ ولا مقدار وزن أعظم الأنياب وكيف يخرج من بطن أمِّه نابت الأسنان .خصائص الفيلة
والفِيَلةُ لا تلِد التؤام قال : وهي تفِذُّ وتُفْرِد قال : وقال بعضُ العلماء : لا يقال أفذّت ولا أفرَدَت إلاّ لما يجوز أن يُتْئم .قال : وأمراضُها أقلُّ من أمراضِ غيرها إلاّ أنّ النَّفْخَ والرِّياحَ يعرِضُ لها كثيراً ويُؤْذيها أذًى شديداً وعامَّةُ أمراضِها من ذلك حتى ربَّما مَنَعها البولُ وغير ذلك قال : وإذا أكلت التُّراب ضَرَّها ذلك ولا سيَّما إذا أكثرَتْ منه فعاودَتْه .
قال : وربَّما ابتلعت منه الحجارة قال : وإذا أصابَها استطلاقٌ سُقيَت الماءَ الحارَّ وعُلِفَت الحشيشَ المعْسول وإذا أتْعَبُوها اعتراها السَّهَر فتعالجَ عند ذلك بأن تُدْلَكَ أكتافُها بزيتٍ وماءٍ حار قال : وبعضها يشرب الزَّيت شُرْباً ذَريعاً .
تذليل الفيل قال : وإذا تصعَّب الفيل وكانَ في حِِدْثان ما اقتطعُوه من الوحْش فإنهم يُنْزُون عليه فِيلاً مثلَه ويحتالون له في ذلك فما أكثرَ ما يَجِدُونه بعد ذلك قد لاَنَ .
قال : وهو مادامَ راكبُه عليه فهو ألينُ من كلِّ ذي أربع وأحسَنُ طاعة ولكن لبعضها صعوبةٌ عند نزُوله عنه فإِذا شدُّوا مقاديمَ قوائمها بالحبال شَدّاً قويّاً لانَتْ .
قال : وهي على صعوبتها تأنَسُ سريعاً وتَلقَنُ سريعاً فأوَّلُ ما يعلَّم
السُّجودُ للملك فإذا عَرَفَه فكلما رآه سجَدَ له .
صدق حس الفيل فأمَّا صِدْقُ الحسّ فهو يفوقُ في ذلك جميعَ الحيوان وهو
والجمل سواءٌ إذا علّما لأنّ الأنثى إذا لَقِحت لم يعاوِدَاها للضِّراب
فهذه فضيلةٌ مذكورة في حسِّ الجمل وقد شاركهُ الفيلُ فيها وبايَنه في
خصالٍ أخر .
وإناثُ الفِيَلة وذكورُها متقاربة في السنّ وكذلك النِّساء والرِّجال وهو
بحريّ الطّباع ونَشَأ في الدَّفاء وهو أجردُ الجلد فلذلك يشتدُّ جزعه منَ
البرْد فإنْ كان أجْرَدَ الجلدِ فما قولهم في أحاديثهم : طلبوا من الملك
الفيلَ الأبيضَ والفِيل الأبقَع وجاء فلانٌ على الفيل الأسود .
حقد الفيل قال : وأخبَرَني رجلٌ من البَحْرِيِّين لم أر فيهم أقْصَدَ ولاَ
أسدّ ولا أقلَّ تكلُّفاً منه قال : لم أجدْهم يشكُّون أنَّ فيَّالاً ضربَ
فِيلاً فأوجَعَه فألحَّ عليه وأنَّهم عندَ ذلك نَهَوْه وخوّفوه وقالوا :
لا تَنمْ حيثُ
ينالك فإنه من الحيوان الذي يحقِد ويُطالِب ولمَّا أراد ذلك
السائسُ القائلةَ شدَّه إلى أصل شجرةٍ وأحكم وَثاقَه ثم تنحّى عنه بمقدارِ
ذراعٍ ونام ولذلك السائس جُمَّة قال : فتناولَ الفيلُ بخُرطومه غصناً كان
مطروحاً فوطِئ على طَرَفه حتى تشعَّث ثم أخَذَه بخرطومه فوضع ذلك الطَّرَف
على جُمَّة الهندي ثم لواها بخُرْطومه فلما ظنَّ أنها قد تشبّكت به
وانعقَدت جذبَ العود جَذبةً فإذا الهنديُّ تحت قوائمه فخبطه خبطة كانت
نَفْسُه فيها .
فإِنْ كان الحديثُ حقّاً في أصل مخرَجِه فكفاك بالفيل معرفةً ومكيدةً وإنْ
كان باطلاً فإنهم لم يَنْحَلُوا الفيلَ هذِه النِّحْلة دونَ غيره من
الدوابّ إلاّ وفيه عندهم ما يحتمل ذلك ويليق به .
طيب عرق الفيل قال : والعرَق الذي يسيل من جَبْهته في زمنِ من الزَّمان
يضارِع المِسْكَ في طيبه ولا يعرِض له وهو في غير بلاده . 4 (
أثر المدن في روائح الأشياء
وقد علمنا أنّ لرائحة الطِّيب فضيلةً إذا كان بالمدينة وأنّ الناسَ إذا وجَدُوا ريح النَّوى المنقَعِ بالعِراق هَرَبوا منه وأشراف أهل المدينةينتابُون المواضِعَ التي يكون فيها ذلك التماساً لِطيب تلك
الرائحة .
ويزعم تُجَّار التُّبَّتِ ممن قد دخَل الصِّين والزَّابِج وقلَّب تلك
الجزائر ونقّب في البلاد أنّ كلَّ من أقام بقصبة تُبَّت اعتراه سُرورٌ لا
يدري ما سببُه ولا يزال مبتسماً ضاحكاً من غير عجَب حتى يخرجَ منها .
ويزعمون أنّ شِيرازَ من بين قُرى فارس لها فغمَةٌ طيّبة ومَن مَشَى واختلف
في طُرقات مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم وجَدَ منها عَرْفاً طيِّباً
وَبَنّةً عجيبَة لا تخفَى على أحدٍ ولا يستطيع أنْ يسمِّيَها .
ولو أدخلتَ كلَّ غالية وكلَّ عطر من المعجونات وغير المعجونات قَصبة
الأهواز أو قصبة أنطاكِية لوجدتَه قد تغيَّر وفَسد إذا أقام فيها
الشَّهرين والثَّلاثة . )
وأجمَعَ أهلُ البَحْرين أنَّ لهمْ تمراً يسمى النَّابجِيّ وأنّ مَن
فَضَخَه وجَعلَه نبيذاً ثمّ شربه وعليه ثوبٌ أبيض صبغَهُ عرقه
حتى كأنه ثوب أتحَميٌّ .
استعمال الفيلة وزعم لي بعضُ البحريِّين أنها بالهند تكون نَقَّالةً
وعوامِلَ كعوامل البقر والإبل والنَّقالة التي تكون في الكَلاَّءِ
والسُّوق وأنها تذلّ لذلك وتُسامِح وتُطاوع وأنّ لها غلاَّتٍ من هذا الوجه
.
وزعم لي أنَّ أحَد هذه الفِيَلَةِ التي رأيناها بسُرّ من رأى أنّه كان
لقَصَّارٍ بأرض سَنْدان يحملُ عليه الثِّيابَ إلى الموضع الذي يغسلها فيه
ولا أعلَمُه إلا الفيلَ الذي بعثَ به ماهانُ أو زكريا بن عطية .
العاج قالوا : وعظامُ الفيل كلها عاجٌ إلاّ أنّ جوهَرَ النَّاب أثمنُ
وأكرم وأكثَرُ ما تَرى من العاج الذي في القِباب والحِجال والفُلك
والمَدَاهن إنما هو من عظام الفيل يعرَفُ ذلك بالرَّزانة والملاسة .
والعاجُ مَتْجر كبير ويتصرّف في وجوهٍ كثيرة ولولا قَدْرَهُ لما فخر
الأحنفُ بن قيس فيما فخر به على أهل الكوفة حيث قال : نحن أكثرُ منكم
عاجاً وساجاً وديباجاً وخراجاً ويقال إنّه من كلام خالد بن صفوان ويقال
إنه من كلام أبي بكر الهذلي .
وإذا خفق بأذنه الفيلُ فأصاب ذُباباً أو يعسوباً أو زنبوراً لم يفْلحْ
والفرسُ الكريم تقَعُ الذُّبابة على مُوقَيْ عينيه فيَصْفِق بأَحَدِ
جفنَيه فتخرُّ الذُّبابة ميّتة
وقال ابن مُقْبل : ( كأنّ اصطفاقَ مَأْقيَيْهِ بِطرْفِه ** صِفاقُ أديمٍ بالأديمِ يُقابِلهْ ) ويصيح الحمار فتصعق منه الذبابة فتموت قال العَبْشَمِيّ : ( مِنَ الحمير صَعِقاً ذِبَّانُهُ ** بكلِّ مَيْثاءَ كتغريد المغَنّ ) وقال عُقبة بن مكدَّم التّغلبي : ( وتَرَى طَرْفَها حديداً بعيداً ** أعْوَجيّاً يطنُّ رأسَ الذُّبابِ ) وقال ابن مُقبل : ( ترى النُّعَرَات الخُضْرَ تحتَ لَبَانِهِ ** فرَادَى وشَتَّى أصعقَتْهَا صواهله ) وأنشد في غير هذا الباب : ( وإنِّي لقاضٍ بين شيبانَ وائل ** وَيَشْكُرَ إنِّي بالقضاء بصيرُ ) ) ( وجدنا بني شيبانَ خُرطوم وائل ** ويَشْكُرُ خنزيرٌ أدَنُّ قصيرُ ) وليس هذا موضع هذين البيتين وأنشد : ( أمسى المَضَاءُ ورهطُهُ في غِبطةٍ ** ليسُوا كما كان المَضَاءُ يقولُ ) قول زياد في بناء داره أبو الحسن قال : قال زياد ودخلَ دارَه وكان بناها له فيلٌ موْلاهُ فلم يرضَ بناءَها فقال : ادعُوا لي فيلاً فلم يجِدُوه فقال : ليتَها في بطن فيل وفيلٌ في البحر . (
قصة فيل مولى زياد
وكان فيلٌ مولى زيادٍ شديدَ اللُّكْنة وأهدى بعضُهم إلى زيادٍ حمارَ وحش فقال فيل : أصلح اللّه الأمير قد أهدَوْا لنا همارَ وَهْشفقال : أيَّ شيءٍ تقول ويْلكَ قال : أهْدَوْا لنا أيراً يريد عيراً فقال زياد : الأوَّل أمثل . (
العيثوم
وكان أبو مالكٍ يقول : العيثُوم الفيلُ الأنثى وذهب إلى قول الشاعر : وطِئَتْ عليك بخُفِّها العيثومُ ويدلّ قولُ علقمةَ بن عَبْدَة على أنّ العيثومَ من صفات الفيل العظيم الضَّخْم وقال : ( تَتْبعُ جُوناً إذا ما هيِّجَتْ زَجَلَتْ ** كأَنّ دُفّاً عَلَى العَلياءِ مَهزُومُ ) ( إذا تزغَّمَ من حافاتها رُبَعٌ ** حَنَّت شعاميمُ من أوساطها كُومُ )ضرب المثل ببعد ما بين الجنسين وقد أكثروا في ضرب المثل ببُعدِ
ما بين الجِنْسين وقال عبد الرحمن بن الحكم : ( أتغضَبُ أن يقالَ أبوك
عَفٌّ ** وتَرْضَى أنْ يقال أبوك زَانِي ) ( وأشهدُ أنْ رحمك من زيادٍ **
كرحم الفيلِ من ولد الأتانِ ) فجعل معاويةَ من نسل الفيل لشرفه وجعل
زياداً من نسل الحمار لضَعَتِه ولعمري لقد باعد لأنّ الغنم وإن كانت من
النعَم من ذوات الجِرّة والكروش فإنّ ما بين الغنم والإبل بعيد .
وكذلك قول الكميت : ( وما خِلتُ الضَّبابَ معطَّفاتٍ ** على الحيتان من
شَبَهِ الحُسُولِ ) قال : فهذا أبْعَد وأبعد لأنه وإن ذهب إلى أنّ ولدَ
نزارٍ عربٌ فهم في معنى الضِّباب وساكني )
الصَّحارَى وأولئك عَجَم فجعلهم كالسَّمك
الذي يعيش في الماء ألا ترى أنّ معاويةَ بنَ أبي سفيانَ بن يزيد
بن معاوية لمّا قتلَتْه ضبَّةُ دسَّت في استه سَمَكة .
قال جرير : ( ما بين تيم وإسماعيلَ مِن نَسبٍ ** إلاّ قرابةُ بَيْنِ
الزِّنْجِ والرُّوم ) فقال قطرب : الصَّقالبة أبعد قيل له : إنّ جريراً لا
يفْصِلْ بين الصَّقالبة والرُّوم .
وتقول العرب : لا يكون ذاك حتى يجمع بين الأروَى والنَّعام لأنّ الأرْوَى
جبليَّة والنّعامَ سُهْلية وقد قال الكميت : ( يؤلِّف بين ضِفْدِعَة
وضَبٍّ ** ويعجبُ أنْ نبرّ بني أبينا ) وهذا هو معناه الأوَّل وأبعَدُ من
هذا قولُ الشاعر : حَتّى يؤلّف بين الثَّلجِ والنَّارِ
قصة الجارية وأمها وقال أبو الحسن المدائني : قال أبو دهمان الغلاّبي عن الوقّاصي قال وحدثني بذلك الغَيْدَاقيّ عن الوقّاصي قال : قالت جارية لأمّها ليلة زَفافها : يا أُمَّهْ إن كان أيرُ زوجي مثلَ أير الفيل كيف أحتال حتى أنتفع به قال : فقالت الأم : أي بُنَيّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمي فذكرتْ أنّها سألتْ عنها أمَّها فقالت : لا يجوز إلا أن يجعلَكِ اللّهُ مثلَ امرأةِ الفيل قال : فسكتَتْ حولاً ثم قالتْ لأمّها يا أمَّه فإنِّي إنْ سألتُ ربِّي أن يجعلَني مثلَ امرأةِ الفيل أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : يا بُنَيَّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنها سألَتْ عنها أمَّها فقالت : لا يجوز ذلك إلا أن يجعلَ اللّهُ جميعَ نساءِ الرِّجال مثلَ نساءِ الفيلة قال : فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت : فإن سألتُ
ربّي أن يَجْعَلَ نساءَ جميعِ الرِّجالِ مثلَ نساء الفيلة
أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : يا بُنَيَّة قد سألتُ عن مثل هذه أمِّي فذكرت
أنها سألَتْ أمَّها عنها فقالت : لا يجوز ذلك إلا أن يجعلَ اللّه جميعَ
رجال النساء مثلَ رجالِ نساء الفيلة قال : فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت
فإنْ سألتُ ربِّي أنْ يجعلَ جميعَ رجالِ النساء مثلَ جميع رجالِ نساء
الفِيَلة أتطمعين أن يَفْعَل ذلك قال : يا بُنيَّة قد سألتُ عن هذه
المسألة أمِّي فذكرَتْ أنَّها قد سألَتْ أمَّها عنها وأنّها قالت : يا
بُنَيّة إنّ اللّه إنْ جعلَ جميع النّاسِ فيلةً لم تجد امرأةُ الفيل مع
عِظَمِ بدنها من اللّذة إلا مثلَ ما تجدين أنتِ اليومَ مع زوجك من اللذَّة
ثم تذهب عنك لذّةُ الشَّمِّ والتَّقبيل والضمّ والتقليب )
والعِطْر والصِّبْغ والحَلْي والمِشطة والعِتاب والتفدية وجميع ما لكِ
اليومَ قال : فسكتَت حَولاً ثم قالت : يا أمَّهْ إنْ سألتُ ربِّي أن يجعلَ
أير الفِيل أعظمَ أتطمعينَ أن يفعلَ ذلك قالت الأمّ : أيْ بُنيَّة قد
سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنها سألَتْ عنها أمّها وأنها قالت :
أيْ بُنيَّة إنّ اللّه إنْ جعَل أير الفيل أعظمَ جعل حِرَ امرأةِ الفيل
أوسَع وأعظمَ فيعودُ الأمرُ كلُّه إلى الأمر الأول قال : فسكتَتْ عنها
حولاً ثم قالت : يا أمّه فإنْ سألتُ ربِّي أن يجعل أَير الفيل أشدَّ غلْمة
فيصير عددُ أكوامه أكثرَ أتطمَعين أن يفعل ذلك قالت : أي بُنَية قد سألتُ
عن هذه المسألة أمِّي فذكَرَتْ أنها سألَتْ أمَّها عنها وأنها قالت : أيْ
بُنَية سَلِي اللّهَ أن يجعل زوجَك أشدَّ غُلْمةً مما هو عليه ولكن لا
تسأليه ذلك حتى تسأليه أن يزيدك في غلمتك قالت : يا أُمَّه فإن سألْتُ
ربِّي أن يجعَلَه في غُلْمة
التيس أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : أَيْ بُنيَّة قد سألتُ عن مثل
هذه المسألة أُمِّي فذكرَتْ أنها سألت عنها أُمَّها وأنها قالت : لا يجوز
أن يجعلَه في غُلمة التَّيس حتى يجعلَه تَيساً قالت : يا أُمّه فإنْ سألتُ
ربِّي أن يجعله تيساً أتطمعين في ذلك قالت : أي بُنَيَّة إنه لا يجعله
تيساً حتى يجعلَك عَنْزاً قال : أيْ أُمَّه فإنْ سألتُه أن يجعله تيساً
ويجعلني عنزاً أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : أيْ بنيّة قد سألتُ عن هذه
المسألة أمِّي فذكَرتْ أنها زارَتْ أُمَّها لتسألها عن هذه المسألة
فوجَدتْها في آخِر يومٍ من الدُّنيا وأوَّلِ يومٍ من الآخرة وما أشكُّ أن
يَوْمي قد دنا .
فلم تلبَثِ الأمُّ إلا أياماً حتى ماتت . (
باب الظلف
وهي الظِّباء وهي مَعْزٌ والمعزُ أَجناسٌ والبقرُ الوحشيُّ ذاتُ أظلافٍ وهي بالمعْز أشبَهُ منها بالبقر الأهليّ وهي في ذلك تسمَّى نعاجاً وليس بينها وبين الظِّباء وإن كانت ذواتِ جرّةٍ وكرُوشٍ وقُرونٍ وأظلافٍ تَسافدٌ ولا تلاقح وهي تُشْبهها في الشعَر وفي عَدَم السّنام .
ومن الظِّلْف الوَعِل والثَّيتَل والتَّامور والأيّل جبَليات كلُّها لا
أدري كيفَ التَّسافد والتلاقح منها .
ومن الظّلف الخنازيرُ وهي بلا كَرِشٍ ولا جِرّة ولا قَرْنٍ وليس بينهما
موافقةٌ إلا في الظّلف وفي الخنازير ما ليس ظِلفُه بمنشقٍّ فذاك هو
المخالفُ بالنَّاب وبعدم هذه الأشياءِ كلِّها وتُشاكُل المعْزَ والبقرةَ
والظباءَ بالشَّعَر وقِصَر الذَّنب وتُخالف البقر والجواميسَ في طول
الذَّنب وفي عدد أيّام الحَمْل .
ومن الظلف الضأنُ والمَعْز وقد يكون بينهما تسافدٌ وتلاقح إلا أنها تُلقيه
مَلِيطاً قبل أن يُشْعِر وذلك أقلُّ من القليل .
ومن الظلف البقر الأهليُّ والجواميس وهي أهليةٌ أبداً وهي موافقةٌ للضأن
في القرن وفي عدم النَّاب وفي الجرَّة والكَرِش وتخالف الضأنَ في الصُّوف
والسنام وتوافق المعز في الشعر وتخالف في السنام وتخالف جميع َ الغنم في
الحَمْل لأن الغنمَ تضع لخمسة أشهر والبقر تضَعُ كما تضعُ المرأةُ في تسعة
أشهر وليس تُشْبه المرأة في غير ذلك إلا ما يذكرون من الغَبَب ونُتُوِّ
الكاهل فإنهما ربما كانا في بعض النساء وأكثر ذلك في نساء الدّهاقين .
في الزرافة
قالوا : والزَرافة تكون في أرض النُّوبة فقط قالوا : وهي تسمَّى بالفارسية أُشتُرْكَاوْ بلنك كأنه قال : بعير بقرة نمر لأنّ كاوْ هو البقرة وأُشتُر هو الجَمل وبلنك هو النَّمر .فزعموا أنّ الزرافةَ ولدُ النمرة من الجمل فلو زعمتم أَنَّ الْجملَ يكوم الضَّبُعَ ويكوم بعض ما له ظِلفٌ ما كان إلا كذلك والمسافدةُ في أجناس المِخلب والخفِّ والحافر أعمُّ فلو جعلوا الفحلَ هو النمر والأنثى هي الناقة كان ذلك أقرَبُ في الوهم .
وليس كلُّ ذكرٍ يكومُ أنثَى يُلقِحُها وقد يكومُ الإنسانُ الدابَّةَ بشهوةٍ منهما جميعاً ولا يكون تَلاقُح كما اتّفقا في المسافدة وإنّ الرّاعيَ يكومُ الغنمَ وغيرَ الغنم .
وانظرْ كم مِنْ ضَرْبٍ ادَّعَوْا ممّا لا يُعرَف : فواحدة أنّ بهيمةً
ذكراً اشتَهى سبعاً أنثى وهو من قالوا : نمورُهم عِظامٌ وإبلُهم
لِطاف وقد تتّسِع أرحامُ القِلاص العربيَّة لفوالج كِرْمان فتجيء بهذه
الجَمَّازات ولولا أنه فسَّرَ لجازَ أن يكونَ النَّمِرُ يكومُ النَّاقةَ
فتتَّسع أرحامُها لذلك .
قالوا : وفي أعالي بلاد النُّوبة تجتمع سباعٌ ووحوشٌ ودوابٌّ كثيرة في
حَمَارَّةِ القَيظ إلى شرَائعِ المياه فتتسافَدُ هناك فيَلْقَح منها ما
يَلْقَح ويمتنعَ ما يمتنع فيجيءُ من ذلك خلقٌ كثيرٌ مختلفُ الصُّورة
والشكل والقَدْر منها الزَّرَافة .
وللزّرافةُ خَطْمُ الجَمل والجِلد للنَّمِر والأظلاف والقرن للأَيِّل
والذَّنَب للظَّبْي والأسنان للبقَر فإِنْ كانت أمُّها ناقة فقد كامَها
نمِرٌ وظبْيٌ وأيِّل في تلك الشرائع وهذا القولُ يدلُّ على جَهْلٍ شديد .
والزّرافة طويلةُ الرِّجْلين منحنية إلى مآخيرها وليس لرجلَيْها ركبتان
وإنما الرُّكبتانِ ليديها وكذلك البهائم كلُّها وعَسَاهُ إنما أرادَ
الثفِنات والإنسانُ ركْبتاه في رجليه .
ويقولون : أُشْتُرْ مُرْك للنَّعامة على التَّشبيه بالبعير والطّائر
يريدون تشابُهَ الخلق لا على الولادة .
ويقولون للجاموس كاوماش على أن الجاموس يُشْبه الكبشَ والثّوْر لا على
الولادة لأنّ كاو بقرة وماش اسمٌ للضأن .
وقال آخر : تضع أمُّ الزَّرافة ولدَها من بعض السِّباع ولا يشعرُ النَّاسُ
بذلك الذَّكر قالوا : كاوماش على شَبَه الجواميس بالضّأن لأنَّ البقرَ
والضأنَ لا يقع بينهما تلاقحٌ والتّفليس الذي في الزَّرافة لا يُشْبه الذي
في النَّمر وهو بالبَبْر أشبَه وما النمرُ بأحقَّ به من هذا الوجه من
الفَهْد . ) (
تسافد الأجناس المختلفة
وقد يمكن أن تُسْمِحَ الضَّبعُ للذّئب والذِّئبة للذِّيخ والكلبةُ للذِّئبِ وكذلكَ الثعلبُ والهرَّةُ وكذلِكَ الطَّيْرُ وأجْناس الحمامِ كالوَرْدَانيِّوالوَرَشان والحمام وكالشِّهريّ من بين الحِجْر والبِرْذَوْن
والرَّمَكة والفَرَس والبغلِ من بين الرَّمَكة والحمار .
فأمَّا بُروك الْجمل على النَّمرة والْجملُ لا بدَّ أنْ تكون طَرُوقتُه
باركةً فكيف تبركُ النّمرة للجمل والسِّباع إنما تتسافد وتتلاقح قائمةً
وكذلك الظِّلف والحافر والمِخْلَب والخُفّ والإنسانُ والتِّمْساح يتبطّنان
الأنثى والطيرُ كلُّه إنما يتسافَدُ ويتلاقح بالأستاه من خلف وهي قائمة .
(
شواذ السفاد
وعموا أنَّ الغرابَ يُزَاقُّ والحُمَّرُ والقَبَج ربّما ألقحا الإناث إذا كانا على عُلاَوَة الرِّيح ولا تكونُ الولادةُ إلاّ في موضع إلقاء النُّطفة والشيءِ الذي يلقح منه .وأمَّا السَّمكةُ فقد عايَن قومٌ مُعارضَةَ الذكر للأُنْثَى فإذا سَبَح الذكَرُ إلى جنب الأنثى عَقَفَ ذنَبَه وعقفَتْ ذَنَبها فيلتقي المبالان فتكونُ الولادة من حيث يكون التلقيح لا يجوزُ غير ذلك .
والذين يزعمون أن الحجَلةَ تلقَحُ من الحجَل إذا كانَتْ في سُفَالة
الرِّيح من شيءٍ ينفصل من الذّكر فإنما شبَّهوا الحجَل بالنَّخْل فإن النخلةَ ربما لقِحَتْ من ريح كافورِ الفُحَّالِ إذا كانت تحتَ الرِّيح . (
المخايرة بين ذوات القرون والجم
قال : وسئل الشَّرْقيّ عن مخايرةِ ما بين ذوات القرون والجُمّ فقال : الإبل والخيل من الخفّ والحافر والبرثُن والمِخْلب والقدَم التي هي للإنسان قال : فمن خصال ذي القرن أنَّ منه وإليه ينسب ذو القرنين الملكُ المذكورُ في القرآن ويزعم بعضُهم أنه الإسكَنْدَر وقال أميَّة بن أبي الصَّلْت : ( رَجُلٌ وثَوْرٌ تحتَ رجل يمينهِ ** والنَّسْرُ للأُخْرى ولَيْثٌ مُرْصَد ) استطراد لغوي وَيقالُ ضَرَبَه على قَرْنه وقَرْنٌ من دم كما يقال قرنٌ من عَرَقٍ والقَرْن : أمَّة بعد أمَّة والقَرْنُ : شيءٌ يصيب فُروج النساء يُشْبِه العَفَلة .ذوات القرون
والفيل من ذوات القرون وفي الحيَّات والأفاعِي ما لها قرون وإنما ذلك الذي
تسمع أنه قرن إنما هو شيءٌ يقولونه على التَّشبيه لأنّه من جنس الجِلْد
والغضروف ولو كان من جنس القُرون لكانت الحيّة صلبةَ الرأس والحية أضعفُ
خَلق اللّه رأساً ورأسُه هو مَقْتلُه لأن كلَّ شيءٍ له قرنٌ فرأسُه أصْلَب
وسلاحَه أتمّ والقَرْنُ سلاحٌ عَتِيدٌ غير مُجْتَلَبٍ ولا مصنُوع وهو
لذَوات القُرون في الرؤوس وللكرْكدَّن قرنٌ في جبهته والجاموس أوثق
بقَرْنِه من الأسد بمخْلبه ونابه .
وتقول المجوس : يجيء بَشُوتَن على بقرةٍ ذاتِ قُرون .
وظهرت الآية في شأن داودَ وطالوتَ في القَرْن وشَبُّورُ اليَهود من قَرْن
.
والبُوق في الحُروب مُذ كانت الحَرْب إنما كان قرناً .
وبُوق الرَّحَى قرنٌ والأيّل يَنْصُل قَرنُه في كلّ عامٍ وكان سِنان رُمح
الفارس في الجاهليَّة رَوقَ ثَور . (
ما يسمى بروق
ويسمَّى الرَّجلُ بِرَوق والرَّوْق كالشيء يعاقب الشيء وقال بشّار في التَّعَاقُب : أعَقَبَتْه الجَنُوبُ رَوْقاً من الأزْيَبِ ( دَانَ له الرَّوقانِ من وائلٍ ** وَقَبْلَهُ دَانَتْ له حِمْيَرُ ) الرَّوْقانِ : بكرٌ وتَغْلِب . 4استطراد لغوي
ويقال قَرْنُ الضُّحى وقَرْنُ الشّمس وقُرون الشَّعَر وقرْنُ الكَلأ وقرون السُّنْبل وأطرافُ عذوق النّخْل وأطاف عروق الحَلْفاء وإبرةُ العقرب كلُّها قُرون .علاقة القرون واللحى بالذكور
والأجناس التي تكون لها القرون تكونَ قُرونُها في الذُّكور منها وقد يكون الفحلُ أجمَّ كما أن اللِّحَى عامٌّ في الرِّجال وقد يكون فيهم السِّناط .أنواع القرون وقد تَتَشعَّبُ قرونُ الظباء إذا أسنَّتْ .
وقرونُ الظِّباء وبقَرِ الوحْش شِدادٌ جدّاً وإنما تعتمد الأوعالُ في الوُثوب وفي القذْف بأنفسها مِن أعالي الجبال على القُرون والأغلب على القُرون أن تكون اثنَيْن اثنَين وقد يكون لبعض الغنم قرون عِدّة .
والجواميسُ تمنَعُ أنفسَها وأولادَها من الأسْد بالقُرون وبقَر الوحش تمنَع أنفسَها وأولادَها من كِلاب القُنَّاص ومن السِّباع التي تُطيف بها بالقُرون قال الطّرِمَّاح : ( أكَلَ السَّبْعُ طَلاَها فما ** تَسْألُ الأشباحَ غَيرَ انهزَامْ )
قصة في سفاد الخنزير وقال ابن النُّوشَجانيّ : أقبلت من خراسان
في بعض طُرُق الجِبال فرأيتُ أكثرَ من مِيلَين متّصلينِ في مواضعَ كثيرةٍ
من الأرض أثر سِتِّ أرجل فقلت في نفسي : ما أعرف دابّة لها ستُّ أرجُل
فاضطرَّني الأمر إلى أنْ سألتُ المُكارِيَ فزَعَم أنَّ الخنزيرَ الذّكرَ
في زمان الهَيْج يركب الخنزيرة وهي ترتُع أو تذهَبُ نحوَ مَبيتِها فلا
يَقْطعُ سفادَه أميالاً ويداه على ظَهْرها ورجلاهُ خَلْف رجليها فَمنْ رأى
تلك الآثار رأى ستّ أرجل لا يدري كيفَ ذلك . )
ما يعرف بطول السفاد قال : فالخنزير في ذلك على شَبِيهٍ بحال الذباب الذكر
إذا سقط على ظهر الأنثى في طول السِّفاد .
وإنّ الجملَ في ذلك لعجيب الشّأن فأمَّا العدد فالعصفور ويُحكَى أنَّ
للورَل في ذلك ما ليس لشيءٍ يعني في القوة وأنشد أبو عبيدةَ :
( سقط : بيتين الشعر ) ( في عظم أير الفيل في رهز الفرس ** وطول عبس جمل إذا دحس ) (
فرس الماء
قال عَمْرُو بنُ سعيد : فرس الماء يأكل التمساح قال : ويكون في النِّيل خُيول وفي تلك البحور يعني تلك الخُلْجان مثلُ خيول البرّ وهي تأكل التماسيح أكلاً شديداً وليس للتماسيح في وسط الماءِ سلطان شديد إلاّ على ما احتمَلَه بذنَبه من الشَّريعة .قال : وفرس الماء يؤْذِن بطلوع النِّيل بأثر وطْء حافرِه فحيث وجدَ أهلُ مِصرَ أثرَ تلك الأرجل عرَفُوا أنّ ماء النيل سينتَهي في طلوعه إلى ذلك المكان .
وهذا الفَرَس ربَّما رعَى الزُّرُوع وليس يبدأُ إذا رَعَى في أدْنَى الزَّرْع إليه ولكنّه يحزُرُ منه قدْرَ ما يأكل فيبدَأُ بأكله من
أقصاه فيرعى مُقْبِلاً إلى النِّيل وربَّما شرب هذا الفرس من
الماء بعد المَرْعَى ثم قاءَه في المكان الذي رَعى فيه فينبت أيضاً .
والطَّير عندنا يأكلُ التُّوت ويَذرُِقه فينبت من ذَرْقه شجَر التُّوت .
قالوا : وإذا أصابُوا من هذه الخيل فِلْواً صغيراً ربّوه مع نسائهم
وصبيانهم في البيوت ولم يزِدْ على هذا الكلام شيئاً .
قال : وفي سنّ من أسنانه شفاءٌ من وجع المَعِدة .
قال : والنُّوبةُ وناسٌ من الحبَشة يأكلون الحيتان نِيَّةً بغير نار
ويشربون الماءَ العكر فيمرَضُون فإذا علَّقوا سنّ هذا الفرس أفاقوا قال :
وأعفاج هذا الفرس تُبرئ من الجنون والصَّرْع الذي يعترِي مع الأهلَّة .
قال : وكذلك لحومُ بنات عِرْسٍ صالحة لِمَنْ به هذه العِلّة .
صيد الذئب للإنسان
قال : وإنما يكونُ الإنسان من مصايد الذِّئب إذا لقيه والأرض ثَلْجاء فإنّه عند ذلك يحْفِش وجْهَ الأرض ويجمعُه ويضرب وجهَ الرجل فارساً كان أو راجلاً قال : ودُقاق الثَّلج وغُباره إذا صَكَّ وجهَ الفارس سَدِرَ واستَرْخَى وتحيَّرَ بَصَرُه فإذا رأى ما قد حلَّ به فرَّبما بَعَج بطنَ الدَّابَّة وربما عضَّها فيقبضُ على الفارس فيصرعُه ولا حَرَاك به فيأكله كيف شاء وإلاّ أن يكون الفارس مجرباً ماهراً فيشدُّ عليه عند ذلك بالسِّلاح وهو في ذلك يَسيرُ ويقطعُ المفازةَ ولا يدعَه حينئذٍ يتمكَّن من النفر عليه .تعليم الذئب وتأليفه
وزَعَم عبويه أنّ الخصيّ العبدي الفقيه من أهل هَمَدان السودانيّ الجَبَلّي وهو رجل من العرب قد ولدته حليمةُ ظئرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو من بني سعد بن بكر فزعَم أنَّ السُّوداني أشبَهُ خلْق اللّه بجارحةٍ وأحكمُهمْ بتدبير ذئبٍ وكلبٍ وَأسدٍ ونَمر وتعليم وتثقيف وأنّهبلَغَ مِن حذقه ورِفقه أنّه ضَرّى ذئباً وعلَّمه حتى اصطاد له
الظِّباء والثّعالبَ وغيرَ ذلك من الوحوش وأنّ هذا الذئبَ بعينه سَرَّحَه
فرجَع إليه من ثلاثين فرسخاً وذكر أنّ هذا الذئبَ اليومَ بالعسكر وحدّثني
بهذا الحديث في الأيام التي قام بها أميرُ المؤمنين المتوكِّلُ على اللّه
وذكر أنَّه ضَرَّى أسداً حتى ألِف وصار أهليّاً صَيُوداً حتى اصطادَ
الحميرَ والبقرَ وعِظامَ الوحش صيداً ذريعاً إلا أنَّ الأسَد بعد هذا كله
وثَب على ولدٍ له فأكلَه فقتَلهُ السوداني .
والذي عندنا في الذِّئب أنه يألف ولو أخذَ إنسانٌ جرواً صغيراً من جرائه
ثمَّ ربَّاه لما نَزعَ إلا وحشيّاً غَدُوراً مُفْسداً ولذلك قال الأعرابي
: ( أكلْتَ شُوَيَهتي ونَشأْت فينا ** فمن أنباك أنَّ أباكَ ذيبُ ) فالذي
حكى عبويه من شأن هذا الذِّئب والأسد من غريب الغريب . (
مصارعة كلبة لثعلب
وأخبرني عبويه صاحب ياسر الخادم قال : أرسلتُ كلبة لي فحاصرَتْ ثعلباً فواللّه إنْ زالامن خصائص الكبار والفلاسفة
قال : وإذا أسنَّ القرشيُّ رَحَل إلى الحجاز .وقال : ما احتنَك رجلٌ قطُّ إلا أحبَّ الخلوة وقالوا : ما فكَّر فيلسوفٌ قط إلا رأى الغُربةَ أجمَعَ )
لهمِّه وأجوَدَ لخواطره .
( قول بكر المزني في الأرَضة ) قال : وشتم رجلٌ الأرَضَة فقال بكر بن عبد اللّه المُزَني : مَهْ فهي التي أكلَتْ جميع الصَّحِيفةِ التي تعاقَدَ المشركون فيها على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلا ذكرَ رسول اللّه وبها تبيَّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا في العذاب المهين وبها تكشَّف أمرُها عند العوّام بعد الفتنة العظيمة عندهم وكان على الخاصّة من ذلك أعظم المحن . (
طول ذماء الضب
وخبّرَني رجلٌ من بني هاشمٍ كان منهوماً بالصَّيدِ لَهِجاً به أنَّه ضَرَب وَسَط ضَبٍّ بالسَّيفِ فقطعه نِصْفَين فتحرَّك كلُّ واحدٍ منهما على حِيالِه ساعةً من نهار ثمَّ سَكَنا .الورل والضب
وحكَى أنّ الورلَ يقتل الضبّ على معنى الصائد والطالب وأن الضبّ يقاتل على معنى المُحْرَج وأنّه هارَشَ بين الورَل والحيَّة فوجد الورَلَ يقتُل الحيّة ويأكلها ويقتل الضبّ ولا يأكله ولكن حُسُوله .علة عدم قتل الأعراب للورل والقنفذ
وزعم أنّه وجَدَ مشايخَ الأعرابِ لا يقتلون وَرَلاً ولا قنفُذاً ولا يدَعُون أحداً يصطادهما لأنهما يقتُلان الأفاعيَ ويُريحانِ الناسَ منها . نوادر من الشعر والخبر وأنشد أبو عبيدة لأبي ذؤيب : ( وسَوَّدَ ماءُ المَرْدِ فاهاً فلَونُه ** كلَوْنِ النَّؤُورِ وهي بيضاءُ سَارُها ) وأنشد شبيهاً به للنابغة : ( يَتَحَلَّبُ اليعضيد من أشداقها ** صفراً مَناخرُها من الجرجار ) وأنشد شبيهاً بذلك لإبراهيم بن هَرْمة : ( كأنَّها إذْ خُضِبت حِنّاً وَدَمْ ** والحُرض والعسن والهَرْم العُصُمْ ) ( تُعلَّمُ الأكلَ أولادُ الظباءِ بها ** فما يحسُّ بها سِيدٌ ولا أسَدُ ) وأنشد :( ذكرتُكِ ذِكْرةً فاصطدت ظبياً ** وكُنْتُ إذا ذكرتُكِ لا أخِيبُ ) ( منحتُكم المودَّة مِن فؤادِي ** وما لي في مودَّتكم نصيبُ ) وقال ابن مُقبل : ( وكم من عَدُوٍّ قد شققنا قميصَهُ ** بأسمَرَ عَسَّالٍ إذا هُزَّ عاملُهْ ) وقال أيضاً : ( ولم أصطبِحْ صهباءَ صافيةَ القَذى ** بأكْدَرَ من ماء اللِّهابة والعَجْبِ ) ( ولم أسْرِ في قومٍ كرامٍ أعِزَّةٍ ** غَطارفةٍ شُمِّ العَرانِين من كلْبِ ) اللِّهابة والعَجْب : ماءان من مياه كلب موصفانِ بالعُذوبة وهي في ذلك كَدِرة وأنشد ابن مَزْرُوع لعديِّ بن غُطيفٍ الكلبيّ وكان جاهليّاً : ( أهلكَنا اللّيلُ والنهارُ مَعا ** والدَّهر يَعدُو عَلَى الفَتَى جَذَعا ) ( والشَّمْسُ في رأسِ فُلْكِةٍ نُصِبَتْ ** رَفَّعها في السماءِ مَن رَفَعا ) ( أمرٌ بِليطِ السماءِ مُكْتَتمٌ ** والنَّاسُ في الأرض فُرِّقوا شِيَعا )
( سقط : بيت الشعر ) ( كما سطا بالآرام عاد وبالحج ** ر وأركى
لتتبع تبعا ) ( فليس مما أصابني عجب ** إن كنت شيبا أنكرت أو صلعا ) (
فليس ممّا أصابني عجب ** إن كنتَ شَيباً أنكرتُ أو صَلعَا ) قال : هو عاد
بن عُوص بن إرم وسَطَا بالحِجْر أي بأهل الحِجْر وأرْكَى أي أخَّر
والإركاء : التأخير .
وقال كعبُ بنُ زهير : ) ( فَعْمٌ ٍ مُقلَّدُها عَبْلٌ ٍ مقيَّدُها ** في
خَلْقِها عن بَنات الفَحْل تَفضِيلُ ) ( حَرْفٍ ٌ أخوها أبوها من
مُهَجَّنةٍ ** وعمُّها خالُها قَوداءُ شِمْليلُ ) وكما قال ذو الرّمّة :
أخوها أبوها والضَّوَى لا يضيرُها
وقال سالم بن دارة : ( حَدَوْتُ بهم حتّى كأنّ رِقابَهُمْ ** من السَّير في الظّلماء خيطان خَرْوَعِ ) وقال بعض المحدَثين : ( وقد شَرِبُوا حتى كأنّ رقابَهُمْ ** من اللِّين لم تُخلق لهنَّ عظامُ ) وقال آخر : ( كأنّ هامَهُمُ والنَّوْمُ واضِعُها ** على المناكِبِ لم تُعْمَدْ بأعناقِ ) ( وفي اللَّزَباتِ إذا ما السِّنُو ** نَ أُلْقِيَ مِن بَرْكها كلكلُ ) ( لعامٍ يقولُ له المُؤْلِفُو ** نَ هذا المُقِيمُ لنا المُرْحِلُ ) وقال أيضاً : ( الطّيِّبُو تُرْبِ المَغَار ** سِ والمنابتِ والمكَاسِرْ ) ( والساحبون اللاحفُو ** ن الأرضَ هُدّابَ المآزِرْ )
( أنتمْ معادِنُ للخلاف ** ة كابراً مِن بَعْدِ كابرْ ) (
بالتِّسْعة المتتابعي ** ن خلائفاً وبخير عاشِرْ ) وقال أيضاً : ( ولا يكن
قوله إلا لرائدها ** أعشَبْتَ فانزِلْ إلى معْشَوْشِبِ العُشْبِ ) ذهب إلى
قوله : ( مُسْتَأْسدٌ ذِبَّانُه في غَيطلِ ** يقُلْنَ للرَّائد أعشَبْتَ
انزِل ) ولكن انظُرْ كَم بين الدِّيباجتَين وفي الأوَّل ذَهَبَ إلى قول
الأعشى : ( إذا الحَبَرَاتُ تَلوَّتْ بهِمْ ** وجرُّوا أسافِلِ هُدّابِها
) قال : كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولون : كونوا بُلْهاً
كالحمام ولقد كان الرّجل منهم قال : وهذا يخالف قول عمرَ رضي اللّه عنه
حين قيل له : إنّ فلاناً لا يعرف الشَّرّ قال : ذلك )
أجْدَرُ أن يقَعَ فيه .
وقال النابغة الذبياني : ( ولا يحسَبونَ الخيرَ لا شَرَّ بَعْدَهُ ** ولا
يحسبون الشَّرَّ ضربةَ لازبِ )
وقال الآخر : ولا تعذِراني في الإساءة إنّه شِرَارُ الرجال مَنْ
يسيء فيُعذَرُ وقالت امرأة ترثي عُمَير بنَ مَعْبَد بن زُرارة : ( أَعيْنُ
ألا فابكي عُميرَ بن مَعبدِ ** وكان ضروباً باليدينِ وباليدِ ) تقول :
بالسَّيف وبالقداح لأنّ القداح تُضرَبُ باليدين جميعاً وقال ابن مقبل : (
وللفؤاد وجيب عند أبهَرِهِ ** لَدْمَ الوليدِ وراءَ الغيبِ بالحجَرِ )
وقال ابن أحمر : وفؤادهُ زَجلٌ كعزَفِ الهُدْهُدِ وكان حسّان يقول لقائده
إذا شهد طعاماً : أطعامُ يدٍ أم طعام يدين طعام يدين : الشِّواءُ وما أشبه
ذلك وطعام اليد : الثرائد وما أشبَهَها .
وقال بعض السَّلاطين لغلامٍ من غِلمانه وبين يديه أسيرٌ : اضربْ
قال : بيدٍ أو يدين قال : بيد فضرَبه بالسِّياط قال : اذهبْ
فأنتَ حُرّ وزوّجَه وأعطاه مالاً .
وسارَّ رجلاً من الملوك بعضُ السُّعاة بابنٍ له ذكر أنّه بموضع كذا وكذا
يشرب الخمر مع أصحاب له فبعثَ غلاماً له يتعرّف حالَه في الشراب فلمّا رجع
وجَدَ عنده ناساً فكرِه التفسير فقال له : مَهْيَمْ قال : كان نَقْلُه
جُبْناً قال : أنت حُرّ لأنّ مُعاقِري الخمرِ يتنقلون بالجبن لأسبابٍ
كثيرة .
وكان فرجٌْ الحجَّام مملوك جعفر بن سليمان إذا حَجَمه أو أخذَ من شَعرِه
لم يتكلَّم ولم يتحرّك ولم يأخذ في شيء من الفضول فقال جعفر ذاتَ يومٍ :
واللّه لأمتحننّه فإن كان الذي هو فيه من عَقْلٍ لايَنْتُهُ وإن كان
كالطَّبيعة والخِلقْة لأحمدَنّ اللّه على ذلك فقال له يوماً : ما اسمك يا
غلام قال : فرَج قال : وماكُنْيتُك قال : لا أكتني بَحضْرَة الأمير قال :
فهل تحتجِم قال نعم قال : مَتَى قال : عند هيجه قال : وهل تعرفُ وقتَ
الهيج قال : في أكثر ذلك قال : فأيَّ شيءٍ تأكلُ على الحجامة قٍ ال : أما
في الصيَّفِ فسِكْباجةٌ محمَّضَة
عذبة وأمَّا في الشتاء فديجيراجة خاِثرةٌ حُلوة فأعتقه وزَوَّجه
ووهَبَ له مالاً . )
وكان قاطعَ الشهادة ولم يكنْ أحدٌ من مواليه يطمع أن يُشهدَه إلاّ على شيء
لا يختلف فيه الفقهاء وهو الذي ذكره أبو فِرْعون فقال : وكان أهل المربد
يقولون : لا نرى الإنصاف إلا في حانوتِ فرجٍ الحجَّام لأنّه كان لا يلتفت
إلى مَن أعطاه الكثيرَ دونَ من أعطاه القليل ويقدِّم الأوّل ثم الثاني ثم
الثالث أبداً حتى يأتي على آخرهم على ذلك يأتيه من يأتيه فكان المؤخَّر لا
يغضَب ولا يشكُو .
وقال ابن مَقْروم الضّبي :
( وإذا تُعلَّل بالسِّياط جِيادُنا ** أعطاكَ نائِلَهُ ولم
يتعلّلِ ) ( فدعَوْا نَزَالِ فكنتُ أوّل نازل ** وعَلامَ أركَبُهُ إذا لم
أنْزلِ ) ( ولقد أفَدْتُ المال مِن جَمْع امرئٍ ** وظَلفْتُ نفسي عن لئيم
المأكلِ ) ( ودخلتُ أبنيةَ الملوكِ عليهمُ ** ولَشَرُّ قولِ المرءِ ما لم
يفعَلِ ) ( وشهدتُ مَعْرَكةَ الفُيولِ وحَولها ** أبناءُ فارسَ بَيْضُها
كالأعْبَلِ )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق