جاري فوري

 / / / // / / / //

 

========****************************=============== ------------------

 اضغط الرابط

صفحات القران

الأربعاء، 21 مايو 2025

ج5وج6وج7وج8* كتاب : نشوار المحاضرة المؤلف : القاضي التنوخي

 https://png.pngtree.com/back_origin_pic/04/25/44/dec6b55f574d11d63f20255c2ff18122.jpg
 ج5وج6وج7وج8* كتاب : نشوار المحاضرة
 
 المؤلف : القاضي التنوخي

بت أبكيكما وإن عجيباً ... أن يبيت الأسير يبكي الطليقا
فاذكراني وكيف لا تذكراني ... كل ما استخون الصديق الصديقا
عضد الدولة ينفق عشرة ملايين
درهم على بناء دار وإنشاء بستانأخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن، قال: سمعت أبي يقول.
ماشيت الملك عضد الدولة في دار المملكة بالمخرم، التي كانت دار سبكتكين حاجب معز الدولة من قبل، وهو يتأمل ما عمل، وهدم منها، وقد كان أراد أن يزيد في الميدان السبكتكيني أذرعاً ليجعله بستاناً، ويرد بدل التراب رملاً، ويطرح التراب تحت الروشن على دجلة، وقد ابتاع دوراً كثيرة، كباراً وصغاراً، ونقضها، ورمى حيطانها بالفيلة، تخفيفاً للمؤونة، وأضاف عرصاتها إلى الميدان، وكانت مثل الميدان دفعتين، وبنى على الجميع مسناة.
فقال لي في هذا اليوم، وقد شاهد ما شاهد: تدري أيها القاضي، كم أنفق على ما قلع من التراب إلى هذه الغاية، وبناء هذه المسناة، مع ثمن ما ابتيع من الدور واستضيف؟ قلت: أظنه شيئاً كثيراً.
فقال لي: هو إلى وقتنا هذا، تسعمائة ألف درهم صحاحاً، ويحتاج إلى مثلها دفعة أو دفعتين، حتى يتكامل قلع التراب، ويحصل موضعه الرمل موازياً لوجه البستان.
فلما فرغ من ذلك، وصار البستان أرضاً بيضاء لا شيء فيها من غرس ولا نبات، قال: قد أنفق على هذا، حتى صار كذا، أكثر من ألفي ألف درهم.
ثم فكر في أن يجعل شرب البستان، من دواليب ينصبها على دجلة، فأعلم أن الدواليب لا تكفي، فأخرج المهندسين إلى الأنهار التي في ظاهر الجانب الشرقي من مدينة السلام، ليستخرجوا منها نهراً يسيح ماؤه إلى داره، فلم يجدوا ما أرادوه إلا في نهر الخالص، فعلى الأرض بين البلد وبينه تعلية أمكن معها أن يجري الماء على قدر، من غير أن يحدث به ضرر، وعمل تلين عظيمين، يساويان سطح ماء الخالص، ويرتفعان عن أرض الصحراء أذرعاً، وشق في وسطهما نهراً جعل له خورين من جانبيه، وداس الجميع بالفيلة، دوساً كثيراً، حتى قوي، واشتد، وصلب، وتلبد، فلما بلغ إلى منازل البلد، وأراد سوق النهر إلى داره، عمد إلى دور السلسلة، فدك أرضها دكاً قوياً، ورفع أبواب الدور، ووثقها، وبنى جوانب النهر، على طول البلد، بالآجر، والكلس والنورة، حتى وصل الماء إلى الدار، وسقى البستان.
قال أبي: وبلغت النفقة على عمل البستان وسوق الماء إليه، على ما سمعته من حواشي عضد الدولة، خمسة آلاف درهم.
ولعله قد أنفق على أبنية الدار - على ما أظن - مثل ذلك.
وكان عضد الدولة، عازماً على أن يهدم الدور التي بين داره، وبين الزاهر، ويصل الدار بالزاهر، فمات قبل ذلك.
المؤلف يخطب في عقد قران الخليفة
الطائع على ابنة عضد الدولةفي يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة 369 ه. تزوج الطائع لله، بنت عضد الدولة الكبرى، وعقد العقد بحضرة الطائع، وبمشهد من الأشراف والقضاة والشهود، ووجوه الدولة، على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وفي رواية مائتي ألف دينار، والوكيل عن عضد الدولة في العقد، أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي، والخطيب القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي.
رأى القطع خيراً من فضيحة عاشق
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن بكر البسطامي، قال: حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا أحمد بن عيسى العكلي، عن ابن أبي خالد، عن الهيثم بن عدي، قال: كان لعمرو بن دويرة السحمي، أخ قد كلف بابنة عم له، كلفاً شديداً، وكان أبوها يكره ذلك، ويأباه، فشكا إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو أمير العراق، أنه يسيء جواره، فحبسه، فسئل خالد في أمر الفتى، فأطلقه.
فلبث الفتى مدة، كافاً عن ابنة عمه، ثم زاد ما في قلبه، وغلب عليه الحب، فحمل نفسه على أن تسور الجدار إليها، وحصل الفتى معها.
فأحس به أبوها، فقبض عليه، وأتى به خالد بن عبد الله القسري، وادعى عليه السرق، وأتاه بجماعة يشهدون أنهم وجدوه في منزله ليلاً، وقد دخل دخول السراق.
فسأل خالد الفتى، فاعترف بأنه دخل يسرق، ليدفع بذلك الفضيحة عن ابنة عمه، مع أنه لم يسرق شيئاً.
فأراد خالد أن يقطعه، فرفع عمرو أخوه إلى خالد رقعة فيها:

أخالد قد والله أوطئت عشوة ... وما العاشق المظلوم فينا بسارق
أقر بما لم يقترفه لأنه ... رأى القطع خيراً من فضيحة عاشق
ولولا الذي قد خفت من قطع كفه ... لألفيت في أمر لهم غير ناطق
إذا مدت الغايات في السبق للعلى ... فأنت ابن عبد الله أول سابق
وأرسل خالد، مولى له، يسأل عن الخبر، ويتجسس عن جلية الأمر، فأتاه بتصحيح ما قال عمرو في شعره.
فأحضر الجارية، وأمر بتزويجها من الفتى، فامتنع أبوها، وقال: ليس هو بكفؤ لها.
قال: بلى، والله، إنه لكفؤ لها، إذ بذل يده عنها، ولئن لم تزوجها، لأزوجنه إياها وأنت كاره.
فزوجه، وساق خالد المهر عنه من ماله.
فكان يسمى العاشق، إلى أن مات.
إلى غزال من بني النصارىأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله، سنة 433، قال: حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، قال: أنشدنا أبو القاسم مدرك بن محمد الشيباني، لنفسه في عمرو النصراني: قال القاضي أبو الفرج: وقد رأيت عمراً، وبقي حتى ابيض رأسه.
من عاشق ناء هواه دان ... ناطق دمع صامت اللسان
موثق قلب مطلق الجثمان ... معذب بالصد والهجران
من غير ذنب كسبت يداه ... غير هوى نمت به عيناه
شوقاً إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أضناه
يا ويحه من عاشق ما يلقى ... من أدمع منهلة ما ترقى
ناطقة وما أحارث نطقا ... تخبر عن حب له استرقا
لم يبق منه غير طرف يبكي ... بأدمع مثل نظام السلك
تطفيه نيران الهوى وتذكي ... كأنها قطر السماء تحكي
إلى غزال من بني النصارى ... عذار خديه سبى العذارى
وغادر الأسد به حيارى ... في ربقة الحب له أسارى
ريم بدار الروم رام قتلي ... بمقلة كحلاء لا عن كحل
وطرة بها استطار عقلي ... وحسن وجه وقبيح فعل
ريم به أي هزبر لم يصد ... يقتل باللحظ ولا يخشى القود
متى يقل: ها، قالت الألحاظ: قد ... كأنه ناسوته حين اتحد
ما أبصر الناس جميعاً بدراً ... ولا رأوا شمساً وغصناً نضرا
أحسن من عمرو فديت عمرا ... ظبي بعينيه سقاني الخمرا
ها أنا ذا بقده مقدود ... والدمع في خدي له أخدود
ما ضر من فقدي به موجود ... لو لم يقبح فعله الصدود
إن كان ديني عنده الإسلام ... فقد سعت في نقضه الآثام
واختلت الصلاة والصيام ... وجاز في الدين له الحرام
يا ليتني كنت له صليبا ... أكون منه أبداً قريبا
أبصر حسناً وأشم طيبا ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا
يا ليتني كنت له قربانا ... ألثم منه الثغر والبنانا
أو جاثليقاً كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطاعة لي إيمانا
يا ليتني كنت لعمرو مصحفاً ... يقرأ مني كل يوم أحرفا
أوقلماً يكتب بي ما ألفا ... من أدب مستحسن قد صنفا
يا ليتني كنت لعمرو عوذه ... أو حلة يلبسها مقذوذه
أو بركة باسمه مأخوذه ... أو بيعة في داره منبوذه
يا ليتني كنت له زنارا ... يديرني في الخصر كيف دارا
حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له حينئذ إزارا
قد والذي يبقيه لي أفناني ... وابتز عقلي والضنى كساني
ظبي على البعاد والتداني ... حل محل الروح من جثماني
واكبدي من خده المضرج ... واكبدي من ثغره المفلج

لا شيء مثل الطرف منه الأدعج ... أذهب للنسك وللتحرج
إليك أشكو يا غزال الأنس ... ما بي من الوحشة بعد الأنس
يا من هلالي وجهه وشمسي ... لا تقتل النفس بغير نفس
جد لي كما جدت بحسن الود ... وارع كما أرعى قديم العهد
واصدد كصدي عن طويل الصد ... فليس وجد بك مثل وجدي
ها أنا في بحر الهوى غريق ... سكران من حبك لا أفيق
محترق ما مسني حريق ... يرثي لي العدو والصديق
فليت شعري فيك هل ترثي لي ... من سقم بي مضني طويل
أم هل إلى وصلك من سبيل ... لعاشق ذي جسد نحيل
في كل عضو منه سقم وألم ... ومقلة تبكي بدمع وبدم
شوقاً إلى شمس وبدر وصنم ... منه إليه المشتكى إذا ظلم
أقول إذ قام بقلبي وقعد ... يا عمرو، يا عامر قلبي بالكمد
أقسم بالله يمين المجتهد ... أن امرأً أسعدته لقد سعد
يا عمرو ناشدتك بالمسيح ... إلا سمعت القول من فصيح
يخبر عن قلب له جريح ... باح بما يلقى من التبريح
يا عمرو بالحق من اللاهوت ... والروح روح القدس والناسوت
ذاك الذي في مهده المنحوت ... عوض بالنطق من السكوت
بحق ناسوت ببطن مريم ... حل محل الريق منها في الفم
ثم استحال في قنوم الأقدم ... فكلم الناس ولما يفطم
بحق من بعد الممات قمصا ... ثوباً على مقداره ما قصصا
وكان لله تقياً مخلصا ... يشفي ويبري أكمها وأبرصا
بحق محيي صورة الطيور ... وباعث الموتى من القبور
ومن إليه مرجع الأمور ... يعلم ما في البر والبحور
بحق ما في شامخ الصوامع ... من ساجد لربه وراكع
يبكي إذا ما نام كل هاجع ... خوفاً إلى الله بدمع هامع
بحق قوم حلقوا الرؤوسا ... وعالجوا طول الحياة بوسى
وقرعوا في البيعة الناقوسا ... مشمعلين يعبدون عيسى
بحق ماري مريم وبولس ... بحق شمعون الصفا وبطرس
بحق دانيل بحق يونس ... بحق حزقيل وبيت المقدس
ونينوى إذ قام يدعو ربه ... مطهراً من كل سوء قلبه
ومستقيلاً فأقال ذنبه ... ونال من أبيه ما أحبه
بحق ما في قلة الميرون ... من نافع الأدواء للمجنون
بحق ما يؤثر عن شمعون ... من بركات الخوص والزيتون
بحق أعياد الصليب الزهر ... وعيد شمعون وعيد الفطر
وبالشعانين العظيم القدر ... وعيد مرماري الرفيع الذكر
وعيد إشعيا وبالهياكل ... والدخن اللاتي بكف الحامل
يشفى بها من خبل كل خابل ... ومن دخيل السقم في المفاصل
بحق سبعين من العباد ... قاموا بدين الله في البلاد
وأرشدوا الناس إلى الرشاد ... حتى اهتدى من لم يكن بهاد
بحق ثنتي عشرة من الأمم ... ساروا إلى الأقطار يتلون الحكم
حتى إذا صبح الدجى جلى الظلم ... صاروا إلى الله وفازوا بالنعم
بحق ما في محكم الإنجيل ... من محكم التحريم والتحليل
وخبر ذي نبإ جليل ... يرويه جيل قد مضى عن جيل
بحق مرقس الشفيق الناصح ... بحق لوقا ذي الفعال الصالح
بحق يوحنا الحليم الراجح ... والشهداء بالفلا الصحاصح

بحق معمودية الأرواح ... والمذبح المشهور في النواحي
ومن به من لابس الإمساح ... وعابد باك ومن نواح
بحق تقريبك في الآحاد ... وشربك القهوة كالفرصاد
وطول تبييضك للأكباد ... بما بعينيك من السواد
بحق ما قدس شعيا فيه ... بالحمد لله وبالتنزيه
بحق نسطور وما يرويه ... عن كل ناموس له فقيه
شيخان كانا من شيوخ العلم ... وبعض أركان التقى والحلم
لم ينطقا قط بغير فهم ... موتهما كان حياة الخصم
بحرمة الأسقف والمطران ... والجاثليق العالم الرباني
والقس والشماس والديراني والبطرك الأكبر والرهبان
بحرمة المحبوس في أعلى الجبل ... ومار قولا حين صلى وابتهل
وبالكنيسات القديمات الأول ... وبالسليح المرتضى بما فعل
بحرمة الأسقوفيا والبيرم ... وما حوى مغفر رأس مريم
بحرمة الصوم الكبير الأعظم ... وحق كل بركة ومحرم
بحق يوم الدنح ذي الإشراق ... وليلة الميلاد والسلاق
والذهب المذهب للنفاق ... والفصح، يا مهذب الأخلاق
بكل قداس على قداس ... قدسه القس مع الشماس
وقربوا يوم الخميس الناسي ... وقدموا الكاس لكل حاسي
إلا رغبت في رضا أديب ... باعده الحب عن الحبيب
فذاب من شوق إلى المذيب ... أعلى مناه أيسر التقريب
فانظر أميري في صلاح أمري ... محتسباً في عظيم الأجر
مكتسباً في جميل الشكر ... في نثر ألفاظ ونظم شعر
؟؟؟؟
أقبل الفم الذي قال لا إله إلا اللهأنبأنا التنوخي علي بن المحسن، قال: أخبرنا أبو بكر بن شاذان، قال: حدثني نفطويه، قال: حدثني إدريس بن إدريس، قال: حضرت بمصر قوماً من الصوفية، وعندهم غلام أمرد يغنيهم، فغلب رجل منهم على أمره، فلم يدر ما يصنع. فقال: يا هذا، قل لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله.
فقال: أقبل الفم الذي قال لا إله إلا الله.
أمست فتاة بني نهد علانيةأخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام، بقراءتي عليه، أخبرنا علي بن أبي علي البصري قال: حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: حدثنا جحظة، قال: كنت بحضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر، فاستؤذن عليه للزبير بن بكار، حين قدم من الحجاز، فلما دخل عليه، أكرمه، وعظمه.
وقال له: لئن باعدت بيننا الأنساب لقد قربت بيننا الآداب، وإن أمير المؤمنين ذكرك، فاختارك لتأديب ولده، وأمر لك بعشرة آلاف درهم، وعشرة تخوت من الثياب، وعشرة بغال تحمل عليها رحلك إلى حضرته بسر من رأى.
فشكره على ذلك، وقبله.
فلما أراد توديعه، قال له: أيها الشيخ، أما تزودنا حديثاً نذكرك به؟ قال: أحدثك بما سمعت أو بما شاهدت؟ قال: بل بما شاهدت.
فقال: بينا أنا في مسيري هذا بين المسجدين، إذ بصرت بحبالة منصوبة فيها ظبي ميت، وبإزائه رجل على نعشه ميت، ورأيت امرأة حرى، تسعى، وهي تقول:
يا خشن لو بطل، لكنه أجل ... على الأثاية ما بك البطل
يا خشن قلقل أحشائي وأزعجها ... وذاك يا خشن عندي كله جلل
أمست فتاة بني نهد علانية ... وبعلها في أكف القوم يبتذل
قد كنت راغبة فيه أظن به ... فحال من دون ضن الرغبة الأجل
قال: فلما خرج من حضرته، قال لنا محمد بن عبد الله بن طاهر، أي شيء أفدنا من الشيخ؟.
قلنا له: الأمير أعلم.
فقال: قوله: أمست فتاة بني نهد علانية، أي ظاهرة، وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل هذا.
ما لمن ذاق ميتة من إياب

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن، فيما أذن لنا أن نرويه عنه، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني هارون بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب، قال: حدثني إسحاق بن يعقوب مولى آل عثمان، عن أبيه، قال: إنا لبفناء دار عمرو بن عثمان بالأبطح، صبح خامسة من التهاني، إذ درئت برجل على راحلة، ومعه أداوة جميلة، قد جنب إليها فرساً وبغلاً، ومعه رفيق له، فوقفا علي، فسألاني، فانتسبت لهما عثمانياً، فنزلا، وقالا: رجلان من أهلك، قد نابتنا إليك حاجة، نحب أن تقضيها قبل الشدة بأمر الحاج.
قلت: فما حاجتكما؟ قالا: نريد إنساناً يوقفنا على قبر عبيد الله بن سريج.
قال: فنهضت معهما، حتى بلغت محلة ابن أبي قارة، من خزاعة، بمكة، وهم موالي عبيد الله بن سريج، فالتمست لهما إنساناً يصحبهما، حتى يوقفهما على قبره بدسم، فوجدت ابن أبي دباكل، فأنهضته معهما.
فأخبرني ابن أبي دباكل، أنه لما وقفهما على قبره، نزل أحدهما عن راحلته، وهو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان، ثم عقرها، واندفع يغني غناء الركبان بصوت طليل حسن:
وقفنا على قبر بدسم فهاجنا ... وذكرنا بالعيش إذ هو مصحب
فجالت بأرجاء الجفون سوافح ... من الدمع تستتلى التي تتعقب
إذا أبطأت عن ساحة الخد ساقها ... دم بعد دمع إثره يتصبب
فإن تسعدا نندب عبيداً بعولة ... وقل له منا البكا والتحوب
فلما أتى عليها، نزل صاحبه، فعقر ناقته، وهو رجل من جذام، يقال له: عبيد الله بن المنتشر، فاندفع يتغنى غناء الخلوات:
فارقوني وقد علمت يقيناً ... ما لمن ذاق ميتة من إياب
إن أهل الحصاب قد تركوني ... موجعاً مولعاً بأهل الحصاب
أهل بيت تتابعوا للمنايا ... ما على الدهر بعدهم من عتاب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو ... سى إلى الشعب من صفي الشباب
كم بذاك الحجون من حي صدق ... من كهول أعفة وشباب
قال: ابن أبي دباكل: فوالله، ما أتم منها ثالثاً، حتى غشي على صاحبه، ومضى غير معرج عليه، حتى إذا فرغ، جعل ينضح الماء في وجهه، ويقول: أنت أبداً، منصوب على نفسك من كلفات ما ترى.
فلما أفاق قرب إليه الفرس، فلما علاه، استخرج الجذامي، من خرج على البغل، قدحاً، وأداوة، فجعل في القدح، تراباً من تراب القبر، وصب عليه ماء، ثم قال: هاك، فاشرب هذه السلوة، فشرب، ثم جعل الجذامي، مثل ذلك لنفسه، ثم نزا على البغل، وأردفني، فخرجنا، لا والله، ما يعرجان، ولا يعرضان بذكر شيء مما كانا فيه، ولا أرى في وجوههما مما كنت أرى قبل شيئاً.
قال: فلما اشتمل علينا أبطح مكة، مد يده إلي بشيء، وإذا عشرون ديناراً.
فوالله، ما جلست حتى ذهبت ببعيري، واحتملت أداوي الراحلتين، فبعتهما بثلاثين ديناراً.
حديث بهرام جور وولدهأنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم بن أحمد المازني الكاتب، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي قال: حدثنا عيسى بن محمد أبو ناظرة السدوسي، قال: حدثني قبيصة بن محمد المهلبي، قال: أخبرني اليمان بن عمرو، مولى ذي الرياستين، قال: كان ذو الرياستين، يبعثني، ويبعث أحداثاً من أحداث أهله، إلى شيخ بخراسان، له أدب، وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة، فإنه حكيم، فكنا نأتيه، فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرياستين، واعترض ما حفظناه، فنخبره به.
فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ، فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم، ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا.
فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيي، ويفتح حيلة البليد والمخبل، ويبعث على التنظف وتحسين اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، ويشرف الهمة، وإياكم والحرام.
فانصرفنا من عنده إلى ذي الرياستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذاك، فهبنا أن نخبره، فعزم علينا، فقلنا: إنه أمرنا بكذا وكذا.
قال: صدق والله، تعلمون من أين أخذ هذا؟ قلنا: لا.

قال: إن بهرام جور كان له ابن، وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة، ساقط المروءة، خامل النفس، سيء الأدب، فغمه ذلك، ووكل به المؤدبين، والمنجمين، والحكماء، ومن يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه، فيحكون له ما يغمه من سوء فهمه، وقلة أدبه.
إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوماً، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره، ما صيرنا إلى اليأس من فلاحه.
قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها حتى غلبت عليه، فهو لا يهذي إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها.
فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه.
ثم دعا بأبي الجارية، فقال له: إني مسر إليك سراً، فلا يعدونك، فضمن له ستره، فأعلمه أن ابنه، قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها، ومراسلته من غير أن يراها، وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها، تجنت عليه، وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك، ومن همته همة ملك، وأنها تمنع من مواصلتها من لا يصلح للملك، ثم ليعلمه خبرها وخبره، ولا يطلعها على ما أسر إليه، فقبل أبوها ذلك منه.
ثم قال للمؤدب الموكل بولده: شجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك، وفعلت المرأة، ما أمرها به أبوها.
فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السببا لذي كرهته له، أخذ في الأدب، وطلب الحكمة، والعلم، والفروسية، والرماية، وضرب الصوالجة، حتى مهر في ذلك، ثم رفع إلى أبيه، أنه محتاج إلى الدواب، والآلات، والمطاعم، والملابس، والندماء، وإلى فوق ما تقدم له، فسر الملك بذلك، وأمر له به.
ثم دعا مؤدبه، فقال: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من حيث هذه المرأة، لا يزري به، فتقدم إليه أن يرفع إلي أمرها، ويسألني أن أزوجه إياها، ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها، فزوجها إياه، وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمعتما فلا تحدث شيئاً حتى أصير إليك.
فلما اجتمعا، صار إليه، فقال: يا بني، لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك، وليست في حبالك، فإني أنا أمرتها بذلك، وهي أعظم الناس منة عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة، والتخلق بأخلاق الملوك، حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي، وزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك.
ففعل الفتى ذلك، وعاش مسروراً بالجارية، وعاش أبوه مسروراً به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته، وشرفه بصيانة سره وطاعته، وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره، وعقد لابنه على الملك بعده.
قال اليماني، مولى ذي الرياستين: ثم قال لنا ذو الرياستين: سلوا الشيخ الآن، لم حملكم على العشق؟ فسألناه، فحدثنا بحديث بهرام جور وابنه.
اللهم فرج ما ترىأخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا أبو عمر بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثني إسحاق بن محمد بن أبان، قال: أخبرني بعض البصريين، قال: مر أبو السائب المخزومي بسوداء تستقي، وتسقي بستاناً، فقال: ويلك، ما لك؟ قالت: صديقي، عبد بني فلان، كان يحبني وأحبه، ففطن بنا، فقيده مواليه، وصيرني مولاي في هذا العمل.
فقال أبو السائب: والله، لا يجمع عليك ثقل الحب، وثقل ما أرى، وقام مقامها في الزرنوق، فكل الشيخ وعرق، فجعل يمسح العرق، ويقول: اللهم فرج ما ترى.
4
-
الجزء الخامس
الخليفة المستكفيينقل قاضياً وينصب بدلاً منه أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال:

لما نقل المستكفي بالله أبا السائب عن القضاء بمدينة المنصور، وذلك في يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، قلد في هذا اليوم، أبا الحسن محمد بن علي بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن عيسى بن موسى بن محمد علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب، ويعرف هو وأهله ببني أم شيبان، وهي والدة يحيى ابن عبد الله جد أبيه، وهي المكناة بأم شيبان، واسمها وكنيتها، وهي بنت يحيى بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن زكريا بن طلحة بن عبيد الله، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم زكريا بن طلحة: أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وأم أبيه صالح بن علي: فاطمة بنت جعفر بن محمد ابن عمار البرجمي، قاضي القضاة بسر من رأى، قال طلحة: فقد ولده ثلاثة من الصحابة من قريش، وله ولادة في البراجم من العرب.
والقاضي أبو الحسن محمد بن صالح، من أهل الكوفة، وبها ولد ونشأ، وكتب الحديث، وقدم بغداد سنة إحدى وثلاثمائة مع أبيه، ثم تكرر دخوله إياها، ثم دخل إليها في سنة سبع وثلاثمائة، فقرأ على أبى بكر بن مجاهد، ولقي الشيوخ.
ثم انتقل إلى الحضرة، فاستوطنها في سنة ستة عشرة وثلاثمائة، وصاهر قاضي القضاة أبو عمر محمد بن يوسف على بنت بنته.
قال طلحة: وأبو الحسن رجل عظيم القدر، وافر العقل، واسع العلم، كثير الطلب للحديث، حسن التصنيف، مدمن الدرس والمذاكرة، ينظر في فنون العلم والآداب، متوسط في الفقه على مذهب ابن مالك، ولا اعلم قاضياً تقلده القضاة بمدينة السلام من بني هاشم غيره.
ثم قلده المطيع قضاء الشرقية، مضافاً إلى مدينة المنصور، وذلك في رجب سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فصار على قضاء الجانب الغربي بأسره إلى شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فان بغداد جمعت لأبى السائب عتبة بن عبيد الله.
وقلد القاضي أبو الحسن، مصر، وأعمالها، والرملة، وقطعة من أعمال الشام.
لماذا سمي زوج الحرةحدثنا القزاز، قال: أخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: حدثني أبى، قال: حدثني الأمير أبو الفضل جعفر بن المكتفي بالله، قال: كانت بنت بدر مولى المعتضد، زوجة أمير المؤمنين المقتدر بالله، فأقامت عنده سنين، وكان لها مكرماً، وعليها مفضلاً الافضال العظيم، فتاثلت حالها، وانضاف ذلك إلى عظيم نعمتها الموروثة.
وقتل المقتدر. فأفلتت من النكبة، وسلم لها جميع أموالها وذخائرها، حتى لم يذهب لها شيء، وخرجت من الدار.
وكان يدخل إلى مطبخها حدث، يحمل على رأسه، يعرف بمحمد بن جعفر، وكان حركاً، فنفق على القهرمانة بخدمته، فنقلوه، إلى أن صار وكيل المطبخ، وبلغها خبره، ورأته، فردت إليه الوكالة في غير المطبخ.
وترقى أمره، حتى صار ينظر في ضياعها، وعقارها، وغلب عليها، حتى صارت تكلمه من وراء ستر، وخلف باب.
وزاد اختصاصه بها، حتى علق بقلبها، فاستدعته إلى تزويجها، فلم يجسر على ذلك، فجسرته، وبذلت مالاً، حتى تم لها ذلك.
وقد كانت حالته تأثلت بها، وأعطته، لما أرادت ذلك منه، أموالاً جعلها لنفسه نعمة ظاهرة، لئلا يمنعها أولياؤها منه لفقره، وأنه ليس بكفءٍ، ثم هادت القضاة بهدايا جليلة حتى زوجوها منه، واعترضها الأولياء، فغالبتهم بالحكم والدراهم، فتم له ذلك ولها.
فأقام معها سنين، ثم ماتت، فحصل له من مالها، نحو ثلاثمائة ألف دينار، فهو يتقلب إلى الآن فيها.
قال أبي: قد رأيت أنا هذا الرجل، وهو شيخ عاقل، شاهد، مقبول، توصل بالمال إلى أن قبله أبو السائب القاضي، حتى أقر في يده وقوف الحرة، ووصيتها، لأنها أوصت إليه في مالها ووقوفها، وهو إلى الآن لا يعرف إلا بزوج الحرة.
و إنما سميت الحرة، لأجل تزويج المقتدر بها، وكذا عادة الخلفاء، لغلبة المماليك عليهم، وإذا كانت لهم زوجة، قيل لها: الحرة.
البيضاوي أزرق كوسجأخبرنا أبو المنصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: سمعت التنوخي يقول: حضرت عند أبي الحسن بن لؤلؤ مع أبي الحسين البيضاوي، لنقرأ عليه، وكان ذلك له عدد من يحضر السماع، ودفعنا أليه دراهم كنا قد واقفناها عليه.
فرأى في جملتنا واحداً زائداً عن العدد الذي ذكر له، فأمر بإخراجه، فجلس الرجل في الدهليز، وجعل البيضاوي يقرأ، ويرفع صوته، ليسمع الرجل.

فقال ابن لؤلؤ: يا أبا الحسين، أتعاطى علي، وأنا بغدادي، باب طاقي، وراق، صاحب حديث، شيعي، أ زرق، كوسج.
ثم أمر جاريته أن تدق بالهاون أشناناً حتى لايصل صوت البيضاوي بالقراءة إلى الرجل.
القاضي ابن قريعةيستخلف التنوخي على قضاء الأهواز قال أبو الفرج الشلجي: حدثني أبو علي التنوخي القاضي، قال: لما قلدني القاضي أبو بكر بن قريعة، قضاء الأهواز خلافة له، كتب إلى المعروف بابن سركر الشاهد، وكان خليفته على القضاء قبلي، كتاباً على يدي، وعنوانه: إلى المخالف الشاق، السيء الأخلاق، الظاهر النفاق، محمد بن اسحاق.
أبو القاسم الصاحب ابن عباديشتهي مشاهدة ثلاثة من بغداد أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا الخطيب، قال: سمعت أبا القاسم التنوخي يقول: كان الصاحب أبو القاسم بن عباد يقول: كنت أشتهي أن أدخل بغداد وأشاهد جرأة محمد بن عمر العلوي، وتنسك أبي أحمد الموسوي، وظرف أبي محمد بن معروف.
أبو الفضل الزهريمحدث وآباؤه كلهم محدثون أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا التنوخي، قال: سئل أبو الحسن الدار قطني، وأنا أسمع، عن أبي الفضل الزهري، فقال: هو ثقة، صدوق، صاحب كتاب، وليس بينه وبين عبد الرحمن بن عوف إلا من قد روي عنه الحديث.
ثم قال الخطيب: حدثنا الصوري، قال: حدثني بعض الشيوخ: أنه حضر مجلس القاضي أبي محمد بن معروف يوماً، فدخل أبو الفضل الزهري، وكان أبو الحسين بن المظفر حاضراً، فقام عن مكانه، وأجلس أبا الفضل فيه، ولم يكن ابن معروف، يعرف أبا الفضل، فأقبل عليه ابن المظفر، فقال: أيها القاضي، هذا الشيخ من ولد عبد الرحمن بن عوف، وهو محدث، وآباؤه كلهم محدثون إلى عبد الرحمن بن عوف.
ثم قال ابن المظفر: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن سعد الزهري، والد هذا الشيخ، وحدثنا فلان عن أبيه محمد بن عبيد الله، وحدثنا فلان عن جده عبيد الله بن سعد.
ولم يزل يروي لكل واحد من آباء أبي الفضل حديثاً، حتى انتهى إلى عبد الرحمن بن عوف.
المؤلف التنوخي يتحدث عن نفسهأخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: حدثنا ابن المحسن ابن علي، قال: قال لي أبي: مولدي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة، وكان مولده في ليلة الأحد لأربع بقين من ربيع الأول.
وأول سماعة الحديث في سنة ثلاث وثلاثين و ثلاثمائة.
وأول ما تقلد القضاء من قبل أبى السائب عتبة بن عبيد الله بالقصر وبسورا في سنة تسع وأربعين.
ثم ولاه المطيع لله القضاء بعسكر مكرم وايذج ورامهرمز.
وتقلد بعد ذلك أعمالاً كثيرة في نواح مختلفة.
ذو الكفايتين أبو الفتح بن العميديحيي سهرة تنتهي باعتقاله أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو اسحاق ابراهيم بن علي بن سعيد النصيبي، قال: كان أبو الفتح بن العميد، الملقب بذي الكفايتين، قد تداخله في بعض العشايا سرور، فاستدعى ندماءه، وعبى لهم مجلساً عظيماً، بآلات الذهب والفضة، وفاخر الزجاج، والصيني، والآلات الحسنة، والطيب، والفاكهة الكثيرة، وأحضر المطرب، وشرب بقية يومه، وعامة ليلته، ثم عمل شعراً، أنشده ندماءه، وغني به في الحال، وهو:
دعوت المنى ودعوت العلى ... فلما أجابا دعوت القدح
وقلت لأيام شرخ الشباب ... إلى فهذا أوان الفرح
وإذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
قال: وكان هذا بعد تدبيره على الصاحب أبي القاسم بن عباد، حتى أبعده عن كتبة صاحبه الأمير مؤيد الدولة، وسيره عن حضرته بالري، إلى أصبهان، وانفرد هو بتدبير الأمور لمؤيد الدولة، كما كان لركن الدولة.
فلما غني الشعر استطابه، وشرب عليه، إلى أن سكر، ثم قال لغلمانه: غطوا المجلس، ولا تسقطوا منه شيئاً، لأصطبح في غدٍ عليه، وقال لندمائه: باكروني، ولا تتأخروا، فقد اشتهيت الصبوح، وقام إلى بيت منامه، وانصرف لندمائه.
ودعاه مؤيد الدولة في السحر، فلم يشك أنه لمهم، فقبض عليه، وأنفذ إلى داره من أخذ جميع ما فيها، وتطاولت به النكبة، ثم وزر لأخيه فخر الدولة، فبقي في الوزارة ثماني عشرة سنة وشهوراً، وفتح خمسين قلعة سلمها إلى فخر الدولة، لم يجتمع مثلها لأبيه.

وكان الصاحب عالماً بفنون من العلوم كثيرة، لم يقاربه في ذلك وزير، وله التصانيف الحسان، والنثر البالغ، وجمع كتباً عظيمة، حتى كان يحتاج إلى نقلها على أربعمائة جمل.
وكان يخالط العلماء والأدباء، ويقول لهم: نحن بالنهار سلطان، وبالليل إخوان.
من شعر الحسن بن حامدأنشدنا الحسن بن علي الجوهري، وعلي بن المحسن التنوخي، قالا: أنشدنا أبو محمد الحسن بن حامد لنفسه:
شريت المعالي غير منتظر بها ... كساداً ولا سوقاُ تقام لها أخرى
وما أنا من أهل المكاس وكلما ... توفرت الأثمان كنت لها أشرى
الشاعر ابن سكرةيدخل محمداً ويخرج بشراً أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أنشدني علي بن المحسن، قال: أنشدني أبو الحسن بن سكرة، وقال: دخلت حماماً وخرجت وقد سرق مداسي، فعدت إلى داري حافياً، وأنا أقول:
إليك أذم حمام ابن موسى ... وان فاق المنى طيباً وحرا
تكاثرت اللصوص عليه حتى ... ليحفى من يطيف به ويعرى
ولم أفقد به ثوباً ولكن ... دخلت محمداً وخرجت بشرا
ابن سكرة الهاشمييهجو القاضي أبا السائب ومن أشعار ابن سكرة الهاشمي، ما قاله في القاضي أبا السائب:
إن شئت أن تبصر أعجوبة ... من جور أحكام أبي السائب
فاعمد من الليل إلى صرة ... وقرر الأمر مع الحاجب
حتى ترى مروان يقضى له ... على علي بن أبي طالب
يسقط من موضع عالي فيسلمثم يعثر بعتبة الباب فيقع ميتاً أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثني أبو القاسم عبد الله بن أحمد الإسكافي، قال: سمعت أبا الحسن محمد بن عمر العلوي، يقول: انه لما بنى داره بالكوفة، وكان فيها حائط عظيمالعلو، فبينا البناء قائم على أعلاه لا سلاحه، سقط على الأرض، فارتفع الضجيج استعظاماً للحال، لأن العادة لم تجر بسلامة من يسقط عن مثل ذلك الحائط، فقام الرجل سالماً لا قلبه به، وأراد العود إلى الحائط، ليتم البناء.
فقال له الشريف أبو الحسن: قد شاع سقوطك من أعلى الحائط، وأهلك لا يصدقون سلامتك، ولست أحب أن يردوا إلى بابي صوارخ، فامض إلى أهلك، ليشاهدوا سلامتك، وعد إلى شغلك.
فمضى مسرعاً، فعثر بعتبة الباب، فسقط ميتاً.
بين أبي اسحاق الطبريوأبي الحسين بن سمعون أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: حدثني علي ابن أبي علي المعدل، قال: قصد أبو الحسين بن سمعون أبا اسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري ليهنئه بقدومه من البصرة، فجلس في الموضع الذي جرت عادة أبي اسحاق بالجلوس فيه لصلاة الجمعة من جامع المدينة، ولم يكن وافي، فلما جاء والتقيا، قام إليه، وسلم عليه، وقال له بعد أن جلسا:
الصبر إلا عنك محمود ... والعيش إلا بك منكود
ويوم تأتي سالماً غانماً ... يوم على الإخوان مسعود
مذ غبت غاب الخير من عندنا ... وان تعد فالخير مردود
أبو القاسم الخبزأرزييهدي للتنوخي سبحة سبج حدثنا القاضي التنوخي، قال: أهدى إلى نصر بن أحمد الخبزأرزي، سبحة سبج، وكتب معها:
بعثت يا بدر بني يعرب ... بسبحة من سبج معجب
يقول من أبصرها طرفه ... نعم عتاد الخائف المذنب
لم تخط إن فكرت في نظمها ... ولونها من حمة العقرب
عبد الصمد يدق السعد في العطارينأخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: كان عبد الصمد يدق السعد في العطارين، ويذهب مذهب التدين والتصوف، والتعفف والتقشف.
فسمع عطاراً يهودياً، يقول لابنه: يا بني، قد جربت هؤلاء المسلمين، فما وجدت فيهم ثقة.
فتركه عبد الصمد أياماً، ثم جاءه، فقال: أيها الرجل، تستأجرني لحفظ دكانك؟ قال: نعم، وكم تأخذ مني؟ قال: ثلاثة أرطال خبز، ودانقين فضة كل يوم.
قال: قد رضيت.
قال: فأعطني الخبز أدراراً، واجمع لي الفضة عندك، فإني أريدها لكسوتي.
فعمل معه سنة، فلما انقضت، جاءه، فحاسبه، فقال: انظر لدكانك.
قال: قد نظرت.

قال: فهل وجدت خيانة أو خللاً؟ قال: لا والله.
قال: فإني لم أرد العمل معك، وإنما سمعتك تقول لولدك في الوقت الفلاني، إنك لم تر في المسلمين أميناً، فأردت أن أنقض عليك قولك، وأعلمك أنه إذا كان مثلي - وأنا أحد فقرائهم - على هذه الصورة، فغيري من المسلمين على مثلها، وما هو أكثر منها.
ثم فارقه، وأقام على دق السعد.
طلسم في صعيد مصر يطرد الفارقال أبو علي التنوخي: حدثني من أثق به، وهو أبو عبد الله الحسين ابن عثمان الخرقي الحنبلي، قال: توجهت إلى الصعيد في سنة 359 فرأيت في باب ضيعة لأبي بكر علي ابن صالح الروذباري تعرف بابسوج، شارعة على النيل بين القيس والبهنسا، صورة فأر في حجر، والناس يجيئون بطين من طين فيطبعون فيه تلك الصورة، ويحملونه إلى بيوتهم.
فسألت عن ذلك، فقيل لي: ظهر عن قريب، من سنيات، هذا الطلسم، وذاك انه كان مركب فيه شعير تحت هذه البيعة، فقصد صبي من المركب ليلعب، فأخذ من هذا الطين، وطبع الفأرة، ونزل بالطين المطبوع إلى المركب، فلما حصل فيه، تبادر فأر المركب يظهرون ويرمون أنفسهم في الماء.
فعجب الناس من ذلك، وجربوه في البيوت، فكان أي طابع حصل في داره، لم تبقى فيها فأرة إلا خرجت، فتقتل، أو تفلتت إلى موضع لا صورة فيه.
فكثر الناس أخذ الصورة في الطين، وتركها في منازلهم، حتى لم تبقى فأرة في الطريق والشوارع.
وشاع ذلك، وذاع في البلدان.
حجر عجيب الخواصفي ضيعة عين جاره قال أبو علي التنوخي: حدثني الحسين بن نبت، غلام الببغاء، وكتب لي خطه، وشهد له الببغاء بصحة الحكاية، قال: كانت من أعمال حلب، ضيعة تعرف بعين جاره، بينها وبين الهونة، أو قال: الحونة، أو الجومة، حجر قائم كالتخم بين الضيعتين.
وربما وقع بين أهل الضيعتين شر، فيكيدهم أهل الهونة، بأن يلقوا ذلك الحجر القائم، فكما يقع الحجر، يخرج أهل الضيعتين من النساء ظاهرات متبرجات، لا يعقلن على أنفسهن، طلباً للجماع، ولا يستحيين من الحال، لما عليهن من غلبة الشهوة.
إلى أن يتبادر الرجال إلى الحجر، فيعيدونه إلى حالته الأولى قائماً، منتصباً، فتتراجع النساء إلى بيوتهن، وقد عاد إليهن التمييز باستقباح ما كن وهذه الضيعة كان سيف الدولة الحمداني أقطعها أبا علي أحمد بن نصر البازيار، وكان أبو علي يتحدث بذلك، ويسمعه الناس منه.
وقد ذكر هذه الحكاية، بخطه في الأصل.
مشهد النذور بظاهر سور بغدادحدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: كنت جالساُ بحضرة عضد الدولة، ونحن مخيمون بالقرب من مصلى الأعياد، في الجانب الشرقي من مدينة السلام، نريد الخروج معه إلى همذان، في أول يوم نزل العسكر، فوقع طرفه على البناء الذي علي قبر النذور.
فقال لي: ما هذا البناء؟ فقلت: هذا مشهد النذور، ولم أقل قبر، لعلمي بتطيره من ذكر هذا.
فاستحسن اللفظ، وقال: قد علمت أنه قبر النذور، وإنما أردت شرح أمره.
فقلت: هذا يقال انه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن بعض الخلفاء أراد قتله خفية، فجعل له هناك زبية، وسير عليها وهو لا يعلم، فوقع فيهان وهيل عليه التراب حياً، وإنما شهر بقبر النذور، لأنه ما يكاد ينذر له نذر إلا صح، وبلغ الناذر ما يريد، ولزمه الوفاء بالنذر، وأنا أحد من نذر له مراراً لا أحصيها كثرة، نذوراً على أمور متعددة، فبلغتها، ولزمني النذر، فوفيت به.
فلم يقبل هذا القول، وتكلم بما دل على أن هذا إنما يقع منه اليسير اتفاقاً، فيتسوق العوام بأضعافه، ويسيرون الأحاديث الباطلة فيه، فامسكت.
فلما كان بعد أيام يسيرة، ونحن معسكرون في موضعنا، استدعاني، في غدوة يوم، وقال: اركب معي إلى مشهد النذور.
فركبت، وركب في نفر من حاشيته، إلى أن جئت به إلى الموضع، فدخله، وزار القبر، وصلى عنده ركعتين، سجد بعدهما سجدة طويلة، أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد، ثم ركبنا معه إلى خيمته، ثم رحل ورحلنا معه نريد همذان، وبلغناها، وأقمنا فيها معه شهوراً.
فلما كان بعد ذلك استدعاني وقال لي: ألست تذكر ما حدثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد؟ فقلت: بلى.

فقال: إني خاطبتك في معناه، بدون ما كان في نفسي، اعتماداً لاحسان عشرتك، والذي كان في نفسي، في الحقيقة، أن جميع ما يقال فيه كذب.
فلما كان بعد ذلك بمديدة، طرقني أمر خشيت أن يقع ويتم، وأعملت فكري في الاحتيال لزواله، ولو بجميع ما في بيوت أموالي، وسائر عساكري، فلم أجد لذلك فيه مذهباً.
فتذكرت ما أخبرتني به من النذر لقبر النذور، فقلت: لما لا أجرب ذلك؟ فنذرت إن كفاني الله سبحانه ذلك الأمر، أن أحمل إلى صندوق هذا المشهد عشرة آلاف درهم صحاحاً.
فلما كان اليوم، جاءتني الأخبار بكفايتي ذلك الأمر، فتقدمت إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف - يعني كاتبه - أن يكتب إلى أبي الريان - وكان خليفته ببغداد - بحملها إلى المشهد.
ثم التفت إلى عبد العزيز، وكان حاضراً، فقال له: قد كتبت بذلك، ونفذ الكتاب.
ألوان غريبة من الوردحكى صاحب نشوار المحاضرة: أنه رأى ورداً أصفر، واستغرب ذلك، وقد رأيناه كثيراً، إلا أنه امتاز بكونه عد ورق وردة، فكانت ألف ورقة، ورأى ورداً أسود حالك اللون، له رائحة ذكية، ورأى بالبصرة وردة، نصفها أحمر قاني الحمرة، ونصفها الآخر ناصع البياض، والورقة التي قد وقع الخط فيها كأنها مقسومة بقلم.
ذكر خبر بناء مدينة السلامأخبرنا القاضي علي بن أبي علي المعدل التنوخي، قال: أخبرنا طلحة ابن محمد بن جعفر، قال: أخبرني محمد بن جرير إجازة: أن أبا جعفر المنصور بويع له سنة ست وثلاثين ومائة، وأنه ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين ومائة، واستتم البناء، سنة ست وأربعين ومائة، وسماها مدينة السلام.
مدينة السلاملم يمت فيها خليفة قط قال أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح: لم يمت بمدينة السلام خليفة، مذ بنيت إلا محمد الأمين، فانه قتل في شارع باب الأنبار، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين، وهو في معسكره بين بطاطيا وباب الأنبار، فأما المنصور، وهو الذي بناها، فمات حاجاً، وقد دخل الحرم، ومات المهدي بماسبذان، ومات الهادي بعيساباذ، ومات هارون بطوس، ومات المأمون بالبدندون من بلاد الروم، وحمل - فيما قيل - إلى طرسوس فدفن بها، ومات المعتصم بسر من رأى، وكل من ولي الخلافة بعده من ولده، وولد ولده، إلا المعتمد والمعتضد والمكتفي فانهم ماتوا بالقصور من الزندورد، فحمل المعتمد ميتاً إلى سر من رأى، ودفن المعتضد في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ودفن المكتفي في موضع من دار ابن طاهر.
قال الخطيب الحافظ أبو بكر: ذكرت هذا الخبر للقاضي أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي رحمه الله، فقال: محمد الأمين أيضاً لم يقتل في المدينة، وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه، فقبض عليه في وسط دجلة، وقتل هناك، ذكر ذلك الصولي وغيره.
وقال أحمد ين أبي يعقوب الكاتب: قتل الأمين خارج باب الأنبار.
الصنم الموجود على رأس القبة الخضراءحدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: سمعت جماعة من شيوخنا يذكرون: أن القبة الخضراء، كان على رأسها صورة فارس في يده رمح، فكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات، ومد الرمح نحوها، علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حتى ترد عليه الأخبار، بأن خارجياً قد نجم من تلك الجهة، أو كما قال.
الأبواب الحديد على مدينة المنصورحدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن، قال: حدثني أبو الحسن ابن عبيد الزجاج الشاهد، وكان مولده في شهر رمضان من سنة أربع وتسعين ومائتين، قال: أذكر في سنة سبع وثلاثمائة، وقد كسرت العامة الحبوس بمدينة المنصور، فأفلت من كان فيها، وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية، فغلقت، وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس، فأخذوا جميعهم، حتى لم يفتهم منهم أحد.
الماء المنبثق من قبينيهدم طاقات باب الكوفة في مدينة المنصور حدثني علي بن المحسن، قال: قال لي القاضي أبو بكر بن أبي موسى الهاشمي: انبثق البثق من قبين، وجاء الماء الأسود فهدم طاقات باب الكوفة، ودخل المدينة فهدم دورنا، فخرجنا إلى الموصل، وذلك في سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة، وأقمنا بالموصل سنين عدة، ثم عدنا إلى بغداد، فسكنا طاقات العكي.
عدد الخدم والفراشين في قصر الخلافة

حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثني أبو الفتح احمد بن علي بن هارون المنجم، قال: حدثني أبي قال: قال أبو القاسم علي بن محمد الخوارزمي، في وصف أيام المقتدر بالله، وقد جرى حديثه، وعظم أمره، وكثر الخدم في داره: قد اشتملت الجريدة على أحد عشر ألف خادم خصي، وكذا، من صقلبي ورومي وأسود.
وقال: هذا جنس واحد ممن تضمنه الدار، فدع الآن الغلمان الحجرية، وهم ألوف كثيرة، والحواشي من الفحول.
وقال أيضاً: حدثني أبو الفتح عن أبيه وعمه، عن أبيهما عن أبي الحسن علي بن يحيى: أنه كانت عدة كل نوبة من نوب الفراشين في دار المتوكل على الله، أربعة آلاف فراش، قالا: فذهب علينا أن نسأله، كم نوبة كانوا.
من شعر صاحب النشوارأنشدنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدني أبي لنفسه:
يوم سرقنا العيش فيه خلسة ... في مجلس بفناء دجلة مفرد
رق الهواء برَقَةٍ قدامه ... فغدوت رقاً للزمان المسعد
فكأن دجلة طيلسان أبيض ... والجسر فيها كالطراز الأسود
الوزير ابن الفراتيقيد، ويغل، ويلبس جبة صوف نقعت بماء الأكارع حدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي، قال: حدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: كنت حاضراً مع أبي، مجلس أبي الحسن بن الفرات، في شهر ربيع الآخر، سنة خمس وثلاثمائة، في وزارته الثانية، فسمعته يتحدث، ويقول: دخل إلي أبو الهيثم، العباس بن محمد بن ثوابة الأنباري، في محبسي في دار المقتدر بالله وطالبني بأن أكتب له خطي بثلاثة عشر ألف ألف دينار.
فقلت هذا ما جرى على يدي للسلطان في طول أيام ولايتي، فكيف أصادر على مثله؟ قال: قد حلفت بالطلاق على أنه لا بد أن تكتب بذلك، فكتبت له ثلاث عشر ألف ألف، ولم أذكر درهماً ولا ديناراً.
فقال: اكتب ديناراً لأبرأ من يميني، فكتبت، وضربت عليه، وخرقت الرقعة، ومضغتها.
وقلت: قد برت يمينك، ولا سبيل بعد ذلك إلى كتب شيء، فاجتهد، ولم أفعل.
ثم عاد إلي من غد، ومعه أم موسى القهرمانة، وجدد مطالبتي، وأسرف في شتمي، ورماني بالزنا، فحلفت بالطلاق والعتاق، وتمام الأيمان الغموس، أنني ما دخلت في محظور من هذا الجنس، منذ نيف وثلاثين سنة، وسمعته أن يحلف بمثل يميني، على أن غلامه القائم على رأسه، لم يأته في ليلته تلك.
فأنكرت أم موسى هذا القول، وغطت وجهها حياءً منه.
فقال لها ابن ثوابة: هذا رجل بطر بالأموال التي معه، ومثله، مثل المزين مع كسرى، والحجام مع الحجاج بن يوسف، فتستأمرين السادة في إنزال المكروه به، حتى يذعن بما يراد منه.
وكان قول السادة، إشارة إلى المقتدر بالله، والسيدة والدته، وخاطف، ودستنبويه أم ولد المعتضد بالله، وهم إذ ذاك مستولون على التدبير لصغر سن المقتدر بالله.
فقامت أم موسى، وعادت، وقالت لابن ثوابة: يقول لك السادة: قد صدقت فيما قلت، ويدك مطلقة فيه.
قال ابن الفرات: وكنت في دار لطيفة، والحر شديد، فتقدم بتنحية البواري عن سمائها، حتى نزلت الشمس إلى صحنها، وإغلاق أبواب بيوتها، فحصلت في الشمس، من غير أن أجد مستظلاً منها، ثم قيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف، قد نقعت في ماء الأكارع، وغلني بغل، وأقفل باب الحجرة وانصرف.
فأشرفت على التلف، وعددت على نفسي ما عاملت به الناس، فوجدتني، قد عملت كل شيء منه، من مصادرة، ونهب، وقبض ضياع، وحبس، وتقييد، وتضييق، وإلباس جباب الصوف، وتسليم قوم إلى أعدائهم، وتمكينهم من مكروههم، ولم أذكر أني غللت أحداً، فقلت: يا نفس هذه زيادة.
ثم فكرت أن النرسي، كاتب الطائي، ضمنني من عبيد الله بن سليمان، فلم يسلمني إليه، فسلمته إلى الحسن المعلوف، المستخرج، وكان عسوفاً، وأمرته بتقييده، وتعذيبه، ومطالبته بمال حددته له، وألط، ولم يؤد، فتقدمت بغله، ثم ندمت بعد أن غل مقدار ساعتين، وأمرت بإنزال الغل عنه.
وتجاوزت الساعتين وأنا مغلول، فذكرت أمراً آخر، وهو أنه لما قرب سبكري مأسوراًمع رسول صاحب خراسان، كتبت إلى بعض عمال المشرق، بمطالبته بأمواله، وذخائره، فكتب بإلطاطه وامتناعه، فكتبت بأن يغل، ثم كتبت بعد ساعتين كتاباً ثانياً بأن يحل، فوصل الكتاب الأول وغل، وتلاه الثاني بعد ساعتين، فحل.

فلما تجاوزت عني أربع ساعات، سمعت صوت غلمان مجتازين في الممر الذي في حجرتي، فقال الخدم الموكلون بي: هذا بدر الحرمي، وهو صنيعتك.
فاستغثت به وصحت: يا أبا الخير، لي عليك حقوق، وأنا في حال أتمنى معها الموت، فتخاطب السادة، وتذكرهم حرمتي، وخدمتي في تثبيت دولتهم، لما قعد الناس عن نصرتهم، وافتتاحي البلدان المأخوذة، واستيفائي الأموال المنكسرة، وان لم يكن إلا مؤاخذتي بذنب ينقم علي، فالسيف فانه أروح.
فرجع، ودخل إليهم، وخاطبهم، ورققهم، فأمروا بحل الحديد كله عني، وتغيير لباسي، وأخذ شعري، وإدخالي الحمام، وتسليمي إلى زيدان، وراسلوني: بأنك لا ترى بعد ذلك بأساً، وأقمت عند زيدان، مكرماً، إلى أن رددت إلى هذا المجلس.
قال أبو الحسين: ثم ضرب الدهر ضربه، فدخلت إليه مع أبي، في الوزارة الثالثة، وقد غلب المحسن علي رأيه وأمره.
فقال له أبي: قد أسرف أبو أحمد، في مكاره الناس، حتى انه يضرب من لو قال له: اكتب خطك بما يريده منه، لكتب من غير ضرب، ثم يواقف المصادر على الأداء في وقت بعينه، فان تأخر إيراد الروز به، أعاد ضربه، وفي هذا الفعل شناعة، مع خلوه من فائدة.
فقال له أبو الحسن: يا أبا القاسم، لو لم يفعل أبو أحمد، ما يفعله، بأعدائنا، ومن أساء معاملتنا، لما كان من أولاد الأحرار، ولكان نسل هوان، أنت تعلم أنني قد أحسنت إلى الناس دفعتين، فما شكروني، وسعوا على دمي، ووالله لأسلكن بهم ضد تلك الطريقة.
فلما خرجنا من حضرته، قال لي أبي: سمعت أعجب من هذا القول؟ إذا كنا لم نسلم مع الإحسان، نسلم مع الإساءة؟ فما مضى إلا أيام يسيرة، حتى قبض عليه، وجرى ما جرى في أمره.
قال القاضي أبو علي التنوخي: قلت لأبي الحسين بن هشام: قد عرفنا خبر المزين مع كسرى، وهو أنه جلس ليصلح وجهه، فقال له: أيها الملك زوجني بنتك، فأمر أن يقام، فأقيم.
وقيل له: ما قلت؟ فقال: لم أقل شيئاً، ففعل به ذلك ثلاث دفعات.
فقال الملك: لهذا المزين خطب، وأحضر أهل الرأي، فأخبرهم بحاله.
فقال جميعهم: ما أنطق هذا المزين، إلا باعث بعثه من مال وراء ظهره، فأنفذ إلى منزله، فلم يوجد له شيء.
فقال الملك: احفروا مكان مقعده عند خدمته لي، فحفر، فوجد تحته كنز عظيم.
فقال الملك: هذا الكنز كان يخاطبني.
ثم قلت لأبي الحسين: فهل تعرف خبر الحجام، مع الحجاج؟ فقال: نعم، بلغنا أن الحجاج، احتجم ذات يوم، فلما ركب الحجام المحاجم على رقبته، قال: أحب أيها الأمير، أن تخبرني بخبرك مع ابن الأشعث، وكيف عصى عليك.
فقال له: لهذا الحديث وقت آخر، وإذا فرغت من شأنك حدثتك، فأعاد مسألته، وكررها، والحجاج يدفعه، ويعده، ويحلف له على الوفاء له.
فلما فرغ، ونزل المحاجم عنه، وغسل الدم، أحضر الحجام، وقال له: إنا وعدناك بأن نحدثك حديث ابن الأشعث، وحلفنا لك، ونحن محدثوك، يا غلام، السياط، فأتي بها.
فأمر الحجاج بالحجام، فجرد، وعلته السياط، وأقبل الحجاج يقص عليه قصة ابن الأشعث، بأطول حديث، فلما فرغ استوفى الحجام خمسمائة سوط، فكاد يتلف.
ثم رفع الضرب، وقال له: قد وفينا لك بالوعد، وأي وقت أحببت أن تسأل خبرنا مع غير ابن الأشعث، على هذا الشرط، أجبناك.
الوزير ابن الفراتيتناول رقعة فيها سبه وشتمه وتهديده حدث القاضي أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو الحسين بن هشام، قال حدثني أبو علي بن مقلة، قبل وزارته، قال: عزم أبو الحسن بن الفرات، في وزارته الأولى، يوماً على الصبوح من غد، وكان يوم الأحد من رسمه أن يجلس للمظالم فيه.
ثم قال: كيف نتشاغل نحن بالسرور، ونصرف عن بابنا قوماً كثيرين، قد قصدوا من نواح بعيدة، وأقطار شاسعة، مستصرخين متظلمين؟ فهذا من أمير، وهذا من عامل، وهذا من قاض، وهذا من متعزز، ويمضون مغمومين، داعين علينا، والله، ما أطيب نفساً بذلك.
ولكن أرى أن تجلس أنت يا أبا علي ساعة، ومعك أحمد ابن عبيد الله بن رشيد، صاحب ديوان المظالم، وتستدعيا القصص، وتوقعا منها فيما يجوز توقيعكما فيه، وتفردا ما لا بد من وقوفي عليه، و تحضرانه لأوقع فيه، وينصرف أرباب الظلامات مسرورين، وأتهنأ يومي بذلك.
فقلت: السمع والطاعة، وبكرت من غد.

فقال لي: اخرج، واجلس، على ما واقفتك عليه، فخرجت ومعي ابن رشيد، وجلسنا ووقعنا في جمهور ما رفع، إلا عشر رقاع مما يحتاج إلى وقوفه عليها، وتوقيعه بخطه فيها، وكان منها رقعة كبيرة ضخمة، ترجمتها: المتظلمون من أهل روذمستان، وهرمزجرد، وهما ناحيتان من السيب الأسفل وجنبلاء، وكانت إذ ذاك في إقطاع السيدة، وقدرت أنها ظلامة من وكيلها، في تغيير رسم، أو نقص طسق، فجعلتها فيما أفردته.
وعدت إلى أبي الحسن، فعرفته ما جرى، فأخذ الرقاع، ولم يزل يوقع فيها، إلى أن انتهى إلى هذه الرقعة، فقرأها، ووجهه يربد ويصفر، وينتقل من لون إلى لون، فضاق صدري، وندمت على ترك قراءتها، وقلت: لعل فيها أمراً يتهمني فيه، وأخذت ألو نفسي على تفريطي فيما فرطت فيه.
وفرغ منها، فكتمني ما وقف عليه فيها، وقال: هاتوا أهل روذمستان وهرمزجرد.
فصاح الحجاب دفعات، فلم يجب أحد، وقام وهو مهموم منكسر، ولم يذاكرنا بأمر أكل ولا شرب، ودخل بعض الحجر، وتأخر أكله، وزاد شغل قلبي.
وقلت لخليفة لساكن - صاحب الدواة - وكان أمياً: أريد رقعة لابن بسام الشاعر، عليها خرج لأقف عليه، ولم أزل أخدعه، حتى مكنني من تفتيش ما هو مع الدواة، ولو كان ساكن حاضراً لما تم لي ذلك.
وأخذت الرقعة، فإذا هي رقعة بعض أعداء ابن الفرات، وقد قطعه فيها بالثلب، والطعن، وتعديد المساوئ، والقبائح، وهدده بالسعاية.
وقال فيما قاله: قد قسمت الملك بين نفسك وأولادك، وأهلك وأقاربك، وكتابك وحواشيك، واطرحت جميع الناس، وأقللت الفكر في عواقب هذه الأفعال، وما ترضى لمن تنقم عليه، بالإبعاد وتشتيت الشمل، حتى تودعهم الحبوس، وتفعل وتصنع، وختمها بأبياتٍ هي:
لو كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائماً أبدا
لكن رأيت الليالي غير تاركة ... ما ساء من حادث أو سر مطردا
وقد سكنت إلى أني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
قال: وبطل صبوح أبي الحسن، ودعانا وقت الظهر، فأكلنا معه على الرسم، ولم أزل أبسطه، وأقول له أقوالاً تسكنه، إلى أن شرب بعد انتباهه من نومه، غبوقاً.
ومضى على هذا اليوم أربعة أشهر، وقبض عليه، واستترت عند الحسين بن عبد الأعلى.
فلما خلع على أبي علي محمد بن عبيد الله بن خاقان، جلسنا نتحدث، ونتذاكر أمر ابن الفرات.
فقال لي ابن عبد الأعلى: كنت جالساً في سوق السلاح، أنتظر جواز الخاقاني بالخلع، لأقوم إليه وأهنئه، فاتفق معي رجل شاب، حسن الهيأة، جميل البزة، وحدثني انه صاحب لأبي الحسين بن أحمد بن أبي البغل، وأنه أنفذه من أصبهان، قاصداً، حتى دس إلى ابن الفرات، رقعة على لسان بعض المتظلمين، فيها كل طعن، وثلب، ودعاء، وسب، وتوعد، وتهدد، وفي آخرها شعر.
فقلت له: على رسلك، هذه الرقعة على يدي جرت، ووصلت إلى ابن الفرات.
وخرج الحديث متقابلاً.
الوزير أبو علي بن مقلةيشيد بمآثر الوزير ابن الفرات وحدث القاضي أبو علي، قال: حدثني أبو الحسين بن هشام، قال: قال: سمعت أبي يقول لأبي علي بن مقلة، في أول وزارته الأولى، وقد جلس مجلساً تقصى فيه الأعمال، وبان منه فضل كفاية واستقلال: العمل في يد الوزير أيده الله، ذليل.
فقال: على هذه الحال نشأنا، يا أبا القاسم، وأخذناها عمن كانت الدنيا والمملكة، يطرحان الأثقال عليه، فينهض بها، يعني أبا الحسن بن الفرات.
ثم قال أبو علي: لقد رأيته جالساً في الديوان للمظالم، والوزير إذ ذاك، القاسم بن عبيد الله، فتظلم إليه رجل من رسم ثقله عليه الطائي، وغير به رسماً له قديماً خفيفاً، ويسأل رده إلى ما كان عليه أولاً.
فرد يقول: قد سمتني أن أبطل رسماً، قرره أبو جعفر الطائي - رحمه الله - مع محله من العدل، والثقة، والبصيرة بأسباب العمارة، وقد درت عليه الأموال، وصلحت الأحوال، وأحده الجمهور، واستقامت عليه الأمور، وهذا سوم إعنات، وكتب بحمله على ما رسمه أبو جعفر.
ثم رأيت، مرة ثانية، متظلماً آخر، من رسم ثقيل خففه الطائي، لعلمه بأن الضيعة لا تحتمل غيره، وقد اعترض عليه فيه، ويسأل إجراءه على رسم الطائي.

فرد يقول له: يا بارك الله عليك، ليس الطائي أبا بكر الصديق، أو عمر بن الخطاب، أو علي بن أبي طالب، الذين نقتفي آثارهم، ونمضي أفعالهم، وإنما الطائي، ضامن عمل، رأى ما رآه حظاً لنفسه، وما يلزم السلطان تقريره، وأنت معنت في تظلمك، وكتب بأن يجري على الرسم القديم الثقيل.
وخاطب كلاً من الرجلين، بلسان غير اللسان الآخر، شحاً على الأموال وحفظاً لها.
الوزير العباس بن الحسنيستشير كبار الكتاب في اختيار من يخلف المكتفي حدث أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي الكاتب، قال: حدثني غير واحد من كتاب الحضرة، أن أبا أحمد العباس بن الحسن لما مات المكتفي بالله، جمع كتابه، وخواصه، وخلا بهم، وشاورهم فيمن يقلده الخلافة، فأجمعوا، وأشاروا على العباس، بعبد الله بن المعتز، إلا أبا الحسن بن الفرات فإنه أمسك.
فقال له العباس: لما أمسكت، ولم تورد ما عندك؟ فقال: هو أيها الوزير، موضع إمساك.
قال: ولم؟ قال: إنه وجب أن ينفرد الوزير - أعزه الله - بكل واحد منا، فيعرف رأيه، وما عنده، ثم يجمع الآراء، ويختار منها بصائب فكره، وثاقب نظره ما شاء، فإما أن يقول كل واحد رأيه، بحضرة الباقين، فربما كان عنده، ما يسلك سبيل التقية في كتمانه وطيه.
قال: صدقت والله، قم معي، فأخذ يده، ودخلا وترك الباقين بمكانهم.
فقال له ابن الفرات: قررت رأيك على ابن المعتز؟ قال: هو أكبر من يوجد.
قال: وأي شيء تعمل برجل فاضل، متأدب، قد تحنك، وتدرب، وعرف الأعمال، ومعاملات السواد، وموقع الرغبة في الأموال، وخبر المكاييل والأوزان، وأسعار المأكولات و المستغلات، ومجاري الأمور والمتصرفات، وحاسب وكلاءه على ما توله، وضايقهم، وناقشهم، وعرف من خياناتهم واقتطاعاتهم، أسباب الخيانة والاقتطاع التي يدخل فيها غيرهم، فكيف يتم لنا معه أمر، إن حمل كبيراً على صغير، وقاس جليلاً على دقيق، هذا لو كان ما بيننا وبينه عامراً، وكان صدره علينا من الغيظ خالياً، فكيف وأنت تعرف رأيه.
قال العباس: وأي شيء في نفسه علينا؟ قال: أنسيت أنه من ثلاثين سنة، يكاتبك في حوائجه، فلا تقضيها، ويسألك في معاملاته فلا تمضيها، وعمالك يصفعون وكلاءه فلا تنكر، ويتوسل في الوصول إليك ليلاً، فلا تأذن، وكم رقعة جاءتك بنظم ونثر، فلم تعبأ بها، ولا أجبته إلى مراده فيها، وكم جاءني منه، ما هذا سبيله، فلم أراع فيه وصولاً إلى ما يريد إيصاله إليه، وهل كان له شغل عند مقامه في منزله، وخلوته بنفسه، إلا معرفة أحوالنا، والمساءلة عن ضياعنا، وارتفاعنا، وحسدنا على نعمتنا، هذا، وهو يعتقد أن الأمر كان له ولأبيه وجده، وأنه مظلوم منذ أن قتل أبوه، مهضوم، مقصود، مضغوط، فكيف يجوز أن نسلم إليه نفوسنا، فتحرس، فضلاً عن أموالنا؟ قال: تقلد جعفر بن المعتضد، فإنه صبي، لا يدري أين هو، وعامة سروره، أن يصرف من المكتب، فكيف أن يجعل خليفة، ويملك الأعمال والأموال، وتدبير النواحي، والرجال، ويكون الخليفة بالاسم، وأنت هو على الحقيقة، وإلى أن يكبر، قد انغرست محبتك في صدره، وحصلت محصل المعتضد في نفسه.
قال: فكيف يجوز أن يبايع الناس صبياً، أو يقيموه إماماً؟ فقال له: أما الجواز فمتى اعتقدت أنت، أو نحن، إمامة البالغين من هؤلاء القوم؟ وأما إجابة الناس، فمتى فعل السلطان شيئاً فعورض فيه، أو أراد أمراً فوقف؟ وأكثر من ترى صنائع المعتضد، وإذا أظهرت أنك اعتمدت في ذلك مراعاة حقه، وإقرار الأمر في ولده، وفرقت المال، وأطلقت البيعة، وقع الرضا، وسقط الخلاف، وطريق ما تريده، أن تواقف بعض أكابر القواد، وعقلاء الخدم، على المضي إلى دار ابن طاهر وحمله - يعني جعفر بن المعتضد - إلى دار الخلافة، وأن تستر الأمر إلى أن يتم التدبير، وإن اعتاص معتاص، مد بالعطاء والإحسان.
فقال العباس: هذا هو الرأي، واستدعى في الحال، مؤنساً مولى المعتضد، وأورد عليه، ما ذهب فيه إلى الجنس الذي أشار به أبو الحسن، من الوفاء للمعتضد، ورعاية ما كان منه في اصطناع الجماعة، ورسم له قصد دار ابن طاهر، وحمل جعفر إلى دار الخلافة، والسلام عليه بها، ففعل.
وماج الجند، ففرق فيهم مال البيعة، ودخل عليهم من طريق الوفاء للمعتضد، وتم التدبير.

فلما زال أمر العباس، وكان من قتله ما كان، وانتظمت الأمور بعد قتل ابن المعتز، وتقلد أبو الحسن الوزارة، صارت ثمرة هذا الرأي له.
وكان يقف بين يدي المقتدر بالله، وهو صبي، قاعد على السرير، فيخاطب الناس، و الجيش، عنه، فإذا انصرفوا، أمرت السيدة بأن يعدل بأبي الحسن إلى حجرة، فيجلس فيها، ويخرج المقتدر، فيقوم إليه، فيقبل يده ورأسه، ثم يقعد، ويقعده في حجره، كما يفعل الناس بأولادهم.
وتقول له السيدة من وراء الباب: هذا يا أبا الحسن ولدك، وأنت قلدته الخلافة، أولاً، وثانياً، تعني ما تقدم من مشورته على العباس به، وبتقلده الخلافة، من بعد إزالة فتنة ابن المعتز.
فيقول ابن الفرات: هذا مولاي، وإمامي، ورب نعمتي، وابن مولاي، وإمامي.
وبقي على ذلك، مدة وزارته الأولى، وتمكن أبو الحسن من الخزائن والأموال، وفعل ما شاء وأراد.
الوزير ابن الفراتيتحدث عن تلون المقتدر واختلاف رأيه وحدث أبو محمد الصلحي، قال: حدثنا جماعة من كتاب أبي الحسن بن الفرات، وخواصه قالوا: عاد أبو الحسن من الموكب يوماً، فجلس بسواده مغموماً، يفكر فكراً طويلاً، فشغل ما رأينا منه قلوبنا، وظنناه لحادث حدث.
فسألناه عن أمره، فدافعنا، وألححنا عليه، فحاجزنا، وقال: ما هاهنا إلا خير وسلامة.
فقام ابن جبير وكان من بيننا متهوراً مدللاً، فقال: تأمر أيها الوزير بأمر؟ قال: إلى أين؟ قال: أستتر، وأستر عيالي، وسبيل هؤلاء الذين بين يديك أن يفعلوا مثل فعلي.
قال: ولم؟ قال: تعود من دار الخلافة، وأنت من الغم الظاهر في وجهك، على هذه الصورة، ونسألك عن أمرك فتكتمنا، ولم تجر عادتك بذلك معنا، وهل وراء هذا إلا القبض و الصرف؟ فقال له: اجلس يا أحمق، حتى أحدثك السبب، فجلس.
وقال: ويحكم، قد علمتم أنني أشكو إليكم نقصان هذا الرجل - يعني المقتدر - دائماً، وشدة تلونه، واختلاف رأيه، وأنني أحب منذ مدة، أن أزوره، وأعرف قدر ذلك منه، وهل هو في كل الأمور، أو في بعضها، وفي صغارها أم في كبارها؟ فقلت له اليوم في أمر رجل كبير - ولم يسمه ابن الفرات - يا أمير المؤمنين، إن فلاناً قد فسد علينا، وليس مثله من أخرج من أيدينا، وقد رأيت أن أقلده كذا، وأقطعه، وأسوغه كذا - وأكثرت - لنستخلصه بذلك، ونستصلح نيته، ونستديم طاعته، ولم يجز أن أفعل أمراً إلا بعد مطالعتك، فيما تأمر؟ قال: افعل.
ثم حدثته طويلاً، وخرجت من أمر إلى آخر، وقر وقت انصرافي. فقلت له: يا مولانا، عاودت الفكر في أمر فلان، فوجدت أن ما نعطيه إياه، مما استأذنت فيه، كثيراً، مؤثراً في بيت المال، ولا نأمن أن يطمع نظراؤه في مثل ذلك، وإن أجبناهم، عظمت الكلفة، وإن منعناهم فسدوا، وقد رأيت رأياً آخر في أمره.
قال: وما هو؟ قلت: أن نقبض عليه، ونأخذ نعمه، ونخلده الحبس أبداً.
قال: افعل.
فقلت: واويلاه، كذا والله تجري حالي معه، يقال له: إن ابن الفرات، الكافي، الناصح، وهو وطأ لك الأمر، وأقامك في الخلافة، وهو...وهو، فيقول: نعم، ويقربني، ويقدمني.
ثم يقف غداً بين يديه، رجل، فيقول: قد سرق ابن الفرات الأموال، ونهب الأعمال، وفعل، وصنع، والوجه أن يقبض عليه، ويصرف، ويقيد، ويحبس، ويقلد وزير آخر، فيقول: نعم، ويفعل ذلك بي.
ثم يعاود، ويقال له: لا يجوز أن يوحش ابن الفرات، ويستبقى، ولا يؤمن أن يستفسد، ويترك، والصواب قتله، فيقول: افعلوا، فأهلك.
قال: واستشعر هذا، فكان على ما قدره.
وقد تواترت هذه الحكاية، عن جماعة، عنه.
من أقوال الوزير أبي الحسن بن الفراتومما ذكر عن ابن الفرات، أنه كان يقول: تمشية أمور السلطان على الخطأ، خير من وقوفها على الصواب.
ويقول أيضاً: إذا كانت لك حاجة إلى الوزير، فاستطعت أن تقضيها بخازن الديوان، أو كاتب سره، فافعل، ولا تبلغ إليه فيها.
الوزير أبو علي بن مقلةيتحدث عن سياسة الوزير ابن الفرات ووفور عقله وحدث أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، قال: حدثني أبو علي ابن مقلة، قال: كنت أكتب لأبي الحسن بن الفرات، في التحرير، أيام خلافته أبا العباس أخاه، على ديوان السواد، بجاري عشرة دنانير في كل شهر، ثم تقدمت حاله، فأرزقني ثلاثين ديناراً، في كل شهر، فلما تقلد الوزارة، جعل رزقي خمسمائة دينار في الشهر.

ثم أمر بقبض ما في دور القوم الذين بايعوا ابن المعتز، فحمل في الجملة صندوقان.
فسأل: هل علمتم ما فيها؟ قالوا: نعم: جرائد بأسماء من يعاديك، ويدبر في زوال أمرك.
فقال: لا يفتحان، ثم دعا بنار، دعاء كرره، وصاح فيه، وأحضر الفراشون النار فأججت، وتقدم بطرحهما في النار، على ما هما.
فلما أحرقت، أقبل على من كان حاضراً، وقال: والله لو فتحتها، وقرأت ما فيها، لفسدت نيات الناس كلهم علينا، واستشعروا الخوف منا، ومع فعلنا ما فعلناه، طوينا الأمور بهذا، فهدأت القلوب، واطمأنت النفوس.
ثم قال لي: قد آمن الله، والخليفة - أعزه الله - كل من بايع ابن المعتز، فاكتب الأمانات للناس جميعاً، وجئني بها لأوقع فيها، ولا ترد أحداً عن أمان يطلبه، فقد أفردتك لذلك، لأنه باب مكسب كبير.
وقال لمن حضر: أشيعوا قولي، وتحدثوا به بين الخاص والعام، ليأنس المستوحش، ويأمن المستتر.
قال أبو علي: فحصل لي من كتب الأمانات، مائة ألف دينار، أو نحوها.
وزير يسرق سبعمائة ألف دينارفي عشر خطوات قال أبو محمد الصلحي: قال لنا أبو علي بن مقلة، وقد جرى ذكر ابن الفرات: يا قوم سمعتم بمن سرق في عشرة خطوات سبعمائة ألف دينار؟ قلنا: كيف ذلك؟ كنت بين يدي ابن الفرات في وزارته الأولى، ونحن في دار الخلافة، نقرر أرزاق الجيش، ونقيم وجوه مال البيعة، ونرتب إطلاقه، وذلك عقيب فتنة ابن المعتز.
فلما فرغ مما أراده، وخرج، فركب طياره، وبلغ نهر المعلى، قال: إنا لله، فوقفوا.
فوقف الملاحون.
فقال لي: وقع إلى أبي خراسان، صاحب بيت المال، بحمل سبعمائة ألف دينار، تضاف إلى مال البيعة وتفرق على الرجال.
فقلت في نفس: أليس قد وجهنا وجوه المال كله؟ ما هذه الزيادة؟ ووقعت بما رسمه، وعلم فيه بخطه، ودفعه إلى غلام، وقال: لا تبرح من بيت المال، حتى تحمل هذا المال الساعة إلى داري، ثم سار.
قال: فحمل إليه بأسره، وسلم إلى خازنه، فعلمت أنه أنسي أن يأخذ شيئاً لنفسه في الوسط، ثم ذكر أنه باب لا يتفق مثله سريعاً، ويحتمل ما احتمله من هذا الاقتطاع الكثير، فاستدرك من رأيه ما استدرك، وتنبه من فعله، ما تنبه.
الظلم إذا زاد رفع نفسهحدث القاضي أبو علي، قال: حدثني أبو جعفر طلحة بن عبيد الله، قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، قال: قال لنا أبو الحسن بن الفرات يوماً، وقد جرى بحضرته ذكر رجل قد أسرف في الظلم: الظلم إذا زاد رفع نفسه.
ما يرتفع لابن الفراتولعلي بن عيسى من ضياعهما حدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي، قال: حدثني أبو طاهر المحسن بن محمد بن الحسن الجوهري، المعروف بالمقنعي، أحد الشهود، قال: حدثني أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى: أنه كان يرتفع لأبيه، من ضياعه في كل سنة، عند الاعتزال و العطلة، بعدما ينصرف من النفقة، ثلاثون ألف دينار، ويرتفع من ضياع أبي الحسن علي بن محمد ابن الفرات، إذا قبضت عنه، ألف ألف دينار، وإذا وزر، وردت عليه، أضعفت.
قال القاضي: واتفق أن حضر هذا الحديث، أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق الأنباري، فقال: حدثني جماعة من أصحاب أبي الحسن علي بن عيسى، أن جميع ما كان يرتفع له في السنة نيف وثمانون ألف دينار، يخرج منها في أبواب البر، وسبل الخير، وتفقد الطالبين، و العباسيين، والأنصار، وأولاد المهاجرين، ومصالح الحرمين، نيف وأربعون ألف دينار، ويبقى الباقي لنفقاته، وأنه كان يسمع الكتاب يقولون في ضياع أبي الحسن بن الفرات، أنها ترتفع في وزارته بألف ألف دينار، وعند القبض عليه، ودخول يد العمال فيها، بثمانمائة ألف دينار، وأقل، وأكثر.
عادة ابن الفرات في كلامهبارك الله عليك، وعادة علي بن عيسى والك حدث القاضي أبو علي، قال: حدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد ابن عياش القاضي، قال: كانت عادة أبي الحسن بن الفرات، في كلامه، أن يقول للإنسان: بارك الله عليك.
ومن عادة أبي الحسن، علي بن عيسى أن يقول: والك، أو واك.
فكان الناس يقولون: لو لم يكن الفرق بين الرجلين إلا حسن اللقاء، وصرف ما بين القولين لكفى.
وحكى أبو محمد الصلحي، قال:

لما صرف الراضي بالله، أبا علي، عبد الرحمن بن عيسى عن وزارته ونكبه، ونكب أبا الحسن علي بن عيسى، وصادر أبا الحسن على ألف ألف درهم، وعبد الرحمن على ثلاثة آلاف دينار، وكان ذلك طريفاً، وحصل أبو الحسن معتقلاً في دار الخلافة، وخاف أبو الحسن أن يكون في نفس الراضي بالله عليه، ما يريد معه قتله، فراسلني - يقول هذا أبو محمد، وكان إذ ذاك كاتب أبي بكر بن رائق - يسألني خطاب الراضي بالله عن صاحبي، في نقله إلى دار وزيره، إلى أن يؤدي ما قرر عليه أمره.
قال: فجئت إلى الراضي بالله، وقلت له: يا أمير المؤمنين، علي ابن عيسى، خادمك وخادم آبائك، ومن قد عرفت محله من الصناعة، وموقعه من جمال المملكة، ومن حاله وأمره كذا وكذا.
فقال: هو كذلك، ولكن له عندي ذنوب، وأخذ يعدد ذنوب عبد الرحمن.
فقلت له: يا مولانا، وأي درك يلزمه، فيما قصر فيه أخوه؟ فقال: سبحان الله، وهل دبر عبد الرحمن، إلا برأيه، وأمضى شيئاً أو وقفه، إلا عن أمره، أو أمري إياه بأن لا يحل ولا يعقد إلا بموافقته؟ وأقبلت أعتذر له، ما خاطبني قط، إلا قال: واك فهل يتلقى الخلفاء بمثل ذاك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن هذا طبع له قد ألف منه، وحفظ عليه، وعيب به في أيام خدمته للمقتدر بالله، رحمة الله عليه، وما استطاع أن يفارقه مع نشئه عليه، و تعوده إياه.
فقال: اعمل على أنه خلق، أما كان يمكنه أن يغيره مع ما رصفته من فضله وعقله، أو أن يتحفظ معي خاصة فيه، مع قلة اجتماعي معه، ومخاطبتي إياه؟ وما يفعل ما يفعله، إلا عن تهاون، وقلة مبالاة.
فقبلت الأرض مراراً بين يديه، وقلت: والله، والله، أن يتصور مولانا ذلك فيه، وإنما هو عن سوء توفيق، والعفو من أمير المؤمنين مطلوب.
ولم أزل إلى أن أمر بنقله، إلى دار وزيره، ونقل، وصحح ما أخذ به خطه، وصرف إلى منزله.
الوزير علي بن عيسىيرأف بأحد المطالبين، ويعفيه من المطالبة حدث أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف، ابن الأزرق، قال: حدثني أبو يعقوب أخي، قال: حدثني أبو بكر ابن مقاتل، ونحن بمصر، قال: ابتعت من السلطان قديماً - وأنا تاجر - غلة على إكراه، وبقي علي من ثمنها عشرون ألف دينار.
وأحضرني أبو الحسن علي بن عيسى، وطالبني بذلك، فلم تكن لي وجهة، وعدلت إلى جحده، وترك الاعتراف به.
وقال لي: اعمل حساباً، بأصل ما ابتعته، وما أديته، ليبين الباقي ودافعت، فاعتقلني في الديوان، وأمرني بعمل الحساب به.
فأخذت أعلل، وأطاول، إشفاقاً من أن تتحقق البقية، فأحصل تحت المطالبة، بغير عذر ولا حجة.
ثم أرهقني، ودعاني إلى حضرته، فدخلت، ومعي كيس حسابي، لأريه ما أرتفع منه، وأسأله إنظاري بإتمامه، واستكماله.
وفتحت الكيس بين يديه، وكنت أستطيب خبز البيت، ولا آكل غيره، ويحمل إلي من منزلي في كل يومين أو ثلاثة، ما أريد منه.
وبحسن الاتفاق، تركت في الكيس منه رغيفين، استظهاراً، لئلا يتأخر عني ما يحمل إلي.
وبينما أقلب الحساب، وقعت عين الوزير أبي الحسن على الرغيفين، فلما رآهما، قال لي: أضمم إليك حسابك - مراراً - فضممته وشددته.
وقال لي: قم إلى بيتك.
فانصرفت، ولم يطالبني بشيء بعد ذلك، ولا تنبه من نظر بعد على أمري، فانكسر المال - والله - وكان سببه الرغيفين، لأن علي بن عيسى، لما رآهما، قد كنت أشكو الخسارة والفقر، حملني على أن حملي للرغيفين مع الحساب، لضعف حالٍ، وشدة فاقة.
الملك عضد الدولةيغضب على أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف ذكر أبو علي القاضي التنوخي، عن عضد الدولة ابن بويه، أنه كان قدم في دولته أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، واعتقد في كمال عقله، ورزانة نبله، ورجحان فضله، فناط به أزمة عقده وحله، واعتمد إليه في أمر ملكه كله.
وكان نفاق الحاشية، يغطي عواره، ويستره، وألسن الخدم والأتباع لعضد الدولة، تمدحه وتشكره، وجماعة من عظماء الدولة، تعرض عنه فلا تذكره، وهو يتبجح بدعوى العقل، وهو أجهل من باقل، ويتحلى بحسن التدبير، وهو يجيد من المعرفة عاطل، ويظهر الاستطالة على فضلاء الأماثل، وهو خالٍ عن الفضائل.
واستمر ذلك برهة من الدهر.

إلى أن أتاح، القدر المحتوم، والقضاء المعلوم، أن سافر عضد الدولة من العراق، إلى همذان، فتبعه أبو محمد الخرنبازي، يطلب خدمة، وكان ذا دراية، وفضل، وعقل، ورزانة، ونبل.
فلما رآه أبو القاسم ، قد خرج في جملة الجماعة، خشي من تقدمه عند عضد الدولة، فيفضح مستورة، وتقبح أموره، فحسن لعضد الدولة رده من الطريق، وإبعاده عن الصحبة، وان يجري عليه شيء من الرزق بالبصرة، ويقيم بها.
قال أبو علي القاضي: كنت بين يدي عضد الدولة، وق قال لأبي بكر بن شاهويه - وهو من أصحاب أبي القاسم عبد العزيز - تمضي إلى أبي محمد الخرنبازي، وتقول له تمضي إلى البصرة، ونحن نجري لك معيشة ترتزق منها، فقد طال تبعك لنا، وتعبك معنا، وقد تبرمنا منك، وليس عبد العزيز، قد اصطحب جماعة كثيرة، في بعضهم غنية عن أمثال، فانصرف عنا، واكتف بما أرتبه لك، إن شاء الله تعالى.
ثم إن عضد الدولة، سير من خاصته شخصاً مع أبي بكر، ليشهد ما يقوله، وليسمع ما يجاوبه به أبو محمد، بحيث لا يكتم أبو بكر شيئاً من الجواب، لكونه من أصحاب أبي القاسم.
فلما حضرا عند أبي محمد ، قال له أبو بكر، صورة ما قاله عضد الدولة جميعه.
فقال أبو محمد، لما سمع ذلك: الأمر للملك، ولا خلاف له، والسمع والطاعة لتقدمه، ولعمري إن الناس بجدودهم ينالون، وبحظوظهم يستديمون، ولو أنني تقدمت عند الملك، ونفقت عليه، ما كان عجباً، فقد نال منه، وتقدم عنده، من أنا أرجح منه، ولكن المقادير غالبة، وليس للإنسانمتقدم عنها ولا متأخر، وقد قيل: من غالب الأقدار غلب، ولكن، أيها الشيخ، لي حاجة أحب أن تبلغها الملك عني، وهي كلمة فيها نصيحة، وشفاء لما في الصدور.
فقال أبو بكر، قل: فإني أبلغها الملك.
فقال: تقول له: أنا صائر إلى ما أمرت، ومتوجه إلى البصرة، لامتثال ما رسمت، ولكن بعد أن تقضي وطراً في نفسي، وفيه شهرة لعظمتك، وتنبيه على أنك لا تنخدع في ملكك، ولا يلتبس لديك محق بمبطل، وعاقل بجاهل، ومسيء بمحسن، ويقظان بغافل، وجواد بباخل، وهو أن يتقدم، بأن يقام عبد العزيز المكنى بأبي القاسم، بين اثنين على رؤوس الأشهاد، وينتقم منه انتقاماً بالغاً، ويقال له: إذا لم تبذل جاهك لمتلهف، ولم يكن عندك بر لضعيف، ولا فرج لمكروب، ولا عطاء لسائل، ولا جائزة لشاعر، ولا مرعى لمنتجع، ولا مأوى لضيف، ولا ذب عن عرض مخدومك، ولا استجلاب ثمار الألسنة بالأدعية والمحامد لدولة أوجدتك، ولا لك من العقل ما تميز به بين ما يكسب حمداً أو ذماً، فلم ألزمت نفسك أن يخاطبوك بسيدنا، وتمد يدك ليقبلها الداخلون، ويقوم لك عظماء المملكة، عند طلوعك عليهم؟ ثم إن أبا محمد قام وركب، وعاد.
قال أبو بكر بن شاهويه: فعدت، وقد سبقني الذي كان معي مشرفاً، وذكر ذلك للملك عضد الدولة، فلما حضرت عنده، وأبو القاسم بين يديه، سكت.
فاستحييت من أبي القاسم، أن أذكره، فقلت: سمعه الملك من المشرف الذي أنفذه معي.
قال: قل، فأنت كنت الرسول، فاذكر الحديث على صورته كله، فوالله إن تركت منه حرفاً، لم تلق خيراً.
فما أمكنني إلا أنني سردت كلام أبي محمد، كما قاله، ولم أترك منه شيئاً، وأبو القاسم يتقدد في إهابه، ويتمزق في جلده، ويتغير وجهه، ويتلون ألواناً، ند كل كلمة منه.
فأقبل عليه عضد الدولة، فقال: كيف ترى يا عبد العزيز؟ لا جزاك الله خيراً، الآن علمت أنك لاتعتمد حالة ترضي الله تعالى، ولا تتبنى مكرمة، ولا تحفظ مروءة، ولا تحرس أمانة، ولا يخرج فكرك عنك، ولا صمتك، إلا في مال تجتذبه، وإقطاع لنفسك تثمره، وتجعلني باباً من أبواب معاشك، وجهة من جهات أرباحك، تبعد من ينفعني، وتقرب من ينفعك، فخدمتك معروفة، وسيرتك معلومة، وكنت أسمع في جرك النار إلى قرصك، وشرهك في جميع أحوالك، وأذاك لمن يقصد أبوابنا، ولكن لكل أجل كتاب، ثم أمر به فأخذ.
فظهرت بسوء فعله، قلة عقله، وبقبح قصده، ضعف رأيه.
أبغي الشفا بك من سقمي ومن دائيأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا عمر بن حيويه، قال: أنبأنا أبو محمد جعفر بن الفضل العسكري قال: أنبأنا محبوب بن صالح، عن أبيه:

أن رجلاً من العرب، رأى امرأة، فوقعت بقلبه، فكاتم بذلك دهراً، ثم أن الأمر تفاقم، وتمكنت منه الصبابة، وسحقه الغرام، فبعث إليها يسألها نفسها، ويخبرها بما هو عليه من حبها، فكتبت إليه: اتق الله أيها الرجل وارع على نفسك، واستحي من هذه الهمة التي قد تعلقت بها، فإن ذلك أولى بذوي العقول، فلما وافاه كتابها، أخذته وسوسة، واستولى عليه الشيطان، وجعل الأمر يتزايد، حتى زال عقله، وكان لا يعقل إلا ما كان من حديثها أو ذكرها.
وكان يبكر في كل يوم، فيقف على باب الدار التي تنزلها المرأة، فيقول:
يا دار حييتِ إن كانت تحيّتنا ... تغني ولو كان في التسليمِ إشفائي
لا زلت أبكيك ما قامت بنا قدم ... أبغي الشفا بك من سقمي ومن دائي
ثم مضى شبيهاً بالهائم على وجهه، فلم يزل على ذلك حتى مات.
أشاع الدمع ما كنت أكتمأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي، فيما أجاز لنا، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، قراءة عليه، قال: أخبرنا محمد بن خلف، إجازة، قال: حدثنا قاسم بن الحسن، قال: حدثنا العمري، قال: أخبرنا الهيثم بن عدي: إن مرة بن مصعب القيسي كان له أخ يقال له فهر، وكانا ينزلان الحيرة وان فهراً ارتحل بأهله وولده، فنزل بأرض السراة، وأقام مرة، بالحيرة، وكانت عند مرة، امرأة من بكر بن وائل، فلبثت معه زماناً لم يرزق منها ولداً، حتى يئس من ذلك، ثم أتي في منامه، ذات ليلة، فقيل له: إنك إن باشرت زوجتك، في ليلتك هذه، رأيت سروراً وغبطة، فانتبه، فباشرها، فحملت، فلم يزل مسروراً إلى أن تمت أيامها، فولدت له غلاماً، فسماه إياساً، لأنه كان آيساً، فنشأ الغلام منشأً حسناً.
فلما ترعرع، ضمه أبوه إليه، وأشركه في أمره، وكان إذا سافر أخرجه معه، لقلة صبره عنه.
فقال له أبوه يوماً: يا بني، قد كبرت سني، وكنت أرجوك لمثل هذا اليوم، ولي إلى عمك حاجة، فأحب أن تشخص فيها.
فقال له إياس: نعم يا أبة، ونعم عين وكرامة، فإذا شئت، أخبرني بحاجتك، فأعلمه الحاجة، فخرج متوجهاً حتى أتى عمه، فعظم سروره به، وسأله عن سبب قدومه، وما الحاجة، فأخبره بها، ووعده بقضائها، فأقام عند عمه أياماً ينتظر فيها قضاء الحاجة.
وكان لعمه بنت يقال لها صفوة، ذات جمال وعقل، فبينا هو جالس بفناء دارهم، إذ بدت له صفوة، زائرة بعض أخواتها، وهي تهادى بين جوار لها، فنظر لها إياس نظرة، أورثت قلبه حسرة، وظل نهاره ساهياً، وبات وقد اعتكرت عليه الأحزان، ينتظر الصباح، يرجو أن يكون فيه النجاح.
فلما بدا له الصباح، خرج في طلبها ينتظر رجوعها، فلم يلبث أن بدت له، فلما نظرت إليه تنكرت، ثم مضت فأسرعت، فمر يسعى خلفها، يأمل منها نظرة، فلم يصل إليها، وفاتته، فانصرف إلى منزله، وقد تضاعف عليه الحزن، واشتد الوجد.
فلبث أياماً، وهو على حاله، إلى أن أعقبه ذلك مرضاً أضناه، وأنحل جسمه، وظل صريعاً على الفراش.
فلما طال به سقمه، وتخوف على نفسه، بعث إلى عمه لينظر إليه، ويوصيه بما يريد، فلما رآه عمه، ونظر إلى ما به، سبقته العبرة إشفاقاً عليه.
فقال له إياس: كفّ، جعلتك فداك يا عمّ، فقد أقرحت قلبي، فكفّ عن بعض بكائه، فشكا إليه إياس ما جد من العلّة، فقال له: عزّ والله، عليّ يا ابن أخي، ولن أدع حيلة في طلب الشفاء لك.
فانصرف إلى منزله، وأرسل إلى مولاة له، كانت ذات عقل، فأوصاها به، وبالتعاهد له، والقيام عليه.
فلما دخلت المولاة عليه، فتأمّلته، علمت انّ الذي به عشق، فقعدت عند رأسه، فأجرت ذكر صفوة، لتستقين ما عنده، فلما سمع ذكرها زفر زفرة، فقالت المرأة: والله، ما زفر إلا من هوى داخله، ولا أظنه إلا عاشقاً.
فأقبلت عليه كالممازحة له، فقالت له: حتى متى تبلي جسمك، فوالله ما أظن الذي بك إلا هوىً.
فقال لها إياس: يا أمه، لقد ظننت بي ظن سوء، فكفّي عن مزاحك.
فقالت: إنّك، والله، لن تبديه إلى أحد هو أكتم له في قلبي، فلم تزل تعطيه المواثيق، وتقسم عليه، إلى أن قالت له: بحق صفوة.
فقال لها: لقد أقسمت علي بعظيم لو سألتني به روحي لدفعتها إليك، ثم قال: والله يا أمّه، ما عظم دائي، إلاّ بالاسم الذي أقسمت عليّ بحقّه، فالّله، الّله، في كتمانه، وطلب وجه الحيلة فيه.

فقالت: أما إذا أطلعتني عليه، فسأبلغ فيه رضاك، إن شاء الله.
فسرّ بذلك، وأرسل معها بالسلام إلى صفوة، فلما دخلت عليها، ابتدأتها صفوة بالمسألة عن الذي بلغها عن مرضه، وشدة حاله، فاستبشرت المولاة بذلك.
ثم قالت: يا صفوة، ما حالة من يبيت الليل ساهراً محزوناً يرعى النجوم ويتمنى الموت؟ فقالت صفوة: ما أظن هذا على ما ذكرت بباق، وما أسرع منه الفراق.
ثم أقبلت على المولاة، فقالت: إني أريد أن أسألك عن شيءٍ، فبحقي عليك لما أوضحته.
فقالت: وحقّك، إن عرفته فلا أكتمك شيئاً.
قالت: هل أرسلك إياس إلى أهل ودّه في حاجة؟ فقالت المولاة: والله لأصدقنّك، والله، ما جلّ داؤه، وعظم بلاؤه إلا بك، وما أرسلني بالسلام، إلا إليك، فأجيبيه إن شئت، أو دعي.
فقالت لا شفاه الله، والله، لولا ما وجب من حقك لأسأت إليك، وزجرتها.
فخرجت من عندها كئيبة، فأتته، فأعلمته، فازداد على ما كان به من مرضه، وأنشأ يقول:
كتمت الهوى حتى إذا شبّ واستوت ... قواه أشاع الدمع ما كنت أكتم
فلما رأيت الدمع قد أعلن الهوى ... خلعت عذاري فيه والخلع أسلم
فيا ويح نفسي كيف صبري على الهوى ... وقلبي وروحي عند من ليس يرحم
قال: ثم إن عمه دخل ليعرف خبره، فقال له، يا عم، إني مخبرك بشيء لم أخبرك به حتى برح الخفاء ولم أطق له محملاً.
فأخبره الخبر، فزوجه إياها، فأفاق، وبرء من علته.
بنو عذرة أرق الناس قلوباً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن منصور بن سيار، قال: حدثنا نوح بن يزيد المعلم، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر ابن الزبير، قال: سمعت رجلاً من بني عذرة، عند عروة بن الزبير يحدثه، فقال عروة: يا هذا بحق أقول لكم: إنكم أرق الناس قلوباً.
فقال: نعم والله، لقد تركت بالحي، ثلاثين شاباً قد خامرهم السل، ما بهم إلا داء الحب.
علامة من كان الهوى في فؤادهأخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: ترى العاشق إذا رأى من يحبه، أو سمع بذكره، كيف يهرب دمه، ويستحيل لونه، ويخفق فؤاده، وتأخذه الرعدة، وربما امتنع من الكلام، ولم يطق رد الجواب.
وقال بعض الشعراء:
علامة من كان الهوى في فؤاده ... إذا ما رأى الأحباب أن يتحيرا
ويصفر لون الوجه بعد احمراره ... وإن حركوه للكلام تشورا
زعموا أن الفراق غداً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنشدنا علي بن محمد، قال: أنشدنا أبو بكر الصنوبري، لنفسه:
أخذوا للسير أهبَتَه ... وأخذنا أهبة الكمدْ
زعموا أن الفراق غداً ... وفراق الروح بعد غد
عاشق ينتحربمحضر من الخليفة عبد الملك بن مروان أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: أنبأنا السليمي، عن محمد بن نافع مولاهم، عن أبي ريحانة، أحد حجاب عبد الملك بن مروان، قال: كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع، يومين، جلوساً عاماً، فبينا هو جالس في مستشرف له، وقد أدخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصة غير مترجمة، فيها: إن رأى أمير المؤمنين، أن يأمر جاريته فلانة، أن تغني ثلاثة أصوات، ثم ينفذ ما شاء من حكمه، فعل.
فاستشاط من ذلك غضباً، وقال: يا رباح، علي بصاحب هذه القصة.
فخرج الناس جميعهم، فأدخل عليه غلام كما عذر، كأهيأ الفتيان وأحسنهم.
فقال له عبد الملك: يا غلام، أهذه قصتك؟ فقال: نعم، يا أمير المؤمنين.
قال: وما الذي غرك مني، والله لأمثلن بك، ولأردعن بك نظرائك من أهل الجسارة، علي بالجارية، فجيء بجارية كأنها فلقة قمر، وبيدها عود، فطرح لها كرسي، وجلست.
فقال عبد الملك: مرها يا غلام.
فقال لها: غنيني يا جارية بشعر قيس بن ذريح:

لقد كنتِ حسب النفس لو دام ودنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
وكنا جميعاً قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالَي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة لظهور
قال: فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تخريقاً.
ثم قال له عبد الملك: مرها، تغنيك الصوت الثاني.
فقال: غنيني بشعر جميل:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذن لسعيد
إذا قلت: ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب، قالت: ثابتٌ ويزيد
وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت: ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالباً ... ولا حبها فيما يبيدُ يبيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيى إذا فارقتها فيعود
فغنته الجارية، فسقط الغلام مغشياً عليه ساعة، ثم أفاق.
فقال له عبد الملك: مرها، فلتغنك الصوت الثالث.
فقال: يا جارية، غنيني بشعر قيس بن الملوح، المجنون:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزالٌ غضيض المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب
فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسه في المستشرف، فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع.
فقال عبد الملك: ويحه، لقد عجل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل، وأمر، فأخرجت الجارية عن قصره، ثم سأل عن الغلام، فقالوا: غريب لا يعرف، إلا أنه منذ ثلاث ينادي في الأسواق، ويده على رأسه:
غداً يكثر الباكون منا ومنكم ... وتزداد داري عن دياركم بعدا
ثلاثة مجانين في بني عامرأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال: أخبرنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أحمد بن حرب قال: أخبرني ابن أبي كريم، قال: أخبرنا أبو قلابة العامري، عن القاسم ابن سويد الحرمي، قال: كان في بني عامر ثلاثة مجانين، معاذ ليلى، وهو معاذ بن كليب، أحد بني عامر بن عبيد، وقيس بن معاذ، ومهدي بن الملوح الجعدي.
فأما ليلى: فاختلفوا في نسبها، فقال بعضهم: ليلى بنت مهدي.
وقال بعضهم: ليلى بنت ورد، من بني ربيعة.
وفي كنيتها قولان، أحدهما: أم مالك، وكذلك كناها المجنون في شعره، والثاني: أم الخليل.
ليلى والمجنونأخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أنبأنا أبو محمد بن السراج، قالا: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثني رجل من بني عامر، يقال له: رباح بن حبيب، قال: كان في بني عامر جارية من أجمل النساء، لها عقل وأدب، يقال لها ليلى بنت مهدي.
فبلغ المجنون خبرها، وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صبأً بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن ثيابه، فلبسها وتهيأ، فلما جلس إليها، وتحدث بين يديها، أعجبته، ووقعت بقلبه، فظل يومه ذاك يحدثها وتحدثه حتى أمسى، فانصرف إلى أهله، فبات بأطول ليلة، حتى إذا أصبح مضى إليها، فلم يزل عندها حاى أمسى ن ثم انصرف، فبات بأطول من ليلته الأولى، وجهد أن يغمض، فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
وأدام زيارتها، وترك إتيان كل من كان يأتيه، فوقع في قلبها مثل الذي وقع في قلبه، فجاء يوماً يحدثها، فجعلت تعرض عنه، وتقبل على غيره، تريد أن تمتحنه، وتعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك منها اشند عليه وخرج، فلما خافت عليه، أقبلت عليه، فقالت:
كلانا مظهرٌ للناس بغضاً ... وكل عند صاحبه مكين
فسري عنه عند ذلك.
فقالت :إنما أردت أن أمتحنك، والذي لك عندي، أكثر من الذي لي عندك، وأنا معطية الله عهداً، إن أنا جالست بعد يومي هذا، رجلاً سواك، حتى أذوق الموت، إلا أن أكره على ذلك.
فانصرف وهو أسر الناس. فأنشأ يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحٌد أفضي إليه وصيتي ... ولا وارثٌ إلا المطية والرحل

محا حبها حب الأولى كن قبلها ... وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابةأخبرنا ابن ناصر، قال: أنبأنأ أحمد بن محمد البخاري، قال: أنبأنا أبو محمد الجوهري، وأخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن قال: أنبأنا أبو عمر بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: قال العمري، عن لقيط بن بكير المحاربي: ان المجنون علق بليلى علاقة الصبا، وذلك أنهما كانا صغيرين يرعيان أغناماً لقومهما، فعلق كل واحد منهما صاحبه، إلا أن المجنون كان أكثر منها، فلم يزالا على ذلك حتى كبرا.
فلم علم بأمرهما، حجبت ليلى عنه، فزال عقله، وفي ذلك يقول:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
مجنون ليلى يفقد عقلهأخبرنا ابن ناصر، قال :أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، قال: حدثنا ابن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو، قال: حدثني يحيى بن أبي جابر، قال: حدثني ربيعة بن عبد الحميد قال: كان المجنون من ولد أبي بكر بن كلاب، فأتى عليه عصر من الدهر لا يعرف ليلى، ثم عشقها، فخطبها، فلم يزوجوه، فاشتدت حالته، وزاد ما كان يجده، وفشا أمره في الناس، فلقيه ابن عم له، فقال: يا أخي اتق الله في نفسك، فإن هذا الذي أنت فيه من عمل الشيطان، فازجره عنك، فأنشأ يقول:
يا حبذا عمل الشيطان من عمل ... إن كان من عمل الشيطان حبيها
منيتها النفس حتى قد أضر بها ... وأحدثت خلقاً مما أمنيتها
قال ابن خلف: وقال أبو عبيدة: كان المجنون يجلس في نادي قومه وهم يحدثون، فيقبل عليه بعض القوم ن فيحدثه، وهو باهت ينظر إليهم، ولا يفهم ما يحدثه به، ثم يثوب إليه عقله، فيسأل عن الحديث، فلا يعرفه، فحدثه مرة بعض أهله بحديث، ثم سأله عنه في غد، فلم يعرفه، فقال:
إني لأجلس في النادي أحدثهم ... فأستفيق وقد غالتني الغول
يهوى بقلبي حديث النفس دونكم ... حتى يقول خليلي أنت مخبول
قال أبو عبيدة: فتزايد الأمر به، حتى فقد عقله، فكان لا يقر في موضع، ولا يؤويه رحل، ولا يعلوه ثوب إلا مزقه، وصار لا يفهم شيئاً مما يكلم به، إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت أجاب النداء به، ورجع عقله.
من أطاع الواشين لم يتركوا له صديقاً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: روى رباح بن حبيب، رجل من بني عامر، قال: لما كثر ذكر المجنون لليلى، واشتهر أمره، اجتمع إلى أبيه أهله، وكان سيداً، فقالوا له: زوج قيساً، فإنه سيكف عن ذكر ليلى، وينساها.
فعرض عليه أبو التزويج، فأبى، وقال: لا حاجة لي إلى ذلك فأتى ليلى بعض فتيان القوم، ممن كان يحسد قيساً، ويعاديه، فأخبرها أنه على أن يتزوج، وجاء المجنون كما كان يجيء، فحجبته، ولم تظهر له، فرجع وهو يقول:
فوالله ما أدري علام هجرتني ... وأي أمور فيك يا ليل أركب
أأقطع حبل الوصل ؟ فالموت دونه ... أم أشرب رنقاً منكم ليس يشرب ؟
أم أهرب حتى لا يرى لي مجاور ؟ ... أم أفعل ماذا ؟ أم أبوح فأغلب ؟
فوالله ما أدري وإني لدائب ... أفكر ما جرمي إليها فأعجب
قال: فبلغها قوله، فأنشأت تقول: صدق والله قيس حيث يقول:
ومن يطع الواشين لم يتركوا له ... صديقاً وإن كان الحبيب المقربا
ألا حجبت ليلىأخبرنا ابن أبي منصور، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا أبو عمر بن حيويه، قال: حدثنا محمد ابن خلف، قال: قال محمد بن زياد بن الأعرابي: لما شبب المجنون بليلى، وشهر بحبها، اجتمع إليه أهلها، فمنعوه من محادثتها، وزيارتها، وتهددوه، وأوعدوه بالقتل، فكان يأتي امرأة، فتعرف له خبرها، فنهوا تلك المرأة عن ذلك، فكان يأتي غفلات الحي في الليل.

فلما كثر ذلك، خرج أبو ليلى، ومعه نفر من قومه إلى مروان بن الحكم، فشكوا إليه ما ينالهم من قيس بن الملوح، وسألوه الكتابة إلى عامله عليهم، يمنعه من كلام ليلى.
فكتب لهم مروان، كتاباً إلى عامله، يأمره أن يحضر قيساً، ويتقدم إليه في ترك زيارة ليلى، فإن أصابه أهلها عندهم، فقد أهدروا دمه.
فلما ورد الكتاب على عامله، بعث إلى قيس وأبيه، فجمعهم، وقرأ عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتق الله في نفسك، لا يذهب دمك هدراً، فانصرف قيس، وهو يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... علي يميناً جاهداً لا أزورها
وأوعدني فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء غير أني أحبها ... وأن فؤادي عند ليلى أسيرها
فلما أيس منها، وعلم أن لا سبيل إليها، صار شبيهاً بالتائه العقل، وأحب الخلوة وحديث النفس، وتزايد الأمر به، حتى ذهب عقله، ولعب بالحصا والتراب، ولم يكن يعرف شيئاً إلا ذكرها، وقول الشعر فيها.
وبلغها ما صار إليه قيس، فجزعت أيضاً لفراقه، وضنيت ضنى شديداً.
رددت قلائص القرشيأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا ابن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: حدثني إسحاق بن محمد، قال: حدثني أبو معاذ النميري: أن مروان بن الحكم، استعمل رجلاً من قيس، على صدقات كعب ابن ربيعة بن عامر، وهم قيس والحريش وجعدة.
فسمع بخبر قيس بن معاذ، وهو مجنون بني عامر، فأمر أن يؤتى به، فأتي به، فساءله عن حاله، واستنشده، فأنشده، فأعجب به، وقال له: الزمني، فلك أن أحتال لك في أمر ليلى، حتى أجمع بينك وبينها، فلازمه، وكان يأتيه، فيتحدث إليه.
وكان لبني عامر مجتمع، يجتمعون فيه، في كل سنة، وكان الوالي يخرج معهم إلى ذلك المجتمع، لئلا يكون بينهم اختلاف، فحضر الوقت، فقال قيس للوالي: أتأذن لي في الخروج معك إلى هذا المجتمع ؟ فأذن له.
فلما عزم على الخروج، جاءه قوم من رهط قيس، فقالوا له: إنما سألك الخروج معك ليرى ليلى ويكلمها، وقد استعدى عليه بعض أهلها، وأهدر لهم السلطان دمه، إن أتاهم.
فلما قالوا: له ذلك، منعه من الخروج معه، وأمر له بقلائص من إبل الصدقة، فردها، وأبى أن يقبلها، وأنشأ يقول:
رددت قلائص القرشي لما ... بدا لي النقض منه للعهود
سعوا للجمع ذاك وخلفوني ... إلى حزنٍ أعالجه شديد
فلما علم قيس بن معاذ، أنه قد منع، وأن لا سبيل إليها، ذهب عقله، وصار لا يلبس ثوباً إلا خرقه، وهام على وجهه عرياناً، لا يعقل شيئاً مما يكلم به، ولا يصلي.
فلما رأى أبوه ما صنع بنفسه، خاف عليه التلف، فحبسه، وقيده، فجعل يأكل لحمه، ويضرب بنفسه الأرض.
فلما رأى أبوه ذلك، حل قيده، وخلاه، فكان يدور في فيافيهم عرياناً، ويلعب بالتراب.
وكانت له داية، لم يكن يأنس بأحد غيرها، وكانت تأتيه في كل يوم، برغيف وماء، فتضعه بين يديه، فربما أكله، وربما تركه، ولم يأكله.
أنتم شغلي، وعندكم عقليأخبرنا ابن ناصر، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، وأخبرتنا شهدة، قالت: أنبأنا ابن السراج، قالا: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال، حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني ابن عائشة، عن أبيه قال: ولي نوفل بن مساحق، صدقات كعب بن ربيعة، فنزل بجمع من تلك المجامع، فرأى قيس بن معاذ المجنون، وهو يلعب بالتراب، فدنا منه، فكلمه، فجعل يجيبه بخلاف ما يسأل عنه.
فقال له رجل من أهله: إن أردت أن يكلمك كلاماً صحيحاً، فاذكر له ليلى.
فقال له نوفل: أتحب ليلى ؟ قال: نعم.
قال: فحدثني حديثك معها.
قال: فجعل ينشده شعره فيها، فأنشأ يقول:
وشغلت عن فهم الحديث سوى ... ما كان فيك فأنتم شغلي
وأديم لحظ محدثي ليرى ... أن قد فهمت وعندكم عقلي
وأنشد:
سرت في سواد القلب حتى انتهى ... بها السير وارتادت حمى القلب حلت
فللعين تسكاب إذا القلب ملها ... وللقلب وسواس إذا العين ملت
والله ما في القلب شيء من الهوى ... لأخرى سواها أكثرت أم أقلت
وأنشد:

ذكرت عشية الصدفين ليلى ... وكل الدهر ذكراها جديد
علي أليه إن كنت أدري ... أينقص حب ليلى أم يزيد
فلما رأى نوفل منه ذلك، أدخله بيتاً، وقيده، وقال: أعالجه، فأكل لحم ذراعيه، وكفيه، فحله، وأخرجه، فكان يأوي مع الوحوش.
وكانت له داية ربته صغيراً، وكان لا يألف غيرها، ولا يقرب منه أحد سواها، فكانت تخرج في طلبه في البادية، وتحمل له الخبز والماء، فربما أكل بعضه، وربما لم يأكل.
ولم يزل على ذلك حتى مات.
كالسهم أصبح ريشه ممروطاأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبو عمر بن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: حدثني عبد الله بن عمرو، قال: حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا داود ابن محمد، عن عمرو بن رزام، قال: وفد فتى من نهد، يقال له صباح بن عامر، على الملوح، أبي قيس المجنون، فسلم عليه، وخبره بنسبه، وقال له: إني قد وفدت من بلدي، لأنظر إلى قيس، وأسمع من شعره، فما أفعل ؟ فبكى الشيخ، حتى غشي عليه، ثم سكن، وقال: أني لك بقيس ؟ إن قيساً عشق ابنة عم له، وإنه جن على رأسها، فهو لا يأنس بأحد، يرد مع الوحوش، يوم ورودها، ويصدر معها إذا صدرت.
ولكن هاهنا شاب، يذهب إليه في كل وقت، وهو يأنس به، ويأخذ منه ما يقول، وقد حفظ له قصيدة يقال لها: المؤنسة، فإذا أنشده إياها أنس به وحدثه، فإن شئت، فصر إليه.
قال صباح: فصرت إلى الفتى، فرحب بي، وسألني عن حالي، فأخبرته.
فقال لي: أتروي لقيس بن ذريح شيئاً ؟ فإن المجنون مستهتر بشعره.
قلت :أنا أحفظ الناس لشعر قيس.
قال: فصر إلى موضع كذا وكذا، فاطلبه في تلك الفيافي، فإنك تجده، واعلم إنه إذ رآك، سوف يفر منك، ويهوي إليك بحجر، فلا يهولنك، واقعد كأنك لا تريده، فإذا رأيته قد سكن، فاذكر له ليلى، فإنه سيرجع إلى عقله، ويراجع صحته، ويحدثك عن حاله، ثم أنشده من شعر قيس شيئاً، فإنه مشغوف به.
قال صباح: ففعلت الذي أوصاني به الفتى، ولم أزل أطلبه، حتى انتصف النهار، فإذا أنا برجل عريان، قد سقط شعر رأسه على حاجبيه، وإذا هو قد حظر حظيرة من تراب، وهو قاعد في وسطها، وإلى جانبه أحجار، وهو يخطط بإصبعه في الأ رض.
فلما رآني أهوى إلى حجر، ووثب ليقوم، فقعدت ناحية أرمي ببصري إلى غيره، ولا أحفل به، ثم انه رجع إلى عبثه وتخطيطه.
قلت له: أتعرف ليلى ؟ قال: بأبي والله هي، فكيف لا أعرفها ؟ قلت: لله قيس بن ذريح حيث يقول:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا ... حذاراً لما قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيبٍ لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ماحم حائن
فقال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:
نعب الغراب بين ليلى إنه ... كان الكتاب بينهم مخطوطا
اصبحت من أهلي الذين أحبهم ... كالسهم أصبح ريشه ممروطا
ثم وثب مسرعاً إلى ظباء سنحت له، فغاب عني، فتبعته، فجعلت أقفو أثره، إلى آخر النهار، فما وقعت عيني عليه.
ثم غدوت في اليوم الثاني، فجعلت أطوف عليه في تلك الفيافي. حتى إذا جنني الليل، انصرفت.
فلما كان في اليوم الثالث طلبته، فإذا هو عريان، بين أحجار ميت.
قضاها لغيري وابتلاني بحبهاأخبرنا ابن أبي منصور، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثني سليمان بن أيوب المديني، قال: سمعت مصعباً الزبيري، يقول: كان مجنون بني عامر، يسيح مع الوحوش، وينثر الشعر نثراً، وكان الركبان يتلقون منه الشعر فيروونه.
قال ابن خلف: قال التخومي: لما قال المجنون :
قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
سلب عقله.
قال ابن خلف: وأنشد مصعب بن الزبير للمجنون:
ألا أيها القلب الذي لج هائماً ... وليداً بليلى لم تقطع تمائمه
أفق فقد أفاق العاشقون وقد أنى ... لدائك أن يلقى طبيباً يلائمه
وما لك مسلوب العزاء كأنما ... ترى نأي ليلى مغرماً أنت غارمه

أجدك لا تنسيك ليلى ملمة ... تلم ولا ينسيك عهداً تقادمه
قال ابن خلف: وأنشد أبو عمرو الشيباني، للمجنون:
دعاك الهوى والشوق حين ترنمت ... هتوف الضحى بين الغصون طروب
تجاوب ورقاً قد أرعن لصوتها ... فكل لكل مسعد ومجيب
ألا يا حمام الأيك ما لك باكياً ... أفارقت إلفاً أم جفاك حبيب
وقفت على ربع لعزة ناقتيأخبرنا محمد بن أبي منصور، وشهدة بنت أحمد، قالا: أنبأنا جعفر ابن أحمد السراج، وأنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قالوا: أنبأنا علي ابن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا علي بن عيسى الرماني، قال: أنبأنا أبو بكر بن دريد، قال: أنبأنا عبد الأول بن مريد، قال: أخبرني حماد ابن إسحاق، عن أبيه، قال: خرج كثير يريد عبد العزيز بن مروان، فأكرمه، ورفع منزلته، وأحسن جائزته، وقال: سلني ما شئت من الحوائج، قال: نعم، أحب أن تنظر لي من يعرف قبر عزة، فيقفني عليه، فقال رجل من القوم: إني لعارف به، فانطلق به الرجل، حتى انتهى بها إلى موضع قبرها، فوضع يده عليه، وعيناه تجريان، وهو يقول:
وقفت على ربع لعزة ناقتي ... وفي البرد رشاش من الدمع يسفح
فيا عز أنت البدر قد حال دونه ... رجيع التراب والصفيح المضرح
وقد كنت أبكي من فراقك حقبة ... فأنت لعمري اليوم أنأى وأنزح
فهلا فداك الموت من أنت زينه ... ومن هو أسوا منك حالاً وأقبح
ألا لا أرى بعد ابنة النضر لذة ... لشيء ولا ملحاً لمن يتملح
فلا زال وادي رمس عزة سائلاً ... به نعمة من رحمة الله تسفح
فإن التي أحببت قد حال دونها ... طوال الليالي والضريح الموجح
أرث بعيني البكا كل ليلة ... فقد كاد مجرى دمع عيني يقرح
إذا لم يكن ماء تحلبتا دماً ... وشر البكاء المستعار الممتح
امرأة من أهل النارأنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن سعيد النصيبي، قال: حدثني أبو الحسن بن نجيح، قال: حدثني رجل مستور، كان لي صديقاً، وكان ينزل بقرب مقابر الخيزران ببغداد، قال : رأيت ليلة في منامي، كأني قد أطلعت من داري إلى المقبرة، على رسمي في ذلك من اليقظة، فإذا أنا بالقبور مفتحة، وأهلها يخرجون منها شعثاً، غبراً، حفاة، عراة، فيجتمعون في موضع منها، حتى لم يبق قبر إلا خرج من كان فيه، ثم ضجوا بالبكاء، والدعاء، والابتهال إلى الله تعالى في أن يصرف عنهم دفن المرأة التي تدفن عندهم في غد .
فكأني قد سألت بعضهم، فقال: هذه امرأة من أهل النار، وإن دفنت عندنا، تأذينا بسماع عذابها، وما يجري عليها، فنحن نسأل الله صرف دفنها عنا.
قال: فانتبهت، فعجبت من هذا عجباً شديداً، وطال الليل بي، فلما أصبحت، سألت الحفارين، هل حفروا قبراً لامرأة ؟ فدلني بعضهم على قبة عظيمة، لقوم من التجار مياسير، قد ماتت زوجة أحدهم، ويريد دفنها في القبر، وقد حفر لها.
قال: فقصصت الرؤيا على الحفارين، فطموا القبر في الحال، وراعيت أمر المرأة، فجاء رسل القوم، يسألون عن القبر، فقال الحفارون: إن الموضع، ليس يتأتى فيه قبر، لأنا قد وقعنا على حمأة تحت الأرض، لا يثبت فيه ميت.
فسألوا جماعة من أصحاب القباب، أن يحفروا عندهم، فأبوا عليهم، وكان الخبر قد انتشر بين الحفارين واشتهر، فمضوا إلى مقبرة أخرى، فحفروا للمرأة.
فاستدللت على الموضع الذي تخرج منه الجنازة، فدللت، فحضرت، وشيعت الجنازة، وكان الجمع عظيماً هائلاً، والرجل جليلاً، ورأيت خلف الجنازة فتى ملتحياً حسن الوجه، ذكر أنه ابن المرأة، وهو يعزى وأبوه، وهما وقيذان بالمصيبة.
فلما دفنت المرأة تقدمت إليهما، فقلت: إني رأيت مناماً في أمر هذه المتوفاة، فإن أحببتما، قصصته عليكما.
فقال الشيخ الذي هو زوج المتوفاة: أما أنا فما أحب ذلك.
فأقبل الفتى، فقال: إن رأيت أن تفعل.
فقلت: تخلو معي، فقام.
فقلت: إن الرؤيا عظيمة، فاحتملني.
قال: قل.

فقصصت عليه الرؤيا، وقلت: يجب لك أن تنظر في هذا الأمر الذي أوجب من الله لهذه المرأة، ما ذكرته لك، فتجتنب مثله، وإن جاز أن تعرفينه لأجتنب مثله، فافعل.
فقال والله يا أخي، ما أعرف من حال أمي ما يوجب هذا، أكثر من أن أمي كانت تشرب النبيذ، وتسمع الغناء، وترمي النساء، وما يوجب هذا، هذا الأمر العظيم، ولكن في دارنا عجوز لها نحو تسعين سنة، هي دايتها، وماشطتها، فإن نشطت، صرت معي، فسألناها، فلعلها تخبرنا بما يوجب هذا، فنجتنبه.
فقمت معه، فقصدنا الدار التي كانت للمتوفاة، فأدخلني إلى غرفة فيها، وإذا بعجوز فانية، فخاطبها بما جرى، وقصصت أنا عليها الرؤيا.
فقالت: اسأل الله أن يغفر لها، كانت مسرفة على نفسها جداً.
فقال لها الفتى: يا أمي، بأكثر من الشراب، والسماع، والنساء ؟ فقالت نعم يا بني، ولولا أن أسوءك لأخبرتك بما أعلم، فإن هذا الذي رآه هذا الرجل، قليل من كثير مما أخاف عليها من العذاب.
فقال الفتى: أحب أن تخبريني، ورفقت أنا بالعجوز، فقلت: أخبرينا، لنجتنبه ونتعظ به.
فقالت: إن أخبرتكم بجميع ما أعرفه منها، ومن نفسي معها، طال، وبكت، وقالت: أما أنا، فقد علم الله تائبة منذ سنين، وكقد كنت أرجو لها التوبة، فما فعلت، ولكن أخبركم بثلاثة أحوال من أفعالها، وهي عندي أعظم ذنوبها.
فقلنا: قولي .
فقالت للفتى: كانت من أشد الناس زنىً، وما كان يمضي يوم، إلا وتدخل إلى دار أبيك، بغير علمه، الرجل والرجلين، فيطأونها، ويخرجون، ويكون دخولهم، بألوان كثيرة من الحيل، وأبوك في سوقه .
فلما نشأت أنت، وبلغت مبلغ الرجال، خرجت في نهاية الملاحة، فكنت أراها تنظر إليك نظر شهوة، فأعجب من ذلك .
إلى أن قالت لي يوماً، يا أمي، قد غلب على قلبي، عشق ابني هذا، ولا بد لي أن يطأني.
فقلت لها: يا بني اتقي الله، ولك في الرجال غيره متسع ؟ فقالت: لا بد من ذلك.
فقلت: كيف يكون هذا ؟ أو كيف يجيئك، وهو صبي، وتفتضحين، ولا تصلين إلى بغيتك، فدعي هذا لله عز وجل، فقالت: لا بد أن تساعدني.
فقلت: أعمل ماذا ؟ فقالت: تمضين إلى فلان المعلم، وكان معلماً في جوارنا، أديباً، ورسمه أن يكتب لها رقاعاً إلى عشاقها، ويجيب عنها، فتبره، وتعطيه في كل وقت.
فقالت: قولي له، يكتب إليه رقعة، يذكر فيها عشقاً، وشغفاً، ووجداً، ويسأله الاجتماع، وأوصلي الرقعة، كأنها من فلانة، وذكرت صيبة من الجيران، مليحة.
قالت العجوز: ففعلت ذلك، وأخذت الرقعة وجئتك بها، فلما سمعت ذكر الصبية، التهب قلبك ناراً، وأجبت على الرقعة تسألها الاجتماع عندها، وتذكر أن لا موضع لك.
فسلمت الجواب إلى والدتك.
فقالت: اكتبي إليه عن الصبية، أن لا موضع لها، وأن سبيل هذا أن يكون عنده، فإن قال لك: ليس لي موضع، فأعدي له الغرفة الفلانية، وافرشيها، واجعلي فيها الطيب والفاكهة، وقولي له: إنها صبية، وهو ذا تستحي، ولكن عشقك قد غلب، وهي تجيئك إلى هاهنا ليلاً، ولا يكون بين أيديكما ضوء، حتى لا تستحي هي، ولا تفطن والدتك بالحديث، ولا أبوك، إذا رأوا في الغرفة ضوء سراج، فإذا أجابك إلى هذا فأعلميني.
قالت: ففعلت ذلك، وأجبت أنت إلى هذا، وتقرر الوعد ليلة بعينها، وأعلمتها فلبست ثياباً، وتبخرت، وتطيبت، وتعطرت، وصعدت إلى الغرفة، وجئت أنت، وعندك أن الصبية هناك، فوقعت عليها، وجامعتها إلى الغداة، فلما كان وقت السحر، جئت أنا، وأيقظتها وأنزلتها، وأنت نائم، وكان صعودها إليك، بعد أن نام أبوك.
فلما كان بعد أيام، قالت لي: يا أمي، قد والله، حبلت من ابني، فكيف الحيلة ؟ فقلت: لا أدري.
قالت: أنا أدري، ثم كانت تجتمع معك على سبيل الحيلة التي عرفتك، إلى أن قاربت الولادة.
فقالت لأبيك: إنها عليلة، وقد خافت على نفسها التلف، وإنها تريد أن تمضي إلى بيت أمها فتتعلل هنالك.
فأذن لها، ومضت، وقالت لأمها: إنها عليلة، فأدخلت، وأنا معها في حجرة من دارها، وجئنا بقابلة، فلما ولدت، قتلت ولدها، وأخرجته، فدفنته، على حيلة وستر، وأقامت أياماً، وعادت إلى منزلها.
فقالت لي بعد أيام: أريد ابني.
فقلت: ويحك، ما كفاك ما مضى ؟ فقالت: لا بد، فجئتك على تلك الحيلة بعينها.

فقالت لي، من غد: قد والله حبلت، وهذا والله، سبب موتي، وفضيحتي، وأقامت تجتمع معك، على سبيل الحيلة، إلى أن قاربت الولادة، فمضت إلى أمها، وعملت كما عملت، فولدت بنتاً مليحة، فلم تطب نفسي بقتلها، وأخذتها منها ليلاً، فأخرجتها إلى قوم ضعفاء، لهم مولود، فسلمتها إليهم، وأعطيتهم من مال أبيك دراهم كثيرة، وواقفتهم على إرضاعها، والقيام بها، وأن أعطيهم في كل شهر شيئاً بعينه، وكانت تنفذه إليهم في كل شهر، وتعطيهم ضعفه، حتى تدلل الصبية، وتوفد إليها الثياب الناعمة، فنشأت في دلال ونعمة، وهي تراها في كل يوم إذا اشتاقتها.
وخطب أبوك عليك من النساء، فتزوجت بزوجتك الفلانية، فانقطع ما بينك وبينها، وهي من أشد الناس عشقاً لك، وغيرة عليك من امرأتك، ولا حيلة لها فيك.
حتى بلغت الصبية تسع سنين، فأظهرت أنها مملوكة، قد اشترتها ونقلتها إلى دارها، لتراها كل وقت، لشدة محبتها لها، والصبية لا تعلم أنها ابنتها، وسمتها باسم المماليك.
ونشأت الصبية، من أحسن الناس وجهاً، فعلمتها الغناء بالعود، فبرعت فيه، وبلغت مبلغ النساء.
فقالت لي يوماً: يا أمي، هوذا ترين شغفي بابنتي هذه، وانه لا يعلم أنها ابنتي غيرك، ولا أقدر على إظهار أمرها، وقد بلغت حداً، إن لم أعلقها برجل، خفت أن تخرج عن يدي، وتلتمس الرجال، أو تلتمس البيع، إذ تظن أنها مملوكة، وإن منعتها، تنغص عيشها وعيشي، وإن بعتها، وفارقتها، تلفت نفسي عليها، وقد فكرت في أن أصلها بابني.
فقلت: يا هذه، اتقي الله، يكفيك ما مضى.
فقالت: لا بد من ذلك.
فقلت: وكيف يتم هذا الأمر.
قالت: امضي، واكتبي رقعة، تذكرين فيها، عشقاً وغراماً، وامضي بها إلى زوجة ابني، وقولي إنها من فلان الجندي جارنا - وذكرت غلاماً حين بقل عذاره، في نهاية الحسن، قد كانت تعشقه، ويعشقها - وارفقي بها، واحتالي حتى تأخذي جوابها إليه.
ففعلت، فلحقني من زوجتك، امتهان، وطرد، واستخفاف، فترددت إليها، ومازلت بها حتى درمنتها، فقرأت الرقعة، وأجابت عنها بخطها.
وجئت بالجواب إلى أمك، فأخذته، ومضت به إلى أبيك، فشنعت عليها، وألقت بينها وبين أبيها وأبيك وبين أمها شراً كنا فيه شهوراً، إلى أن انتهى الأمر.
إلى أن طالبك أبوك بتطليق زوجتك، أو الانتقال عنه، وأن يهجرك طول عمره، وبذل لك وزن الصداق من ماله، فأطعت أبويك، وطلقت المرأة، ووزن أبوك الصداق.
ولحقك غم شديد، وبكاء، وامتناع عن الطعام، فجاءت أمك، وقالت لك: لم تغم على هذه القبحة ؟ أنا أهب لك جاريتي المغنية، وهي أحسن منها، وهي بكر وصالحة، وتلك ثيب فاجرة، وأجلوها عليك كما يفعل بالحرائر، وأجهزها من مالي ومال أبيك، بأحسن من الجهاز الذي نقل إليك.
فلما سمعت ذلك، زال غمك، وأجبتها، فوافقت على ذلك، وأصحت الجهاز، وصاغت الحلي، وجلتها لك، فأولدتها أولادك هؤلاء، وهي الآن قعيدة بيتك.
فهذا باب واحد مما أعرفه من أمك.
وباب آخر، وبدأت تحدث، فقال: حسبي، حسبي، اقطعي لا تقولي شيئاً، لعن الله تلك المرأة، ولا رحمها، ولعنك معها، وقام يستعفر الله، ويبكي ويقول: خرب والله بيتي، واحتجت إلى مفارقة أم أولادي.
وأخذ بيدي، وقمت، وفي قلبي حسرة، كيف لم أسمع باقي ما أرادت العجوز أن تحدثنا به.
شقيقان عشيقانأنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني إبراهيم بن علي النصبيبي، قال: حدثني أبو بكر النحوي، قال: حدثني أبو علي بن فتح، قال: حدثني عن أبي، قال: كنت سنة من السنين جالساً في دربي، إذ دخل شاب حسن الوجه والهيأة، وعليه أثر نعمة، فسأل عن دار فارغة في الدرب يكتريها، وكان أكثر الدرب لي.
فقمت معه إلى دار فيه كبيرة حسنة فارغة، فأريته إياها، فاستحسنها، ووزن لي أجرتها لشهر، وأخذ المفتاح.
فلما كان من غد، جاء ومعه غلام، ففتحا الباب، وكنس الغلام الدار، ورش، وجلس هو، ومضى الغلام، وعاد بعد العصر، ومعه عدة حمالين وامرأة، فدخلوا الدار، وأغلق الباب، فما سمعنا لهم حركة.
وخرج الغلام قبل العشاء، وبقي الرجل والمرأة في الدار، فما فتحا الباب أياماً.
ثم خرج إلي في اليوم الرابع، فقلت: ويحك، ما لك ؟

فأومأ إلي أنه مستتر من دين عليه، وسألني أن أندب له رجلاً، يبتاع له كل يوم ما يريده، دفعة واحدة، ففعلت.
فكان يخرج في كل أسبوع، فيزن دراهم كثيرة، فيعطيها للغلام الذي نصبته له، ليشتري له بها ما يكفيه لطول تلك الأيام، من الخبز، واللحم والفاكهة، والنبيذ، والأبقال، ويصب الماء في الحباب الكثيرة، التي قد أعدها لتلك الأيام، ولا يفتح الباب، أو ينقضي ذلك الزاد.
فكان على هذا سنة، لا يجيء إليه أحد، ولا يخرج من عنده أحد، ولا أراه أنا ولا غيري.
إلىأن جاء ليلة، في وقت المغرب، فدق بابي فخرجت، فقلت مالك ؟ فقال: اعلم أن زوجتي قد ضربها الطلق، فأغثني بقابلة.
وكان في داري قابلة لأم أولادي، فحملتها إليه، فأقامت عنده ليلتها، فلما كان في الغد جاءتني، فذكرت أن امرأته ولدت في الليل بنتاً، وانها أصلحت أمورها، وأن النفساء في حالة التلف، وعادت إليها.
فلما كان وقت الظهيرة، ماتت الجارية، فجاءت القالبلة، فأخبرتنا.
فقال: الله الله أن تجيئني امرأة، أو يلطم أحد، أو يجيء أحد من الجيران فيعزيني، أو يصير لي جمع.
ففعلت ذلك، ووجدته من البكاء والشهيق على أمر عظيم.
فأحضرت له الجنازة بين العشائين، وقد كنت أنفذت من حفر قبراً، في مقبرة قريبة منا، فانصرف الحفارون لما أمسوا، وقد كان واقفني على صرفهم، وقال: لا أريد أن يراني أحد، وأنا وأنت نحمل الجنازة، إن تفضلت بذلك، ورغبت في الثواب، فاستحييت، وقلت له: أفعل.
فلما قربت العتمة، خرجت إليه، وقلت له، تخرج الجنازة.
فقال: تتفضل أولاً، وتنقل هذه الصبية إلى دارك على شرط.
قلت: ما هو ؟ قال :إن نفسي لا تطيق الجلوس في هذه الدار بعد صاحبتي، ولا المقام في البلد، ومعي مال عظيم وقماش، فتتفضل بأخذه، وتأخذ اصبية، وتنفق عليها من ذلك المال، ومن أثمان الأمتعة، إلىأن تكبر الصبية، فإن ماتت وقد بقي منه شيء، فهو لك بارك الله لك فيه، وإن عاشت فهو يكفيها إلى أن تبلغ مبلغ النساء، فحينئذ تدبر أمرها بما ترى، وأنا أمضي بعد الدفن، فأخرج من البلدة.
فوعظته، وثبته، فلم يكن إلى ذلك سبيل.
فنقلت الصبية إلى بيتي، وحمل الجنازة وأنا معه أساعده.
فلما صرنا على شفير القبر، قال لي: تتفضل وتبتعد، فإني أريد أن أودعها فأكشف وجهها، فأراه، ثم أدفنها.
ففعلت، فحل وجهها، وأكب عليها يقبلها، ثم شد كفنها، وأنزلها القبر.
ثم سمعت صيحة من القبر، ففزعت، فجئت، فاطلعت، فإذا هو قد أخرج سيفاً كان معلقاً تحت ثيابه، مجرداً، وأنا لا أعلم، فاتكأ عليه، فدخل في فؤاده، وخرج من ظهره، وصاح تلك الصيحة، ومات، كأنه ميت من ألف سنة.
فعجبت من ذلك عجباً شديداً، وخفت أن يدرك، فيصير قصة، فأضجعته فوقها في اللحد، وغيبت عليهما اللبن، وهلت التراب، وأحكمت أمر القبر، وصببت عليه جرار ماء كانت لنا في المكان.
وعدت، فنقلت كل ما كان في الدار، إلى داري، وعزلته في بيت، وختمته، وقلت: هذا أمر لا بد أن تظهر له عاقبة، وما ينبغي أن أمس من هذا المال والمتاع شيئاً، وكان جليلاً، يساوي ألوف دنانير، وأحتسب النفقة على هذه الطفلة، وأعدها ملقوطة من الطريق، ربيتها للثواب.
ففعلت ذلك، فمضى على موت الغلام والجارية، نحو سنة.
فإني لجالس على بابي يوماً، إذ اجتاز شيخ عليه أثر النبل واليسار، وتحته بغلة فارهة، وبين يديه، غلام أسود، فسلم، ووقف.
وقال: ما اسم هذا الدرب ؟ فقلت: درب فتح.
فقال :أنت من أهل الدرب ؟ قلت: نعم .
قال: منذ كم سكنته ؟ قلت: منذ نشأت، وإلي ينسب، وأكثره لي.
فثنى رجله، ونزل.
فقمت إليه، وأكرمته، فجلس تجاهي، يحادثني، وقال: لي حاجة.
فقلت: قل.
فقال: أتعرف في هذه الناحية، إنساناً وافى منذ سنين، شاب من حاله، وصفته، فوصف الغلام، واكترى هاهنا داراً ؟ فقلت: نعم.
قال: وما كانت قصته، وإلى أي شيء انتهى أمره ؟ قلت: ومن أنت منه حتى أخبرك ؟ قال: تخبرني.
قلت: لا أفعل، أو تصدقني .
فقال: أنا أبوه.
فقصصت عليه القصة، على أتم شرح.
فأجهش بالبكاء، وقال: مصيبتي أني لا أقدر أن أترحم عليه.
فقدرته يومىء إلى قتل نفسه، فقلت: لعله ذهب عقله، فقتل نفسه.
فبكى، وقال: ليس هذا أردت، فأين الطفلة ؟ فقلت: عندي، هي والمتاع.
فقال: تعطيني الطفلة.
فقلت: لا أفعل، أو تصدقني.

فقال: تعفيني.
فقلت: اقسم عليك بالله، إلا فعلت.
فقال: يا أخي، مصائب الدنيا كثيرة، ومنها: أن ابني هذا نشأ، فأدبته، وعلمته، ونشأت له أخت، لم يكن ببغداد أحسن منها، وكانت أصغر سناً منه، فعشقها، وعشقته، ونحن لا نعلم .
ثم ظهر أمرهما، فزجرتهما، وأنكرت عليهما، وانتهى الأمر إلى أن افترعها.
فبلغني ذلك، فضربته بالمقارع وإياها، وكتمت خبرهما لئلا أفتضح، ففرقت بينهما، وحجرت عليهما، وشددت عليهما أمهما مثل تشديدي، فكانا يجتمعان على حيلة، كالغريبين.
فبلغنا ذلك فأخرجت الغلام من الدار، وقيدت الجارية، فكانا على ذلك شهوراً كثيرة .
وكان يخدمني لي غلام لي كالولد، فتمت لولدي علي حيلة به، فكان يترسل بينهما، حتى أخذوا مني مالاً جليلاً، وقماشاً كثيراً، وهربوا منذ سنتين، وعملوا لأخذ ذلك، والهرب، حيلة طويلة الشرح، فلم أقف لهم على خبر، وهان علي فقد المال لبعدهما، فاسترحت منهما، إلا أن نفسي كانت تحن إليهما.
فبلغني أن الغلام في بعض السكك منذ أيام، فكبست عليه الدار، فصعد إلى السطح.
فقلت له: بالله عليك يا فلان، ما فعل ولداي ؟ فقد قتلني الشوق إليهما، وأنت آمن.
فقال لي: عليك بدرب فتح، في الجانب الغربي، فسل عنهما هناك، ورمى نفسه إلى سطح آخر، وهرب، وأنا أعرف بفلان، من مياسير التجار بالجانب الشرقي، وأخذ يبكي.
وقال: تقفني على القبر.
فجئت به حتى وقفته على القبر، ثم جاء فأدخلته داري، فأريته الصبية فجعل يترشفها ويبكي، وأخذها ونهض.
فقلت: مكانك، انقل متاعك.
فقال: أنت في حل منه وسعة.
فما زلت أداريه، إلى أن علقت به، وقلت: خذ المال، وأرحني من تبعته.
فقال: على شرط، نقسمه بيني وبينك.
فقلت: والله، لا تلبست منه بحبة.
قال: فاطلب حمالين، فجئت بهم.
فحمل تلك التركة، والصبية، وانصرف.
حلف بالطلاق لا يحضر دعوة أبداً
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني الشريف أبو أحمد الحسين ابن موسى العلوي، النقيب قال: حدثني شيخ كان يخدمني: انه حلف بالطلاق ألا يحضر أبداً دعوة، فسألته عن سبب ذلك، فقال: كنت قد انحدرت إلى البصرة من بغداد، فصعدت إلى بعض مشارع البصرة، فاستقبلني رجل، فكناني بغير كنيتي، وبش بي، واحتفى، وجعل يسائلني عن قوم لا أعرفهم.
وكانت غريباً، لا أعرف مكاناً، فقلت: أبيت عنده الليلة إلى غد، فأطلب مكاناً، فوهمت عليه بالقول، فجذبني إلى منزله، ومعي رحل صالح، وفي كمي دراهم كثيرة.
فدخلت إليه، فرأيت داراً حسناً، وحالاً متوسطاً، وإذا عنده دعوة، وهم على نبيذ، وقد خرج لحاجة، فشبهني بصديق كان له، وكان فيمن كان عنده غلام أمرد، فلما أخذنا مضجعنا للنوم، ندمت على فعلي، ونامت الجماعة.
فلما كان بعد ساعة طويلة، رأيت أحد الجماعة، قد قام إلى الغلام الأمرد ففسق به، ورجع إلى موضعه، وكان قريباً من صاحب الغلام، فاستيقظ صاحب الغلام، وحركه.
فقال لهه الغلام: ما تريد ؟ ألم تكن الساعة عندي، وفعلت بي كذا وكذا.
فقال له: لا.
فقال: قد جاءني الساعة من فعل بي كذا، فظننت أنه هو أنت، فلم أتحرك، ولم أظن أن أحداً يجسر عليك.
فنخر الرجل وجرد سكينا من وسطه، واتفق بأنه بدأ بصاحب الخيانة، وأنا أرعد فزعاً، ولو كان بدأ بي فوجدني أرعد، لقتلني، وكان يظن أنني صاحب القصة.
فلما أراده الله من حياتي، بدأ بصاحب القصة، فوضع يده على قلبه، فوجده يخفق، وقد تناوم عليه الرجل، يرجو بذلك السلامة، فوضع السكين في فؤاده، وأمسك فاه، فاضطرب الرجل وتلف، وأخذ بيد غلامه وانصرف.
أبو البلاد يجن فيعلو حبيبته بالسيفأنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا محمد بن العباس، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: أخبرنا أبو بكر العامري، عن أحمد بن هشام، قال: أخبرني أشياخ من بني سعد ومالك ابني زيد مناة، عن أشياخ من قومهم، أدركوا ذلك الدهر:

أن أبا البلاد، وهو بشر بن العلاء، أحد بني طهية، ثم أحد بني سود، كان في شرف من قومه، وكان يتيماً من أمه، وكنفه عمه، وكان اسم عمه حنيف بن عمرو، وكان عنده أثر من والده، وكانت لعمه ابنة يقال لها سلمى، وكانت أحسن فتاة بنجد، مشهورة بذلك، وكان يهاب عمه أن يخطبها إليه، فغاب غيبة، فزوجها أبوها أحد بني عمها، وبلغ ذلك أبا البلاد، فذهل عقله، وأنه أتى الخباء الذي تكون به سلمى كما كان يأتي، فرأت سلمى في وجهه صفرة، ورأت به زمعاً، فحسبت أنه جائع، فدفعت إليه من وراء الستر، جفنة فيها طبيخ من لحم طير، قد راح به رعاؤهم، فطفق يأكل، أكل مسلوس، فظنت الفتاة أنه عرض له عارض من الخافي، فخرجت من كسر البيت، تريد بيت أختها ليلى.
وسمع حفيف ثوبها، فخرج معارضاً لها بالسيف، فضربها على حبل عاتقها، وسمعت ليلى الوجبة، فغدت عليه بهراوة، وأدبر، فاتبعته الفتاة، فأصبات خشاشة، فتتعتع، فسقط، ثم انتعش، فغدا هارباً، وقال في ذلك:
إن لليلى بين أذني وعاتقي ... كضربة سلمى يوم نعف الشقائق
قال: واستصرخ أبوها، وعمها، وإخوتها، فأقبلوا، ويأوي أبو البلاد في قارة، حذاء أبياتهم، فكان يكون فيها نهاره، وينحدر بالليل، فيتنور نار أهلها، وهي تضرب بنفسها في ثياب لها، وبها علز الموت، فيراها.
فأخبر بذلك أبوها، فقال: ما كنت لأقتل ولداً بولد، وقال أبو البلاد وهو يرى نار سلمى التي كانت توقد لها قبل الموت:
يا موقد النار وهناً موقد النار ... بجانب الشيح من رقصات أعيار
يا موقد النار أشعلها بعرفجة ... لمن تنورها من مدلج ساري
نار تضيء سليمى وهي حاسرة ... سقياً لموقد تلك النار من نار
قال: فماتت سليمى.
ولم يزل بأبي البلاد، بعد ذلك، وسوسة، وبهتة، حتى مات.
ولكم في القصاص حياةأنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني عبد الله بن محمد، قال: حدثني شيخ كان يخدمني، وقد تجارينا أحاديث، قال: بت ليلة في مكان، فقتل رجلٌ رجلاً، فخرجت والليل منتصف، لا أدري أين أقصد.
وخفت العسس، فرأيت أتون حمام، ولم يوقد بعد، فقلت: أختبئ فيه إلى أن يفتح الحمام، فأدخله.
فجلست في ناحية من الأتون، فما لبثت حتى سمعت وقع حافر ، فإذا رجل معه جارية، فأدخلها إلى الأتون، فذبحها، وتركها، ومضى.
فرأيت بريق خلخالين في رجلها، فانتزعتهما منها، وصبرت ساعة، ثم خرجت.
وما زلت أمشي في طريق لا أعرفه، متحيراً، إلى أن اجتزت بحمام قد فتح، فدخلته، وخبأت ما معي، في ثيابي.
وخرجت، فعرفت الطريق، وعلمت أني بالقرب من دار صديق لي، فطلبتها، ودققت بابه، ففتح لي، وسر بقدومي، وأدخلني.
فدفعت إليه دراهمي ليخبأها، والخلخالين، فلما نظر إليهما تغير وجهه.
فقلت: مالك ؟ فقال: من أين لك هذان الخلخالان ؟ فأخبرته بخبري كله في ليلتي تلك.
فقال لي: تعرف الرجل الذي قتل الجارية ؟ فقلت: أما بوجهه فلا، لأن الظلمة كانت حائلة بيننا، ولكن إن سمعت كلامه عرفته.
فأعد طعاماً، ونظر في أمره، ثم خرج، وعاد بعد ساعة، ومعه رجل من الجند، فكلمه، وغمزني عليه.
فقلت: نعم، هو الرجل.
ثم أكلنا، وحضر الشراب، فحمل عليه النبيذ، حتى سكر، ونام في موضعه، فغلق باب الدار، وذبح الرجل.
وقال لي: إن المقتلوة أختي، وكان هذا قد أفسدها، وأنا منذ مدة أتخبر، فلا أصدق، إلا أني طردت أختي، وأبعدتها عني، فمضت إليه، ولست أدري ما كان بينهما، حتى قتلها، وإنما عرفت الخلخالين، فدخلت، وسألت عن أمرها.
فقالوا لي: هي عند فلان.
فقلت: قد رضيت عنها، فوجهوا ردوها.
فمضوا يعرفون خبرها، فلجلج الرجل، فعلمت أنه قد قتلها كما ذكرت، فقتلته، فقم حتى ندفنه.
فخرجنا ليلاً، أنا والرجل، حتى دفناه، وعدت إلى المشرعة هارباً من البصرة، حتى وصلت إلى بغداد.
وحلفت ألا أحضر دعوة أ بداً.
يقتل عشيقته فيفترسه الأسدأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني إبراهيم بن علي بن النصيبي. قال: حدثني أبو علي ابن حامد بن أبي بكر المعروف بابن أبي حامد، قال: حدثني بعض أصحاب أبي قال:

كان جدك ابن أبي حامد، وهو صاحب بيت المال - إذ ذاك - يتمسى في دار الخلافة، فينصرف وقد مضى ربع الليل، أو ثلثه، فيجلس في طياره، ويصعد إلى داره، ونحتاج نحن، أن يكون لنا سفن مشاهرة، فإذا ركب طياره، نزلنا نحن في سفننا، وكان برسمي ملاح على مرور الأوقات.
فلما كان ليلة من الليالي، خرجت مع جدك، فطلبت ملاحي، فلم أجده، فأخذني بعض أصحاب جدك، في سميريته، وبكرت في الغد، فلم أعرف له خبراُ، وتمادى ذلك سنين.
فلما كان بعد سنين، رأيته في الكرخ، بطيلسان، ونعل طاق، بزي التجار المياسير.
فقلت: فلان ؟ فحين رآني اضطرب.
فقلت: ويحك، ما قصتك ؟ قال: خير.
فقلت: وما هذا الزي ؟ قال: تركت الملاحة، وصرت تاجراً.
قلت: فرأس المال من أين لك ؟ فجهد أن يفلت.
فقلت: لا تطول علي، والله، لا افترقنا، أو تخبرني خبرك، ولم تركتني تلك الليلة، ثم لم نرك إلى الآن ؟ فقال: على أن تستر علي.
فقلت: أفعل.
فأحلفني، فحلفت.
قال: إنك أبطأت تلك الليلة، وعرضت لي بولة، فأصعدت من دار الخلافة، إلى مشرعة بنهر معلى، فبلت.
وإذا برجل قد نزل، فقال: احملني.
فقلت: أنا مع راكب لا يمكنني فراقه.
فقال: خذ مني ديناراً واحملني.
فلما سمعت بذكر الدينار، طمعت، وظننته هارباً، فقلت: إلى أين أحملك ؟ فقال: إلى الدباغين.
فقلت: لاأحملك.
فقال: خذ دينارين.
فقلت: هات، فأعطاني دينارين، فجعلتهما في كمي، وكان معه غلام، فقال: امض وهات ما معك.
فمضى الغلام، ولم يحتبس حتى جاء بامرأة، لم أر قط أحسن منها وجهاً، ولا ثياباً، وجاء بجونة كبيرة حسنة، وأطباق فاكهة، وثلج، ونبيذ، وكانت ليلة مقمرة، وجاء بعود، فأخذته الجارية في حجرها، فسهل علي لطيب الوقت، أن أخل بك.
ثم قال للغلام: امض أنت، فمضى.
قال: ادفع فدفعت.
وكشفت الجارية وجهها، فإذا هي أحسن من البدر بشيء كثير.
فلما بلغت الدباغين، جرد سيفاً كان معه، وقال: ادفع إلى مكان ما أقول لك، وإلا ضربت عنقك.
فقلت: ما بك إلى هذا حاجة، السمع والطاعة، فانحدرت.
فقال لها: تأكلين شيئاً ؟ فقالت: نعم.
فأخرج ما كان في الجونة، فإذا طعام نظيف، ظريف، فأكلا، وألقى الجونة إلي.
ثم أخذت العود، وغنت أحسن غناء يكون، وأطيبه.
فقال لي: يا ملاح لولا خوفي أن تسكر، لسقيتك.
فقلت: يا أستاذ، أنا أشرب عشرين رطلاً نبيذاً، ولا أسكر، فأعطاني ظرفاً فيه خمسة أرطال، وقال: اشرب لنفسك.
فجعلت أشرب على الغناء وأجدف، وهما يشربان، إلى أن دنا منها، فقبلها كثيراً، واحتدت شهوته، فجامعها وأنا أراه، ثم عاودها دفعات وثمل.
فقال: يا فلانة، خنت عهدي وميثاقي، ومكنت فلاناً من نفسك، حتى فعل بك كيت وكيت، وفلاناً، وفلاناً، وجعل يواقفها، وهي تقول: لا والله، يا سيدي، ما فعلت هذا، وإنما كذبوا علي عندك، ليباعدوني منك.
فقال: كذبت ،أنا توصلت إلى أن حصلت معكم، في ليلة كذا، في الدار الفلانية، وقد دعاك فلان، وصنعتم وفعلتم كذا وكذا، وأنا أراكم بعيني، وما بعد هذا شيء، وتدرين لم جئت بك إلى هذا الموضع، وعاتبتك ها هنا ؟ فقالت: لا.
فقال: لأن أودعك، وأجعل هذا آخر العهد بك، وأقتلك، وأطرحك في الماء.
قال: فجزعت الجارية جزعاً شديداً، ثم قالت: يا مولاي، ويطيب قلبك ؟ قال :إي والله، ثم خالطها، وأخرج تكتها، فكتفها بها.
فقلت: يا سيدي، اتق الله، مثل هذا الوجه، وأنت تالف في حبه، تعمل به مثل هذا ؟ فقال: الساعة والله، ابتدىء بك.
وأخذ السيف، فجزعت، وأمسكت، وتقدم إليها فذبحها، وأمسكها حتى جرى دمها وماتت.
ثم أقبل ينزع حليها، ويرمي به إلى صدر السميرية، ثم نزع الثياب عنها، وشق جوفها، وجعل يقطعها قطعاً، ويرمي بها إلى الماء.
وكنا قد قاربنا المدائن، وقد مضى أكثر الليل، فرأيت منظراً لم أر قط مثله، ومت جزعاً، وقلت: الساعة يقتلني لئلا أنم عليه، ولم أجد حيلة، فاستسلمت.
وطرح نفسه كالمغشي عليه، وجعل يبكي، ويقول: شفيت قلبي، وقتلت نفسي، ويلطم، ورمى بالعود، وجميع ما كان معه، من فاكهة، وأكل وشراب، إلى الماء.
فطلع الفجر وأضاء، وبقي بيننا وبين المدائن نصف فرسخ، فطمعت في الحيلة عليه.
فقلت له: يا سيدي، قد أصبحنا، أفلا تصلي ؟ وأردت أن يصعد إلى الشط، وأنحدر أنا في السميرية، وأدعه .
فقال: بلى: اطرحني إلى الشط.

فقدمت السميرية إلى الشط، وطرحته.
فحين صعد من السميرية أذرعاً يسيرة، إذا سبع قد قفز عليه، فتناوله، فرأيته والله، في فمه، كالفأرة في فم السنور.
فلا أنسى ما ورد على قلبي من السرور بذلك.
فحدرت السفينة، فلما تجاوزت المدائن، طرحت إلى الشط، وجمعت الحلي، وخبأته، تحت بارية السميرية، وتأملت الثياب، فغسلت ما أثر الدم فيه، وخبأته، وانحدرت، فما رد وجهي شيء إلى البصرة.
فنظرت، فإذا معي حلي بألف دينار، وثياب بعتها بجملة دنانير كثيرة، فأقمت بالبصرة أتجر، وخفت العود إلى بغداد، لئلا يراني ذلك الغلام، فيطالبني بالرجل، أو أسأل عن الحديث.
فلما طالت المدة، وانقضت السنون، وقع لي أن الأمر قد نسي، واشتقت إلى بغداد، وكانت البضاعة قد نمت وزادت، فاشتريت بجميعها تجارة إلى بغداد، ودخلت، وأنا فيها منذ نحو سنة، حتى رأيتني اليوم.
حلف بالطلاق لا يشيع جنازة أبداً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه: قال: حدثني عبد الله بن محمد، قال: حدثني الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى العلوي النقيب، قال: حدثني شيخ كان يخدمني: انه حلف بالطلاق، لا يشيع جنازة.
فسألته عن السبب.
فقال: خرجت يوماً ببغداد في نصف النهار من يوم حار، لحاجة لي، فاستقبلتني جنازة يحملها اثنان.
فقلت: غريب، فقير، أربعها، فأثاب، فدخلت تحتها بدلاً من أحد الحمالين.
فحين استقرت على كتفي، افتقدت الحمال، فقلت: يا حمال، يا حمال.
فقال الاخر: أيش تريد ؟ إمش واسكت، قد انصرف الحمال.
فقلت: الساعة والله، أرمي بها.
فقال الحمال: والله لئن فعلت، لأصيحن.
فاستحييت، وحملت الأذى، وقلت: ثواب، وما زلت أسير في الشمس، والرمضاء، إلى الشونيزنة.
فلما حططنا الجنازة في مسجد الجنائز، هرب الحمال الآخر.
فقلت لنفسي: ما لهؤلاء الملاعين، والله لأتممن الثواب، وأخرجت من كمي دراهم، وصحت، يا حفار، أين قبر هذه الجنازة ؟ فقال: لا أدري.
فقلت: احفر، فأخذ مني درهمين، وحفر قبراً.
فلما صوبت عليه الجنازة، ليأخذ الميت ليدفنه، وثب من اللحد، ولكمني، وجعل عمامتي في رقبتي، وصاح: يا قوم ! قتيل.
واجتمع الناس، وسألوه، فقال: هذا جاء برجل مقطوع الرأس لأدفنه له، فحل الكفن، فوجد الأمر على ما قاله الحفار.
فهبت، وتحيرت، وجرى علي من العامة، من المكروه، ما كادت نفسي تتلف، إلى أن حملت إلى صاحب الشرطة، فأخبر الخبر، فجردت للسياط، وأنا ساكت، باهت.
وكان له كاتب، فحين رأى حيرتي، قال له: أنظرني، حتى أكشف أمر هذا الرجل، فإني أحسبه مظلوماً.
فخلا بي، وساءلني، فأخبرته خبري، ولم أزد فيه، ولم أنقص.
فنحى الميت عن الجنازة، وفتشها، فوجد فيها كتابة، انها للمسجد الفلاني، للناحية الفلانية.
فأخذ معه رجالة، ومضى، فدخل المسجد متنكراً، فوجد فيه خياطاً، فسأله عن جنازة، كأنه يريد أن يحمل عليها ميتاً له.
فقال الخياط: للمسجد جنازة، إلا أنها أخذت منه الغداة، لحمل ميت، ولم ترد.
فقال: من أخذها ؟ فقال: أهل تلك الديار، وأومأ إليها.
فكسبها الكاتب، برجالة الشرطة، فوجد فيها رجالاً، فقبض عليهم وحملهم إلى الشرطة، وأخبر صاحبه الخبر، فقدم القوم، وقررهم، فأقروا، أنهم تغايروا على غلام أمرد معهم، فقتلوه، واحتزوا رأسه، ودفنوه في بئر حفروها في الدار، وحملوه على تلك الصورة، وأن الحمالين كانا أحد القوم، فضربت أعناق القوم، وخلي سبيلي.
فهذا سبب توبتي، أن لا أحضر جنازة.
منفصل عني وما قلبي عنه منفصلوأنبئت عن الوليد بن محمد، وغيره، عن محمد بن عبد الباقي الأنصاري، قال: حدثنا علي بن المحسن التنوخي، إذناً، قال: أنبأنا أبي، عن أبي الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن المرزبان، قال: أخبرني علي بن صالح بن الهيثم، وإسماعيل بن يونس، قالا: حدثنا أبو هفان، قال: أهديت إلى الرشيد، جارية في غاية الجمال، والكمال، فخلا بها أياماً، وأخرج كل قينة من داره.
واصطبح يوماً، فكان من حضره من جواريه للغناء وغيره، زهاء ألفي جارية، في أحسن زي، من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر.
واتصل الخبر بأم جعفر، فغلظ عليها ذاك، فأرسلت إلى علية، تشكو إليها.

فأرسلت علية: لا يهولنك هذا، فوالله لأردنه، وأنا أعمل شعراً، وأصوغ فيه لحناً، وأطرحه على جواري، فلا تدعى عندك جارية، إلا بعثت بها إلي، وألبسيهن فاخر الشياب والحلي، ليأخذن الصوت مع جواري.
ففعلت أم جعفر ما أمرتها.
وزحفت عليه من حجرتها، ومعها زهاء ألفي جارية من جواريها، وسائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس والحلي، وكلهن يغنين في لحنٍ واحد، هزج، صنعته علية:
منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل
يا قاطعي اليوم لمن ... نويت بعدي أن تصل
فطرب الرشيد، وقام على رجليه، حتى استقبل أم جعفر، وعلية، وهو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قط.
ثم قال: يا مسرور، لا تبقين في بيت المال شيئاً إلا نثرته، فكان مبلغ ما نثر يومئذ، ستة آلاف ألف درهم.
وما سمع بمثل ذلك اليوم قط.
ألا أن هنداً أصبحت منك محرما
أخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أنبأنا أبو محمد بن السراج، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، قال: أنبأنا علي بن عيسى بن علي النحوي، قال: حدثنا أبو بكر بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن الأصمعي، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين، قال: قال عبد الله بن عجلان النهدي في الجاهلية:
ألا إن هنداً أصبحت منك محرما ... وأصبحت من أدنى حميمها حمى
وأصبحت كالمقمور جفن سلاحه ... يقلب بالكفين قوساً وأسهما
ومد بها صوته، حتى مات.
جعلت من وردتها تميمة في عضديأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن منصور بن سيار، قال: أخبرني عبد الله بن نصر المروزي، قال: أخبرني عبد الله بن سويد، عن أبيه، قال: سمعت علي بن عاصم يقول: قال لي رجل من أهل الكوفة، من بعض إخواني، هل لك في عاشق تراه ؟ فمضيت معه، فرأيت فتى كأنما نزعت الروح من جسده، وهو متزر بإزار، مرتد بآخر، وإذا هو مفكر، وفي ساعدة وردة.
فذكرنا له بيتاً من الشعر، فتهيج وقال:
جعلت من وردتها ... تميمة في عضدي
أشمها من حبها ... إذا علاني جهدي
فمن رأى مثلي فتى ... بالحزن أضحى مرتدي
أسقمه الحب وقد ... صار قليل الأود
وصار ساه دهره ... مقارناً للكمد
ألا فمن يرحم أو ... يرق لي من كمد
ثم أطرق. فقلت: ما شأنه ؟ قالوا: عشق جارية لبعض أهله، فأعطى بها كل ما يملك، وهو سبعمائة دينار، فأبوا أن يبيعوها، فنزل به ما ترى، وفقد عقله.
قال: فخرجنا، فلبثنا ما شاء الله، ثم مات، فحضرته جنازته.
فلما سوي عليه، إذا بجارية تسأل عن القبر، فدللتها عليه، فما زالت تبكي، وتأخذ التراب فتجعله في شعرها، فبينما هي كذلك، إذ جاء قوم يسعون، فأقبلوا عليها ضرباً، فقالت: شأنكم، والله، لا تنتفعون بي بعده أبداً.
عشق، فعف، فكتم، فماتأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا التنوخي، قال: حدثنا ابن حيوية، قال: أنبأنا ابن المرزبان، قال: ذكر بعض الرواة عن محمد بن معاوية، قال: حدثني إبراهيم بن عثمان العذري، وكان ينزل الكوفة، قال: رأيت عمر بن ميسرة، وكان كهئية الخيال، وكأنه صبغ بالورس، لا يكاد يكلم أحداً، ولا يجالسه، وكانوا يرون أنه عاشق، فكانوا يسألونه عن قصته، فيقول:
يسائلني ذا اللب عن طول علتي ... وما أنا بالمبدي لذا الناس علتي
سأكتمها صبراً على حر جمرها ... وأكتهما إذ كان في السر راحتي
إذا كنت قد أبصرت موضع علتي ... وكان دوائي في مواضع لذتي
صبرت على دائي احتساباً ورغبة ... ولم أك أحدوثات أهلي وخلتي

قال: فما أظهر أمره، ولا علم أحد بقصته، حتى كان عند الموت، فإنه قال: إن العلة التي كانت بي، من أجل فلانة ابنة عمي، والله، ما حجبني عنها، وألزمني الضر، إلا خوف الله عز وجل لا غير، فمن بلي في هذه الدنيا بشيء، فلا يكن أحد أوثق عنده بسره من نفسه، ولولا أن الموت نازل بي الساعة، ما حدثتكم، فاقرؤوها مني السلام، ومات.
عبد الله بن عجلان وهند بنت كعبأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، قال: أنبأنا أبو عمر بن حيوية، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أبو بكر العامري، قال: أخبرني سليمان بن الربيع الكادحي، قال: حدثنا عبد العزيز بن الماجشون، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: عبد الله بن عجلان، هو صاحب هند بنت كعب بن عمرو، وإنه عشقها، فمرض مرضاً شديداً حتى ضني، فلم يدر أهله ما به.
فدخلت عليه عجوز، فقالت: إن صاحبكم عاشق، فاذبحوا له شاة، وائتوه بها، وغيبوا فؤادها، ففعلوا، وأتوه بها، فجعل يرفع بضعة، ويضع أخرى.
ثم قال: أما لشاتكم قلب ؟ فقال أخوه: لا أراك إلا عاشقاً، ولم تخبرنا.
فبلغني - والله أعلم - أنه قال لهم بعد لك: آه، ومات.
عشقت، فجنت، فماتتأنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، وأبو محمد الجوهري، كلاهما عن أبي عبيد الله المرزباني، قال: أنبأنا ابن دريد، قال: أنبأنا العباس بن الفرج الرياشي، عن محمد بن سلام، قال: حدثني بعض أهل الكوفة، قال: حججت، فرأيت امرأة قبيل فيد، وهي تقول:
فإن تضربوا ظهري وبطني كليهما ... فليس لقلبي بين جنبي ضارب
فسألت عنها، فقيل: عاشق.
ثم عدت في العام المقبل، فإذا بها قد حال لونها مع حسنه، وهي تقول:
فإن يك عيسى قد أطاع بي العدى ... فلا وأبيه ما أطعت الأعاديا
يقولون لي مولى فلا تقربينه ... وعيش أبي إني أحب المواليا
ثم رجعت في العام الثالث، فإذا هي مقيدة، فاقدة عقلها، وهي تقول:
أيا طلحة الرعيان ظلك بارد ... وماؤك عذب يستساغ لشارب
ثم سألت عنها بعد ذلك، فأخبرت أنها ماتت.
رب لا تسلبني ديني ولا
تفتني بعد أن هد يتنيأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، قال: أنبأنا أبو عمر بن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال :أخبرني محمد بن موسى، عن سعيد بن عبد الله بن ميسرة، قال: حدثني شيخ من أهل الشام، قال: صحبني فتى في بعض أسفاري، فكنت كثيراً ما أسمعه ينشد هذه الأبيات:
ألا إنما التقوى ركائب أدلجت ... وأدركت الساري بليل فلم ينم
وفي صحبة التقوى غناء وثروة ... وفي صحبة الأهواء ذل مع الندم
فلا تصحب الأهواء واهجر محبها ... وكن للتقى إلفاً وكن في التقى علم
فقلت له يوماً: ما هذه الأبيات التي أسمعك كثيراً تنشدها ؟ فضحك، وقال: كيف سألتني عنها ؟ فقلت: لأني أراك كثيراً تنشدها، فأردت أن أعلم، من قولك هي ؟ قال: لا، ولكنها من قول أخٍ لي، وله حديث عجيب.
فقلت له: حدثني به.
قال: نعم، كان لي أخ، وكنت أحبه الحب الذي لا شيء بعده، فمكثنا بذلك حيناً، فلزم الحديث، والفقه، والأدب، وما رأيت فتى - مع التقوى - أمزح منه.
قال: ثم تغير عن بعض ما كنت أعهد منه، من المزاح، والسرور، وحسن الحديث، فلما رأيت ذلك منه غمني، وأنكرته، فخلوت به يوماً، فقلت: يا أخي، ما قصتك ؟ وما حالك. وما الذي نزل بك ؟ أخبرني، فإن كان من أمر الآخرة، سررت به، وإن كان من أمر الدنيا أعنتك عليه.
قال، والله يا أخي، ما هو من أمر الآخرة، ولكنه من أمر الدنيا، ولست أبديه، حتى يبلغ الأمر آخره، ويخرج من يدي، ولا أستطيع رده.
قال: ولهج بهذه الأبيات:
ألا إنما التقوى ركائب أدلجتقال: فعظم علي ما نزل به، وشغل قلبي، وأخذه شبيه بالسهو، ويقول في بعض الساعات: رب لا تسلبني ديني، ولا تفتني بعد أن هديتني.
فقلت في نفسي: ما أراه إلا، وقد غلبت عليه وسوسة من الشيطان، فهو يخاف، ومكث بذلك حيناً، ما يزداد إلا ضنىً.
وجهل أهله يسألونني، فأقول: والله، ما علمي به إلا كعلمكم، ولقد سألته عن حاله، فما يخبرني بشيء.

واشتد عليه الأمر، فسقط في الفراش، وكان الناس يعودونه.
ودخل الأطباء عليه، فبعضهم يقول: سل، وبعضهم يقول: غم، واختلفت في أمره علينا الأقاويل، وكان لا يتكلم بشيء أكثر من قوله:
ألا إنما التقوى ركائب أدلجت ... فأدركت الساري بليل فلم ينم
قال: ولم يزل به الأمر، حتى غلب على عقله، وضاق به مكانه، فأدخلناه بيتاً، فكان يصرخ الليل كله، فإذا مل من الصراخ، أن كما يئن المدنف من علته.
فأشاروا علينا بتخليته، وقالوا: إنكم إن خليتموه، تفرج واستراح، فخليناه.
فكان إذا أصبح، خرج فقعد على باب داره، فكل من مر به، سأله: أين تريد ؟ فيقول: أريد موضع كذا وكذا.
فيقول: اذهب محفوظاً، لو كان طربقك على بغيتنا، أودعناك كلاماً.
قال: فمر به بعض إخوانه، فقال: أين تريد ؟ قال: أريد حيث تحب، فهل لك من حاجة ؟ قال: نعم.
قال: ما هي ؟ فقال:
تقرأ السلام على الحبيب تحية ... وتبثه بمطاول الأسقام
وتقل له: إن التقى زم الهوى ... لما سما متعجلاً بزمام
فقال: أفعل إن شاء الله.
قال: فمضى، فما كان بأسرع من أن رجع، فقال: قد بلغت القوم رسالتك.
قال: فما قالوا ؟ قال: قالوا:
لئن كان تقوى الله زمك أن تنل ... أموراً نهى عن نيلها بحرام
فزرنا لنقضي من حديثٍ لبانةً ... ونشفي نفوساً آذنت بسقام
قال: فوثب قائماً، ثم أنشأ يقول:
لأقل من هذا فيه لذي الهوى ... شفاء وقد يسلو الفتى جد وامق
إذا اليأس حل القلب لم ينفع البكا ... وهل ينفع المعشوق دمعة عاشق
قال: ومضى، فقمت خلفه، فقلت لأهله، لا يتبعني أحد منكم، وتبعته، حتى أتى نزل رجل من أهل الفضل والرأي والدين، وكانت له ابنة من أجمل النساء، فوقف على الباب، فقال:
فها أنذا قد جئت أشكو صبابتي ... وأخبركم عما لقيت من الحب
وأظهر تسليماً عليكم لتعلموا ... بأني وصولٌ ثم ذا منكم حسبي
قال: فلما فهمت القصة، وخشيت أن يلحظني أحد، أو يراه بعض من يعرفه، أو يفهم قصته، خرجت عليه.
فقلت: ما جلوسك على باب القوم، ولم يأذنوا لك ؟ قال: بلى.
فقلت: كيف، وهم يقولون:
بالله ربك لا تمر ببابنا ... إنا نخاف مقالة الحساد
ودع التعتب والتذكر إنه ... يرويه عنك أجلة العواد
قال: يا صالح، وقد قالوا هذا ؟ قلت: نعم.
فجعل يهذي، ويقول:
إن كان قد كرهوا زيارة عاشق ... فلرب معشوق يزور العاشقا
فلما رجعت، سألوني عن قصته، فقلت ؛ ما أخطأ الجبان.
ولزم بيته، فلم يزل زائل العقل، حتى مات.
؟مت عشقاً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا أبو عمر بن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: وجدت في كتاب بعض إخواني من أهل العلم، قال: حدثنا زكريا بن إسحاق، قال: سمعت مالك بن سعيد يقول: حدثني مشيخة من خزاعة: انه كان عندهم بالطائف جارية عفيفة صالحة، وكانت لها أمٌ من خيار النساء لها فضل ودين، وكانت لهم بضاعة مع رجل من أهل الطائف، وكان يتجر لهم بها، ويعطيهم فضلها.
قال: فبعث الرجل إليهم ذات يوم، ابنه في حاجة، وكان غلاماً جميلاً، فدخل والجارية جالسة، لم تعلم بدخوله، فنظر إليها، وكانت ذات جمال، فوقعت بقلبه، فخرج من عندهم، وما يدري أين يسلك، وجعل الأمر يتزايد عليه، حتى تغير عقله، ونحل جسمه، ولزم الوحدة والفكر، وكتم حاله، وجعل لا يقر له قرار.
فلما رأى أهله ذلك، حبسوه في بيت، وأوثقوه، فكان ربما أفلت، فيجتمع عليه الصبيان، فيقولون له:
مت عشقاً، مت عشقاً.
قال: وكان يقول، إذا كثروا عليه:
أأفشي إليكم بعض ما قد أصابني ... أم الصبر أهيا بالفتى عندما يلقى
سلام على من لا أسمي باسمها ... ولو صرت مثل الطير في غيضة ملقى
ألا أيها الصبيان لو ذقتم الهوى ... لأيقنتم أني أحدثكم حقا
أحبكم من حبها وأراكم ... تقولون لي مت يا شجاع بها عشقاً
فلم تنصفوني، لا ولا هي أنصف ... فرفقاً قليلاً بالفتى ويحكم رفقا

قال: فلما صح ذلك عند أهله، وعلموا أنه عاشق، جعلوا يسألونه عن أمره، فلا يخبرهم بقصته، ولا يجيبهم.
فلما رأوا ذلك منه، حبسوه في بيت، وقيدوه، فكان إذا جنه الليل، هتف بصوت له حزين، يقول:
يا ليل أنت رفيقي ... من بين أهلي ومالي
يا ليل أنت أنيسي ... في وحشتي واحتيالي
يا ليل إن شكاتي ... إليك طول اشتغالي
بمن برت جسم صب ... فصار مثل الخلال
فالجسم مني نحيل ... لم يبق إلا خيالي
ووالشوق قد شف جسمي ... وليس يخلق بالي
فلو رآني عدوي ... لرق لي ورثي لي
قال: فلم يزل تلك حاله، حتى مات.
؟
إلا أن يشاء ابن معمرأخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أنبأنا جعفر بن أحمد، قال: أنبأنا علي بن أبي علي المعدل، قال حدثني أبي، قال: روى أبو روق الهزاني، عن الرياشي: ان بعض أهل البصرة، اشترى صبية، فأحسن تأديبها، وتعليمها، وأحبها كل المحبة، وأنفق عليها حتى أملق، وحتى مسهما الضر الشديد.
فقالت الجارية: إني لأرثي لك يا مولاي مما أرى بك من سوء الحال، فلو بعتني، واتسعت بثمني، فلعل الله أن يصنع لك، وأقع أنا بحيث يحسن حالي، فيكون ذلك أصلح لكل واحد منا.
قال: فحملها إلى السوق، فعرضت على عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وهو أمير البصرة، يومئذ، فأعجبته، فاشتراها بمائة ألف درهم.
فلما قبض المولى الثمن، وأراد الأنصراف، استعبر كل واحد إلى صاحبه، باكياً، وأنشأت الجارية تقول:
هنيئاً لك المال الذي قد حويته ... ولم يبق في كفي غير التذكر
أقول لنفسي وهي في غشي كربةٍ ... أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري
إذا لم يكن للأمر عندك حيلة ... ولم تجدي شيئاً سوى الصبر فاصبري
فاشتد بكاء المولى، ثم أنشأ يقول:
فلولا قعود الدهر بي عندك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
أروح بهم في الفؤاد مبرح ... أناجي به قلباً شديد التفكر
عليك سلامٌ لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال ابن معمر: قد شئت، خذها، ولك المال، وانصرفا راشدين، فوالله، لا كنت سبباً لفرقة محبين.
لماذا سمي العراق عراقاً
أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: أنبأنا إسماعيل بن سعيد المعدل، قال: قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، قال ابن الأعرابي: إنما سمي العراق عراقاً، لأنه سفل من نجد، ودنا من البحر، أخذ من عراق القربة، وهو الخرز الذي في أسفلها.
من لم ير بغداد، لم ير الدنياأخبرنا عمر بن إبراهيم الفقيه، والحسن بن علي الجوهري، وعلي ابن أبي علي، قالوا: حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثنا أبو بكر الصولي قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو ملحم، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، يقول: الإسلام ببغداد، وإنها لصيادة تصيد الرجال، ولم يرها لم ير الدنيا.
من محاسن الإسلامسمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي يقول: كان يقال: من محاسن الإسلام، يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس.
إذا خرجت من العراق فالدنيا كلها رستاقأخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرني أبي قال: قال أبو القاسم بزياش بن المحسن الديلمي، وهو شيخ لقيته ببغداد يتعلق بعلوم، فصيح بالعربية: سافرت الآفاق، ودخلت البلدان، من حد سمرقند إلى القيروان، ومن سرنديب إلى بلد الروم، فما وجدت بلداً أفضل، ولا أطيب من بغداد، قال: وكان سبكتكين، حاجب معز الدولة، المعروف بالحاجب الكبير، آنساً بي، فقال لي يوماً: قد سافرت الأسفار الطويلة، فأي بلد وجدت أطيب وأفضل ؟ فقلت له: أيها الحاجب، إذا خرجت من العراق، فالدنيا كلها رستاق.
فلم أر فيها مثل بغداد منزلاأنشدنا التنوخي، قال: أنشدنا أبو سعد علي بن محمد بن خلف الهمذاني لنفسه:
فدى لك يا بغداد كل قبيلة ... من الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها ... وسيرت رحلي ببينها وركابيا

فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلاً ... وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا
وكم قائل لو كان ودك صادقاً ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا
السري الرفاء يمدح بغدادأنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدنا أبو علي الهائم، قال: أنشدنا السري بن أحمد الرفاء الموصلي لنفسه من أبيات:
إذا سقى الله منزلاً فسقى ... بغداد ما حاولت من الديم
يا حبذا صحبة العلوم بها ... والعيش بين اليسار والعدم
سويق الحمص في بغدادحدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أخبرني أبي، قال: أنبأنا أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي في سنة ستين وثلثمائة، قال: أخبرني رجل يبيع سويق الحمص، منفرداً به، أسماه لي وأنسبته، أنه حصر ما يعمل في سوقه من هذا السويق كل سنة، فكان مائة وأربعين كراً، يكون حمصاً مائتين وثمانين كراً، يخرج في كل سنة، حتى لا يبقى منه شيء، ويستأنف عمل ذلك للسنة الأخرى.
قال: وسويق الحمص غير طيب، وإنما يأكله المتجملون والضعفاء، شهرين أو ثلاثة، عند عدم الفواكه، ومن لا يأكله من الناس أكثر.
قال الشيخ أبو بكر الخطيب البغدادي: ولو طلب من هذا السويق اليوم في جانبي بغداد، مكوك واحد، ما وجد.
القاضي أبو طاهر محمد بن نصرأخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال : استقضي المتقي لله على مدينة المنصور في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلثمائة، أبا طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر، وله أبوة في القضاء، سديد المذهب، متوسط الفقه، على مذهب مالك، وكان له مجلس يجتمع إليه المخالفون، ويتناظرون بحضرته، فكان يتوسط بينهم، ويكلمهم كلاماً سديداً، ويجري معهم فيما يجرون فيه، على مذهب محمود وطريقة حسنة، ثم صرف أبو طاهر بعد أربعة أشهر من هذه السنة في شوال، ثم استقضى المستكفي أبا طاهر على الشرقية في صفر سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، فكانت ولايته أقل من خمسة أشهر.
عتاهية بن أبي العتاهيةقرات في كتاب أبي عبيد الله المرزباني، بخطه، وحدثنيه علي بن أبي علي البصري، عنه، قال: محمد بن أبي العتاهية، لقبه عتاهية، ويكنى أبا عبد الله، وأمه هاشمية بنت عمرو اليمامي مولى لمعن بن زائدة، وكان محمد ناسكاً، زاهداً، شاعراً، وهو القائل:
قد أفلح الساكن الصموت ... كلام راعي الكلام قوت
ما كل نطقٍ له جوابٌ ... جواب ما يكره السكوت
يا عجبي لامرىء ظلومٍ ... مستيقنٌ أنه يموت
اقطع العمر بظن حسنأخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: حدثني أبي، أبو علي المحسن بن علي، قال " نبأنا أبو بكر الصولي، قال: نبأنا عون بن محمد الكندي، قال: قال لي محمد بن أبي أمية الكاتب: كنت أنا وأخي، نكتب للعباس بن الفضل بن الربيع، فجاءه أبو العتاهية مسلماً، فأمر بالمقام عنده.
فقال: على شريطة أن ينشدني كاتبك هذا من شعره، وأومأ إلي.
فقال: ذلك لك، وتغدينا، فقال: الشرط.
فأمرني أن أنشده، فحصرت، وقلت: ما أجسر على ذلك، ولا ذاك قدري.
فقال: إن أنشدني وإلا قمت، فجد بي فأنشدته:
رب وعدٍ منك لا أنساه لي ... أوجب الشكر وإن لم تفعل
أقطع العمر بظن حسن ... وأجلي غمرةً ما تنجلي
وأرى الأيام لا تدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي
كلما أملت يوماً صالحاً ... عرض المكروه لي في أملي
قال: فبكى أبو العتاهية، أشد بكاء، ثم قال: إن لم تزدني قمت.
فقال لي: زده، فانشدته:
بنفسي من يناجيه ... ضميري بأمانيه
ومن يعرض عن ذكري ... كأني لست أعنيه
لقد أسرفت في الذل ... كما أسرفت في التيه
أما تعرف لي إحسا ... ن يوم فتجازيه ؟
قال: فزاد والله بكاؤه.
يا هاشمي ويا مولى ويا عربي

أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: أنبأنا محمد بن العباس الخزاز، قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري، قال: أنشدنا أبي، قال: أنشدنا أحمد بن عبيد النحوي، لمحمد بن أمية:
تتيه جهلاً بلا دين ولا حسب ... على ذوي الدين والأنساب والحسب
من هاشمٍ أنت بخٍ بخ وأنت غداً ... مولى وبعد غدٍ فرد من العرب
إن صح هذا فأنت الناس كلهم ... يا هاشمي ويا مولى ويا عربي
الخليفة المنتصر
وما كتب بالفارسية على البساطأخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: نبأنا محمد بن العباس الخزاز لفظاً، قال: نبأنا أحمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أحمد بن حبيب، قال: حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: جلس المنتصر في مجلس كان أمر أن يفرش له بفرش ديباج مثقل بالذهب، وكان في بعض البسط دائرة كبيرة فيها مثال فرس وعليه راكب، وعلى رأسه تاج، وحول الدائرة كتابة بالفارسية.
فلما جلس المنتصر، وجلس الندماء، وقف على رأسه وجوه الموالي والقواد، فنظر إلى تلك الدائرة، وإلى الكتاب الذي حولها، فقال لبغا: أيش هذا الكتاب ؟ فقال: لا أعلم يا سيدي.
فسأل من حضر من الندماء فلم يحسن أحد أن يقرأه.
فالتفت إلى وصيف وقال: أحضر لي من يقرأ هذا الكتاب، فأحضر رجلاً، فقرأ الكتاب فقطب.
فقال له المنتصر: ما هو ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، بعض حماقات الفرس .
فقال :أخبرني ما هو ؟ قال: يا أمير المؤمنين: ليس له معنى، ألح عليه وغضب.
قال: يقول :أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلت أبي، فلم أمتع بالملك، إلا ستة أشهر.
فتغير وجه المنتصر، وقام عن مجلسه إلى النساء، فلم يملك إلا ستة أشهر.
محمد بن الحسن يصرف ما ورثه من والده على تعلم العلمأخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني أبو عروبة، في كتابه إلي، قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو، قال: قال محمد بن الحسن: ترك أبي ثلاثين ألفاً درهم، فأنفقت خمسة عشر ألفاً، على النحو والشعر، وخمسة عشر ألف، على الحديث والفقه.
محمد بن الحسن والخليفة هارون الرشيدأخبرنا علي بن أبي علي، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني مكرم القاضي، قال: حدثني أحمد بن عطية، قال: سمعت أبا عبيد يقول: كنا مع محمد بن الحسن، إذ أقبل الرشيد، فقام إليه الناس كلهم، إلا محمد بن الحسن، فإنه لم يقم، وكان الحسن بن زياد ثقيل القلب، ممتلىء البطن على محمد بن الحسن، فقام، ودخل الناس من أصحاب الخليفة.
فأمهل الرشيد يسيراً، ثم خرج الآذن، فقال: محمد بن الحسن، فجزع أصحابه له، فأدخل، فأمهل، ثم خرج طيب النفس مسروراً.
فقال: قال لي: ما لك لم تقم مع الناس ؟ قلت: كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها، إنك أهلتني للعلم، فكرهت أن أخرج عنه إلى طبقة الخدمة التي هي خارجة عنه، وإن ابن عمك صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار، وإنما أراد بذلك العلماء، فمن قام بحق الخدمة، وإعزاز الملك، فهو هيبة للعدو، ومن قعد، اتبع السنة التي عنكم أخذت، فهو زين لكم.
قال: صدقت يا محمد.
ثم قال: إن عمر بن الخطاب صالح بني تغلب، على أن لا ينصروا أبناءهم، وقد نصروا أبناءهم، وحلت بذلك دماؤهم، فما ترى ؟ قال: قلت: إن عمر أمرهم بذلك، وقد نصروا أبناءهم بعد عمر، واحتمل ذلك عثمان، وابن عمك، وكان من العلم مالا خفاء به عليك، وجرت بذلك السنن، فهذا صلح من الخلفاء بعده، ولا شيء يلحقك في ذلك، وقد كشفت لك الحكم، ورأيك أعلى.
قال: لكنت نجريه على ما أجروه إن شاء الله، إن الله أمر نبيه بالمشورة، فكان يشاور في أمره، ثم يأتيه جبريل عليه السلام، بتوفيق الله، ولكن عليك بالدعاء لمن ولاه الله أمرك، ومر أصحابك بذلك، وقد أمرت لك بشيء تفرقه على أًحابه.
فخرج له مال كثير، ففرقه.
محمد بن الحسن ومالك بن أنسأخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: وجدت في كتاب جدي: حدثنا الحرمي بن أبي العلاء المكي، قال: نبأنا إسحاق بن محمد بن أبان النخعي، قال: حدثني هانىء بن صيفي، قال: حدثني مجاشع بن يوسف، قال: كنت بالمدينة عند مالك وهو يفي الناس، فدخل عليه محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة، وهو حدثٌ.

فقال: ما تقول في جنب لا يجد الماء إلا في المسجد ؟ فقال مالك: لا يدخل الجنب المسجد.
قال: فكيف يصنع، وقد حضرت الصلاة، وهو يرى الماء ؟ قال: فجعل مالك يكرر: لا يدخل الجنب المسجد.
فلما أكثر عليه، قال له مالك: فما تقول أنت في هذا ؟ فقال: يتيمم ويدخل، فيأخذ الماء من المسجد، ويخرج فيغتسل.
فقال: من أين أنت ؟ قال: من هذه، وأشار إلى الأرض.
فقال: ما من أهل المدينة أحد لا أعرفه.
فقال: ما أكثر من لا تعرف، ثم نهض.
فقالوا لمالك: هذا محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة.
فقال مالك: محمد بن الحسن، كيف يكذب، وقد ذكر أنه من أهل المدينة ؟ قالوا: إنما قال: من أهل هذه، وأشار إلى الأرض.
قال: هذا أشد علي من ذاك .
رأي الشافعي في محمد بن الحسنأخبرنا علي بن أبي علي، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن حبيش البغوي، قال: حدثني جعفر بن ياسين، قال: سمعت الربيع بن سليمان، يقول: وقف رجل على الشافعي، فسأله عن مسألة، فأجابه.
فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، خالفك الفقهاء.
فقال له الشافعي: وهل رأيت فقيهاً قط ؟ أللهم الا تكون رأيت محمد ابن الحسن، فإنه كان يملأ العين والقلب، وما رأيت مبدناً قط أذكى من محمد بن الحسن.
سفهني ولم أكن سفيهاً
أخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: أنبأنا إبراهيم بن أحمد بن محمد المقرىء، قال: نبأنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال: أخبرني أخي محمد بن الحسن بن علي بن مالك، قال: حدثني علي بن سهل بن المغيرة، قال: قلت لعفان بن مسلم: أين سمعت من عمر بن أبي زائدة ؟ قال: سمعت منه بالبصرة، قدم مخاصماً إلى سوار في ميراث كان له، فقال لسوار: تقضي لي بشاهد ويمين يا سوار ؟ فقال له سوار: ليس هذا مذهبي.
قال: فغضب عمر بن أبي زائدة، فهجا سواراً، فقال:
سفهني ولم أكن سفيهاً ... ولا بقوم سفهوا شبيها
لو كان هذا قاضياً فقيها ... لكان مثلي عنده وجيها
قال: فقضى له بشاهد ويمين.
محمد بن عبد الرحمن المخزومي قاضي مكةأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما توفي الواقدي، استقضى المأمون أبا عمر محمد بن عبد الرحمن المخزومي قاضي مكة، وهو رجل من أهل العلم، حسن الطريقة، فلم يلبث إلا يسيراً حتى عزله، وقد روي عنه الحديث.
قلت: وكانت ولايته أيضاً بعسكر المهدي من شرقي بغداد وذلك في سنة ثمان ومائتين.
ولما عزل، لحق بمكة فأقام بها إلى أيام المعتصم، وقدم بغداد وافداً عليه.
فأخبرنا ابن الفضل، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: شهدت محمد بن عبد الرحمن المخزومي القاضي، جاء إلى سليمان بن حرب، - وكان قد كتب إلى سليمان بن حرب، أن يقف على القضاء، يعني مكة - يسلم عليه ويودعه، ويخرج إلى بغداد.
فقال له سليمان: ما يخرجك ؟ قال :أذهب فأعزي أمير المؤمنين، يعني المعتصم، عن الماضي، وأهنيه فيما يستقبل.
فقال سليمان: ويحك إنما تخرج، لعل ابن أبي دؤاد يعمل لك في قضاء مكة، وهو لا يفعل، فإنه قد خرج ابن الحر فيستقضيه ليتخذه صنيعة يذكر به، وأنت لا تكون صنيعة له، أنت أجل من ذلك.
وخرج، فكان كما قال سليمان.
عليل يعاد فلا يوجدحدثني علي بن المحسن، قال: حدثنا أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي: انه اعتل فتأخر عن مجلس أبي عمر الزاهد.
قال: فسأل عني لما تراخت الأيام، فقيل له إنه كان عليلاً، فجاءني من الغد يعودني.
فاتفق أن كنت قد خرجت من داري إلى الحمام، فكتب بخطه على بابي باسفيداج:
وأعجب شيء سمعنا به ... عليلٌ يعاد فلا يوجد
لماذا سمي أبو محمد بن عبيد بالعسكريأخبرنا علي بن أبي علي، قال: سمعت أبا عبد الله الحسين بن محمد ابن عبيد العسكري يقول: كان أبي يشهد عند القضاة، وإنما سافر جدي إلى سر من رأى، فلما عاد، سمي العسكري.
قال: وأول ما شهد أبي عند إسماعيل القاضي.
وكان عمي يشهد، وأول ما شهد، عند عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك، ابن أبي الشوارب.
ان نعش نلتقي

أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثني الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان الفامي، قال: حدثنا محمد بن عبدك القزاز، وغيره، قال: اجتمعت مع زهير السامي، وتحدثنا، فلما أردت مفارقته، قلت: متى نلتقي ؟ فقال:
إن نعش نلتقي وإلا فما أش ... غل من مات عن جميع الأنام
لماذا سمي بالبياضسمعت القاضي أبا القاسم التنوخي، يسأل بعض ولد البياضي، عن سبب هذه التسمية، فقال: إن جدي حضر مع جماعة من العباسيين يوماً، فجلس الخليفة وكانوا كلهم قد لبسوا السواد، غير جدي، فإن لباسه كان بياضاً.
فلما رآه الخليفة، قال: من لك البياضي.
فثبت ذلك الاسم عليه، فلم يعرف بعد، إلا به.
القاضي ابن أبي موسىأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أبو عبد الله محمد بن عيسى المعروف بابن أبي موسى، من أهل العلم بمذهب أهل العراق، وأبوه كان أحد المتقدمين في هذا المذهب، وتلاه أبو عبد الله في التمسك به، والذب عنه، والكلام للمخالفين به، وكان له سمت، وحسن وقار تام، وكان ثقة عند الناس، مشهوراً بالصدق والفقر، حافظاُ لنفسه، لا مطعن عليه فيما يتولاه، وينظر فيه.
ذكر طلحة بن محمد بن جعفر فيما أخبرنا علي بن المحسن: أن ابن أبي موسى ولي الجانب الشرقي من بغداد، والكرخ من الجانب الغربي، ، في جمادى الآخرة من سنة تسع وعشرين، وأن المتقي لله صرفه.
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد، قال: استخلف المستكفي بالله في صفر سنة " 333 " ، وقلد الجانب الشرقي أبا عبد الله محمد بن عيسى المعروف بابن أبي موسى، فلم يزل والياً على الجانب الشرقي إلى ليلة السبت لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، فإن اللصوص كبسوه في داره فقتلوه، وأخذوا جميع ما كان له في منزله ولعياله، وقدروا أن عنده شيئاً له قدر، فوجدوه فقيراً، ودفن في يوم السبت.
فصوص زمرد في غلف درأنشدنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أنشدنا أبو الحسن محمد بن عمر الأبياري لنفسه في صفة الباقلاء الأخضر:
فصوص زمرد في غلف در ... باقماع حكت تقليم ظفر
وقد خلع الربيع لها ثياباٌ ... لها لونان من بيض وخضر
من شعر أبي العلاء المعريأنشدني القاضي أبو القاسم، علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدنا أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري لنفسه، يجيب أبا الخطاب الجبلي عن أبيات كان مدحه بها عند وروده معرة النعمان:
أشفقت من عبء البقاء وعابه ... ومللت من أري الزمان وصابه
ووجدت أحداث الليالي أولعت ... بأخي الندى تثنيه عن آرابه
وأرى أبا الخطاب نال من الحجى ... حظاً رواه الدهر عن خطابه
لا تطلبن كلامه متشبهاً ... فالدر ممتنع على طلابه
أثني وخاف من ارتحال ثنائه ... عني فقيد لفظه بكتابه
كلمٌ كنظم العقد يحسن تحته ... معناه حسن الماء تحت صبابه
فتشوفت شوقاً إلى نفحاته ... أفهامنا ورنت إلى آدابه
والنخل ما عكفت عليه طيوره ... إلا لما علمته من أرطابه
ردت لطافته ودحدة ذهنه ... وحش اللغات أوانساً بخطابه
والنحل يجني المر من نور الربى ... فتصير شهداً في طريق رضابه
عجب الأنام لطول همة ماجد ... أوفى به قصر وما أزري به
سهم الفتى أقصى مدى من سيفه ... والرمح يوم طعانه وضرابه
هجر العراق تطرباً وتغرباً ... ليفوز من سمط العلا بغرابه
والسمهرية ليس يشرف قدرها ... حتى يسافر لدنها من غابه
والعضب لا يشفى امرأً من ثأره ... إلا بعقد نجاده وقرابه
والله يرعى سرح كل فضيلةٍ ... حتى يروحه إلى أربابه
يا من له قلمٌ حكى في فعله ... أيم الغضا لولا سواد لعابه
عرفت جدودك إذ نطقت وطالما ... لفظ القطا فأبان عن أنسابه

وهززت أعطاف الملوك بمنطق ... رد المسن إلى اقتبال شبابه
ألبستني حلل القريض ووشيه ... متفضلاً فرفلت في أثوابه
وظلمت شعرك إذ حبوت رياضه ... رجلاً سواه من الورى أولى به
فأجاب عنه مقصراً عن شأوه ... إذ كان يعجز عن بلوغ ثوابه
تهجواحدثنا علي بن المحسن القاضي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الدوري الوراق، قال: حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري بالبصرة، قال: كان محمد بن عمران الضبي على اختيار القضاة للمعتز، فاجتمع إليه القضاة والفقهاء، الخصاف ونظراؤه من الفقهاء.
وكان الضبي قبل ذلك معلماً، فنعس، ثم رفع رأسه، فقال: تهجوا.
أبو هشام الرفاعي يقضي ببغدادحدثنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضي أبو هشام الرفاعي - يعني ببغداد - في سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وهو رجل من أهل القرآن، والعلم، والفقه، والحديث، وله كتا ب في القراءات، قرأ علينا ابن صاعد أكثره، وحدث بحديث كثير.
المبرد والقبعضأخبرني علي بن أبي علي البصري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجي، قال: حدثني أبو عبد الله المفجع، قال: كان المبرد لعظم حفظه اللغة، واتساعه فيها، يتهم بالكذب، فتواضعنا على مسألة لا أصل لها، نسأله عنها لننظر كيف يجيب.
وكنا قبل ذلك، قد تمارينا في عروض بيت الشاعر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
فقال بعضنا: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني، فقطعناه، وتردد على أفواهنا من تقطيعه قبعض.
فقلت له: أنبئنا، أيدك الله، ما القبعض عند العرب ؟ فقال المبرد: القطن، يصدق ذلك قول أعرابي:
كأن سنامها حشي القبعضا
قال: فقلت لأصحابي: هو ذا ترون الجواب والشاهد، إن كان صحيحاً فهو عجيب، وإن كان اختلق الجواب، وعمل الشاهد في الحال، فهو أعجب.
القاضي أبو عمرحدثنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد قال: أبو عمر محمد بن يوسف، من تصفح أخبار الناس، لم يخف عليه موضعه، وإذا بالغنا في وصفه كنا إلى التقصير فيما نذكره من ذلك أقرب.
ومن سعادة جده، أن المثل ضرب بعقله وحلمه، وانتشر على لسان الخطير والحقير ذكر فضله، حتى إن الإنسان كان إذا بالغ في وصف رجل، قال: كأنه أبو عمر القاضي، وإذا امتلأ الإنسان غيظاً، قال: لو أني أبو عمر القاضي ما صبرت.
سوى ما انضاف إلى ذلك من الجلالة والرياسة، والصبر على المكاره، واحتمال كل جريرة إن لحقته من عدوه، وغلط إن جرى من صديقه، وتعطفه بالإحسان إلى الكبير والصغير، واصطناع المعروف عند الداني والقاصي، ومداراته للنظير والتابع، ولم يزل على طول الزمان يزداد جلالة ونبلاً.
ثم استخلف لأبيه يوسف على القضاء بالجانب الشرقي، فكان يحكم بين أهل مدينة المنصور رياسة، وبين أهل الجانب الشرقي خلافة، إلى سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فإن أبا خازم توفي، وكان قاضياً على الكرخ، أعني الشرقية، فنقل أبو عمر عن مدينة المنصور إلى قضاء الشرقية، فكان على ذلك إلى سنة ست وتسعين ومائتين.
ثم صرف هو ووالده يوسف عن جميع ما كان إليهما، وتوفي والده سنة سبع وتسعين ومائتين، وما زال أبو عمر ملازماً لمنزله إلى سنة إحدى وثلثمائة، فإن أبا الحسن علي بن عيسى، تقلد الوزارة، فأشار على المقتدر به، فرضي عنه، وقلده الجانب الشرقي، والشرقية، وعدة نواح من السواد، والشام، والحرمين، واليمن، وغير ذلك.
وقلده القضاء سنة سبع عشرة وثلثمائة.
وحمل الناس عنه علماً واسعاً من الحديث، وكتب الفقه التي صنفها إسماعيل - يعني ابن إسحاق - وقطعة من التفسير، وعمل مسنداً كبيراً، قرأ أكثره على الناس.
ولم ير الناس في بغداد أحسن من مجلسه لما حدث، وذلك ان العلماء، وأصحاب الحديث، كانوا يتجملون بحضور مجلسه، حتى إنه كان يجلس للحديث، وعن يمينه أبو القاسم بن بنت منيع - وهو قريب من أبيه في السن والاسناد - وابن صاعد على يساره، وأبو بكر النيسابوري بين يديه، وسائر الحفاظ حول سريره.
وتوفي في شهر رمضان، سنة عشرين وثلثمائة، وله ثمان وسبعون سنة.
ثم أيش

حدثنا علي بن المحسن - من حفظه - قال: حدثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد الأسدي، قال: قال لي أبي: دخلت يوماً على القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، وبين يديه ابن ابنه أبو نصر، وقد ترعرع، فقال لي: يا أبا بكر:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعضادها
وجعلت أعلالها تعتادها ... فهي رروع قد دنا حصادها
فقلت: يبقي الله القاضي.
فقال: ثم أيش ؟
القاضي ابن البهلول التنوخي 1حدثنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، في تسمية قضاة بغداد، قال: أحمد بن إسحاق بن البهلول بن حسان بن سنان التنوخي، من أهل الأنبار، عظيم القدر، واسع الأدب، تام المروءة، حسن الفصاحة، حسن المعرفة بمذهب أهل العراق، ولكنه غلب عليه الأدب.
وكان لأبيه إسحاق مسند كبير حسن، وكان ثقة، وحمل الناس عن جماعة من أهل هذا البيت، منهم البهلول بن حسان، ثم ابنه إسحاق، ثم أولاد إسحاق، حدث منهم بهلول بن إسحاق، وحدث القاضي أحمد ابن إسحاق وابنه محمد، وحدث ابن أخي القاضي: داود بن الهيثم بن إسحاق، وكان أسن من عمه القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق، وأبو بكر يوسف بن يعقوب بن إسحاق الأزرق، وكان من جلة الكتاب.
ولم يزل أحمد بن إسحاق بن البهلول على قضاء المدينة من سنة ست وتسعين ومائتين إلى شهر ربيع الآخر من سنة ست عشرة وثلثمائة، ثم صرف .
القاضي ابن البهلول التنوخي 2أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: قال أبي: أحمد بن إسحاق بن البهلول ولد بالأنبار سنة إحدى وثلاثين ومائتين في المحرم، ومات ببغداد في شهر ربيع الآخر سنة سبع عشرة وثلثمائة.
وكان ثبتاً في الحديث، ثقة، مأموناً جيد الضبط لما حدث به، وكان متفنناً في علوم شتى، منها الفقه على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وربما خالفهم في مسيئلات يسيرة.
وكان تام العلم باللغة، حسن القيام بالنحو على مذهب الكوفيين، وله في كتاب ألفه.
وكان واسع الحفظ للشعر القديم، والمحدث، والأخبار الطوال، والسير، والتفسير.
وكان شاعراً كثير الشعر جداً، خطيباً حسن الخطابة والتفوه بالكلام، لسناً، صالح الحفظ، والترسل في المكاتبة، والبلاغة في المخاطبة.
وكان ورعاًُ، متخشناً في الحكم، وتقلد القضاء بالأنبار وهيت، وطريق الفرات، ومن قبل الموفق الناصر لدين الله، في سنة ست وسبعين ومائتين، ثم تقلده للناصر، دفعة أخرى، ثم تقلده للمعتضد، ثم تقلد بعض كور الجبل للمكتفي، سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ولم يخرج إليها، ثم قلده المقتدر في سنة ست وتسعين ومائتين، بعد فتنة ابن المعتز، القضاء بمدينة المنصور من مدينة السلام، وطسوجي قطربل ومسكن، والأنبار وهيت، وطريق الفرات، ثم أضاف له إلى ذلك بعد سنين، القضاء بكور الأهواز مجموعة، لما مات قاضيها إذ ذاك محمد بن خلف المعروف بوكيع، فما زال على هذه الأعمال، إلى أن صرف عنها في سنة سبع عشرة وثلاثمائة.
وأقبلت نحوك مستعجلاً
أخبرني علي بن المحسن، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: أنبأنا أبو الحسن بن حنش الكاتب، قال: دعا أبي جحظة في بعض الأيام، فلما حضر، ودخل الدار، وقعت عينه على أبي، فقال:
ولما أتاني منك الرسول ... تركت الذي كنت في دعوته
وأقبلت نحوك مستعجلاً ... كأني جوادك في سرعته
فيها خطي خذوه بألف ألفقال: قال: لنا جحظة: صك لي بعض الملوك بصك فترددت إلى الجهبذ في قبضه، فلما طالت مدافعته، كتبت إليه:
إذا كانت صلاتكم رقاعاً ... تخطط بالأنامل والأكف
ولم تجد الرقاع علي نفعاً ... فها خطي خذوه بألف ألف
بين جحظة وصاحب النشوارقال: وشرب أبي دواء، فكتب إليه جحظة، يسأله عن حاله، رقعة، كان فيها:
أبن لي كيف أمسيت ... وما كان من الحال
وكم سارت بك الناقة ... نحو المنزل الخالي
أبو الحجاج الأعرابي يهجوا ابن أبي دؤادأخبرني علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا محمد بن عمران بن موسى، قال: حدثنا علي بن سليمان الأخفش، قال: أنشدني أبو العباس ثعلب، قال: أنشدني أبو الحجاج الأعرابي:

نكست الدين با ابن أبي دؤاد ... فأصبح من أطاعك في ارتداد
زعمت كلام ربك كان خلقاً ... أما لك عند ربك من معاد
كلام الله أنزله بعلمٍ ... وأنزله على خير العباد
ومن أمسى ببابك مستضيفاً ... كمن حل الفلاة بغير زاد
لقد أطرفت يا ابن أبي دؤادٍ ... بقولك إنني رجلٌ أيادي
القاضي أبو الحسن بن الخرقيأخبرني علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: قلد المتقي بغداد بأسرها، الجانب الشرقي، ومدينة المنصور، والكرخ، أبا الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقي، مضافاً إلى ما كان قلده قبل الحضرة، من القضاء بمصر، والمغرب، والرملة، والبصرة وواسط، وكور دجلة، وقطعة من السواد، وخلع عليه في سنة ثلاثين وثلثمائة.
وكان هذا، رجلاً من وجوه التجار البزازين بباب الطاق، هو، وأبوه، وعمومته، وكانوا يشهدون عند القضاة، بتمكنهم من خدمة زيدان، قهرمانة المقتدر، ومعاملتهم لها، واتصلت معاملة أحمد بن عبد الله بعد المقتدر، بحاشيته، وولده.
وكان المتقي يرعى له خدمته في حياة أبيه، وبعد ذلك، فلما أفضت الخلافة إليه، أحب أن ينوه باسمه، ويبلغه إلى حال لم يبلغها أحد من أهله، فقلده القضاء، ولم تكن له خدمة للعلم، ولا مجالسة لأهله.
فعجب الناس لذلك، وقدروا أن سيستعمل الكفاة على هذه الأمور العظام، فلم يفعل ذلك، ونظر في الأمور بنفسه، فظهرت من رجلة وكفاية، وجرت أحكامه وقضاياه على طريق صالحة، وبان من عفته، وتنزه نفسه، وارتفاعها عن الدنس، ما تمكنت بها حاله من نفوس الناس، ورضى مكانه أهل الجلالة والخطر، ولم يتعلق عليه بشيء، وارتفعت عنه الكلفة، ولم يلحقه عتب في أيامه.
قال علي بن المحسن: وذكر طلحة: إنه خرج إلى الشام بعد سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، فمات هناك.
سر إن سطعت في الهواء رويداً
أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن، قال: أنشدنا أبو العلاء المعري، لنفسه يرثي بعض أقاربه:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوح باكٍ ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قي ... س بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غن ... ت على فرع غصنها المياد
صاح هذه قبورنا تملأ الأر ... ض فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأر ... ض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه ... د هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعت في الهواء رويداً ... لا اختيالاً على رفات العباد
رب لحدٍ قد صار لحداً مراراً ... ضاحكاً من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفينٍ ... في طويل الأزمان والآباد
فاسأل الفرقدين عمن أحسا ... من قبيلٍ وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهارٍ ... وأنارا لمدلجٍ في سواد
تعبٌ كلها الحياة فما أع ... جب إلا من راغبٍ في ازدياد
إن حزناً في ساعة الموت أضعا ... ف سرورٍ في ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاء فضلت ... أمةٌ يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعمال ... إلى دار شقوةٍ أو رشاد
والقصيدة طويلة.
شعر البتي يكتب على التككحدثني التنوخي، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن علي البتي، قال: أمرني بهاء الدولة أن أكتب أبياتاً يكتبها بعض الجواري على تكة إبريسم، فكتبت:
لم لا أتيه ومضجعي ... بين الروادف والخصور
وإذا نسجت فإنني ... بين الترائب والنحور
ولقد نشأت صغيرة ... بأكف ربات الخدور
البتي يصف الفقاعأنشدني التنوخي، قال: أنشدني البتي لنفسه، يصف الفقاع:
يا رب ثدي مصصته بكراً ... وقد عراني خمار مغبوق
له هدير إذا شربت به ... مثل هدير الفحول في النوق
كأن ترجيعه إذا رشف ال ... راشف فيه صياح مخنوق
إخوانيات

حدثني علي بن المحسن التنوخي، قال: قرأت في كتاب من أبي الحسين أحمد بن محمد بن جعلان ،إلى أبي جواباً في المكاتبات القديمة: وقرآت الأبيات التي تجري مجرى الدر المنظوم، والماء المسجوم، وكنت في الحال كما قال الشاعر:
يكل لساني عن مديحك بالعشر ... وأعجز أن أجزي صنيعك بالشكر
فإن قلت شعراً كنت فيه مقصراً ... وإن رمت شكراً تهت فيه فما أدري
على أن ما تولي وتسدي وتبتدي ... كقدرك، والنقصان مني على قدري
وقد تكلفت ما ليس من عملي، وكنت كجالب التمر إلى هجر، والمتفاصح على أهل الوبر، وقلت:
يا كاتباً أهدى إلي كتابه ... طرفاً يحار الطرف في أثنائها
كالدر أشرق في سموط عقوده ... والزهرة الزهراء غب سمائها
فأفادني جذلاً وبالي كاسفٌ ... وأجار نفسي من جوى برحائها
وحسبت أيام الشباب رجعن لي ... فلبست حلي جمالها وبهائها
لا يعدم الإخوان منك محاسناً ... كل المحاسن قطرة من مائها
القاضي أحمد بن محمد بن سماعةأخبرني علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما توفي الحسن بن علي بن الجعد، استقضي على مدينة المنصور، أحمد بن محمد بن سماعة.
وهذا الرجل من أهل الدين والعلم، قريب الشبه بأبيه، عفيف في نفسه.
وصرف من مدينة المنصور، سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
أبو العباس بن عقدة الكوفي المحدثحدثنا علي بن أبي علي البصري، عن ابيه، قال: سمعت أبا الطيب، أحمد بن الحسن بن هرثمة، يقول: كنا بحضرة أبي العباس بن عقدة الكوفي المحدث، نكتب عنه، وفي المجلس، رجل هاشمي إلى جانبه، فجرى حديث حفاظ الحديث.
فقال أبو العباس: أنا أجيب في ثلثمائة ألف حديث، من حديث أهل بيت هذا، سوى غيرهم، وضرب بيده على الهاشمي.
محدث يحفظ ستمائة ألف حديثحدثنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، من حفظه، قال: سمعت أبا الحسن، محمد بن عمر العلوي، يقول: كانت الرئاسة بالكوفة في بني الفدان، قبلنا، ثم فشت رئاسة بني عبيد الله، فعزم أبي على قتالهم، وجمع الجموع، فدخل إليه أبو العباس بن عقدة، وقد جمع جزءاً فيه ست وثلاثون ورقة، فيها حديث كثير، لا أحفظ قدره، في صلة الرحم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أهل البيت، وعن أصحاب الحديث، فاستعظم أبي ذلك، واستكثره.
فقال له: يا أبا العباس، بلغني من حفظك للحديث ما استنكرته واستكثرته، فكم تحفظ ؟ فقال له :أنا أحفظ منسقاً من الحديث، بالأسانيد، والمتون، خمسين ومائتي ألف حديث، وأذاكر بالأسانيد، وبعض المنون، والمراسيل، والمقاطيع ستمائة ألف حديث.
القاضي أحمد بن محمد بن عيسى البرتيأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: مات أبو هاشم سنة تسع وأربعين ومائتين، فاستقضي أحمد بن محمد ابن عيسى البرتي، وكان رجلاً من خيار المسلمين، ديناً عفيفاً، على مذهب أهل العراق، وكان من أصحاب يحيى بن أكثم.
وكان قبل ذلك تقلد واسطاً، وقطعة من أعمال السواد، وروى كتب محمد بن الحسن، عن أبي سليمان الجوزجاني، عن محمد بن الحسن، وحدث بحديث كثير.
القاضي أبو بشر الهرويحدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أبو بشر أحمد بن محمد بن محمد الهروي فقيه على مذهب الشافعي، وكان يخدم أمير المؤمنين القادر بالله، قبل الخلافة، ودرس عليه مذهب الشافعي.
وروى أبو بشر حديثاً كثيراً، وأخباراً، وآداباً، وأشعاراً، وكتباً مصنفة، ومولده بهراة سنة ثمان وعشرين وثلثمائة.
وكان يعرف بالعالم، وتقلد الحسبة بجانبي مدينة السلام، وتقلد قضاء طسوجي مسكن وقطربل، وبلاد أذربيجان.
وتوفي في يوم الثلاثاء السابع عشر من ربيع الأول سنة خمس وثمانين وثلثمائة.
شيخ القراء أبو بكر بن مجاهد، يغنيحدثني علي بن أبي علي البصري، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم القاضي، قال: حدثني أبو بكر بن الجعابي، قال: كنا يوماً عند أبي بكر بن مجاهد في مسجده، فأتاه بعض غلمانه، فقال له: يا أستاذ إن رأيت أن تجملني بحضورك غداً دارنا.
فقال له أبو بكر: ومن معنا ؟

فقال له: أصحابنا المسجدية، ومن يرى الشيخ.
فقال أبو بكر: ينبغي أن تدعو أبا بكر - يعنيني - فأقبل الفتى علي يسألني.
فقلت له: هوذا تطفل بي ؟ لو أرادني الرجل لأفردني بالسؤال.
فقال: دع هذا يا بغيض.
فقلت له: السمع والطاعة.
فقال لي الرجل: إن الأستاذ قد آثرك، فمن تؤثر أن أدعو لك ؟ فقلت له: الحسين بن غريب.
قال: السمع والطاعة، ونهض الفتى.
فلما كان من الغد، وافى إلى مسجد أبي بكر، فسألنا النهوض معه إلى منزله.
فقال أبو بكر لأصحابه: قوموا، وامضوا متقطعين، وخالفوا الطرق، ففعلوا.
ثم أقبل على الفتى، فقال له: اسبقنا، فإني أنا وأوب بكر نجيئك.
فقلت أنا له: أيش عملت في إحضار ابن غريب ؟ فقال لي: قد أخذت الوعد عليه من أمس، وأنا أنفذ إليه رسولاً ثانياً، ومضى، وجلس أبو بكر، ففرغ من شغيلات له.
ثم إنا نهضنا جميعاً، وعبرنا إلى الجانب الغربي، وصعدنا درب النخلة، وكانت دار الفتى فيه، فوجدناه مترقباً لنا.
فدخلنا، فدعا بما، فغسلنا أيدينا، ثم أتى بجونة، فوضعها بين أيدينا .
فقلت في نفسي: ما أزرى مروءة هذا الفتى، أيش في الجونة، مما يطعمنا ؟ ففتحها، فإذا فيها بزماورد، وأوساط، ولفات، وسنبوسج، فأكلنا أكلاً عظيماً مفرطاً، والجونة على حالها، وما فيها من هذا الطعام على غاية الكثرة والوفرة.
وشلنا أيدينا، فاستدعى الحلوى، فأتى بفالوذج غرف، حار، بماء ورد، على مائدة كبيرة، فأكثرنا منه، فعجبت من ظرف طعامه، ونظافته، وطيبه، وحسنه، وتمام مروءته، من غير إجحاف، ولا إسراف، وغسلنا أيدينا.
فقلت له: أين ابن غريب ؟ فقال لي: عند بعض الرؤساء، وقد حال بيننا وبينه.
فشق علي، وتبين أبو بكر بن مجاهد ذلك مني، فقال لي: هاهنا من ينوب عن ابن غريب.
فتحدثنا ساعة، فقلت له: لا أرى للنائب عن ابن غريب خبراً، ولا أثراً، فدافعني.
فصبرت ساعة، ثم كررت الخطاب عليه، وألححت، ولست أعلم من هو النائب بالحقيقة عن ابن غريب.
فقال للفتى: هات قضيباً، فأتاه به.
فأخذه أبو بكر، ووقع، واندفع يغني، فغناني نيفاً وأربعين صوتاً، في غاية الحسن، والطيبة، والاطراب، فأشجاني، وحيرني.
فقلت له: يا أستاذ متى تعلمت هذا ؟ وكيف تعلمته ؟ فقال: يا بارد تعلمته لبغيض مثلك، لا يحضر الدعوة إلا بمغن.
ومضى لنا يوم طيب معه.
القاضي أحمد بن يحيى بن أبي يوسفأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن يحيى بن محمد بن جعفر قال: استقضي أحمد بن يحيى بن أبي يوسف القاضي، في سنة أربع وخمسين ومائتين، وكان متوسطاً في أمره، شديد المحبة للدنيا، وكان صالح الفقه على مذهب أهل العراق، ولا أعلمه حدث بشيء، ثم عزل، واستقضي ثانية، وعزل، وولي الأهواز، ثم وجه به إلى خراسان، فمات بالري.
الصديق لا يحاسبأخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أخبرنا أبو الحسن منصور ابن محمد بن منصور الحربي، قال: سمعت أبا محمد الزهري، يقول: كان لثعلب عزاء ببعض أهله، فتأخرت عنه، لأنه خفي عني، ثم قصدته معتذراً.
فقال لي: يا أبا محمد ما بك حاجة إلى أن تتكلف عذراً، فإن الصديق لا يحاسب، والعدو لا يحتسب له.
صبرك على أذى من تعرف خير
من استحداث ما لا تعرفحدثني علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا منصور بن محمد الحربي، قال: سمعت أبا محمد عبد الرحمن بن محمد الزهري، يقول: كانت بيني وبين أبي العباس ثعلب، مودة وكيدة، وكنت أستشيره في أموري.
فجئته يوماً أشاوره في الانتقال من محلة إلى أخرى، لتأذي بالجوار، فقال لي: يا أبا محمد، العرب تقول: صبرك على أذى من تعرف، خير لك من استحداث ما لا تعرف.
عبد الحميد الكاتب وتجويد الخطأخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال: حدثنا علي بن سليمان الأخفش، قال: قال أحمد بن يوسف الكاتب: رآني عبد الحميد بن يحيى، أكتب خطاً رديئاً، فقال لي: إن أردت أن يجود خطك، فأطل جلفتك وأسمنها، وحرف قطتك، وأيمنها، ثم قال:
إذا حرج الكتاب كان قيسهم ... دوياً وأقلام الدوي لهم نبلا
قال الأخفش: قوله جلفتك: أراد فتحة رأس القلم.
أبو الحسن بن الأزرق التنوخي

قال لي علي بن المحسن: ولد أبو الحسن بن الأزرق ببغداد في المحرم لعشر خلون منه من سنة سبع وتسعين ومائتين، سمعته يذكر ذلك، وحمل عن جماعة من أهل الأدب، منهم علي بن سليمان الخفش، وابن دريد، وابن شقير النحوي، ونفطويه، وكان حافظاً للقرآن، قرأه كله مراراً على ابن مجاهد بقرأة أبي عمرو بن العلاء، وأخذ شيئاً من النحو عن أبي بكر بن السراج، وأبي إسحاق الزجاج، وحمل قطعة من اللغة والنحو عن ابن الأنباري، ونفطويه، وقرأ الكلام والأصول على أبي بكر بن الإخشيد، ثم على أبي هاشم الجبائي، ودرس من الفقه قطعة على أبي الحسن الكرخي، ومات يوم الجمعة لست وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة سبع وسبعين وثلثمائة، وكان منزله بالجانب الشرقي من مدينة السلام، بقرب باب البستان.
أبو بكر بن المرزبان يعاتب
جد أبي عمر بن حيويهأخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: كتب أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان إلى جدي يعاتبه:
أجميلٌ بالمرء يخلف وعدا ... أو يجازي الوصول بالقرب بعدا
ما مللناك إذا مللت ولم ننف ... ك نزداد مذ عقلناك ودا
فعلام استحق هجرك من لي ... س يرى منك يا ابن حيويه بدا
يحفظ العهد حين نقضك للعه ... د ويأتي الذي تحب مجدا
يا أبا بكرٍ بن يحيى نداءً ... من أخٍ لم تزل لديه مفدى
لك مذ دام صرف وجهك أيا ... مٌ طوالٌ أعدها لك عدا
وتناسيت ما سألت وقد أسلف ... ت فيما سألت مدحاً وحمدا
خاطباً كنك دعوةً واستماعاً ... لفظ من لا نرى له الدهر ندا
فتناهى إلي أمس حديثٌ ... كاد يقضي علي حزناً ووجدا
زعموا أن أحمد الخير ما زا ... ل لديكم يشدو ثلاثاً ويشدى
فلماذا جفوتنا بعد وصل ... ونقضت العهود عهداً فعهدا
ألبخلٍ عراك ؟ فالبخل قد كا ... ن إلى راحتيك لا يتهدى
أو ملالٍ، فليس مثلك من م ... ل أخاً لا يحل في الحب عقدا
دائم الود لا يصد ولو جا ... ر عليه خليله وتعدى
فاعطف الوصل نحو من منح الوص ... ل وراجع فالوصل أولى وأجدى
أي شيء أنكى لقلب محبٍ ... حال منه نحس المطالع سعدا
أدرك الحاسد الشمات وقد كا ... ن قديماً لهجرنا يتصدى
طالما يبتغي القطيعة بالحي ... لة بيني وبينكم ليس يهدي
لو تراه لخلته نال ما أم ... ل يختال لاهياً يتقدى
أنت أعطيته أمانيه جوراً ... وزماناً كان في ذاك أكدى
فاستمع ما أقول إني وعهد الل ... ه أهوى استماع أحمد جدا
واقتراحي بعد انبساطي إليه ... تلك هند تصد للهجر صدا
ابن سيرين يحبس في الدينأخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا المدائني، قال: كان سبب حبس ابن سيرين في الدين، أنه اشترى زيتاً بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة، فقال: الفأرة كانت في المعصرة، فصب الزيت كله.
وكان يقول: عيرت رجلاً بشيء منذ ثلاثين سنة، أحسبني عوقبت به، وكانوا يرون أنه عير رجلاً بالفقر، فابتلي به.
عضد الدولة يذم أهل بغدادحدثني علي بن أبي علي البصري، قال: سمعت أبي يقول: قال عضد الدولة يوماً، وأنا حاضر وقد جرى ذكر أهل بغداد، وكان يذمهم كثيراً ويثلبهم: ما وقعت عيني في هذا البلد، على أحد يستحق التفضيل، أو أن يسمى برجل، غير نفسين، ولما ميزتهما، علمت أنهما ليسا من أهل بغداد.
قال أبي: فتشوفت لمعرفتهما، ولم أسأله عنهما، وبان له ذلك في وجهي.
فقال: أما أحدهما، وأولاهما بالتفضيل، فأبو الحسن بن أم شيبان، والآخر محمد بن عمر - يعني العلوي - وهما كوفيان.
سفيان الثوري يعاتب


ابن علاثة على ولايته القضاءأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني عبد الباقي بن قانع، قال: حدثني بعض شيوخنا، قال: استأذن ابن علاثة، على سفيان الثوري بعد أن ولي القضاء، فدخل عمار بن محمد، ابن أخت سفيان، يستأذن له على سفيان، فلم يأذن له، وكان سفيان يعجن كسباً للشاة، فلم يزل به عمار حتى أذن له.
فدخل ابن علاثة، فلم يحول سفيان وجهه إليه، ثم قال له: يا ابن علاثة، ألهذا كتبت العلم ؟ لو اشتريت صيراً بدرهم - يعني سميكاً - ثم درت في سكك الكوفة، لكان خيراً من هذا.
جاء الرسول ببشرى منك تطمعنيأخبرني علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم الأزدي، الكاتب، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: أنشدني أحمد بن صدقة، لأبي الشيص:
جاء الرسول ببشرى منك تطمعني ... فكان أكبر ظني أنه وهما
فلما فرحت ولكن زادني حزناً ... علمي بأن رسولي لم يكن فهما
كم من سريرة حب قد خلوت بها ... ودمعة تملأ القرطاس والقلما
لا ينقص الكامل من كماله
ما جر من نفع إلى عيالهأخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: رأى رجل محمد بن كناسة، يحمل بيده بطن شاة، فقال له: أنا، أحمله لك، فقال:
لا ينقص الكامل من كماله ... ما جر من نفع إلى عياله
على الباغي تدور الدوائرذكر القاضي التنوخي، في كتابه نشوار المحاضرة، قال: حدثني إبراهيم النصيبي، عن جار له يقال له، أبو القاسم الصفار، قال: خرجت من نصيبين، بسيف نفيس، كنت ورثته عن أبي، وقصدت العباس بن عمرو، أمير ربيعة، لأهدية له، وهو في رأس العين.
فصحبني شيخ من شيوخ الأعراب، وسألني عن خبري، فأخبرته، وقد كنا قريبين من رأس العين، فدخلناها وافترقنا.
وكان يأتيني ويراعيني، ويظهر لي البر، ويسألني عن حالي، فأخبرته أن الأمير قبل هديتي، وأعطاني ألف درهم وثياباً، وأني أريد الخروج يوم كذا وكذا، فمضى.
فلما كان ذلك اليوم، خرجت من الدار، راكباً حماراً، فلما صرت في الصحراء، إذ أنا بالشيخ راكباً دويبة ضعيفة، متقلداً سيفاً.
فلما رأيته استربت به، وأنكرت وجهه، وأيقنت بالشر في عينيه، فقلت: ما تصنع ها هنا.
فقال: قضيت حوائجي، وأريد الخروج صحبتك، وصحبتك عندي آثر من صحبة غيرك.
فقلت: على اسم الله.
فمضينا، وهو يجتهد أن آنس به، وأدنو منه، وكلما دنا مني، تباعدت عنه، إلى أن سرنا شيئاً كثيراً من الطريق، وليس معنا ثالث، إلا الله تعالى ؛ فقصر عني، فحثثت حماري لأفوته، فما أحسست إلا بركضه في إثري، فالتفت، وإذا هو قد جرد سيفه، وقصدني، فرميت بنفسي عن الحمار، وعدوت.
فلما خاف أن أفوته صاح: يا أبا القاسم، إنما مزحت معك.
فلم ألتفت إليه، فضرب دابته، وزاد في الجري، ولاح لي ناووس، فقصدته، وقد كاد الأعرابي أن يلحقني، فلما دخلت الناووس، وقفت وراء بابه.
قال: ومن صفة هذا الناووس، أنه مبني بحجارة، وباب هذا الناووس حجر واحد عظيم، قد نقر، وحفف، فلا تستمكن اليد منه، وله من خارج الباب حلقة، وليس من داخله شيء تلزم به اليد، وإنما يدفع من خارجه، فينفتح، فيدخل إليه، فإذا خرجت، وجذبت الحلقة، انغلق الباب، وتمكن الذي يكون من خارجه.
فاختبأت وراء باب الناووس، فجاء الأعرابي، فشد دابته في حلقة الباب، ودخل يطلبني في الناووس، وكان مظلماً، فلم يرني، ومشى إلى داخل، فخرجت من خلف الباب، وجذبت الحلقة، حتى صار مغلقاً، فرأى الموت عياناً.
فصاح من الناووس: يا أبا القاسم، اتق الله، فإني تالف لا محالة.
فقلت: تتلف أنت، أهون من أن أتلف أنا.
قال: أخرجني، وأنا أعطيك أماناً، واستوثق لك بالأيمان، إني لا أتعرض لك بسوء، واذكر الحرمة.
فقلت: أنت لم ترعها، وأيمانك كاذبة فاجرة، لا أثق بها.
وأخذ يكرر هذا، فقلت: لا تهذ، فإني أركب الآن دابتك، وأجنب حماري، والوعد بيننا بعد أيام ها هنا، فلا تبرح حتى أجيء، وإن احتجت إلى طعام، فعليك بجيف العلوج، فنعم الطعام لك.
قال: فأخذ يبكي، ويستغيث، ويصيح: قتلتني، والله.

فقلت: إلى لعنة الله.
فركبت دابته، وجنبت حماري، فوجدت على دابته خرجاً فيه ثيابه، فأتيت نصيبين، فبعت ثيابه ودابته، وكتمت أمري.
فلما كان بعد شهور، عرض لي المسير إلى رأس العين، فخرجت إلى تلك الطريق، وبد لي ذلك الناووس، فقصدته، ودخلته، فإذا بالأعرابي صار عظاماً نخرة، فحمدت الله على سلامتي، وهلاكه.
فحركته برجلي، وقلت على سبيل العبث: كيف خبرك يا فلان ؟ فإذا بشيء يتخشخش تحت رجلي، فمسسته، فإذا هو هميان، فأخذته، وأخذت سيفه، وخرجت من الناووس، وفتحت الهميان، فإذا فيه خمسمائة درهم، وبعت السيف بمائة درهم.
من يعمل مثقال ذرة خيراً يره
روى القاضي التنوخي أيضاً، في كتابه نشوار المحاضرة، عن شخص أنه قال: كان لأبي مملوك يقال له مقبل، فهرب منا، ولم نعرف له خبراً منذ سنين كثيرة.
ثم تغربت عن بلدي، ووقعت إلى نصيبين، وأنا إذ ذاك شاب، ما نبتت لحيتي.
فأنا ذات يوم مجتاز، وفي كمي منديل مملوء دراهم، وأنا في سوق نصيبين، إذ رأيت غلامنا مقبل.
فحين رآني، بش بي، وفرح، وأظهر سروراً عظيماً، وأقبل يسألني عن أبي وأهلنا، فأعرفه موت من مات، وخبر من بقي.
ثم قال لي: يا سيدي متى دخلت إلى هاهنا، وفي أي شيء ؟ فعرفته، فأخذ يعتذر من هربه منا، ثم قال: أنا مستوطن هنا وأنت مجتاز وقال: يا سيدي، تجيء إلى دعوتي اليوم ؟ فإني أحضر لك نبيذاً طيباً، وغناء حسناً.
فقلت: نعم.
فمشى قدامي، ومشيت خلفه، وطال الطريق علي، وأنا أقول له: ويحك أين بيتك ؟ فيقرب علي المدى.
حتى بلغ آخر نصيبين، في درب خراب يقارب الصحراء، فدق باباً، فخرج رجل، ففتح الباب، فدخل، ودخلت.
فحين حصلت في الدهليز، ردم الباب، واستوثق منه، فأنكرت ذلك، ودخلت، فإذا أنا بثلاثين رجلاً، بسلاح، بلا بارية ولا غيرها، وإذا هم لصوص، وهو عين لهم، فأيقنت بالبلية والشر.
فقام إلي واحد منهم، وقال: انزع ثيابك.
فطرحت ما كان علي، إلا السراويل، فجاءوا ليأخذونه، فسألتهم في ذلك، فتركوه.
وحلوا منديل كمي، وأخرجوا ثلاثين درهماً، وقالوا لمقبل: امض، فخذ لنا شيئاً نأكله.
فتقدم مقبل، فسار أحدهم، وهو رئيسهم.
فقال له ذاك: إنه لا بد من قتله، فجئنا بما نأكله، فإذا جئتنا به قتلناه.
فعلمت أن مقبلاً، أشار عليهم بقتلي، فطارت روحي جزعاً.
وقال لهم الغلام: لا أمضي أو تقتلوه.
فقلت لهم: يا قوم، أيش ذنبي ؟ ولم أقتل ؟ قد أخذتم مالي وثيابي، دعوني أروح.
ثم قلت له: يا مقبل، هذا من حقي علسيك، وحق أبي، ويحك، ألا ترحمني ؟ قال: فكاشفني، وقال للقوم: إنكم إن لم تقتلوه، وإلا يخرج ينبه عليكم السلطان، فيقتلكم كلكم.
قال: فجذبني واحد منهم، واستل سيفه، وسحبني من صدر الدرار التي كانوا فيها، إلى البالوعة ليذبحني عليها.
فوقعت عيني على غلام منهم، كان علي قدر سني، فقلت له: ارحمني، فأنت غلام مثلي، وإن خلصتني من يد هؤلاء، أجرت بي، فاستدفع البلاء من الله تعالى، بخلاصي.
قال: وبكيت، وبقيت أحلف لهم، إني لا أنبه عليهم أبداً، ولا أتكلم إن تركوني.
قال: فألهم الله عز وجل، ذلك الفتى، أن طرح نفسه علي، وقال: والله، لا يقتل وأنا حي، فإما قتلتموني قبله، وإلا فلا تقتلوه.
قال: وتعصب له أستاذه، وقال: غلامي أجاره، فلا تقتلوه.
فشتموه، وشتموا غلامه، وتعصب لهما جماعة، وجاءوا فأخذوني من البالوعة، وقد كاد الرجل يذبحني، فأجلسوني في صدر صفة، وجلسوا حولي، وشتموا ذلك الغلام، ومنعوا الباقين عني.
وقالوا: نحن جياع، فأتونا بشيء نأكله، وقتل هذا لا يفوت.
فقال الباقون: القول ما قالوا :، فكفوا عني.
ومضى، فاشترى خمسين رأساً، وخبزاً كثيراً، وجبناً، وزيتوناً، وجاءهم به، فجلسوا يأكلون، وأنا أتخوف أن يتغافلني منهم إنسان، فيقتلني.
فقلت لذلك الفتى، فترك الأكل، وجلس هو وأستاذه يحفظاني، إلى أن أكلت الجماعة، ووكلا بي قوماً من أصحابهم ممن أكل، وجلسا يأكلان.
واستدعياني للأكل معهما، فأردت إيجاب الذمام عليهما، فأكلت معهما أكل معرض، لقمة واحدة، أو لقمتين، بلا شهوة ولا عقل.
فقال لهم: الآن أكلتم، وترك هذا خطأ، فاقتلوه.

فعاد الكلام في قتلي، وأقبل أولئك يمنعون، وتزايد الأمر إلى أن جرد بعضهم السيوف على بعض، وجعلني أولئك وراءهم، واقبلوا يجادلون عني، وأولئك ينخسوني من خلفهم بأطراف السيوف، وأنا أروغ خوفاً من أن يصل إلي بعض ذلك، فيقتلني، وأنا أحلف لهم أني إن سلمت لم أنبه عليهم، إلى أن كادوا يتجارحون.
ودخل بعضهم بينهم، وقالوا: لا يكون هذا ميشوماً عليكم، فدعوه.
فتوافقوا على الكف عني، وجلسوا يشربون، فلما أرادوا أن يخرجوا، قالوا: يتوكل به من يتعصب له، حتى نخرج نحن، فإن صاح، بلي به من خلصه.
فقال لي الفتى وأستاذه: قد سمعت يا فتى، فلا تكافنا على الجميل بقيبح.
فحلفت لهم بالله، أني لا أنبه عليهم، فخرجت الجماعة، إلا الغلام وأستاذه، فلما بعدت الجماعة، خرج النفسان.
فما كان لي همة، إلا غلق الباب وراءهما، وترسه، ووقعت مغشياً علي، وذهب عقلي عني إلى قريب من نصف الليل، فأفقت وقد لحقني البرد، فلم أزل أرتعد فزعاً وبرداً، إلى وجه السحر، وسمعت صوت الدبادب، فخرجت عرياناً، حتى أتيت إلى بيتي.
وآليت على نفسي، أن لا أمضي إلى موضع لا أخبره، ولا مع من لا أعرف باطنه، وحمدت الله على العافية.
عاقبة البغيروى القاضي التنوخي، في كتابه أخبار المذاكرة، ونشوار المحاضرة، عن عبيد الله بن محمد الخفاف، قال: حدثني أبي، قال: حدثني صديق لي من أولاد الجند، قال: كنت مجتازاً يوماً في الكرخ ببغداد، فرأيت امرأة لم أر أحسن منها قط، فوقفت أنظر إليها، وإذا بها قد ولت، وإذا بعجوز معها قد جاءتني، فمازحتني عنها، وقالت: تقولك لك: تجيء في دعوتي ؟ فقلت: لا يمكنني أن أمضي مع أحد، ولكن تجيء في دعوتي أنا.
فقالت: لا، بل تجيء أنت.
فحملني فرط شهوتي لها أن مضيت معها، إلى أن حصلنا في طرف من أطراف بغداد، ووافت إلى الباب فدقته.
فقالوا: ما هذا ؟ فقالت: أنا، صيد.
فحين قالت ذلك، وجب قلبي، فوليت.
فقالت: إلى أين يا فتى، ما بدا لك منا ؟ فقلت: خير، ودخلت البيت، فإذا بدار فارغة، قليلة الآلات جداً، وإذا بجارية سوداء قد جاءت بطشت وماء، فغسلت وجهي، ورجلي، واسترحت، وجاءوني بطعام غير نظيف، فأكلت منه لفرط الجوع.
وخرجت الجارية، وإذا هي من أحسن النساء وجهاً، وجاءوني بنبيذ، فجلست أشرب، وهي معي .
فأهويت إليها، فمكنتني من عناقها، فلما تجاوزت ذلك، قالت: أنا لا أدخل في حرام، واصبر حتى يجيء من يزوجني بك.
وجاءت المغرب، وصار الوقت بين الصلاتين، وإذا بالباب يدق.
فقالت: ويه، ويه.
فقلت لها: ما الخبر ؟ فقالت: قد جاء أخي وغلامه، وإن رآك لم آمن عليك، قم إلى ذلك البيت فاختبئ فيه، حتى إذا ناموا جئتك.
فأدخلتني بيتاً، فلما حصلت فيه، زرفنت بابه، فأيقنت أني مقتول، وأن ذلك لغرض كان في ثيابي ومالي، فتبت إلى الله من الحرام، وعاهدته إن خلصني، أن لا أدخل في شيء من ذلك.
قال: وأقبلت أسمع ما يجري من خلف الباب، فإذا بالداخل غلام أسود، لم أر قط أهول منه خلقة، ولا أعظم، وهو يقبل المرأة، وهي ترشفه ترشف عاشقة له، وجلسا يتحدثان، وجاءوه بما أكله، وشربه، ثم جامعها دفعات.
وقال لها في خلال ذلك: أيش حصل اليوم ؟ فقالت: ما وقع اليوم غير رجل مخذول، لم يكن في كمه شيء، قال: وأخرجت ثيابي، فسلمتها إليه، فشتمها وضربها.
وقال: هذا أيش، نحن أردنا صاحب كيس كبير.
فقالت: كما اتفق، ولم تزل تقبل رجله، وتبكي، وتعتذر إليه، إلى أن رضي عنها.
وأيقنت أنا بالهلاك، وأقبلت على الدعاء.
وما زالا يشربان، وهو يجامعها في خلال ذلك، إلى أن عددت أنه قد جامعها عشر دفعات، وسكر.
فقالت له: قد أخذ النبيذ منك يا سيدي، قم فافرغ من هذا الميشوم، حتى نتخلص منه.
فتشهدت حينئذ.
ففتح الباب، ودخل الأسود إلي بسيف مسلول، فما زال يضربني موشحاً، وأنا أصيح، فلا يسمع أحد صياحي، إلى أن بردت، وانقطع صياحي، ولم يشك الأسود في موتي، فجذبني وطرحني في البئر، وإذا تحتي فيها أشلاء ثلاثة، فصرت أنا قريباً من رأسها، فوق القوم، فخرج ولم يغلق الباب. فقالت له: ما عملت ؟ قال: فرغت منه.
فنام إلى جانبها، وقامت العجوز، فجللتهم، ولم يكن في الدار غيرهم.

فلما كان بعد نصف الليل، حملتني حلاوة الحياة، على طلب الخلاص فقمت، فإذا البئر إلى صدري، وإذا أنا قوي، فتسلقت، وخرجت منها إلى البيت.
ووقفت أتسمع، فلم أسمع لهم حساً، إلا غطيطاً يدل على نومهم، فخرجت قليلاً قليلاً، حتى فتحت الباب، وخرجت من الدار، وما شعروا بي، فجئت إلى بيتي قبل طلوع الشمس.
فقالوا: ما دهاك ؟ فقلت: كنت البارحة عند صديق لي، وبكرت من عنده، فلقيني لص يستقفي، فمنعته ثيابي، فأخذها، وعمل بي هذا.
فأقمت شهوراً أعالج، إلى أن عوفيت، فلما خرجت، وتصرفت، لم يكن لي هم إلا طلب المرأة في الطريق والأسواق.
فاجتزت يوماً بالكرخ، فرأيتها، فلم أكلمها، وعدت إلى منزلي، وكنت قد غيرت زيي، وطولت لحيتي، حتى تغيرت هيأتي عليها، ومشيت ويدي مكتوفة إلى ظهري، على مذهب الخراسانية، وجئت أطلبها، وصادفتها في الموضع.
فحين رأتني العجوز، أقبلت علي، وبدأتني بالكلام، فأجبتها بالفارسية، وعلمت أنها لم تعرفني.
وجئت معها، فحملتني إلى الدار بعينها، وجرت القصة على الرسم الأول، إلى أن قالت: قد جاء أخي وغلامه، قم لا يراك، فأقامتني إلى البيت بعينه، فدخلته، وأغلقت علي، ووقفت أسمع، وكان تحت ثيابي سيف لطيف ماضٍ.
فقال لها الأسود، بعد أن وطئها خمس عشرة مرة: أيش جبت اليوم ؟ قالت: بطة سمينة، خراساني معه هميان ملآن.
قال :فأين هو ؟ قالت: في وسطه.
فقال: غاية.
فأخرجت أنا السيف، ووقفت خلف الباب أنتظره، فأكل، وشرب حتى سكر، وجاء، فدخل، فخالفت طريقه، ومضى يريد صدر البيت، فصرت خلفه، وضربته في ساقه ضربة محكمة، أجلسته منها، وثنيتها بأخرى، فما قدر أن ينهض، وواليت ضربه، حتى قطعته، فلما برد، تقدمت فحززت رأسه، وفصلته عن بدنه، لتزول عني الشبهة في أمره، ووقفت موضعي.
فلما أبطأ خروجه على الجارية، قالت العجوز: قومي انظري أيش خبره ؟ فقامت العجوز المسماة صيد، تطلبه، وجاءت إلى البيت، تقول: يا سيدي، لم ليس تخرج ؟ أين أنت ؟ فما تكلمت.
فدخلت إلى البيت، فضربتها في ساقها أيضاً، فقعدت زمنةً، فحين جلست، جررت برجلها، فأخبرجتها إلى برا، وقلت: مرحباً يا صيد، إلى كم تصطادين ولا تصادين ؟ وقتلتها.
وخرجت إلى الدار، وتكلمت بلسان فصيح، وقد كنت أكلمهم بلسان الخراسانية، فأيقنت الجارية بالهلاك.
ثم قلت لها: أنا الرجل الذي فعلت بي كذا وكذا.
قالت: فأين الأسود ؟ فقلت: قتلته، وهذا رأسه.
قالت: سألتك بالله، إلا قتلتني بعده، فلا حاجة لي في الحياتة.
فقلت: ليس تحتاجين إلى مسألتي في هذا، فإني أفعله، ولكن أين الأموال ؟ وإلا عذبتك، ولم أقتلك، وأخرجتك إلى السلطان، فحصلت في العقوبات.
فقالت: افتح ذلك البيت، وذلك البيت.
ففتحت أبواباً، فخرج علي منها أمر عظيم.
فقلت: الأموال.
وما زلت أقررها، وكلما امنتعت، ضربتها بالسيف، إلى أن عرفتني مواضع الدفائن، وأوقفتني على جميع ما عندها من الذخائر، فقتلتها حينئذ.
وخرجت سحراً، وقد قلعت الدفائن، وأخذت منها ما أطقت حمله من فاخر ما وجدته، ولم أقرب الناحية إلى الآن، ولا أدري إلى أي شيء انتهى خبر القتلى والأسود والدار.
فكان ما وصل إلي من ذلك ما قيمته ألوف كثيرة.
الأنصاري وعبد الله بن عامر عامل العراققال القاضي أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي التنوخي: خرج رجلان من المدينة، يريدان عبد الله بن عامر بن كريز، للوفادة عليه، أحدهما من ولد جابر بن عبد الله الأنصاري، والآخر من ثقيف، وكان عبد الله عاملاً بالعراق لعثمان بن عفان رضي الله عنه.
فأقبلا يسيران، حتى إذا كانا بناحية البصرة، قال الأنصاري للثقفي: هل لك في رأي رأيته ؟ قال: اعرضه.
قال: ننيخ رواحلنا، ونتوضأ، ونصلي ركعتين، نحمد الله عز وجل فيهما، على ما قضى في سفرنا.
قال له: نعم، هذا الرأي الذي لا يرد.
قال: ففعلا.
ثم التفت الأنصاري إلى الثقفي، فقال له: يا أخا ثقيف، ما رأيك ؟ قال: وأي موضع رأي هذا ؟ أمضيت سفري، وأنضيت بدني، وأتعبت راحلتي، ولا مؤمل دون ابن عامر، فهل لك من رأي غير هذا ؟ قال: نعم، إني لما صليت، فكرت، فاستحييت من ربي، أن يراني طالب رزق من عند غيره.
ثم قال: أللهم رازق ابن عامر، ارزقني من فضلك، ثم ولى راجعاً إلى المدينة.

ودخل الثقفي البصرة، فمكث على باب ابن عامر أياماً، فلما أذن له، دخل عليه، وكان قد كتب إليه من المدينة بخبرهما.
فلما رآه رحب به، وقال: ألم أخبر أن ابن جابر خرج معك ؟ فأخبره بما كان منهما.
فبكى ابن عامر، وقال: والله، ما قالها أشراً ولا بطراً، ولكن رأى مجرى الرزق، ومخرج النعمة، فعلم أن الله عز وجل هو الذي فعل ذلك، فسأله من فضله، ثم أمر بأربعة آلاف، وكسوة، وطرف، وأضعف ذلك للأنصاري، فخرج الثقفي، وهو يقول:
أمامة ما سعى الحريص بزائد ... فتيلاً ولا عجز الضعيف بضائر
خرجنا جميعاً من مساقط روسنا ... على ثقة منا بجود ابن عامر
فلما أنخنا الناعجات ببابه ... تأخر عني اليثربي ابن جابر
وقال: ستكفيني عطية قادرٍ ... على ما يشاء اليوم للخلق قاهر
فإن الذي أعطى العراق ابن عامرلربي الذي أرجو لسد مفاقري
فلما رآني قال: أين ابن جابر ؟ ... وحن كما حنت عراب الأباعر
فاضعف عبد الله إذ غاب حظه ... على حظ لهفان من الحرص فاغر
عابدة الجهنية تحضر مجلس عضد الدولة
وتنشد قصيدة في مدحهعابدة بنت محمد الجهنية، امرأة عم أبي محمد الحسن بن محمد المهلبي الوزير.
قال ابن النجار: كانت أديبة، شاعرة، فصيحة، فاضلة، روى عنها القاضي أبو علي المحسن بن علي بن محمد التنوخي.
قال التنوخي: حضرت بغداد في مجلس الملك عضد الدولة، في يوم عيد الفطر سنة سبع وستين وثلثمائة، والشعراء ينشدونه التهاني، فحضرت عابدة الجهنية، امرأة عم أبي محمد المهلبي الوزير - كان - فأنشدت قصيدة لم أظفر منها بشيء.
وقال التنوخي: أنشدتني عابدة لنفسها، وهذه امرأة فاضلة، كانت تهجو أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي، لما ولي الوزارة:
شاروني الكرخي لما دنا ال ... نيروز والسن له ضاحكه
فقال ما نهدي لسلطاننا ... من خير ما الكف له مالكه
قلت له كل الهدايا سوى ... مشورتي ضائعة هالكه
اهد له نفسك حتى إذا ... أشعل ناراً كنت دوباركه
قال التنوخي: الدوباركة، كلمة أعجمية، وهو اسم للعب على قدر الصبيان يحلها أهل بغداد سطوحهم ليلة النيروز.
وقد كانت تنشدني أفحل من هذا، فكتبت ذلك عنها في مواضع من كتبي.
عاتكة المخزومية تحضر مجلس
عضد الدولة وتنشد قصيدة في مدحهعاتكة بنت محمد بن القاسم بن محمد بن يحيى بن حابس بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن الحارث بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومية، أم الحسن بن محمد بن عبد الله السلامي الشاعر.
قال ابن النجار: كانت شاعرة فصيحة، مدحت عضد الدولة ببغداد، وروى عنها القاضي التنوخي.
قال التنوخي: حضرت مجلس عضد الدولة ببغداد، من يوم عيد الفطر سنة " 367 " وحضر الشعراء فأنشدوا التهاني.
وحضرت أم أبي الحسن البغدادي السلامي، فأنشدته لنفسها قصيدة طويلة، بعبارة فصيحة، وإنشاد صيت مستقيم، ولسان سليم من اللحن، لم أصل إلى جميعها، تقول فيها، عند ذكرها الممدوح:
شتان بين مدبر ومدمر ... صيد الليوث حصائد الغزلان
روعته من بعد دهر راعني ... وسقيته ما كان قبل سقاني
فلقد سهرت ليالياً وليالياً ... حاتى رأيتك يا هلال زماني
الشاعرة المخزوميةابنة خال السلامي الشاعر، كذا في تاريخ ابن النجار.
ثم روي عن أبي علي التنوخي، قال: أخبرني محمد بن عبد الله السلامي، أنه كانت له ابنة خال بغدادية، مخزومية، تقول الشعر.
وقال: أنشدتني لنفسها من قصيدة لها إلى سيف الدولة، وإنها ماتت سنة " 367 " :
لولا حذاري من أن ألام على ... عتاب يوم منه وإعتابه
لسرت والليل هودجي وذباب ال ... سيف في نحره إلى بابه
أنسب بيت قالته العربأخبرنا التنوخي، قال: أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني الحرمي ابن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني خلف بن وضاح، أن عبد الأعلى بن عبد الله بن صفوان الجمحي، قال:

حملت ديناً بعسكر المهدي، فركب المهدي يوماً، بين أبي عبيد الله، وعمر بن بزيع، وأنا وراءه في موكبه، على برذون قطوف.
فقال: ما أنسب بيت قالته العرب ؟ فقال أبو عبيد الله، قول امرىء القيس.
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قبلب مقتل
قال: هذا أعرابي قح.
فقال عمر بن بزيع: قول كثير يا أمير المؤمنين:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
فقال: ما هذا بشيء، وماله يريد أن ينسى ذكرها، حتى تمثل له ؟ فقلت: عندي حاجتك يا أمير المؤمنين ! قال: الحق بي قلت: لا لحاق بي، ليس ذلك في دابتي.
قال: احملوه على دابة.
قلت: هذا أول الفتح، فحملت على دابة، فلحقته.
فقال: ما عندك ؟ قلت: قول الأحوص:
إذ قلت إني مشتف بلقائها ... فحم التلاقي بيننا زادني سقما
فقال: أحسنت، حاجتك ؟ قلت: علي دين.
فقال: اقضوا دينه.
فقضي ديني.
وقد يجمع الله الشتيتينأخبرنا القاضي علي بن المحسن، حدثني أبي، حدثنا عبيد الله بن محمد الصروي، حدثني أبي، حدثني صديق لي ثقة: إنه كان ببغداد رجل من أولاد النعم، ورث مالاً جليلاً، وكان يعشق قينة، فأنفق عليها مالاً كثيراً، ثم اشتراها، وكانت تحبه كما يحبها، فلم يزل ينفق ماله عليها، إلى أن أفلس.
فقالت له الجارية: يا هذا، قد بقينا كما ترى، فلو طلبت معاشاً.
قال: وكان الفتى لشدة حبه الجارية، وإحضاره الأستاذات ليزيدوها في صنعتها، قد تعلم الضرب والغناء، فخرج صالح الضرب والحذق فيهما.
فشاور بعض معارفه، فقال: ما أعرف لك معاشاً أصلح من أن تغني للناس، وتحمل جاريتك إليهم، فتأخذ على هذا الكثير، ويطيب عيشك.
فأنف من ذلك، وعاد إليها، فأخبرها بما أشير به عليه، وأعلمها أن الموت أسهل عنده من هذا.
فصبرت معه على الشدة، مدة، ثم قالت له: قد رأيت لك رأياً.
قال: قولي.
قالت: تبيعني، فإنه يحصل لك من ثمني ما إن أردت أن تتجر به، أو تنفقه في ضيعة، عشت عيشاً صالحاً، وتخلصت من هذه الشدة، وأحصل أنا في نعمة، فإن مثلي لا يشتريها إلا ذو نعمة، فإن رأيت هذا، فافعل.
فحملها إلى السوق، فكان أول من اعترضها، فتى هاشمي من أهل البصرة، ظريف، قد ورد بغداد للعب والتمتع، فاستامها، فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عيناً.
قال الرجل: فحين لفظت بالبيع، وأعطيت المال، ندمت، واندفعت في بكاء عظيم، وحصلت الجارية في أقبح من صورتي، وجهدت في الإقالة، فلم يكن إلى ذلك سبيل.
فأخذت الدنانير في الكيس، لا أدري أين أذهب، لأن بيتي موحش منها، ووقع علي من اللطم والبكاء ما هوسني.
فدخلت مسجدا، وأخذت أبكي، وأفكر فيما أعمل، فغلبتني عيني، فتركت الكيس تحت رأسي، فانتبهت فزعا، فإذا شاب قد أخذ الكيس، وهو يعدو، فقمت لأعدو وراءه، فإذا رجلي مشدودة بخيط قنب، في وتد مضروب في أرض المسجد، فما تخلصت من ذلك، حتى غاب الرجل عن عيني.
فبكيت، ولطمت، ونالني أمر أشد من الأمر الأول، وقلت: فارقت من أحب، لأستغني بثمنه عن الصدقه، فقد صرت الآن فقيراً ومفارقاً.
فجئت إلى دجلة، فلففت وجهي بإزار كان على رأسي، ولم أكن أحسن العوم، فرميت نفسي في الماء لأغرق.
فظن الحاضرون أن ذلك لغلط وقع علي، فطرح قوم نفوسهم خلفي، فأخرجوني، فسألوني عن أمري، فأخبرتهم، فمن بين راحم ومستهجل.
إلى أن خلا بي شيخ منهم، فأخذ يعظني، ويقول: ما هذا ؟ ذهب مالك، فكان ما ذا حتى تتلف نفسك ؟ أو ما علمت أن فاعل هذا في نار جهنم ؟ ولست أول من افتقر بعد غنى، فلا تفعل، وثق بالله تعالى، أين منزلك ؟ قم معي إليه.
فما فارقني حتى حملني إلى منزلي، وأدخلني إليه، وما زال يؤنسني، ويعظني، إلى أن رأى مني السكون، فشكرته، وانصرف.
فكدت أقتل نفسي، لشدة وحشتي للجارية، وأظلم منزلي في وجهي، وذكرت الدنيا والآخرة، فخرجت من بيتي هاربا إلى بعض أصدقائي القدماء، فأخبرته خبري، فبكى رقة لي، وأعطاني خمسين درهما.
وقال: اقبل رأيي، اخرج الساعة من بغداد، واجعل هذه نفقة، إلى حيث تجد قلبك مساعدك على قصده، وأنت من أولاد الكتاب، وخطك جيد، وأدبك صالح، فاقصد بعض العمال، واطرح نفسك عليه، فأقل ما في الأمر، أن يصرفك في شغل، أو يجعلك محررا بين يديه، وتعيش أنت معه، ولعل الله أن يصنع لك.

فعملت على هذا، وجئت إلى الكتبيين، وقد قوي في نفسي أن أقصد واسطا، وكان لي بها أقارب، فأجعلهم ذريعة إلى التصرف مع عاملها.
فحين جئت إلى الكتبيين، إذا بزلال مقدم، وإذا خزانة كبيرة، وقماش فاخر كثير، ينقل إلى الخزانة والزلال، فسألت عن ملاح يحملني إلى واسط، فقال لي أحد ملاحي الزلال: نحن نحملك إلى واسط بدرهمين، ولكن هذا الزلال لرجل هاشمي من أهل البصرة، ولا يمكننا حملك معه على هذه الصورة، ولكن تلبس من ثياب الملاحين، وتجلس معنا، كأنك واحد منا.
فحين رأيت الزلال، وسمعت أنه لرجل هاشمي من أهل البصرة، طمعت أن يكون مشتري جاريتي، فأتفرج بسماعها إلى واسط، فدفعت الدرهمين إلى الملاح، وعدت فاشتريت جبة من جباب الملاحين، وبعت الثياب التي علي، وأضفت ثمنها إلى ما معي من النفقة، واشتريت خبزا وأدما، وجلست في الزلال.
فما كان إلا ساعة، حتى رأيت جاريتي بعينها، ومعها جاريتان تخدمانها، فسهل علي ما كان بي، وما أنا فيه، وقلت: أراها، وأسمع غناءها، من هاهنا إلى البصرة، واعتقدت أن أجعل قصدي البصرة، وطمعت في أن أداخل مولاها، وأصير أحد ندمائه، وقلت: لا تخليني هي من المواد، فإني واثق بها.
فلم يكن بأسرع من أن جاء الفتى الذي اشتراها، راكبا، ومعه عدة ركبان، فنزلوا في الزلال، وانحدرنا.
فلما صرنا بكلواذى، أخرج الطعام، فأكل هو، وأكل الباقون على سطح الزلال، وأطعموا الملاحين.
ثم أقبل على الجارية، فقال: إلى كم هذه المدافعة عن الغناء، ولزوم الحزن والبكاء ؟ ما أنت أول من فارق مولى كان له، فعلمت ما عندها من أمري.
ثم ضربت لها ستارة في جانب الزلال، واستدعي الذين في سطحه، وجلس معهم خارج الستارة، فسألت عنهم، فإذا هم إخوته وبنو عمه، فأخرجوا الصواني ففرقها عليهم، وفيها النبيذ، وما زالوا يرفقون بالجارية، إلى أن استدعت العود فأصلحته، واندفعت تغني من الثقيل الأول، بإطلاق الوتر الذي في مجرى الوسطى:
بان الخليط بمن عرفت فأدلجوا ... عمدا لقتلك ثم لم يتحرجوا
وغدت كأن على ترائب نحرها ... جمر الغضا في ساعة يتأجج
ثم غلبها البكاء، فقطعت الغناء، وتنغص على القوم سرورهم، ووقعت أنا مغشياً علي، فظن الملاحون أني قد صرعت، فأذن بعضهم في أذني، فأفقت بعد ساعة، وما زالوا يدارونها، ويرفقون بها، ويسألونها الغناء، إلى أن أصلحت العود، واندفعت تغني في الثقيل الثاني:
فوقفت أسأل بالذين تحملوا ... وكأن قلبي بالشفار يقطع
فدخلت دارهم أسائل عنهم ... والدار خالية المنازل بلقع
ثم شهقت، فكادت تتلف، وارتفع لها بكاء عظيم، وصعقت أنا، فتبرم بي الملاحون وقالوا: كيف حملنا هذا المجنون ؟ وقال بعضهم: إذا بلغتم بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه.
فجاءني أمر أعظم من كل ما أصابني، وجاءني في نفسي التصبر، والحيلة في أن أعلم الجارية بمكاني بالزلال، لتمنع من إخراجي، فأفقت.
وبلغنا إلى قرب المدائن، فقال صاحب الزلال: اصعدوا بنا إلى الشط، فطرحوا إلى الشط، وصعدت الجماعة، وكان المساء قريبا، وصعد أكثر الملاحين يتغوطون، وخلا الحديدي، وكان الجواري فيمن صعد إلى مستراح ضرب لهن.
فمشيت سارقا نفسي، حتى صرت خلف الستارة، فغيرت طريقة العود عما كانت عليه إلى طريقة أخرى، ورجعت إلى موضعي من الزلال.
وفرغ القوم من حاجتهم في الشط، ورجعوا والقمر منبسط، فقالوا لها: هو ذا ترين وقتنا، فتكلفي الغناء، ولا تنغصي علينا، فأخذت العود، فجسته، وشهقت، وقالت: قد والله، أصلح هذا العود مولاي، على طريقة من الضرب كان بها معجبا، وكان يضربها معي، و والله، إنه معنا في الزلال.
فقال لها مولاها: والله، يا هذه، لو كان معنا ما امتنعنا من عشرته، فلعله أن يخف بعض ما بك، فننتفع بغنائك، ولكن هذا بعيد.
فقالت: لا أدري ما تقولون، هو والله معنا.
فقال الرجل للملاحين: ويلكم هل حملتم معنا إنسانا ؟ فقالوا: لا.
فأشفقت أن ينقطع السؤال، فصحت: نعم، هو ذا أنا.
فقالت: كلام مولاي، والله.
وجاء بي الغلمان إلى الرجل، فلما رآني، قال: ويحك، ما هذا الذي أصابك، وصيرك في مثل هذا الحال ؟ فصدقته عن أمري، وبكيت، وعلا نحيب الجارية من خلف الستارة، وبكى هو وإخوته بكاء شديداً، رقة لنا.

ثم قال: يا هذا ، والله ما وطئت هذه الجارية، ولا سمعت غناءها إلا اليوم، وأنا رجل موسع علي، ولله الحمد، وردت بغداد لسماع الغناء، وطلب أرزاقي من الخليفة، وقد بلغت من الأمرين، ما أردت، ولما عملت على الرجوع إلى وطني، أحببت أن أستبيع من غناء بغداد شيئاً، فاشتريت هذه الجارية، لأضمها إلى عدة مغنيات عندي بالبصرة، وإذ كنتما على هذه الحال، فأنا - والله - أغتنم المكرمة والثواب فيكما، وأشهد الله، أني إذا صرت إلى البصرة، أعتقتها، وزوجتك منها، وأجريت عليكما ما يكفيكما ويسعكما، على شريطة، إن أجبتني إليها.
قلت: ما هي ؟ قال: أن تحضرنا كلما أردنا الغناء، خلف ستارتنا، وتنصرف بانصرافك إلى دار أفردها لكما، وقماش أعطيكما إياه.
فقلت: يا سيدي، وكيف أبخل بهذا على من هو المعطي لي، وعلى من رد علي حياتي ؟ وأخذت يده أقبلها، فمنعني، ثم أدخل رأسه إلى الجارية، فقال: يرضيك هذا ؟ فأخذت تدعو له وتشكره.
فاستدعى غلاما، فقال: خذ بيد هذا الرجل، وغير ثيابه، وبخره، وقدم إليه ما يأكله، وجئنا به.
فأخذني الغلام، ففعل بي ذلك، وعدت، وتركت بين يدي صينية، واندفعت الجارية تغني بنشاط وسرور وانبساط، واستدعت النبيذ، فشربت وشربنا، وأخذت أقترح عليها الأصوات الجياد، فتضاعف سرور الرجل.
وما زلنا على ذلك، أياما، إلى أن بلغنا نهر معقل، ونحن سكارى، فشد الزلال في الشط، وأخذتني بوله، فصعدت إلى ضفة نهر معقل لأبول، فحملني السكر على النوم فيها، ودفع الزلال، وأنا لا أعلم، وأصبحوا فلم يجدوني، ودخلوا البصرة، ولم أنتبه إلا بحر الشمس، فجئت إلى الشط، فلم أر لهم عينا ولا أثرا.
وقد كنت أجللت الرجل أن أسأله بمن يعرف، وأين داره في البصرة، واحتشمت أن أسأل غلمانه عن ذلك، فبقيت على شاطئ نهر معقل، كأول يوم بدأت بي المحنة، وكأن ما كنت فيه منام.
واجتازت بي سميرية، فركبت بها، ودخلت البصرة، وما كنت دخلتها قط، فنزلت خاناً، وبقيت متحيراً، لا أدري ما أعمل، ولم يتوجه لي معاش.
إلى أن اجتاز بي يوماً إنسان عرفته من بغداد، فتبعته لأكشف له حالي، وأستميحه، فأنف من ذلك، ودخل الرجل إلى منزله، فعرفته، وجئت إلى بقال كان هناك، على باب الخان الذي نزلته، فأعطيته دانقاً، وأخذت منه ورقة دواة، وجلست أكتب رقعة إلى الرجل.
فاستحسن البقال خطي، ورأى رثاثة حالي، فسألني عن أمري، فأخبرته انني رجل ممتحن فقير، وقد تعذر علي التصرف، وما بقي معي شيء، ولم اشرح له أكثر من ذلك.
فقال: أتعمل معي في كل يوم على نصف درهم، وطعامك وكسوتك، وتضبط حساب دكاني ؟ قلت: نعم.
فقال: اصعد.
فمزقت الرقعة وصعدت فجلست معه، فدبرت أمره، وظبطت دخله وخرجه، وكان غلمانه يسرقونه، فأديت إليه الأمانة.
فلما كان بعد شهر، رأى الرجل دخله زائداًُ، وخرجه ناقصاً، فحمدني، وكنت معه إلى أن حال الحول، وقد بان له الصلاح في أمره، فدعاني إلى أن أتزوج بابنته، ويشاركني في الدكان، ففعلت.
ودخلت بزوجتي، ولزمت الدكان، والحال تقوى، إلا أني في خلال ذلك، منكسر النفس، ميت النشاط، ظاهر الحزن، وكان البقال ربما شرب، فيجذبني إلى مساعدته، فأمتنع، وأظهر أن سبب حزني على موتى لي.
واستمرت بي الحال على هذا سنين كثيرة، فلما كان ذات يوم، رأيت قوماً يجتازون بجونٍ ونبيذ، اجتيازاً متصلاً، فسألت عن ذلك، فقيل لي: اليوم يوم الشعانين، ويخرج أهل الظرف واللعب، بالنبيذ والطعام والقيان إلى الأبلة، فيرون النصارى، ويشربون، ويتفرجون.
فدعتني نفسي إلى التفرج، وقلت: لعلي أن أقف لأصحابي على خبر، فإن هذا من مظانهم.
فقلت لحمي: أريد أن أنظر هذا المنظر.
فقال: شأنك، وأصلح لي طعاماً وشارباً، وسلم إلي غلاماً وسفينة، فخرجت، وأكلت في السفينة، وبدأت أشرب حتى وصلت إلى الأبلة، وأبصرت الناس، وابتدأوا ينصرفون، وانصرفت.
فإذا أنا بالزلال بعينه، في أوساط الناس، سائراً في نهر الأبلة، فتأملته، فإذا بأصحابي على سطحه، ومعهم عدة مغنيات.
فحين رأيتهم لم أتمالك نفسي فرحاً، فصرت إليهم، فحين رأوني عرفوني، وكبروا، وأخذوني إليهم، وقالوا: ويحك أنت حي ؟ وعانقوني، وفرحوا بي، وسألوني عن قصتي، فأخبرتهما بها على أتم شرح.

فقالوا: إنا لما فقدناك في الحال، وقع لنا أنك سكرت، ووقعت في الماء فغرقت، ولم نشك في هذا، فمزقت الجارية ثيابها، وكسرت عودها، وجزت شعرها، وبكت، ولطمت، فما منعناها من شيء من هذا.
ووردنا البصرة، فقلنا لها: ما تحبين أن نعمل لك ؟ فقد كنا وعدنا مولاك بوعد تمنعنا المرءوة من استخدامك معه في حال فقده، أو سماع غنائك ؟.
فقالت: تمكنوني من القوت اليسير، ولبس الثياب السود، وأن أعمل قبراً في بيت من الدار، وأجلس عنده، وأتوب عن الغناء، فمكناها ذلك، فهي جالسة عنده إلى الآن.
وأخذوني معهم، فحين دخلت الدار، ورأيتها بتلك الصورة، ورأتني شهقت شقة عظيمة، ما شككت في تلفها، واعتنقنا، فما افترقنا، ساعة طويلة.
ثم قال لي مولاها: قد وهبتها لك.
فقلت: بل تعتقها، وتزوجني منها، كما وعدتني، ففعل ذلك، ودفع إلينا ثياباً كثيرة، وفرشاً، وقماشاً، وحمل إلي خمسمائة دينار.
وقال: هذا مقدار ما أردت أن أجريه عليك في كل شهر، منذ أول يوم دخولي البصرة، وقد اجتمع هذا لهذه المدة، فخذه، والجائزة لك مستأنفة في كل شهر، وشيء آخر لكسوتك، وكسوة الجارية، والشرط في المنادمة، وسماع الجارية من وراء ستارة، باقٍ عليك، وقد وهبت لك الدار الفلانية.
قال: فجئت إليها، فإذا بذلك الفرش الذي أعطانيه، فيها، والجارية.
فجئت إلى البقال، فحدثته بحديثي، وطلقت ابنته، ووفيتها صداقها، وأقمت على تلك الحال مع الهاشمي سنين، فصلحت حالي، وصرت رب ضيعة، ونعمة، وعادت حالي، وعدت إلى قريب مما كنت عليه.
فأنا أعيش كذلك إلى الآن مع جاريتي.
؟
أعمرو علام تجنبتنيأخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي ابن المحسن التنوخي، فالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني محمد بن عبد الله ابن أبي مالك بن الهيثم الخزاعي، عن ابن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: حدثني إبراهيم بن ميمون، قال: حججت في أيام الرشيد، فبينا أنا بمكة، أجول في سككها، إذا أنا بسوداء قائمة ساهية، فأنكرت حالها، فوقفت أنظر إليها، فمكثت كذلك ساعة، ثم قالت:
أعمرو علام تجنبتني ... أخذت فؤادي فعذبتني
فلو كنت بيا عمرو خبرتني ... أخذت حذاري فما نلتني
قال: فدنوت منها، فقلت: يا هذه، من عمرو ؟ فارتاعت من قولي، وقالت: زوجي.
فقلت: وما شأنه ؟ قالت: أخبرني أنه يهواني، وما زال يدس إلي، ويعلق بي في كل طريق، ويشكو شدة وجده، حتى تزوجني، فلبث معي قليلاً، وكان له عندي من الحب، مثل الذي كان لي عنده، ثم مضى إلى جدة، وتركني.
قلت: فصفيه لي.
فقالت: أحسن من تراه، وهو أسمر، حلو، ظريف.
قال: فقلت: فخبريني، أتحبين أن أجمع بينكما ؟ قالت: فكيف لي بذلك، وظنتني أهزل بها.
قال: فركبت راحلتي، وصرت إلى جدة، فوقفت في المرفإ، أتبصر من يعمل في السفن، واصوت: يا عمرو، يا عمرو، فإذا أنا به خارج من سفينة، وعلى عنقه صن، فعرفته بالصفة.
فقلت: أعمرو علام تجنبتني ؟ فقال: هيه، هيه، رأيتها، وسمعته منها ؟ ثم أطرق هنيهة، ثم اندفع يغنيه، فأخذته منه، وقلت له: ألا ترجع ؟ فقال: بأبي أنت، ومن لي بذلك ؟ ذلك والله أحب الأشياء إلي، ولكن منع منه طلب المعاش.
قلت: كم يكفيك كل سنة ؟ قال: ثلاثمائة درهم.
فأعطيته ثلاثة آلاف درهم، وقلت: هذه لعشر سنين، ورددته إليها، وقلت له: إذا فنيت، أو قاربت الفناء، قدمت علي فبررتك، وإلا وجهت إليك.
وكان ذلك حب إلي من حجي.
قال محمد بن عبد الله، قال إسحاق: والناس ينسبون هذا الصوت إلى إبراهيم، وكان إبراهيم أخذه من هذا الفتى.
دوار الحب غاليأخبرنا التنوخي علي بن المحسن، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه، قال: أخبرنا أبو بكر المحولي، قال: أنشدني حماد بن إسحاق، للوليد ابن يزيد:
ولقد قال طبيبي ... وطبيبي غير آل
أشك ما شئت سوى ال ... حب فإني لا أبالي
سقم الحب رخيص ... ودواء الحب غالي
وكل غريب للغريب نسيبوأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي أيضاً بقراءتي عليه، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال:

قال أبو عبد الله، محمد بن زياد الأعرابي: إن قيس بن الملوح، وهو المجنون، لما نسب بليلى، وشهر بحبها، اجتمع إليه أهلها، فمنعوه من محادثتها، وزيارتها، وتهددوه بالقتل.
وكان يأتي امرأة من بني هلال، ناكحاً في بني الحريش، وكان زوجها قد مات، وخلف عليها صبية صغاراً، فكان المجنون إذا أراد زيارة ليلى، جاء إلى هذه المرأة فأقام عندها، وبعث إلى ليلى، فعرفت له خبرها، وعرفتها خبره.
فعلم أهل ليلى بذلك، فنهوها أن يدخل قيس إليها.
فجاء قيس كعادته، فأخبرته المرأة الخبر، وقالت: يا قيس، أنا امرأة غريبة من القوم، ومعي صبية، وقد نهوني أن أؤويك، وأنا خائفة أن ألقى منهم مكروهاً، فأحب أن لا تجيء إلي ها هنا .
أجارتنا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريب للغريب نسيب
فلا تزجريني عنك خيفة جاهل ... إذا قال شراً أو أخيف لبيب
قال: وترك الجلوس إلى الهلالية، وكان يترقب غفلات الحي بالليل.
فلما كثر ذلك منه، خرج أبو ليلى، ومعه نفر من قومه، إلى مروان ابن الحكم، فشكوا إليه ما نالهم من قيس، ةما قد شهرهم به، وسألوه الكتابة إلى عامله بمنعه من كلام ليلى، وبخطبه إليهم.
فكتب لهم مروان كتاباً إلى عامله، يأمره فيه بأن يحضر قيساً ويتقد إليه في ترك زيارة ليلى، فإن أصابه أهلها عندهم، فقد أهدر مده.
فلما ورد الكتاب إلى عامله، بعث إلى قيس وأبيه، وأهل بيته، فجمعهم وقرأ عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتق الله في نفسك، لا يذهب دمك هدراً.
فانصرف قيس وهو يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... علي يميناً جاهداً لا أزورها
وأوعدني فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء غير أني أحبها ... وأن فؤادي عند ليلى أسيرها
فلما أيس منها، وعلكم أن لا سبيل إليها، صار شبيهاً بالتائه العقل، وأحب الخلوة، وحديث النفس، وتزايد الأمر به، حتى ذهب عقله، ولعب بالحصا والتراب، ولم يكن يعرف شيئاً إلا ذكرها، وقول الشعر فيها، وبلغها هي ما صار إليه قيس، فجزعت أيضاً لفراقه، وضنيت ضنىً شديداً.
وإن أهل ليلى خرجوا حجاجاً، وهي معهم، حتى إذا كانوا بالطواف، رآها رجل من ثقيف، وكان غنياً كثير المال، فأعجب بها، على تغيرها، وسقمها، فسأل عنها، فأخبر من هي، فأتى أباها، فخطبها إليه، وأرغبه في المهر، فزوجه إياها.
وبلغ الخبر قيساً، فأنشأ يقول:
ألا تلك ليلى العامرية أصبحت ... تقطع إلا من ثقيف وصالها
هم حبسوها محبس البدن وابتغى ... بها المال أقوام تساحف مالها
إذا التفتت والعيس صعر من البرى ... بنخلة خلى عبرة العين حالها
الجزء السادس
من شعر ابن كناسةحدثنا علي بن أبي علي، فال: حدثنا محمد بن عمران بن موسى، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن محمد الإبزاري المعروف بمنقار، قال: حدثني إسحاق الموصلي قال: أنشدنا ابن كناسة، ويحيى بن معين في مجلسه:
في انقباض وحشمة فإذا ... جالست أهل الحياء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
قال: فقال لي إسحاق: فأذ كرت ابن كناسة هذين البيتين بعد، فقال: لكني أنشدك اليوم:
ضعفت عن الإخوان حتى جفوتهم ... على غير زهدٍ في الإخاء ولا الود
ولكن أيامي تخرمن قوتي ... فما أبلغ الحاجات إلا على جهد
القاضي محمد بن عبد الله الأنصاريأخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخربني إبراهيم بن محمد بن أيوب، عن ابن قتيبة: أن الرشيد قلد محمد بن عبد الله النصاري القضاء بالجانب الشرقي - يعني من بغداد - بعد العوفي، في آخر خلافته.
فلما ولي محمد - وهو المين - عزله، وولى مكانه عون بن عبد الله، وولى محمد بن عبد الله المظالم بعد إسماعيل بن علية.
القاضي محمد بن عبد الله المؤذنأخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما توفي حبان بن بشر، استقضى محمد بن عبد الله المؤذن من أهل السواد، وكان صالحاً من أصحاب أبي حنيفة، في الفقه، ولا اعلمه حدث بشيء.

وقال طلحة: حدثني عبد الباقي بن قانع، قال: حدثني إسحاق بن ديمهر التوزي قال: حدثني من حضر ابن المؤذن القاضي - وهو يموت - فقال: انقلوني من هذا الموضع، فنقل، فجاء عصفور بحبة من حنطة، فرمى بها على صدره، فما زال يقرضها، حتى فرغ منها، ثم مات.
القاضي أبو الحسن الخرقيكان يحكم بنفسه أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استتر القاضي أحمد بن عبد الله بن إسحاق، وهو المعروف بالخرقي، بعد ثلاثة أشهر من تقلده القضاء، لما خرج المتقي إلى الموصل، فاستخلف على مدينة المنصور أبا الفضل محمد بن عبد الله بن العاباس بن محمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب، ثم عاد المتقي، فظهر أبو الحسن، أحمد بن عبد الله ابن إسحاق، وكان يحكم بنفسه.
من شعر ابن سكرة الهاشميأنشدني علي بن المسحن، قال: أنشدني أبو الحسن بن سكرة الهاشمي، لنفسه:
في وجه إنسانة كلفت بها ... أربعة ما اجتمعن في أحد
الوجه بدر والصدغ غالية ... والريق خمر والثغر من برد
من شعر ابن سكرة الهاشميأنشدني علي بن المسحن، قال: أنشدني ابن سكرة لنفسه:
وقائل قال لي: لا بد من فرجفقلت واغتظت لم لا بد من فرج
فقال لي: بعد حين، قلت: واعجباً ... من يضمن العمر لي يا بارد الحجج
أبو إسحاق الطبري المقرئذكر لي أبو القاسم التنوخي: أن أبا إسحاق الطبري المقرئ، إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله، وكان أحد الشهود ببغداد، شهد أيضاً بالبصرة، والأبلة، وواسط، والأهواز، وعسكر مكرم، وتستر، والكوفة، ومكة، والمدينة.
قال: وأم بالناس في المسجد الحرام، أيام الموسم، وما تقدم فيه من لبس بقرشي غيره.
وكان يكتم مولده، ويقال: ولد سنة أربع وعشرين وثلثمائة.
وهو مالكي المذهب.
البحتري يمدح الكجي وابن جهورأخبرني علي بن أبي علي، قال: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني، أن محمد بن يحيى أخبره، قالك كان أبو مسلم الكجي، وأسد بن جهور، يتقلدان أعمالاً بالشام فقال البحتري يمدحهما:
هل تبدين لي الأيام عارفةً ... لدى أبي مسلم الكجي أو لأسد
كلاهما آخذ للمجد أهبته ... وباعث بعد وعد اليوم نجح غد
لله دركما من سيدين ومن ... أحويتما من معاليه إلى أمد
وجدت عندكما الجدوى ميسرة ... أو ان لا أحد يجدي على أحد
وقد تطلبت جهدي ثالثاً لكما ... عند الليالي فلم تفعل ولم تكد
لن يبعد الله مني حاجة أمماً ... وأنتما غايتي فيها ومعتمدي
إن تقرضا فقضاء لا يريث وان ... وهبتما فقبول الرفد والصفد
وفي القوافي إذا سومتها بدع ... يثقلن في الوزن أو يكثرن في العدد
فيها جزاء لما يأتي الرسول به ... من عاجلٍ سلس أو آجلٍ نكد
إسحاق الموصلي يتحدث عن أصلهحدثني علي بن المحسن، قال: وجدت في كتاب جدي علي بن محمد ابن الفهم التنوخي: حدثنا الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا أبو خالد يزيد محمد المهلبي، قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي، يقول: نحن قوم من أهل أرجان، سقط أبي إلى الموصل في طلب الرزق، فما أقام بها إلا أربعة أشهر، ثم قدم بغداد، فقال الناس: الموصلي، لقدومه منها، ولم يكن من أهلها.
قال: وأبي إبراهيم بن ماهان، قال: وهو عندنا ابن ميمون.
قال: وكانت في أيدينا ضياع لبعض الحنظليين، فتوليناهم.
القاضي إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفةأخبرنا علي بن أبي علي، قال: اخرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني محمد بن أحمد التنوخي، قال: حدثنا ابن حيان، وهو وكيع القاضي، قال: أخبرني إبراهيم بن أبي عثمان، عن العباس بن ميمون، قال: سمعت محمد بن عبد الله الأنصاري، يقول: ما ولي القضاء من لدن عمر بن الخطاب، إلى اليوم، اعلم من إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.
فقال له أبو بكر الجبي: يا أبا عبد الله، ولا الحسن بن أبي الحسن؟ قال: لا والله، ولا الحسن.
قال ابن حيان: وأخبرني أبو العيناء، قال: قال رجل لإسماعيل: قد ذهب نصفك.

قال: لو بقيت مني شعرة، لبقي منها ما يقضي عليك.
وقال ابن حيان عن أبي العيناء، قال: لما ولي إسماعيل البصرة، دس إليه الأنصاري، - يعني محمد بن عبد الله - إنساناً عن مسألة، فقال: أبقى الله القاضي، رجل قال لا مرأته... فقطع عليه إسماعيل، وقال: قل للذي دسك، إن القضاء لا تفتي.
القاضي إسماعيل بن إسحاقكان علماً في الفقه على مذهب مالك أخبرني علي بن المحسن القاضي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد، قال: إسماعيل بن إسحاق، كان منشؤه البصرة، وأخذ الفقه على مذهب مالك، عن أحمد بن المعدل، وتقدم في هذا العلم، حتى صار علماً فيه.
ونشر من مذهب مالك، وفضله، ما لم يكن بالعراق في وقت من الأوقات.
وصنف في الاحتجاج لمذهب مالك والشرح له، ما صار لأهل هذا المذهب مثالاً يحتذونه، وطريقاً يسلكونه.
وانضاف إلى ذلك علمه بالقرآن، فإنه ألف في القرآن كتباً تتجاوز مثيراً الكتب المصنفة فيه.
فمنها: كتابه في أحكام القرآن، وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد من أصحابه إلى مثله.
ومنها كتابه في القراءات، وهو كتاب جليل القدر عظيم الخطر.
ومنها كتابه في معاني القرآن.
وهذان الكتابان، يشهد بتفضيله فيهما، واحد الزمان، ومن انتهى إليه العلم بالنحو واللغة في ذلك الأوان، أبو العباس محمد بن يزيد المبرد.
ورأيت أبا بكر بن مجاهد، يصف هذين الكتابين، وسمعته مرات لا أحصيها، يقول: سمعت أبا العباس المبرد، يقول: القاضي أعلم مني بالتصريف.
وبلغ من العمر ما صار به واحداً في عصره في علو الأسناد، لن مولده كان سنة تسع وتسعين ومائة، فحمل الناس عنه من الحديث الحسن، ما لم يحمل عن كبير أحد.
وكان الناس يصيرون إليه، فيقتبس منه كل فريق علماً لا يشاركه فيه الآخرون، فمن قوم يحملون الحديث، ومن قوم يحملون علم القرآن، والقراءات، والفقه، وإلى غير ذلك مما يطول شرحه.
أما سداده في القضاء، وحسن مذهبه فيه، وسهولة الأمر عليه فيما كان يلتبس على غيره، فشئ شهرته تغني عن ذكره.
وكان في أكثر أو قاته، وبعد فراغه من الخصوم، متشاغلاً بالعلم، لنه اعتمد على كتابه، ابي عمر محمد بن يوسف، فكان يحمل عنه أكثر أمره من لقاء السلطان، وينظر له في كل أمره، وأقبل هو على الحديث والعلم.
القاضي إسماعيل بن إسحاقتجمع له بغداد بأسرها ويقلد قضاء القضاء أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لم يزل إسماعيل بن إسحاق قاضياً على عسكر المهدي إلى سنة خمس وخمسين ومائتين، فإن المهتدي محمد بن الواثق، قبض على حماد بن إسحاق، أخي إسماعيل بن إسحاق، وضربه بالسياط، وأطاف به على بغل بسر من رأى لشيء بلغه عنه، وصرف إسماعيل بن إسحاق عن الحكم، واستر.
وقاضي القضاء - كان - بسر من رأي، الحسن بن محمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب، ثم صرف عن القضاء في هذه السنة، وولي القضاء عبد الرحمن بن نائل بن نجيح، ثم رد الحسن بن محمد في هذه السنة إلى القضاء.
ثم استقضى المهتدي على الجانب الشرقي، القاسم بن منصور التميمي، نحو سبعة أشهر، وكان قليل النفاذ.
ثم قتل المهتدي بالله في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وقيل سموه، وأخرج، فصلى عليه جعفر بن عبد الواحد، بعد يومين من العقد للمعتمد على الله، وعلى قضاء القضاة بسر من رأي الحسن بن محمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب.
فاعاد المعتمد إسماعيل بن إسحاق على الجانب الشرقي من بغداد، وذلك في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، فلم يزل على القضاء بالجانب الشرقي إلى سنة ثمان وخمسين ومائتين.
وغلب على الموفق، ثم سأله أن ينقله إلى الجانب الغربي، وكان على قضاء الجانب الغربي بالشرقية - وهو الكرخ - البرتي، وعلى مدينة المنصور أحمد بن يحيى بن أبي يوسف القاضي، فأجابه إلى ذلك.
وكره ذلك قاضي القضاء ابن أبي الشوارب، فاجتهد في ترك البرتي وأحمد ابن يحيى، فما أمكنه، لتمكن إسماعيل من الناصر - يعني الموفق - .
فأجيب إسماعيل إلى ما سأل، ونقل البرتي عن قضاء الشرقية إلى الجانب الشرقي، ولم يزل على القضاء بالجانب الشرقي، وإسماعيل بن إسحاق على الجانب الغربي بأسره، إلى سنة اثنتين وستين ومائتين.
ثم جمعت بغداد بأسرها لإسماعيل بن إسحاق، وصرف البرتي، وقلد المدائن، والنهروانات، وقطعة من أعمال السواد.

وكان الحسن بن محمد بن أبي الشوارب قد توفي سنة إحدى وستين ومائتين بمكة بعد الحج، فولي أخوه علي بن محمد مكانه، وبقي ابن أبي الشوارب على قضاء سر من رأي، وكان يدعي بقاضي القضاء، وصار إسماعيل المقدم على سائر القضاء، ولم يقلد أحد قضاء القضاء إلى أن توفي.
الله خير مستعانأخبرنا علي بن أبي المعدل، قال: حدثنا الحسين بن عمر الضراب، قال: أنشدنا سمعان الصيرفي:
أشد من فاقة الزمان ... مقام حر على هوان
فاسترزق الله واستعنه ... فإنه خير مستعان
وإن نبا منزل بحر ... فمن مكانٍ إلى مكان
إسحاق بن غريرأخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الذهبي، واحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال : حدثنا الزبير بن بكار، قال: ومن ولد حميد بن عبد الرحمن، إسحاق بن غيرير - واسم غرير، عبد الرحمن - بن المغيرة بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف.
كان في صحابة المهدي أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين موسى، وأمير المؤمنين هارون، وهلك في خلافة أمير المؤمنين هارون، وكان ذا منزلة فيهم وقدر، وكان حلواً، معروفاً بالسخاء.
وفيه يقول الشاعر:
استوسق الناس وقالوا معاً ... لا جود إلا جود إسحاق
قال: وله ولأخيه يعقوب، يقول الصهيبي:
نفي الجوع من بغداد إسحاق ذو الندى ... كما قد نفى جوع الحجاز أخوه
وما يك من خير أتوه فإنما ... فعال غرير قبلهم ورثوه
فأقسم لو ضاف الغريري بغتهً ... جميع بني حواء ما حفلوه
هو البحر بل لو حل بالبحر رفده ... ومن يجتديه ساعة نزفوه
حب ابن غرير غرورأخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن وأحمد ابن عبد الله، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني أبو عزيه محمد بن موسى الأنصاري، قال: كان إسحاق بن غيرير معجباً بعبادة، جارية المهلبية، وكانت المهلبية منقطعة إلى الخيزران أم أمير المؤمنين، ذات منزلة منها.
قال: فركب يوماً، عبد الله بن مصعب بن الزبير، وإسحاق بن غرير أمير المؤمنين المهدي وكانا يأتيانه في كل عشية، إذا صلى الناس العصر، يقيمان معه إلى أن ينقضي سمره.
فلقيا في طريقهما عبادة، جارية المهلبية، فقال إسحاق بن غرير، لعبد الله بن مصعب، يا أبا بكر، هذه عبادة التي كنت تسمعني أذكرها، وركض دابته حتى استقبلها، فنظر إليها ثم رجع.
فضحك عبد الله بن مصعب مما صنع، ثم مضيا فدخلا على امير المؤمنين المهدي، فحدثه عبد الله بن مصعب حديث إسحاق بن غرير وعبادة، وما كان منه في أمرها تلك العشية.
فقال لإسحاق: أنا أشتريها لك، وقام فدخل على الخيزران.
فقال: أين المهلبية؟ فأمرت بها، فدعيت له.
فقال لها: تبيعني عبادة بخمسين ألف درهم؟ فقالت له: يا سيدي إن كنت تريدها لنفسك، فبها فداك الله.
قال: إنما أريدها لإسحاق بن غرير.
فبكت، وقالت: يدي، ورجلي، ولساني في حوائجي، تنزعها مني لإسحاق بن غرير.
قال: فقالت الخيزران: ما يبكيك؟ لا يقدر والله إسحاق عليها.
وقالت لأمير المؤمنين المهدي: صار ابن غرير يتعشق جواري الناس؟ فخرج أمير المؤمنين المهدي، فأخبر إسحاق الخبر، وأمر له بالخمسين الألف الدرهم، فأخذها.
فقال في ذلك أبو العتاهية:
من صدق الحب لأجابه ... فإن حب ابن غرير غرور
أنساه عبادة ذات الهوى ... واذهل الحب لديه الضمير
خمسون ألفاً كلها وازن ... خشن لها في كل كيس صرير
قال: وقال في ذلك أيضاً أبو العتاهية:
حبك المال لا كحبك عبا ... دة يا فاضح المحبينا
لو كنت أخلصتها الوفاء كما ... قالت لما بعتها بخمسينا
إنك لا تدري ما يقول هذا الغلامحدثني علي بن المحسن، قال: وجدت في كتاب جدي علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي، حدثنا الحرمي ابن أبي العلاء، قال: حدثنا أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي، قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة، قال لي الأصمعي: كم حملت معك من كتبك؟

قلت: تخففت، فحملت ثمانية أحمال، ستة عشر صندوقاً.
قال: فعجب .
فقلت: كم معك يا أبا سعيد؟ قال: ما معي إلا صندوق واحد.
قلت: ليس إلا ؟.
قال: وتستقل صندوقاً من حق؟ قال أبو خالد: وسمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي، يقول: رأيت في منامي كأن جريراً ناولني كبة من شعر، فادخلتها في فمي .
فاقل بعض المعبرين: هذا رجل يقول من الشعر ما شاء.
قال: وجاء مروان بن أبي حفصة يوماً إلى أبي، فاستنشدني من شعري، فأنشدته:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ورافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنفٍ شامخٍ وتناولت ... يداي السماء قاعداً غير قائم
قال: فجعل مروان يستحسن ذلك، ويقول لأبي: إنك لا تدري ما يقول هذا الغلام.
البهلول بن حسانيبذل ما له لقريب والبعيد أخبرني علي بن أبي علي المعدل المعدل، قال: أنبأنا أحمد بن يوسف الأزرق ابن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، قال: أخبرني عمي إسماعيل، قال: حدثني عمي بهلول، قال: أخبرني أبي، قال: كنت في ديوان بادوريا، وكنت أمضي مع أبي، البهلول بن حسان، ونحن بمدينة السلام، إلى مسجد الرصافة، فيدخل أبي إلى هشيم بن بشير فيسمع منه، وامضي أنا إلى الديوان.
ثم طلبت الحديث، فقصدت هشيماً، وكتبت منه أحاديث من درج ضاع مني بعد ذلك، وتوفي هشيم فسمعت من أصحابه.
وقال ابن الأزرق: أخبرني عمي إسماعيل، قال: حدثني عمي البهلول قال: كان أبي سمحاً سخياً، وكان يأخذ من أرزاقه بمقدار القوت، ويفرق ما يبقى بعد ذلك على ولده وأهله والأباعد.
ويفرق في أيام كل فاكهة، شيئاً كثيراً منها.
وكان له غلام وبغل، يستقي الماء، ويصبه لقراباته، إرفاقاً بهم.
إسحاق بن البهلوليحدث من حفظة بخمسين ألف حديث أخبرني علي بن أبي علي، قال: أنبأنا أحمد بن يوسف الأزرق، قال: أخبرني عمي إسماعيل بن يعقوب، قال: حدثني عمي البهلول ابن إسحاق، قال: استدعى المتوكل أبي إلى سر من رأى، حتى حدثه، وسمع منه، وقرئ له عليه حديث كثير.
ثم أمر فنصب له منبر، وكان يحدث عليه في المسجد الجامع بسر من رأى وفي رحبة زيرك بالقرب من باب الفراغنة.
وأقطعه إقطاعاً في كل سنة مبلغة اثنا عشر ألفاً، ورسم له صلة خمسة آلاف درهم في السنة، فكان يأخذها.
وأقام إلى أن قدم المستعين بغداد، فخاف أبي الأتراك، أن يكبسوا الأنبار، فانحدر إلى بغداد عجلاً، ولم يحمل معه شيئاً من كتبه.
فطالبه محمد بن عبد الله بن طاهر، أن يحدث، فحدث ببغداد من حفظه بخمسين ألف حديث، لم يخطئ في شيءٍ منها.
القاضي أسد بن عمرويصلح قبلة جامع واسط أخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثنا عي بن محمد بن عبيد، قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: كان أسد بن عمرو على قضاء واسط، فقال: رأيت قبلة واسط رديئة جداً وتبين لي ذلك، فتحرفت فيها.
فقال قوم من أهل واسط: هذا رافضي.
فقيل لهم: ويلكم هذا من أصحاب أبي حنيفة، كيف يكون رافضياً؟
أشعب الطامع بين سالم بن عبد اللهوعبد الله بن عمرو بن عثمان أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: أخبرنا علي بن محمد بن أحمد ابن لؤلؤ الوراق، قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا أبو دواد السنجي، قال: حدثنا الأصمعي، عن أشعب الطامع، قال: دخلت على سالم بن عبد الله، فقال لي: يا أشعب، حمل إلينا جفنة هريسة، وأنا صائم، فاقعد، فكل.
قال: فحملت على نفسي.
فقال: لا تحمل على نفسك، ما يبقى تحمله معك.
قال: فلما رجعت إلى منزلي، قالت لي أمرأتي: يا مشؤوم، بعث عبد الله بن عمرو بن عثمان يطلبك، ولو ذهبت إليه لحباك.
قلت: فما قلت له؟ قالت: قلت له: إنك مريض.
قلت: أحسنت.
فأخذت قارورة دهن، وشيئاً من صفرة، فدخلت الحمام ثم تمرخت به، ثم خرجت فعصبت رأسي بعصابة، وأخذت قصبة، واتكأت عليها، فأتيته وهو في بيت مظلم.
فقال لي: أشعب؟ قلت: نعم، جعلني الله فداك، ما رفعت جنبي من الأرض منذ شهرين.
قال: وسالم في البيت، وأنا لا أعلم.
فقال لي سالم: ويحك يا أشعب.
قال: فقلت لسالم: نعم جعلني الله فداك، منذ شهرين ما رفعت ظهري من الأرض.
قال: فقال سالم: ويحك يا أشعب.
===================================ج6 6 6 6 ................

كتاب : نشوار المحاضرة

المؤلف : القاضي التنوخي

قال: فقلت: نعم، جعلت فداك، مريض منذ شهرين ما خرجت.
قال: فغضب سالم وخرج.
قال: فقال لي عبد الله بن عمرو، ويلك يا أشعب، ما غضب خالي إلا من شيء.
قال: فقلت: نعم حعلت فداك، غضب من أني أكلت اليوم عنده جفنة هريسة.
قال: فضحك عبد الله وجلساؤه، وأعطاني، ووهب لي.
قال: فخرجت، فإذا سالم بالباب، فلما رآني، قال: ويحك يا أشعب ألم تأكل عندي؟ قلت: بلى جعلت فداك.
فقال سالم: والله لقد شككتني.
سالم بن عبد الله يقسم تمراً
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: أخبرنا علي بن محمد بن لؤلؤ، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا أبو داود السنجي، قال: حدثنا الأصمعي، قال: مر أشعب فجعل الصبيان يعبثون به حتى آذوه، فقال لهم: ويحكم سالم بن عبد الله يقسم تمراً.
فصدقه الصبيان، ومروا يعدون إلى دار سالم، فعدا أشعب معهم، وقال: ما يدريني والله، لعله حق.
الحد الذي بلغه طمع أشعبأخبرنا علي بن أبي علي، قال: اخبرنا علي بن محمد بن لؤلؤ، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن الأعشى، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخذ بيدي ابن جريج، و أوقفني على أشعب الطامع، فقال له: حدثه ما بلغ من طمعك؟ قال: بلغ من طمعي أنه ما زفت امرأة بالمدينة، إلا كنست بيتي رجاء أن تهدى إلي.
القاضي أبو الوليد الكندييأبى أن ينفذ قضاء يحيى بن أكثم أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما عزل المأمون إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، استقضى على مدينة المنصور أبا الوليد بشر بن الوليد الكندي.
وكان بشر علماً من أعلام المسلمين، وكان عالماً، ديناً، خشناً في باب الحكم، واسع الفقه، وهو صاحب ابي يوسف، ومن المقدمين عنده، وحمل الناس عنه من الفقه والمسائل ما لايمكن جمعه.
وقال طلحة: حدثني عبد الباقي بن قانع، عن بعض شيوخه: أن يحيى بن أكثم شكى بشر بن الوليد إلى المأمون، وقال: إنه لا نفذ قضائي، وكان يحيى قد غلب على المأمون، حتى كان عنده أكبر من ولده، فأقعده المأمون معه على سريره، ودعا بشر بن الوليد.
فقال له: ما ليحيى يشكوك، ويقول إنك لا تنفذ أحكامه؟ قال: يا أمير المؤمنين، سألت عنه بخراسان، فلم يحمد في بلده ولا في جواره.
فصاح به المامون، اخرج، فخرج بشر.
فقال يحيى: ي ا أمير المؤمنين، قد سمعت، فاصرفه.
فقال: ويحك، هذا لم يراقبني فيك، كيف أصرفه؟ ولم يفعل.
التسليم لفقهاء، سلامة في الدينأخبرني علي بن أبي علي البصري، قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الصباح النيسابوري، قال: حدثنا أحمد بن الصلت، قال سمعت بشر بن الوليد القاضي، يقول: كنا نكون عند ابن عيينة، فكان إذا وردت عليه مسألة مشكلة يقول: هاهنا أحد من أصحاب أبي حنيفة؟ فيقال: بشر.
فيقول: أجب فيها، فأجيب.
فيقول: التسليم للفقهاء، سلامة في الدين.
نسب أبي الهيثم التنوخيسمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي يقول: البهلول بن حسان بن سنان بن أوفي بن عوف بن أو فى بن سرح بن أو فى بن خزيمة بن أسد بن مالك - أحد ملوك تنوخ - بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن عمران بن الحاف بن قضاعة - وقضاعة لقب - واسمه عمرو بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر، ويقال: هو هود النبي صلى الله عليه وسلم.
القاضي البهلول بن إسحاق الأنباريحدثني علي بن أبي علي، عن أحمد بن يوسف الأزرق، عن عمه إسماعيل بن يعقوب: أن البهلول بن إسحاق، أنباري، ولد بها سنة أربع ومائتين، ومات بها في شوال من سنة ثمان وتسعين ومائتين.
قال: وكان قد تقلد القضاء والخطبة على المنابر بالأنبار وأعمالها مدة طويلة، قبل سنة سبعين ومائتين.
وكان حسن البلاغة، مصقعاً في خطبه، كثير الحديث، ثقة فيه، ضابطاً لما يرويه، وحدث بالأنبار.
لماذا سمي بشار بالمرعثأخبرني علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسين القطعي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن بشار الأنباري، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثنا أبو الصلت العنزي، قال: سمي بشار بن برد المرعث بشعره:

من لظبي مرعث ... فاتن العين والنظر
قال لي: لست نائلي ... قلت: أو يغلب القدر
لماذا سمي بشار بالمرعثأخبرني علي بن ابي علي، قال: أخبرنا القطيعي، قال: حدثنا ابن الأنباري قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثني ابن أبي طاهر، عن محمد بن سلام، قال: إنما سمي بشار المرعث، لأنه كان لقميصه جيبان، يخرج رأسه مرة من هذا، ومرة من هذا، وكان يضم القميص عليه من غير أن يدخله في رأسه.
قال: والرعث، عند العرب، الاسترخاء والاسترسال، والرعثة: القرط، وكذلك الرعث والرعاث.
ارحمهم رحمك اللهعن التنوخي، عن أبي دهمان الغلابي، قال: حضرت بشار بن برد، وعقبة بن رؤية، وابن المقفع، فعوداً، يتناشدون، ويتحدثون، ويتذاكرون، حتى أنشد بشار أرجوزته الدالية:
يا طلل الحي بذات الصمد
ومضى فيها.
فاغتاظ عقبة بن رؤية لما سمع فيها من الغريب، وقال: أنا وأبي فتحنا الغريب للناس، وأوشك - والله - أن أغلقه.
فقال له بشار: ارحمهم رحمك الله.
قال: يا أبا معاذ، أتستصغرني وأنا شاعر بن شاعر بن شاعر؟ قال: فأنت إذن من القوم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
بين جعفر البرمكيوعبد الملك بن صالح الهاشمي أخبرنا علي بن ابي علي، قال: حدثنا محمد بن عمران بن موسى الماتب، قال: حدثنا علي بن سليمان الخفش، قال: حدثني بعض أصحابنا، قال: خرج عبد الملك بن صالح مشيعاً لحعفر بن يحيى البرمكي، فعرض عليه حاجاته.
فقال له: قصارى كل مشيع الرجوع، وأريد - أعز الله المير - ان يكون لي، كما قال بطحاء العذري: وكوني علي الواشين لداء شغبة فإني على الواشي ألد شغوب فقال جعفر: بل أكون لك كما قال جميل:
وإذا الواشي وشى يوماً بها ... نفع الواشي بما جاء يضر
القاضي جعفر بن محمد بن عماراخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الدوري - لفظاً - قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، بالبصرة، قال: أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة النميري، قال: كان أيوزب بن حسن بن موسى بن جعفر بن سليم، عاملاً على الصلاة بالكوفة وأحداثها للمتوكل، وجعفر بن محمد بن عمار على قضائها، فكان ربما أمره بالصلاة بهم إذا اعتل، وكان كثير العلل، من نقرس كان به، فكان جعفر يصلي بهم، ويدعو لأيوب على المنبر، بالتأمير له، فقال محمد بن نوفل التميمي:
فما عجب أن تطلع الشمس بكرة ... من الغرب إذ تعلو على ظهر منبر
ولولا أناة الله جل ثناؤه ... لصبحت الدنيا بخزي مدمر
إذا جعفر رام الفخار فقل له ... عليك ابن ذي موسى بموساك فافخر
فقد كان عمار إذا ما نسبته ... إلى جده الحجام لم يتكبر
ثم عزل جعفر بن محمد عن قضاء الكوفة، وحمل إلى سر من رأى، فولي قضاء القضاة، إلى أن مات بسر من رأى.
وقف بعرفة ستاً وخمسين وقفة على المذهب
أخبرنا علي بن المحسن القاضي - عير مرة - ، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري، قال: قال لي جعفر الخلدي: وقفت بعرفة ستاً وخمسين وقفة، منها إحدى وعشرون على المذهب. فقلت بعرفة ستاً وخمسين وقفة، منها إحدى وعشرون على المذهب.
فقلت لأبي إسحاق: أي شيءٍ أراد بقوله على المذهب؟ فقال: يصعد إلى قنطرة الياسرية، فينفض كميه، حتى يعلم أن ليس معه زاد ولا ماء، ويلبي ويسير.
أبو محمد جعفر بن محمد بن أحمد التنوخيذكر لي أبو اقاسم التنوخي: أن أبا محمد التنوخي، جعفر بن محمد بن احمد بن إسحاق بن البهلول ابن حسان، أصله من الأنبار، وانه ولد ببغداد في ذي القعدة في سنة ثلاث وثلثمائة، وكان أحد القراء للقرآن بحرف عاصم، وحمزة، والكسائي.
وكتب هو وأخوه علي، الحديث في موضع واحد، وأصل كل واحد منهما أصل الآخر، وشيوخ كل واحد منهما شيوخ الآخر.
وحدث عن عبد الله بن محمد البغوي، وأبي بكر بن أبي داود، وأبي الليث الفرائضي، وأحمد بن القاسم أخي أبي الليث، وأحمد بن عبيد الله ابن عمار، وجده احمد بن إسحاق البهلول، وأبي عمر محمد بن يوسف القاضي، ومحمد بن هارون بن المجدر، وعبد الوهاب بن أبي حية، وأحمد بن سليمان الطوسي، ويحيى بن محمد بن صاعد، وغيرهم.

وعرض عليه القضاء والشهادة، فأباهما تورعاً، وتقللاً، وصلاحاً.
قال لي علي بن المحسن: مات جعفر بن أبي طالب بن البهلول بغداد، ليلة الأربعاء لثمان وعشرين ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وثلثمائة، ودفن من الغد إلى جانب داره، بسكة أبي العباس الطوسي.
مالي وللعيدأنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: أنشدني أبو عبد الله بن حجاج لنفسه:
قالوا غدا العيد فاستبشر به فرحاً ... فقلت: ما لي وما للعيد والفرح
قد كان ذا والنوى لم تضح نازلة ... بعقوتي وغراب البن لم يصح
أيام لم يخترم قربي البعاد ولم ... يغد الشتات على شملي ولم يرح
وطائر طار في خضراء مورقة ... على شفا جدول بالروض متشح
بكى وناح ولولا أنه سبب ... لشجو قلبي المعنى فيك لم ينح
فما ذكرتك والأقداح دائرة ... إلا مزجت بدمعي باكياً قدحي
ولاسمعت بصوت فيه ذكر نوى ... إلا عصيت عليه كل مقترح
أبو العيناء يرثي الحسن بن سهلأخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قا: حدثنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكي، قال حدثنا جعفر بن أبي العيناء، قال: لما مات الحسن بن سهل، قال أبي: والله لئن أتعب المادحين، لقد أطال بكاء الباكين، ولقد أصيبت به الأيام، وخرست بموته الأقلام، ولقد كان بقية وفي الناس بقية، فكيف اليوم، وقد بادت البرية.
القاضي أبو محمد الحسن ابن أبي الشواربأخبرنا علي بن المسحن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: بعد الثلاثة أيام التي تقلد فيها ابن الأشناني، مدينة المنصور، استقضى المقتدر على مدينة المنصور أبا محمد الحسن بن عبد الله بن علي بن محمد بن عيد الملك بن أبي الشوارب، في يوم الاثنين لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلثمائة.
وهذا رجل، حسن السيرة، جميل الطريقة، قريب الشبه من أبيه وجده، على طريقتهم في باب الحكم والسداد.
ولم يزل والياً على المدينة إلى يوم النصف من شهر رمضان سنة عشرين وثلثمائة، ثم صرفه المقتدر.
المنصور ينصح ولده المهديبالإقبال على الفقه والغازي أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: كان الحسن بن عمارة على الحكم - يعني ببغداد - ثم بعث المنصور إلى عبيد الله بن محمد بن صفوان إلى مكة، من يقدم به عليه.
فلما قدم ولاه القضاء، وضم الحسن بن عمارة إلى المهدي.
وكان أبو جعفر، يبعث بأسلم إلى المهدي ليعرف حاله، وكيف هو في مجلسه، وربما وجه إليه في السر.
فرآه أسلم مقبلاً على مقاتل بن سليمان فأخبر المنصور بذلك.
فقال له المنصور: يا بني، بلغني إقبالك على مقاتل، فسرني ذلك، وإنك إنما تعمل غداً بما تسمع اليوم، فلا تقبل على مقاتل، وأقبل على الحسن ابن عمارة للفقه، وعلى محمد بن إسحاق للمغازي، وما جرى فيها.
الحسن بن عمارةيكرم أحد طلاب الحديث أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني أبي، قال: كان بالكوفة رجل غريب، يكتب الحديث، وكان يختلف إلى الحسن بن عمارة، يكتب عنه.
فجاءه، فودعه، ليخرج إلى بلاده، وقال له: إن في نفقتي قلة.
فكتب له الحسن رقعة، وقال: اذهب بها إلى الفرات، إلى وكيل لنا هناك، يبيع القار، فادفعها إليه.
فظن الرجل، أنه قد كتب له بدريهمات، فإذا هو قد كتب له بخمسمائة درهم.
عبيد الله بن محمد بن صفوانيتقلد للمهدي قضاء المدينة حدثنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عبيد الله بن محمد صفوان الجمحي، أقدمه المنصور من مكة، فقلده القضاء بمدينة السلام، وكان هالماً أديباً.
ومازال على الحكم حتى مات المنصور، فقلده المهدي قضاء مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحرب، والصلاة، وعزله عن قضاء بغداد.
قلت: كان المنصور قد جعل الحسن بن عمارة على المظالم ببغداد، ثم استقضاه، فلم يلبث إلا أياماً، حتى صرفه، وولى مكانه القضاء ابن صفوان
القاضي أبو حسان الزيادي

يضرب رجلاً ألف سوط ويتركه في الشمس حتى يموت أخبرنا علي، قال: أخبرنا طلحة، قال: حدثني أبو الحسين عمر ابن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: كنت في الجسر واقفاً، وقد حضر أبو حسان الزيادي القاضي،وقد وجه إليه المتوكل من سر من رأى، بسياط جدد في منديل دبيقي، مختومة، وأمره أن يضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم - وقيل احمد بن محمد ابن عاصم - صاحب خان عاصم، ألف سوط، لأنه شهد عليه الثقات، وأهل الستر، أنه شتم أبا بكر وعمر،، وقدف عائشة، فلم ينكر ذلك، ولم يتب منه، وكانت السياط بثمارها.
فجعل يضرب بحضرة القاضي، وأصحاب الشرط قيام.
فقال: أيها القاضي، قتلتني.
فقال له أبو حسان: قتلك الحق، لقذفك زوجة الرسول، ولشتمك الخلفاء الراشدين المهديين.
قال طلحة: وقيل: لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمي به في دجلة.
الخليفة الواثقيستقضي الحسن بن علي بن الجعد أخبرنا علي بن المحسن، قال: اخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عزل الواثق عبد الرحمن بن إسحاق سنة ثمان وعشرين ومائتين، واستقضى الحسن بن علي بن الجعد وكان سرياً، ذا مروءة، وكان من العلماء بمذهب أهل العراق، أخذ عن أبيه، وولي القضاء في حياة أبيه.
أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: توفي الحسن بن علي بن الجعد، وأبو حسان الزيادي في وقت واحد، وكل واحد منهما قاضٍ، كان أحدهما على المدينة، والآخر على الشرقية، في سنة ثلاث وأربعين ومائتين، في أيام المتوكل.
جريت مع الصبا طلق الجموحأخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبو عمر أحمد بن محمد السوسنجردي العسكري قال: حدثنا ابن أبي الذيال المحدث - بسر من رأى - قال: حضرت وليمة حضرها الجاحظ، فسمعته يقول: حضرت وليمة حضرها أبو نواس، وعبد الصمد بن المعذل، فسمعت عبد الصمد، يقول لأبي نواس: لقد أبدعت في قولك.
جريت مع الصبا طلق الجموح وهان علي مأثور القبيح قال أبو بكر الأنباري، أنشدني لأبي نواس:
رأيت ألذ عافية الليالي ... قران العود بالنغم الفصيح
ومسمعة إذا ما شئت غنت ... متى كان الخيام بذي طلوح
تزود من شباب ليس يبقى ... وصلى بعرى الغبوق عرى الصبوح
وخذها من مشعشعة كميت ... تنزل درة الرجل الشحيح
تخيرها لكسرى رائداه ... لها حظان من طعم وريح
ألم ترني أبحت اللهو عيني ... وعض مراشف الظبي المليح
وأيقن رائدي أن سوف تنأى ... مسافة بين جثماني وروحي
من شعر أبي عبد الله بن الحجاجأنشدنا علي بن الحسن التنوخي، قال: أنشدنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج الكاتب لنفسه:
نمت بسري في الهوى أدمعي ... ودلت الواشي على موضعي
يا معشر العشاق إن كنتم ... مثلي وفي حالي فموتوا معي
وأنشدنا التنزخي أيضاً، قال: أنشدنا أبو عبد الله بن الحجاج لنفسه:
يا من إليها من ظلمها الهرب ... رد فؤادي أقل ما يجب
ردي حياتي إن كنت منصفة ... ثم إليك الرضاء والغضب
ملكت قلبي فلم أفتك به ... سبحان من لا يفوته طلب
لحية القاضي العوفي تبلغ إلى ركبتهأخبرنا علي بن أبي علي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد المعدل، قال: حدثني أحمد بن كامل، قال: حدثنا حسين بن فهم، قال: كانت لحية العوفي تبلغ إلى ركبته.
لحية القاضي العوفي تعدت كل قدرأخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان، قا: أنشدني أبو عبد الله التميمي، لبعضهم:
لحية العوفي أبدت ... ما اختفى من محسن شعري
هي لو كانت شراعاً ... لذوي متجر بحر
جعل السبر من الصي ... ن إلينا نصف شهر
هي في الطول وفي الع ... رض تعدت كل قدر
القاضي العوفييلقي مسائله في المناظرة من الدفتر

أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: الحسين بن الحسن العوفي، رجل جليل من أصحاب أبي حنيفة، وكان سليماً مغفلاً، ولا ه الرشيد أياماً ثم صرفه.
وكان يجتمع في مجلسه قوم فيتناظرون، فيدعو بدفتر، فينظر فيه، ثم يلقي من المسائل، ويقول لمن يلقي عليه، أخطأت، أو أصبت، من الدفتر.
وتوفي سنة إحدى ومائتين.
الحسين بن الضحاك الشاعرحدثني علي بن أبي علي، عن أبي عبيد الله المرزباني، قال: أبو علي الحسين بن الضحاك بن ياسر الخليع الباهلي البصري، مولى لولد سليمان بن ربيعة الباهلي، وهو شاعر ماجن مطبوع حسن الافتنان في ضروب الشعر وأنواعه، وبلغ سناً عالية.
يقال إنه ولد في سنة اثنتين وستين ومائة، ومات في سنة خمسين ومائتين.
واتصل له من مجالسة الخلفاء ما لم يتصل لأحد، إلا لإسحاق بن إبراهيم الموصلي، فإنه قاربه في ذلك، أو ساواه.
صحب الحسين الأمين في سنة ثمان وثمانين ومائة، ولم يزل مع الخلفاء بعده إلى أيام المستعين.
الراضني يستقضي أبا محمد الحسين بن عمرأخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضى الراضي، أبا محمد الحسين بن أبي الحسين عمر بن محمد ابن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم.
وهو أصغر من أبي نصر بقليل، وهو فتى جميل الأمر، متوسط في مذهبه، وسداده، سليم الصدر، قريب من الناس، وكان محبوباً إلى الناس لأنه يشبه أباه في الصورة والخلق.
ثم مات الراضي، واستخلف المتقي لله، فأقره على مدينة المنصور إلى جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلثمائة، ثم صرفه.
أبو علي التنوخي ينيب عنهأبا القاسم الكوفي في القضاء بالكوفة حدثني علي بن المحسن التنوخي، عن أبي القاسم الكوفي، وذكر لي أنه سمع منه ببغداد في سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة.
قال: وسألته عن مولده، فقال: ولدت يوم السبت الثلاث بقين من المحرم سنة سبع وعشرين وثلثمائة.
قال التنوخي: وكان ثقة، كثير الحديث، جيد المعرفة به، وولي القضاء بالكوفة من قبل أبي، وكان فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، وكان يحفظ القرآن ويحس قطعة من الفرائض وعلم القضاء، قيماً بذلك، وكان زاهداً عفيفاً.
من مخاريق الحلاجأنبأنا علي بن أبي علي المعدل، عن أبي الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثني غير واحد من الثقات من أصحابنا: أن الحسين بن منصور الحلاج، كان قد أنفذ أحد أصحابه، إلى بلد من بلدان الجبل، ووافقه على حيلة يعملها.
فخرج الرجل، فأقام عندهم سنين يظهر النسك والعبادة، ويقرأ القرآن ويصوم، فغلب على البلد.
حتى إذا علم أنه قد تمكن، أظهر أنه قد عمي، فكان يقاد إلى مسجده، وتعامى على كل أحد شهوراً.
ثم أظهر أنه قد زمن، فكان يحبو، ويحمل إلى المسجد، حتى مضت سنة على ذلك، وتقرر في النفوس زمانته وعماه.
فقال لهم بعد ذلك: إني رأيت في النوم، كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لي: إنه يطرق هذا البلد عبد لله صالح مجاب الدعوة، تكون عافيتك على يده، وبدعائه، فاطلبوا لي كل من يجتاز من الفقراء، أو من الصوفية فلعل الله أن يفرج عني على يد ذلك العبد، وبدعائه، كما وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعلقت النفوس إلى ورود العبد الصالح، وتطلعته القلوب.
ومضى الأجل الذي كان بينه وبين الحلاج، فقدم البلد، فليس الثياب الصوف الرقاق، وتفرد في الجامع بالدعاء والصلاة.
وتنبهوا على خبره، فقالوا للأعمى.
فقال: احملوني إليه، فلما حصل عنده، وعلم أنه الحلاج، قال له: يا عبد الله، إني رأيت في المنام، كيت وكيت، فتدعو الله لي.
فقال: ومن أنا؟ وما محلي؟ فما زال به، حتى دعي له، ثم مسح يده عليه، فقام المنزامن صحيحاً مبصراً.
فانقلب البلد، وكثر الناس على الحلاج، فتركهم، وخرج من البلد.
وأقام المتعامي المتزامن فيه شهوراً، ثم قال لهم: إن من حق نعمة الله عندي، وردة جوارحي علي، ان أنفرد بالعبادة انفراداً أكثر من هذا، وأن يكون مقامي في الثغر، وقد عملت على الخروج إلى طرسوس، من كانت له حاجة تحملتها، وإلا فأنا استودعكم الله.
قال: فأخرج هذا ألف درهم، وقال: اغز بها عني، وأعطاه هذا مائة دينار، وقال: أخرج بها غزاة من هناك، وأعطاه هذا مالاً، وهذا مالاً، حتى اجتمع ألوف دنانير ودراهم.

فلحق بالحلاج، فقاسمه عليها.
محاكمة الحلاجوتنفيذ حكم الاعدام فيه حدثنا علي بن المحسن القاضي، عن أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن زنجي الكاتب عن أبيه - وهو المعروف بزنجي - بما أسوقه من أخبار الحلاج. إلى حين مقتله، وكان زنجي يلازم مجلس حامد بن العباس، ويرى الحلاج، ويسمع مناظرات أصحابه.
قال زنجي: أول ما انكشف من أمره في أيام وزارة حامد بن العباس، أن رجلاً شيخاً، حسن السمة، يعرف بالدباس، تنصح فيه، وذكر انتشار أصحابه، وتفرق دعاته في النواحي، وأنه كان ممن استجاب له، ثم تبين له مخرقته، ففارقه، وخرج عن جملته، وتقرب إلىالله بكشف أمره.
واجتمع معه على هذه الحال، أو علي هارون بن عبد العزيز الوارجي، الكاتب الأنباري، وكان قد عمل كتاباً، ذر فيه مخاريق الحلاج، والحيلةفيها.
والحلاج يومئذ، مقيم عند نصر القشوري، من بعض حجره، موسع عليه، مأذن لمن يدخل إليه.
وللحلاج إسمان، أحدهما الحسين بن منصور، والاخر محمد بن أحمد الفارسي.
وكان قد استغوى نصراً، وجاز تمويهه عليه، حتى كان يسميه: العبد الصالح.
وتحدث الناس، ان علة عرضت للمقتدر بالله في جوفه، وقف نصر على خبرها، فوصفه له، واستأذنه في إدخاله إليه، فأذن له، فوضع يده على الموضع الذي كانت فيه العلة، وقرأ عليه، فاتفق أن زالت العلة.
ولحق والدة المقتدر بالله مثل تلك العلة، وفعل بها مثل ذلك، فزال ما وجدته.
فقام للحلاج بذلك، سوق في الدار، وعند والدة المقتدر، والخدم، والحاشية، وأسباب نصر خاصة.
ولما انتشر كلام الباس، وأبي علي الأوراجي في الحلاج، بعث به المقتدر بالله، إلى أبي الحسن علي بن عيسى، ليناظره، فأحضره مجلسه، وخاطبه خطاباً فيه غلظة.
فحكي في ذلك الوقت، أنه تقدم غليه، وقال له - فيما بينه وبينه - : قف حيث انتهيت، ولا تزد عليه شيئاً، وإلا قلبت الأرض عليك. أو كلاما في هذا المعنى.
فتهيب علي بن عيسى مناظرته، واستعفى منه، ونقل حينئذ، إلى حامد.
وكانت بنت السمري، صاحب الحلاج، قد أدخلت إليه، وأقامت عنده في دار السلطان مدة، وبعث بها إلى حامد ليسألها عما وقفت عليه، وشاهدته في أحواله.
فدخلت إلى حامد، في يوم شاتٍ بارد، وهذه المرأة بحضرته، وكانت حسنة العبارة، عذبة الأفاظ، مقبولة الصورة.
فسألها عن أمره، فذكرت أن أباها السمري، حملها إليه، وأنها لما دخلت عليه، وهب لها أشياء كثيرة، عددت أصنافها، منها ريطة خضراء وقال لها؛ قد زوجتك ابني سليمان، وهو أعز ولدي علي، وهو مقيم بنيسابور - في موضع قد ذكرته، وأنسيته - وليس يخلو أن يقع بين المرأة وزوجها خلاف، او تنكر منه حالاً من الأحوال، وقد أوصيته بك، فمتى حرى شيئ تنكرينه من جهته، فصومي يومك، واصعدي آخر النهار إلى السطح، وقومي على الرماد، واجعلي فطرك عليه، وعلى ملح جريش، واستقبليني بوجهك، واذكري لي ما أنكرتيه منه، فإني أسمع وأرى، قالت: وكنت ليلة نائمة في السطح، وابنة الحلاج معي، في دار السلطان وهو معنا، فلما كان في الليل، أحسست به وقد غشيني، فانتبهت مذعورة منكرة لما كان منه، فقال: إنما جئت لأوقظك للصلاة.
ولما أصبحنا، نزلت إلى الدار، ومعي بنته، ونزل هو، فلما صار على الدرجة، بحيث يرانا ونراه، قالت بنته: اسجدي له.
فقلت لها: أو يسجد أحد لغير الله؟ وسمع كلامي لها، فقال: نعم، إله في السماء، وغله في الأرض، قال: ودعاني إليه، وأدخل يده في كمه، وأخرجها مملوءة مسكاً، فدفعه إلي، وفعل هذا مرات، ثم قال: اجعلي هذا في طيبك، فإن المرأة، إذا حصلت عند الرجل، احتاجت إلى الطيب.
قالت: ثم دعاني، وهو جالس في بيت البوراي، فقال: ارفعي جانب البارية، وخذي من تحته ما تريدين، وأومأ إلى زاوية البيت، فجئت إليها، ورفعت البارية، فوجدت الدنانير تحتها مفروشة ملء البيت، فبهرني ما رأيت من ذلك.
قال زنجي: وأقامت هذه المرأة، معتقلة في ار حامد، إلى أن قتل الحلاج.
ولما حصل الحلاج في يد حامد، جد في طلب أصحابه، وأذكى العيون عليهم، وحصل في يده منهم، حيدرة، والسمري، ومحمد بن علي القنائي، والمعروف بأبي الهاشمي، واستتر المعروف بان حماد، وكبس منزله، وأخذت منه دفاتر كثيرة، وكذلك من منزل محمد بن علي القنائي، في ورق صيني، وبعضها مكتوب بماء الذهب، مبطنة بالديباج والحرير، مجلدة بالأديم الجيد.

وكان فيما خاطبه به حامد، أول ما حمل إليه: ألست تعلم أني قبضت عليك بدور الراسبي، وأحضرتك إلى واسط، فذكرت في دفعة أنك المهدي، وذكرت في دفعة أخرى أنك رجل صالح تدعو إلى عبادة الله، والأمر بالمعروف، فكيف ادعيت بعد الألوهية؟ وكان في الكتب الموجودة، عجائب من مكاتباته أصحابه النافذين إلى النواحي، وتوصيتهم بما يدعون الناس إليه، وما يأمرهم به من نقلهم من حال إلى أخرى، ومرتبة إلى مرتبة، حتى يبلغوا الغاية القصوى، وأن يخاطبوا كل قوم، على حسب عقولهم وأفهامهم، وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم، وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة، لا يعرفها إلا من كتبها، ومن كتبت إليه، ومدارج فيها ما يجري هذا المجرى، وفي بعضها صورة فيها اسم الله تعالى مكتوب على تعويج، وفي داخل ذلك التعويج، مكتوب: علي عليه السلام، كتابة لا يقف عليها إلا من تأملها.
وحضرت مجلس حامد، وقد أحضر السمري صاحب الحلاج، وسأله عن أشياء من أمر الحلاج، وقال له: حدثني بما شاهدته منه.
فقال له: إن رأى الوزير أن يعفيني، فعل.
فأعلمه أنه لا يعفيه، وعاود مسألته عما شاهده، فعاود استعفاءه. وألح عليه في السؤال.
فلما تردد القول بينهما، قال: أعلم أني إن حدثتك كذبتني، ولم آمن مكروهاً يلحقني، فوعده أن لا يلحقه مكروه.
فقال: كنت معه بفارس، فخرجنا نريد اصطخر في زمان شاتٍ، فلما صرنا في بعض الطريق، أعلمته بأني قد اشتهيت خياراً.
فقال لي: في هذا المكان؟ وفي مثل هذا الوقت من الزمان؟ فقلت: هو شيء عرض لي.
ولما كان بعد ساعات، قال لي: انت على تلك الشهوة؟ فقلت: نعم.
قال: وسرنا إلى سفح جبل ثلج، فأدخل يده فيه، وأخرج إلي منه خيارة خضراء، ودفعها إلي.
فقال له حامد: فأكلتها؟ قال: نعم.
فقال له: كذبت يا ابن مائة ألف زانية في مائة ألف زانية، أو جعوا فكه.
فأسرع الغلمان إليه، فامتثلوا ما أمرهم به، وهو يصيح: أليس من هذا خفنا؟ ثم أمر به، فأقيم من المجلس.
وأقبل حامد يتحدث عن قوم من أصحاب النيرنجيات، كانوا يعدون بإخراج التين، وما يجري مجراه من الفواكه، فإذا حصل ذلك في يد الإنسان، وأراد أن يأكله، صار بعراً.
وحضرت مجلس حامد، وقد أحضر سفط خيازر لطيف، حمل من دار محمد بن علي القنائي - أكبر ظني - فتقدم بفتحه، فإذا فيه قدر جافة خضراء، وقوارير فيها شيء يشبه لون الزئبق، وكسر خبز جافة، وكان السمري حاضراً، جالساً بالقرب من أبي، فعجب من تلك القدر وتصييرها في سفط مختوم، ومن تلك القوارير - وعندنا أنها أدهان - ومن كسر الخبز.
وسأل حامد السمري عن ذلك، فدافعه في الجواب، واستعفاه منه. وألح عليه في السؤال، فعرفه أن في ذلك القدر رجيع الحلاج، وأنه يستشفى به، وأن الذي في القوارير بوله.
فعرف حامد، ما قاله، فعجب منه من كان في المجلس، واتصل القول في الطعن على الحلاج.
وأقبل أبي يعيد ذكر تلك الكسر، ويتعجب منها، ومن احتفاظهم بها، حتى غاظ السمري ذلك، فقال له: هوذا أسمع ما تقول، وأرى تعجبك من هذه الكسر، وهي بين يديك فكل منها ما شئت، ثم انظر كيف يكون قلبك للحلاج بعد أكلك ما تأكله منها.
فتهيب أبي أن يأكلها، وتخوف أن يكون فيها سم.
وأحضر حامد الحلاج، وسأله عما كان في السفط، وعن احتفاظ أصحابه برجيعه وبوله؟ فذكر أنه شيء ما علم به، ولا عرفه.
وكان يتفق في كثير من الأيام، جلوس الحلاج في مجلس حامد، إلى جنبي، فأسمعه يقول دائماً: سبحانك، لا إله إلا أنت، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
وكانت عليه مدرعة سوداء من صوف.
وكنت يوماً، وأبي، بين يدي حامد، ثم نهض عن مجلسه، وخرجنا إلى دار العامة، وجلسنا في رواقها، وحضر هارون بن عمران الجهبذ، فجلس بين يدي أبي، ولم يحادثه، فهو في ذاك، إذ جاء غلام حامد الذي كان موكلاً بالحلاج، وأومأ إلى هارون بن عمران أن يخرج إليه، فنهض عن المجلس مسرعاً، ونحن لا ندري ما السبب.
فغاب عنا قليلاً، ثم عاد وهو متغير اللون جداً. فأنكر أبي ما رآه منه، وسأله عنه.

فقال: دعاني الغلام الموكل بالحلاج، فخرجت إليه، فأعلمني أنه دخل إليه، ومعه الطبق الذي رسم أن يقدمه إليه في كل يوم، فوجده ملأ البيت من سقفه إلى أرضه، وملأ جوانبه، فهاله ما رأى من ذلك، ورمى الطبق من يده، وخرج من البيت مسرعاً، وأن الغلام ارتعد، وانتفض وحم وبقي هارون يتعجب من ذلك.
وبلغ حامداً عن بعض أصحاب الحلاج، إنه ذكر أنه دخل إليه، إلى الموضع الذي هو فيه، وخاطبه بما أراده، فأنكر ذلك كل الإنكار، وتقدم بمساءلة الحجاب والبوابين عنه، وقد كان رسم أن لا يدخل إليه أحد، وضرب بعض البوابين، فحلفوا بالإيمان المغلظة، انهم ما أدخلوا أحداً من أصحاب الحلاج إليه، ولا اجتاز بهم، وتقدم بافتقاد السطوح، وجوانب الحيطان، فافتقدوا ذلك أجمع، ولم يوجد له أثر ولا خلل.
فسئل الحلاج، عن دخول من دخل إليه، فقال: من القدرة نزل، ومن الموضع الذي وصل إلي منه خرج.
وكان يخرج إلى حامد، في كل يوم، دفاتر، مما حمل من دور أصحاب الحلاج، وتجعل بين يديه، فيدفعها إلى أبي، ويتقدم إليه، بأن يقرأها عليه، فكان يفعل ذلك دائماً.
فقرأ عليه في بعض الأيام، من كتب الحلاج، والقاضي أبو عمر حاضر، والقاضي أبو الحسين ابن الأشناني، كتاباً حكى فيه، أن الإنسان إذا أراد الحج، ولم يمكنه، أفرد في داره بيتاً، لا يلحقه شيء من النجاسة، ولا يدخله أحد، ومنع من تطرقه، فإذا حضرت أيام الحج، طاف حوله، طوافه حول البيت الحرام، فإذا انقضى ذلك، وقضى من المناسك ما يقضي بمكة مثله، جمع ثلاثين يتيماً وهمل لهم أمر أما يمكنه من الطعام، وأحضرهم إلى ذلك البيت، وقدم إليهم ذلك الطعام، وتولى خدمتهم بنفسه، فإذا فرغوا من أكلهم، وغسل أيديهم، كسا كل واحد منهم قميصاً، ودفع إليه سبعة دراهم، أو ثلاثة - الشك مني - فإذا فعل ذلك، قام له مقام الحج.
فلما قرأ أبي هذا الفصل، التفت أبو عمر القاضي إلى الحلاج، وقال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري.
فقال له أبو عمر: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكة، وليس فيه شيء مما ذكرته.
فلما قال أبو عمر: كذبت يا حلال الدم، قال له حامد: اكتب بهذا.
فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج، فأقبل حامد، يطالبه بالكتاب بما قاله، وهو يدافع، ويتشاغل، إلى أن مد حامد الدواة من بين يديه إلى أبي عمر ودعا بدرج، فدفعه إليه.
وألح عليه حامد بالمطالبة بالكتاب، إلحاحاً لم يمكنه معه المخالفة، فكتب بإحلال دمه، وكتب بعده من حضر المجلس.
ولما تبين الحلاج الصورة، قال: ظهري حمى، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي بما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح، ولي كتب في السنة موجوة في الوارقين، فالله الله من دمي.
ولم يزل يردد هذا القول، والقوم يكتبون خطوطهم، إلى أن استكموا ما احتاجوا إليه، ونهضوا عن المجلس، ورد الحلاج إلى موضعه الذي كان فيه.
ودفع حامد ذلك المحضر إلى والدي، وتقدم إليه أن يكتب إلى المقتدر بالله، بخبر المجلس، وما جرى فيه، وينفذ الجواب عنها.
فكتب الرقعتين، وأنفذ الفتوى درج الرقعة إلى المقتدر بالله.
وأبطأ الجواب يومين، فغلظ ذلك على حامد، ولحقه ندم على ما كتب به، وتخوف أن يكون قد وقع غير موقعه، ولم يجد بداً من نصرة ما عمله.
فكتب بخط والدي، رقعة إلى المقتدر بالله، في اليوم الثالث، يقتضي فيها ما تضمنته الولى، ويقول: عن ما جرى في المجلس، قد شاع وانتشر، ومتى لم يتبعه قتل الحلاج، افتن الناس به، ولم يختلف عليه اثنان، ويستأذن في ذلك، وانفذ الرقعة إلى مفلح، وسأله إيصالها، وتنجيز الجواب عنها، وإنفاذه إليه.
فعاد الجواب من المقتدر بالله في غد ذلك اليوم، من جهة مفلح، بأن القضاة، إذا كانوا قد أفتوا بقتله، وأباحوا دمه، فليحضر محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، ويتقدم إليه بتسلمه، وضربه ألف سوط، فإن تلف تحت الضرب، وإلا ضرب عنقه.
فسر حامد بهذا الجواب، وزال ما كان عليه من الاضراب، واحضر محمد بن عبد الصمد، وأقرأه إياه، وتقدم إليه بتسلم الحلاج، فامتنع من ذلك، وذكر أنه يتخوف أن ينتزع.
فأعلمه حامد، أنه يبعث معه غلمانه، حتى يصيروا به إلى مجلس الشرطة في الجانب الغربي.

ووقع الاتفاق على أن يحضر بعد عشاء الآخرة، ومعه جماعة من أصحابه، وقوم على بغال مؤكفة، يجرون مجرى الساسه، ليجعل على واحد منها، ويدخل في غمار القوم.
وأوصاه بأن يضربه ألف سوط ، فإن تلف، حز رأسه، واحتفظ به، وأحرق جثته.
وقال له حامد: إن قال ذلك: أجري لك الفرات ذهباً وفضة، فلا تقبل منه، ولا ترفع الضرب عنه.
فلما كان بعد عشاء الآخرة، وافى محمد بن عبد الصمد، إلى حامد، ومعه رجاله، والبغال المؤكفة، فتقدم إلى غلمانه، بالركوب معه، حتى يصل إلى مجلس الشرطة، وتقدم إلى الغلام الموكل به، بإخراجه من الموضع الذي هو فيه، وتسليمه إلى أصحاب محمد بن عبد الصمد.
فحكى الغلام: أنه لما فتح الباب عنه، وأمره بالخروج، وهو وقت لم يكن يفتح عنه في مثله، قال له: من عند الوزير؟ فقال: محمد بن عبد الصمد.
فقال: ذهبنا واله.
وأخرج، وأركب بعض تلك البغال المؤكفة، واختلط بجمله الساسة، وركب غلمان حامد معه، حتى أوصلوه إلى الجسر، ثم انصرفوا.
وبات هناك محمد بن عبد الصمد، ورجاله مجتمعون حول المجلس.
فلما أصبح يوم الثلاثاء، لست بقين من ذي القعدة، أخرج الحلاج إلى رحبة المجلس، وأمر الجلاد بضربه بالسوط، واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم، فضرب إلى تمام الألف سوط، وما استعفى، ولا تأوه.
بل لما بلغ إلى ستمائة سوط، قال لمحمد بن عبد الصمد: ادع بي إليك، فإن عندي نصيحة، تعدل فتح القسطنطينية.
فقال له محمد: قد قيل لي إنك ستقول هذا، وما هو أكثر منه، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل.
ولما بلغ ألف سوط، قطعت يده، ثم رجله، ثم يده، ثم رجله، وحز رأسه، وأحرقت جثته.
وحضرت في هذا الوقت، وكنت واقفاً على ظهر دابتي، خارج المجلس، والجثة تقلب على الجمر، والنيران تتوقد، ولما صارت رماداً، ألقيت في دجلة.
ونصب الرأس يومين ببغداد، على الجسر، ثم حمل إلى خراسان، وطيف به في النواحي، وأقبل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوماً.
واتفق أن زادت دجلة في تلك السنة، زيادة فيها فضل، فادعى أصحابه، أن ذلك بسببه، ولأن الرماد خالط الماء.
وزعم بعض أصحاب الحلاج، أن المضروب، عدو الحلاج، ألقي شبهه عليه.
وادعى بعضهم، أنهم رأوه في ذلك اليوم، بعد الذي عاينوه من أمره، والحال التي جرت عليه، وهو راكب حماراً، في طريق النهروان، ففرحوا به، وقال: لعلكم مثل هؤلاء البقر الذين ظنوا أني أنا المضروب والمقتول.
وزعم بعضهم: أن دابة حولت في صورته.
وكان نصر الحاجب بعد ذلك، يظهر الترثي له، ويقول: إنه مظلوم، وإنه رجل من العباد.
وأحضر جماعة من الوراقين، وأحلفوا على أن لا يبيعوا شيئاً من كتب الحلاج ولا يشتروها.
الخليفة يدعو القاضي حفص بن غياثفيستمهله حتى يفرغ من أمر الخصوم أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني عمر بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور، عن أبي هشام الرفاعي: أن حفص بن غياث كان جالساً في الشرقية للقضاء، فأرسل إليه الخليفة يدعوه.
فقال له: حتى أفرغ من أمر الخصوم، إذ كنت أجيراً لهم، وأصير إلى أمير المؤمنين.
ولم يقم حتى تفرق الخصوم.
القاضي حفص بن غياثتمر أحكامه وقضاياه كالقدح أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن رزق، قال: لما ولي حفص بن غياث القضاء بالكوفة، قال لهم أبو يوسف: اكسروا دفتراً لتكتبوا فيه نوادر قضاياه، فمرت قضاياه وأحكامه كالقدح.
فقالوا لأبي يوسف: أنا ترى؟ قال: ما أصنع بقيام الليل.
يريد أن الله وفقه - بصلاة الليل - في الحكم.
الحسن بن وهب يرثي أبا تمام الطائيأنبأنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني، قال: أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني محمد بن موسى، قال: قال الحسن بن وهب، يرثي أبا تمام الطائي.
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي
ماتا معاً فتجاورا في حفرةٍ ... وكذلك كانا قبل في الأحياء
مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر

أنبأنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي، إملاء من حفظه، قال: حدثنا أبي، ابو بكر يوسف بن يعقوب، وعم أبي، القاضي أو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، قال: سمعت جدي حسان بن سنان، يقول: قدمت إلى واسط متظلماً من عاملنا بالأنبار، فرأيت أنس بن مالك، في ديوان الحجاج بن يوسف، وسمعته يقولك مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر.
قال إسحاق بن البهلول: قد دخلت في الدعوة التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: طوبى لمن رآني، ومن رأى من رآني، ومن رأى من رأى من رآني.
حسان بن سنان التنوخيأدركته بركة دعاء أنس بن مالك أنبأنا علي بن أبي علي، قال: حدثني أبو غانم محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا جدي إسحاق، قال: حدثني جدي حسان، قال: خرجت في وفد من أهل الأنبار، إلى الحجاج، إلى واسط، نتظلم إليه من عامله علينا ابن الرفيل.
فدخلت ديوانه، فرأيت شيخاً، والناس يكتبون عنه، فسألت عنه، فقيل لي: أنس بن مالك، فوقفت عليه.
فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من الأنبار، جئنا إلى الأمير نتظلم إليه.
فقال: بارك الله فيك.
فقلت: حدثني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا خادم رسول الله.
فقال سمعته صلى اله عليه وسلم، يقول: مر بالمعروف، وانه عن المنكر، ما استطعت.
وأعجلني أصحابي، فلم أسمع منه غير هذا الحديث.
قال أبو غانم: قال أبي: كان جدي إسحاق يقول: أرجو أن اكون ممن سبقت فيه، دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله (طوبى لمن رآني، ولمن رأى من رآني، ولمن رأى من رأى من رآني).
قال أبو غانم: وكان من بركة دعاء أنس لحسان، أنه عاش مائة وعشرين سنة، وخرج من أولاده جماعة فقهاء، وقضاة، ورؤساء، وصلحاء، وكتاب، وزهاد.
ولد حسان سنة ستين للهجرة، ووفاته في سنة ثمانين ومائة.
حسان بن سنان التنوخيكان نصرانياً، وأسلم حدثني علي بن المحسن القاضي، عن أحمد بن يوسف الأزرق، عن مشايخ أهله، قال: كان جدنا حسان بن سنان، يكنى أبا العلاء، وولد بالأنبار في سنة ستين من الهجرة على النصرانية، وكانت دينه، ودين آبائه، ثم أسلم، وحسن إسلامه.
وكانت له حين أسلم ابنة بالغ، فأقامت على النصرانية، فلما حضرتها الوفاة، وصت بمالها لديرة تنوخ بالأنبار.
وكان حسان، يتكلم ويقرأ ويكتب، بالعربية، والفارسية، والسريانية، ولحق الدولتين.
فلما قلد أبو العباس السفاح، ربيعة الرأي، القضاء بالأنبار، وهي إذ ذاك حضرته، أتي بكتب مكتوبة بالفارسية، فلم يحسن أن يقرأها، فطلب رجلاً ديناً، ثقةً، يحسن قراءتها، فدل على حسان بن سنان، فجاء به، فكان يقرأ له الكتب بالفارسية.
فلما اختبره، ورضي مذاهبه، استكتبه على جميع أمره.
وكان حسان قبل ذلك، رأى أنس بن مالك، خادم النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، ولا يعلم هل رأى غيره من الصحابة أم لا.
ومات جدنا حسان، وله مائة وعشرون سنة.
افتتح القضاء بأعورينأنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني محمد بن جرير الطبري إجازة الطبري إجازة: أن المتوكل أشخص يحيى بن أكثم من بغداد إلى سر من رأى، بعد القبض على ابن أبي دؤاد فولاه قضاء القضاة في سنة سبع وثلاثين ومائتين، وعزل عبد السلام - يعني الوابصي - وولي مكانه سوار بن عبد الله بن سوار العنبري، ويكنى أبا عبد الله، على الجانب الشرقي، وقلد حبان بن بشر، الأسدي، الشرقية، وخلع عليها في يوم واحد، وكانا أعورين، فأنشدني عبيد الله بن محمد الكاتب، لدعبل:
رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين
قد اقتسما العمى نصفين قداً ... كما اقتسما قضاء الجانبين
وتحسب منهما من هز رأساً ... لينظر في مواريث ودين
كأنك قد جعلت عليه دناً ... فتحت بزاله من فرد عين
هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء بأعورين
من شعر خالد الكاتبأنبأنا علي بن أبي علي، قال: أنشدنا محمد بن العباس الخزاز، وقال: أنشدنا محمد بن القاسم الأنباري، لخالد الكاتب:

قد القضيب حكى رشاقة قده ... والورد يحسد ورده في خده
والشمس جوهر نورها من نوره ... والبدر أسعد سعده من سعده
خشف أرق من البهاء بهاؤه ... ومن الفرند المحض في إفرنده
لو مكنت عيناك من وجناته ... لرأيت وجهك في صفيحة خده
قال: وله أيضاً:
الله جارك يا سمعي ويا بصري ... من العيون التي ترمك بالنظر
ومن نفاسة خديك اللذين لك ال ... معنى وقد وسما بالشمس والقمر
فحاسناك، فما فازا بحسنهما ... وخاطراك، فما فاتاك بالخطر
من كان فيك إلى العذال معتذراً ... من الأنام فإني غير معتذر
أبو سعد دواد بن الهيثمابن إسحاق بن البهلول التنوخي الأنباري حدثني علي بن المحسن التنوخي، قال: قال لنا أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول: كان أبو سعد داود بن الهيثم أسن من القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق البهلول، ومن أبي.
ولد أبو سعد في سنة تسع وعشرين ومائتين، وولد القاضي أبو جعفر في المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وولد أبي في سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
وكان أبي، والقاضي أبو جعفر، يريان فضل أبي سعد، وضبطه، ويقدمانه عليهما.
وكان أبي يقول: أبو سعد، أدبني، وعلمني.
وكان أخذ بيد إسحاق بن البهلول، حين أدخله على المتوكل، لما استحضره للسماع، فلما أراد إسحاق أن يقرأ على المتوكل، فضائل العباس، تقدم إلى أبي سعد، فقرأها عليه، والمتوكل يسمع.
قال علي بن المحسن: وكان فصيحاً، نحوياً، لغوياً، حسن العلم بالعروض، واستخراج المعمى، وصنف كتباً في اللغة والنحو على مذهب الكوفيين، وله كتاب كبير في خلق الإنسان، متداول.
وكان أخذ عن يعقوب بن السكيت، ولقي ثعلباً، فحمل عنه، وكان يقول الشعر الجيد، ولقي من الأخباريين جماعة، منهم حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
حدثني علي بن المحسن، عن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: كان أبو سعد داود بن الهيثم، كثير الحديث، كير الحفظ للأخبار، والآداب، والنحو، واللغة، والأشعار، ولد بالأنبار، ومات بها في سنة ست عشرة وثلثمائة.
قال علي بن المحسن: وقال لنا أبو الحسن بن الأزرق: مات أبو سعد، دواد بن الهيثم وله ثمان وثمانون سنة.
لماذا عرف بالثلاجأخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني التنوخي، قال: قال لنا ابن الثلاج: ما باع أحد من سلفنا ثلجاً قط، وإنما كانوا بحلوان، وكان جدي مترفاً، فكان يجمع له في كل سنة ثلج كثير لنفسه.
فاجتاز الموفق، أو غيره من الخلفاء، فطلب ثلجاً، فلم يوجد إلا عند جدي، وأهدى إليه منه، فوقع منه موقعاً لطيفاً، وطلبه منه أياماً كثيرة، طول مقامه، وكان يحمله إليه.
فقال: اطلبوا عبد الله الثلاج، واطلبوا ثلجاً من عند عبد الله الثلاج فعرف بالثلاج، وغلب عليه.
ترفق بأهل الجهل إن كنت ساقياحدثني علي بن المحسن، عن أبي عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، قال: زراع بن عروة الحنفي، شاعر محدث من أهل اليمامة ورد بغداد، ومات بها، وهو القائل:
فقد قال زراع، فكن عند قوله ... ترفق بأهل الجهل إن كنت ساقيا
وجدت أقل الناس عقلاً إذا انتشى ... أقلهم عقلاً إذا كان صاحيا
يزيد حسى الكأس السفيه سفاهةً ... ويترك أحلام الرجال كما هيا
ضم يا ضمام، واحذر لا تنامحدثنا التنوخي قال: سرق أصحاب الحديث نعل أبي زيد، فكان إذا جاء أصحاب الشعر والعربية والأخبار، رمى بثيابه، ولم يتفقدها، وإذا جاء أصحاب الحديث، جمعها كلها، وجعلها بين يديه، وقال: ضم يا ضمام، واحذر لا تنام.
رأي أبي زيد الأنصاريفي أبي عبيدة والأصمعي أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: سئل أو زيد الأنصاري عن ابي عبيدة والأصمعي، فقال: كذابان.
وسئلا عنه، فقالا: ما شئت من عفاف، وتقوى، وإسلام.
السري الرفاء يستهدي قدحاً

أخبرنا علي بن أبي علي، قال: أنشدنا أحمد بن علي، المعروف بالهائم، قال: أنشدنا السري بن أحمد الرفاء - لنفسه - وكتب بها إلى صديق له، كان أهدى إليه قدحاً حسناً، فسقط من يده فانكسر:
يا من لديه العفاف والورع ... وشيمتاه العلاء والرفع
كأسك قد فرقت مفاصله ... بين الندامى فليس تجتمع
كأنما الشمس بينهم سقطت ... فجسمها في أكفهم قطع
لو لم أكن واثقاً بمشبهه ... منك لكاد الفؤاد ينصدع
فجد به بدعة فعندي من ... جودك أشياء كلها بدع
أعجمي يتنقص الإمام علياً فيضرب ويطرد
حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أحمد بن يوسف ابن يعقو بن إسحاق بن البهلول، قال: أخبرني أبي وعمي، انه كان بالأنبار قوم لا يرتقون في الخلافة والفضل بعلي بن أبي طالب، منهم الوضاح بن حسان - رجل من الأعاجم - وكان إسحاق بن البهلول، يحضر مجلسه، والناس متوافرون عليه، لعلو إسناده.
فصار إسحاق إليه يوماً، وهو يحدث في مسجده، وحو اليه زهاء ألف إنسان، فسأله عن علي بن أبي طالب، فلم يلحقه بأبي بكر وعمر وعثمان.
فخرق إسحاق دفتراً كان بيده، فيه سماع منه له، وضرب به رأسه.
فانفض الناس عن الوضاح، وأقعد إسحاق في مكانه رجلاً، كان أقام بالأنبار، ثم خرج إلى الثغر، يعرف بسمرة بن حجر الخراساني، صاحب سنة، فحدث بفضائل الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب عنه إسحاق، فكتب الناس عنه.
شبيب بن شيبةيفزع إليه أهل البصرة في قضاء حوائجها أخبرنا علي بن علي المعدل، قال: اخبرنا أحمد بن إبراهيم، ومحمد بن عبد الرحمن بن العباس، قالا: حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري، قال: حدثنا أبو يعلى زكريا بن يحيى المنقري، قال: حدثنا الأصمعي، قال: كان شبيب بن شيبة، رجلاً شريفاً، يفزع إليه أهل البصرة في حوائجهم، فكان يغدو في كل يوم ويركب.
فإذا أراد أن يغدو، أكل من الطعام شيئاً قد عرفه، فنال منه، ثم ركب .
فقيل له: إنك تباكر الغداء.
فقال: أجل، أطفي به فورة جوعي، وأقطع به خلوف فمي، وأبلغ به في قضاء حوائجي، فإني وجدت خلاء الجوف، وشهوة الطعام، يقطعان الحكيم عن بلوغه في حاجته، ويحمله ذلك على التقصير فيما به إليه الحاجة، وإني رأيت النهم لا مروءة له، ورأيت الجوع داء من الداء، فخذ من الطعام ما يذهب عنك النهم، وتداوي به داء الجوع.
من حكم شبيب بن شيبةأخبرنا التنوخي، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا أبو العاس بن محمد، قال: سمعت أبا العباس المبرد يقول: قال شبيب بن شيبة: من سمع كلمة يكرهها، فسكت، انقطع عنه ما يكرهه، وإن أجاب، سمع أكثر مما يكره.
علام يؤتي المرءأخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا علي بن الحسن الجراحي قال: حدثني سهل بن إسماعيل الجوهري، قال: حدثنا محمد بن عبد الله ابن الضريس النحوي، قال: حدثنا عبد الله بن الحكم الحربي، قال: حدثنا محمد بن شبيب النحوي، قال: حدثنا الشرقي بن القطامي، قال: دخلت على المنصور، فقال: يا شرقي، علام يؤتي المرء؟ فقلت: أصلح الله الخليفة، على معروف قد سلف، ومثله يؤتنف، أو قديم شرف، أو علم مطرف.
العباس الخياط لا يثمر فيه الإحسانأخبرناعلي بن أبي علي، قال: أنشدنا محمد بن العباس الخزاز، قال: أنشد أبو القاسم التوزي، أبي، وأنا أسمع، للعباس الخياط في صالح بن أحمد بن حنبل:
جاد بدينارين لي صالح ... أصلحه الله وأخزاهما
فواحد تحمله ذرة ... زيلعب الريح بأقواهما
بل لو وزنا لك ظليهما ... ثم عمدنا فوزناهما
لكان لا كانا ولا افلحاعليهما يرجح ظلاهما
من شعر ابن الأعرابيأخبرنا علي بن المحسن المعدل، حدثنا أحمد بن محمد بن يعقوب الكاغدي، قال: حدثنا محمد بن أحمد الحكمي، قالك حدثنا أبو توبة، صالح بن محمد بن دراج الكاتب، قال: أنشدنا ابن الأعرابي:
كانت سليمى إذا ما جئت طارقها ... وأخمد الليل نار الموقد الصالي
قارورة من عبير عند ذي لطف ... من الدنانير كالوه بمثقال
القاضي التنوخي بنيب عنه

صدقة بن علي الموصلي على قضاء نصيبين وأعمالها أخبرنا التنوخي عن أبيه، قال: حدثنا صدقة بن علي الموصلي - وكان خليفة أبي، على قضاء نصيبين وأعمالها - قرأ علينا من لفظه، في منزلنا ببغداد، في ذي القعدة من سنة سبعين وثلثمائة، بعد أن كتبه لنا من حفظه: حدثنا إبراهيم بن ثمامة الحنفي، بمصر، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن.
قال التنوخي: ذكر لنا صدقة، أنه ولد في سنة سبع وثلثمائة.
لا عار في الصرف إذا بقيت المحاسن محروسةحدثني علي بن المحسن التنوخي، قال: لما عزل صاعد بن محمد عن قضاء نيسابور بأستاذه أبي الهيثم عتبة بن خيثمة، كتب إليه أبو بكر محمد ابن موسى الخوارزمي، هذين البيتين، وأنشدهما لنفسه:
وإذا لم يكن من الصرف بد ... فليكن بالكبار لا بالصغار
وإذا كانت المحاسن بعد ال ... صرف محروسة فليس بعار
المنصور العباسييضرب أسوأ المثال في القسوة أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: وجدت في كتاب جدي علي ابن محمد بن أبي الفهم قال: حدثني أحمد بن أبي العلاء المعروف بحرمي، قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن محمد بن أبان، قال: حدثني أبو معقل، وهو ابن إبراهيم بن داحة، قال: حدثني أبي، قال: أخذ أبو جعفر، أمير المؤمنين، عبد الله بن حسن بن حسن، فقيده، وحبسه في داره.
فلما أراد أبو جعفر الخروج إلى الحج، جلست له لعبد الله بن حسن، يقال لها: فاطمة، فلما أن مر بها أنشأت تقول:
ارحم كبيراً سنه متهدماً ... في السجن بين سلاسل وقيود
وارحم صغار بني يزيد إنهم ... يتموا لفقدك لا لفقد يزيد
أرجوك بالرحم القريبة بيننا ... ماجدنا من جدكم ببعيد
فقال أبو جعفر: اذكرتنيه، ثم أمر به فحدر إلى المطبق، وكان آخر العهد به.
قال ابن داحة: يزيد هذا أخ لعبد الله بن حسن.
قال إسحاق بن محمد: فسألت زيد بن علي بن حسين بن زبد بن علي، وهو عند الزينبي محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، عن هذا الحديث، وأخبرته بقول إبراهيم بن داحة، في يزيد هذا.
فقال: لم يقل شيئاً، ليس في ولد علي بن أبي طالب يزيد، وإنما هذا شيء تمثلت به، ويزيد هو ابن معاوية بن عبد الله بن جعفر.
القاضي عبد الله بن أبي الشواربأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عبد الله بن علي بن محمد بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، من سروات الرجال، وله قدر وجلالة.
استقضاه المكتفي بالله على مدينة المنصور، في جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وما زال على قضاء المدينة إلى سنة ست وتسعين ومائتين، فإن المقتدر نقله إلى القضاء بالجانب الشرقي.
المنصور يضرب قهرمانه سبع دررقرأت على علي بن أبي علي البصري، عن إبراهيم بن محمد الطبري، قال: أخبرنا إبراهيم بن علي الهجيمي، قال: حدثنا أبو العيناء، قال: دخل المنصور من باب الذهب، فإذا بثلاثة قناديل مصطفة.
فقال: ما هذا، أما واحد من هذا كان كافياً؟ يقتصر من هذا على واحد.
قال: فلما أصبح، أشرف على الماس وهم يتغدون، فرأى الطعام قد خف من بين أيديهم، قبل أن يشبعوا.
فقال: يا غلام، علي بالقهرمان.
قال: ما لي رأيت الطعام قد خف من بين أيدي الناس قبل أن يشبعوا؟ قال: يا أمير المؤمنين، رأيتك، قد قدرت الزيت، فقدرت الطعام.
فقال له: وأنت لا تفرق بين زيت يحترق في غير ذات الله، وهذا طعام إذا فضل وجدت له آكلاً؟ ابطحوه.
قال: فبطحوه، فضربه سبع درر.
قطن بن معاوية الغلابي يستلم للمنصورأخبرنا التنوخي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أيوب بن عمرو بن أبي عمرو - أبو سلمة الغفاري - قال: حدثني قطن ابن معاوية الغلابي، قال: كنت ممن سارع إلى إبراهيم، واجتهد معه.
فلما قتل، طلبني أبو جعفر، واستخفيت، فقبض أموالي ودوري. ولحقت بالبادية، فجاورت في بني نصر بن معاوية، ثم في بني كلاب، ثم في بني فزارة، ثم في بني سليم، ثم تنقلت في بلاد قيس أجاورهم.

حتى ضقت ذراعاً بالاستخفاء، فأزمعت على القدوم على أبي جعفر، والاعتراض له.
فقدمت البصرة، فنزلت في طرف منها، ثم أرسلت إلى أبي عمرو بن العلاء، وكان لي وداً، فشاورته في الذي أزمعت عليه.
ففيل رأيي، وقال: والله إذن لقتلنك، وإنك لتعين على نفسك.
فلم ألتفت إليه، وشخصت، حتى قدمت بغداد، وقد بنى أبو جعفر مدينته ونزلها، وليس من الناس أحد يركب فيها، ما خلا المهدي.
فنزلت الخان، ثم قلت لغلماني: أنا ذاهب إلى أمير المؤمنين، فأمهلوا ثلاثاً، فإن جئتكم، وإلا فانصرفوا.
ومضيت حتى دخلت المدينة، فجئت دار الربيع، وهو يومئذ داخل المدينة، في الشارعة على قصر الذهب.
فلم يلبث أن خرج بمشي، فقام إليه الناس، وقمت معهم، فسلمت عليه، فرد علي السلام.
وقال: من أنت؟ قلت: قطن بن معاوية.
قال: أنظر ما تقول؟ قلت: أنا هو.
فأقبل على مسودة معه، فقال: احتفظوا بهذا.
قال: فلما حرست، لحقتني ندامة، وتذكرت رأي أبي عمرو، فتأسفت عليه.
ودخل الربيع، فلم يطل، حتى خرج بخصي، فأخذ بيدي، فأدخلني قصر الذهب، ثم أتى بيتاً حصيناً، فأدخلني فيه، ثم أغلق بابه وانطلق.
فاشتدت ندامتي، وأيقنت بالبلاء، وخلوت بنفسي أومها.
فلما كانت الظهر، أتاني الخصي بماء، فتوضأت وصليت، واتاني بطعام، فاخبرته بأني صائم.
لما كانت المغرب، أتاني بماء، فتوضأت وصليت، وأرخى علي الليل سدوله، فيئست من الحياة.
وسمعت أبواب المدينة تغلق، وأقفالها تشدد، فامتنع عني النوم.
فلما ذهب صدر الليل، أتاني الخصي، ففتح عني، ومضى بي، فأدخلني صحن دار، ثم أدناني من ستر مسدول، فخرج علينا خادم، فأدخلنا، فإذا أبو جعفر وحده، والربيع قائم في ناحية.
فأكب أبو جعفر هنيهة مطرقاً، ثم رفع رأسه، فقال: هيه.
قلت: يا أمير المؤمنين، قد والله جهدت عليك جهدي، فعصيت أمرك، وواليت عدوك، وحرصت على أن أسلبك ملكك، فإن عفوت فأنت أهل لذاك، وإن عاقبت فبأصغر ذنوبي تقتلني.
قال: فسكت هنيهة، ثم قال: هيه.
فأعدت مقالتي.
فقال: فإن أمير المؤمنين قد عفا عنك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، فإني أصير من وراء بابك، فلا أصل إليك، وضياعي ودوري، فهي مقبوضة، فإن رأى أمير المؤمنين، ان يردها، فعل.
فدعا بالدواة، ثم أمر خادماً، فكتب بإملائه، إلى عبد الملك بن أيوب النميري، وهو يومئذ على البصرة: ان أمير المؤمنين، قد رضي عن قطن ابن معاوية ورد عليه ضياعه ودوره، وجميع ما قبض له، فاعلم ذلك، وأنفذه له إن شاء الله.
قال: ثم ختم الكتاب، ودفعه إلي.
فخرجت من ساعتي، لا أدري أين أذهب، فإذا الحرس بالباب، فجلست بجانب أحدهم أحدثه.
فلم ألبث أن خرج علينا الربيع، فقال: أين الرجل الذي خرج آنفاً؟ فقمت أليه.
فقال: انطلق أيها الرجل، فقد والله سلمت.
فانطلق بي إلى منزله، فعشاني، وأفرشني.
فلما أصبحت، ودعته، واتيت غلماني، فأرسلتهم يكترون لي، فوجدوا صديقاً لي من الدهاقين، من أهل ميسان، قد اكترى سفينة لنفسه، فحملني معه.
فقدمت على عبد الملك بن أيوب، بكتاب أبي جعفر، فأقعدني عنده، فلم أقم حتى رد علي جميع ما اصطفي لي.
القاضي عبد الله بن محمدرافق الرشيد وهلك بطوس أخبرنا علي بن أبي علي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: عبد الله بن محمد عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة، ولاه أمير المؤمنين الرشيد قضاء المدينة، وكان معه حتى هلك بطوس، مخرج أمير المؤمنين الرشيد إلى خراسان، الذي هلك فيه الرشيد.
القاضي عبد الله بن محمد الخلنجيوعفته وديانته حدثنا علي بن المحسن، أن طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عزل الواثق، عبد الرحمن بن إسحاق واستقضى عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي يزيد الخلنجي، وكان من أصحاب أبي عبد الله بن أبي دؤاد، حاذقاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، واسع العلم، ضابطاً، وكان يصحب ابن سماعة، وتقلد المظالم بالجبل.
فأخبرنا ابن أبي دؤاد أنه مستقل عالم بالقضاء ووجوهه، فسأل عنه ابن سماعة، فشهد له، فكلم ابن أبي دؤاد المعتصم، فولاه قضاء همذان، فأقام نحواً من عشرين سنة لا يشكى، وتلطف له محمد بن الجهم في مال عظيم فلم يقبله.

ولما ولي الشرقية، ظهرت عفته، وديانته، لأهل بغداد، وكان فيه كبر شديد.
وكتب إليه المعتصم في أن يمتحن الناس، وكان يضبط نفسه، فتقدمت إليه امرأة فقالت: إن زوجي لا يقول بقول أمير المؤمنين في القرآن، ففرق بيني وبينه، فصاح عليها.
فلما كان في سنة سبع وثلاثين، في جمادى، عزله المتوكل، وأمر أن يكشف، لفضحه، بسبب ما امتحن الناس في خلق القرآن.
فأخبرني الطبري محمد بن جرير، قال: أقيم الخلنجي للناس سنة سبع وثلاثين ومائتين.
قال طلحة: وأخبرني عمر بن الحسن، قال: كشف الخلنجي، فما انكشف عليه أنه أخذ حبة واحدة.
يانفس صبراً لعل الخير عقباك
أخبرنا علي بن المحسن المعدل، قال: حدثني أبي، قال: أخبرنا أبو بكر الصولي، قال: كان القاسم بن عبيد الله الوزير، قد تقدم عند وفاة المعتضد بالله، إلى صاحب الشرطة، مؤنس الخادم، أن يوجه إلى عبد الله بن المعتز، وقصي ابن المؤيد، وعبد العزيز بن المعتمد، فيحسبهم في دار، ففعل ذلك.
فكانوا محبسين خائفين، إلى أن قدم المكتفي بالله بغداد، فعرف خبرهم، فأمر باطلاقهم، ووصل كل واحد منهم بألف دينار.
قال: فحدثنا ابن المعتز، قال: سهرت ليلة دخل في صبيحتها المكتفي إلى بغداد، فلم أنم خوفاً على نفسي، وقلقاً بوروده.
فمرت بي في السحر طير فصاحت، فتمنيت أن أكون مخلى مثلها، لما يجري علي من النكبات.
ثم فكرت في نعم الله علي، وما خاره لي من الإسلام، والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أؤمله من البقاء الدائم في الآخرة، فقلت في الحال:
يانفس صبراً لعل الخير عقباك ... خانتك من بعد طول المن دنياك
مرت بنا سحراً طير فقلت لها ... طوباك ياليتني إياك طوباك
لكن هو الدهر فالقيه على حذر ... فرب مثلك تنزو بين إشراك
أبو القاسم بن بنت منيع يفيد مائتي دينارمن نسخ مغازي ابن إسحاق حدثنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا أبو الحسين علي بن الحسن بن جعفر البزاز، قال: حدثني أبو القاسم بن بنت منيع، قال: كنت أورق، فسألت جدي أحمد بن منيع أن يمضي معي إلى سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، يسأله أن يعطني الجزء الأول من المغازي عن أبيه، عن ابن إسحاق، حتى أورقه عليه.
فجاء معي، وسأله، فأعطاني الجزء الأول، فأخذته وطفت به.
فأول ما بدأت بأبي عبد الله بن المغلس، وأريته الكتاب، وأعلمته أني أريد أن أقرأ المغازي على سعيد الأموي، فدفع إلي عشرين ديناراً، قال: اكتب لي منه نسخة.
ثم طفت بعده بقية يومي، فلم أزل آخذ من عشرين ديناراً إلى عشرة دنانير، وأكثر وأقل، إلى أن حصل معي في ذلك اليوم مائتا دينار.
فكتبت نسخاً لأصحابها بشيء يسير من ذلك وقرأتها لهم، واستفضلت الباقي.
ثلاثة يسلمن إلى الأجلأنشدني القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أنشدني أبو محمد عبد الله ابن محمد الباقي، لنفسه:
ثلاثة ما اجتمعن في رجل ... إلا وأسلمنه إلى الأجل
ذل اغتراب، وفاقة، وهوى ... وكلها سائق على عجل
يا عاذل العاشقين إنك لو ... أنصفت رفهتهم عن العذل
فإنهم لو عرفت صورتهمعن عذل العاذلين في شغل
رأي ابن مهدي في سفيانومالك وشعبه وابن المبارك أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم الصفار، قال: حدثنا أبو علي أحمد بن علي بن شعيب المدائني بمصر، قال: حدثنا محمد بن عمر، وهو ابن نافع المعدل، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن شبويه، قال: حدثنا الثقة عن ابن مهدي قال: ما رأيت رجلاً أعلم بالحديث من سفيان الثوري، ولا أحسن عقلاً من مالك، ولا أقشف من شعبه، ولا أنفع لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك.
عبد الله بن صعبيتكلم في أمر المدينة في العطاء والقسم أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن العباس وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن مسلمة المخزومي قال: كان مالك بن أنس، إذا ذكر عبد الله بن مصعب، قال: المبارك.
وكان يتكلم في أمر المدينة في العطاء والقسم، وكان في صحابة أمير المؤمنين المهدي، وولاه اليمامة.

فقال له: يا أمير المؤمنين، إني أقدم بلداً أنا جاهل بأهله، فأعني برجلين من أهل المدينة، لهما فضل وعلم، عبد العزيز بن محمد الدراوردي وعبد الله بن محمد بن عجلان، فأعانه بهما، وكتب في إشخاصهما إليه.
قال الزبير: وحدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: كان سبب اتصال عبد الله بن مصعب بأمير المؤمنين المهدي، أن أمير المؤمنين المهدي، قدم المدينة سنة ستين ومائة، فدق المقصورة وجلس للناس في المسجد، فجعلوا يدخلون عليه، ويأمرلهم بالجوائز، ويحضرهم الشفعاء من وزرائه.
وكان رجال قد أحسوا بجلوس أمير المؤمنين المهدي، وما يزيد في الناس، وطلبوا الشافاعات.
ودخل عليه عبد الله بن مصعب بغير شفيع، وكان وسيماً جميلاً، ومفوهاً فصيحاً، وقد عرفت له مروءته وقدره بالبلد، قبل ذلك.
فتكلم بين يدي أمير المؤمنين المهدي، فأعجب به، وأحق جائزته بأفضل جوائزهم، وكساه كسوة خاصة، وأدخله في صحابته، وخرج به معه إلى بغداد.
فقال عبد الله بن مصعب:
ولما وجه الشفعاء قوماً ... علا خطبي فجل عن الشفيع
وجاء يدافع الأركان عني ... أب لي في ذرى ركن منيع
أب يترنح الأنباء منه ... إذا انتسبوا إلى الشرف الرفيع
سعى فحوى المكارم ثم ألقى ... مساعيه إلى غير المضيع
فورثني على رغم العادي ... مساعي لا ألف ولا وضيع
فقمت بلا تنحل خارجي ... إذا عد الفعال ولا بديع
فإن يك قد تقدمني صنيع ... يشرفني فما وفى صنيعي
وكانت له من أمير المؤمنين المهدي، ومن أمير المؤمنين موسى، ومن أمير المؤمنين هارون الرشيد، خاصة ومنزلة.
مد لك الله الحياة مداأخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل الربعي، قال: لما ولد جعفر بن المأمون، المعروف بابن بخة، دخل المهنئون على المأمون، فهنأوه بصنوف من التهاني.
وكان فيمن دخل العباس بن الأحنف، فمثل بين يديه قائماً، ثم أنشأ يقول:
مد لك الله الحياة مدا ... حتى يريك ابنك هذا جدا
ثم يفدي مقلما تفدي ... كأنه أنت إذا تبدا
أشبه منك قامةً وقدا ... موزراً بمجده مردى
فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم.
القاضي عبد الرحمن بن إسحاقيحل محل إسماعيل بن حماد وبشر بن الوليد أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عزل إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، فاستقضي مكانه عبد الرحمن ابن إسحاق بن إبراهيم بن سلمة، مولى بني ضبة، وجده من أصحاب الدولة، وكان من أصحاب أبي حنيفة، حسن الفقه، وتقلد الحكم في أيام المأمون، وما زال إلى آخر أيام المعتصم.
ولما عزل المأمون بشر بن الوليد، ضم عمله إلى عبد الرحمن بن إسحاق، وكان على قضاء الشرقية، فصار على الحكم بالجانب الغربي بأسره.
أبو عبد الله الختلييحدث في البصرة بخمسين ألف حديث من حفظه أخبرني علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرني أبي، قال: دخل إلينا أبو عبد الله الختلي إلى البصرة، وهو صاحب حديث جلد، وكان مشهوراً بالحفظ.
فجاء وليس معه شيء من كتبه، فحدث شهوراً، إلى أن لحقته كتبه.
فسمعته يقول: حدثت بخمسين ألف حديث من حفظي، إلى أن لحقتني كتبي.
كأن رقيباً منك يرعى خواطري
أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا ابن حيويه، قال: أنبأنا عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر، قال: أنشدني البحتري:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري ولساني
فما أبصرت عيناي بعدك منظراً ... يسوءك إلا قلت قد رمقاني
ولا بدرت من في بعدك مزحة ... لغيرك إلا قلت قد سمعاني
إذ ما تسلى العاذرون عن الهوى ... بشرب مدام أو سماع قيان
وجدت الذي يسلي سواي يشوقني ... إلى قربكم حتى أمل مكاني
وفتيان صدق قد سئمت لقاءهم ... وعففت طرفي عنهم ولساني

وما الدهر أسلى عنهم غير أنني ... أراك على كل الجهات تراني
عبيد الله بن أحمد بن غالبأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: كان عبيد الله بن احمد بن غالب، فقيهاً، عالماً، على مذهب أهل العراق، وكان من أصحاب ابن ابي دؤاد، وهو خال عمر بن غالب.
وكان مولده سنة ثمانين ومائة، ولم حدث بشيء فيما أعلمه.
لا تهجرني فإني لست ذا جلدأخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا أبو طالب عبد العزيز بن أحمد الدنقشي، قال: قال لي أبو عبد الله الحسن بن علي بن سلمة: أنشدت أبا الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي:
ما إن ذكرتك في قوم أحدثهم ... إلا وجدت فتوراً بيت أحشائي
فأنشدني لنفسه، يريد تضمين هذا البيت:
كم لوعة في الحشا أبقت به سقماً ... خوفاً لهجرك أو خوفاً من النائي
لا تهجرني فإني لست ذا جلدٍ ... ولا اصطبار على هجر الأخلاء
الله يعلم ما حملت من سقمٍ ... وما تضمنته من شدة الداء
لو أن أعضاء صب خاطبت بشراً ... لخاطبتك بوجدي كل أعضائي
فارعي حقوق فتى لا يبتغي شططاً ... إلا السلام بإيجاء وإيماء
هذا على وزن بين كنت منشده ... عارٍ إذا كان من لحن وإقواء
ما إن ذكرتك في قومٍ أحدثهم ... إلا وجدت فتوراً بين أحشائي
ولا هممت بشرب الماء من عطش ... إلا رأيت خيالاً منك في الماء
من شعر أبي الحسن الكرخيأخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو طالب الدنقشي، قال: قال لي أبو عبد الله الحسن بن علي بن سلمة، قال: أنشدني أبو الحسن الكرخي لنفسه:
حسبي سمواً في الهوى أن تعلما ... أن ليس حق مودتي أن أظلما
ثم امض في ظلمي على علمٍ به ... لا مقصراً عنه ولا متلوما
فوحق ما أخذ الهوى من مقلي ... وأذاب من جسمي عليك وأسقما
لجفاك عن علم بما ألقى به ... أحظى لدي من الرضا متجهما
العالم العاقل ابن نفسهقال لي التنوخي: بلغني أن أبا محمد بن معروف، جلس يوماً للحكم في جامع الرصافة، فستدعى أصحاب القصص إليه، فتتبعها، ووقع على أكثرها.
ثم نظر في بعضها، فإذا فيها ذكر له بالقبيح، وموافقته على وضاعته، وسقوط أصله، ثم تنبيهه وتذكيره بأحوال غير جميلة، وتعديد ذلك عليه.
فقلب الرقعة، وكتب على ظهرها:
العالم العاقل إبن نفسه ... أغناه جنس علمه عن جنسه
كن ابن من شئت ولكن كيساً ... فإنما المرء بفضل كيسه
كم بين من تكرمه لغيره ... وبين من تكرمه لنفسه
من إنما حياته لغيره ... فيومه أولى به من أمسه
لا رد الله غربتكأخبرنا التنوخي، قال: حدثنا جماعة من أصدقائنا عن أبي عبد الله بن بطة العكبري، قال: انحدرت لأقرأ على أبي بكر بن مجاهد، فوافيت إلى مسجده، فجلست فيه بالقرب منه.
فلما قرأ الجماعة، نظرت فإذا سبقي بعيد، فدنوت منه، وقلت: يا أستاذ، خذ علي.
فقال: ليس السبق لك.
فقلت له: أنا غريب، وينبغي أن تقدمني.
فقال: إي لعمري، من أي بلد أنت؟ فقلت: من بلد يقال له عكبرا.
فقال لأصحابه: بلد غريب، ما سمعنا به، ومسافة شاسعة.
ثم ضحك والتفت إلي، وقال لي: لا رد الله غربتك، مع أمك تغديت، وجئت إلي.
أكني بغيركأخبرنا التنوخي، قال: نقلت من خط أبي إسحاق الصابي:
أكني بغيرك في شعري وأعنيك ... تقيةً وحذراً من أعاديك
فإن سمعت بإنسانٍ شغفت به ... فإنما هو ستر دون حبيك
غالطتهم دون شخصٍ لا وجود له ... معناه أنت ولكن لا أسميك
أخاف من مسعدي في الحب زلته ... وكيف آمن فيه كيد واشيك
ولو كشفت لهم ما بي وبحت به ... لاستعبروا رحمة من محنتي فيك
وظريف زوال وجد بوجدقال التنوخي: أنشدني أبو العباس الزراري لنفسه:
لي صديق قد صيغ من سوء عهد ... ورماني الزمان فيه بصد

كان وجدي به فصار عليه ... وظريف زوال وجدٍ بوجد
القاضي عبد الملك بن حزمتوفي، فصلى عليه الرشيد أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال:استقضى الرشيد عبد الملك بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أياماً، ومات، فصلى عليه هارون الرشيد، ودفن في مقابر العابسة بنت المهدي، وذلك في سنة ثمان وسبعين ومائة.
وكان جليلاً من أهل بين العلم والسير والحديث.
المنصور بعفو عن أحد الثائرين عليهأخبرنا علي بن أبي علي، فال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب بن عثمان، ومحمد بن الضحاك الحزامي، ومحمد بن الحسن المخرمي، وغيرهم: أن عبد لعزيز بن عبد الله، كان ممن أسر مع محمد بن عبد الله بن حسن، فلما قتل محمد، حمل عبد العزيز إلى أمير المؤمنين المنصور في حديد.
فلما أدخل عليه، قال له: ما رضيت أن خرجت علي، حتى خرجت معك بثلاثة أسيافٍ من ولدك؟ فقال له عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، صل رحمي، واعف عني، واحفظ في عمر بن الخطاب.
فقال: افعل، فعفا عنه.
فقال له عبد الله بن الربيع المداني: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه، لا يطمع فيك فتيان قريش.
فقال له أمير المؤمنين المنصور: إذا قتلت هذا فعلى من أحب أن أتأمر؟.
قرشية اختارت لنفسهاأخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا المخلص محمد بن عبد الرحمن، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيزالزهري، عن أبي هريرة بن جعفر المحرري، مولى أبي هريرة.
أن الديباج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، خطبا امرأة من قريش، فاختلفا عليها في جمالها، فجعلت تسأل وتستبحث.
إلى أن خرجت تريد صلاة العتمة في المسجد، فرأتهما قائمين في القمر، يتعاتبان في أمرها، ووجه عبد العزيز إليها، وظهر محمد إليها.
فنظرت إلى بياض عبد العزيز، وطوله، فقالت: ما يسأل عن هذين، وتزوجت عبد العزيز.
فجمع الناس، وأولم لدخولها، فبعث إلى محمد بن عبد الله بن عمرو، فدعاه فيمن دعا، فأكرمه، وأجلسه في مجلس شريف.
فلما فرغ الناس، برك له محمد، وخرج وهو يقول:
وبينا أرجي أن أكون وليها ... رميت بعرقٍ من وليمتها سخن
عبد العزيز الأعرجلا يمسك شيئاً لفرط سخائه أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز الذي يقال له الأعرج، كان يحيى بن خالد بن برمك قد أصحبه، فقدم عليه، ووصله يحيى بأمواٍ كثيرة، وكان رجلاً لا يمسك شيئاً، ينفق المال ويتوسع فيه، فلم يدع من ذلك المال كثير شيء، حتى هلك.
وأمه، أمة الرحمن بنت حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف.
ابن البقال أحد المتكلمين الشيعة الزيديةقال لي أبو القاسم التنوخي: كان ابن البقال أحد المتكلمين من الشيعة، وله كتب مصنفة على مذهب الزيدية، تجمع حديثاً كثيراً.
وله أخ شاعر مشهور.
عبد العزيز بن حماد الدنقشيقاضي رامهرمز أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو طالب عبد العزيز بن أحمد بن محمد ابن افضل بن أحمد بن محمد بن حماد الدنقشي، قاضي رامهرمز ببغداد في سنة إحدى وسبعين وثلثمائة، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدثنا سفيان عن عمرو بن عبيد،عن الحسن عن عمران بن حصين، وأبي بكرة ومعقل بن يسار وأبي برزة الأسلمي وأنس بن مالك، قالوا جميعاً: ما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قط قام فينا خطيباً إلا وهو ينهانا عن المثلة، ويأمرنا بالصدقة.
قال لنا التنوخي: قال لنا أبو طالب الدنقشي، ولدت ببغداد، في مدينة المنصور سنة اثنتين وثلثمائة.
قال: وكان حماد يلقب بدنقش، وهو مولى المنصور، وصاحب حرسه.
وكان محمد بن حماد، أحد القواد بسر من رأى مع صالح بن وصيف ثم ولي الشرطة بها للمهتدي بالله.
وكان أبو عيسى أحمد بن محمد أميناً من أماء القضاة.
وتأخذ من جوانبنا اللياليأنشدنا التنوخي، قال: أنشدنا أبو نصر بن نباتة لنفسه:
وتأخذ من جوانبنا الليالي ... كما اخذ المساء من الصباح
أما في أهلها رجل لبيب ... يحس فيشتكي ألم الجراح
أرى التشمير فيها كالتواني ... وحرمان العطية كالنجاح
ومن تحت التراب كمن علاه ... يرى الأرزاق في ضرب القداح
كيف الظن بمن هو أرحم الراحمينأخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثني أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الله الشاهد، قال: كنت أمشي يوماً مع أبي طاهر بن أبي هاشم المقرى، وكان أستاذي، فاجتزنا بمقابر الخيزران، فوقف عليها ساعة.
ثم التفت إلي، فقال لي: يا أبا القاسم، ترى لو وقف هؤلاء هذه المدة الطويلة على باب ملك الروم، ما رحمهم؟ فكيف تظن بمن هو أرحم الراحمين؟ وبكى.
تشابهت الطباعأنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدنا أبو الفرج الببغاء لنفسه:
أكل وميض بارقة كذوب ... أما في الدهر شيء لا يريب
تشابهت الطباع فلا دنيء ... يحين إلى الثناء ولا حسيب
وشاع البخل في الأشياء حتى ... يكاد يشح بالريح الهبوب
فكيف أخص باسم العيب شيئاً ... وأكثر ما نشاهده معيب
سقطت على الخبيرأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي، قال: حدثنا أبو عمر بن حيوية، قراءة عليه، قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، إجازة، قال: أنشدني منشد للحسن بن وهب:
جس عرقي، فقال: حب طبيبي ... ما له في علاجه من نصيب
فغمزت الطبيب سراً بعيني ... ثم حلفته بحق الصليب
لا تقل لوعة الهوى أسقمتهفينالوا بدعوة من حبيبي
أنشد:
دواعي السقم تخبر عن ضميري ... وتخبر عن مفارقتي سروري
ألا يا سائلي عن سوء حالي ... وعن شأني سقطت على الخبير
شربت من الصبابة كأس سقم ... بعيني شادن ظبي غرير
فمن ذا يداوي جوى باطناأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، إجازة، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية قراءة عليه، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف، قال: قال عمر بن أبي ربيعة:
طبيبي دوايتما ظاهراً ... فمن يداوي جوى باطنا
فعوجا على منزل بالغميم ... فإني هويت به شادنا
المتوكل يخبر أهل بغدادأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عزل المتوكل عبيد الله بن أحمد بن غالب، في سنة أربع وثلاثين ومائتين واستقضى عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر، يعرف بالوابصي، وكان قبل ذلك، على قضاء الرقة.
وبعد أن صرف عن بغداد، ولي قضاء الرقة أيضاً، وكان رجلاً جميل الطريقة.
وكان أهل بغداد قد ضجوا من أصحاب أحمد بن أبي دؤاد، وقالوا بعد أن عزل عبيد الله بن أحمد بن غالب: لا يلي علينا إلا من نرضى به.
فكتب المتوكل العهد مطلقاً، ليس عليه اسم واحد، وأنفذه من سر من رأى مع يعقوب قوصرة، أحد الحجاب الكبار، وقال: أحضر عبد السلام والشيوخ، واقرإ العهد، فإن رضوا به قاضياً، فوقع على العهد اسمه.
فقدم قوصرة، ففعل ذلك، فصاح الناس: ما نريد غير الوابصي.
فوقع في الكتاب اسمه وحكم من وقته في الرصافة.
الصاحي بموضع رجلي السكرانأعرف من السكران بموضع رجلي نفسه أخبرنا التنوخي، قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، يقول: سمعت أبا هاشم الجبائي يقول: سألني بعض أصحابنا عن مسألة، فأجبته عنها، فقال لي: يا أبا هاشم لا تظنني لم أكن أعرف هذا.
فقلت له: الصاحي بموضع رجلي السكران، اعرف من السكران بموضع رجلي نفسه.
يعني: أن العالم أعلم بمقدار ما يحسنه الجاهل، من الجاهل بقدر ما يحسن.
المعتضد يستقضي أبا خازم القاضي

أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضى المعتضد بالله على الشرقية، سنة ثلاث وثمانين ومائتين، أبا خازم، عبد الحميد بن عبد العزيز، وكان رجلاً ديناً، ورعاً، عالماً بمذهب أهل العراق، والفرائض والحساب، والذرع والقسمة، حسن العلم بالجبر والمقابلة، وحساب الدور، وغامَض الوصايا، والمناسخات، قدوة في العلم بصناعة الحكم، ومباشرة الخصوم، واحذق الناس بعمل المحاضر والسجلات، والإقرارات.
أخذ العلم عن هلال بن يحيى الرازي، وكان هذا أحد فقهاء الدنيا من أهل العراق، وأخذ عن بكر العمي، ومحمود الأنصاري، ثم صحب عبد الرحمن بن نائل بن نجيح، ومحمد بن شجاع، حتى كان جماعة يفضلونه على هؤلاء.
فأما علقله فلا نعلم أحداً رآه، فقال: إنه رأى أعقل منه.
ولقد حدثني أبو الحسن محمد بن أحمد بن مانيداذ عن حامد بن العباس عن بيد الله بن سليمان بن وهب، أنه قال: ما رأيت رجلاً أعقل من الموفق، وأبي خازم القاضي.
وأما الحساب، فإن أبا الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، أخبرني، قال: قال لي أبو برزة الحاسب: لا أعرف في الدنيا أحسب من أبي خازم.
قال: وقال ابن حبيب الذراع: كنا ونحن أحداث مع أبي خازم، فكنا نقعده قاضياً، ونتقدم إليه في الخصومات، فما مضت الأيام والليالي حتى صار قاضياً، وصرنا ذراعهز قال أبو الحسين: وبلغ من شدته في الحكم، أن المعتضد، وجه إليه بطريف المخلدي فقال له: إن لنا على الضبعي - بيع كان للمعتضد ولغيره - مال، وقد بلغني أن غرماءه أثبتوا عندك، وقد قسطت لهم من ماله، فاجعلنا كأحدهم.
فقال له أبو خازم: قل له: أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - ذاكر لما قال لي وقت قلدني، إنه قد أخرج الأمر من عنقه، وجعله في عنقي، ولا يجوز لي أن أحكم في مال رجل ، لمدع إلا ببينة.
فرجع إليه طريف، فأخبره.
فقال: قل له: فلان وفلان يشهدان، يعني لرجلين جليلين كانا في ذلك الوقت.
فقال: يشهدان عندي، وأسأل عنهما، فإن زكيا قبلت شهادتهما، وإلا أمضيت ما قد ثبت عندي.
فامتنع أولئك من الشهادة فزعاً، ولم يدفع إلى المعتضد شيئاً.
القاضي يحيى بن أكثميستخلف على الجانب الشرقي عيسى بن أبان أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما خرج المأمون إلى فم الصلح بسبب بوران، أخرج معه يحيى ابن أكثم، فاستخلف على الجانب الشرقي عيسى بن أبان، أحد الفقهاء في العراق، وله مسائل كثيرة، واحتجاج لمذهب أبي حنيفة، وكان خيراً فاضلاً.
بحق من أغراك بي زيديأنشدنا التنوخي قال: أنشدنا عيسى بن علي بن عيسى الوزير، لنفسه:
قد فات ما ألقاه تحديدي ... وجل عن وصفي وتعديدي
وقلت للأيام هزءاً بها ... بحق من أغراك بي زيدي
القاضي عمر بن حبيب العدويلم ير قاض أهيب منه أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: كان لمحمد بن عبد الله بن علاثة أخ يسمى زياد بن عبد الله، يخلف أخاه على القضاء بعسكر المهدي.
فاستعان بعمر بن حبيب العدوي، ينظر في أمور الناس بالشرقية، فولاه المهدي، الشرقية رياسة، وقيل ولاه من قبل أبي يوسف، ثم ولاه الرشيد قضاء البصرة، فقال ليحيى بن خالد: إنكم تبعثوني إلى ملك جبار، لا آمنه - يعني محمد بن سليمان - فبعث معه يحيى قائداً في مائة، فكان إذا جلس للقضاء، أقام الجند عن يمينه وعن يساره سماطين.
فلم يكن قاض أهيب منه، وكان لا يكلم في طريق.
القاضي عمر بن حبيب العدويينصبه المأمون قاضياً بالبصرة أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو العباس الكديمي، قال: حدثنا عمر بن حبيب العدوي القاضي، قال: وفدت مع وفد من أهل البصرة، حتى دخلنا على أمير المؤمنين المأمون فجلسنا، وكنت أصغرهم سناً.
فطلب قاضيا يولى علينا بالبصرة، فبينا نحن كذلك، إذ جيء برجل مقيد بالحديد، مغلولة يده إلى عنقه، فحلت يده من عنقه، ثم جيء بنطع فوضع في وسطه، ومدت عنقه، وقام السياف شاهر السيف، واستأذن أمير المؤمنين في ضرب عنقه، فأذن له، فرأيت أمراً فظيعاً.
فقلت في نفسي: والله لأتكلمن، فلعله أن ينجو.
فقلت: ياأمير المؤمنين اسمع مقالتي.
فقال لي: قل.

فقلت إن أباك حدثني عن جدك عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انه قال: إذا كان يوم القايمة، ينادي منادٍ من بطنان العرش: ليقم من عظم الله أجره، فلا يقوم إلا من عفا عن ذنب أخيه فاعف عنه يا أمير المؤمنين عفا الله عنك.
فقال لي: آلله، إن أبي حدثك عن جدي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: آلله، إن أباك حدثني عن جدك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: صدقت، إن أبي حدثني عن جدي ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، يا غلام، أطلق سبيله.
فأطلق سبيله، وأمر أن أولى القضاء.
ثم قال لي: عمن كتبت؟ قلت: أقدم من كتبت عنه داود بن أبي هند.
فقال: تحدث؟ قلت: لا.
قال: بلى، فحدث، فإن نفسي ما طلبت مني شيئاً إلا وقد نالته ما خلا هذا الحديث، فإني كنت أحب أن أقعد على كرسي، ويقال لي من حدثك؟ فأقول: حدثني فلان.
قال: فقلت يا أمير المؤمنين، فلم لا تحدث؟ قال: لا يصلح الملك والخلافة مع الحديث للناس.
القاضي أبو الحسين بن أبي عمرأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضي المقتدر بالله، في يوم النصف من سنة عشر وثلثمائة، أبا الحسين عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد ابن زيد، وكان قبل هذا يخلف أباه على القضاء بالجانب الشرقي، والشرقية وسائر ما كان إلى قاضي القضاة أبي عمر، وذلك أنه استخلفه وله عشرون سنة.
ثم استقضي بعد استخلاف أبيه له على أعمال كثيرة من غير الحضرة، رياسة، ثم قلد مدينة السلام، في حياة أبيه أبي عمر.
وهذا رجل يستغني باشتهار فضله، عن الإطناب في وصفه، لأنا وجدنا البلغاء قد وصفوه فقصروا، والشعراء قد مدحوه فأكثروا، وكل يطلبون أمده فيعجزون، إذ كان الله تعالى جعله نسج وحده، ومفرداً في عصره ووقته، في حفظ القرآن، والعلم بالحلال والحرام، والفائض، والكتاب، والحساب، والعلم واللغة، والنحو، والشعر، والحديث، والأخبار، ولنسب، وأكثر ما يتعاطاه الناس من العلوم، وأعطاه من شرف الأخلاق، وكرم الأعراق، والمجد المؤثل، والرأي المحصل، والفضل والنجابة، والفهم والإصابة، والقريحة الصافية، والمعرفة الثاقبة، والتفرد بكل فضل وفضيلة، والسمو إلى كل درجة رفيعة نبيلة، ومن محمود الخصال، والفضل والكلام، ما يطول شرحه.
وكان فقيهاً على مذهب مالك وأهل المدينة، مع معرفته بكثير من الاختلاف في الفقه، وكان صنف مسنداً، ورأيت بعضه، وكان في نهاية الحسن، وكان يذاكر به، وكان يحفظ عن جده يوسف، أحاديث.
ولم يزل على قضاء إلى يوم توفي، رحمه الله.
ما مات من بقيت له بعد موتهأخبرني علي بن أبي علي، قال: حدثنا أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد، قال: دخلت على أبي الحسين بن أبي عمر القاضي معزياً له عن أبيه، فلما وقع طرفي عليه، قلت:
وما مات من تبقى له بعد موته ... ولا غاب من أمسى له منك شاهد
قال: فكتبه في الوقت، ولم يشغله الحال.
غلبتني على الفؤاد الهمومأخبرنا القاضي أبو القاسم عليبن المحسن التنوخي، أخبرنا أبو عمر ابن حيويه، أنبأنا أبو بكر ابن الأنباري، أنشدنا إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أمية:
شغلتني بها ولم ترع عهدي ... ثم منت وعهدها لا يدوم
ورأتني أبكي إليها فقالت: ... يتباكى كأنه مظلوم
علم الله أني مظلوم ... وحبيبي بما أقول عليم
ليس لي في الفؤاد حظ فأشكو ... غلبتني على الفؤاد الهموم
القاضي عثمان بن طلحةكان لا يرتزق على القضاء أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الذهبي، وأحمد بن عبد الله الوراق، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: عثمان بن طلحة كان من اهل الهيأة والنعمة والقدر، ولاه أمير المؤمنين المهدي قضاء المدينة، فلم يكن يأخذ عليه رزقاً.
فقيل له في ذلك، فقال: أكره أن أرتزق، فيضريني ذلك بولاية القضاء، ثم استعفى أمير المؤمنين من القضاء فأعفاه.
قال الزبير: وحدثنا عثمان بن عبد الرحمن، قال:

جلس يوماً عثمان بن طلحة مع العباس بن محمد ببغداد، فقال له العباس: دلني على خفيف بنخلة، أشتريه وأعتلمه.
قالك قد وقعت عليه.
قالك عند من؟ قال: عندي.
قال: بكم هو؟ قال: بخمسة آلاف دينار.
فاشتراه منه، وما سأل عنه غيره، وأعطاه الثمن على ما قال.
الفراء يقر للكسائي بالرئاسةأخبرنا الحسن بن علي الجوهري، وعلي بن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا محمد بن العباس قال: حدثنا الصولي، قال: أخبرنا الحزنبل، قال: حدثنا سلمة بن عاصم، قال: حدثني الفراء، قال: قال لي قوم: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في العلم؟ فأعجبتني نفسي، فناظرته، وزدت، فكأني كنت طائراً أشرب من بحر.
سبب تسمية صالح بصاحب المصلىأخبرنا التنوخي، قال: سمعت أبا الفرج محمد بن جعفر بن الحسن بن سليمان بن علي بن صالح، صاحب المصلى، وسأله أبي، عن سبب تسمية جده بصاحب المصلى، فقال: إن صالحاً جدنا كان ممن جاء مع أبي مسلم إلى السفاح، وكان من أولاد ملوك خراسان، من أهل بلخ.
فلما أراد المنصور إنفاذ أبي مسلم لحرب عبد الله بن علي، سأله أن يخلفه وجماعة من أولاد ملوك خراسان بحضرته، منهم الخرسي، وشبيب ابن واج، وغيرهم، فخلفهم، واستخدمهم المنصور.
فلما أنفذ أبو مسلم خزائن عبد الله بن علي على يد يقطين بن موسى، عرضها المنصور على صالح، والخرسي، وشبيب، وغيرهم، ممن كان اجتذبهم من جنبة أبي مسلم، واستخلصهم لنفسه.
وقال: من أراد من هذه الخزائن شيئاً فليأخذه، فقد وهبته له، فاختار كل واحد منهم شيئاً جليلاً.
فاختار صالح حصيراً للصلاة من عمل مصر، ذكر أنه كان في خزائن بني أمية، وأنهم ذكروا أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم، صلى عليه.
فقال له المنصور: إن هذا لا يصلح أن يكون إلا من في خزائن الخلفاء.
فقال: قلت إنك قد وهبت لكل إنسان ما اختاره، ولست أختار إلا هذا.
فقال: خذه على شرط أن تحمله في الأعياد والجمع، فتفرشه لي، حتى أصلي عليه.
فقال: نعم.
فكان المنصور إذا أراد الركوب إلى المصلى أو الجمعة، اعلم صالحاً، فأنفذ صالح الحصير ففرشه له، فإذا صلى عليه، أمر به، فحمل إلى داره، فسمي لهذا: صاحب المصلى.
فلم يزل الحصير عندنا إلى أن أنتهى إلى سليمان جدي، وكان يخرجه كما كان أبوه وجده يخرجانه للخلفاء.
فلما مات سليمان في أيام المعتصم، ارتجع المعتصم الحصير، وأخذه إلى خزانته.
القاضي علي بن ظبيانيجلس على بارية مثل البارية التي يجلس عليها الخصوم أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني علي بن محمد بن عبيد، عن أحمد بن زهير عن سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثني عبيد بن ثابت مولى بني عبس، كوفي، قال: كتبت إلى علي بن ظبيان، وهو قاضٍ ببغداد: بلغني أنك تجلس على بارية، وقد كان من قبلك من القضاة يجلسون على الوطاء، ويتكئون.
فكتب إلي: إني لأستحي أن يجلس بين يدي رجلان حران مسلمان على بارية، وأنا على وطاء، لست أجلس إلا على ما يجلس عليه الخصوم.
من شعر إسحاق بن إبراهيم الموصليأخبرنا التنوخي، والجوهري، قالا: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال: حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، قال: قال محمد بن حبيب، حدثنا أبو عكرمة وعامر بن عمران الضبي، قالا: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: دخلت على أمير المؤمنين الرشيد يوماً، فقال: أنشدني من شعرك، فأنشدته:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... نجيلاً له في العالمين خليل
ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال خيراً أن يكون ينيل
عطائي عطاء المكثرين تكرماًومالي كما قد تعلمين قليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله ... ويحقر يوماً أن يقال بخيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
قال: لا تخف إن شاء الله، يا فضل أعطه مائة ألف درهم، لله در أبيات تأتينا بها، ما أحسن فصولها، وأثبت أصولها.
فقلت: يا أمير المؤمنين، كلامك أجود من شعري.
قال: أحسنت، يا فضل، أعطه مائة ألف أخرى.
أنت لنا شمس، وفتح لنا قمر

أنبأني غير واحد ممن تقدم ذكرهم في أول الكتاب، عن أبي اليمن، زيد ابن الحسن الكندي، وأنبأني غير واحد، ممن تقدم ذكرهم، وأبو الفضل ابن أبي الحسين الدمشقي، وغيره، عن المؤيد بن محمد الطوسي، وأبو الفرج البغدادي، عن أبي أحمد بن علي الأمين، وأبو حفص بن القواس، وغيره، عن عبد الصمد الحدثاني، كلهم، عن أبي بكر بن أبي طاهر، عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج الأصبهاني، قال: حدثني أحمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أحمد بن سهل الكاتب، وكان أحد الكتاب لصاعد، قال: سمعت الحسن بن محمد يحدث: إن رجلاً من أهل اليمامة، قدم بجارتين، شاعرتين، من مولدات اليمامة، على المتوكل، فعرضهما عليه، من جهة الفتح، فنظر إلى أجملهما، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: سعاد.
قال: أنت شاعرة؟ قالت: كذا يزعم مالكي.
قال: فقولي في مجلسنا هذا، شعراً، ترتجلينه، وتذكريني فيه، وتذكرين الفتح.
فتوقفت هنيهة ثم أنشدت:
أقول وقد أبصرت صورة جعفر ... إمام الهدى والفتح ذي العز والفخر
أشمس الضحى، أم شبهها وجه جعفر ... وبدر السماء الفتح أم مشبه البدر
فقال للأخرى: أنشدي أنت، فقالت:
أقول وقد أبصرت صورة جعفر ... تعالى الذي أعلاك يا سيد البشر
وأكمل نعماه بفتحٍ ونصحه ... فأنت لنا شمس وفتح لنا قمر
فأمر بشراء الأولى، ورد الأخرى.
فقالت الأخرى: لم رددتني؟ قال: لأن في وجهك نمشاً.
فقالت:
لم يسلم الظبي على حسنه ... يوماً ولا البدر الذي يوصف
الظبي فيه خنس بين ... والبدر فيه كلف يعرف
فأمر بشراء الثانية.
القاضي يحيى بن سعيدقاضي السفاح على الهاشمية أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر المعدل، قال: كان أبو جعفر لما قدم بغداد، معه يحيى بن سعيد وهو قاضٍ لأبي العباس السفاح على المدينة الهاشمية بالأنبار، ولحسن بن عمارة على المظالم.
يحيى بن سعيديضطره ضيق حاله وكثرة ديونه لتقلد القضاء اخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني علي بن محمد بن عبيد عن أحمد بن زهير، قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، قال: حدثني سليمان بن بلال، قال: كان يحيى بن سعيد قد ساءت حاله، وأصابه ضيق شديد، وركبه الدين، فبينا هو على ذلك، إذ جاءه كتاب أبي العباس، يستقضيه.
قال سليمان: فوكلني بأهله، وقال لي: والله ما خرجت وأنا أجهل شيئاً.
فلما قدم العراق، كتب إلي: إني كنت قلت لك حين خرجت، قد خرجت وما أجهل شيئاً، وإنه والله لأول خصيمين جلسا بين يدي، فاقتضيا والله بشيء ما سمعته قط، فإذا جاءك كتابي هذا، فسل ربيعة بن أبي عبد الرحمن، واكتب إلي بما يقول، ولا يعلم أني كتبت إليك بذلك.
مطيع بن إياسيرثي يحيى بن زياد الحارثي أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو عبيد الله المرزباني، قال: أنشدنا علي بن سليمان الخفش، عن ثعلب، قال: قال مطيع بن إياس يرثي يحيى لن زياد الحارثي:
أقول للموت حين بادهه ... والموت مقدامه على البهم
لو قد تدبرت ما سعيت به ... قرعت سناً عليه من ندم
اذهب بم شئت، إذ ذهبت به ... ما بعد يحيى للرزء من ألم
قال: وأنشدنا ثعلب لمطيع بن إياس يرثي ابن زياد الحارثي:
قد راح يحيى ولو تطاوعني ال ... أقدار لم يبتكر ولم يرح
يا خير من يجمل البكاء به ال ... يوم ومن كان أمس للمدح
قد ظفر الحزن بالسرور وقد ... أديل مكروهه من الفرح
الفراء يملي دروسه من حفظهقرأت على علي بن أبي علي البصري، عن طلحة بن محمد بن جعفر المعدل، قا: حدثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: قال لي محمد بن الجهم: كان الفراء يخرج إلينا، وقد لبس ثيابه، في المسجد الذي في خندق عبويه، وعلى رأسه قلنسوة كبيرة.
فيجلس فيقرأ أبو طلحة الناقط عشراً من القرآن، ثم يقول له: امسك فيملي من حفظه المجلس.

ثم يجيء مسلمة بعد ان ننصرف نحن، فيأخذ كتاب بعضنا، فيقرأ عليه، وغير، ويزيد، وينقص، فمن ههنا، وقع الاختلاف بين النسختين، قال ابن مجاهد: ما رأيت مع الفراء كتاباً قط، إلا كتاب يافع ويفعة.
قال ابن مجاهد: وقال لنا ثعلب: لما مات الفراء لم يوجد له إلا رؤوس أسفاط فيها مسائل تذكره، وأبيات شعر.
أبو الغوث بن البحرييمدح ابن بسطام حدثني التنوخي، عن أبي عبيد الله المرزباني، قال: أبو الغوث يحيى بن البحتري الشاعر، قدم بغداد قبل الثلثمائة، وسمع منه وجوه أهلها أشعار أبيه، ونفي بعد ذلك.
قال: وهو القائل يمدح أبا العباس بن بسطام:
ملك تقوم له الملوك إذا اختبى ... وتخر للأذقان عند قيامه
برقت مخايل جوده وتخرقت ... بالنيل للعافين غر غمامه
صلحت به الأيام بعد فسادها ... وأضاء وجه الدهر بعد ظلامه
أبو حنيفة يشهد لأبي يوسفبأنه أعلم من على الأرض أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا أبو ذر أحمد بن علي ابن محمد الاستراباذي قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن منصور الدمغاني الفقيه، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزردي الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي ثور الرعيني، المعروف بابن عبدون قاضي إفريقية، قال: حدثني سليمان بن عمران، قال: حدثني أسد بن الفرات قال: سمعت محمد بن الحسن يقول: مرض أبو يوسف في زمن أبي حنيفة مرضاً خفيف عليه منه، قال: فعاده أبو حنيفة ونحن معه.
فلما خرج من عنده، وضع يديه على عتبة بابه، وقال: إن يميت هذا الفتى، فإنه أعلم من عليها، وأومأ إلى الأرض.
اللهم إني لم أجر في حكم حكمت بهأخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني مكرم بن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن عطية، قال: سمعت محمد بن سماعة يقول: سمعت أبا يوسف في اليوم الذي مات فيه، يقول: اللهم إنك تعلم أني لم أجر في حكم حكمت به بين عبادك متعمداً، ولقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك، وكل ما أشكل علي جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي - والله - ممن يعرف يعرف أمرك، ولا يخرج عن الحق وهو يعلمه.
أبو يوسف القاضييصلي في كل يوم مائتي ركعة أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد، قال: حدثني مكرم ابن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن عطية، قال: سمعت محمد بن سماعة، يقول: كان أبو يوسف يصلي - بعدما ولي القضاء - في كل يوم مائتي ركعة.
ما برع أحد في علمإلا دلة على غيره من العلوم أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثنا أبو بكر الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: سمعت إسماعيل بن إسحاق يقول: ما أحد برع في علم إلا دله على غيره من العلوم.
فقال بشر المريسي للفراء: يا أبا زكريا، أريد أن أسألك عن مسألة في الفقه.
فقال: سل.
فقال: ما تقول في رجل سها في سجدتي السهو؟ قال: لا شيء عليه.
قال: من أين قلت هذا؟ قال: قسته على مذاهبنا في العربية، وذلك إن المصغر عندنا لا يصغر، فكذلك، لا يلتفت إلى السهو في السهو.
فسكت بشر.
الشريف أبو جعفر، ابن الجصاص المصريكان بمصر شريف من ولد العباس، يعرف بأبي جعفر الشق، شبيه بابن الجصاص في الغفلة، والجلد، والنعمة.
قال أبو القاسم بن محمد التنوخي: بعثني لأبي إليه، من قرية تعرف بتلا يستقرضه عشرة أرادب قمحاً، وثلاثين زوج بقر، وكتب معي بذلك رقعة، فأتيت إليه، وسلمت عليه، ودفعت إليه الرقعة، فقال: ذكرت أباك بخير، وحرسه، وأسعده، فهو صاحبي، وصديقي، وخليطي، وأين هو الآن؟ فقلت: بقرية تلا، أعز الله سيدي الشريف.
قال: نعم، حفظه الله، هو بالفسطاط معنا، وقد انقطع عنا كذا، ما كنت أظنه إلا غائباً.
قلت: لا يا سيدي، هو بتلا.
قال: فما لك ما قلت لي؟ فما كان سبيله أن يؤنسني برقعة من قبله.
قلت: يا سيدي، قد دفعت إليك رقعته.
قال: وأين هي؟ قلت: تحت البساط.
فأخذها، وقرأها، وقال: قل لي الآن، كان لك أخ أعرفه، حار الرأس، حاد الذهن، يحسن النحو والعروض والشعر، فما فعل الله به؟ قلت: أنا هو، أعزك الله.
قال: كبرت كذا، وعهدي بك تأتيني معه، وأنت بزقة، مخطة، لعقه، قردلاش.
قلت: نعم، أيد الله الشريف.

قال: وما الذي جئت فيه؟ قلت له: والدي بعثني إليك برقعة، يسألك فيها، قرض عشرة أرادب قمحاً، وثلاثين زوج بقر. قال: وهو الآن بالفسطاط؟ قلت: لا يا سيدي، هو بتلا.
قال: نعم، وإنما ذاك الفتى أخوك؟ قلت: لا، أنا هو.
فهو يراجعني الكلام، وقد ضجرت من شدة غفلته، وكثرة نسانه لما أقول له، حتى أقبل كاتبه أبو الحسين.
فقال له: سل هذا الفتى ما أراد؟ فسألني، فعرفته، فأخبره.
فقال: نفذ حاجته.
فوقع لي الكاتب بما أراد، وقال: تلقاني للقبض بالديوان.
فشكرت الشريف، ونهضت، فقال: اصبر يا بني، فقد حضر طعامنا وقدم الطعام، وفيه حصرمية غير محكمة، فرفع يده، وقال: مثل مطبخي، يكون فيه مثل هذه؟، علي بالطباخ، فأتى.
فقال له: ما هذا العمل؟ فقال: يا سيدي، إنما أنا صانع، وعلى قدر ما أعطى، أعمل، وقد سألت المنفق أن يشتري لي ما أحتاج إليه، فتأخر عني، فعملت على غير تمكن، فجاء التقصير كما ترى.
فقال: علي بالمنفق.
فأحضر. فقال: ما لي قليل؟ قال: لا يا سيدي، بل عندك نعم واسعة.
قال: فما لك تضايقنا في النفقة؟ ولا توسع كما وسع الله علينا؟ قال: يا سيدي، إنما أنفق ما أعطى، وقد سألت الجهبذ أن يدفع لي، فتأخر عني.
قال: علي بالجهبذ.
فأتي به، فقال: ما لك لم تدفع للمنفق شيئاً؟ قال: لم يوقع لي الكاتب.
فقال الكاتب: لم لم تدفع إليه شيئاً؟ فتعلثم في الكلام، ولم يكن عنده جواب.
فقال للكاتب: قف هنا، فوقف، ووقف خلفه الجهبذ، ووقف خلف الجهبذ المنفق، وخلف المنفق الطباخ.
وقال: نفيت من العباس، إن لم يصفع كل واحد منكم، من يليه بأكثر ما يقدر عليه. فتصافعوا.
قال: فخرجت، وأنا متعجب من غباوته، ورقاعته في هذا الحكم.
لقد ذهب الحمار بأم عمروودخل عليه كابه أبو الحسين، فوجده يبكي بكاء شديداً، ويقول: وانقصام ظهراه، واهلاكاه.
فقلت: ما للشريف، لا أبكى الله عينه؟ فقال: ماتت الكبيرة، يريد أمه، وكان باراً بها.
فقلت: ماتت؟ قال: نعم.
فشققت جيبي، وأظهرت من الجزع ما يجي لمثلي، ثم إني أنكرت الحال، إذ لم أجد لذلك دليلاً. لا أحد يعزيه، ولا في الدار حركة، فبقيت حائراً حتى أتت الخادمة، فقالت: الكبيرة تقرؤك السلام، وتقول لك: أيش تأكل اليوم؟ قال: قول لها، ومتى أكلت قط بغير شهوتك؟ فقلت: يا سيدي، والكبيرة في الحياة؟ فقال: وأيش تظن أنها ماتت من حق؟ إنما رأيت البارحة في المنام، كأنها راكبة على حمار مصري، تسقيه من النيل، فذكرت قول للشاعر:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو
والله لقد أنسيتوقال أبو الحسين، كاتبه: وأتيت إليه يوماً، وقد ماتت والدتي، فعرفته، فبكى، وقال: ماتت كبيرتي ومربيتي، وهو أكبر منها بأربعين سنة.
ثم قال لغلامه: يا بشر، قم فجئني بعشرين ديناراً، فأتاه بها.
فقال: خذها، فاشتر بعشرة دنانير كفناً، وتصدق بخمسة دنانير على القبر. وأقبل يصرف الخمسة الباقية، فيما يحتاج إليه من تجهيزها.
ثم قال الغلام آخر: امض أنت يا لؤلؤ، إلى فلان صاحبنا، لا يفوتك، يغسلها.
فاستحييت منه، وقلت: يا سيدي، ابعث خلف فلانة، جارة لنا، تغسلها.
قال: يا أبا الحسين، ما تدع عقلك في فرح ولا حزن، كأن حرمك ما هي حرمي؟ كيف يدخل عليها من لا تعرفه؟ قلت: نعم، تأذن لي بذلك؟ قال: لا والله، وما يغسلها إلا فلان.
فقلت: وكيف يغسل رجل امرأة؟ قال: وإنما أمك امرأة؟ والله لقد أنسيت.
أبو جعفر في ضيافة أبي بكر المادرائيوكان يوماً عند ابي بكر المادرائي، ثم خرج وهو طيب الحلق، فاجتاز بأبي زنبور، فسمع خفق أوتار، وغناء في داخل الدار، فوقف يتسمع، فرآه غلام لأبي زنبور، فدخل، فأعلم مولاه، فخرج حافياً، وقال: يا مولاي الشريف تشرفني بالدخول؟ قال: نعم.
فدخل، فقدم له طعاماً، فاكل، وشرب ثلاثة أقداح، وغني ثلاثة أصوات، وانصرف، فنام ليلته.
فلما أصبح، قال: يا بشرى، جئني الساعة، بأبي شامة العابر.

فأتاه به، فقال: رأيت البارحة، كأني خرجت من دار أحد إخواني، فاجتزت بدار حسنة، فسمعت خفق العيدان، وغناء القيان، فخرج إلي صاحب الدار، فأدخلني، فأفضيت إلى بستان في الساحة، وأمامه بهو جليل، في صدره شاذروان، وقد فرش المجلس بأنواع الديباج المثقل، وضربت ستارة فيها غرائب الصور، وعجائب الصنائع، وفيها قيان بأيديهن العيدان.
وهن يغنين أحسن الأغاني، فقدم لي خوان، عليه من كل الألوان، فأكلت، وشربت، وغنيت، وانصرفت.
ففسر له الرؤيا على ما يسره، فأمر له بخمسة دنانير.
ثم مر بعد أيام، بأبي زنبور، وهو جالس على باب داره، فقال له: يا سيدي الشريف، أما تشرفني بعودة؟ قال: إلى ماذا؟ قال: تثني لي عادة حضورك.
قال: ومتى تقدم لي ذلك؟ قال: ليلة كذا.
قال: وإنما خدعنا العابر، وأخذ متاعنا بالباطل، امضوا إليه وردوا الخمسة دنانير منه.
ثم فكر ساعة، وقال: دعوه، لعله أنفقها، وهو فقير.
بين الشريف أبي جعفروأبي زنبور الكاتب وشرب مرة أخرى عند أبي زنبور الكاتب، ومعه ابن المادرائي، وحضر القيان فغنين أطيب غناء، فقام الشريف إلى قضاء الحاجة، فأتت دابة ابن المادرائي، فانصرف، والشريف في الخلاء، فقضى حاجته، وعاد إلى موضعه.
وكان أبو زنبور، لما انصرف أبو بكر، جلس في دسته، فالتفت إليه الشريف، وقال: يا أبا بكر، هذا الكلب، أو زنبور، عنده مثل هذا السماع الطيب، ولا يمتعنا به كل وقت؟ إنما يدعونا من مدة إلى مدة.
فقال له أبو زنبور: هو على قدر ما يتفق له من الفراغ، وهو مشتغل مع سلطانه، في أكثر أيامه.
قال: لا والله، ما هو إلا كلب كلب، فاعل، صانع.
فقال له: أعز الله الشريف، أبو بكر انصرف، وأنا أو زنبور.
فقال له: اعذرني، والله، ما ظننتك إلا ابن المادرائي.
فقال: أراك تشتمني غائباً وحاضراً.
يدعى للتبكير بالغداةفيحضر العشية وقال له بعض أصحاب الإخشيد: أحب أن تبكر إلي بالغداة، في حاجة للأمير أيده الله، وذكر الحاجة.
فقال: أنا آتيك أول الناس كلهم.
فمضى، وأكل، وشرب أقداحاً، ونام القائلة، فاستيقظ بالعشي، فقام مذعوراً، فلبس ثيابه، وركب إلى الرئيس، فاستأذن عليه، فدخل، وقال: اعذرني أعزك الله، فقد حزبني النوم، والله ما صليت الصبح من السرعة، ولقد آثرت المجيء إليك عليها، وأنا أستغفر الله عنها.
فضحك حتى استلقى، وقال له: قد احتجنا إلى تأخير المر إلى الغد إن شاء الله.
قال: فأنا أبكر إليك على كل حال.
وانصرف.
نزلت في قلبيأخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، إجازة، وحدثني أحمد ابن ثابت الحافظ عنه، قال: أنشدني أبو عبد الله بن الحجاج، لنفسه:
يا سيدي عبدك لم تقتله ... رأيت من بفعل ما تفعله
نزلت في قلبي فيا سيدي ... لم تخرب البيت الذي تنزله
كلبان يحميان صاحبهما من الثعبانوحدثني بعض أصدقائي، قال: خرجت ليلة وأنا سكران، فقصدت بعض البساتين، لأمر من الأمرو، ومعي كلبان كنت ربيتهما، ومعي عصا، فحملتني عيني، فإذا الكلبان ينبحان ويصيحان، فانتبهت لصياحهما، فلم أر شيئاً أنكره، فضربتهما، وطردتهما، ونمت.
ثم عاودا الصياح والنباح، فانبهاني، فلم أر شيئاً أنكره أيضاً، فوثبت إليهما وطردتهما.
فما أحسست إلا وقد سقطا علي يحركاني بأيديهما وأرجلهما، كما يحرك اليقظان النائم، لأمر هائل.
فوثبت، فإذا بأسود سالخ قد قرب مني، فوثبت إليه فقتلته وانصرفت إلى منزلي.
فكان الكلبان - بعد الله عز وجل - سباً لخلاصي.
فجعت بمسمارويروى أنه كان لميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كلب يقال له مسمار، وكانت إذا حجت، خرجت به معها، فليس يطمع أحد بالقرب من رحلها مع مسمار، فإذا رجعت جعلته في بني جديلة، وأنفقت عليه.
فلما مات، قيل لها: مات مسمار.
فبكت، وقالت: فجعت بمسمار.
لم يبق لي طمعقال أبو الفرج الببغاء: كان القاضي أبو القاسم التنوخي، أنشدنا جميع شعره، أو أكثره، ولا أعلم هذه القطعة، فيما أنشدنا، هل هي له أم لا، وهي:
يا سادتي هذه روحي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في رد الحياة لها ... فالآن مذ غبم لم يبق لي طمع

لا عذب الله روحي بالحياة فما ... أظنها بعدكم بالعيش تنتفع
كلب يهاجم خصم صاحبهوحدثني إبراهيم بن برقان، قال: كان في جوارنا رجل من أهل أصبهان، يعرف بالخصيب، ومعه كلب له، جاء به إلى الجبل، فوقع بينه وبين جاره خصومة، إلى أن تواثبا.
فلما رأى الكلب ذلك، وثب على الرجل الذي واثب صاحبه، فوضع مخاليبه في إحدى عينيه، وعض قفاه، حتى رأيت الرجل قد غشي عليه، ودماؤه تجري على الأرض.
الكلب وعرفان الجميلأخبرني أبو العلاء بن يوسف القاضي، قال: حدثني شيخ كان مسناً صدوقاً، أنه حج سنة من السنين، قال: وبرزنا أحمالنا إلى الياسرية، وجلسنا على قراح نتغدى وكلب رابض بجوارنا، فرمينا إليه من بعض ما نأكل.
ثم ارتحلنا ونزلنا بنهر الملك، فلما قدمنا السفرة، إذا الكلب بعينه رابض بجوارنا، كاليوم الأول.
فقلت للغلمان: قد تبعنا هذا الكلب، وقد وجب حقه علينا، فتعهدوه، ونفَ الغلمان السفرة بين يديه، فأكل، ولم يزل تابعاً منا من منزل إلى منزل، على تلك الحال، لا يقدر أحد أن يقري جمالنا، ولا محاملنا، إلا صاح ونبح، فكنا قد أمنا من سلاس الطريق.
ووصلنا إلى مكة، وقضينا حجنا وعزمنا على الخروج في عمل إلى اليمن فكان معنا إلى أرض قبا، ورجعنا إلى مدينة السلام وهو معنا.
نسيم لو رقد المخمور فيه أفاقاخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي إجازة، وحدثنا أحمد بن علي الحافظ عنه، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن العباس الأخباري، قال: أنشدني أبو نضلة، لنفسه:
ولما التقينا للوداع ولم يزل ... ينيل لثاماً وعناقا
شممت نسيماً من يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
أموت وأحياأخبرنا علي بن المحسن، قال: أنشدنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن الأخباري، قا: أنشدنا ابن دريد، قال: أنشدنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، لآمرأة بدوية:
فلو أن ما ألقى وما بي من الهوى ... بأوعر ركناه صفا وحديد
تفطر من وجدٍ وذاب حديده ... وأمسى تراه العين وهو عميد
ثلاثون يوماً كل يوم وليلة ... أموت وأحيا إن ذا لشديد
مسافة أرض الشام ويحك قربي ... إلي ابن جواب وذاك يزيد
فليت ابن جواب من الناس حظنا ... وكان لنا في النار بعد خلود
البين صعبوأخبرنا القاضي، قال: أنشدنا الثقة، بحضرة المرتضى
قالت وقد نالها للبين أوجعه ... والبين صعب على الأحباب موقعه
أشدد يديك على قلبي فقد ضعفت ... قواه مما به لو كان ينفعه
أعطف علي المطايا ساعة فعسى ... من كان شتت شمل البين يجمعه
كأني يوم ولوا ساعة بمنى ... غريق بحر رأى شطاً ويمنعه
من شعر القاضي التنوخيللقاضي التنوخي في المريخ والمشتري:
كأنما المريخ والمشتري ... قدامه في شامخ الرقعة
منصرف بالليل في ظلمة ... قد أسرجوا قدامه شمعه
مطر الربيعأخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: قرأت على أبي عمر بن حيويه، قال: أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة، لنفسه:
تواصلنا على الأيام باق ... ولكن هجرنا مطر الربيع
يروعك صوبه لكن تراه ... على علاته داني النزوع
كذا العشاق هجرهم دلال ... ويرجع وصلهم حسن الرجوع
معاذا لله أن نلفى غضاباً ... سوى دل المطاع على المطيع
سقراط والعشقأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، قال: قال سقراط الحكيم: العشق جنون، وهو ألوان، كما أن الجنون ألوان.
كلب يحمي طفل صاحبهوحدثني صديق لي: أنه كان له صديق ماتت امرأته، وخلفت صبياً وكان له كلب قد رباه.
فترك يوماً ولده في الدار مع الكلب، وخرج لبعض الحوائج، وعاد بعد ساعة، فرأى الكلب في الدهليز، وهو ملوث بالدم وجهه وبوزه كله.
فظن الرجل انه قد قتل ابنه وأكله، فعمد إلى الكلب فقتله، قبل أن يدخل الدار.

ثم دخل الدار، فوجد الصبي نائماً في مهده، وإلى جانبه بقية أفعى قد قتله الكلب، وأكل بعضه.
فندم الرجل على قتله أشد ندامة، ودفن الكلب.
كلب مالك بن الوليد يقتل زوجته وعشيقهاقال الأصمعي: كان لمالك بن الوليد أصدقاء لا يفارقهم، ولا يصبر عنهم.
فأرسل أحدهم إلى زوجته، فأجابته، وجاء ليلة، واستخفى في بعض دور مالك، عند امرأته، ومالك لا يعلم بشيء من ذلك.
فلما أخذا في شأنهما، وثب كلب لمالك عليهما، فقتلهما، ومالك لا يعقل من السكر.
فلما أفاق، وقف عليهما، وأنشأ يقول:
كل كلب حفظته لك أرعى ... ما بقى لو بقي ليوم التناد
من خليل يخون في النفس والمال ... وفي العرس بعد صفو الوداد
من شعر أبي بكر النباريأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا التنوخي قال: أنشدني أبو العباس الكاتب، قال: أنشدنا أبو بكر الأنباري:
وكم من قائل قد قال دعه ... فلم يك وده لك بالسليم
فقلت إذا جزيت الغدر غدراً ... فما فضل الكريم على اللئيم
وأين الإلف يعطفني عليه ... وأين رعاية الحق القديم
سكنت القلبأنشدني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله، للشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي:
أذات الطوق لم أقرضك قلبي ... على ضني به ليضيع ديني
سكنت القلب حين خلقت منه ... فأنت من الحشا والناظرين
أحبك أن لونك مثل قلبي ... وإن ألبست لوناً غير لوني
عديني وامطلي أبداً فحسبي ... وصالاً أن أراك وأن تريني
سقى الله أياماً خلت
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، قال: حدثنا أبو بكر بن دريد، قا: أنشدنا عبد الرحمن عن عمه:
رويدك يا قمري لست بمظهرٍ ... من الشوق إلا دون ما أنا مضمر
ليكفك أن القلب منذ تنكرت ... أسيماء عن معروفها متنكر
سقى الله أياماً خلت وليالياً ... فلم يبق إلا عهدها المتذكر
لئن كانت الدنيا أجدت إساءة ... لما أحسنت في سالف الدهر أكثر
الفراق مر شديدأخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، إن لم يكن سماعاً فإجازة، قال: اخبرنا أبو عمر بن حيويه، قال: حدثنا ابن المرزبان، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن الفضل، قال: حدثني أحمد بن معاوية قال: رأيت مجنوناً واقفاً بصحراء أثير، وقد هاج، وهو يقول:
هد ركني الهوى وكنت جليدا ... ورأيت الفراق مراً شديدا
زيدي قلبي وسواساأخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف إجازة، قال: أنشدت لماني:
سلي عائداتي كيف أبصرن كربتي ... فإن قلت قد حابينني فاسألي الناسا
فإن لم يقولوا مات أو هو ميت ... فزيدي إذن قلبي جنوناً ووسواسا
رفقاً بقلب
أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله، لمحمد ابن أبي عون الكاتب:
غنيت بمشيتها عن الأغصان ... حسناء يلعب حبها بجناني
وبدت تفض العتب عن خاتامه ... وتجول فيه بناظر ولسان
رفقاً بقلب قل ما قلبته ... إلا على شعل من النيران
فرأيك في سح الدموع موفقاأنشدنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدني قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن علي بن جعفر بن ماكولا، لأبي بكر الخوارزمي الطبري، من طبرية الشام، من تشبيب قصيدة في الصاحب أبي القاسم بن عباد:
يفل غداً جيش النوى عسكر اللقا ... فرأيك في سح الدموع موفقا
ولما رأيت الإلف يعزم للنوى ... عزمت على الأجفان أن تترقرقا
وخذ حجتي في ترك جسمي سالماً ... وقلبي، ومن حقيهما أن يخرقا
يدي ضعفت عن أن تخرق جيبها ... وما كان قلبي حاضراً فيمزقا
زائر متهالكأخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن قال: أخبرنا علي بن عيسى الرماني، قال: أخبرني ابن دريد، قال: أنشدنا عبد الرحمن عن عمه، لأبي المطراب العنبري:
أيا بارقي مغنى بثينة أسعدا ... فتى مقصداً بالشوق فهو عميد
ليالي منا زائر متهالك ... وآخر مشهور كواه صدود
على أنه مهدي السلام وزائر ... إذا لم يكن ممن يخاف شهود
وقد كان في مغنى بثينة لو رنت ... عيون مها تبدو لنا وخدود
أسائل عنها كل ركبأخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا أبو عمر بن حيويه الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال حدثني أبو عبد الله التميمي، قال: حدثنا أبو الوضاح اباهلي، عن أبي محمد اليزيدي، قال: حدثنا عبد الله بن عمر بن عتيق عن عامر بن عبد الله ابن الزبير قال: خرجت أنا ويعقوب بن حميد بن كاسب، قافلين من مكة، فلما كنابودان، لقيتنا جارية من أهل ودان. فقال لها يعقوب: يا جارية، ما فعلت نعم؟ فقالت: سل نصيباً.
فقال: قاتلك الله، ما رأيت كاليوم قط، أحد ذهناً، ولا أحضر جواباً منك. وإنما أراد يعقوب قول نصيب في نعم، وكانت تنزل ودان:
أيا صاحب الخيمات من بطن أرثد ... إلى النخل من ودان ما فعلت نعم
أسائل عنها كل ركبٍ لقيتهم ... وما لي بها من بعد مكتنا علم
أفق عن بعض لومكأخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا أبو الفضل قاسم بن سليمان الإيادي، عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: أخبرني نخبر، انه رأى أسود ببئر ميمون، وهو يمتح من بئر، ويهمس بشيء لم أدر ما هو، فدنوت منه، فإذا بعضه بالعربية، وبعضه بالزنجية، ثم تبينت ما قال، فإذا هو:
ألا يا لائمي في حب ريمٍ ... أفق عن بعض لومك لا أهتديتا
أتأمرني بهجرة بعض نفسي ... معاذ الله أفعل ما اشتهيتا
أحب لحبها تثليم طراً ... وتكعة والمشك وعين زيتا
فقلت: ما هذه؟ فقال: رباع كانت لنا بالحبشة، كنا نألفها، قال: قلت: أحسبك عاشقاً. قال: نعم، قلت: لمن؟ قال: لمن إن وقفت رأيته.
فما لبثنا ساعة، إذ جاءت سوداء على كتفها جرة، فضرب بيده عليها، وقال: هذه هي، قال: قلت له: ما مقامك هاهنا؟ قال: اشتريت، فأوقفت على هذا القبر أرشه. فأنا أبرد من فوق، وربك يسخن من أسفل.
أين المفراخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، قال: حدثنا القحطبي، قال: أخبرنا بعض الرواة، قال: بينا أنا يوماً على ركي قاعد، وذلك في أشد ما يكون من الحر، إذا أنا بجارية سوداء، تحمل جرة لها، فلما وصلت إلى الركي، وضعت جرتها ثم تنفست الصعداء، فقالت:
حر هجر، وحر حب، وحر ... أين من ذا وذا يكون المفر
وفي راوية أخرى: أي حر من بعد هذا أضر؟ وملأت الجرة، وانصرفت.
فلم ألبث إلا يسيراً، حتى جاء أسود، ومعه جرة، فوضعها بحيث وضعت السوداء جرتها، فمر به كلب أسود، فرمى إليه رغيفاً كان معه، وقال:
أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب
كذاك العاشقونأخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، بقراءتي عليه، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قراءة عليه، قالا: أخبرنا أبو عمر بن حيويه الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: أخبرنا عبد الله بن شبيب، قال: أخبرني الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن المحسن، قال: حدثني هبيرة بن مرة القشيري، قال: كان لي غلام يسوق ناضحاً، ويرطن بالزنجبية، بشيء يشبه الشعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه، فاستمع له، ثم قال: هو يقول:
فقلت لها إني اهتديت لفتيةٍ ... أنا خوا بجعجاع قلائص سهما
فقالت: كذاك العاشقون ومن يخف ... عيون الأعادي يجعل الليل سلما
لا تكن ملحاحاأنبأنا أبو القاسم علي بن أبي علي التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد ابن العباس قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، إجازة، قال: حدثني سعيد بن عمر بن علي البيروذي، قال: حدثني علي بن المختار، قال: حدثني القحذمي، قال: هوي رجل من أهل البصرة، أمرأة فضني من حبها، حتى سقط على الفراش، وكان إذا جنه الليل، صاح بأعلى صوته: كم ترى بيننا وبين الصباح فإذا أكثر، هتف به هاتف من جانب البيت:
ألف عام، وألف عام تباعاً ... غير شك، فلا تكن ملحاحا
قال: فأقام الرجل على علته سنين، ثم أبل من علته.
في القلب صدوعأخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: أنشدني أبو علي البلدي الشاعر، ببمجنون:
لئن نزحت دار بليلى لربما ... غنينا بخير والزمان جميع
وفي النفس من شوق إليك حزازة ... وفي القلب من وجد عليك صدوع
مساكين أهل العشقأخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين، وأبو القاسم علي بن المحسن ابن علي، قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا محمد ابن خلف، قال: أخبرني جعفر بن علي اليشكري، قال: أخبرني الرياشي، قال: أخبرني العتبي، قال: دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان، فقال له: هل عشقت يا نصيب؟ قال: نعم، جعلني الله فداك، ومن العشق أقلتني إليك البادية.
قال: ومن عشقت؟ قال: جارية لبني مدلج، فاحدق بنا الواشون، فكنت لا أقدر على كلامها إلا بعين أو إشارة، فأجلس على الطريق، حتى تمر بي، فأراها ففي ذلك أقول:
جلست لها كيما تمر لعلني ... أخالسها التسليم إن لم تسلم
لما رأتني والوشاة تحدرت ... مدامعها شوقاً ولم تتكلم
مساكين أهل العشق ما كنت أشتري ... حياة العاشقين بدرهم
كلب يحمي عرض سيدهوممن أفسد الصديق بحرمته، فقام الكلب بنصرته، ما اخبرونا عن أبي الحسن المدائني يرفعه عن عمر بن شمر، قا: كان للحارث بن صعصعة، ندمان لا يفارقهم، شديد المحبة لهم، فعبث أحدهم بزوجته، فراسلها، وكان للحارث كلب رباه، فخرج الحارث في بعض متنزهاته، ومعه ندماؤه، وتخلف عنه ذلك الرجل، فلما بعد الحارث عن منزله، جاء نديمه إلى زوجته، فأقام عندها يأكل ويشرب، فلما سكرا واضطجعا، ورأى الكلب أنه قد ثار على بطنها، وثب الكلب عليهما فقتلهما.
فلما رجع الحارث إلى منزله، ونظر إليهما عرف القصة، ووقف ندمانه على ذلك، وأنشأ يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني ... ويحفظ عرسي والخليل يخون
فواعجباً للخل يهتك حرمتي ... ويا عجباً للكلب كيف يصون
قال: وهجر من كان يعاشره، واتخذ كلبه نديماً وصاحباً، فتحدث به العرب، وأنشأ يقول:
فللكلب خير من خليل يخونني ... وينكح عرسي بعد وقت رحيلي
سأجعل كلبي ما حييت منادمي ... وامنحه ودي وصفو خليلي
الحبشاني وصفراء العلاقميةأخبرنا التوزي، والتنوخي، قالاك حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، قال: وذكر بعض الرواة عن العمري: كان أبو عبد الله الحبشاني، يعشق صفراء العلاقمية، وكانت سوداء، فاشتكى من حبها، وضني حتى صار إلى حد الموت، فقال بعض أهله، لمولاها: لو وجهت صفراء إلى أبي عبد الله الحبشاني، فلعله يعقل إذا رآها، ففعل، فلما دخلت إليه صفراء، قالت: كيف أصبحت يا أباع عبد الله؟ قال: بخير، ما لم تبرحي.
قالت: ما تشتهي؟ قال: قربك.
قالت: فما تشتكي؟ قال: حبك.
فقالت: أفتوصي بشيء؟ قال: نعم، أوصي بك، إن قبلوا مني.
فقالت:إني أريد الانصراف.
قال: فتعجلي ثواب الصلاة علي. فقانمت، فانصرفت.
فلما رآها مولية، تنفس الصعداء، ومات من ساعته.
كلب يقتل زوجة سده وخليلهاوذكر ابن دأب، قال: كان للحسن بن مالك الغنوي، أخوان، وندمان، فأفسد بعضهم محرماً له، وكان له على باب داره كلب قدر باه، فجاء الرجل يوماً إلى منزل الحسن فدخل إلى امرأته.
فقالت له: قد بعد، فهل لك في جلسة يسر بعضنا ببعض فيها؟ فقال: نعم.
فأكلا وشربا، ووقع عليها.
فلما علاها وثب الكلب عليهما، فقتلهما.

فلما جاء الحسن، ورآهما على تلك الحال، تبين ما فعلا فأنشأ يقول:
قد أضحى خليلي بعد صفو مودتي ... صريعاً بدار الذل أسلمه الغدر
يطا حرمتي بعد الإخاء وخانني ... فغادره كلبي وقد ضمه القبر
دفع درهمين فأفاد أربعة آلاف دينارأخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي ابن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف المحولي، قال: أخبرني أبو الفضل الكاتب، عن أبي محمد العامري، قال: قال إسماعيل بن جامع: كان أبي يعظني في الغناء، ويضيق علي، فهربت إلى أخوالي باليمن، فأنزلني خالي غرفة له، مشرفة على نهر في بستان، فإني لمشرف منها، إذ طلعت سوداء معها قربة، فنزلت إلى المشرعة، فجلست، فوضعت قربتها، وغنت:
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه هائم القلب مغرما
وذرفت عيناها، فاسفزني ما لا قوام لي به، ورجوت أن ترده، فلم تفعل، وملأت القربة، ونهضت.
فنزلت أعدو وراءها، وقلت: يا جراية بأبي أنت وأمي، ردي الصوت.
قالت: ما أشغلني عنك.
قلت: بماذا؟ قالت: علي خراج، كل يوم درهمان.
فأعطيتها درهمين، فتغنت وجلست حتى أخذته، وانصرفت، ولهوت يومي ذلك، وكرهت أن أتغنى الصوت، فأصبحت وما أذكر منه حرفاً واحداً. وإذا أنا بالسوداء قد طلعت، ففعلت كفعلها الأول، إلا أنها غنت غير ذلك الصوت.
فنهضت وعدوت في إثرها، فقلت: الصوت قد ذهبت علي منه نغمة.
قالت: مثلك لا تذهب عليه نغمة، فتبين بعضه ببعض، وأبت أن تعيده إلا بدرهمين، فأعطيتها ذلك، فأعادته، فتذكرته.
فقلت: حسبك.
قالت: كأنك تستكثر فيه أربعة دراهم، كأني والله بك، وقد أصبت به أربعة آلاف دينار.
قال ابن جامع: فبينا أنا أغني الرشيد يوماً، وبين يديه أكياس، في كل كيس ألف دينار، إذ قال: من أطربني فله كيس، فغنيته الصوت، فرمى لي بكيس.
ثم قال: أعد، فأعدت، فرمى لي بكيس.
وقال: أعد، فأعدت فرمى لي بكيس، فتبسمت.
فقال: ما يضحكك؟ .
قلت: يا أمير المؤمنين لهذا الصوت حديث أعجب منه، وحدثته الحديث.
فضحك، ورمى إلي الكيس الرابع، وقال: لا نكذب قول السوداء.
فرجعت بأربعة آلاف دينار.
وقد جلبت عيني علي الدواهياأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، إجازة، قال: حدثني محمد بن علي عن ابيه علي، عن ابن دأب، قال: عشق فتى، جارية لأخته، وكان سبب عشقه إياها، أنه رآها في منامه، فأصبح مستطاراً علقله، ساهياً قلبه.
فلم يزل كذلك حيناً، لا يزداد إلا حباً ووجداً، حتى أنكر ذلك أهله، وأعلموا عمه بما هو فيه، فسأله عن حاله، فلم يقر بشيء، وقال: علة أجدها في جسمي، فدعا له أطباء الروم، فعالجوه بضروب من العلاج، فلم يزده علاجهم إلا سوءاً، وامتنع عن الطعام والكلام.
فلما رأوا ذلك منه، أجمعوا على أن يوكلوا به امرأة، فتسقيه الخمر حتى يبلغ منه دون السكر، فإن ذلك يدعوه إلى الكلام والبوح بما في نفسه، فعزم رأيهم على ذلك، وأعلموا عمه ما اتفقوا عليه، فبعث إليه بقينة ياقل لها حمامة، ووكل به حاضنة كانت له.
فلما شرب الفتى، غنت الجارية قدامه، فأنشأ يقول:
دعوني لما بي وانهضوا في كلاءة ... من الله قد أيقنت أن لست باقيا
وأن قد دنا موتي وحانت منيتي ... وقد جلبت عيني علي الدواهيا
أموت بشوق في فؤادي مبرح ... فيا ويح نفسي من به مثل مابيا
قال: فصارت الحاضنة والقينة إلى عمه، فأخبرتاه الخبر، فاشتدت له رحمته، فتلطف في دس جارية من جواريه إليه، وكانت ذات أدب وعقل، فلم تزل تستخرج ما في قلبه، حتى باح لها بالذي في نفسه، فصارت السفيرة فيما بينه وبين الجارية، وكثرت بينهما الكتب، وعلمت أخته بذلك، فانتشر الخبر، فوهبتها له، فبرأ من علته، وأقام على أحسن حال.
أبو علي التنوخييهنئ رئيساً بحلول رمضان كتب القاضي أبو علي التنوخي، إلى بعض الرؤساء، في شهر رمضان:
نلت في ذا الصيام ما تشتهيه ... وكفاك الإله ما تتقيه

أنت في الناس مثل شهرك في الأش ... هر بل مثل ليلة القدر فيه
من شعر القاضي أبي علي التنوخيومن المنسوب للقاضي التنوخي:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقى المترهب
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجباً لو جهك كيف لم يتلهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
وإذا أتت عني لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
من شعر أبي الفرج الببغاءوحكى القاضي أبو علي التنوخي قال: دخل أبو الفرج عبد الواحد الببغاء، على الوزير أبي نصر سابور بن أردشير، وقد نثرت عليه دنانير وجواهر، فأنشد بديهاً:
نثروا الجواهر واللجين وليس لي ... شيء عليه سوى المدائح أنثر
بقصائد كالدر إن هي أنشدت ... وثناً إذا ما فاح فهو العنبر
مكشوف العلل وكتوم الأجلأنشدني علي بن أبي علي، قال: أنشدني أبي، قال: أنشدني قاضي القضاة أبو محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، لنفسه:
يا بؤس للإنسان في ال ... دنيا وإن نال المل
يعيش مكشوف العلل ... فيها وكتوم الجل
بينا يرى في صحة ... مغتبطاً قيل اعتلل
وبينما يوجد في ... ها ثاوياً قيل انتقل
فأوفر الحظ لمن ... يتبعه حسن العمل
الأشتر وجيداءأخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي، قراءة عليه، قال: حدثني أبي قال: أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، قال: حدثني جعفر ابن قدامة، قال حدثني أبو العيناء، قال: كنت أجالس محمد بن صالح بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان حمل إلى المتوكل أسيراً، فحبسه مدة، ثم أطلقه، وكان أعرابياً فصيحاً محرماً، فحدثني قال: حدثني نمير بن قحيف الهلالي، وكان حسن الوجه، حيياً، قال: كان منا فتى يقال له بشر بن عبد الله، ويعرف بالأشتر، وكان يهوى جارية من قومه،يقال لها: جيداء، وكانت ذات زوج.
وشاع خبره في حبها، فمنع منها، وضيق عليه، ووقع الشر بينه وبين أهلها، حتى تلت بينهم القتلى، وكثرت الجراحات، ثم افترقوا على أن لا ينزل أحد منهم بقرب الآخر.
فلما طال على الأشتر البلاء والهجر، جاءني ذات يوم، فقال: يا نمير هل فيك خير؟ قلت: عندي كل ما أحببت.
قال: أسعدني على زيارة جيداء، فقد ذهب الشوق إليها بروحي، وتنغصت علي حياتي.
قلت: بالحب والكرامة، فانهض إذا شئت.
فركب، وركبت معه، وسرنا يومنا وليلتنا، حتى إذا كان قريباً من مغرب الشمس، نظرنا إلى منازلهم، ودخلنا شعباً خفياً، فأنخنا راحلتينا وجلين.
فجلس هو عند الراحلتين، وقال: يا نمير، اذهب، بأبي أنت وأمي، فادخل الحي، واذكر لمن لقيك أنك طالب ضالة، ولا تعرض بذكري بشفة ولا لسان، فإن لقيت جاريتها فلانة الراعية، فاقرئها من السلام وسلها عن الخبر، وأعلمها بمكاني.
فخرجت، لا أعذر في أمري، حتى لقيت الجارية، فأبلغتها الرسالة، وأعلمتها بمكانه، وسألتها عن الخبر.
فقالت: بلى والله، مشدد عليها، متحفظ منها، وعلى ذلك، فموعدكما الليلة، عند تلك الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت.
فانصرفت إلى صاحبي، فأخبرته الخبر، ثم نهضنا نقود راحلتينا، حتى جاء الموعد.
فلم نلبث إلا قليلا، وإذا جيداء قد جاءت تمشي حتى دنت منا، فوثب إليها الأشتر، فصافحها، وسلم عليها، وقمت مولياً عنهما.
فقالا: إنا نقسم عليك إلا ما رجعت، فوالله ما بيننا ريبة، ولا قبيح نخلو به دونك.
فانصرفت راجعاً إليهما، حتى جلست معهما، فتحدثا ساعة، ثم أرادت الانصراف.
فقال الأشتر: أما فيك حيلة يا جيداء، فنتحث ليلتنا، ويشكو بعضنا إلى بعض.
قالت: والله ما إلى ذلك من سبيل، إلا أن نعود إلى الشر الذي تعلم.
فقاللها الأشتر: لا بد من ذلك، ولو وقعت السماء على الأرض.
فقالت: هل في صديقك هذا من خير أو فيه مساعدة لنا؟ قال: الخير كله.
قالت: يا فتى، هل فيك من خير؟ قلت: سلي ما بدا لك، فإني منته إلى مرادك، ولو كان في ذلك ذهاب روحي.

فقامت، فنزعت ثيابها، فخلعتها علي، فلبستها، قم قالت: اذهب إلى بيتي، فادخل في خبائي، فإن زوجي سيأتيك بعد ساعة أو ساعتين، فيطلب منك القدح، ليحلب فيه الإبل، فلا تعطه إياه حتى يطيل طلبه، ثم ارم به رمياً، ولا تعطه إياه من يدك، فإني كذا كنت أفعل به، فيذهب فيحلب، ثم يأتيك عند فراغه من الحلب، والقدح ملآن لبناً، فيقول: هاك غبوقك، فلا تأخذ منه حتى تطيل نكداً عليه، ثم خذه، أو دعه حتى يضعه، ثم لست تراه، حتى تصبح إن شاء الله.
قال: فذهبت ، ففعلت ما أمرتني به، حتى إذا جاء القدح الذي فيه اللبن، أمرني أن آخذه، فلم آخذه، حتى طال نكدي، ثم أهويت لآخذه، وأهوى ليضعه، واختلف يدي ويده، فانكفأة القدح، واندفق ما فيه، فقال: إن هذا طماح مفرط، وضرب بيده إلى مقدم البيت، فاستخرج سوطاً مفتولاً، كمتن الثعبان المطوق، ثم دخل علي، فهتك الستر عني، وقبض على شعري، وأتبع ذلك السوط متني، فضربني تمام ثلاثين، ثم جاءت أمه وإخوته، وأخت له، فانتزعوني من يده، ولا والله، ما أقلع، حتى زايلتني روحي، وهممت أن أوجره الكين، وإن كان فيه الموت.
فلما خرجوا عني، وهو معهم، شددت ستري، وقعدت كما كنت.
فلم ألبث إلا قليلاً، حتى دخلت أم جيداء علي تكلمني، وهي تحسبني ابنتها، فاتقيتها بالسكات والبكى، وتغطيت بثوبي دونها.
فقالت: يا بنية، اتقي الله ربك، ولا تعرضي لمكروه زوجك، فذاك أولى بك، فأما الأشتر، فلا أشتر لك آخر الدهر.
ثم خرجت من عندي، وقالت: سأرسل إليك أختك تونسك، وتبيت الليلة عندك.
فلبثت غير ما كثير، فإذا الجارية قد جاءت، فجعلت تبكي، وتدعو على من ضربني، وجعلت لا أكلمها، ثم اضطجعت إلى جانبي.
فلما استمكنت منها، شددت بيدي على فيها، وقلت: يا هذه تلك أختك مع الأشتر، وقد قطع ظهري الليلة بسببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك ولها، فوالله لئن تكلمت بكلمة، لأضجن بجهدي، جتى تكون الفضيحة شاملة.
ثم رفعت يدي عنها، فاهتزت الجارية كما تهتز القصبة من الروع، ثم بات معي منها أملح رفيق رافقته، وأعفه، وأحسنه حديثاً، فلم تزل تتحدث، وتضحك مني، ومما بليت به من الضرب، حتى برق النور، وإذا جيداء قد دخلت علينا من آخر البيت، فلما رأتنا ارتاعت، وفزعت.
وقالت: ويلك من هذا عندك؟ قلت: اختك.
قالت: وما السبب؟ قلت: هي تخبرك، ولعمر الله، إنها لعالمة بما نزل ببي، وأخذت ثيابي منها، ومضيت إلى صاحبي، فركبنا، ونحن خائفان.
فلما سري عنا روعنا، حدثته بما أصابني وكشفت عن ظهري، فإذا فيه ما غرس السوط من ضربة إلى جانب أخرى، كل ضربة تخرج الدم وحدها.
فلما رآني الأشتر، قال: لقد عظمت صنيعتك، ووجب شكرك، إذ خاطرت بنفسك، فبلغني الله مكافأتك.
كيف تعالج اللثغة عن الصبيحدث أبو علي المحسن بن علي التنوخي، في نشوار المحاضرة، قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن المنجم، قال: حدثني أبي قال: كنت وأنا صبي لا أقيم الراء في كلامي، وأجعلها غيناً، وكانت سني إذ ذاك أربع سنين، أقل أو أكثر، فدخل أبو طالب الفضل بن سلمة، أو أبو بكر الدمشقي الشك من أبي الفتح إلى ؟أبي، وأنا بحضرته، فتكلمت بشيء فيه راء، فلثغت فيها.
فقال له الرج: يا سيدس، لم تدع أبا الحسن يتكلم هكذا؟ فقال له: ما أصنع، وهو ألثغ؟ فقال له: - وأنا أسمع وأحصل ما جرى، وأضبطه - إن اللثغة لا تصح مع سلامة الجارحة، وإنما هي عادة سوء تسبق إلى الصبي أول ما يتكلم، لجهله بتحقيق الألفاظ، وسماعه شيئاً يحتذيه، فإن ترك على ما يستصحبه من ذلك، مرن عليه، فصار له طبعاً لا يمكنه التحول عنه، وإن أخذ بتركه في أول نشوة، استقام لسانه، وزال عنه، وأنا أزيل هذا عن أبي الحسن ولا أرضى فيه بترك له عليه.
ثم قال لي أخرج لسانك، فاخرجته.
فتأمله، وقال: الجارحة صحيحة، قل يا بني: را، واجعل لسانكفي سقف حلقك.
ففعلت ذلك، فلم يستولي .
فما زال يرفق بي مرة، ويخشن بي أخرى، ويقل لساني من موضع إلى موضع، من فمي، ويأمرني أن أقول الراء فيه، فإذا لم يستولي ، نقل لساني إلى موضع آخر، دفعات كثيرة، فر زمان طويل، حتى قلت راءً صحيحة في بعض تلك المواضع.
وطالبني، وأوصى معلمي بإلزامي ذلك، حتى مرن لساني عليه، وذهبت عنه اللثغة.
أيهما يصفعحكى علي بن المحسن القاضي، قال:

حضرت مجلس قاض، فتقدم إليه رجلان، وادعى أحدهما على الآخر شيئاً.
فقال: للمدعي عليه: ما تقول؟ فضرط بفمه.
فقال المدعي: يسخر بك يا أيها القاضي.
فقال القاضي: اصفع يا غلام.
فقال الغلام: من أصفع، الذي سخر منك، أم الذي ضرط عليك؟ فقال: بل دعهما، واصفع نفسك.
الجزء السابع
من شعر يعقوب بن الربيعأخبرنا التنوخي، قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني، قال: أنشدنا علي بن سليمان الأخفش، ليعقوب بن الربيع:
أضحوا يصيدون الظباء و إنني ... لأرى تصيدها عليّ حراماً
أشبهن منك سوالفاً و مدامعاً ... فأرى بذاك لها عليّ ذماماً
أعزز عليّ بأن أروع شبهها ... أو أن تذوق على يدي حماماً
أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ابن البهلول التنوخي حدثنا عليّ بن المحسن القاضي، عن أبي الحسن بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق عن أبيه ، قال: يعقوب بن إسحاق البهلول التنوخي، يكنى بأبي يوسف، و كان من حفاظ القرآن، العالمين بعدده، و قراءاته، و كان حجاجاً، متنسكاً، وحدث حديثاً كثيراً عن جماعة من مشايخ أبيه إسحاق و غيرهم، و لم ينتشر حديثه.
و ولد بالأنبار في سنة سبع و ثمانين و مائة ، و مات ببغداد لتسع ليال بقين من شهر رمضان سنة إحدى و خمسين و مائتين .
و مات في حياة أبيه، فوجد عليه وجداً شديداً، و دفن في مقابر باب التبن .
و خلف ابن الأزرق، و ابنه إبراهيم، يتيمين، و بنات، و زوجة حاملاً، ولدت بعد موته ابناً سمي إسماعيل ، فرباهم جدهم إسحاق ابن البهلول، و كان يؤثرهم جداً، و يحبهم لمحبته أباهم، و لكونهم أيتاماً.
و قال أبو الحسن: حدثني عمي إسماعيل بن يعقوب، قال أخبرت عن جدي إسحاق بن البهلول، أنه كان يقول: على ودي أن لي ابناً آخر مثل يعقوب في مذهبه، و أني لم أرزق سواه.
و أنه لما توفي يعقوب أغمي على إسحاق، و فاتته صلوات، فأعادها بعد ذلك، لما لحقه من مضض المصيبة.
و انه كان يقول: ابني يعقوب أكمل مني.
بحث في المواساةحدثني التنوخي، عن أبي الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني يعقوب بن شيبة ، قال: أظل عيد من الأعياد رجلاً يومئ إلى أنه من أهل عصره و عنده مائة دينار، لا يملك سواها.
فكتب إليه رجل من إخوانه يقول له: قد أظلنا هذا العيد، و لا شيء عندنا ننفقه على الصبيان، و يستدعي منه ما ينفقه.
فجعل المائة دينار في صرة، و ختمها، و أنفذها إليه.
فلم تلبث الصرة عند الرجل إلا يسيراً حتى وردت عليه رقعة أخ من إخوانه، و ذكر إضافته في العيد، و يستدعي منه مثل ما استدعاه، فوجه بالصرة إليه بختمها.
و بقي الأول لا شيء عنده، فكتب إلى صديق له، و هو الثالث الذي صارت إليه الدنانير، يذكر حاله، و يستدعي منه ما ينفقه في العيد، فأنفذ إليه الصرة بخاتمها.
فلما عادت إليه صرته التي أنفذها بحالها، ركب إليه، و معه الصرة، و قال له: ما شأن هذه الصرة التي أنفذتها إلي.
فقال له: إنه أظلنا العيد، و لا شيء عندنا ننفقه على الصبيان، فكتبت إلى فلان أخينا، أستدعي منه، ما ننفقه، فأنفذ إليّ هذه الصرة، فلما وردت رقعتك عليّ، أنفذتها إليك.
فقال له: قم بنا إليه.
فركبا جميعاً إلى الثاني، و معهما الصرة، فتفاوضوا الحديث، ثم فتحوها، فاقتسموها أثلاثاً.
قال أبو الحسن: قال لي أبي: و الثلاثة: يعقوب بن شيبة، و أبو حسان الزيادي القاضي، و أنسيت أنا الثالث .
أبو يعقوب البويطي لسان الشافعيأخبرنا العتيقي، و التنوخي، قالا: أخبرنا علي بن عبد العزيز البردغي ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: في كتابي عن الربيع بن سليمان أنه قال: كان لأبي يعقوب البويطي من الشافعي منزلة، و كان الرجل ربما يسأله عن المسألة، فيقول: سل أبا يعقوب، فإذا أجابه، أخبره، فيقول: هو كما قال.
قال: و ربما جاء إلى الشافعي، رسول صاحب الشرط، فيوجه الشافعي أبا يعقوب البويطي، و يقول: هذا لساني.
القاضي يوسف بن يعقوبابن إسماعيل بن حماد أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال:

يوسف بن يعقب بن إسماعيل بن حماد بن زيد ، كان رجلاً صالحاً عفيفاً خيراً، حسن العلم بصناعة القضاء، شديداً في الحكم، لا يراقب فيه أحداً.
و كانت له هيبة و رياسة.
و حمل الناس عنه حديثاً كثيراً، و كان ثقة أميناً.
أبو بكر يوسف الأزرقلقب بالأزرق لزرقة عينيه أخبرنا التنوخي، عن أحمد بن يوسف الأزرق ، قال: قال لي أبي: ولدت بالأنبار في رجب سنة ثمان و ثلاثين و مائتين.
قال: و قال لي أبي: لو شئت أن أقول في جميع حديث جدي إني سمعته منه، لقلت، و اعلم أنني فرقت في سنة سبع و أربعين و مائتين، و لي تسع سنين، بين: كتبت في كتابي، و قلت في كتابي، و بين قرأ عليّ جدي، و قرأت على جدي.
قال ابن الأزرق: و كان أي قد كتب لغةً، و نحواً، و أخباراً، عن أبي عكرمة الضبي صاحب المفضل ، و حمل عن عمر بن شبه من هذه العلوم فأكثر، و عن الزبير بن بكار ، و عن ثعلب ، و كان كتب عن أحمد بن بديل اليامي ، و عباس بن يزيد البحراني ، فضاع كتابه عنهما، فلم يحدث عنهما بشيء.
قال ابن الأزرق: و سمعت أبي يقول: خرج عن يدي، إلى سنة خمس عشرة و ثلثمائة، نيف و خمسون ألف دينار في أبواب البر.
قال: و كان بعد ذلك يجري على رسمه في الصدقة.
قال لي التنوخي: كان يوسف بن يعقوب أزرق العين، و كان كاتباً جليلاً، قديم التصرف مع السلطان، عفيفاً فيما تصرف فيه، و كان عريض النعمة، متخشناً في دينه، كثير الصدقة، أماراً بالمعروف.
القاضي أبو نصر بن أبي الحسين
بن أبي عمرأخبرنا التنوخي قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما كان في المحرم سنة سبع و عشرين و ثلثمائة ، خرج الراضي إلى الموصل ، و أخرج معه قاضي القضاة، أبا الحسين يعني عمر بن محمد بن يوسف و أمره أن يستخلف على مدينة السلام ، أبا نصر يوسف ابن عمر ، لما علم أنه لا أحد بعد أبيه يجاريه، و لا إنسان يساويه. فجلس في يوم الثلاثاء لخمس بقين من المحرم، سنة سبع و عشرين و ثلثمائة في جامع الرصافة، و قرئ عهده بذلك، و حكم ، فتبين للناس من أمره ما بهر عقولهم، و مضى في الحكم على سبيل معروفه له و لسلفه .
و ما زار أبو نصر يخلف أباه على القضاء بالحضرة، من الوقت الذي ذكرناه إلى أن توفي قاضي القضاة، في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة ثمان و عشرين و ثلثمائة ، و صلى عليه ابنه أبو نصر، و دفن إلى جنب أبي عمر، محمد بن يوسف، في دار إلى جنب داره.
فلما كان في يوم الخميس لخمس بقين من شعبان، خلع الراضي على أبي نصر، يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، و قلده قضاء الحضرة بأسرها ، الجانب الشرقي و الغربي، المدينة و الكرخ، و قطعة من أعمال السواد، و خلع عليه، و على أخيه أبي محمد الحسين بن عمر لقضاء أكثر السواد و البصرة و واسط .
قال طلحة: و ما زال أبو نصر منذ نشأ فتىً نبيلاً، فطناً، جميلاً، عفيفاً، متوسطاً في علمه بالفقه، حاذقاً بصناعة القضاء، بارعاً في الأدب و الكتابة، حسن الفصاحة، واسع العلم باللغة و الشعر، تام الهيبة، اقتدر على أمره بالنزاهة و التصون و العفة، حتى وصفه الناس في ذلك بما لم يصفوا به أباه و جده، مع حداثة سنه، و قرب ميلاده من رياسته.
و لا نعلم قاضياً تقلد هذا البلد، أعرق في القضاء منه، و من أخيه الحسين، لأنه يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف بن يعقوب، و كل هؤلاء تقلدوا الحضرة، غير يعقوب، فإنه كان قاضياً على مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم، ثم تقلد فارس، و مات بها.
و ما زال أبو نصر، والياً على بغداد، بأسرها إلى صفر من سنة تسع و عشرين و ثلثمائة، فإن الراضي صرفه عن مدينة المنصور، بأخيه الحسين، و أقره على الجانب الشرقي والكرخ ، و مات الراضي في هذه السنة .
لكسلم بن يزيد يرثي يزيد بن مزيدأخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني ، قال: أنشدنا أبو الحسن الأخفش ، عن ثعلب، لمسلم يعني ابن الوليد يرثي يزيد بن مزيد ، و مات ببرذعة ، من أرض أران:
قبر ببرذعة استسر ضريحه ... خطراً تقاصر دونه الأخطار
ألقى الزمان على معد بعده ... حزناً لعمر الدهر ليس يعار
نقضت بك الآمال أحلاس الغنى ... و استرجعت نزاعها الأمصار

فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... أثنى عليها السهل و الأوعار
لمسلم بن الوليدأمدح بيت و أرثى بيت و أهجى بيت أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: حدثنا أبو بكر بن محمد بن القاسم الأنباري ، قال: حدثنا أبو الحسن بن البراء، عن شيخ له، قال: قال مسلم بن الوليد ، ثلاثة أبيات، تناهى فيها، و زاد على كل الشعراء، أمدح بيت، و أرثى بيت، و أهجى بيت.
فأما المديح، فقوله:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... و الجود بالنفس أقصى غاية الجود
و أما المرثية فقوله:
أرادوا ليخفوا قره عن عدوه ... فطيب تراب القر دل على القبر
و أما الهجاء فقوله:
حسنت مناظره فحين خبرته ... قبحت مناظره لقبح المخبر
عبد الملك بن مروانيشهد لخصمه مصعب بن الزبير بكمال مروءته أخبرنا الجوهري و التنوخي، قالا: حدثنا محمد بن العباس الخزاز ، قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان ، قال: حدثني أبو العباس محمد ابن إسحاق قال: حدثنا ابن عائشة ، قال: سمعت أبي يقول: قيل لعبد الملك بن مروان ، و هو يحارب مصعباً : إن مصعباً قد شرب الشراب.
فقال عبد الملك: مصعب يشرب الشراب؟ و الله، لو علم مصعب أن الماء ينقص من مروءته، ما روي منه.
أشجع العربأخبرنا عليّ بن أبي عليّ، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص ، و أحمد بن عبد الدوري قالا: حدثنا احمد بن سليمان الطوسي ، قال: حدثنا الزبير بن بكار ، قال: حدثني محمد بن الحسن، عن زافر بن قتيبة، عن الكلبي قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه: من أشجع العرب؟ فقالوا: شبيب ، قطري ، فلان، فلان.
فقال عبد الملك: إن أشجع العرب، رجل جمع بين سكينة بنت الحسين و عائشة بنت طلخة، و أمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، و أمه الرباب بنت أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب، ولي العراقين خمس سنين، فأصاب ألف ألف، و ألف ألف، و ألف ألف، و أعطي الأمان فأبى، و مشى بسيفه حتى مات، ذاك المصعب بن الزبير، لا من قطع الجسور، مرة ههنا، و مرة ههنا.
الحمد لله شكراً
حدثني التنوخي، قال: أنشدنا أبو الحسن أحمد بن علي البتي ، قال: أنشدنا أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد القاضي، لنفسه :
يا محنة الله كفيّ ... إن لم تكفيّ فخفيّ
ما آن أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي
ذهبت أطلب بختي ... فقيل لي قد توفي
ثور ينال الثريا ... و عالم متخفي
الحمد لله شكراً ... على نقاوة حرفي
حرّ انتصر
أخبرنا عليّ بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا عيسى بن علي بن عيسى الوزير ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال: حدثنا داود بن عمرو ، قال: حدثنا مكرم بن حكيم أبو عبد الله الخثعمي قال: حدثني مهران بن عبد الله ، قال: لقيت علي بن أبي طالب و هو مقبل من قصر المدائن ، و حوله المهاجرون حين بلغ قنطرة دن ، متوزر على صدره من عظم بطنه، و قد وقع ثديه على إزاره، ضخم البطن، ذو عضلات ومناكب، أصلع، أجلح، قد خرج الشعر من أذنيه، و أنا أمشي بجنباته، و هو يريد أسبانبر .
فجاء غلام فلطم وجهي. فالتفت عليّ. فلما التفت، رفعت يدي، فلطمت وجه الغلام.
فقال: حرّ انتصر. فكأن صوت علي في أذني الساعة.
العلم عند أبي عبيدةأخبرنا علي بن المحسن بن علي بن محمد التنوخي، قال: وجدت في كتاب جدي: حدثنا الحرمي بن أبي العلاء ، قال: أنشدنا أبو خالد يزيد ابن محمد المهلبي ، قال: أنشدني إسحاق الموصي لنفسه ، قوله لفضل ابن الربيع ، يهجو الأصمعي :
عليك أبا عبيدة فاصطنعه ... فإن العلم عند أبي عبيدة
و قدمه و آثره عليه ... و دع عنك القريد بن القريدة
تأويلات مرويةعن ابن عباس عن الكلمات الأبجدية

أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا علي بن عمر السكري ، قال: حدثنا أبو سعيد مفتاح بن خلف بن الفتح ، و قد قدم علينا حاجاً في سنة تسع و ثلثمائة بباب الشماسية ، قال: حدثنا أحمد بن صالح الكرابيسي البلخي ، قال: حدثنا الحسن بن يزيد الجصاص ، قال: حدثنا عبد الرحيم بن واقد ، قال: حدثنا الفرات بن السائب ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، قال: إن لكل شيء سبباً، و ليس كل أحد يفطن له، و لا سمع به، و إن لأبي جاد لحديثاً عجباً.
أما أبو جاد: فأبى آدم الطاعة، وجد في أكل الشجرة، و أما هواز فهوى من السماء إلى الأرض، و أما حطي فحطت عنه خطاياه، و أما كلمن فأكل من الشجرة، و من عليه بالتوبة، و أما سعفص، فعصى آدم ربه، فأخرج من النعيم إلى النكد، و أما قريشات، فأقر بالذنب، و سلم من العقوبة .
تحفة القوالة من وراء الستارةأخبرنا التنوخي، قال: قال لنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن العباس الأخباري حضرت في سنة ست و عشرين و ثلثمائة ، مجلس تحفة القوالة ، جارية أبي عبد الله بن عمر البازيار، و إلى جانبي عن يسرتي أبو نضلة مهلهل ابن يموت بن المزرع ، و عن يمنتي أبو القاسم بن أبي الحسن البغدادي، نديم ابن الحواري قديماً، و البريديين بعد، فغنت تحفة من وراء الستارة:
بي شغل به عن الشغل عنه ... بهواه و إن تشاغل عني
سره أن أكون فيه حزيناً ... فسروري إذا تضاعف حزني
ظن بي جفوة فأعرض عني ... و بدا منه ما تخوف مني
فقال لي أبو نضلة: هذا الشعر لي.
فسمعه أبو القاسم بن البغدادي، و كان ينحرف عن أبي نضلة، فقال: قل له إن كان الشعر له، أن يزيد فيه بيتاً.
فقلت له ذلك على وجه جميل. فقال في الحال:
هو في الحسن فتنة قد أصارت ... فتنتي في هواه من كل فن
أحمد بن يحيى بن أبي يوسف القاضيأخبرنا عليً بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر ، قال: استقضي أحمد بن يحيى بن أبي يوسف القاضي في سنة أربع و خمسين و مائتين ، و كان متوسطاً في أمره، شديد المحبة لدنيا، و كان صالح الفقه ثانية، و عزل، و ولي الأهواز، ثم وجه به إلى خراسان، فمات بالري.
كادت تزل به من حالق قدمأخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أحمد بن عبد اللد الدوري ، قال: أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري بالبصرة، قال: أخبرنا أبو زيد عمر ابن شبة ، قال: حكم ابن أبي ليلى بحكم، ونوح بن دراج حاضر، فنبهه نوح، فانتبه، و رجع عن حكمه ذاك.
فقال ابن شبرمة :
كادت تزل به من حالق قدم ... لولا تداركها نوح بن دراج
لما رأى هفوة القاضي أخرجها ... من معدن الحكم نوح أي إخراج
يقال: إن الحاكم كان ابن شبرمة، لا ابن أبي ليلى، و إن رجلاً ادعى قراحاً فيه نخل، فأتاه بشهود شهدوا له بذلك.
فسألهم ابن شبرمة: كم في القراح نخلة؟ فقالوا: لا نعلم، فرد شهادتهم.
فقال له نوح: أنت تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة، و لا تعلم كم فيه أسطوانة.
فقال للمدعي: أردد عليّ شهودك، و قضى له بالقراح، و قال هذا الشعر.
يزيد بن هبيرةيريد أبا حنيفة على بيت المال، فيأبى، فيضربه أسواطاً أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الدوري ، قال: أخبرنا أحمد بن القاسم بن نصر أخو أبي الليث الفرائضي قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني الربيع بن عاصم مولى بني فزارة قال: أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة ، فقدمت بأبي حنيفة ، فأراده على بيت المال، فأبى، فضربه أسواطاً.
من محاسن أبي حنيفةأخبرنا التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر بن محمد بن حمدان بن الصباح النيسابوري، بالبصرة، قال: حدثنا أحمد بن الصلت بن المغلس الحماني ، قال: سمعت أبا نعيم يقول: ولد أبو حنيفة سنة ثمانين بلا مائة، و مات سنة خمسين و مائة، و عاش سبعين سنة.
قال أبو نعيم: وكان أبو حنيفة حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، حسن المجلس، شديد الكرم، حسن المواساة لإخوانه.
و قال أبو يوسف: ما رأيت أحداً أعلم بتفسير الحديث، و مواضع النكت التي فيه من الفقه، من أبي حنيفة.
فقه أبي حنيفةو روعه و صبره على تعليم العلم

أخبرني التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن حمدان بن الصباح، قال: حدثنا أحمد بن الصلت، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كان أبو حنيفة رجلاً فقهياً، معروفاً بالفقه، مشهوراً بالورع، واسع الحال، معروفاً بالأفضال على كل من يطيف به، صبوراً على تعليم العلم بالليل و النهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام، حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هارباً من مال السلطان.
هذا حديث مكرم ، و زاد عليه ابن الصباح: و كان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه، إن كان عن الصحابة أو التابعين، و إلا قاس، و أحسن القياس.
أبو حنيفة يخطئ حكم القاضي
في ستة مواضعأخبرني عليّ بن أبي عليّ البصري ، قال: حدثنا القاضي أبو نصر محمد ابن محمد بن سهل النيسابوري قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، قال: حدثني أحمد بن يحيى أبو يحيى السمرقندي، قال: حدثنا نصر بن يحيى البلخي، قال: حدثنا الحسن بن زياد اللؤلؤي قال: كانت ها هنا امرأة يقال لها أم عمران، مجنونة، و كانت جالسة في الكناسة، فمر بها رجل، فكلمها بشيء، فقالت له: يا ابن الزانيتين، و ابن أبي ليلى حاضر يسمع ذلك.
فقال للرجل: أدخلها عليّ المسجد، و أقام عليها حدين، حداً لأبيه، و حداً لأمه.
فبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال: أخطأ فيها في ستة مواضع، أقام الحد في المسجد و لا تقام الحدود في المساجد، و ضربها قائمة، و النساء يضربن قعوداً، و ضرب لأبيه حداً، و لأمه حداً، و لو أن رجلاً قذف جماعة كان عليه حد واحد، و جمع بين حدين، و لا يجمع بين حدين حتى يجب أحدهما، و المجنونة ليس عليها حد، و حد لأبويه و هما غائبان لم يحضرا، فيدعيان. فبلغ ذلك ابن أبي ليلى، فدخل على الأمير، فشكا إليه، فحجز على أبي حنيفة، و قال: لا يفتي.
فلم يفت أياماً، حتى قدم رسول من ولي العهد، فأمر أن تعرض على أبي حنيفة مسائل حتى يفتي فيها.
فأبى أبو حنيفة و قال: أنا محجوز عليّ.
فذهب الرسول إلى الأمير، فقال الأمير: قد أذنت له.
فقعد فأفتى.
أبو حنيفة من أعظم الناس أمانةأخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أحمد بن عبد اله الوراق الدوري ، قال: أخبرنا أحمد بن القاسم بن نصر ، أخو أبي الليث الفرائضي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي ، قال: قال رجل بالشام، للحكم بن هشام الثقفي: أخبرني عن أبي حنيفة.
قال: على الخبير سقطت، كان أبو حنيفة، لا يخرج أحداً من قبلة رسول الله صلى الله عليه و سلم، حتى يخرج من الباب الذي منه دخل.
و كان من أعظم الناس أمانة، و أراده سلطاننا على أن يتولى مفاتيح خزائنه، أو يضرب ظهره، فاختار عذابهم على عذاب الله.
فقال له: ما رأيت أحداً وصف أبا حنيفة، بمثل ما وصفته به.
قال: هو كما قلت لك.
ورع أبي حنيفة و صلاته و قراءتهأخبرنا علي بن المحسن المعدل، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد ابن يعقوب الكاغدي قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب ابن الحارث الحارثي البخاري ببخارى قال: حدثنا أحمد بن الحسين البلخي ، قال: حدثنا حماد بن قريش، قال: سمعت أسد بن عمرو ، يقول: صلى أبو حنيفة، فيما حفظ عليه، صلاة الفجر بوضوء صلاة العشاء أربعين سنة.
فكان عامة الليل يقرأ جميع القرآن في ركعة واحدة، و كان يسمع بكاؤه بالليل حتى يرحمه جيرانه.
و حفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه، سبعة آلاف مرة.
أبو حنيفة يؤثر رضى ربه
على كل شيءأخبرنا التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن حمدان، قال: حدثنا أحمد بن الصلت الحماني ، قال: سمعت مليح بن وكيع يقول: سمعت أبي يقول: كان و الله أبو حنيفة عظيم الأمانة، و كان الله في قلبه جليلاً كبيراً عظيماً، و كان يؤثر رضاء ربه على كل شيء، و لو أخذته السيوف في الله لاحتمل، رحمه الله، و رضي عنه رضى الأبرار، فلقد كان منهم.
فقه أبي حنيفة و تقواهأخبرنا التنوخي ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثنا محمد بن حمدان ابن الصباح النيسابوري، قال: حدثنا أحمد بن الصلت الحماني ، قال: حدثنا علي بن المديني ، قال: سمعت عبد الرزاق يقول:

كنت عند معمر، فأتاه ابن المبارك ، فسمعنا معمراً يقول: ما أعرف رجلاً يحسن يتكلم في الفقه، أو يسعه أن يقيس، و يشرح لمخلوق النجاة في الفقه، أحسن من معرفة أبي حنيفة، و لا أشفق على نفسه من أن يدخل في دين اله، شيئاً من الشك، من أبي حنيفة.
من شعر أبي الحسن ناجية
بن محمد الكاتبأنشدنا التنوخي، قال: أنشدني أبو الحسن ناجية بن محمد الكاتب لنفسه:
و لما رأيت الصبح قد سل سيفه ... و ولى انهزاماً ليله و كواكبه
و لاح احمرار قلت قد ذبح الدجى ... و هذا دم قد ضمخ الأفق ساكبه
من إخوانيات البحتريأخبرني علي بن أبي علي البصري، قال: أخبرنا محمد بن عمران الكاتب أ، أبا بكر الجرجاني، أخبره عن محمد بن يزيد النحوي ، قال: كتبنا إلى البحتري أن يجيئنا بعقب مطر، فكتب إلينا:
إن التزاور فيما بيننا خطر ... و الأرض من وطأة البرذون تنخسف
إذا اجتمعنا على يوم الشتاء فلي ... هم بما أنا لاق حين أنصرف
القاضي أبو الحسن علي بن أبي طالبمحمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول حدثني أبو القاسم التنوخي، قال: ولد أبو الحسن علي بن أبي طالب محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول ببغداد في شوال سنة إحدى و ثلثمائة ، و توفي بها في شهر ربيع الأول ثمان و خمسين و ثلثمائة ، و كان حافظاً لقرآن، قرأ على أبي بكر بن مقسم بحرف حمزة، و لقي أبا بكر بن مجاهد ، و قرأ عليه بعض القرآن، و سمع منه حديثاً، و تفقه على مذهب أب حنيفة ، و حمل من النحو، و اللغة، و الأخبار، و الأشعار، عن جده القاضي أبي جعفر بن البهلول ، و عن أبي بكر ابن الأنباري ، و نفطويه ، و الصولي ، و غيرهم، و قال الشعر، و تقلد القضاء بالأنبار ، وهيت ، من قبل أبيه في سنة عشرين و ثلثمائة ، أو قبلها، ثم ولي من قبل الراضي بالله سنة سبع و عشرين، القضاء بطريق خراسان، ثم صرف بعد مدة و لم يتقلد شيئاً إلى أن قلده أبو السائب عتبة بن عبيد الله في سنة إحدى و أربعين و هو يومئذ قاضي القضاة الأنبار، و هيت، و أضاف إليهما بعد مدة الكوفة، ثم أقره على ذلك، أبو العباس بن أبي الشوارب ، لما ولي قضاء القضاة ، مدة، و صرفه بعد، ثم لما ولي أبو بشر عمر بن أكثم قضاء القضاة ، قلده عسكر مكرم و إيذج ، و رامهرمز ، مدة، ثم صرفه.
لو أرادوا صلاحنا ستروا وجهه الحسنأخبرنا التنوخي، قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن أبي صابر الدلال ، قال: وقفت على الشبلي في قبة الشعراء في جامع المنصور، و الناس مجتمعون عليه، فوقف عليه في الحلقة، غلام، لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجهاً منه، يعرف بابن مسلم.
فقال له: تنح، فلم يبرح.
فقال له الثانية: تنح يا شيطان عنا، فلم يبرح.
فقال له الثالثة: تنح، و إلا و الله خرقت كل ما عليك، و كانت عليه ثياب في غاية الحسن، تساوي جملة كثيرة، فانصرف الفتى.
فقال الشبلي، و نحن نسمع:
طرحوا اللحم للبزاة ... على ذروتي عدن
ثم لاموا لم ... خلعوا منهم الرسن
لو أرادوا صلاحنا ... ستروا وجهه الحسن
فقلت: إن رأيت.
فقال: أنشدني أبو علي بن مقلة:
أي رب تخلق أقمار ليل ... و أغصان بان و كثبان رمل
و تبدع في كل طرف يسحر ... و في كل قد رشيق بشكل
وتنهي عبادك أن يعشقوا ... أيا حكم العدل ذا حكم عدل؟
صريع الغيلان لا صريع الغوانيأخبرني علي بن أبي علي ، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي ، قال: حدثني محمد بن عجلان، قال: حدثنا يعقوب بن السكيت قال: أخبرني محمد بن المهنى، قال: كان عباس بن الأحنف مع إخوان له على شراب، فجرى ذكر مسلم ابن الوليد .
فقال بعضهم: صريع الغواني.
فقال عباس: و الله ما يصلح إلا أن يكون صريع الغيلان.
فاتصل ذلك بمسلم، فأنشأ مسلم يهجوه و يقول:
بنو حنيفة لا يرضى الدعي بهم ... فاترك حنيفة و اطلب غيرها نسباً
منيت مني و قد جد الجراء بنا ... بغاية منعتك الفوت و الطلبا

فاذهب فأنت طليق الحلم مرتهن ... بسورة الجهل ما لم أملك الغضبا
اذهب إلى عرب ترضى بدعوتهم ... إني أرى لك خلقاً يشبه العربا
برز من أصحاب الخليل أربعةأخبرني التنوخي، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن البهلول التنوخي، قال: حدثنا أبو سعد داود بن الهيثم بن إسحاق بن البهلول ، قال: حدثنا حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد ابن زيد عن نصر بن علي ، قال: برز من أصحاب الخليل أربعة: عمرو بن عثمان أبو بشر المعروف بسيبويه ، و النضر بن شميل ، و علي بن نصر ، و مؤرج السدوسي .
مذهب الجاحظ في الصلاة تركهاأخبرنا علي بن أبي علي ، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز ، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري ، قال حدثنا أبو عمر أحمد بن أحمد السوسنجردي العسكري، قال: حدثني ابن أبي الذيال المحدث بسر من رأى قال: حضرت وليمة حضرها الجاحظ ، و حضرت صلاة الظهر، فصلينا، و ما صلى الجاحظ، و حضرت صلاة العصر، فصلينا، و ما صلى الجاحظ.
فلما عزمنا الانصراف، قال الجاحظ لرب المنزل: إني ما صليت لمذهب، أو لسبب، أخبرك به.
فقال له: أو فقيل له: ما أظن أن لك مذهباً في الصلاة إلا تركها.
المهدي يستقضي قاضيين
في عسكرهأخبرنا علي بن أبي علي ، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر ، قال: أخبرني محمد بن جرير الطبري في الإجازة : أن المهدي استقضى ابن علاثة و عافية ، سنة إحدى و ستين و مائة، فكانا يقضيان في عسكر المهدي.
و على الشرقية عمر بن حبيب العدوي .
المستكفي يقلد أبا السائب القضاء بمدينة أبي جعفر أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما قبض المستكفي على محمد بن الحسن بن أبي الشوارب و كان قاضياً على الجانب الغربي بأسره قلد مدينة أبي جعفر ، القاضي أبا السائب عتبة ابن عبيد الله بن موسى بن عبيد الله ، و ذلك في صفر سنة أربع و ثلاثين و ثلثمائة .
ثم قتل أبا عبد الله محمد بن عيسى، اللصوص ، و كان قاضياً على الجانب الشرقي، و ذلك في يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
قال طلحة: و القاضي أبو السائب، رجل من أهل همذان، و كان أبوه عبيد اله، تاجر مستوراً ديناً، أخبرني جماعة ن الهمذانيين، أنه كان يؤمهم في مسجد لهم فوق الثلاثين سنة.
و نشأ أبو السائب يطلب العلم، و غلب عليه في ابتداء أمره علم التصوف، و الميل إلى أهل الزهد في الدنيا، ثم خرج عن بلده، و سافر.
و دخل الحضرة في أيام الجنيد ، و لقي العلماء، و عني بفهم القرآن، و كتب الحديث، و تفقه على مذهب الشافعي، و تقلد الحكم.
و اتصلت أسفاره، فدخل المراغة و بها عبد الرحمن الشيزي، و كان صديقه، و كان عبد الرحمن غالباً على أبي القاسم ابن أبي الساج ، و تقلد جميع أذربيجان مع المراغة، و عظمت حاله.
و قبض على ابن أبي الساج، و عاد إلى الجبل بعد الحادثة على ابن أبي الساج و تقلد همذان .
ثم عاد إلى بغداد، فقطن بها، و تقدم عند السلطان، و عرف الرؤساء فضله و عقله.
و تقلد أعمالاً جليلة بالكوفة و ديار مضر و الأهواز ، و تقلد عامة الجبل ، و قطعة من السواد .
و تقدم عند قاضي القضاة أبي الحسين بن أبي عامر ، و سمع شهادته، و استشاره في كثير في أموره.
ثم ما زال على أمر جميل، و فعل حميد، إلى رجب سنة ثمان و ثلاثين و ثلثمائة، فإنه تقلد قضاء القضاة .
و له أخبار حسان، و علقت عنه أشياء كثيرة، و جوابات في مسائل القرآن عجيبة.
و ذكر لي أن عامة كتبه بهمذان.
سبب علة أبي زرعة الرازيأخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني قاضي القضاة أبو السائب ، قال حدثني عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال: اعتل أبو زرعة الرازي ، فمضيت مع أبي لعيادته، فسأله أبي عن سبب هذه العلة.
فقال: بت و أنا في عافية، فوقع في نفسي أني إذا أصبحت أخرجت من الحديث ما أخطأ فيه سفيان الثوري .
فلما أصبحت خرجت إلى الصلاة، و في دربنا كلب ما نبحني قط، و لا رأيته عدا على أحد، فعدا علي، و عقرني، و حممت.
فوقع في نفسي أن هذا عقوبة لما وضعت في نفسي، فأضربت عن ذلك الرأي.
ابن السماك يعظ الرشيد

قال طلحة : و أخبرني قاضي القضاة، يعني أبا السائب أيضاً، أنه سمع ابن أبي حاتم، قال: سمعت محمد بن الحسين النخعي، قال: سمعت محمد ابن الحسين البرجلاني يقول: قال الرشيد لابن السماك : عظني.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تموت وحدك، و تغسل وحدك، و تكفن وحدك، و تقبر وحدك.
يا أمير المؤمنين: إنما هو دبيب من سقم ، فيؤخذ بالكظم ، و تزل القدم، و يقع الفوت و الندم، قلا توبة تنال، و لا عثرة تقال، و لا يقبل فداء بمال.
من إخوانيات الفضل بن سهلأخبرنا علي بن أبي علي البصري ، قال: حدثنا علي بن محمد بن العباس الخزاز ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن بشار الأنباري ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثنا أبو عكرمة الضبي، قال: عتب الفضل بن سهل ، على بعض أصحابه، فأعتبه، و راجع محبته، فأنشأ الفضل يقول:
إنها محنة الكرام إذا ما ... أجرموا أو تجرموا الذنب تابوا
و استقاموا على المحبة للإخ ... وان فيما ينوبهم و أنابوا
قال: و وجه الفضل بن سهل إلى رجل بجائزة، و كتب إليه: قد وجهت إليك بجائزة، لا أعظمها مكثراً، و لا أقللها تجبراً، و لا أقطع لك بعدها رجاءً، و لا أستثيبك عليها ثناءً، و السلام.
أبو نعيم المحدثيرفس برجله يحيى بن معين فيرمي به من الدكان قرأت على علي بن أبي علي البصري ، عن علي بن الحسن الجارحي ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الجراح أبو عبد الله ، قال: سمعت أحمد ابن منصور الرمادي يقول: خرجت مع أحمد بن حنبل ، و يحيى بن معين إلى عبد الرزاق، خادماً لهما.
فلما عدنا إلى الكوفة، قال يحيى بن معين، لأحمد بن حنبل: أريد أن أختبر أبا نعيم .
فقال له أحمد بن حنبل: لا ترد، الرجل ثقة.
فقال يحيى بن معين: لا بد لي.
فأخذ ورقة، فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم، و جعل على رأس كل عشرة منها حديثاً ليس من حديثه.
ثم جاءا إلى أبي نعيم، فدقا عليه الباب.
فخرج فجلس على دكان طين حذاء بابه، و أخذ أحمد بن حنبل، فأجلسه عن يمينه، و أخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان.
فأخرج يحيى بن معين الطبق، فقرأ عليه عشرة أحاديث، و أبو نعيم ساكت.
ثم قرأ الحادي عشر، فقال له أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه.
ثم قرأ العشر الثاني، و أبو نعيم ساكت.
فقرأ الحديث الثاني، فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه.
ثم قرأ العشر الثالث، و قرأ الحديث الثالث، فتغير أبو نعيم، و انقلبت عيناه.
ثم أقبل على يحيى بن معين، فقال له: أما هذا و ذراع أحمد في يده فأورع من أن يعمل مثل هذا، و أما هذا يريدني فأقل من أن يفعل مثل هذا، و لكن هذا من فعلك، يا فاعل.
ثم أخرج رجله، فرفس يحيى بن معين، فرمى به من الدكان، و قام فدخل داره.
فقال احمد ليحيى: ألم أمنعك من الرجل، و أقل لك إنه ثبت.
قال: و الله لرفسته لي، أحب إليّ من سفري.
فرج بن فضالةيمتنع عن القيام للمنصور أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا صدقة بن علي الموصلي ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن بشار الأنباري ، قال: حدثنا أبي ، قال: حدثنا أحمد بن عبيد ، عن المدائني ، قال: مر المنصور بفرج بن فضالة ، فلم يقم له، فقيل له في ذلك.
فقال: خشيت أن يسألني الله لم قمت؟ و يسأله لم رضيت؟.
أبو عبيد يقرأ كتابهفي غريب الحديث أخبرني علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا العباس بن أحمد بن الفضل الهاشمي ، و أخبرني أبو الوليد الحسن بن محمد بن علي الدربندري، قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أحمد التوزي بالبصرة قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن علي الهجيمي قال: حدثني جعفر بن محمد بن علي بن المديني، قال: سمعت أبي يقول: خرج أبي إلى أحمد بن حنبل يعوده و أنا معه قال: فدخل إليه، و عنده يحيى بن معين ، و ذكر جماعة من المحدثين.
قال: فدخل أبو عبيد القاسم بن سلام ، فقال له يحيى بن معين: اقرأ علينا كتابك الذي عملته لمأمون ، في غريب الحديث .
فقال: هاتوه.
فجاءوا بالكتاب، فأخذه أبو عبيد، فجعل يبدأ يقرأ الأسانيد، و يدع تفسير الغريب.
فقال له أبي: يا أبا عبيد، دعنا من الأسانيد، نحن أحذق بها منك.

فقال يحيى بن معين، لعلي بن المديني: دعه يقرأ على الوجه، فإن ابنك محمداً معك، و نحن، فنحتاج أن نسمعه على الوجه.
فقال أبو عبيد: ما قرأته إلا على المأمون، فإن أحببتم أن تقرأوه فاقرأوه.
قال: فقال له علي بن المديني: إن قرأته علينا، و إلا فلا حاجة لنا فيه.
و لم يعرف أبو عبيد، علي بن المديني، فقال ليحيى بن معين: من هذا؟ فقال: هذا علي بن المديني.
فالتزمه، و قرأه علينا، فمن حضر ذلك المجلس، جاز أن يقول حدثنا، و غير ذلك، فلا يقول.
القاضي قتيبة بن زياد يحاكم بشر المريسي أخبرنا علي بن أبي علي ، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر ، قال: قتيبة بن زياد الخراساني رجل من أهل الفقه، على مذهب أبي حنيفة، و له فهم و معرفة، كان قاضياً على الجانب الشرقي في أيام منصور و إبراهيم ابني المهدي.
و في أيامه هاجت العامة على بشر المريسي ، و سألوا إبراهيم بن المهدي أن يستتيبه، فأمر إبراهيم، قتيبة بن زياد، أن يحضر مسجد الرصافة.
فحدثني محمد بن أحمد بن إسحاق ، عن محمد بن خلف ، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي ، يقول: شهدت مسجد الجامع بالرصافة، و قد اجتمع الناس، و جلس قتيبة بن زياد للناس، و أقيم بشر على صندوق من صناديق المصاحف ، عند باب الخدم.
و قام المستمليان ، أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس، مستملي ابن عيينة ، و هارون بن موسى، مستملي يزيد بن هارون ، يذكران أن أمير المؤمنين إبراهيم بن المهدي أمر قاضيه قتيبة بن زياد أن يستتيب بشر بن غياث المريسي، من أشياء عددها ، فيها ذكر القرآن، و غيره، و أنه تائب.
قال: فرفع بشر صوته، يقول: معاذ الله، إني لست بتائب.
و كثر الناس عليه، حتى كادوا يقتلونه، فأدخل إلى باب الخدم، و تفرق الناس.
الخليفة المعتضد دقيق الملاحظةأنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي عن أبي القاسم علي بن المحسن، عن أبيه، قال: بلغني أن المعتضد بالله كان يوماً جالساً في بيت يبنى له، يشاهد الصناع، فرأى في جملتهم غلاماً أسود، منكر الخلقة، شديد المزاج، يصعد على السلاليم، مرقاتين، مرقاتين، و يحمل ضعف ما يحملونه.
فأنكر أمره، فأحضره، و سأله عن سبب ذلك، فلجلج.
فقال لابن حمدون و كان حاضراً أي شيء يقع لك في أمره؟ فقال: و من هذا، حتى صرفت فكرك إليه؟ و لعله لا عيال له، فهو خالي القلب.
قال: ويحك، قد خمنت في أمره تخميناً ما أحسبه باطلاً، إما أن يكون معه دنانير قد ظفر بها دفعة من غير وجهها، أو يكون لصاً يتستر بالعمل في الطين.
فلاحاه ابن حمدون في ذلك.
فقال: عليّ بالأسود، فأحضر.
و قال: مقارع، فضربه نحو مائة مقرعة، و قرره، و حلف إن لم يصدقه، ضرب عنقه، و أحضر السيف و النطع.
فقال الأسود: لي الأمان؟ فقال: لك الأمان، إلا ما يجب عليك فيه حد، فلم يفهم ما قال له، و ظن أنه قد آمنه.
فقال: أنا كنت أعمل في أتاتين الجر سنين ، و كنت منذ شهور هناك جالساً و هو لا يعلم مكاني، فحل الهميان، و أخرج منه ديناراً، فتأملته، فإذا كله دنانير، فثاورته، و كتفته، و سددت فاه، و أخذت الهميان، و حملته على كتفي، و طرحته في نقرة الأتون، و طينته، فلما كان بعد ذلك أخرجت عظامه، فطرحتها في دجلة، و الدنانير معي يقوى بها قلبي.
فأمر المعتضد من أحضر الدنانير من منزله، و إذا على الهميان مكتوب: لفلان بن فلان.
فنودي في البلدة باسمه، فجاءت امرأة، و قالت: هذا زوجي، و لي منه هذا الطفل، خرج في وقت كذا، و معه هميان فيه ألف دينار، فغاب إلى الآن.
فسلم الدنانير إليها، و أمرها أن تعتد، و ضرب عنق الأسود، فأمر أن تحمل جثته إلى الأتون .
الخليفة المعتضد يكتشف أحد المجرمينقال المحسن: بلغني أن المعتضد بالله، قام في الليل لحاجته، فرأى بعض الغلمان المردان، قد نهض عن ظهر غلام أمرد، و دب على أربعته، حتى اندس بين الغلمان.
فجاء المعتضد، فجعل يضع يده على فؤاد واحد بعد واحد، إلى أن وضع يده على فؤاد ذلك الفاعل، فإذا به يخفق خفقاناً شديداً.
فوكزه برجله، فقعد، و استدعى آلات العقوبة، فأقر، فقتله .
التحقيق الدقيق يؤدي إلى العثور على المجرمقال المحسن:

بلغنا عن المعتضد بالله، أن خادماً من خدمه جاء يوماً، فأخبره أنه كان قائماً على شاطئ الدجلة، في دار الخليفة، فرأى صياداً، و قد طرح شبكته فثقلت بشيء، فجذبها، فأخرجها، فإذا فيها جراب، و أنه قدره مالاً، فأخذه، و فتحه، و إذا فيه آجر، و بين الآجر، كف مخضوبة بحناء.
قال: فأحضر الجراب و الكف و الآجر.
فهال المعتضد ذلك، و قال: قل للصياد يعاود طرح الشبكة، فوق الموضع، و أسفله، و ما قاربه.
قال: ففعل، فخرج جراب آخر فيه رجل.
قال: فطلبوا، فلم يخرج شيء آخر.
فاغتم المعتضد، و قال: معي في البلد من يقتل إنساناً و يقطع أعضاؤه، و يغرقه، و لا أعرف به؟ ما هذا ملك.
قال: و أقام يومه كله، ما طعم طعاماً.
فلما كان من الغد، أحضر يقول له، و أعطاه الجراب فارغاً، و قال له: طف على كل من يعمل الجرب ببغداد، فإن عرفه منهم رجل، فسله على من باعه؟ فإن دلك عليه، فسئل المشتري، من اشتراه منه؟ و لا تقر على خبره أحد.
قال: فغاب الرجل، و جاءه بعد ثلاثة أيام، فزعم أنه لم يزل يتطلب في الدباغين و أصحاب الجرب، إلى أن عرف صانعه، و سأل عنه، فذكر أنه باعه على عطار بسوق يحيى ، و أنه مضى إلى العطار، و عرضه عليه، فقال: ويحك، كيف وقع هذا الجراب في يدك؟ فقلت: أو تعرفه؟ قال: نعم، اشترى مني فلان الهاشمي منذ ثلاثة أيام عشرة جرب، لا أدري لأي شيء أرادها، و هذا منها.
فقلت له: و من فلان الهاشمي؟ فقال: رجل من ولد علي بن ريطة، من ولد المهدي ، يقال له: فلان، عظيم، إلا أنه شر الناس، و أظلمهم، و أفسدهم لحرم المسلمين، و أشدهم تشوقاً إلى مكايدهم، ليس في الدنيا من ينهي خبره إلى المعتضد، خوفاً من شره، و لفرط تمكنه من الدولة و المال.
و لم يزل يحدثني و أنا أسمع أحاديث له قبيحة، إلى أن قال: فحسبك أنه كان يعشق منذ سنين، فلانة المغنية، جارية فلانة المغنية، و كانت كالدينار المنقوش، و كالقمر الطالع، في غاية حسن الغناء، فساوم مولاتها فيها، فلم تقاربه.
فلما كان منذ أيام، بلغه أن سيدتها تريد بيعها على مشتر قد حضر، و بذل فيها ألوف الدنانير، فوجه إليها: لا أقل من أن تنفذيها إلي لتود عني.
فأنفذتها إليه، بعد أن أنفذ إليها جذرها لثلاثة أيام.
فلما انقضت الأيام الثلاثة، غصبها عليها، و غيبها عنها، فما يعرف لها خبر، و ادعى أنها هربت من داره.
و قال الجيران: إنه قتلها، و قال قوم: لا بل هي عنده، و قد أقامت سيدتها عليها المأتم، و جاءت، و صاحت على بابه، و سودت وجهها، فلم ينفعها شيء.
فلما سمع المعتضد، سجد شكراً لله تعالى، على انكشاف الأمر له، و بعث في الحال من كبس على الهاشمي، و أحضر المغنية، و أخرج اليد، و الرجل، إلى الهاشمي، فلما رآهما امتقع لونه، و أيقن بالهلاك، و اعترف.
فأمر المعتضد بدفع ثمن الجارية إلى مولاتها، من بيت المال، و صرفها. ثم حبس الهاشمي، فيقال: إنه قتله، و يقال: مات في الجنس .
مسرور السياف و الوزير جعفر البرمكيأنبيت عن المؤيد بن محمد الطوسي، و غيره، عن أبي بكر أبي طاهر الأنصاري، عن ابي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج الأصبهاني ، قال: حدثني جعفر بن قدامة ، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي، قال: سمعت مسرور الأمير يحدث، قال: لما أمرني الرشيد بقتل جعفر ابن يحيى ، دخلت عليه، و عنده الأعمى المغني الطنبوري ، يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
فقلت له: في هذا و اله أتيتك، ثم أخذت بيده، فأقمته، و أمرت بضرب رقبته.
فقال الأعمى المغني: نشدتك الله، إلا ألحقتني به.
فقلت: و ما رغبتك في ذلك؟ فقال: إنه أغناني عن سواه بإحسانه، فما أحب أن أبقى بعده.
فقلت: استأمر أمير المؤمنين في ذلك.
فلما أتيت الرشيد، برأس جعفر، أخبرته بقصة الأعمى، فقال: هذا رجل فيخ مصطنع، فاضممه إليك، و أنكر إلى ما كان جعفر يجريه عليه، فأقمه له.
أبو يوسف القاضي و فتواه الحاسمةحدثنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبي قال: كان عند الرشيد جارية من جواريه، و بحضرته عقد جوهر، فأخذ يقلبه، ففقده، فاتهمها، فسألها عن ذلك، فأنكرت.
فحلف بالطلاق و العتاق، و الحج، لتصدقنه، فأقامت على الإنكار، و هو متهم لها.

و خاف أ، يكون قد حنث في يمينه، فاستدعى أبا يوسف ، و قص عليه القصة.
فقال أبو يوسف: تخليني مع الجارية، و خادماً معنا، حتى أخرجك من يمينك، ففعل ذلك.
فقال لها أبو يوسف: إذا سألك أمير المؤمنين، عن العقد، فأنكريه، فإذا أعاد عليك السؤال، فقولي: قد أخذته، فإذا أعاد عليك الثالثة، فأنكري.
و خرج فقال للخادم: لا تقل لأمير المؤمنين ما جرى.
و قال للرشيد: سلها يا أمير المؤمنين ثلاث دفعات متواليات عن العقد، فإنها تصدقك.
فدخل الرشيد، فسألها، فأنكرت أول مرة.
و سألها الثانية، فقالت: نعم، قد أخذته.
فقال: أي شيء تقولين؟ فقالت: و الله، ما أخذته، و لكن هكذا قال لي أبو يوسف.
فخرج إليه، فقال له: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد خرجت من يمينك، لأنها أخبرتك، أنها قد أخذته، و أخبرتك أنها لم تأخذه، فلا يخلو أن تكون صادقة في أحد القولين، و قد خرجت أنت من يمينك.
فسر، و وصل أبا يوسف.
فلما كان بعده مدة، و جد العقد .
علي الزراد يتوصل إلى رد فضائل قريش عليهاقال المحسن بن علي التنوخي، عن أبيه، قال: حججت في موسم اثنين و أربعين ، فرأيت مالاً عظيماً، و ثياباً كثيرة، تفرق في المسجد الحرام.
فقلت: ما هذا؟ فقالوا: بخراسان رجل صالح، عظيم النعمة و المال، يقال له: علي الزراد، أنفذ عام أول مالاً و ثياباً إلى ههنا، مع ثقة له، و أمره أن يعتبر قريشاً، فمن وجده منها حافظاً للقرآن، دفع إليه كذا و كذا ثوباً.
قال: فحضر الرجل، عام أول، فلم يجد في قريش، البته، أحداً يحفظ القرآن، إلا رجلاً واحداً من بني هاشم، فأعطاه قسطه.
و تحدث الناس بالحديث، ورد باقي المال إلى صاحبه.
فلما كان في هذه السنة، عاد بالمال و الثياب، فوجد خلقاً عظيماً، من جميع بطون قريش، قد حفظوا القرآن، و تسابقوا إلى تلاوته بحضرته، و اخذوا الثياب و الدراهم، حتى نفذت، و بقي منهم من لم يأخذ، و هم يطالبونه.
قال: فقلت: لقد توصل هذا الرجل، إلى رد فضائل قريش عليها، بما يشكره الله سبحانه له.
ابن أبي الطيب القلانسي تنعكس حيلته عليهعن علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثنا جماعة من أهل جند يسابور، فيها، كتاب و تجار، و غير ذلك، أنه كان عندهم في سنة نيف و أربعين و ثلثمائة ، شاب من كتاب النصارى، و هو ابن أبي الطيب القلانسي.
فخرج إلى بعض شأنه في الرستاق ، فأخذته الأكراد، و عذبوه، و طالبوه بأن يشتري نفسه منهم، فلم يفعل.
و كتب إلى أهله، أنفذوا لي أربعة دراهم أفيون ، و اعلموا أني أشربها فتلحقني سكته، فلا يشك الأكراد أني قد مت، فيحملوني إليكم، فإذا حصلت عندكم، فأدخلوني الحمام، و اضربوني، ليحمي بدني و سوكوني بالإيارج ، فإني أفيق.
و كان الفتى متخلفاً، و قد سمع أنه من شرب أفيوناً أسكت، فإذا أدخل الحمام، و ضرب، و سوك بالإيارج، برئ، فلم يعلم مقدار الشربة من ذلك، فشرب أربعة دراهم، فلم يشك الأكراد في موته، فلفوه في شيء و أنفذوه إلى أهله.
فلما حصل عندهم، أدخلوه الحمام، و ضربوه، و سوكوه، فما تحرك، و أقام في الحمام أياماً.
و رآه أهل الطب، فقالوا: هذا قد تلف، كم شرب أفيوناً؟ قالوا: وزن أربعة دراهم.
فقالوا لهم: هذا شوي في جهنم ما عاش، إنما يجوز أن يفعل هذا بمن شرب أربعة دوانيق أفيوناً أو وزن درهم أو حواليه، فأما هذا، فقد مات.
فلم يقبل أهله ذلك، فتركوه في الحمام، حتى أراح ، و تغير، فدفنوه، و انعكست الحيلة على نفسه.
بلال بن أبي بردة يبحث عن حتفه بكفهقال المحسن: و قد روي قديماً مثل هذا: أن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري كان في حبس الحجاج ، و كان يعذبه.
و كان كل من مات في الحبس، رفع خبره إلى الحجاج، فيأمر بإخراجه و تسليمه إلى أهله.
فقال بلال للسجان: خذ مني عشرة آلاف درهم، و أخرج اسمي إلى الحجاج في الموتى، فإذا آمرك بتسليمي إلى أهلي، هربت في الأرض، فلم يعرف الحجاج خبري، و إن شئت أن تهرب معي، فافعل، و علي غناك أبداً.
فأخذ السجان المال، و رفع اسمه في الموتى، فقال الحجاج: مثل هذا، لا يجوز أن يخرج إلى أهله حتى أراه، هاته. فعاد إلى بلال، فقال: أعهد ، قال: و ما الخبر؟

قال: إن الحجاج قال: كيت و كيت، فإن لم أحضرك إليه ميتاً، قتلني، و علم أني أردت الحيلة عليه، و لا بد أن أقتلك خنقاً.
فبكى بلال، و سأله أن لا يفعل، فلم يكن إلى ذلك طريق، فأوصى و صلى، فأخذه السجان، و خنقه، و أخرجه إلى الحجاج ميتاً.
فلما رآه ميتاً، قال: سلمه إلى أهله.
فأخذوه، و قد اشترى القتل لنفسه بعشرة آلاف درهم، و رجعت الحيلة عليه .
دخلت باب الهوىأنشدنا التنوخي، قال: أنشدنا أحمد بن محمد بن العباس الإخباري ، قال: أنشدنا نصر بن أحمد الخباز البصري لنفسه:
لما جفاني من كان لي أنساً ... أنست شوقاً بعض أسبابه
كمثل يعقوب بعد يوسف إذ ح ... ن إلى بعض أثوابه
دخلت باب الهوى و لي بصر ... و في خروجي عميت عن بابه
طفيلي لا ينشط إلا عند نهيأة الطعامقال علي بن المحسن بن علي القاضي، عن أبيه، قال: صحب طفيلي، رجلاً في سفر، فقال له الرجل: امض فاشتر لنا لحماً.
قال: لا و الله، ما اقدر، فمضى هو فاشترى.
ثم قال له: قم فاطبخ.
قال: لا أحسن، فطبخ الرجل.
ثم قال له: قم فاثرد.
قال: أنا و الله كسلان، فثرد الرجل.
ثم قال له: قم و اغرف.
قال: أخشى أن ينقلب على ثيابي، فغرف الرجل.
ثم قال له: قم الآن، فكل.
قال الطفيلي: قد و الله استحييت من كثرة خلافي لك.
و تقدم فأكل .
كيف استعاد التمار أموالهأنبأنا محمد بن عبد الباقي ، قال: أخبرنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد الصروي ، قال: حدثني ابن الدنانير التمار، قال: حدثني غلام لي قال: كنت ناقداً بالأبلة ، لرجل تاجر، فاقتضيت له من البصرة نحو خمسمائة دينار، و ورقاً ، و لففتهما في فوطة، و أمسيت، و لم يمكنني المسير إلى الأبلة.
فما زلت أطلب ملاحاً فلا أجد، إلى أن رأيت ملاحاً مجتازاً في خيطتة خفيفة فارغة، فسألته أن يحملني.
فخفف علي الأجرة، و قال: أنا راجع إلى منزلي بالأبلة، فانزل.
فنزلت، و جعلت الفوطة بين يدي، و سرنا.
فإذا رجل ضرير على الشط، يقرأ أحسن قراءة تكون، فلما رآه الملاح كبر، فصاح هو بالملاح، احملني، فقد جنني الليل، و أخاف على نفسي، فشتمه الملاح.
فقلت له: احمله.
فدخل إلى الشط فحمله، فرجع إلى قراءته، فخلب عقلي بطيبها.
فلما قربنا من الأبلة، قطع القراءة، و قام ليخرج في بعض المشارع بالأبلة، فلم أر الفوطة.
فاضطربت، و صحت، و استغاث الملاح، و قال: الساعة تنقلب الخيطية، و خاطبني خطاب من لا يعلم حالي.
فقلت: يا هذا، كانت بين يدي فوطة فيها خمسمائة دينار.
فلما سمع الملاح ذلك، لطم، و بكى، و تعرى من ثيابه، و قال: لم أدخل الشط، و لا لي موضع أخبئ فيه شيئاً فتتهمني بسرقته، و لي أطفال، و أنا ضعيف، فالله، الله، في أمري، و فعل الضرير مثل ذلك.
و فتشت السميرية، فلم أجد فيها شيئاً، فرحمتهما، و قلت: هذه محنة لا أدري كيف التخلص منها.
و خرجنا، فعملت على الهرب، و أخذ كل واحد منا طريقاً، و بت في بيتي، و لم أمض إلى صاحبي.
فلما أصبحت، عملت على الرجوع إلى البصرة، لأستخفي بها أياماً ثن أخرج إلى بلد شاسع.
فانحدرت، و خرجت في مشرعة بالبصرة، و أنا أمشي، و أتعثر، و أبكي، قلقاً على فراق أهلي و ولدي، و ذهاب معيشتي و جاهي.
فاعترضني رجل، فقال: ما لك؟ فأخبرته.
فقال: أنا أرد عليك مالك.
فقلت: يا هذا، أنا في شغل عن طنزك بي.
قال: ما أقول إلا حقاً، امض إلى السجن ببني نمير ، و اشتر معك خبزاً كثيراً، و شواءً جيداً، و حلوى، و سل السجان أن يوصلك إلى رجل محبوس هناك، يقال له: أبو بكر النقاش، قل له: أنا زائره، فإنك لا تمنع، و إن منعت، فهب للسجان شيئاً يسيراً، يدخلك إليه.
فإذا رأيته، فسلم عليه، و لا تخاطبه، حتى تجعل بين يديه ما معك، فإذا أكل، و غسل يديه، فإنه يسألك عن حاجتك، فأخبره خبرك، فإنه سيدلك على من أخذ مالك، و يرتجعه لك.
ففعلت ذلك، و وصلت إلى الرجل، فإذا شيخ مكبل بالحديد، فسلمت، و طرحت ما معي بين يديه، فدعا رفقاء له، فأكلوا.
فلما غسل يديه، قال: من أنت، و ما حاجتك؟ فشرحت له قصتي.

فقال: امض الساعة إلى بني هلال، فادخل الدرب الفلاني، حتى تنتهي إلى آخره، فإنك تشاهد باباً شعثاً، فافتحه و ادخله، بلا استئذان، فتجد دهليزاً طويلاً، يؤدي إلى بابين، فادخل الأيمن منهما، فسيدخلك إلى دار فيها أوتاد و بواري، و كل وتد عليه إزار و مئزر، فانزع ثيابك، و ألقها على الوتد، و اتزر بالمئزر، و اتشح بالإزار، و اجلس، فسيجيء قوم يفعلون كما فعلت، ثم يؤتون بطعام، فكل معهم، و تعمد موافقتهم، في سائر أفعالهم، فإذا أتي بالنبيذ، فاشرب، و خذ قدحاً كبيراً، و املأه، و قم قائماً، و قل: هذا، ساري لخالي أبي بكر النقاش، فسيفرحون، و يقولون: أهو خالك؟ فقل: نعم، فسيقومون، و يشربون لي، فإذا جلسوا، فقل لهم: خالي يقرأ عليكم السلام، و يقول: يا فتيان، بحياتي، ردوا علي بن أختي المئزر الذي أخذتموه بالأمس من السفينة، بنهر الأبلة، فإنهم يردونه عليك.
فخرجت من عنده، فعلت ما أمر، فردت الفوطة بعينها، و ما حل شدها.
فلما حصلت لي، قلت: يا فتيان، هذا الذي فعلتموه معي، هو قضاء لحق خالي، و لي أنا حاجة تخصني.
قالوا: مقضية.
قلت: عرفوني، كيف أخذتم الفوطة؟ فامتنعوا ساعة، فأقسمت عليهم بحياة أبي بكر النقاش.
فقال لي واحد منهم: أتعرفني؟ فتأملته جيداً، فإذا هو الضرير الذي كان يقرأ، و إنما كان متعامياً.
و أومأ إلى آخر، فقال: أتعرف هذا؟ فتأملته جيداً، فإذا هو الضرير الذي كان يقرأ، و إنما كان متعامياً.
و أومأ إلى آخر، فقال: أتعرف هذا؟ فتأملته، فإذا هو الملاح.
فقلت: كيف فعلتما؟ فقال الملاح: أنا أدور في المشارع، في أول أوقات المساء، و قد سبقت بهذا المتعامي، فأجلسته حيث رأيت، فإذا رأيت من معه شيء له قدر، ناديته، و أرخصت له الأجرة، و حملته.
فإذا بلغت إلى القارئ، و صاح بي، شتمته، حتى لا يشك الراكب في براءة الساحة، فإن حمله الراكب، فذاك، و إلا رققته عليه حتى يحمله، فإذا حمله، و جلس يقرأ، ذهل الرجل، كما ذهلت.
فإذا بلغنا الموضع الفلاني، فإن فيه رجلاً متوقعاً لنا، يسبح، حتى يلاصق السفينة، و على رأسه قوصرة ، فلا يفطن الراكب له.
فيسلب هذا المتعامي الشيء بخفة فيسلمه إلى الرجل الذي عليه القوصرة، فيأخذه و يسبح إلى الشط.
و إذا أراد الراكب الصعود، و افتقد ما معه، عملنا كما رأيت، فلا يتهمنا، و نفترق، فإذا كان من غد اجتمعنا، و اقتسمناه.
فلما جئت برسالة أستاذنا، خالك، سلمنا إليك الفوطة.
قال: فأخذتها، و رجعت.
و ما ظالم إلا سيبلى بأظلمأخبرنا محمد بن ناصر ، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أنبأنا الجوهري.
و أخبرني ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد، قال: أخبرنا أبو القاسم التنوخي، قال: أخبرنا ابن حيويه ، قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثني لص تائب، قال: دخلت مدينة، فطلبت شيئاً أسرقه، فوقعت عيني على صير في موسر، فما زلت أحتال، حتى سرقت كيساً له، و انسللت.
فما جزت غير بعيد، إذ أنا بعجوز معها كلب، قد وقعت في صدري، تبوسني، و تلزمني، و تقول: يا بني، فديتك، و الكلب يبصبص، و يلوذ بي، و وقف الناس ينظرون إلينا.
و جعلت المرأة تقول: يالله، انظروا إلى الكلب، قد عرفه، فعجب الناس من ذلك، و تشككت أنا في نفسي، و قلت: لعلها أرضعتني، و أنا لا أعرفها؟ و قالت: معي إلى البيت، أقم عندي اليوم، فلم تفارقني حتى مضيت معها إلى بيتها.
و إذا عندها أحداث يشربون، و بين أيديهم من جميع الفواكه و الرياحين، فرحبوا بي، و قربوني، و أجلسوني معهم.
و رأيت لهم بزة حسنة، فوضعت عيني عليها، فجعلت أسقيهم و أرفق بنفسي، إلى أن ناموا، و نام كل من الدار.
فقمت و كورت ما عندهم، و ذهبت أخرج.
فوثب علي الكلب وثبة الأسد، و صاح، و جعل يتراجع و ينبح، إلى أن انتبه كل نائم، فخجلت، و استحييت.
فلما كان النهار، فعلوا مثل فعلهم بالأمس، و فعلت أنا بهم أيضاً مثل ذلك، و جعلت أوقع الليلة في أمر الكلب إلى الليل، فما أمكنتني فيه حيلة.
فلما ناموا، رمت الذي رمته، فإذا الكلب قد عارضني بمثل ما عارضني به.
فجعلت احتال، ثلاث ليال، فلما أيست، طلبت الخلاص منهم بإذنهم، فقلت: أتأذنون لي، فإني على وفز .
فقالوا: الأمر إلى العجوز.

فاستأذنتها، فقالت: هات الذي أخذته من الصيرفي، و امض حيث شئت، و لا تقم في هذه المدينة، فإنه لا يتهيأ لأحد فيها معي عمل.
فأخذت الكيس و أخرجتني، و وجدت مناي أن أسلم من يدها.
و كان قصاراي أن أطلب منها نفقة، فدفعت إليّ، و خرجت معي، حتى أخرجتني عن المدينة، و الكلب معها، حتى جزت حدود المدينة.
و وقفت، و مضيت، و الكلب يتبعني، حتى بعدت، ثم تراجع ينظر إليّ، و يلتفت، و أنا أنظر إليه، حتى غاب عن عيني.
صادف درء السيل درءاً يصدعه
أنبأنا محمد بن أبي طاهر، قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثني عبيد الله بن محمد الصروي ، قال: حدثنا بعض إخواننا: أنه كان ببغداد، رجل يطلب التلصص في حداثته، ثم تاب، فصار بزازاً.
قال: فانصرف ليلة من دكانه، و قد غلقه، فجاء لص محتال، متزي بزي صاحب الدكان، في كمه شمعة صغيرة، و مفاتيح، فصاح بالحارس، فأعطاه الشمعة في الظلمة، و قال: أشعلها، و جئني بها، فإن لي الليلة بدكاني شغلاً.
فمضى الحارس يشعل الشمعة، و ركب اللص على الأقفال، ففتحها و دخل الدكان.
و جاء الحارس بالشمعة، فأخذها من يده، فجعلها بين يديه، و فتح سقط الحساب، و اخرج ما فيه، و جعل ينظر الدفاتر، و يري بيده، انه يحسب، و الحارس يتردد، و يطالعه، و لا يشك في أنه صاحب الدكان، إلى أن قارب السحر.
فاستدعى اللص الحارس، و كلمه من بعيد، و قال: اطلب لي حمالاً.
فجاء بحمال، فحمل عليه أربع رزم مثمنة، و قفل الدكان، و انصرف، و معه الحمال، و أعطى الحارس درهمين.
فلما أصبح الناس، جاء صاحب الدكان، ليفتح دكانه، فقام إليه الحارس يدعو له، و يقول: فعل الله بك و صنع، كما أعطيتني البارحة الدرهمين.
فأنكر الرجل ما سمعه، و فتح دكانه، فوجد سيلان الشمعة، و حسابه مطروحاً، و فقد الأربع رزم.
فاستدعى الحارس، و قال له: من كان حمل الرزم معي من دكاني؟ قال: أما استدعيت مني حمالاً، فجئتك به؟ قال: بلى، و لكني كنت ناعساً، و أريد الحمال، فجئني به.
فمضى الحارس، فجاء بالحمال، فأغلق الرجل الدكان، و اخذ معه الحمال و مضى.
و قال له: إلى أين حملت الرزم معي البارحة، فإني كنت متنبذاً ؟ قال: إلى المشرعة الفلانية، و استدعيت لك فلاناً الملاح، فركبت معه.
فقصد الرجل المشرعة، و سأل عن الملاح، فحضر، و ركب معه، و قال: أين رقيت أخي، الذي كان معه الأربع رزم؟ قال: إلى المشرعة الفلانية.
قال: اطرحني إليها، فطرحه.
قال: من حملها معه؟ قال: فلان الحمال.
فدعا به، فقال له: امش بين يدي، فمشى، فأعطاه شيئاً، و استدله برفق، إلى الموضع الذي حمل إليه الرزم.
فجاء به إلى باب غرفة، في موضع بعيد عن الشط، قريب من الصحراء فوجد الباب مقفلاً، فاستوقف الحمال، و فش القفل، و دخل، فوجد الرزم بحالها.
و إذا في البيت بركان معلق على حبل، فلف به الرزم، و دعا بالحمال، فحملها عليه، و قصد المشرعة.
فحين خرج من الغرفة، استقبله اللص، فرآه و ما معه، فأبلس، فاتبعه إلى الشط، فجاء إلى المشرعة، و دعا الملاح ليعبر، فطلب الملاح من يحط عنه، فجاء اللص، فحط الكساء، كأنه مجتاز متطوع.
فأدخل الرزم إلى السفينة، مع صاحبها، و جعل البركان على كتفه، و قال له: يا أخي استودعك الله، قد استرجعت رزمك، فدع كسائي.
فضحك، و قال: انزل فلا خوف عليك.
فنزل معه، و استتابه، و وهب له شيئاً، و صرفه، و لم يسئ إليه.
كلب يقوم مقام الفيجحدثني أبو عبد الله، قال: حدثني أبو الحسين محمد بن الحسين بن شداد، قال: قصدت دير مخارق إلى عبد الله بن الطبري النصراني، الذي كان يأتي بالنزل للمعتضد بالله، فسألته إحضار وكيل له، يقال له إبراهيم بن داران، و طالبته بإحضار الأدلاء لمسامحة قرية تعرف بباصيري السفلى.
فقال لي: يا سيدي قد وجهت في ذلك.
فقلت له: أنا على الطريق جالس، و ما اجتاز بي أحد.
فقال لي: أما رأيت الكلب الذي كان بين أيدينا؟ قد وجهت به.
فغلظ علي ذلك من قوله، و نلت من عرضه، و أمرت بما أنا أستغفر الله عز وجل منه.
فقال: إن لم يحضر القوم الساعة، فأنت من دمي في حل.
فما مكث بعد هذا القول إلا ساعة، حتى وافى القوم مسرعين، و الكلب بين أيديهم.
فسألته: كيف تحمله الرسالة؟

فقال: أشد في عنقه رقعة بما أحتاج إليه، و أطرحه على المحجة، فيقصد القوم، و قد عرفوا الخبر، فيقرأون الرقعة، فيمتثلون ما فيها.
من حيل اللصوصأنبأنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، عن أبيه، أن رجلاً نام في مسجد، و تحت رأسه كيس فيه ألف و خمسمائة دينار.
قال: فما شعرت إلا بإنسان قد جذبه من تحت رأسي، فانتبهت فزعاً، فإذا شاب قد اخذ الكيس و مر يعدو.
فقمت لأعدو خلفه، فإذا رجلي مشدودة بخيط قنب، في وتد مضروب في آخر المسجد .
ابن الخياطة يسرق و هو في الحبسأنبأنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو الحسين عبد الله بن محمد البصري، قال: حدثني أبي، قال: كان بالبصرة رجل من اللصوص، يلص بالليل، فاره جداً، مقدام، يقال له: عباس بن الخياطة، قد غلب الأمراء، و أشجى أهل البلد.
فلم يزالوا يحتالون عليه، إلى أن وقع، و كبل بمائة رطل حديد، و حبس. فلما كان بعد سنة من حبسه و أكثر، دخل قوم بالأبلة على رجل تاجر كان عنده جوهر بعشرات ألوف دنانير، و كان متيقظاً جلداً.
فجاء إلى البصرة يتظلم، و أعانه خلق من التجار، و قال للأمير: أنت دسست على جوهري، و ما خصمي سواك.
فورد عليه أمر عظيم، و خلا بالبوابين، و توعدهم، فاستنظروه، فأنظرهم، و طلبوا، و اجتهدوا، فما عرفوا فاعل ذلك، فعنفهم الرجل، فاستجابوا مدة أخرى.
فجاء أحد البوابين إلى الحبس، فتخادم لابن الخياطة، و لزمه نحو شهر، و تذلل له في الحبس.
فقال له: قد وجب حقك عليّ فما حاجتك؟ قال: جوهر فلان، المأخوذ بالأبلة، لا بد أن يكون عندك منه خبر، فإن دماءنا مرتهنة به، و حدثه بالحديث.
فرفع ذيله، و إذا سقط الجوهر تحته، فسلمه إليه، و قال: قد وهبته لك. فاستعظم ذلك، و جاء بالسفط إلى الأمير، فسأله عن القصة، فأخبره بها. فقال: علي بعباس، فجاءوا به.
فأمر بالإفراج عنه، و إزالة قيوده، و إدخاله الحمام، و خلع عليه، و أجلسه في مجلسه مكرماً، و استدعى الطعام، فواكله، و بيته عنده.
فلما كان في الغد، خلابه، و قال: أنا أعلم أنك لو ضربت مائة ألف سوط، ما أقررت كيف كانت صورة أخذ الجوهر، و قد عاملتك بالجميل، ليجب حقي عليك، من طريق الفتوة، و أريد أن تصدقني حديث هذا الجوهر.
قال: على أنني و من عاونني عليه آمنون، و أنك لا تطالبنا بالذين أخذوه. قال: نعم. فاستخلفه، فخلف.
فقال له: إن جماعة اللصوص، جاءوني إلى الحبس، و ذكروا حال هذا الجوهر، و أن دار هذا التاجر لا يجوز أن يتطرق عليها نقب و لا تسلق، و عليها باب حديد، و الرجل متيقظ، و قد راعوا سنة، فما أمكنهم، و سألوني مساعدتهم.
فدفعت إلى السجان مائة دينار، و حلفت له الشطارة، و الأيمان الغليظة، أنه إن أطلقني عدت إليه في غد، و أنه إن لم يفعل ذلك، اغتلته، فقتلته في الحبس.
فأطلقني، فنزعت الحديد، و تركت الحبس، و خرجت وقت المغرب فوصلنا إلى الأبلة، وقت العتمة، و خرجنا إلى دار الرجل، فإذا هو في المسجد و بابه مغلق.
فقلت لأحدهم: تصدق من الباب، فتصدق.
فلما جاءوا ليفتحوا، قلت له: اختف، ففعل ذلك مرات، و الجارية تخرج، فإذا لم تر أحداً عادت.
إلى أن خرجت من الباب، و مشت خطوات، تطلب السائل، فتشاغلت بدفع الصدقة إليه، فدخلت أنا إلى الدار.
فإذا في الدهليز بيت فيه حمار، فدخلته، و وقفت تحت الحمار، و طرحت الجل علي و عليه.
و جاء الرجل، فغلق الأبواب، و فتش ، ونام على سرير عال، و الجوهر تحته.
فلما انتصف الليل، قمت إلى شاة في الدار، فعركت أذنها، فصاحت.
فقال: ويلك، أقول لك افتقديها.
قالت: قد فعلت.
قال: كذبت، و قام بنفسه ليطرح لها علفاً.
فجلست مكانه على السرير، و فتحت الخزانة، و أخذت السفط، و عدت إلى موضعي، و عاد الرجل فنام.
فاجتهدت أن أجد حيلة، و أن أنقب إلى دار بعض الجيران، فأخرج، فما قدرت، لأن جميع الدار، مؤزرة بالساج.
و رمت صعود السطح، فما قدرت، لأن الممارق مقفلة بثلاثة أقفال.
فعملت على ذبح الرجل، ثم استقبحت ذلك، و قلت هذا بين يدي، إن لم أجد حيلة غيره.
فلما كان السحر، عدت إلى موضعي تحت الحمار.

و انتبه الرجل يريد الخروج، فقال للجارية، افتحي الأقفال من الباب، و دعيه متربساً ، ففعلت، و قربت ن الحمار، فرفس، فصاحت.
فخرجت أنا، ففتحت المترس ، و خرجت أعدو، حتى جئت إلى المشرعة، فنزلت في الخيطية.
و وقعت الصيحة في دار الرجل.
فطالبني أصحابي أن أعطيهم شيئاً منها، فقلت: لا، هذه قصة عظيمة و أخاف أن يتنبه عليها، و لكن دعوها عندي، فإن مضى على الحدث ثلاثة أشهر ، و انكتم، فصيروا إليّ، أعطيكم النصف، و إن ظهر، خفت عليكم و على نفسي، و جعلته حقناً لدمائكم، فرضوا بذلك.
فأرسل الله هذا البواب، بلية، فخدمني، فاستحييت منه، و خفت أن يقتل، هو و أصحابه، و قد كنت وضعت في نفسي الصبر على كل عذاب، فدخلتم علي من طريق أخرى، لم أستحسن في الفتوة، معها، إلا الصدق. فقال له الأمير: جزاء هذا الفعل، أن أطلقك، و لكن تتوب.
فتاب، و جعله الأمير من بعض أصحابه، و أسنى له الرزق، فاستقامت طريقته.
ابن الخياطة يتسلل إلى الصيرفي من بين حراسهقال أبو الحسين ، و حدثني أبي، عن طالوت بن عباد الصيرفي، قال: كنت ليلة نائماً بالبصرة، في فراشي، و أحراسي يحرسونني، و أبوابي مقفلة، فإذا أنا بابن الخياطة ينبهني من فراشي، فانتبهت فزعاً.
فقلت: من أنت؟ فقال: ابن الخياطة، فتلفت.
فقال: لا تجزع، قد قمرت الساعة خمسمائة دينار، أقرضني إياها، لأردها عليك.
فأخرجت خمسمائة دينار، فدفعتها إليه.
فقال: نم، و لا تتبعني، لأخرج من حيث جئت، و إلا قتلتك.
قال: و أنا و الله أسمع صوت حراسي، و لا أدري من أين دخل، و من أين خرج.
و كتمت الحديث، خوفاً منه، و زدت في الحرس.
و مضت ليال فإذا أنا به قد أنبهني، على تلك الصورة، فقلت: مرحباً، ما تريد؟ قال: جئت بتلك الدنانير، تأخذها مني.
قلت: أنت في حل منها، و إن أردت شيئاً آخر فخذ.
فقال: لا أريد، من نصح التجار شاركهم في أموالهم، و لو كنت أردت مالك باللصوصية، فعلت، و لكنك رئيس بلدك، و لا أريد أذيتك، فإذ ذلك يخرج عن الفتوة ، و لكن خذها، و إن احتجت إلى شيء بعد هذا، أخذت منك.
فقلت: إن عودك يفزعني، و لكن، إذا أردت شيئاً، فتعال إليّ نهاراً، أو رسولك.
فقال: أفعل.
فأخذت الدنانير منه، و انصرف، و كان رسوله يجيئني بعلامة، بعد ذلك، فيأخذ ما يريده.
فما انكسر لي عنده شيء، إلى أن قبض عليه.
البلاء موكل بالمنطقأخبرنا أبو القاسم الأزهري، و علي بن علي البصري ، قالا: أنشدنا أحمد بن منصور الوراق ، قال: أنشدنا نصر الخبز أرزي ، لنفسه:
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل ... و كل امرئ ما بين فكيه مقتل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره ... فذاك لسان بالبلاء موكل
و كم فاتح أبواب شر لنفسه ... إذا لم يكن قفل على فيه مقفل
كذا من رمى يوماً شرارات لفظه ... تلقته نيران الجوابات تشعل
و من لم يقيد لفظه متجملاً ... سيطلق فيه كل ما ليس يجمل
و من لم يكن فيه ماء صيانة ... فمن وجهه غصن المهابة يذبل
فلا تحسبن الفضل في الحلم وحده ... بل الجهل في بعض الأحايين أفضل
و من ينتصر ممن بغى فهو ما بغى ... و شر المسيئين الذي هو أول
و قد أوجب الله القصاص بعدله ... و لله حكم في العقوبات منزل
فإن كان قول قد أصاب مقاتلاً ... فإن جواب القول أدهى و أقتل
و قد قيل في حفظ اللسان و خزنه ... مسائل من كل الفضائل أكمل
و من لم تقربه سلامة غيبه ... فقربانه في الوجه لا يتقبل
و من يتخذ سوء التخلف عادة ... فليس عليه في عتاب معول
و من كثرت منه الوقيعة طالباً ... بها غرة فهو المهين المذلل
و عدل مكافاة المسيء بفعله ... فماذا على من في القضية يعدل
و لا فضل في الحسى إلى من يحسها ... بلى عند من يزكو لديه التفضل
و من جعل التعريض محصول مزحه ... فذاك علىالمقت المصرح يحصل

و من أمن الآفات عجباً برأيه ... أحاطت به الآفات من حيث يجهل
أعلمكم ما علمتني تجاربي ... و قد قال قبلي قائل متمثل:
إذا قلت قولاً كنت رهن جوابه ... فحاذر جواب السوء إن كنت تعقل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلماً ... فدبر و ميز ما تقول و تفعل
بغدادية تقعد جنينها فقاعياً على باب الجنة
قال المحسن: حدثني أبو محمد بن داسه ، أنه سمع امرأة تخاصمت مع زوجها.
فقالت له: طلقني.
فقال لها: أنت حبلى، حتى إذا ولدت طلقتك.
قالت: ما عليك منه.
قال: فأيش تعملين به؟.
قالت: أقعده على باب الجنة فقاعي .
فقلت لعجوز كانت تتوسط بينهما: أيش معنى هذا؟ قالت: تريد أنها تشرب ماء السداب ، و تتحمل سداباً عليه أدوية، لتسقط، فيلحق الصبي بالجنة، فيكون كالفقاعي.
لأبي علي القرمطي في وصف شمعةأنبأني الشيخان: الأجل العلامة تاج الدين الكندي، و الفقيه جمال الدين ابن الحرستاني، إجازة، قالا: أخبرنا الإمام الحافظ، أبو القاسم بن عساكر الدمشقي ، سماعاً عليه، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، عن أبي القاسم التنوخي، قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن عثمان الخرقي، الفارقي، الحنبلي، التميمي، قال: كنت بالرملة، سنة ثلثمائة و خمس و ستين، و قد ورد إليها القرمطي، أبو علي ، القصير الثياب، فاستدناني منه، و قربني إلى خدمته.
فكنت ليلة عنده، إذ حضر الفراشون بالشموع، فقال لأبي نصر بن كشاجم و كان كاتبه : يا با نصر، ما يحضرك في صفة هذه الشموع؟ فقال: إنما نحضر مجلس السيد، لنسمع كلامه، و نستفيد من أدبه. فقال أبو علي، في الحال، بديهاً:
و مجدولة مثل صدر الفتاة ... تعرت و باطنها مكتسي
لها مقلة هي روح لها ... و تاج على الرأس كالبرنس
إذا غازلتها الصبا حركت ... لساناً من الذهب الأملس
و إن رنقت لنعاس عرا ... و قطت من الرأس لم تنعس
و تنتج في وقت تلقيحها ... ضياء يجلي دجى الحندس
فنحن من النور في أسعد ... و تلك من النار في أنحس
تكيد الظلام و ما كادها ... فتفنى و تفنيه في مجلس
فقام أبو نصر بن كشاجم، و قبل الأرض بين يديه، و سأله أن يأذن له، في إجازة الأبيات، فأذن له، فقال:
و ليلتنا هذه ليلة ... تشاكل أشكال أقليدس
فيا ربة العود غني لنا ... و يا حامل الكأس لا تجلس
فتقدم بأن يخلع عليه، و حملت إليه صلة سنية، و إلى كل من الحاضرين.
فليت الأرض كانت مادراياذكر أبو علي التنوخي، في كتاب نشوار لمحاضرة، قال: حدثني محمد بن الحسن البصري، قال: حدثني الهمداني الشاعر، قال: قصدت ابن الشلمغاني في مادرايا ، فأنشدته قصيدة قد مدحته بها، و تأنقت فيها، و جودتها، فلم يحفل بها.
فكنت أغاديه كل يوم، و أحضر مجلسه، حتى يتقوض الناس، فلا أرى للثواب طريقاً.
فحضرته يوماً، و قد احتشد مجلسه، فقام شاعر، فأنشد نونية، إلى أن بلغ فيها إلى بيت، و هو:
فليت الأرض كانت مادرايا ... و ليت الناس آل الشلمغاني
فعن لي في الوقت هذا البيت، فقمت، و قلت مسرعاً:
إذا كانت بطون الأرض كنفاً ... و كل الناس أولاد الزواني
فضحك، و أمرني بالجلوس، و قال: نحن أحوجناك إلى هذا، و أمر لي بجائزة سنية.
فأخذتها و انصرفت.
لأبي الفرج الببغاءفي وصف قدح ياقوت أزرق و اخبرني الشيخ الفقيه أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي، قال: أخبرني الإمام الحافظ السلفي الأصبهاني رحمه الله تعالى، قال: أخبرني الرئيس أبو سعد محمد بن عقيل بن عبد الواحد الدسكري ، في سنة ست و تسعين و أربعمائة، قال: حدثني القاضي التنوخي، قال: أصعد أبو الفرج الببغاء ، إلى سيف الدولة بن حمدان ، هو و جماعة من الشعراء الكبار، يمتدحونه، فأخرج يوماً خازنه قدحاً من ياقوت ازرق، فملاه ماء، و تركه يتشعشع.
فقال له أبو الفرج: يا مولانا، ما رأيت أحسن من هذا.
فقال: قل فيه شيئاً، و هو لك.
فقال أبو الفرج في الحال:

كم منة للظلام في عنقي ... بجمع شمل و ضم معتنق
و كم صباح للراح أسلمني ... من فلق ساطع إلى فلق
فعاطنيها بكراً مشعشعة ... كأنها في صفائها خلقي
في أزرق كالهواء يخرقه الل ... حظ و إن كان غير منخرق
كأن أجزاءه مركبة ... حسناً و لطفاً في زرقة الحدق
ما زلت منه منادماً كعباً ... مذ أسكرتها المدام لم تفق
تختال قبل المزاج في أزرق ال ... فجر و بعد المزاج في شفق
أدهشها سكرنا فإن يكن ال ... صمت حديثاً فذاك عن فرق
تغرق في أبحر المدام فيستن ... قذها شربنا من الغرق
و نحن باللهو بين مصطبح ... من لونها في معصفر شرق
لخلت أن الهواء لاطفني ... بالشمس في قطعة من الأفق
فاستحسنها سيف الدولة، و أعطاه إياه.
و من كان فوق الدهر لا يحمد الدهراذكر القاضي أبو علي التنوخي، في كتاب النشوار، قال: أنشدني أبو القاسم عبيد الله بن محمد الصروي ، لنفسه، بالأهواز ، يقول:
إذا حمد الناس الزمان ذممته ... و من كان فوق الدهر لا يحمد الهرا
و زعم أنه حاول أن يضيف إليه شيئاً، فتعذر عليه مدة طويلة، و ضجر منه، و تركه مفرداً.
و كان عندي أبو القاسم المصيصي المؤدب، فسمع القول، فعمل في الحال، إجازة له، و أنشدها لنفسه:
و إن أوسعتني النائبات مكارهاً ... ثبت و لم أجزع و أوسعتها صبراً
إذا ليل خطب سد طرق مذاهبي ... لجأت إلى عزمي فأطلع لي فجراً
أبو الفرج الببغاء يصف بركة ملئت ورداً
قال : و كنت أنا و أبو الفرج الببغاء ، نشاهد بركة ملئت، و جعل فوقها ورد، و بهار ، و شقائق ، حتى غطى أكثر الماء.
و حضر أبو علي الهائم ، فسأل أبا الفرج أن يعمل في ذلك شيئاً، فعمل بحضرتنا، و أنشد:
خجل الورد من جوار البهار ... فمشى باحمراره في اصفرار
و حكى الماء فيهما أحمر الياقو ... ت حسناً مرصعاً بنظار
جمعاً بالكمال في بركة تم ... تع حسناً نواظر الحضار
أضرم الماء بالشقيق بها النا ... ر و عهدي بالماء ضد النار
فوجدنا أخلاق سيدنا الزهر ... ذكاء تربى على الأزهار
ظلت منه و من نداماه للأن ... س نديم الشموس و الأقمار
القاضي التنوخي يهدي إلى جحظة
البرمكي طيلساناً
قال : أهدى إلي أبو القاسم التنوخي القاضي ، رضي الله عنه، طيلساناً فكتبت إليه:
قد أتى الطيلسان مستوعباً شك ... ري في حسن منظر و رواء
مثقلاً عاتقي و إن كان في الخف ... ة و اللطف في قياس الهواء
تسرح العين منه و القلب في الآ ... ل، و في الماء، و السنا، و البهاء
يتلقى حر الصدود ببرد ال ... وصل و الصيف في طباع الشتاء
يخفق الدهر في النسيم كما يخ ... فق قلب الجبان في الهجاء
كل جزء منه يمج إلى الأر ... واح روح المنى و برد الوفاء
ليس فيه للنار و الأرض حظ ... هو من جوهري هواء و ماء
زاد في همتي و نفسي و تأ ... ميلي علواً و زاد في كبريائي
فكأني إذا تبخترت فيه ... قد تطيلست نصف بدر السماء
من شعر السري الرفاءو ذكر : أن السري الرفاء ، دخل على أبي الحسن، باروخ بن عبد الله، صاحب ناصر الدولة بن حمدان ، و بين يديه ستارة، تستر من يجلس برسم الغناء.
فأمره أن يصنع ما يكتب عليها، فصنع بديهاً:
تبين لي سبق الأمير إلى العلا ... و ما زال سباقاً إلى الفضل منعما
فصيرتي بين القيان إذا شدت ... و بين نداماه حجاباً مكرماً
لأظهر من حسن الغناء محللاً ... و أستر من حسن الوجوه محرماً
الوزير المهلبي يمتدح غناء الرقيةزوجة أبي علي الحسن بن هارون الكاتب قال : و حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم ، قال: حدثني أبي : قال: كنا في دعوة أبي علي، الحسن بن هارون الكاتب ، و حضر فيها الوزير، أبو محمد، الحسن بن محمد المهلبي ، و هو إذ ذاك، يخلف أبا جعفر الصيمري على الأمر ببغداد.
فغنت الرقية، زوج أبي علي، صوتاً من وراء الستارة، أحسنت فيه، فأخذ المهلبي الدواة، فكتب في الحال على البديهة، و أنشدنا لنفسه:
ذات غنى في الغناء من نغم ... تنفق في الصوت منه إسرافاً
كأنها فارس على فرس ... ينظر في الجري منه أعطافاً
نصر الخبز أرزي و حريق المربدو روي : ا، نصر بن أحمد الخبز أرزي ، دخل على أبي الحسين بن المثنى ، في أثر حريق المربد .
فقال له أبو الحسين: يا أبا القاسم، ما قلت في حريق المربد؟ قال: ما قلت شيئاً.
فقال له: هل يحسن بك، و أنت شاعر البصرة، و المربد من أجل شوارعها، و سوقه من أجل أسواقها، و لا تقول فيه شيئاً؟ .
فقال: ما قلت، و لكني أنشدك ارتجالاً:
أتتكم شهود الهوى تشهد ... فما تستطيعون أن تجحدوا
فيا مربديون ناشدتكم ... على أنني منكم مجهد
جرى نفسي صعداً بينكم ... فأحرق من ذلك المربد
و هاجت رياح حنيني لكم ... فظلت بها ناره توقد
و لولا جرت أدمعي لم يكن ... حريقكم أبداً يخمد
بين ابن لنكك، و أبي رياش القيسيقال : و أخبرني من حضر ملس أبي محمد المافروخي ، عامل البصرة، و قد تناظرا في شيء من اللغة اختلفا فيه، فقال أبو رياش ، كذا أخبرتني عمتي، أو جدتي، في البادية، عن العرب، و وجدتها تتكلم به.
فقال له أبو الحسن محمد بن محمد بن جعفر بن لنكك الشاعر ، و كان حاضراً: اللغة لا تؤخذ عن البغيات.
فأمسك خجلاً.
و كان أبو محمد المافروخي، قد ولاه الرسم على المراكب بعبادان بحار سابع ، و أحسن إليه، و اختاره عصبية منه للعلم و الأدب، فقال ابن لنكك:
أبو رياش ولي الرسما ... فكيف لا يصفع أو يعمى
يا رب جدي دف في خضرة ... ثم أتانا بقفا يدمى
من نظم القاضيو أظرف ما يعرف في هذا المعنى، ما انشده القاضي التنوخي، لنفسه:
لم أنس شمس الضحى تطالعني ... و نحن في روضة على فرق
و جفن عيني بمائة شرق ... و قد بدت في معصفر شرق
كأنه دمعتي و وجنتها ... حين رمتنا العيون بالحدق
ثم تغطت بكمها خجلاً ... كالشمس غابت في حمرة الشفق
حسبنا الله و نعم الوكيلو أنبئت عنه، و عن غيره، قالوا: أنبأنا ذاكر بن كامل بن أبي غالب، عن شجاع بن فارس الذهلي، قال: أنبأنا أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي إذناً، قال: حدثني القاضي علي بن المحسن التنوخي، و أنبئت، عن أبي أحمد بن سكينة، عن محمد بن عبد الباقي الزاز، عن علي ابن المحسن، قال: حدثتني صفية بنت عبد الصمد، من خدم القادر ، قالت: كنت في دار الأمير أبي العباس أحمد، يعني القادر بالله، يوم كبست ، بمن أنفذ الطائع له ، للقبض عليه، و قد جمع حريمه، في غداة هذا اليوم، و كنت معهم.
فقال لنا: رأيت في منامي، كأن رجلاً يقرأ علي: الذين قال لهم الناس، إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل ، و قد خفت أن يطلبني طالب، أو يحدث عليّ حادث.
و هو في حديثه، إذ شاهد أبا الحسن بن حاجب النعمان ، قد تقدم إلى درجة داره، فقال: إنا لله، هذا حضور مريب، يعقب هذا المنام.
و صعد، و معه أبو القاسم بن تمام، و العباسي الحاجب، و تبادرنا إلى وراء الأبواب، فلما رأينا أبا الحسن، قد علق بكمه، خرجنا إليه، و أخذناه من يده، و منعناه منه.
قال هلال: و انحدر متخفياً إلى البطيخة ، فأقام بها، عند مهذب الدولة إلى أن عقدت له الخلافة ، و أصعد.
فجعل علامته: حسبنا الله و نعم الوكيل.
أبو دهبل خرج للغزو فتزوج و أقام

أنبئت عن القاضي الأشرف، قال: أنبأنا أبو محمد الشهرستاني، و هو إسماعيل بن إبراهيم الصوفي، قال: أنبأنا أبو القاسم يحيى بن ثابت بن بندار البقال، قال: أنبأنا والدي ثابت، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله.
و كتب إلي من بغداد، الشيخ كمال الدين عبد الرحمن بن عبد اللطيف البغدادي، عن ابي أحمد الأميني.
و أجاز لي أبو الفضل أحمد بن هبة الله بن عساكر، و غيره، عن المؤيد ابن محمد الطوسي.
و أثبت عن جماعة غيره، عن أبي بكر بن أبي طاهر الأنصاري، عن أبي القاسم علي بن المحسن، قال: حدثنا أبو بكر محمد ، قال: أنبأنا والدي عبد الرحيم بن أحمد بن إسحاق المازني، قال: أنبأنا مصعب بن عبد الله ، قال: حدثنا أبو قثم بن أبي عبد الله، قال: خرج أبو دهبل يريد الغزو، و كان رجلاً جميلاً، صالحاً، فلما كان بجيرون جاءته امرأة، فأعطته كتاباً، فقالت: اقرأ لي هذا الكتاب.
فقرأه لها.
ثم ذهبت، فدخلت قصراً، ثم خرجت إليه، فقالت: لو بلغت إلى هذا القصر، فقرأت هذا الكتاب على امرأة فيه، كان لك فيه أجر إن شاء الله فإنه من غائب لها يعنيها أمره.
فبلغ معها القصر، فلما دخل، إذا فيه جوار كثيرة، فأغلقت عليه باب القصر، و إذا امرأة جميلة، فدعته إلى نفسها، فأبى، فأمرت به، فحبس في بيت من القصر، و أطعم، و سقي، مكبلاً، حتى ضعف، و كاد يموت.
ثم دعته إلى نفسها، فقال: أما حراماً فلا يكون ذلك أبداً، و لكن أتزوجك.
قالت: نعم.
فأمرت به، فاحسن إليه، حتى رجعت إليه نفسه، فأقام معها زماناً طويلاً، لا تدعه يخرج من القصر، حتى أيس منه أهله و ولده، و تزوج بنوه و بناته، و اقتسموا ماله، و أقامت زوجته تبكي عليه، و لم تقاسمهم ماله.
ثم إنه قال لامرأته: إنك قد أثمت في ، و ف يأهلي و ولدي، فأذن لي، أن أطلعهم، و أعود إليك.
فأخذت عليه إيماناً، لا يقيم إلا سنة، حتى يعود إليها، و أعطته مالاً كثيراً.
فخرج من عندها بذلك المال، حتى قدم على أهله، فرأى زوجته، و ما صارت إليه من الحزن، و ما صار إليه ولده.
و جاءه ولده، فقال: ما بيني و بينكم عمل، أنتم ورثتموني، فهو حظكم، و الله، لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد.
و قال لزوجته: شأنك بهذا المال، فهو لك كله، و قال في الشامية:
صاح حياً الإله حياً و دوراً ... عند أصل القناة من جيرون
عن يساري إذا دخلت من البا ... ب و إن كنت خارجاً عن يميني
و ذكر أبياتاً منها:
ثم فارقتها على خير ما كا ... ن قرين مفارقاً لقرين
فبكت خشية التفرق للب ... ين بكاء الحزين نحو الحزين
قال: فلما جاء الأجل، و أراد الخروج إليها، جاءه خبر موتها، فأقام .
مائدة الوزير حامد بن العباسأنبئت عن أبي أحمد بن منصور، و غيره، كلهم عن محمد بن أبي طاهر البزاز ، ا، علي بن المحسن التنوخي، أخبره، عن أبيه، قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم : أن حامداً كان يقدم على موائده، في كل يوم، بعدد من يحضر الموائد، لكل واحد، جدياً ، يوضع بين يديه، لا يشاركه فيه أحد، يأكل منه ما يأكل، فيرفع الباقي، فيفرق على الغلمان.
قال: فحضر المائدة، يوماً، رجل، لم يكن شاهد أمر الجدي، قبل ذلك، فهاله.
فقال له: أيها الوزير، قد أحدثت في الطعام، من الكرم، كل شيء حسن، و أحسنه، أمر هذا الجدي، و هو شيء لم تسبق إليه، فكيف وقع لك؟ فقال: نعم، كنت في دعوة مرة، قبل علو حالي، فقدم على المائدة جدي، و كان في فمي لقمة أنا مشغول باكلها.
فلمحت موضعاً من الجدي استطبته، و عملت على أن أمد يدي إليه، فآخذه.
فإلى أن يفرغ فمي، سبقني بعض الحاضرين، فأخذ الموضع، فأكله، فورد علي من ذلك، مشقة شديدة، بحيث نغص علي طعامي.
فاعتقدت في الحال، إن الله وسع علي، و مكنني، أن أجعل على مائدتي، جدياً، بعدد الحاضرين، لئلا يتفق عليهم، مثل هذا الفعل.
فلما تمكنت من اتساع الحال، فعلته .
نبت جارية مهران المخنثو أنبئت عن المؤيد الطوسي و غيره عن محمد بن عبد الباقي البزاز ، عن علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج الأصبهاني ، قال: أخبرني جعفر بن قدامة ، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر ، قال:

دخلت يوماً على نبت جارية مهران المخنث، و كانت حسنة الوجه و الغناء، فقلت لها مصراعاً، فأجيزيه.
فقالت: قل.
فقلت:
يا نبت حسنك يغشي بهجة القمر
فقالت:
قد كاد حسنك أن يبتزني بصري
فتوقفت أفكر، فسبقتني، فقالت:
و طيب نشرك مثل المسك قد نسمت ... ريا الياض عليه في دجى السحر
فهل لنا فيك حظ من مواصلة ... أو لا، فإني راض منك بالنظر
فقمت عنها خجلاً.
ثم عرضت بعد ذلك على المعتمد ... فاشتراها بثلاثين ألف درهم.
بين الوليد بن يزيد و دحمان المغنيو عن ابن عساكر قال: قرأت في كتاب أبي الفرج علي بن الحسين.
و أنبئت عن جماعة، منهم أبو اليمن، و عبد الوهاب بن علي، و ابن الحرستاني، عن محمد بن عبد الباقي ، عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج علي بن الحسين الأصبهاني ، قال: أخبرني محمد بن خلف وكيع ، قال: حدثني أبو أيوب المديني، عن أبي محمد العامري، قال: كان دحمان ، جمالاً، يكري إلى المواضع، و يتجر، فبينا هو ذات يوم، قد أكرى جماله، و أحرز ماله، إذ سمع رنة ، فقام، و اتبع الصوت، فإذا جارية، قد خرجت تبكي.
فقال لها: أمملوكة أنت؟ قالت: نعم.
قال: لمن؟ قالت: لامرأة من قريش، و نسبتها له.
فقال لها: أتبيعك؟ قالت: نعم.
و دخلت على مولاتها، فقالت: هذا إنسان يشتريني.
فقالت: ائذني له.
فدخل، فساومها بها، حتى استقر الأمر بينهما على مائتي دينار، فاشتراها، و نقدها الثمن، و انصرف بالجارية.
قال دحمان: فأقامت عندي مدة، أطرح عليها، و يطارحها معبد، و نظراؤه من المغنين.
ثم خرجت بعد ذلك إلى الشام، و قد حذقت، فكنت لا أزال، أنزل ناحية و أعتزل بالجارية، و تتغنى، حتى نرحل.
فلم نزل كذلك، حتى قربنا من الشام.
فبينا أنا ذات يوم، نازل، و أنا ألقي عليها لحني:
وإني لآتي البيت ما أن أحبه ... و أكثر هجر البيت و هو حبيب
وأغضي على أشياء منكم تسوءني ... و أدعي إلى ما سركم فأجيب
قال: فلم أزل أردده عليها، حتى أخذته، و اندفعت تغنيه. فإذا أنا براكب قد طلع علينا، فسلم علينا، فرددنا عليه السلام.
فقال لنا: أتأذنون لي أن أنزل، تحت ظلكم هذا ساعة؟ قلنا: نعم.
فنزل، و عرضت عليه الطعام، فأجاب، فقدمت إليه السفرة، فأكل، و استعاد الصوت مراراً.
ثم قال للجارية: أترون لدحمان، شيئاً من غنائه؟ قالت: نعم.
قال: فغنيني صوتا.
فغنته أصواتاً من صنعتي، و غمزتها، أن لا تعرفيه أنني دحمان، فطرب، و امتلأ سروراً، و الجارية تغنيه، حتى قرب وقت الرحيل.
فأقبل علي، و قال: أتبيعني هذه الجارية؟ قلت: نعم.
قال: بكم؟ قلت كالعابث: بعشرة آلاف دينار.
قال: قد أخذتها، فهلم دواة و قرطاساً، فجئته بذلك، فكتب فيه: ادفع إلى حامل هذا الكتاب، ساعة تقرأه، عشرة آلاف دينار، وتسلم الجارية منه، و استعلم مكانه، و عرفنيه، و استوص به خيراً.
و ختم الكتاب ، و دفعه إلي، و قال: إذا دخلت المدينة، فسل عن فلان، و اقبض منه المال، و سلم إليه الجارية، ثم ركب، و تركني.
فلما أصبحنا رحلنا، و دخلنا المدينة، فحططت رحلي، و قلت للجارية: البسي ثيابك و قومي معي، و أنا و الله لا أطمع في ذلك، و لا أظن الرجل إلا عابثاً.
فقامت معي، فخرجت بها، و سألت عن الرجل، فدللت عليه، فإذا هو وكيل الوليد بن يزيد، فأتيته، فأوصلت إليه الكتاب.
فلما قرأه، وثب قائماً، و قبله، و وضعه على عينيه، و قال: السمع و الطاعة لأمير المؤمنين، و دعى بعشرة آلاف دينار، فسلمت إلي، و أنا لا أصدق أنها لي.
و قال لي: أقم، حتى أعلم أمير المؤمنين خبرك.
فقلت: حيث كنت، أنا ضيفك، و قد كان أمره لي بمنزل، و كان بخيلاً.
قال: و خرجت، فصادفت كراء، فقضيت حوائجي، في يومي و غدي، و رحلت رفقتي، و رحلت معهم.
و ذكرني صاحبي بعد أيام، فسأل عني، و أمر بطلبي، فعرف أن الرفقة قد ارتحلوا، و أنني قد ارتحلت معهم، فأمسك، فلم يذكرني إلا بعد شهر، قال لها و قد غنته صوتاً من صنعتي، لمن هذا؟ قالت: لدحمان.
قال: وددت و الله، أني قد رأيته و سمعت غناءه.
قالت: فقد و الله، رأيته، و سمعت غناءه.
قال: لا و الله، ما رأيته و لا سمعته.

فقالت له: و الله، قد رأيته و سمعت غناءه.
فغضب، و قال لها: أنا أحلف، و أنت تعارضيني، و تكذبيني؟ قالت: إن الرجل الذي اشتريتني منه، دحمان.
قال: ويحك، هلا أعلمتني.
قالت: إنه نهاني عن ذلك.
قال: و إنه لهو، أما و الله، لأجشمنه السفر.
ثم كتب إلى عامل المدينة، بحمله إليه، فحمله إليه، فلم يز أثيراً عنده .
من شعر إسحق الموصليو أنبئت عن أبي اليمن الكندي، و ابن طبرزد، و أبي أحمد بن سكينة، و غيرهم، عن أبي القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي، قال: أنبأنا أبو الخطاب عبد الملك بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن حمدان، قال: أنبأنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين الخالع ، قال: أنبأنا أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني .
و أنبأني أبو الفرج بن وريدة، عن أبي أحمد بن سكينة، و غيره، و أبو الفضل بن عساكر، وغيره، عن المؤيد بن محمد الطوسي.
و أنبئت عن أبي اليمن الكندي و غيره، كلهم عن محمد بن عبد الباقي الأنصاري ، عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج الأصبهاني، قال: أنبأنا محمد بن المرزبان ، قال: أنشدنا حماد بن إسحاق ، قال: أنشدني أبي: يعني إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلي:
يبقى الثناء و تذهب الأموال ... و لكل دهر دولة و رجال
ما نال محمدة الرجال و شكرهم ... إلا الجواد بماله المفضال
لا ترض من رجل طلاقة قوله ... حتى يصدق ما يقول فعال
فإذا وزنت مقاله بفعاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال
و إنك لتعلم ما نريدحدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، قال: حدثنا أبو المعالي الحسين بن حمزة بن الشعيري، قال: حدثنا أبو بكر الخطيب .
و بالإسناد المتقدم إلى الخطيب، قال: حدثنا علي بن أبي علي ، قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد المعدل ، قال: أنبأنا أبو بكر بن الأنباري ، قال: قال مصعب الزبيري : خرج سالم بن عبد الله متنزهاً إلى ناحية من نواحي المدينة، مع حرمه، و جواريه، و بلغ أشعب الخبر، فوافى الموضع الذي يلم به، يريد التطفيل ، فلما دق الباب، وجده مغلقاً، فتسور الحائط.
فقال له سالم: ويلك يا أشعب، معي بناتي، و حرمي.
فقال: لقد علمت، مالنا في بناتك من حق، و إنك لتعلم ما نريد .
فوجه إليه سالم من الطعام، ما أكل، و حمل إلى منزله .
الوارش و الواغلأخبرنا علي بن أبي علي المعدل قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: حدثنا عبيد الله بن احمد بن بكير التميمي ، قال: أخبرنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة ، قال: يقال للداخل على القوم، و هم يطعمون، و لم يدع: الوارش .
و للداخل على القوم و هم يشربون: الواغل .
الضيف و الضيفنأخبرنا علي بن أبي علي أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: أخبرنا ابن بكير ، قال: أخبرنا ابن قتيبة ، قال: الضيفن: الذي يجيء مع الضيف، و لم يدع .
لابن الزمكدم في أبي الفضائلأنشدني علي بن المحسن القاضي، لأبي علي سليمان بن الفتح الموصلي، المعروف بابن الزمكدم، يهجو أبا إسحاق بن حجر الأنطاكي، الملقب أبا الفضائل، و يرميه بالتطفيل:
مطفل أطفل من ذباب ... على طعام و على شراب
لقب طنزاً أشرف الألقاب
أدور بالموصل من دولاب ... يمر مر الريح و السحاب
ينزل تطفيلاً بباب باب ... نزول شيب لاح في شباب
يدخل بالحيلة في الأنقاب ... مكابراً ينساب كالحباب
لا يفرق الرد من البواب ... و إن له أغلظ في الخطاب
له انقضاض سورة العقاب ... على القلايا و على الجواذب
يحمل حملات أبي تراب ... في يوم صفين و في الأحزاب
بالجدي منه أثر الذئاب ... يمغثه مغثة ليث الغاب
بكفه و ظفره و الناب
فعامر الميدة في خراب ... و صاحب المنزل في عذاب
لسوء ما يأتي من الآداب قال علي بن المحسن: و قال فيه بهجوه:
طفيلي على فرس يدور ... يقدر عند من غلت القدور

بأوقات الموائد حين يؤتى ... بها للأكل علام خبير
له في الغيب اصطرلاب وحي ... بمائدة إذا وضعت نذير
فبطليموس في تحديد وقت ... إليه بغير ما غلط يشير
كأن على الموائد منه ليثاً ... على خيوانها حنقاً يزير
فرب الدار منه في حصار ... و من فيها بخدمته ضجور
يكنى بالفضائل و هو نقص ... على طنز بلحيته صبور
لأبي الحارث الموصلي في طاهر الهاشميأنشدني علي بن أبي علي البصري، عن أبيه، لأبي الحارث الموصلي، في طاهر الهاشمي، يهجوه بالتطفيل:
عمرو العلا ساد الورى ... بالجود و الفعل الحميد
هشم الثريد لقومه ... و الناس في ضر شديد
و هشمت أنت وجوه أه ... ل الأرض في طلب الثريد
فلوان قوماً يشتوو ... ن اللحم في جبلي زرود
لطرقتهم بضيائهم ... في نارهم ذات الوقود
و إذا سمعت بثردة ... ألفيت منها بالوصيد
وصف طفيليو أنشدني علي بن أبي علي ، أيضاً، عن أبيه ، لغيره:
أطفل من ليل على نهار ... كأنه في الدار رب الدار
لشاعر بصري في طفيليأخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: وجدت في كتاب جدي القاضي أبي القاسم علي بن محمد بن أبي الفهم ، حدثنا حرمي بن أبي العلاء ، قال: أنشدني إسحاق بن محمد بن أبان النخعي لبعض البصريين، في طفيلي:
يمشي إلى الدعوة مستذفراً ... مشي أبي الحارث ليث العرين
لم تر عيني آكلاً مثله ... يأكل باليسرى معاً و اليمين
تجول في القصعة أطرافه ... لعب أخي الشطرنج بالشاهبين
ليت الليل كان سرمداً
أخبرنا علي بن المحسن التنوخي. قال: وجدت في كتاب جدي ، حدثنا حرمي بن أبي العلاء . قال: حدثنا إسحاق بن محمد بن أبان النخعي ، قال: حدثني القحذمي ، قال: كان رقبة يقعد في المسجد، فإذا أمسى، بعث جلساؤه من جيران المسجد، فيأتي كل رجل منهم، من منزله، بطرفه ، فيأكل، ثم يقول: ليت الليل كان سرمداً ، إلى يوم القيامة .
لأبي الحسن الأسديأخبرنا علي بن أبي علي ، قال: أخبرنا إبراهيم بن أحمد بن محمد المقري، قال: أخبرنا المظفر بن يحيى ، قال: أنشدني أبو الحسن الأسدي لنفسه:
كنت يا سيدي على التطفيل ... أمس لولا مخافة التثقيل
و تذكرت دهشة القارع البا ... ب إذا ما أتى بغير رسول
و تخوفت أن أكون على القو ... م ثقيلاً فقدت كل ثقيل
لو تراني و قد وقفت أروي ... في دخول إليك أو في حلول
لرأيت العذراء حين تحايا ... و هي من شهوة على التعجيل
وصية طفيليحدثنا علي بن أبي علي البصري عن أبي عيد الله محمد بن عمران المرزباني ، قال: كان طفيل العرائس الذي ينسب إليه الطفيليون، يوصي ابنه عبد الحميد ابن طفيل، في علته، فيقول: إذا دخلت عرساً، فلا تتلفت تلفت المريب، و تخير المجالس، فإن كان العرس كثير الزحام، فمر، و انه، و لا تنظر في عيون أهل المرأة، و لا في عيون أهل الرجل، ليظن هؤلاء أنك من هؤلاء، و يظن هؤلاء أنك من هؤلاء. فإن كان البواب غليظاً وقاحاً، فابدأ به، و مره، و انهه، من غير أن تعنفه، و عليك بكلام بين النصيحة و الإدلال:
لا تجزعن من القري ... ب و لا من الرجل البعيد
و ادخل كأنك طابخ ... بيديك مغرفة الثريد
متدلياً فوق الطعام ... تدلي البازي الصيود
لتلف ما فوق الموا ... ئد كلها لفالفهود
و اطرح حياءك إنما ... وجه المطفل من حديد
لا تلتفت نحو البقو ... ل و لا لى غرف الثريد
حتى إذا جاء الطعا ... م ضربت فيه بالشديد
و عليك بالفالوذجا ... ت فإنها عين القصيد
هذا إذا حررتهم ... و دعوتهم هل من مزيد

و العرس لا يخلو من ال ... لموزيج الرطب العتيد
فإذا أتيت به محو ... ت محاسن الجام الجديد
ثم أغمي عليه ساعة، عند ذكر اللوزينج ، فلما أفاق رفع راسه، و قال:
و تنقلن على الموائ ... د فعل شيطان مريد
و إذا انتقلت عبثت بال ... كعك المجفف و القديد
يا رب أنت رزقتني ... هذا على رغم الحسود
و اعلم بأنك إن قبل ... ت نعمت يا عبد الحميد
طفيلي يصف نفسهأنشدني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، لطفيلي:
إن شكري لمنة التطفيل ... و أياديه منذ دهر طويل
كم تراني قد نلت من لذة العي ... ش بأسبابه و حظ جزيل
و تمتعت من طعام لذيذ ... و سماع فيه شفاء الغليل
فإذا ما عرفت مجتمع الإ ... وان في بيت صاحب أو خليل
كان إتيانه صواباً على الإن ... س و لم أجتنب كفعل الثقيل
و جعلت السعي السبيل إلى ذا ... ك و لم أنتظر مجيء الرسول
فأبن لي أين اجتماعكم اليو ... م إلى ذي سماحة أو بخيل؟
فلعلي أكون لا أعرف الدا ... ر فأحتال في حضور الدليل
بنان الطفيلي يحفظ آية واحدةو بيتاً واحداً من الشعر أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى الهمذاني، و أبو القاسم عبيد الله بن عبد العزيز البردغي و علي بن أبي علي البصري ، قالوا: أخبرنا محمد بن عبيد الله بن شخير الصيرفي ، قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن علي المقرئ ، قال: سأل أبي بناناً ، و أنا أسمع: أتحفظ من كتاب الله شيئاً؟ قال: نعم، آية واحدة قال: ما هي؟ قال: قال موسى لفتاه آتنا غداءنا .
قال له: أتحفظ من الشعر شيئاً؟ قال: نعم، بيتاً واحداً.
قال: ما هو؟ قال:
نزوركم لا نكافيكم بجفوتكم ... إن المحب إذا ما لم يزر زاراً
الأكل مع الإخوان لا يضرأخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى، و عبيد الله بن عبد العزيز، و علي بن أبي علي، قالوا: حدثنا محمد بن عبيد الله بن الشخير، قال حدثنا حمد بن الحسن بن علي المقرئ، قال: سمعت بناناً يقول: حدثني عباس الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: الأكل مع الإخوان لا يضر .
نسخة عهد في التطفيلحدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي، قال: كان في نقباء الأمير بختيار، المعروف بعز الدولة ، رجل يسمى عليكاً، و كان كثير التطفيل على جميع أهل العسكر من الحجاب، و القواد و الكتاب، و وجوه الخاصة، و الغلمان.
و شاع له ذلك عند بختيار، فرسم له أن يستخلف على التطفيل خليفة. و تقدم إلى أبي إسحاق، إبراهيم بن هلال الصابي، الكاتب ، أن يكتب بذلك عهداً، لابن عرس الموصلي، عن عليكا، و أن يجعله خليفته على التطفيل.
فكتب له على طريق الهزل، عهداً، قرأه أبو إسحاق علينا، فكانت نسخته: هذا ما عهد علي بن أحمد، المعروف بعليكا، إلى علي بن عرس الموصلي، حين استخلفه على إحياء سنته، و استنابه في حفظ رسومه من التطفيل، على أهل مدينة السلام، و ما يتصل بها من أكنافها، و يجري معها من سوادها و أطرافها، لما توسمه فيه، من قلة الحياء، و شدة اللقاء، و كثرة اللقم، و جودة الهضم، و رآه أهلاً له من سده مكانه في هذه الرفاهية المهملة التي فطن لها، و الرفاعية المطرحة التي اهتدى إليها، و النعم العائدة على لابسيها، بملاذ الطعوم، و مناعم الجسوم، متورداً على من اتسعت مواد ماله، و تفرعت شعب حاله، و أقدره الله على غرائب المأكولات، و أظفره ببدائع الطيبات، آخذاً من كل ذلك بنصيب الشريك المناصف، و ضارباً فيهم بسهم الخليط المفاوض، و مستعملاً للمدخل اللطيف عليه، و المتولج العجيب إليه، و الأسباب التي ستشرح في مواضعها من هذا الكتاب، و تستوفي الدلالة على ما فيها من رشاد و صواب، و بالله التوفيق، و عليه التعديل، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

أمره بتقوى الله التي هي الجانب العزيز، و الحرز الحريز، و الركن المنيع، و الطود الرفيع، و العصمة الكالئة، و الجنة الواقية، و الزاد النافع، يوم المعاد، حين لا ينفع إلا مثله من الأزواد، و أن يستشعر خيفته، في سره و جهره، و مراقبته في قوله و فعله، و يجعل رضاه مطلبه، و ثوابه ملبسه، و القرب نه أربه، و الزلفى لديه غرضه، و لا يخالفه في مسعاة قدم، و لا يتعرض عنده لعاقبة ندم.
و أمره بأن يأمل اسم التطفيل و معناه، و يعرف مغزاه و منحاه، و يتصفحه تصفح الباحث عن حظه بمجهوده، غير القائل فيه بتسليمه و تقليده، فإن كثيراً من الناس قد استقبحه ممن فعله، و كرهه لمن استعمله، و نسبه فيه إلى الشره و النهم، فمنهم من غلط في استدلاله، فأساء في مقاله، و منهم من شح على ماله، فدافع عنه باحتياله، و كلا الفريقين مذموم، لا بتعريان من لباس فاضح، و منهم الطائفة التي لا ترى شركة العنان، فهي تبذله إذا كان لها، و تتدلى عليه إذا كان لغيرها، و ترى أن المنة من المطعم، للهاجم الآكل، و في المشرب، للوارد الواغل، و هي أحق بالحرية، و أخلق بالخيرية، و أحرى بالمروءة، و أولى بالفتوة.
و قد عرفت بالتطفيل، و لا عار فيه، عند ذوي التحصيل، لأنه مشتق من الطفل، و هو وقت المساء، و أوان العشاء، و إن كثر استعماله في صدر النهار و عجزه، و أوله و آخره، كما قيل للشمس و القمر، القمران، و أحدهما القمر، و لأبي بكر و عمر، العمران، و أحدهما عمر.
و أمره أن يتعهد موائد الكبراء و العظماء بقراياه، و سمط الأمراء و الوزراء بسراياه، فإنه يظفر منها بالغنيمة الباردة، و يصل عليها إلى الغريبة النادرة، و إذا استقرأها، وجد فيها من طرائف الألوان، الملذة للسان، بدائع الطعوم، السائغة في الحلقوم، ما لا يجد عند غيرهم، و لا يناله إلا لديهم.
و أمره أن يتتبع ما يعرض لوسري التجار، و مجهزي الأمصار، من وكيرة الدرا و العرس و الأعذار فإنهم يوسعون على أنفسهم في النوائب، بحسب تضييقهم عليها في الراتب.
و أمره أن يصادق قهارمة الدور و مدبريها، و يرافق وكلاء المطابخ و حماليها، فإنهم ملكون من أصحابهم، أزمة مطاعمهم، و مشاربهم، و يضعونها بحيث يحبون من أهل موداتهم، و معارفهم، و إذا عدت هذه الطائفة أحداً من الناس من خلانها، و اتخذته أخاً من إخوانها، سعد بمرافقتها، و حظي بمصادقتها، و وصل إلى محابه من جهاتها، و مآربه في جنباتها.
و أمره أن يتعهد أسواق المتسوقين، و مواسم المتبايعين، فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها، و أطعمة قد احتشد مشتريها، اتبعها إلى المقصد بها، و شيعها إلى المنازل الحاوية لها، و استعلم ميقات الدعوة، و من يحضرها من أهل اليسار و المروءة، فإنهم لا يخلو فيهم من عارف به يراعي وقت مصيره إليها ليتبعه، و يكمن له و يصحبه، و يدخل معه، و إن خلا من ذلك، اختلط بزمر الداخلين، فما هو إلا أن يتجاوز عتب الأبواب، و يخرج من سلطان البوابين و الحجاب، حتى يحصل محصلاً، قلما حصله أحد قبله فانصرف عنه، إلا ضلعاً من الطعام، نزيفاً من المدام.
و أمره أن ينصب الأرصاد على منازل المغنيات و المغنين، و مواطن الإبليات و المخنثين ، فإذا أتاه خبر لمجمع يضمهم، أو مأدبة تعمهم، ضرب إليها أعقاب إبله، و انضى حولها مطايا خيله، و حمل عليها حملة الحوت المتقم، و الثعبان الملتهم، و الليث الهاجر، و العقاب الكاسر.
و أمره أن يجتنب مجامع العوام المقلين، و محافل الرعاع المقترين، و أن لا ينقل إليها قدماً، و لا يفض لمأكلها فماً، و لا يلقي في عتب دورها كيساناً ، و لا يعد الرجل منها إنساناً، فإنها عصابة تجتمع لها ضيق النفوس و الأحوال، و قلة الأحلام و الأموال، و في التطفيل عليها إجحاف بها يؤثم، و إرزاء بمروءة المطفل، و التجنب لها أجدى، و الازورار عنها أرجى.
و أمره أن يحزر الخوان إذا وضع، و الطعام إذا نقل، حتى يعرف بالحدس و التقريب، و البحث و التنقيب، عدد الألوان، في الكثرة و القلة، و افتنانها في الطيب و اللذة، فيقدر لنفسه أن يشبع مع آخرها، و ينتهي عند انتهائها، و لا يفوته النصيب من كثيرها و قليلها، و لا يخطئه الحظ من دقيقها و جليلها.
و متى أحس بقلة الطعام، و عجزه عن الإقدام، أمعن في أوله، إمعان لكيس في سعيه، الرشيد في أمره، المالئ لبطنه، من كل حار و بارد.

فإذا فعل ذلك، سلم من عواقب الأغمار، الذين يكفون تظرفاً، و يقلون تأدباً، و يظنون أن المادة تبلغهم إلى آخر أمرهم، و تنتهي بهم إلى غاية شبعهم، فلا يلبثون أن يخجلوا خجلة الوامق، و ينقلبوا بحسرة الخائب، أعاذنا الله من مثل مقامهم، و عصمنا من شقاء جدودهم.
و أمره أن يروض نفسه، و بغالط حسه، و يضرب عن كثير مما يلحقه صفحاً، و يطوي دونه كشحاً، و يستحسن الصمم عن الفحشاء، و يغمض عن اللفظة الخشناء، و إن أتته اللكزة في حلقه، صبر عليها في الوصول إلى حقه، و إن وقعت به الصفعة في رأسه، أغضى عنها لمراتع أضراسه، و إن لقيه ملاق بالجفاء، قابله باللطف و الصفاء، إذ كان إذا ولج الأبواب، و خالط الأسباب، و جلس مع الحضور، و امتزج بالجمهور، فلا بد أن يلقاه المنكر لأمره، و يمر به السمتغرب لوجهه، فإن كان حراً حيياً، أمسك و تذمم، و إن كان فظاً غليظاً، همهم و تكلم، و أ، يجتنب عند ذلك المخاشنة، و يستعمل مع المخاطب له الملاينة، ليرد عليه فعرف، و أنست النفوس به فألف، و نال في الحال المجتمع عليها، منال من جشم و سيل العنا إليها.
و لقد بلغنا أن رجلاً من هذه العصابة، كان ذا فهم و دراية، و عقل و حصافة، فل على وليمة رجل ذي حال عظيمة، فرمقته فيها من القوم العيون، و تصرفت بهم فيه الظنون، فقال له قائل منهم. من تكون أعزك الله؟ فقال: أنا أول من دعي إلى هذا الحق.
قيل: و كيف ذاك؟ و نحن لا نعرفك.
فقال: إذا رأيت صاحب الدار، عرفني، و عرفته بنفسي.
فجيء به، فلما رآه بدأه بالسلام، بأن قال له: هل قلت أيدك الله لطباخك، أن يصنع طعامك، زائداً على عدد الحاضرين، و مقدار حاجة المدعوين؟ فقال: نعم.
فقال: فإن تلك الزيادة لي، و لأمثالي، و بها تستظهر، لمن جرى مجراي، و هي رزق أنزله الله على يدك، و سببه من جهتك.
فقال: مرحباً بك، و أهلاً، و قرباً، و الله، لا جلست إلا مع علية الناس، و وجوه الجلساء، إذ قد ظرفت في قولك، و تفننت في فعلك.
فليكن ذلك الرجل، لنا إماماً نقتدي به، و حاذياً نحذو على مثاله، إن شاء الله. و أمره أن يكثر من تعاهد الجوارشنات المنفذة للسدة، المقوية للمعدة، المشهية للطعام، المسهلة لسبيل الانهضام، فإنها عماد أمره و قوامه، و بها انتظامه و التئامه، لأنها تعين على عمل الدعوتين، و تنهض في اليوم الواحد بالأكلتين، و هو في تناولها، كالكاتب الذي يقط أقلامه، و الجندي الذي يصقل حسامه، و الصانع الذي يجدد آلاته، و الماهر الذي يصلح أدواته.
هذا عهد علي بن أحمد، المعروف بعليكا، إليك، و حجته عليك، لم يألك في ذلك إرشاداً و توفيقاً، و تهذيباً و نثقيفاً، و نعتاً و تبصيراً، و حثاً و تذكيراً، فكن بأوامره مؤتمراً، و بزواجره مزدجراً، و لرسومه متبعاً، و بحفظها مضطلعاً إن شاء الله .
و السلام عليك و رحمة الله و بركاته.
لا تتركن الدهر يظلمنيقال أبو علي : حضرت أبا محمد في وزارته، و قد دفع إليه شاعر، رقعة صغيرة، فقرأها و ضحك، و أمر له بألف درهم.
و طرح الرقعة، فقرأتها، و إذا فيها:
يا من إليه النفع و الضر ... قد مس حال عبيدك الضر
لا تتركن الدهر يظلمني ... ما دام يقبل قولك الدهر
مصادرة من أعظم المصادراتقال التنوخي: من أعظم المصادرات، مصادرة معز الدولة لأبي علي الحسن بن محمد الطبري ، صادره على خمسمائة ألف دينار.
فلما مات الصيمري طمع في الوزارة، و بذل فيها مالاً عظيماً، قدم منه أول نوبة ثلثمائة ألف دينار ، فلما ثبت عليه خروجها، أخذها منه، و قلد المهلبي .
معز الدولة ينفذ وزيره المهلبي إلى عمانو روي أيضاً عن التنوخي، قال: قال المهلبي : لما عزم معز الدولة ، على إنفاذي إلى عمان، طرقني أمر عظيم، فبت ليلة، ما بت في عمري مثلها، لا في فقري، و لا في صغر حالي.
و ما زلت أطلب شيئاً أتسلى بع عما دهمني، فلم أجد.
إلا أنني ذكرت، أني حصلت أيام صباي بسيراف ، لما خرجت إليها هارباً، فعرفت هناك قوماً، أولوني جميلاً، و حصلت لهم علي أياد، ففكرت، و قلت: لعلي إذا قصدت تلك البلدان، أجدهم، أو بعضهم، أو أعقابهم، فأكافيهم على تلك الأيادي.
فلما ذكرت هذا تسليت عن المصيبة بالخروج، و سهل علي، و وطنت نفسي عليه .
أتتك بحائن رجلاهحدث أبو علي، المحسن بن علي التنوخي، في نشوار المحاضرة، قال: حدثني أبو القاسم الجهني ، قال: حدثنا أبو محمد بن حمدون ، قال: أمر المعتضد بالله ، في علته التي مات فيها، و قبل موته بأيام يسيرة ، بأن يصنع له سم يقتل جماعة ممن كان في الحبس، لم يجب قتلهم قتلة ظاهرة، لسياسة رآها.
و فعل ذلك، و جيء بالسم إلى حضرته، فأراد تجربته قبل أن يقتل به من أراد قاله، فطرح في كرنبية ، و أحضرت في طيفورية ، و هو مفكر فيمن يطعمه منها، و على من يجرب السم الذي فيها، إذ دخل محمد بن أحمد، نفاطه، و ابن أبي عصمة، فقيل لهما: إن الخليفة يريد أن يأكل من ذلك اللون، و هو محجم عنه للحمية.
فقالا: ما أحسن هذه الكرنبية، فلو أكل منها مولانا لقمة، رجونا أنها لا تضره، و تجاوزوا ذلك، إلى أن أكلا منها لقماً، كأنهما قصدا استنهاض شهوته، و تحريكها بأكلها، فلم يمكنه أن ينهاهما لئلا يخرج السر، و أمسك عنهما، و مضيا إلى منازلهما فماتا من يومهما.
و بلغ الخليفة خبرهما نم الغد، و قد اشتدت علته، فعلم صحة السم، و امسك لسانه أن يأمر في معنى من أراد أن يأمر في معناه، بإطعامه من ذلك السم الذي عمل له.
و مات المعتضد بعد ذلك بثلاثة أيام، و مضى أولئك بالعرض، و سيء الاتفاق، و سوء المقدار، و كأنه عمل لهما، لا لغيرهما، و سلم من عمل له، و قصد به، و نجا.
رب عيش أخف منه الحمامو حدث القاضي أبو علي التنوخي، قال: حدثني علم، قهرمانة المستكفي بالله، الشيرازية ، حماة أبي أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي ، قالت: كان المستكفي ، لما أفضي إليه الأمر، يوصيني بتفقد القاهر بالله ، بنفسي و أن لا أعول على أحد في ذلك، و يكرمه، و يبره، و يحسن إليه.
و كان قد اختل عقله، لسوداء لحقته، و يخرق ما يلبسه من الثياب، و قلما يبقى عليه منها قميص أو جبة، و ينتف شعر لحيته و بدنه، و ربما صاح و ضج ثم يثبت إليه عقله.
قالت: فراسلني في بعض أيام إفاقته المستكفي، يأمرني أن أستعرض شهواته، و حاجاته، فسألني تمكينه من جواريه، فعرفته ذلك، فأمرني بحملهن إليه، و أدخلت إليه جماعة منهن.
ثم استدعي بعد ذلك مرة، أن تدخل إليه ابنته، ففعلت، فقبض عليها يوماً، و افتضها.
و بلغ المستكفي ذلك، فأعظمه، و هاله، و أمر أن يفرق بينهما، و لا يمكن أن يدخل إليه غير جواريه.
يا حبيباً نأى عليك السلام
و حدث : قال: حدثني أبو أحمد الحارثي ، قال: كنت أعاشر بهمذان ، بعض كتاب الديلم ، و حسبك وصفاً بجهل، أن أقول: من كتاب الديلم.
و كان يتحلى مغنية، فسمعها تغني يوماً:
يا حبيباً نأى عليك السلام ... فرقت بين وصلنا الأيام
فاستطابه، فلما أراد أن يستعيده، قال: يا ستي، غني ذاك الصوت الذي أوله:
يا حبيب الله عليك السلام
فقالت: هذا صياح الحراس، أظنك أردت:
يا حبيباً نأى عليك السلام
قال: نعم، هو هو، شدي لي في ذنبه علامة، أي وقت أردته، أخرجته.
و الله الذي لا إله إلا هوقال : و سمعته يحلف، فيقول: و الله الذي لا إله إلا هو، أعني به الطلاق و العتاق .
حديقة حيوانقال : و كتب مرة بحضرتي، تذكرة بأضاحي يريد تفرقتها في دار صاحبه، و قد قرب عيد الأضحى: القائد ثور، و امرأته بقرة، ابنه كبش، بنيه نعجة، الكاتب تيس.
قال: فقلت له: الروح الأمين ألقى هذا عليك؟ فلم يدر ما أردت .
كاتب ديلمي يستهدي نبيذاً
قال : و حدثني أبو أحمد الحارثي أيضاً، قال: حضرت هذا الكاتب، و هو يشرب، و قد قل نبيذه، فكتب إلى صديق له، رقعة، يطلب منه نبيذاً، ما رأيت أطرف منها.
فقلت له: يا سيدي، قد رأيت كتاب بغداد، و طوفت الآفاق، ما رأيت أحسن من هذه الرقعة، فأحب أن تأذن لي في نسخها.
فقال: يا با، و نحن اليوم أيش بقي مما نحسنه؟ قد نسيناه كله مع هذا القائد، اسنخها، و أعجبه ذاك، و كانت:

كتبت هذه الكلمات، يا سيدي، وزري، أعني به قميصي، و من هو فاضلي و مولاي، و أنا عبده، و متصنع له، أطال الله بقاءه، من منزلك الذي أنا ساكنه، و قد نفضت الدم، من قفاك المرسوم بي، و ليس و حق رأسك الذي أحبه عندي من نبيذك الذي تشربه شيء، فبحياتي العزيزة عليك، إن كان عندك من نبيذ أشربه، فوجه إلي منه، بما عسى ألا يسهل على يدي غير هذا الرسول فإنه ثقة، أوثق مني و منك، و إن أردت أن لا تختمه، فلا تفعل، فإن الصورة لا توجب إلا ذاك، فعلت، إن شاء الله.
كاتب لا يحسن القراءة و الكتابةقال : و كنت يوماً عنده، فجاءه صديق له من كتاب الديلم مجروحاً، فقال له: ما لك؟ قال: جاء إلى الأمير اليوم، كتاب من وكيله في إقطاعه، فرمى به إليّ، و قال: اقرأه.
و كنت قبل ذلك، إذا جاءه كتاب، أخرج إلى المعلم، حتى يقرأه عليّ و أحفظه، و أدخل، فاقرؤه عليه، فلم أقدر اليوم أن أخرج من بين يديه.
فقلت له باكياً: أنا لو كنت أحسن أقرأ و أكتب، كنت أكون كاتب الأمير على بن بويه .
فرماني بالزوبين ، فجرحني .
قائد ديلمي يمتدح كاتبهقال : و بلغني عن بعض قواد الديلم، أنه قال: كاتبي أحذق الناس بأمر الدواب، و الضياع، و شراء الأمتعة و الحوائج، و ما له عيب، إلا أنه لا يقرأ، و لا يكتب .
عامل الجامدة لا يعطي على المدح شيئاً
قال : حدثني محمد بن عبد الله التميمي، قال: حدثني الهمذاني الشاعر، قال: انحدرت أريد الجامدة ، و كان في الوقت يليها الهيثم بن محمد العامل، فمدحته.
فقال لي: لست ممن يعطي على المدح شيئاً، فلو هجوتني لكان أجدى عليك.
قال: فأردت النهوض من ملسه، فلما رأى ذلك، قال: اجلس، فجلست.
و جيء بمائدة لم أر مثلها من كل شيء حسن، طيب، شهي، لذيذ، فأقعدني ناحية، و جعل يأكل، و يقول: لو هجوتني، لأكلت معي. و كلما مر لون، وصفه، و نعته، و شهانيه، و حسرني عليه، و أرانيه، و منعنيه، و الروائح تقتلني، و المشاهدة تحسرني.
إلى أن فرغ من الطعام، و جيء بالحلوى، و كانت الصورة فيها مثلها في الطعام.
ثم جيء بغسول ، من ذراري عجيبة طيبة، فغسل يده بها، و هو يقول: لو هجوتني لأكلت مما أكلت، و تحليت مما تحليت به، و غسلت يدك من هذا.
ثم أحضر الشراب، و عبىء بحضرته مجلس ما ظننت أن مثله يكون إلا في الجنة حسناً، بأصناف الفاكهة، وألوان الرياحين، و الطيب، و الكافور، و التماثيل ، و الشمامات ، و المطبوخ القطربلي، و النبيذ من الزبيب و العسل .
و هو يقول: لو هجوتني لشربت من هذا، و حييت من هذا، و تنقلت من هذا، قم الآن و كل مما تستحقه بمدحي.
فقمت، و جاءوني بطبق وسخ، عليه أرغفة سود، و قطعة مالح، ومرق سكباج أحمض من الفراق، و قليل تمر.
فأكلت لفرط الجوع، و جاءوني بأشنان أخضر، لم ينق يدي، و جئت فجلست عنده.
فقال: اجعلوا بين يديه من الشراب، مثل ما يستحق من مدحني.
فجاءوني بقنينة زجاج أخضر غليظ وحش، و قدح مثلها، و سخين وحشين، و في القنينية نبيذ دوشاب طري، و باقلاً مملوح، و باقة ريحان.
فشربت أقداحاً، و هممت بهجائه، و أنا أمتنع، خوفاً من أن يكون ذلك يصعب عليه، و إنما يمازحني بما يقوله لي، و أنا أفكر في ذاك، إذ أخرج خمسين ديناراً.
فقلت: إن كان و لا بد، فاكتب، و قلت:
جاءت بهيثم أمه ... من بغيها و زنائها
فرمى إليّ ديناراً، فقلت:
جاءت به من نتنه ... لا شك يوم خرائها
يا هيثم بن محمد ... يا ابن التي لشقائها
فقال: ما صنعت شيئاً.
قلت: انتظر.
قال: هات.
فقلت:
أمست تناك بكسرة ... و كذاك مهر نسائها
فرمى إلي بقية الدنانير، و قال: حسبك، ما أريد أجود من هذا، و لا أكثر، هاتوا له مما أكلت.
فقدم لي من جميع ما كان على المائدة، فأكلت، و قدم لي من الشراب الذي بين يديه، و التحايا و الأنقال ، فلما أراد القيام، أمر لي بجائزة و خلعة.
فأخذتها و انصرفت من عند أحمق الناس و أجهلهم على الإطلاق.
كاتب بأنطاكية يعزله حمقهحدث القاضي أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو القاسم أبي ، قال: حدثني أبي ، عن الحسين بن السميدع الأنطاكي، قال: كان عندنا بأنطاكية، عامل من قبل أمير حلب، و كان له كاتب أحمق.
===============ج77777777777-----------------



كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

فغرق في البحر شلنديان من مراكب المسلمين التي يقصدون فيها الروم، فكتب الكاتب عن صاحبه، إلى الأمير بحلب: بسم الله الرحمن الرحيم، أعلم الأمير أعزه الله، أن شلنديين، أعني مركبين، صفقاً، أي غرقاً، من خب البحر، أي من شدة موجه، فهلك من فيهما، أي تلفوا.
فأجابه صاحب حلب: ورد كتابك، أي وصل، و فهمناه، أي قرأناه، فأدب كاتبك، أي اصفعه، و استبدل به، أي اصرفه، فإنه مائق، أي أحمق، و السلام، أي قد انقضى الكتاب.
حماقة متمكنة و رقاعة متبينةكان أبو العباس سهل بن بشر ، من ارتفعت في الدولة الديلمية رتبته، و علت درجته و منزلته، و ضمن واسط و الأهواز، على حماقة متمكنة، و رقاعة متبينة.
و كان دأبه تغليط الكتاب، و الرد عليهم، و تغيير كتبهم التي ينشؤونها عنه، و عكس حساباتهم التي يرفعونها إليه، و يعرضونها عليه، بالمحال الفاسد، و المستحيل الباطل.
و لقد قال يوماً لأحدهم: ويلك، لم يجب أن تفصل في هذا الموضع، هذا التفصيل الواسع، كان يجب أن يكون بقدر ما تسلكه نملة، و قد جعلته بحيث تسلكه حية، أيش حية بل شاة، أيش شاة بل دابة، أيش دابة، بل جمل، أيش جمل بل فيل، أيش فيل بل كركدن، ثم خرق الكتاب و رمى به.
و حكى القاضي أبو علي التنوخي، قال: رأيته عدة دفعات، لا أحصيها كثرة، يلس في مجلس العمل، فإذا كثر عليه الشغل، و ضاق به صدره، و غلبت عليه سوداؤه، تركه مفكراً، ثم أخذ الدرج الذي بين يديه، و خرق منه، و فتله، و تخلل به، و أخرجه من فيه، و شمه، ثم رمى به حيث وقع من حجور الناس، أو وجوههم، أو لحاهم، أو عمائمهم.
فاتفق في بعض الأيام، أن وقع من ذلك واحدة في لحية أحمد بن عمر الطالقاني الكاتب، فصوت من فيه، كصوت البوق.
فتنبه سهل بن بشر من غفلته، و قال: ما هذا؟ و شتمه أفحش شتم، و سبه أقبح سب.
فقال له: نصب سيدنا الأستاذ في لحيتي هذا المطرد ، فظننت أنه يريد الخروج إلى بعض الأسفار، فضربت بالبوق ليعلم ذلك، فيصحبه من يريد أن يصحبه، و يسير معه.
فضحك منه الحاضرون .
حديد شفيه شتامو قال القاضي : كان سهل حديداً، سفيهاً، شتاماً للغلمان، و لم يكن يصبر على خدمته أحد.
و شتم يوماً بعض الفراشين، فتداخلت الفراش حمية الإسلام، و دخل بقربته إلى حجرة خالية، بعيدة عن الدار الكبيرة التي فيها الغلمان، ليرش خيشاً فيها، و قام سهل وراءه، يتبعه و يشتمه.
و رأى الفراش خلو الموضع من غيرهما، فصفعه بالقربة، إلى أن قطعها على قفاه جميعها.
و وقع سهل مغشياً عليه، فداس بطنه، و لكم جنوبه، فلما شفى نفسه منه، تركه يتخبط، و خرج، فأخذ ما كان له في خزانة الفراشين و انصرف.
و بعد ساعة لما ظهر على سهل، و عرف ما جرى عليه، طلب الفراش بأصحاب الشرط، و المراكز، و الجوازات، فلم يوقف له على خبر.
اشتفيت و اللهو شتم يوماً فراشاً آخر، فرد عليه، فنهض إليه، و عدا من بين يديه، فقال له: بحق محمد نبيك، قف لي حتى ألحقك.
فقال له: بحق عيسى ربك، ارجع عني و اتركني.
و ما زالا يعدوان، حوالي البستان، و عثر الفراش، فوقعت عمامته، فأخذها سهل، و ما زال يعضها و يخرقها و يقول: اشتفيت و الله.
ثم رجع فجلس في مكانه .
سهل بن بشر يشتم ذوي الحاجاتقال القاضي : و اجتمع النصارى بجند يسابور إلى مطرانهم، و شكوا ما يجري من سهل عليهم من السب و الشتم، و القذف و الصفع، و إنهم لا يأمنون نفرة من المسلمين عليهم لأجله، و فتكة بهم بسببه.
فقال لهم: أنا أكفيكم ذلك، في يوم الأحد عند حضوره في البيعة.
و فعل المطران ذلك، و استقصى الخطاب له فيه.
فقال له: أنت، يا أبونا، أحمق، إنما أخاطب الناس، بما أخاطبهم به، عن القائد، لا عنيّ، فإن لساني مستعار منه، و مستأجر لهذا و غيره.
فلعنه المطران، و انصرف سهل.
و أراد أن يشتم رجلاً، فقال له: اسمع يا هذا، قد وعظني المطران، و أنا رجل مستأجر مع هذا القائد، و لا بد لي من أن أمتثل أمره، و أؤدي عنه ما يقوله.
و قد قال لك: يا زوج كذا و كذا، و يا ابن كذا، و يا أخو كذا، و شتمه و سبه، لم فعلت كذا؟ و ذكر له ما أراد موافقته عليه.
و بقي يقول ذلك مدة، ثم قال: هذا طويل، حر أم المطران، و رجع إلى ما كان أولاً عليه.
صدقت، صدقت

و قال القاضي : كنت عنده يوماً، و نحن خاليان، فجاءه الدواتي بكتاب، فقرأه و طواه، و كتب عليه: لأبي فلان، فلان بن فلان، من ... ووقف، ثم قال لي: ممن؟ فقلت: إما منك، أو من الأمير.
فقال: صدقت، صدقت، و كتب .
نعب الغراب، فصفع البوابقال القاضي : و حدثني عبيد الله بن محمد الصروي الشاعر ، و كان منقطعاً إلى سهل، قال: رأيته يوماً، و قد سقط غراب، على حائط صحن داره، فنعب، فتطير من صياحه، و أمر بصفع البواب، لم مكن الغراب من دخول الدار ؟
هاشمي متخلف يراسل وكيلهو حدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي، قال: رأيت عند القاضي أبي بكر بن قريعة ، في سنة إحدى و ستين و ثلثمائة شيخاً يعرف بابن سكران، يتوكل له في ضياعه و ضماناته ببادوريا .
فقلت له: من يكون منك ابن سكران الذي كان يتوكل للحسن بن عبد العزيز الهاشمي، في ضيعته، و يكتب إليه كتباً طريفة مضحكة؟ فقال: أنا هو.
و سمناه أن يقرأ علينا شيئاً من ذاك، و كان يقال عنه، إنه يحفظه، فامتنع.
و لم أزل و القاضي أبو بكر به، إلى أن أملي عليّ كتابين من لفظه، على ما بهما من الخطإ و النقصان في الهجاء.
فكان أولهما، و عنوانه: من الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، أبو لمة يريد أبو الأئمة، لأن أولاده كانوا أئمة في الجوامع إلى وكيله و خادمه، أبو القاسم سكران، و لولا أنه يقول، أنه خادمه، قلنا أنه منهم، و مضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم، يا ابن سكران، قد أعجبتك نفسك، صبغوني في عينك، أنت تعرفني إذا حردت، فكيف إذا غضبت، ها ها ، كدت أفعل، كنت إذا أردت أن تعمل شيء، تكتب إليّ، و تستأذنني، و تشاورني، و صرت تأمر و تنهي لنفسك، و الله لأقطعن يد الآخر ، و رجليك، و لأضعنك في أضيق الحبوس.
أنا مع أمير المؤمنين، ابن عمي أعزه الله، و قد خرج، صلى بنا الجمعة، في جوف عيني، و عيني في جوف فمه، لا ينظر إلى غيري، ترى لا أقدر أنتصف منك، و الذثي يبقى لي ابني أبو بكر و عمر، و عثمان، هاه، من هونا يحردون الروافض، عليك و عليهم لعنة الله، يا ماص بظر أمه، إن كنت منهم، و إن لم تكون منهم، فلا شيء عليك.
و ليس أنت كما ذكرت طويتك، ما دامت لك هذه العين تدور، و هذه الشعرة تعيش، و الذي يعطيني في الآخرة أضعاف ما أعطاني في الدنيا، منه أسأل إن شاء الله.
الجزير الذي أوصل كتابك، قد أطعمته البارحة مما أكلت، خبز و شواء، و كل خير، و ما رزق الله، فسله حتى يقل لك.
البارحة، و حياتك يا أبا القاسم، ذكرتك و قد شربت ماءً بارداً بثلج كثير، فقريت عليك، و عوذتك، و دعوت لك، و لوالدي، و لجميع المسلمين.
و قلت: ترى، ذاك وكيلي ابن سكران الميشوم، أيش خبره، في هذه الشمس الحارة و نصف النهار؟ و ما أبالي معك بولد و لا تلد و لا أحد، فاحمل إلي الخراج، صح ، و صنان الباذنجان ، و خيار، و بطيخ، و كل ما في القرية، و الحملين الذي طلبتهم منك، احملهم إلى في شعبان، قبل رمضان، سمان، سمان، واحد كبير نطبخه، و آخر صغير نشويه.
أسمعت يا أبا القاسم أعزك الله و فهمت؟ أعزك الله يا أبا القاسم، و أطال بقاءك، و أكرمك و أتم عليك، و صلى الله على محمد النبي و آله، و على أصحابه، قول آمين.
و عنوان الآخر: من الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، الإمام في الرصافة، و ابنه أبو بكر الإمام في دار الخلافة، و ابنه الآخر عمر الإمام بمصر و الحرمين، و ابنه عثمان يكون الإمام في مدينة المنصور، و ابنه علي يكون الإمام في باقي الدنيا إن شاء الله.
إلى وكيله ابن سكران.
و باطنه: بسم الله الرحمن الرحيم، تحضر الجبابرة بني دينار، و الأطروش خاطر، و ابن كيلوه، لعنهم الله، فإنهم كلاب أحاط الله أكره، بل زط، حتى ننظر أيش يعملون.
فقد و الله محمود أردت أن أضرب القريتين بالنار، و لكن الله سلمكم، فانظروا كيف تكونون.
و قولوا: أمر سيدنا و سيدكم، أبو علي الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، ابن عم النبي صلوات الله عليه و على أزواجه أمهات المؤمنين، بشرى من هم نحن منهم، و قد تقدم سيدنا أبو علي بإحضاركم، فتكون أعينكم بين أيديكم. و السلام.
عار على آدمقال أبو القاسم التنوخي:

جلس إبراهيم بن لنكك في جاتمع البصرة، فجلس إليه قوم من العامة، فاعترضوا كلامه بما غاظه، فأخذ محبرة بعض الحاضرين، و كتب من شعره:
و عصبة لما توسطتهم ... ضاقت عليّ الأرض كالخاتم
كأنهم من بعد أفهامهم ... لم يخرجوا بعد إلى العالم
يضحك إبليس سروراً بهم ... لأنهم عار على آدم
كأنني بينهم جالس ... من سوء شاهدت في مأتم
فاعترضه ولده و قال: يا أبت، أبياتك متناقضة، و لكن اسمع ما عملت:
لا تصلح الدنيا و لا تستوي ... إلا بكم يا بقر العالم
من قال للحرث خلقتم فلم ... يكذب عليكم لا و لم يأثم
ما أنتم عار على آدم ... لأنكم غير بني آدم
سيد العرب ابن أبي دؤادحدث القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي عن أبيه بما جاء في كتابه، قال: حدثني الصولي ، قال: حدثني محمد بن القاسم بن خلاد ، قال: رفع بعض العمال إلى المعتصم ، و كان قد تولى من الخراج و الحرب، ما كان يتولاه خالد بن يزيد بن مزيد ، بأن خالداً اقتطع الأموال و احتجن بعضها، فغضب المعتصم، و حلف ليأخذن أموال خالد، و ليعاقبنه و ينفينه.
فلجأ خالد إلى أحمد بن أبي داؤد القاضي ، فاحتال حتى جمع بينه و بين خصمه، فلم تقم على خالد حجة، فعرف ابن أبي دؤاد القاضي، المعتصم بذلك، و شفع إليه في خالد، فلم يشفعه، و أحضر خالداً، و أحضر له آلات العقوبة، و كان قبل ذلك قبض أمواله و ضياعه، و صرفه عن العمل.
و حضر ابن أبي دؤاد المجلس، فجلس دون مجلسه الذي كان يجلس فيه.
فقال له المعتصم: ارتفع إلى مكانك.
فقال له: يا أمير المؤمنين ما أستحق إلا دون هذا المجلس.
قال: و كيف؟ قال: لأن الناس يزعمون أنه ليس محلي محل من شفع في رجل قرف بما ليس فيه، و لم يصح عليه شيء منه، فلم يشفع.
قال: فارتفع إلى موضعك.
قال: مشفعاً أو غير مشفع؟ قال: بل مشفعاً، قد وهبت لك خالداً، و رضيت عنه.
قال: إن الناس لا يعلمون بهذا.
قال: رددت عليه جميع ما قبض منه من ضياعه و أمواله.
قال: فمر بفك قيوده، و اخلع عليه.
ففعل ذلك.
قال: يا أمير المؤمنين، قد استحق هو و أصحابه رزق ستة أشهر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجعلها صلة له.
قال: لتحمل معه.
فخرج خالد، و عليه الخلع، و المال بين يديه، و الناس ينتظرون الإيقاع به.
فلما رأوه على تلك الحال سروا، و صاح به رجل: نحمد الله على خلاصك يا سيد العرب.
فقال: مه، بل سيد العرب و الله ابن أبي دؤاد الذي طوقني هذه المكرمة التي لا تنفك من عنقي أبداً.
بين الإسكندر و ملك الصينقال القاضي أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد التنوخي، حدثني أبو الفرج الأصبهاني من حفظه، قال: قرأت في بعض أخبار الأوائل: أن الاسكندر لما انتهى إلى الصين، و نازل ملكها، أتاه حاجبه، و قد مضى من الليل شطره، فقال له: رسول ملك الصين بالباب يستأذن عليك.
فقال: ائذن له.
فلما دخل، وقف بين يديه و سلم، و قال: إن رأى الملك أن يخليني فليفعل.
فأمر الاسكندر من بحضرته بالانصراف، و بقي حاجبه.
فقال له الرسول: إن الذي جئت له، لا يحتمل أن يسمعه غيرك. فأمر بتفتيشه، ففتش، فلم يوجد معه شيء من السلاح. فوضع الاسكندر بين يديه سيفاً مجرداً، و قال له: قف مكانك، و قل ما شئت، ثم أخرج كل من كان عنده.
فلما خلا المكان، قال له الرسول: إني أنا ملك الصين لا رسوله، و قد حضرت أسألك، عما تريده مني، فإن كان مما يمكن الانقياد إليه، و لو على أصعب الوجوه، أجبت إليه، و غنيت أنا و إياك عن الحرب.
فقال له الاسكندر: و ما آمنك مني؟ قال: علمي بأنك رجل عاقل، و أنه ليس بيننا عداوة متقدمة، و لا مطالبة بذحل، و أنك تعلم أن الصين إن قتلتني، لا يسلمون ملكهم إليك، و لا يمنعهم عدمهم إياي، أن ينصبوا لأنفسهم ملكاً غيري، ثم تنسب أنت إلى غير الجميل، و ضد الحزم.
فأطرق الاسكندر مفكراً في مقالته، و علم أنه رجل عاقل، ثم قال له: الذي أريده منك، ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً، و نصف ارتفاعه في كل سنة.
قال: هل غير ذلك شيء؟ قال: لا.
قال: قد أحببتك.
قال: فكيف تكون حالك حينئذ؟

قال: أكون قتيلاً أو محارباً، و أكلة أول مفترس.
قال: و إن قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف يكون حالك؟ قال: أصلح مما يكون إذا ألزمت بما تقدم ذكره.
قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة واحدة.
قال: يكون ذلك مجحفاً بملكي، و مذهباً لجميع لذاتي.
قال: فإن اقتصرت منك على السدس؟ قال: يكون السدس موفراً، و الباقي لجيشي، و لأسباب الملك.
قال: قد اقتصرت منك على هذا.
فشكره، و انصرف.
فلما أصبح، و طلعت الشمس، أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض، و أحاط بجيش الاسكندر، حتى خافوا الهلكة، و تواثب أصحابه، فركبوا و استعدوا للحرب.
فبينما هم كذلك، إذ ظهر ملك الصين و عليه التاج، فلما رأى الاسكندر ترجل.
فقال له الاسكندر: أغدرت؟ قال: لا و الله.
قال: فما هذا الجيش؟ قال: أردت أن أعلمك، أني لم أطعك من قلة و ضعف، و الآن ترى هذا الجيش، و ما غاب عنك منه أكثر، لكني رأيت العالم الأكبر مقبلاً عليك، ممكناً لك، فعلمت أنه من حارب العالم الأكبر. غلب، فأردت طاعته بطاعتك، و الذلة لأمره، بالذلة لك.
فقال الإسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه شيء، فما رأيت بيني و بينك، أحداً، يستحق التفضيل، و الوصف بالعقل، غيرك، و قد أعفيتك من جميع ما أردته منك، و أنا منصرف عنك.
فقال لملك الصين: إما إذا فعلت ذلك، فلست تخسر.
فلما انصرف الاسكندر، أتبعه ملك الصين، من الهدايا و الألطاف، بضعف ما كان قرره معه .
أبو هاشم الجبائييموت في السادسة و الأربعين ذكر المحسن بن علي التنوخي، في كتاب نشوار المحاضرة و أخبار المذاكرة، في الجزء الحادي عشر منه، و قد ضمن في خطبة كتابه هذا، أنه تحقق ما يوجد فيه عنده. قال: حدثني أبو الحسن بن الأزرق ، قال: كان أبو هاشم بن أبي علي الجبائي، لما قدم بغداد، يخبرنا أ، أباه أبا علي، كان كثير الإصابة في علم النجوم، و يحدثنا من ذلك بأحاديث كثيرة، و أخبرنا أنه حكم له أن يعيش نيفاً و سبعين سنة شمسية، فكنا لإصابة أبي علي في الأحكام، طياب النفوس بهذا الحكم.
فلما اعتل أبو هاشم علته التي مات فيها ببغداد، جئت إليه. عائداً، فوجدت أخته، ابنة أبي علي، قلقة عليه، فأخذت أطيب نفسها، حتى قلت: أليس قد حكم أبوه أنه يعيش نيفاً و سبعين سنة شمسية؟ قالت: بلى، و لكن على شرط.
قلت: ما هو؟ قالت: إنه قال: إن أفلت في السنة السادسة و الأربعين، و قد اعتل هذه العلة الصعبة فيها، فقلقي عليه لذلك، خوفاً من أن يصح الحكم الأول.
قال أبو الحسن: فمات في تلك العلة .
النجوم تكشف عن مولود أحنفو من إصابات أبي علي الجبائي في أحكام النجوم، ما رواه أيضاً في نشوار المحاضرة، قال: حدثني القاسم بن بدر الرامهرمزي ، و كان يخلفني على العيار في دار الضرب، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عباس ، قال: كنت مع أبي علي الجبائي في عسكر مكرم، فاجتاز بدار، فسمع فيها ضجة بولادة فقال: إن صح ما يقول المنجمون، فهذا المولود ذو عاهة.
فدققت الباب، فخرجت امرأة، فسألتها عن الخبر، فجمجمت .
ثم خرج رجل كهل، فحين رآه أبو علي، قال: هذه دارك؟ قال: نعم.
قال: فكيف هو؟ يعني المولود.
قال: أحنف . فأخذ أبو علي يطيب نفسه.
فقال تتفضل يا أبا علي، فتدخل تحنكه، و تؤذن في أذنه، فلعل الله يجعله مباركاً.
فدخل و حنكه، و أذن في أذنه، و رأيناه و هو أحنف.
يتنبأ بموت مولود في يومه السادس عشرو من إصابات أبي علي في النجوم، ما حكاه التنوخي، في كتاب نشوار المحاضرة أيضاً، قال: سمعت أبا أحمد بن مسلمة الشاهد العسكري المعتزلي الحنفي، و كان شيخ بلده، يحكي عن رجل من أهل عسكر مكرم ، و وثقه و عظمه، قال: كنت مع أبي علي الجبائي جالساً في داره في عسكر مكرم، فدخل إليه بعض غلمانه، فقال له: اجلس.
فقال: لي زوجة تطلق، و أريد الرجوع إليها لحاجة طلبتها.
فقال أبو علي، لبعض من حضر: امض معه، فإذا ولدت امرأته، فخذ الارتفاع، و جئني به.
ففعل.
فلما كان في غد، قال لنا أبو علي: إن صح حكم التنجيم، فإن هذا الولد يموت بعد خمسة عشر يوماً.
فلما كان اليوم السادس عشر، و كنا جلوساً ندرس على أبي علي، إذ دخل الرجل، فقال: إن فلاناً قد مات، يعني ولده. فقال أبو علي: قوموا فأحضروه، و وفوه حقه.
تنبأوا له بالوزارة و هو صبيو من المعروفين بعلم النجوم، و الإصابة فيها، فتى من ولد يحيى بن يعقوب.
فمن حكايته في ذلك، ما ذكره التنوخي في كتابه، قال: حدثني أبو الحسين ، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج النحوي ، قال: كنت أؤدب القاسم بن عبيد الله ، و كان أبوه إذ ذاك، يحضره الديوان.
فلما أخرجه من المكتب، كنت معه في الديوان ببادوريا ، و هو معه فيه، و له من العمر ست عشرة سنة، و أبوه متعطل، و ذلك في وزارة إسماعيل ابن بلبل ، للموفق و المعتمد .
و كان معه في ذلك الديوان جماعة من أولاد الكتاب، و فيهم فتى نجيب من ولد يعقوب بن فرازون النصراني، و كان يفهم النجوم.
فقال له ذلك الفتى: يا سيدي أرى فيك نجابة و صناعة، و لك حظ من الرياسة، و قد رأيت مولد، و هو يدل على أنك تتقلد الوزارة، و تطول أيامك فيها، فاكتب لي حظاً، يكون معي تذكر فيه اجتماعنا، و تضمن لي أن يكون لي حظ منك إذ ذاك، حق بشارتي لك.
قال: فأخذ القرطاس، و كتب فيه، بحسن خطه: ليلقني فلان، إذا بلغني الله ما احب، لأبلغه ما يحب إن شاء الله.
فحدثت أباه في ذلك، ففرح، و قال: قد و الله سررتني بذلك. و احضر المنجمين، و اخرج مولده، فحكموا له بالوزارة، و أنه يتقلدها سنة ثمان و سبعين .
فخلف أباه على وزارة المعتضد في إمارته ، و دامت له إلى أن مات .
وزير لا تغيره الوزارةقال لي الزجاج : لما ولي القاسم الوزارة بعد موت أبيه، و دخل داره، وقفت في صحن الدار، لينصرف الناس، و دخل هو ليستريح، فيخرج للناس، فلا أنسى هيبتي عند غلمانه، حيث دخلت عليه، فلم أمنع، فوجدته قد صلى و سلم، و هو يدعو الله في خلوته، و ليس بحضرته أحد، فلما رآني، قام إلي، فانكببت على رجله.
فقال لي: يا سيدي، يا أبا إسحاق، أنت أستاذي، و هذا الذي أعتقده في إكرامك، و كان في نفسي أن أعاملك به قبل أن تشرفني عند حضور الناس، و توقير مجلس الخلافة، و إذا فعلت ذلك، فهو حقك علي، و إذا لم أفعله، فهو نقص حق العلم و العمل.
قال: ثم ما أنكرت منه شيئاً في عشرة، و لا مخاطبة، عما كان يعاملني به، إلى أن مات .
القاضي التنوخي والد المحسنو قوة حافظته قال القاضي التنوخي، في الجزء السادس من نشوار المحاضرة: كان أبي يحفظ للطائيين سبعمائة قصيدة و مقطوعة ، سوى ما لغيرهم من المحدثين، و المخضرمين، و الجاهليين.
و لقد رأيت له دفتراً بخط يده يحتوي على رؤوس ما حفظه، و هو الآن عندي في نيف و ثلاثين ورقة، أثمان منصوري لطاف.
و كان يحفظ من اللغة و النحو شيئاً عظيماً.
و مع ذلك كان علم الفقه و الفرائض و الشروط و المحاضرة و السجلات رأس ماله، و كان يحفظ منه ما قد اشتهر به.
و كان يحفظ من الكلام و المنطق و الهندسة الكثير، و كان في علم النجوم، و الأحكام، و الهيئة، قدوة، و كذلك في علم العروض، و له فيها، و في الفقه و غيره، عدة كتب مصنفة.
و كان مع ذلك يحفظ و يحدث فوق عشرين ألف حديث، و ما رأيت أحداً أحفظ منه، و لولا أن حفظه متفرق في هذه العلوم، لكان أمراً هائلاً.
أبو يوسف البريدي يخالف منجمه فيقتلومن الموصوفين بعلم النجوم من السلمين، أبو القاسم غلام زحل ، و قد حكى الشيخ الفاضل المحسن بن علي التنوخي، في الجزء السادس من نشوار المحاضرة عنه جملاً، و ذكر طرفاً من فضله، و إصابته في الأحكام بالنجوم، فقال: و من العجيب، حكمه في قتل أبي يوسف ، فإنه قد كان يخدمه في النجوم أبو القاسم غلام زحل المنجم، و هو الآن شيخ من شيوخ المنجمين في الأحكام، و كان أبي يقدمه في هذه الصناعة، و يستخدمه فيها، و يسلم إليه سني تحويل مولده، و مولدي، إذا قطعه قاطع عن عملها بيده، لأنه كان قلما يأخذ تحاويلنا بيده، بل يولي ذلك غيره .
و أبو القاسم الآن مقيم بخدمة الأمير عضد الدولة بشيراز .
فقال أبو القاسم هذا، لأبي يوسف البريدي، في اليوم الذي عزم فيه على الركون إلى الأبلة ، ليسلم فيه على أخيه أبي عبد الله : أيها الأستاذ لا تركب، فإن هذا اليوم يوجب تحويلك فيه عليك، قطعاً بالحديد.
فقال: يا فاعل، إنما أركب إلى أخي فممن أخاف؟ و خرج بالطيار.
فعاد غلام زحل، فأخرج جميع ما كان له في الدار من أثاث، و ذهب لينصرف.
فقال له الحجاب: إلى أين؟

فقال: أهرب، لأن الدار بعد ساعة تنهب.
و مضى أبو يوسف، إلى أبي عبد الله، فقتله في ذلك اليوم .
و كان هذا الخبر مشهوراً، عن أبي القاسم غلام زحل، نقله أبي، و شهد بصحته.
و كان يحكي ذلك في تلك الأيام، و أنا صبي، فأسمع ذلك، و كان يعده من إصابات، غلام زحل.
سهلون و يزدجرد ابنا مهمندار الكسرويو ممن وصف بعلم النجوم، سهلون، و يزدجرد، ن علماء الإسلام فيما ذكره التنوخي في رابع أجزاء النشوار، فقال ما هذا لفظه: حدثني أبو عبد الله محمد الحارثي ، قال: كان ببغداد، في أيام المقتدر، أخوان، كهلان، فاضلان، و عندهما من كل فن مليح، و هما من أحرار فارس، قد نشآ ببغداد، و تأدبا بها، و تعلما علوماً كثيرة، يقال لأحدهما: سهلون، و للآخر يزدجرد، ابنا مهمندار الكسروي، و يعرفان بذلك، لانتسابهما إلى الأكاسرة، و كانا ذوي نعمة قديمة، و حالة ضخمة، و كنت ألزمهما، على طريق الأدب.
و كان ليزدجرد منهما، كتاب حسن ألفه في صفة بغداد ، و عدد سككها، و حماماتها، و شوارعها، و ما تحتاج إليها في كل يوم من الأقوات و الأموال، و ما تحتوي عليه من الناس، و عدة كتب أدبية و فلسفية، قرت أكثرها عليه.
و كان هو و أخوه ينشدان الشعر الجيد لأنفسهما، و سهلون بن مهمندار كان لزم بعض الرؤساء، و عمل له رسائل و قصائد.
ثم ذكر التنوخي، ن شعر سهلون، ما يقتضي علمه بالنجو، فقال: أنشد من شعره:
تعففت عن أخذ الدراهم و البر ... ليمسك من سري فبالغت بالستر
و لم ير ميلي للجين و للتبر ... و لكن لإكرامي و أن يعرفوا قدري
و لست أسوم الناس صعباً من الأمر ... و لا عابني حال من العسر و اليسر
و لا أنا ممن يمدح الناس بالشعر ... و لا أنا من يهجو بشعر و لا نثر
و لكنني رب العلوم و ذو الأمر ... بنظم تغليه الجواري على الدر
و لي دربة طالت على كل عالم ... إذا أعوز الإنسان علم بما يدري
من الطب و التنجيم من بعد منطق ... و لا علم إلا ما أحاط به صدري
و ها أنا سيف الله علماً بدينه ... أذب عن التوحيد في أمم الكفر
ثم ذكر تمام الأبيات، و المراد منها ما ذكره عن نفسه في عالم النجوم.
أبو العباس بن المنجميعرض بأبي عبد الله البصري المتكلم و ن المعروفين بعلم النجوم من أهل الإسلام، و إن لم يعرف له شيء من الأحكام، ممن ذكرهم التنوخي، في كتابه النشوار، جماعة، منهم: أبو بكر ابن عمر ، و قد صنف كتباً كثيرة في النجوم.
و منهم أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم .
و نمهم يحيى بن أبي منصور المنجم ، و كان يحيى مجوسياً، أسلم على يد المأمون، فصار مولاه بذلك، و كان خصيصاً به، و منجمه، و نديمه.
و أبو منصور، والده، منجم المنصور .
و منهم أبو الحسن محمد بن سليمان، صاحب الجيش، و كان منقطعاً إلى أبي علي بن مقلة، قبل الوزارة، و بعدها، مختصاً به من اجل النجوم و الأدب.
و منهم الحسن بن علي بن زيد المنجم ، غلام أبي نافع، عامل معز الدولة على الأهواز و قطعة من كورها، و محله عنده محل أحد وزرائه.
و منهم والد أبي العباس هبة الله بن المنجم، الذي ذكر التنوخي، أن ولده أبا العباس جرت له حكاية، فقال: أنشد أبو العباس لنفسه، يعرض بأبي عبد الله البصري المتكلم ، لما صير له عضد الدولة رسماً، أن يحمل من مائدته كل يوم جونة كبيرة، طعاماً، تشريفاً له بذلك.
و أنا أقول: كان سبب ذلك، أنه أقطعه إقطاعاً بمال جليل في كل سنة، فلم يقبل، فبذل له شراء ضباع يوقفها عليه، بدل هذا الإقطاع، و تستطاب غلتها، و يصخ إنفاقها، فلم يقبل، و أبى.
قال عضد الدولة : فلا أقل من أن ينفذ إليك في كل يوم، نم حضرتي، بما تأكله، و في كل فصل بكسوة، و طيب تستعمله.
فأجاب في ذلك.
فأنفذ إليه ثياباً جليلة، من صنوف القطن، و الكتان، و العود الهندي، و نواعاً من العطر، و صار ينفذ إليه جونة في كل يوم، مع غلام من أصحاب مائدته، من الطعام الذي يقدم إليه، ثم يشال من بين يديه.

فقال هبة الله أبو العباس المنجم، لكني سمعت هذا الشعر، و أبو العباس ليس بحي، و لا أبو إسحاق النصيبي ، فأعرف صحته، إلا أني أثق بخبر أبي علي ، و الشعر هو:
أظهر هذا الشيخ مكنونه ... و جن لما أبصر الجونه
شح عليها إذ رأى حسنها ... و هي بلحم الطير مشحونه
أسلم للعاثور إسلامه ... و باع في أكلتها دينه
منجم يأخذ طالع المعتصمذكر التنوخي في الجزء السابع من نشوار المحاضرة، قال: حدثني علي ابن العباس النوبختي ، قال: جدثني محمد بن داود بن الجراح ، قال: حدثني أبو علي الحسن بن وهب ، قال: رأيت يوماً محمد بن عبد الملك الزيات ، قد عاد من موكب المعتصم ، قبل خروجه إلى سامراء، و هو على غاية من الضجر، و كنت جوراً عليه.
فقلت: ما لي أرى الوزير أيده الله مهموماً؟ قال: أفما عرفت خبري؟ قلت: لا.
قال: ركب أمير المؤمنين، و أنا أسايره من جانب، و ابن أبي دؤاد يسايره من الجانب الآخر، حتى بلغنا رحبة الجسر، فأطال الوقوف، حتى ظننا أنه ينتظر شيئاً.
ثم أسرع خادم يركض، حتى أسر إليه سراً، فقال: غممتني، و كر راجعاً إلى الجانب الشرقي، فلما توسط الطريق جعل يضحك، و لا شيء يضحكه.
فجسر عليه ابن أبي دؤاد، فقال: إن رأى أمير المؤمنين، أن يشركنا بالسرور فيما يسره.
قال: ليست لكما حاجة في ذلك.
فقال ابن أبي دؤاد: بلى.
قال: أما إذا سألتماني لم ركبت اليوم، فإني اعتمدت أن أبعد، و صرت إلى رحبة الجسر، فذكرت منجماً كان يجلس فيها أيام فتنة الأمين ، و بعدها، و كان موصوفاً بالحذق قديماً، و كنت أسمع به.
فلما غلب إبراهيم بن شكلة ، على الامور، اعتمد علي في الرزق، و أجرى لي خمسمائة دينار في الشهر، و لم يكن أحد داخله أكثر رزقاً مني، لأن جيشه إنما كان كل واحد له تسعة دراهم و عشرة، و القواد مثلها دنانير و نحو ذلك، لضيق الأحوال، و خراب البلاد، و الناس إنما كانوا يقاتلون معه عصبية، لا لجائزة.
فركبت يوماً حماراً، متنكراً لبعض شأني، فرأيت ذلك المنجم، فتطلعت إليه نفسي أن أسأله عن أمر إبراهيم و أمري، و هل يتم لنا شيء، أم يغلبنا المأمون ، فعدلت إلى المنجم، و كنت متنكراً.
و قلت للغلام: أعطه ما معك، فأعطاه درهمين.
و قلت له: خذ الطالع، و اعمل لي مسألة، ففعل.
ثم قال لي: سألتك بالله هل أنت هاشمي؟ قلت: ما سؤالك عن هذا؟ فقال: كذا يوجب الطالع، فإن لم تصدقني لم أنظر لك.
فقلت: نعم.
قال: فهذا الطالع أسد، و هو الطالع في الدنيا، و إنه يوجب لك الخلافة، و أنت تفتح الآفاق، و تزيل الممالك، و يعظم جيشك، و تبني لك بلاداً عظيمة، و يكون من شأنك كذا، و من أمرك كذا، و قص علي جميع ما أنا فيه الآن.
قلت: فهذا السعود، فهل علي من النحوس؟ قال: لا، و لكنك إذا ملكت، فارقت وطنك، و كثرت أسفارك.
قلت: فهل غير هذا؟ قال: نعم، ما شيء أنحس عليك من شيء واحد.
قلت: ما هو؟ قال: يكون المتولون عليك في أيام ملكك، أصولهم دنية، سفلة، فيغلبون عليك، و يكونون أكابر أهل مملكتك.
قال: فعرضت عليه دراهم كانت في خريطة معي في خفي، فحلف أن لا يقبل غير ما أخذه.
و قال: إذا وليت هذا الأمر فاذكروني، و أحسن في ذلك الوقت إلي. فقلت: أفعل.
و لكني ما ذكرته إلى الآن، و لما بلغت الرحبة، وقعت عيني على موضعه فذكرته، و ذكرت كلمته، و تأملتكما حوالي، و أنتما أكبر أهل مملكتي، و أنت ابن زيات ، و هذا ابن قيار و أومأ إلى ابن أبي دؤاد فإذا قد صح جميع ما قال.
فأنفذت هذا الخادم في طلبه و البحث عنه، لأفي له بسالف الوعد، فعاد إلي، و ذكر أنه قد مات قريباً، فكسلت، و غمتني أن فاتني الإحسان إليه، فرجعت عن الأبعاد، و أخذني الضحك، إذ ترأس في دولتي أولاد السفل.
قال: فانكسرنا، و وددنا أنا ما سألناه.
كيف اتصل نوبخت المنجمبأبي جعفر المنصور أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أنبأنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: أنبأنا الحسين بن القاسم الكسروي ، قال: حدثني أبو سهل بن علي بن نوبخت ، قال: كان جدنا نوبخت على دين المجوسية، و كان في علم النجوم نهاية، و كان محبوساً في سجن الأهواز.

قال: رأيت أبا جعفر المنصور قد دخل السجن ، فرأيت من هيبته، و جلالته، و سيماه، و حسن وجهه، و شأنه، ما لم أره لأحد قط، فصرت من موضعي إليه، فقلت: يا سيدي، ليس وجهك من وجوه أهل هذه البلاد.
فقال: أجل يا مجوسي.
قلت: من أي بلاد أنت؟ قال: من المدينة.
قلت: أي مدينة؟ قال: مدينة الرسول صلوات الله عليه.
فقلت: و حق الشمس و القمر، من أولاد صاحب المدينة؟ قال: لا، و لكن من عرب المدينة. فلم أزل أتقرب إليه و أحدثه، حتى سألته عن كنيته. فقال: أبو جعفر.
فقلت: أبشر، وجدتك في الأحكام النجومية، تملكني، و جميع ما في هذا البلد، حتى تملك فارس، و خراسان، و الجبال.
فقال لي: و ما يدريك يا مجوسي؟ قلت: هو كما أقول، و اذكر لي هذا.
قال: إن قضى الله، فسوف يكون.
قلت: قد قضى الله من السماء، فطب نفساً.
و طلبت دواة، فوجدتها، فقلت: اكتب، فكتب.
بسم الله الرحمن الرحيم. إذا فتح الله على المسلمين، و كفاهم معرة الظالمين، و رد الحق إلى أهله، فلا نغفلك.
فقلت: اكتب لي في خدمتك خطاً، و أماناً. فكتب لي.
قال نوبخت: و لما ولي الخلافة، صرت إليه، فأخرجت الكتاب، فقال: أنا له ذاكر مع الأمان، و الحمد لله الذي صدق وعده، و رد الحق إلى أهله.
قال: فأسلم نوبخت، و كان منجماً لأبي جعفر، و مولى له.
كلب يموت على قبر صاحبهو ذكر بعض الرواة ، قال: كان للربيع بن بدر، كلب قد رباه، فلما مات الربيع، و دفن، جعل الكلب يتضرب على قبره حتى مات.
و كان لعامر بن عنترة كلاب صيد و ماشية، و كان يحسن صحبتها، فلما مات عامر، لزمت الكلاب قبره، حتى ماتت عنده، و تفرق عنه الأهل و الأقارب.
وفاء الكلب، و غدر أبي سماعةكان للأعمش كلب يتبعه في الطريق إذا مشى، حتى يرجع، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت صبياناً يضربونه، ففرقت بينهم و بينه، فعرف لي ذلك فشكره، فإذا رآني يبصبص لي، و يتبعني.
و لو عاش أيدك الله الأعمش إلى عصرنا، و وقتنا هذا، حتى يرى أهل زماننا هذا، و يسمع خبر أبي سماعة المعيطي و نظائره، لازداد في كلبه رغبة، و له محبة.
قال: هجا أبو سماعة المعيطي، خالد بن برمك ، و كان إليه محسناً، فلما ولي يحيى الوزارة، دخل إليه أبو سماعة، فيمن دخل من المهنئين.
فقال: أنشدني الأبيات التي قلتها.
فقال: ما هب؟ قال: قولك:
زرت يحيى و خالداً مخلصاً لل ... ه ديني فاستصغرا بعض شأني
و لو أني ألحدت في الله يوماً ... أو لو أني عبدت ما يعبان
ما استخفا فيما أظن بشأني ... و لأصبحت منهما بمكان
إن شكلي و شكل من جحد الل ... ه و آياته لمختلفان
قال أبو سماعة: لا أعرف هذا الشعر، و لا من قاله.
فقال له يحيى: ما تملك صدقة إن كنت تعرف من قالها؟ فحلف.
فقال يحيى: و امرأتك طالق، فحلف.
فأقبل يحيى على الغساني، و منصور بن زياد، و الأشعثي، و محمد بن محمد العبدي و كانوا حضوراً في المجلس و قال: ما أحسبنا إلا و قد احتجنا أن نجدد لأبي سماعة منزلاً، و آلة، و حرماً، و متاعاً، يا غلام: ادفع له عشرة آلاف درهم، و تختاً فيه عشرة أثواب، فدفع إليه.
فلما خرج تلقاه أصحابه، يهنئونه، و يسألونه عن أمره، فقال: ما عسيت أن أقول إلا أنه ابن زانية أبي إلا كرماً.
فبلغت يحيى كلمته من ساعته، فأمر به، فحضر، فقال له يا أبا سماعة، لم تعرق في هجائنا، و تغرق في شتمنا؟ فقال له أبو سماعة: ما عرفته أيها الوزير، افتراء و كذب علي. فنظر إليه يحيى ملياً، ثم أنشأ يقول:
إذا ما المرء لم يخدش يظفر ... و لم يوجد له أن عض ناب
رمى فيه الغميزة من بغاها و ذلت من قرائنه الصعاب فقال أبو سماعة: كلا أيها الوزير، و لكنه كما قال:
لم يبلغ المجد أقوام و إن شرفوا ... حتى يذلوا، و إن عزوا، لأقوام
و يشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذل و لكن صفح أحلام
ثم تمثل قائلاً:
متى لم تتسع أخلاق قوم ... تضيق بهم فسيحات البلاد
إذا ما المرء لم يخلق لبيباً فليس اللب عن قدم الولاد ثم قال: هو و الله، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المؤمن لا يشفي غيظه.

ثم إن أبا سماعة، هجا بعد ذلك سليمان بن أبي جعفر ، و كان إليه محسناً، فأمر به الرشيد ، فحلق رأسه و لحيته .
كلب يرج صاحبه من حفرة دفن فيها حياً
أنبأنا الفقيه أبو موسى عيسى بن أبي عيسى القابسي ، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي قراءة عليه، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا بن حيويه الخزاز ، أن أبا بكر محمد بن خلف بن المرزبان ، أخبرهم، قال: أنشدني أبو عبيدة ، لبعض الشعراء:
يعرج عنه جاره و شقيقه ... و يرغب فيه كلبه و هو ضاربه
قال أبو عبيدة: قيل هذا الشعر، في رجل من أهل البصرة خرج إلى الجبانة ينتظر ركابه، فاتبعه كلب له فطرده، و ضربه، و كره أن يتبعه، و رماه بحجر فأدماه، فأبى الكلب إلا أن يتبعه.
فلما صار إلى الموقع، وثب به قوم، كانت لهم عنده طائلة ، و كان معه جار له، و أخ، فهربا عنه، و تركاه و أسلماه، فجرح جراحات كثيرة، و رمي به في بئر، و حثوا عليه التراب، حتى واروه، و لم يشكوا في موته، و الكلب مه هذا يهر عليهم ، و هم يرجمونه.
فلما انصرفوا، أتى الكلب إلى رأس البئر، فلم يزل يعوي، و يبحث في التراب بمخالبه، حتى ظهر رأس صاحبه و فيه نفس يتردد، و قد كان أشرف على التلف، و لم يبق فيه، إلا حشاشة نفسه، و وصل إليه الروح.
فبينما هو كذلك، إذ مر أناس، فأنكروا مكان الكلب، و رأوه كأنه يحفر قبراً، فجاءوا، فإذا هم بالرجل على تلك الحال، فاستخرجوه حياً و حملوه إلى أهله.
فزعم أبو عبيدة، أن ذلك الموضع، يدعى: بئر الكلب.
كلب خلص صاحبه من موت محققحدثني عبد الله بن محمد الكاتب، قال: حدثني أبي، عن محمد بن خلاد ، قال: قدم رجل على بعض السلاطين، و كان معه حاكم أرمينية، منصرفاً إلى منزله، فمر في طريقه بمقبرة، فإذا قبر عليه قبة مبنية، مكتوب عليها: هذا قبر الكلب، فمن أحب أن يعلم خبره، فليمض إلى قرية كذا و كذا، فإن فيها من يخبره.
فسأل الرجل عن القرية، فدلوه عليها، فقصدها، و سأل أهلها، فدلوه على شيخ، فبعث إليه، و أحضره، و إذا شيخ قد جاوز المائة سنة، فسأله، فقال: نعم، كان في هذه الناحية ملك عظيم الشأن، و كان مستهتراً بالنزهة و الصيد و السفر، و كان له كلب قد رباه، و سماه باسم، و كان لا يفارقه حيث كان، فإذا كان وقت غدائه و عشائه، أطعمه مما يأكل.
فخرج يوماً إلى بعض متنزهاته، و قال لبعض غلمانه: قل للطباخ، يصلح لنا ثريدة لبن، فقد اشتهيتها، فأصلحوها، و مضى إلى متنزهاته.
فوجه الطباخ، فجاء بلبن، و صنع له ثريدة عظيمة، و نسي أن يغطيها بشيء، و اشتغل بطبخ شيء آخر.
فخرج من بعض شقوق الحيطان أفعى، فكرع من ذلك اللبن، و مج في الثريدة من سمه، و الكلب رابض، برى ذلك كله، و لو كان له في الأفعى حيلة لمنعها، و لكن لا حيلة للكلب في الأفعى و الحية، و كان عند الملك جارية خرساء، زمنة ، قد رأت ما صنع الأفعى.
ووافى الملك من الصيد في آخر النهار، فقال: يا غلمان، أول ما تقدموان إلي الثريدة.
فلما قدموها بين يديه، أومأت الخرساء إليهم، فلم يفهموا ما تقول، و نيح الكلب و صاح، فلم يلتفتوا إليه، و ألح في الصياح ليعلمهم مراده فيه.
ثم رمى إليه بما كان يرمي إليه في كل يوم، فلم يقربه، و لج في الصياح.
فقال لغلمانه: نحوه عنا، فإن له قصة، و مد يده إلى اللبن.
فلما رآه الكلب، يريد أ، يأكل، وثب إلى وسط المائدة، و أدخل فمه في اللبن و كرع منه، فسقط ميتاً، و تناثر لحمه.
و بقي الملك متعجباً منه و من فعله، فأومأت الخرساء إليهم، فعرفوا مرادها، و ما صنع الكلب.
فقال الملك لندمائه و حاشيته: إن كلباً قد فداني بنفسه، لحقيق بالمكافأة، و ما يحمله و يدفنه غيري، و دفنه بين أبيه و أمه، و بنى عليه قبة، و كتب عليها ما قرأت، و هذا ما كان من خبره .
أبو الحسن القمي يقترح أصواتاً
كان أبو الحسن القمي، يكتب لروزبهان بن ونداد خورشيد ، على إقطاعه في السواد، و خليفة عنه بحضرة معز الدولة ، ببغداد، و كان يهوى منداة جارية قهرمانة ابن مقلة ، و هي صبية مليحة الوجه، طيبة الغناء، و كان من أصواته عليها:
أيا راهبينجران ما فعلت هند ... أقامت على عهدي و أني لها عهد

فأراد يوماً أن تغنيه له، فقال له: يا ستي، غني لي ذاك سوت :
أيا راهبي نجران ما فعلت هندي ... أقامت بلا عهد و إني بلا عهد
فضحكت، و قالت له: أعلم أنك سفلة، بلا عهد.
و قال لها مرة: يا ستي، غني ذاك سوت: يا فاطمة بعط ذلول فضحكت و ضحك الحاضرون، يريد: أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل و حدثت عنه، بين يديه، و هو يسمع، قالت: غنيت له ليلة:
أمن سمية دمع العين مذروف ... لو أن ذا منك قبل اليوم معروف
و فيه لحن حسن، فأعجبه، و أطربه، و لم يزل يتلقنه، و يتحفظه، إلى أن ظن أنه قد أتقنه.
و صبر ساعة، وقال لي: يا ستي، بالله غني لي، ذاك سوت: أمن سميته دموعك عينك ذرذف فضحكت منه، فقال: ما لك؟ فأعدت البيت عليه، على صحته.
فقال: يا باردة، كله واحد.
قالت: و غنيت له مرة، صوتاً استحسنه، و قال لي: يا ستي، اكتبيه لي.
فقلت له: يا هذا أنت كاتب أو أنا؟ فقال: أنا ما أحسن أكتبه بلحنه، أريد تكتبينه أنت بلحنه، كما تحسنينه .
أبو الحسن القمي يتحدث عن يقطين قمو كان يوماً في دار أبي الحسن الأهوازي ، فتحدث بحديث يقطين يكون بقم ، عظيماً، حتى إن قشر الواحدة إذا فرغ و جفف وسع من الحنطة شيئاً كثيراً.
و قال: و هو مقبل على أبي الحسن بن محمود البادرائي، نديم أبي الحسن الأهوازي، و كان طيباً، نادراً، فقال له: إقطعون رأسك، أخرجون صوف.
فقال له ابن محمود: يكون يا سيدي في قرع قم، صوف؟ قال: هاي، كيف يكون صوف في قرع؟ إنما أخرجون قماش بطنك.
فقال ابن محمود: كانت حالي مع الصوف أصلح، مر يا سيدي في حديثك، فلك نيتك، و قد علمنا ما أردت.
فضحكت الجماعة.
فقال: ذا قرع مبارك، جاب الضحك و الفرح.
و ضحك معهم .
رقعة أبي الحسن القميإلى الأمير عبد الواحد بن المقتدر و كتب يوماً رقعة إلى عبد الواحد بن المقتدر بالله ، يسأله مبايعته سقف ساج مذهب، كان في بيت ماء في داره على دجلة، بباب خراسان : بسم الله الرحمن الرحيم، قد علم سيدي الأمير، حال السقف الذهب، الذي حاشا وجه سيدي في الخلاء، و هو هدية من ماله، و الشكر عليه كثير، و ليس أجعله و حياة راس سيدي الأمير في الخلاء، أريده لصفة ، و يوعز سيدي الأمير، إذا منحني من ثمنه، مزحت مع سيدي، و ليس أخرج له من رأي قضاء حقي، حتى أبو محمد القرافي يعرفه ما في الأمر، و يزن الثمن، و عرفته ذلك، حتى يعمل معي ما يشبهه، إن شاء الله .
ابن الجصاص يتحدثعما سلم من أمواله من المصادرة حكى ابن الجصاص ، قال: كنت يوم قبض علي المقتدر ، جالسا في داري، و أنا ضيق الصدر، و كانت عادتي، إذا حصل مثل ذلك، أن أخرج جواهر كانت عندي في درج، معدة لمثل هذا، من ياقوت أحمر، و أصفر، و أزرق، و حباً كباراً، و دراً فاخراً، ما قيمته خمسين ألف دينار، و أضعه في صينية، و ألعب به حتى يزول قبضي.
فاستدعيت بذلك الدرج، فأتي به بلا صينية، فأفرغته من حجر، و جلست في صحن داري، في بستان، في يوم بارد، طيب الشمس، و هو مزهر بصنوف الشقائق و المنثور .
و أنا ألعب بذلك، إذا دخل الناس بالزعقات و المكروه، فلما رأيتهم دهشت، و نفضت جميع ما كان في حجري من الجوهر، بين ذلك الزهر في البستان، فلم يروه.
و أخذت، و حملت، و بقيت مدة في المصادرة و الحبس، و تقلبت الفصول على البستان، و جف ما فيه، و لم يفكر أحد فيه.
فلما فرج الله عني، و جئت إلى داري، و رأيت المكان الذي كنت فيه، ذكرت الجوهر، فقلت: ترى بقي منه شيء؟.
ثم قلت: هيهات، و أمسكت.
ثم قمت، و معي غلام ينثر البستان بين يدي، و أنا أفتش ما ينثره، و آخذ الواحدة بعد الواحدة، إلى أن وجدت الجميع، و لم أفقد منه شيئاً .
ابن الجصاص يتحدثعما سلم من أمواله من المصادرة قال ابن الجصاص: لما نكبني المقتدر، وأخذ مني تلك الأموال العظيمة ، و أصبحت يوما في الحبس، آيس ما كنت فيه من الفرج، فجاءني خادم، فقال: البشرى! قلت: و ما الخبر؟ قال: قم، فقد أطلقت.
فقمت معه، فاجتاز بي في بعض دور الخليفة، يريد إخراجي من دار السيدة، لتكون هي التي تطلقني، لأنها هي شفعت في.
فوقعت عيني على أعدال خيش لأعرفها، و ما مبلغها مائة عدل، فقلت: أليس هذا من الخيش الذي حمل من داري؟

قال: بلى.
فتأملته، فإذا هو مائة عدل، و كانت هذه الأعدال، قد حملت إلي من مصر، في كل عدل منها ألف دينار، و كانت هناك ، فخافوا عليها، فجعلوها في أعدال الخيش، فوصلت سالمة، و لاستغنائي عن المال، لم أخرجه من الأعدال، و تركته في بيت من داري، و قفلت عليه، و نقل كل ما في داري، فكان آخر ما نقل منها، الخيش، و لم يعرف أحد ما فيه، فلما رأيته بشده، طمعت في خلاصه.
فلما كان بعد أيام من خروجي، راسلت السيدة، و شكوت حالي إليها، و سألتها أن تدفع إلي ذلك الخيش لا نتفع بثمنه، إذ كان لا قدر له عندهم، و لا حاجة بهم إليه، فوعدتني بخطاب مقتدر في ذلك.
فلما كان بعد أيام، أذكرتها، فقالت: قد أمر بتسليمه إليك.
فسلم إلي بأسره، ففتحته، فأخذت منه المائة ألف دينار ما أضاع منها شيء، و بعت من الخيش و ما أرادت، بعد أن أخذت منه قدر الحاجة .
الوزير ابن الفرات يحسن إلى عطارحكى أن ابن الفرات اجتاز يوماً ببعض الطرق، فاتفق أن سار تحت ميزاب، فوقع عليه منه ما لوث ثيابه، و سرجه، و دابته، فوقف في الطريق، و أنفذ إلى داره من يحضره خلعة ثياب أخرى، فرآه رجل عطار كان في الموضع، فقام إليه، و سأله أن يدخل إلى منزله، و يقيم فيه، إلى أن يعود الرسول بالثياب، ففعل، و أقام عنده، و خلع ما كان عليه، و تنظف بالماء مما كان أصابه، و أحضره الغلام الثياب، فلبسها، ثم سأله العطار، أن يأذن له في إحضار بخور يتبخر به، فأذن له، و ركب أبو الحسن.
و مضت الأيام، فلما ولي الوزارة، كانت حال العطار قد اختلت، و رزحت .
فقالت له زوجته: لو مضيت إلى الوزير، و تعرفت عليه بخدمتك كانت له ، لرجوت أن ينظر في أمرك نظراً يغير به حالك.
فأعرض عن قولها، و استبعد الأمل مما ذكرته.
ثم ألحت عليه في القول، فمضى، و دخل دار أبي الحسن، و تعرض له، إلى أن رآه، فأمسك، و انصرف.
فعرف زوجته ما جرى، فأشارت عليه بالعود.
فعاد و معه رقعة يستميحه فيها، و لم يزل حتى وجد فرصة، فعرضها عليه، فلما وقف عليها، قال: سل حاجة، تقض لك.
و اتفق أن صار إليه من خاطبه في أمر كاتب للعيال ، كان محبوساً، و سأله مسألة الوزير إطلاقه، و ضمن له خمسة آلاف دينار له خاصة، و للوزير عشرين ألف دينار، على يده، و للحواشي خمسة آلاف دينار، و واقفه على تعديل المال، عند بعض التجار بالكرخ.
فلما توثق منه، قصد الوزير، و معه رقعة بالصورة، فأمره بحمل المال، ليطلق له الرجل.
فحمل المال، فلما حصل في الدار، منع بعض الخدم من إدخاله في الخزانة، إلى أن يؤذن في قبضه.
و عرف الوزير أمره، فتقدم إلى العطار، أن يفرق ما للحاشية عليهم، و يأخذ جميع الباقي لنفسه، و أمر بإطلاق كاتب العيال.
فاستعظم العطار ذلك، و ملأ قلبه، و رأى قدره يصغر عن مثله، فقال للوزير: يقنعني من هذا كله، ألف دينار، أغير بها حالي، و أجعلها رأس مالي.
فقال له: خذ الجميع، عافاك الله، و لا تكثر علي في الخطاب.
فخرج من حضرته، و صار إلى أبي أحمد المحسن، و عرفه الحال، و أنه يقنعه اليسير مما أعطيه، و أومأ إلى حمل الباقي إليه.
فقال له أبو أحمد: يأمر لك الوزير بشيء و أصانعك عليه؟ خذ المال، و انصرف .
من يفعل الخير لا يعدم جوازيهو انبثت عن عمر ابن أحمد بن هبة الله، قال: أنبأنا أبو عبد الله الحنبلي، بأصبهان، عن أبي طاهر التاجر، قال: أنبأنا أبو القاسم بن منده، إذناً، عن أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي، قال: حدثني أبو الحسن البصري، قال: قال لي رجل: كنت أخدم علي بن محمد بن الفرات، وزيراً، فقال: فغضب عليه السلطان، و تقدم بحبسه.
قال: و كان عندي خمسمائة دينار، فقلت لامرأتي، و كانت ذات عقل و رزانة: إني أريد أن أحمل هذه الدنانير إلى الوزير، لعله يحتاج إليها في حبسه.
قالت: ويحك، إن ابن الفرات، لا يحمل إليه خمسمائة دينار، فإنه يستخفها، و حاملها.
قال: فعصيتها، و حملت الدنانير.
فلما رآني، تعجب، و قال: فلان؟ قلت: نعم، أيد الله سيدنا.
قال: حاجتك؟ فأخرجت الصرة، و قلت: هذه خمسمائة دينار، و لعلها تصلح أن تبر بها بواباً، أو موكلاً.
فقال: قبلتها، ثم قال: خذها، تكون وديعة عندك.
قال: فخجلت، و رجعت إلى امرأتي، و حدثتها، فقالت: قد كنت أشرت عليك، أن لا تفعل، فأبيت.

قال ثم إن السلطان، رضي عن الوزير، و عاد إلى أفضل مما كان عليه، فدخلت عليه؛ فلما أبصرني، طأطأ رأسه، و لم يملأ عينه مني فقلت: هذا ما قالته لي امرأتي.
و كنت أغدو إليه بعد، و أروح، فلا يزداد إلا إعراضاً عني، حتى أنفقت تلك الدنانير، و بقيت متعطلاً، أبيع ما في بيتي.
و بكرت إلى ابن الفرات يوماً، على ما بي من انكسار، و ضعف حال و منة، فدعاني، و قال: وردت البصرة سفن من بلاد الهند، فانحدر، و فسرها، و أقبض حق بيت المال ، و ما كان من رسمنا من المستثنى ، و لا تتأخر.
فعدت إلى أهلي، فقلت لها: من تمام المحنة، إنه كلفني سفراً، و أنا لا أقدر ما أنفقه.
قال: فناولتني خماراً لها، و قرطين، فبعث ذلك، و جعلت ثمنه نفقتي، و انحدرت، و فسرت السفن ، و قبضت حق بيت المال، و رسم الوزير، فحملته إلى بغداد، و عرفت الوزير فقال: سلم الحق بيت المال، و اقبض الرسم المستثنى لنا، و كم هو؟ قلت له: خمسة و عشون ألف دينار.
قال: احملها إلى منزلك.
فأخذتها إلى منزلي، و سهرت ليلي لحفظتها، على اهتمامي طول نهاري بها، و مضى لهذا الحديث زمان ليس بالطويل، و بان الضر في وجهي.
فدخلت إليه يوماً، فقال لي: ادن مني، ما لي أراك متغير اللون، سيء الحال؟.
فحدثته بإقلالي و إضاقتي.
فقال: ويحك، و أنت ممن ينفق في مدة يسيرة، خمسة و عشرين ألف دينار؟ قلت: أيد الله سيدنا الوزير، و من أين لي خمسة و عشرون ألف دينار؟ قال: يا جاهل، أما قلت لك احملها إلى منزلك؟ أتراني لم أجد من أودعه مالي غيرك؟ ويحك أما رأيت إعراضي عنك، أول دخولك إلي.
قلت: بلى أيها الوزير، و ذاك الذي لأذاب قلبي.
قال: ويحك، إنما أعرضت عنك، حياء منك، و تذكرت جميل صنيعك، و أنا محبوس، فقلت: متى أقضي حق هذا فيما فعله؟ فجعل إلى منزلك، و اتسع في النفقة، و أنا أنظر لك، بما يغنيك، و يغني عقبك، إن شاء الله تعالى.
فعدت إلى منزلي، عودة عبد من عند مولى كريم، و كان ذلك سبب غناي.
خشكنانجانات حشوها دنانيرحكى ابن الهمذاني، أن ابن سمعون ، ذكر على كرسيه في ليلة النصف من رمضان، الحلوى، و كانت مزنة، جارية أبي سعيد الصائغ ، حاضرة، و هو تاجر مشهور بكثرة المال، و منزله بدرب رباح، فلما أمسى، أتاه غلام و معه خشكنا نكه ، فكسر واحة، فوجد فيها ديناراً فكسر الجميع، و أخرج الدنانير، و حملها بنفسه، إلى أبي سعيد الصائغ، و قال: قد جئتك في سبب، و أريد أن يكون جوابك قبول قولي، و أن لا تنكر على أهل الدار، و أخبره بالدنانير.
فقال له أبو سعيد: أعيذك بالله، أن يحضر مجلسك من فيه ريبة، و الله ما تركت المرأة الدنانير إلا بحضرتي، و تساعدنا جميعاً على هذا العمل.
يكتب هذا في مكارم الأخلاقأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني محمد بن احمد بن يعقوب، قال: حدثنا محمد بن نعيم الضبي، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن احمد بن موسى القاضي، يقول: حضرت مجلس موسى بن إسحاق ، القاضي بالري، سنة ست و ثمانين و مائتين، فتقدمت امرأة، فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهراً، فأنكر.
فقال القاضي: شهودك؟ قال: قد أحضرتهم.
فاستدعى بعض الشهود، أن ينظر إلى المرأة، ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد، و قال للمرأة: قومي.
فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك، و هي مسفرة، لتصح عندهم معرفتها. فقال الزوج: أنا أشهد القاضي، أن لها عليّ هذا المهر الذي تدعيه، و لا تسفر عن وجهها.
فأخبرت المرأة بما كان زوجها، فقالت: و أنا أشهد القاضي، أني قد وهبته هذا المهر، و أبرأته منه في الدنيا و الآخرة.
فقال القاضي: يكتب هذا في مكارم الأخلاق.
من التقط ما تحت مائدته أمن من الفقرو حكي عن هدبة بن خالد ، رحمه الله، قال: حضرت مائدة المأمون، فلما رفعت المائدة، جعلت ألتقط ما في الأرض، فنظر إليّ المأمون، فقال: أما شبعت يا شيخ؟ قلت: بلى، يا أمير المؤمنين، و لكن حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ابن أنس ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم، يقول: من التقط ما تحت مائدته، أمن من الفقر.
فنظر المأمون إلى خادم واقف بين يديه، فأشار إليه، فما شعرت أن جاءني، و معه منديل فيه ألف دينار، فناولني إياه.

فقلت: يا أمير المؤمنين، و هذا من ذاك.
من محاسن القاضي أحمد بن أبي دؤادو من ملح أخبار القاضي أحمد بن أبي دؤاد، ما حكي : أن المعتصم كان بالجوسق، مع ندمائه، و قد عزم على الاصطباح، فأمر كلاً منهم أن يطبخ قدراً، و نظر سلامة، غلام أحمد بن أبي دؤاد، فقال: هذا غلام ابن أبي دؤاد جاء ليعرف خبرنا، و الساعة يأتي، فيقول: فلان الهاشمي، و فلان القرشي، و فلان الأنصاري، و فلان العربي، فيقطعنا بحوائجه عما كنا عزمنا عليه، و أنا أشهدكم أني لا أقضي له اليوم حاجة.
فلم يكن بأسرع من أن دخل إيتاخ ، يستأذن لأحمد بن أبي دؤاد. فقال لجلسائه: كيف ترون؟ قالوا: لا تأذن له يا أمير المؤمنين.
قال: سوأة لهذا الرأي، و الله، لحمي سنة، أسهل عليّ من ذلك.
فأذن له، فدخل، فما هو إلا أن سلم، و جلس، و تكلم، حتى أسفر وجه المعتصم، و ضحكت إليه جوارحه.
ثم قال: يا أبا عبد الله، قد طبخ كل واحد من هؤلاء قدراً، و قد جعلناك حكماً في أطيبها.
قال: فلتحضر لآكل، و أحكم بعلم.
فأمر المعتصم بإحضارها، فأحضرت القدور بين يديه، و تقدم القاضي أحمد بن أبي دؤاد، فجعل يأكل من أول قدر أكلاً تاماً.
فقال له المعتصم: هذا ظلم.
قال: و كيف ذاك؟ قال: أراك قد أمعنت في هذا اللون، و ستحكم لصاحبه.
قال: يا أمير المؤمنين، ليس بلقمة، و لا باثنتين، تدرك المعرفة بأخلاط الطعام، و عليّ أ، أوفي كلاً حقه من الذوق، ثم يقع الحكم بعد ذلك.
فتبسم المعتصم، و قال: شأنك إذاً.
فأكل من جميعها، كما ذكر، ثم قال: أما هذه فقد أجاد صاحبها، إذ كثر خلها و قلل فلفلها، ليشتهي حمضها، و أما هذه فقد أحكمها طباخها، بتقليل مائها، و كثرة ربها، و أقبل يصفها واحدة واحدة، حتى أتى على جميعها، بصفات سر بها أصحابها.
و أمر المعتصم بإحضار المائدة، فأكل مع القوم بأكملهم، أنظف أكل و أحسنه، فمرة يحدثهم بأخبار الأكلة في صدر الإسلام، مثل معاوية بن أبي سفيان، و سليمان بن عبد الملك، و عبيد الله بن زياد، و الحجاج، و مرة يحدثهم عن أكلة دهره، مثل ميسرة الرواس، وحاتم الكيال، و إسحاق الحمامي، فلما رفعت الموائد قال له المعتصم: ألك حاجة يا أبا عبد الله؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: فاذكرها، فإن أصحابنا يريدون أن يتشاغلوا بقية يومهم.
فقال: رجل من أهلك يا أمير المؤمنين، قد وطئه الدهر، فغير من حاله، خشن معيشته.
قال: و من هو؟ قال: سليمان بن عبد الملك النوفلي.
قال: قدر له ما يصحه.
قال: خمسين ألف درهم.
قال: قد أمرت له بها.
قال: و حاجة أخرى. قال: و ما هي؟ قال: ضياع هارون بن المعمر توغر بها له . قال: قد فعلت.
قال: فوالله ما برح حتى سأل في ثلاث عشرة حاجة، لا يرده المعتصم عن شيء منها.
ثم قام خطيباً، فقال: يا أمير المؤمنين، عمرك الله طويلاً، فبعمرك يخصب جناب رعيتك، و يلين عيشهم، و تنمو أموالهم، و لا زلت ممتعاً بالسلامة، منعماً بالكرامة، مدفوعاً عنك حوادث الأيام، و غيرها، ثم انصرف.
فقال المعتصم: هذا و الله الذي يتزين بمثله، و يبتهج بقربه، أما رأيتم كيف دخل؟ و كيف أكل، و كيف وصف القدور، و كيف انبسط في الحديث، و كيف طاب به أكلنا؟ و الله لا يرد هذا عن حاجة إلا لئيم الأصل، خبيث الفرع، و الله، لو سألني في مجلسي هذا ما قيمته عشرة آلاف ألف درهم، ما رددته عنها، فإني أعلم أنه يكسبني في الدنيا جمالاً و حمداً و في الآخرة ثواباً و أجراً .
قاضي القضاة ابن أبي دؤادينجي أبا دلف من القتل قيل: كان الأفشين مبغضاً لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي ، و حاسداً له على فضله، و يبغضه للفروسية و الشجاعة ، فحمل نفسه يوماً على قتله، و استدعاه باستحثاث و إزعاج.
و كان أبو دلف، صديقاً لقاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد، فبعث إليه: أدركني، فمن أمري كذا و كذا، فركب مسرعاً، و استحضر من حضره من الشهود.
فلما ورد باب الأفشين، قال له الغلمان: نستأذن لك؟ قال: الأمر أعجل من ذلك، و نزل، و دخل، فألفى الأفشين جالساً في موضعه، و قد أقيم أبو دلف بين يديه في الصحن.
فلما رأى الأفشين قاضي القضاة، دخل بلا أذن، بهت.
فقال له أحمد بن أبي دؤاد: أيها الأمير، أنا رسول أمير المؤمنين إليك، يأمرك أن لا تحدث في أمر القاسم حدثاً إلا بإذنه.

ثم التفت إلى الشهود، فقال: اشهدوا أني قد بلغت رسالة أمير المؤمنين و القاسم حي معافى.
ثم خرج فأتى باب المعتصم مسرعاً، و استأذن عليه، فأذن له، فلما دخل عليه، قال: يا أمير المؤمنين، قد كذبت عليك واحدة، أرجو بها الجنة، و لك بها الفخر.
قال: و ما هي؟ قال: كان من الأمر كيت و كيت.
قال: فضحك المعتصم، و قال: أحسنت، أحسن الله إليك.
ثم لم يلبث أن جاء الأفشين مستأذناً، فأذن له، فلما استقر مجلسه قال: يا أمير المؤمنين، جاءتني رسالة منك مع قاضي القضاة في معنى أبي دلف، فما تأمر في شأنه؟ قال: نعم، أرسلت إليك فيه، فاحذر أن تتعرض له إلا بخير. فأفلت بذلك من يده .
سنان بن ثابت الحرانييعالج أمير الأمراء بجكم بعث بجكم التركي، أمير الأمراء ، إلى الطبيب سنان بن ثابت ، بعد موت الراضي ، و سأله أن ينحدر إليه، إلى واسط ، فانحدر إليه، فأكرمه و قال له: إني أريد أن أعتمد عليك في تدبير بدني، و في أمر آخر، هو أهم إلي من أمر بدني، و هو أمر أخلاقي، لثقتي بعقلك، و دينك، فقد غمتني غلبة الغضب، و الغيظ، و إفراطهما فيّ، حتى أخرج إلى ما أندم عليه، عند سكونهما، من ضرب، و قتل، و أنا أسألك أن تتفقد ما أعمله، فإذا وقفت لي على عيب، لم تحتشم أن تصدقني عنه، و تنبهي عليه، ثم ترشدني إلى علاجه.
فقال له: السمع و الطاعة، أنا أفعل ذلك، و لكن يسمع الأمير مني بالعاجل، جملة علاج ما أنكره من نفسه، إلى أ، آتي بالتفصيل في أوقاته: اعلم أيها الأمير، أنك قد أصبحت، و لي سفوق يدك يد لأحد من المخلوقين، و أنك مالك لكل ما تريده، قادر على أن تفعله، ي وقت أردته، لا يتهيأ لأحد من المخلوقين منعك منه، و لا أن يحول بينك و بين ما تهواه، أي وقت أردت، و اعلم أ، الغيظ و الغضب يحدثان في الإنسان سكراً، أشد من سكر النبيذ بكثير، فكما أن الإنسان يعمل في وقت السكر من النبيذ، ما لا يليق به، و لا يذكره إذا صحا، و يندم عليه إذا حدث به، و يستحي منه، كذلك يحدث له في وقت السكر من الغيظ، بل أشد، فإذا ابتدأ بك الغضب، فضع في نفسك أن تؤخر العقوبة إلى غد، واثقاً بأن ما تريد أن تعمله في الوقت، لا يفوتك عمله، فإنك إذا بت ليلتك، سكنت فورة غضبك، و قد قيل: أصح ما يكون الإنسان رأياً، إذا استدبر ليله، و استقبل نهاره، فإذا صحوت من سكرك، فتأمل الأمر الذي أغضبك، و قدم أمر الله عز وجل، أولاً، و الخوف منه، و ترك التعرض لسخطه، و اشف غيظك، بما لا يؤثمك، فقد قيل: ما سفى غيظه من أثم، و اذكر قدرة الله عليك، فإنك تحتاج إلى رحمته، و إلى أخذه بيدك، في أوقات شدائدك، فكما تحب أن يغفر لك، كذلك غيرك، يؤمل عفوك، و فكر بأية بات المذنب قلقاً لخوفه منك، و ما يتوقعه من عقوبتك و اعرف مقدار ما يصل إليه من السرور، بزوال الرعب عنه، و مقدار الثواب الذي يحصل لكم، بذلك، و اذكر قوله تعالى: ألا تحبون أن يغفر الله لكم، و إنما يشتد ذلك عليك مرتين، أو ثلاثاً، ثم تصير عادة لك، و خلقاً، فيسهل.
فابتدأ بجكم، فعمل بما قال له .
مسافر لا يفكر في قطع الطريققال عبد الواحد بن نصر المخزومي : أخبرني من أثق به أنه خرج في طريق الشام، مسافراً يمشي و عليه مرقعة، و هو في جماعة نحو الثلاثين رجلاً، كلهم على هذه الصفة، قال: فصحبنا في بعض الطريق رجل شيخ، حسن الهيأة، معه حمار فاره يركبه، و معه بغلان عليهما رحل، و قماش، و متاع فاخر.
فقلنا له: يا هذا، إنا لا نفكر في خروج الأعراب علينا، فإنه لا شيء معنا يؤخذ، و أنت لا تصلح لك صحبتنا، مع ما معك.
فقال: يكفينا الله.
ثم سار، و لم يقبل منا، و كان إذا نزل يأكل، استدعى أكثرنا، فأطعمه و سقاه، و إذا أعيى الواحد منا، أركبه على أحد بغليه، و كانت الجماعة تخدمه و تكرمه، و تتدبر برأيه.
إلى أن بلغنا موضعاً، فخرج علينا نحو ثلاثين فارساً من الأعراب، فتفرقنا عليهم، فقال الشيخ: لا تفعلوا، فتركناهم، و نزل، فجلس، و بين يديه سفرته، ففرشها، وجلس يأكل.
و أظللتنا الخيل، فلما رأوا الطعام، دعاهم إليه، فجلسوا يأكلون، ثم حل حله، و أخرج منه حلوى كثيرة، و تركها بين يدي الأعراب، فلما أكلوا، و شبعوا، جمدت أيديهم، و خدرت أرجلهم، و لم يتحركوا.

فقال لنا: إن الحلو مبنج، أعددته لمثل هذا، و قد تمكن منهم، و تمت الحيلة عليهم، و لكن لا يفك البنج ، إلا أن تصفعوهم، فافعلوا، فإنهم لا يقدرون على الامتناع.
فعلمنا صدق قوله، و أخذنا أسلحتهم، و ركبنا دوابهم، و سرنا حواليه في موكب، و رماحهم على أكتافنا، و سلاحهم علينا، فما نجتاز بقوم، إلا ظنونا من أهل البادية، فيطلبون النجاء منا، حتى بلغنا مأمننا.
فهل عند رسم دارس من معولقال أبو بكر الصولي، حضرت باب علي بن عيسى الوزير، معنا جماعة من أجلاء الكتاب، فقدمت دواة، و كتبت:
وقفت على باب ابن عيسى كأنني ... قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل
إذا جئت أشكو طول فقري و خلتي ... يقولون لا تهلك أسى و تجمل
ففاضت دموع العين من قبح ردهم ... على النحر حتى بل دمعي محملي
لقد طال تردادي و قصدي إليهم ... فهل عند رسم دارس من معول
فنم الخبر إليه، فاستدعاني، و قال: يا صولي، فهل عند رسم دارس من معول؟ فاستحييت، وقلت: أيد الله الوزير، ما بقي شيء، و أنا كما ترى فأمر لي بخمسة آلاف درهم فأخذتها، و انصرفت .
ألا موت يباع فأشتريهو من لطائف المنقول: أن أبا محمد الوزير المهلبي، كان في غاية من الأدب، و المحبة لأهله، و كان قبل اتصاله بمعز الدولة بن بويه، في شدة عظيمة ن الضرورة و المضايقة، و سافر و هو على تلك الحالة، و لقي في سفره شدة عظيمة، فاشتهى اللحم، فلم يقدر عليه، فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
غلا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد ... وددت لو أنني فيما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدق بالوفاة على أخيه
و كان له رفيق، يقال له: أبو عبد الله الصوفي، و قيل: أبو الحسن العسقلاني، فلما سمع هذه الأبيات، اشترى له لحماً بدرهم، و طبخه، و أطعمه، و تفارقا.
و تنقلت الأحوال، و ولي الوزارة ببغداد لمعز الدولة المذكور ، و ضاق الحال برفيقه الذي اشترى له اللحم في السفر، و بلغه وزارة المهلبي، فقصده، و كتب إليه:
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقال مذكر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضيق عيش ... إلا موت يباع فأشتريه
فلما وقف عليها، تذكر الحال، و هزته أريحية الكرم، فأمر له بسبعمائة درهم، و وقع له في رقعته: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة.
ثم دعا به، فخلع عليه، وقلده عملاً، يرتفق منه .
سبحة المقتدر باللهتقوم بما يزيد على مائة ألف دينار و أنبئت عنه ابن النجار، قال: أنبأنا أبو الفرج الحراني، عن أبي علي بن المهدي، قال: سمعت الأمير أبا محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، قال: أخبرتني والدتي عمرة، جارية المقتدر، قالت: استدعى المقتدر، بجواهر، فاختار منها مائة حبة، و نظمها سبحة يسبح بها، فعرض على الجوهريين، فقوموا كل حبة منها بألف دينار، و أكثر، فكان إذا أراد أن يسبح، استدعى بها، ثم ردها إليّ، فأعلقها في الخزانة، في خريطة.
فلما قتل المقتدر، وقع النهب، فأخذت في جملة ما أخذ، فلعل الذي أخذها، لا يدري ما هي .
ما أغنى عني ماليهلما احتضر عضد الدولة ، في السنة اثنتين وسبعين و ثلثمائة، جعل يتمثل بقول القاسم بن عبيد الله :
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدواً و لم أمهل على ظنة خلقاً
و أخليت دور الملك من كل نازل ... فشردتهم غرباً و شردتهم شرقاً
فلما بلغت النجم عزاً و رفعة ... و صارت رقاب الخلق أجمع لي رقاً
رماني الردي سهماً فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاطلاً ملقى
فأذهبت دنياي و ديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى
ثم جعل يقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، فرددها إلى أن توفي في آخر يوم الاثنين من شوال هذه السنة، عن سبع و أربعين سنة، و أحد عشر شهراً و ثلاثة أيام ، و أخفى خبره، و دفن بدار المملكة، ثم حصل إلى مشهد علي عليه السلام.
أقوال الحكماء في الاسكندرو في عضد الدولة لما توفي عضد الدولة سنة 372، بلغ خبره إلى مجلس بعض العلماء، و فيه جماعة من أكابر أهل العلم، فتذاكروا الكلمات التي قالها الحكماء، عند موت الاسكندر ، و قد رويت لنا من طرق مختلفة الألفاظ، و نحن نذكر أحسنها: و ذاك، أن الاسكندر، لما مات، قام عند تابوته، جماعة من الحكماء، فقال أحدهم: سلك الاسكندر، طريق من فني، و في موته عبره لمن بقي.
و قال الثاني: خلف الاسكندر، ماله لغيره، و سيحكم فيه بغير حكمه.
و قال الثالث: أصبح الاسكندر مشتغلاً بما عانى، و هو بالأعمال يوم الجزاء أشغل.
و قال الرابع: كنت مثلي حديثاً، و أنا مثلك و شيكاً.
و قال الخامس: إن هذا الشخص كان لكم واعظاً، و لم يعظكم قط بأفضل من مصرعه.
و قال السادس: كان الاسكندر كحلم نائم انقضى، أو كظل غمام انجلى.
و قال السابع: لئن كنت بالأمس لا يأمنك أحد، لقد أصبحت اليوم، و ما يخافك أحد.
و قال الثامن: هذه الدنيا الطويلة العريضة، طويت في ذراعين.
و قال التاسع: أجاهل كنت بالموت فنعذرك، أم عالم به فنلومك؟ و قال العاشر: كفى للعامة أسوة بموت الملوك، و كفى للملوك عظة بموت العامة.
و قال بعض من حضر المجلس، الذي أشيع فيه، بموت عضد الدولة، و ذكرت فيه هذه الكلمات، لو قلتم أنتم مثلها، لكان ذلك يؤثر عنكم.
فقال أحدهم : لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، و أعطاها فوق قيمتها، و حسبك أنه طلب الربح منها، فخسر روحه فيها.
و قال الثاني : من استيقظ لدنيا فهذا نومه، و من حلم فيها فهذا انتباهه.
و قال الثالث : ما رأيت غافلاً في غفلته، و لا عاقلاً في عقله، مثله فقد كان ينقض جانباً، و هو يظن أنه مبرم، و يغرم، وهو يظن أنه غانم.
و قال الرابع : من جد للدنيا هزلت به، و من هزل راغباً عنها جدت له.
و قال الخامس: ترك هذا الدنيا شاغرة، و رحل عنها بلا زاد و لا راحلة.
و قال السادس : إن ماءً أطفأ هذه النار لعظيم، و إن ريحاً زعزعت هذا الركن لعصوف.
و قال السابع : إنما سلبك من قدر عليك.
و قال الثامن : لو كان معتبراً في حياته، لما صار عبرة في مماته.
و قال التاسع: الصاعد في درجاتها إلى سفال، و النازل في دركاتها إلى معال.
و قال العاشر : كيف غفلت عن كيد هذا الأمر، حتى نفذ فيك، و هلا اتخذت دونه جنة تقيك، إن فيك لعبرة للمعتبرين، و إنك لآية للمستصرين .
الوزير بن الفراتينصب مطبخاً لأصحاب الحوائج و أنبئت عنه عمر ابن أحمد بن هبة الله، و عن غيره، قالوا: حدثنا ذار بن كامل، قال: كتب إليّ أبو بكر الشيراوي، قال: حدثنا بائق الشيراوي، قال: أخبرنا أبو القاسم محمد بن الحسن بن علي الساري ، أن محمد بن عمر الكاتب قال: حدثنا جماعة من مشايخنا: أن صاحب الخبر، رفع إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، و هو وزير، أن رجلاً من أرباب الحوائج، اشترى خبزاً و جناً، فأكله في الدهليز، فأقلقه ذلك، و أمر بنصب مطبخ، لمن يحضر من أرباب الحوائج . فلم يزل ذلك طول أيامه.
هذا جزاء من استودع فجحدو من ذلك، ما حكي أنه: قدم رجل إلى بغداد، و معه عقد يساوي ألف دينار، فأراد بيعه، قلم يتفق، فجاء إلى عطار موصوف بالخير و الديانة، فأودع العقد عنده.
و حج: و أتى بهدية للعطار، و سلم عليه، فقال: من أنت؟ و من يعرفك؟ فقال: أنا صاحب العقد، فلما كلمه، رفسه، و ألقاه عن دكانه.
فاجتمع الناس، و قالوا: ويلك، هذا رجل صالح، فما وجدت من تكذب عليه، إلا هذا؟ فتحير الحاج، و تردد إليه، فما زاده إلا شتماً و ضرباً.
فقيل له: لو ذهبت إلى عضد الدولة ، لحصل لك من فراسته خير.
فكتب قصته، و جعلها على قصبة ، و عرضها عليه.
فقال له: ما شأنك؟ فقص عليه القصة.
فقال: اذهب غداً، و اجلس في دكان العطار، ثلاثة أيام، حتى أمر عليك في اليوم الرابع، فأقف، و أسلم عليك، فلا ترد عليّ إلا السلام، فإذا انصرفت، أعد عليه ذكر العقد، ثم أعلمني بما يقول لك.
ففعل الحاج ذلك.
فلما كان في اليوم الرابع، جاء عضد الدولة في موكبه العظيم، فلما رأى الحاج، وقف، و قال: السلام عليكم.
فقال الحاج: و عليكم السلام، و لم يترك.
فقال: يا أخي، تقدم إلى العراق، و لا تأتينا، و لا تعرض علينا حوائجك.

فقال له: ما اتفق هذا.
و لم يزده على ذلك شيئاً، هذا و العسكر واقف بأكمله، فانهل العطار و أيقن بالموت.
فلما انصرف عضد الدولة، لتفت العطار إلى الحاج، و قال له: يا أخي، متى أودعتني هذا العقد؟ و في أي شيء و هو ملفوف؟ فذكرني لعليّ أتذكر.
فقال: من صفته كذا و كذا.
فقام، و فتش، ثم فتح جراباً، و أخرج منه العقد، و قال: الله يعلم أني كنت ناسياً، و لو تذكرني به، ما تذكرت.
فأخذ الحاج العقد، و مضى إلى عضد الدولة، فأعلمه، فعلقه في عنق العطار، و صلبه على باب دكانه، و نودي عليه: هذا جزاء من استودع فجحد.
ثم أخذ الحاج العقد، و مضى إلى بلاده.
ابني ابنيو أنبئت عن المؤيد الطوسي، و أبي أحمد بن سكينة، و غيرهما، عن محمد بن عبد الباقي ، قال: كتب إليّ أبو غالب، محمد بن أحمد بن شبران الواسطي، قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن نصر الكاتب، قال: كنت عند قاضي القضاة أبي عبد الله الحسين بن ماكولا ، يوماً فحدثه أبو بكر محمد بن عمر القاضي المعروف بابن الأخضر، و هو جالس إلى جنبي، قال: حدثني الشيخ أبو الحسن علي بن نصر الفقيه المالكي، و كان ناهيك به عدالة و ثقة و ضرب بيده على فخذي قال: زوجت أيام عضد الدولة بعض غلمانه الأتراك، من صبية في جوارنا، و كان لها، و لوالدتها، أنس بدارنا، و كانت من الموصوفات بالستر و العفاف، و مضى على ذلك سنتان.
و حضرني الغلام التركي ،و قال: يا سيدي، هذه المرأة التي زوجتني بها، قد ولدت لي ابناً، و ما أشكو شيئاً من أمرها، و لا أنكره، غير أنها ما أرتين ولدي منذ ولدته، و كلما طالبتها به، دافعتني عنه، و أريد أن أراه.
فبعثت عليها، و على والدتها، و خاطبتهما، فأشارت إليّ، و قالت: يا سيدي، صدق فيما حكاه، و إنما دافعناه عن هذا لأننا قد بلينا بلية قبيحة، و ذلك أن زوجته، ولدت منه، و لداً أبلق ، من رأسه إلى سرته أبيض، و بقيته إلى قدمه أسود، في لون الحبش.
قال: و سمع التركي قولها: أبلق، فصاح: داست كفت ، ثم قال بالعربية: ابني، ابني، و هكذا كان جدي، بالتركي ، و قد رضيت.
ففرحت المرأة بقوله، و انصرفت، فأظهرت له الولد .
النار ما اشتملت عليه ضلوعهو الماء ما سحت به أجفانه أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد ابن أبي نصر الحميدي ، قال: حدثني أبو محمد علي بن أبي عمر اليزيدي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الواحد الزبيري، قال: حدثني أبو علي الحسن بن الأشكري المصري، قال: كنت من جلاس الأمير تميم بن المعز ، و ممن غلب عليه جداً، فبعث بي إلى بغداد، فاشتريت له جارية رائعة، من أفضل ما وجد في الحسن و الغناء، فلما وصلت إليه، أقام دعوة لجلسائه، و أنا منهم ثم وضعت الستارة، و أمرها بالغناء، فغنت:
و بدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء و دونه ... صعب الذرى متمنع أركانه
فدنا لينظر كيف لاح فلم يط ... نظراً إليه و صده سبحانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... و الماء ما سحت به أجفانه
قال: أحسنت، و طرب تميم، و كل من حضر، ثم غنت:
سيسليك عما فات دولة مفضل ... أوائله محمودة و أواخره
ثنى الله عطفيه و ألف شخصه ... على البر مذ شدت عليه مآزره
فطرب الأمير تميم، و من حضر، طرباً شديداً. ثم غنت:
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
فاشتد طرب تميم، و أفرط جداً، ثم قال لها: تمني ما شئت، فلك مناك.
فقالت: أتمنى عافية الأمير و بقاءه.
فقال: و الله، لا بد لك أن تتمني.
فقالت: على الوفاء، أيها الأمير، بما أتمنى؟ فقال: نعم.
فقالت: أتمنى أن أغني هذه النوبة ببغداد.
فانتقع لون الأمير، و تغير لونه، و تكدر المجلس، و قام، و قمنا كلنا.
قال ابن الأشكري: فلحقني بعض خدمه، و قال لي: ارجع، فالأمير يدعوك.
فرجعت، فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت، و جلست بين يديه.
فقال: ويحك، أرأيت ما امتحنا به؟ فقلت: نعم، أيها الأمير.

قال: لا بد من الوفاء لها، و ما أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنت هناك، فاصرفها.
فقلت: سمعاً و طاعة.
قال: ثم قمت، و تأهبت، و أمرها بالتأهب، و أصحبها جارية له سوداء، تعادلها و تخدمها، و أمر بناقة و محمل، فأدخلت فيه، و حملها معي، ثم سرت إلى مكة، مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق، و سرنا .
فلما وردنا القادسية ، أتتني السوداء عنها، فقالت: تقول لك سيدتي، أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية.
فانصرفت إليها، فأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها يرتفع بالغناء:
لما وردنا القادسي ... ة حيث مجتمع الرفاق
و شممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق
أيقنت لي و لمن أح ... ب بجمع شمل و اتفاق
و ضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق
فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله، أعيدي بالله.
قال: فما سمع لها كلمة.
قال: ثم نزلنا بالياسرية ، و بينها و بين بغداد قرب، في بساتين متصلة، ينزلها الناس، فيبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد.
فلما كان قريب الصباح، إذا بالسوداء أتتني مذعورة.
فقلت: ما لك؟ فقالت: إن سيدتي ليست حاضرة.
فقلت: و أين هي؟ قالت: و الله ما أدري.
قال: فلم أحس لها أثراً بعد، و دخلت بغداد، و قضيت حوائجي منها، و انصرفت إليه، فأخبرته الخبر.
فعظم ذلك عليه، و اغتم له، ثم ما زال بعد ذلك، ذاكراً لها، واجماً عليها.
ابن أبي حامد صاحب بيت الماليحسن إلى رجل من المتفقهة أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد ، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي ، قال: حدثني عبيد الله بن أبي الفتح، قال: حدثنا أبو الحسن الدراقطني ، قال: كان أبو حامد المرورذي ، قليل الدخول على ابن أبي حامد، صاحب بيت المال ، و كان في مجلسه رجل من المتفقهة، فغاب عنه أياماً، فسأل عنه، فأخبر أنه متشاغل بأمر قد قطعه عن حضور المجلس، فأحضره، فسأله عن حاله، فذكر انه اشترى جارية لنفسه، و أنه انقطعت به النفقة، و ضاقت يده في تلك السنة، لانقطاع المادة عنه من بلده، و كان عليه دين لجماعة من السوقة، فلم يجد قضاء لذلك، دون أن باع الجارية، فلما قبض الثمن، تذكرها، و تشوق إليها، و استوحش من بعدها عنه، حتى لم يمكنه التشاغل بفقه، و لا بغيره، من شدة قلقه، و تعلق قلبه بها، و ذكر أن ابن أبي حامد قد اشتراها، فأوجبت الحال مضي أبي حامد الفقيه، إلى ابن أبي حامد، يسأله الإقامة، و أخذ المال من البائع.
فمضى، و معه الرجل، فحين استأذن على ابن أبي حامد، أذن له في الحال، فلما دخل إليه، قام إليه، و استقبله و أكرمه غاية الإكرام، و سأله عن حاله، و عما جاء له، فأخبره أبو حامد، بخبر الفقيه، و بيع الجارية، و سأله قبض المال، و رد الجارية على صاحبها.
فلم يعرف ابن أبي حامد، للجارية خبراً، و لا كان عنده علم من أمرها، و ذلك أن امرأته كانت قد اشترتها، و لم يعلم بذلك، فورد عليه من ذلك مورد، تبين في وجهه.
ثم قام و دخل على امرأته، يسألها عن جارية اشتريت في سوق النخاسين على الصفة و النعت.
فصادف ذلك، أن امرأته، كانت جالسة، و الجارية حاضرة، و هم يصلحون وجهها، و قد زينت بالثياب الحسان و الحلي.
فقالت: يا سيدي، هذه الجارية التي التمست.
فسر بذلك سروراً تاماً، إذ كانت عنده رغبة في قضاء حاجة أبي حامد، فعاد إلى أبي حامد، و قال له: خفت أن لا تكون الجارية في داري، و لا أن فهي بحمد الله عندنا، و الأمر للشيخ أعزه الله في بابها.
ثم أمر بإخراج الجارية، فحين أخرجت، تغير وجه الفتى، تغيراً شديداً، فعلم بذلك، أن الأمر كما ذكره الفقيه، من حبة لها، و صبابته بها.
فقال له ابن أبي حامد: هذه جاريتك؟ فقال: نعم، هذه جاريتي، و اضطرب كلامه من شدة ما نزل به عند رؤيتها.
فقال له: خذها، بارك الله لك فيها.
فجزاه أبو حامد خيراً، و شكره، و سأله قبض المال، و أخبره أنه على حاله، و قدره ثلاثة آلاف درهم، فأبى أن يأخذه، و طال الكلام في ذلك.
فقال أبو حامد، إنما قصدناك نسأل الإقالة، و لم نقصد أخذها على هذا الوجه.

فقال له ابن أبي حامد: هذا رجل فقير، و قد باعها لأجل فقره و حاجته، و متى أخذت المال، خيف عليه أن يبيعها ثانية، ممن لا يردها عليه، و المال في ذمته، فإذا جاءته نفقة من بلده، جاز أن يرد ذلك.
فرد المال له، و سلمه الجارية و كان عليها من الحلي و الثياب، شيء له قدر كبير.
فقال له أبو حامد: إن رأى أيده الله أن يتفضل، و ينفذ مع الجارية، من يقبض هذه الثياب، و الحلي الذي عليها، فما لهذا الفقيه أحد ينفذه به على يده.
فقال: سبحان الله، هذا شيء أسعفناها به، و وهبناه لها، سواء كانت في ملكنا، أو خرجت عن قبضتنا، و لسنا نرجع فيما وهبناه من ذلك.
فعرف أبو حامد، أو الوجه ما قاله، فلم يلح عليه، بل حسن موقعه من قلبه.
فلما أراد لينهض، و يودعه، قال ابن أبي حامد: أريد أن أسألها، قبل انصرافها، عن شيء. فقال: يا جارية، أيما أحب إليك، نحن، أو مولاك هذا الذي باعك و أنت له الآن؟ فقالت: يا سيدي، أما أنتم، فأحسن الله عونكم، و فعل بكم، و فعل، فقد أحسنتم إلي و أغنيتموني، و أما مولاي هذا، فلو ملكت منه ما ملك نفسي، ما بعته بالرغائب العظيمة.
فاستحسن الجماعة ذلك منها، و ما هي عليه من العقل مع الصبا. و ودعته، و انصرفوا.
طبيب يعالج جارية الرشيدبإدخال الفزع إليها حدثنا أبو القاسم الجهني ، قال: إن حظية لبعض الخلفاء أظنه الرشيد قامت لتتمطى، فلما تمطت، جاءت لترد يديها فلم تقدر، و بقيتا جافتين، فصاحت، وآلمها ذلك، و بلغ الخليفة، فدخل، و شاهد من أمرها ما أقلقه، و شاور الأطباء، فكل قال شيئاً، و استعمله، فلم ينجح.
و بقيت الجارية، على تلك الصورة أياماً، و الخليفة قلق بها.
فجاءه أحد الأطباء، فقال: يا أمير المؤمنين، لا دواء لها، إلا أن يدخل إليها رجل غريب، فيخلو بها، و يمرخها مروخاً يعرفه، فأجابه الخليفة إلى ذلك، طلباً لعافيتها.
فأحضر الطبيب رجلاً، و أخرج من كمه دهناً، و قال: أريد أن تأمر يا أمير المؤمنين بتعريتها، حتى أمرخ جميع أعضائها بهذا الدهن، فشق ذلك عليه، ثم أمر أن يفعل ذلك، بعد أن تعريها، فعريت الجارية، و أقيمت.
فلما دخل الرجل، و قرب منها، سعى إليها، و أومأ إلى فرجها ليمسه، فغطت الجارية فرجها بيدها، و لشدة ما داخلها من الحياء و الجزع، حمي بدنها، بانتشار الحرارة الغريزية، فعاونتها على ما أرادت من تغطية فرجها، و استعمال يدها في ذلك، فلما غطت فرجها، قال لها الرجل: قد برئت، فلا تحركي يديك.
فأخذه الخادم، و جاء به إلى الرشيد، و أخبره الخبر.
فقال له الرشيد: كيف نعمل بمن شاهد فرج حرمتنا؟ فجذب الطبيب بيده لحية الرجل، فإذا هي ملتصقة، فانفصلت، فإذا الشخص جارية، و قال: يا أمير المؤمنين، ما كنت لأبدي حرمتك للرجال، و لكن خشيت أن أكشف لك الخبر، فيتصل بالجارية، فتبطل الحيلة، لأني أردت أن أدخل إلى قلبها فزعاً شديداً، يحمي طبعها، و يقودها إلى الحمل على يديها، و تحريكها، و إعانة الحرارة الغريزية على ذلك، فلم يقع غير هذا، فأخبرتك به، فأجزل الخليفة جائزته، و صرفه .
قال أبو القاسم: و لهذا استعملت الأطباء، في علاج اللقوة الضعيفة، الصفعة الشديدة، على غفلة، من ضد الجانب الملقو، ليدخل قلب المصفوع ما يحميه، فيحول وجهه ضرورة بالطبع إلى حيث صفع، فترجع لقوته .
المكتفي يفتقد وزيره المريضمرض القاسم بن عبيد الله بن سليمان، الوزير، في رمضان سنة إحدى و تسعين و مائتين ، فأمر أن يطلق العمال من الحبوس، و يكفل من عليه مال، و يطلق من في الحبس من العلويين الذين أخذوا ظلماً بسبب القرمطي الناجم بالشام .
و زادت علته، فاستخلف ابن أخيه، أبا أحمد عبد الوهاب بن الحسن ابن عبيد الله ، فجاء يعرض على المكتفي، فلما خرج من بين يديه، تمثل المكتفي:
و لما أبى إلا جماحاً فؤاده ... و لم يسل عن ليلى بمال و لا أهل
تسلى. بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى و لا تسلي
ذكاء المنصور العباسي

و من ذلك، ما روي عن منصور بني العباس ، و هو أنه جلس يوماً في إحدى قباب المدينة ، فرأى رجلاً ملهوفاً، يجول في الطرقات، فأرسل إليه من أتاه به، فسأله عن حاله، فأخبره أنه خرج في تجارة، فأفاد فيها مالاً كثيراً، و أنه رجع بها إلى زوجته، و دفع المال إليها، فذكرت المرأة أن المال سرق من المنزل، و لم ير نقباً و لا تسلقاً.
فقال له المنصور: منذ كم تزوجتها؟ قال: منذ سنة.
قال: تزوجتها بكراً أم ثيباً؟ قال: ثيباً.
قال: شابة أم مسنة؟ قال: شابة.
فدعا المنصور بقارورة طيب، و قال: تطيب بهذا، فإنه يذهب همك.
فأخذها، و انقلب إلى أهله.
فقال المنصور لجماعة من نقبائه: اقعدوا على أبواب المدينة، فمن مر بكم، و شممتم منه روائح هذا الطيب، فأتوني به.
و مضى الرجل بالطيب، إلى بيته، فدفعه إلى المرأة، و قال: هذا من طيب أمير المؤمنين.
فلما شمته، أعجبها إلى الغاية، فبعثت به إلى رجل، كانت تحبه، و هو الذي دفعت المال إليه، فقالت له: تطيب بهذا الطيب.
فتطيب به، و مر مجتازاً بعض الأبواب، ففاحت منه روائح الطيب، فأخذ، و أتي به إلى المنصور.
فقال له: من أين استفدت هذا الطيب؟ فتلجلج في كلامه، فسلمه إلى صاحب شرطته، و قال له: إن أحضر كذا و كذا من الدنانير، فخذ منه، و إلا فاضربه ألف سوط.
فما هو إلا أن جرد ، و هدد، حتى أذعن برد الدنانير، و أحضرها، كهيئتها، ثم أعلم المنصور بذلك، فدعى صاحب الدنانير، و قال له: أرأيت إن رددت إليك الدنانير، أتحكّمني في امرأتك؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين.
قال: ها هي دنانيرك، و قد طلقت امرأتك.
و قص عليه الخبر.
يبايع بالخلافة و هو لاجئ في البطائحأخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا محمد بن أبي نصر الحميدي ، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد لن هلال بن المحسن ، قال: أخبرني أبي ، قال: حدثني أبو الحسين محمد بن الحسن بن محفوظ قال: حدثني الوزير أبو العباس عيسى بن ما سرجس ، قال: حدثني أبو القاسم هبة الله بن عيسى، كاتب مهذب الدولة ، قال: لما ورد القادر بالله ، البطيحة، و أقام عندنا، كنت أغشاه يومين في كل أسبوع، كالنوبة في خدمته، فإذا حضرت، تناهى في الإدناء لي، و الإحفاء بي، و الرفع من مجلسي، و الزيادة في بسطي، و أجتهد في تقبيل ، و لا يمكنني منها.
فاتفق أن دخلت يوماً على رسمي، فوجدته متأهباً، تأهباً لم أعرف سببه، و لا جرت له به عادة، و لم أر منه، ما عودنيه، من الإكرام، و الرفع من مجلسي، و الإقبال عليّ، و البسط لي، و جلست دون موضعي، فما أنكر ذلك مني، و رمت تقبيل يده، فمدها إليّ و شاهدت، من أمره، و فعله، ما اشتد وجومي له، و اختلفت مني الظنون فيه، و قلت له عند رؤيتي ما رأيته، و إنكاري ما أنكرته: أيؤذن لي بالكلام.
قال: قل.
قلت: أرى اليوم من الانقباض عني، ما قد أوحشني، و خفت أن يكون لزلة كانت مني، فإن يكن ذلك، فمن حكم التفضل إشعاري به، لأطلب بالعذر مخرجاً منه، و أستعين بالأخلاق الشريفة في العفو عنه.
فأجابني بوقار: اسمع خبرك، رأيت البارحة في منامي، كأن نهركم هذان و أومأ إلى نهر الصليق ، قد اتسع، حتى صار في عرض دجلة دفعات، و كأنني متعجب من ذلك، و سرت على ضفتيه، متأملاً لأمره، و مستطرفاً لعظمه ، فرأيت دستاهيج قنطرة ، فقلت: ترى ن قد حدث نفسه، بعمل قنطرة في هذا الموضع، و على هذا البحر الكبير، و صعدته، و كان وثيقاً محكماً، و مددت عيني، فإذا بإزائه مثله، فزال عني الشك، في أنهما دستاهيج قنطرة، و أقبلت أصعد، و أصوب نظري، و أتعجب.
و بينما أنا واقف عليه، رأيت شخصاً قد قابلني من ذلك الجانب الآخر، و ناداني: يا أحمد، تريد أن تعبر؟ قلت: نعم.
فمد يده، حتى وصلت إليّ، و أخذني، و عبرني، فهالني أمره و فعله، و قلت له، و قد تعاطمني فعله: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، و هذا الأمر صائر إليك، و يطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي و شيعتي.
فما انتهى الخليفة إلى هذا الكلام، حتى سمعنا صياح الملاحين، و ضجيج ناس، فسألنا عن ذلك، فقيل: ورد أبو علي الحسن بن محمد بن نصر، و معه جماعة، و إذا هم الواردون للإصعاد به، و مد تقررت الخالفة له، و أنفذ إليه معهم قطعة من أذن الطائع لله .

فعاودت تقبيل يده، و رجله، و خاطبيته بإمرة المؤمنين، و بايعته و كان من إصعاده، و إصعادي معه، ما كان .
/الجزء الثامن
فرجة بين الصدر والقبرحدثني أبو الحسين علي بن هشام بن عبد الله، الكاتب البغدادي، المعروف أبوه، بأبي قيراط، كاتب ابن الفرات، قال: سمعت أن أبا القاسم، كان إذا خلا، وتذكر أمر الآخرة، وما هو منقطع به عنها من أمر السلطان، يقول: اللهم، لا تخرجني من الصدر إلى القبر، لا فرجة لي بينهما.
قال أبو الحسين: فأجيبت دعوته، وجلس في منزله، قبل موته، نحو من سنة، تائباً من التصرف، تاركا لطلبه.
فلما اعتل علة موته، جاءته رسالة الراضي، يستدعيه، ليقرر معه أمر الوزارة، ويوليه إياها.
فقال: الآن؟ أين كان قبل مدة، لعله لو جاءني هذا الأمر، وأنا تائب، لما رددته، ولعلي كنت أنقض التوبة، فالحمد لله الذي لم يتم علي ذلك.
الوزير علي بن عيسى
يستحث عاملا على حمل الخراجحدثني أبو الحسين، قال: أقرأني أبو عبد الله أحمد بن محمد الحكيمي كتاباً بخط علي بن عيسى، وأخبرني أنه كتبه إليه في وزارته الأخيرة، وهو يتقلد له طساسيج طريق خراسان، يحثه على حمل المال، ونسخته، قال: قد كنت - أكرمك الله - عندي، بعيداً عن التقصير، غنياً عن التنبيه والتبصير، راغباً فيما خصك بالجمال، وقدمك على نظرائك من العمال، واتصلت بك ثقتي، وانصرفت نحوك عنايتي، ورددت الجليل من العمال إليك، واعتمدت في المهم عليك.
ثم وضح لي من أثرك، وصح عندي من خبرك، ما اقتضى استزادتك، وردفه ما استدعى استبطاءك ولائمتك، وأنت تعرف صورة الحال، وتطلعي مع شدة الضرورة إلى ورود المال.
وكان يجب أن تبعثك العناية، على الجد في الجباية، حتى تدر حمولتك وتتوفر، ويتصل ما يتوقع وروده من جهتك ولا يتأخر.
فنشدتك الله، لما " 2 " تجنبت مذاهب الإغفال والإهمال، وقرنت الجواب على كتابي هذا، بمال تبتزه من سائر جهاته وتحصله، وتبادر به وتحمله، فإن العين إليه ممدودة، والساعات لوروده معدودة، والعذر في تأخيره ضيق، وأنا عليك من سوء العاقبة مشفق، والسلام.
كيف تمكن عبيد الله بن يحيى بن خاقان من التوكلحدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو عبد الله بن علي البقطائي، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن إسرائيل، قال: كان سبب رفعة عبيد الله بن يحيى، طلب المتوكل لحدث من أولاد الكتاب، يوقع بحضرته في الأبنية والمهمات، لأنه كان قد أسقط الوزارة، بعد صرف محمد بن الفضل الجرجرائي، واقتصر على أصحاب الدواوين، وأمرهم أن يعرضوا الأعمال بأنفسهم، وجعل التاريخ في الكتب، باسم وصيف التركي، وانتصب منصب الوزارة، وإن كان لم يسم بها.
فأسمي له جماعة، فاختار عبيد الله من بينهم.
فحضر أول يوم، فصلى في الدار ركعات، وجلس وعليه قباء وسيف ومنطقة وشاشية، على رسم الكتاب.
قال أبو الحسين: لأنه لم يكن أحد يصل إلى الخليفة، إلا بقباء وسيف ومنطقة من الناس كلهم، إلا القضاة، لا في موكب، ولا غيره، فإذا كان يوم موكب، كانت الأقبية كلها سواداً، وإذا كان غير يوم موكب، فربما كانت من بياض، وفي الأكثر سواداً.
فلما صلى عبيد الله، وجلس، لم يجتز به أحد من الحاشية، كبير ولا صغير، إلا قام إليه قائماً، وسلم عيه، حتى قام إلى رئيس الفراشين.
فرآه بعض الحاشية، فقال: من هذا الشقي الذي قد قام لسائر الناس، حتى قام إلى الكلاب؟ فقيل له: فلان.
ثم أذن له المتوكل، لما خلا، فدخل إليه، وكان على رأسه قلنسوة سوداء شاشية، وكان طويل العنق، فظهرت عنقه.
فلما رآه المتوكل، أومأ بيده إلى قفاه، ومسحه شبه صفعة، فأخذ عبيد الله يده فقبلها.
فنفق عليه، وخف على قلبه، وسر بذلك، واستخف روحه.
وقال له: اكتب فكتب وهو قائم: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " ، إلى قوله عز وجل " " 3 " " وينصرك الله نصراً عزيزاً " فكتب: وينصرك الله - يا أمير المؤمنين - نصراً عزيزاً، فزاد ذلك في تقبل المتوكل له، وتفاءل بذلك.
وقال له: الزم الدار، فكان يلزمها منذ السحر، إلى وقت نوم المتوكل في الليل.
وقوي أمره مع الأيام، حتى صار يعرض الأعمال، كما كان الوزراء يعرضونها، وليس هو بعد وزير، والتاريخ لوصيف.
فأمره المتوكل في بعض الأيام، أن يكتب نسخة في أمر الأبنية، فقال: نعم.
فلما كان بعد ساعة، سأله، هل كتبت؟

فقال: لم يكن معي دواة.
فقال: اكتب الساعة، فاستحضر دواة.
وكان إيتاخ الحاجب قائماً، يسمع ذلك، فلما خرج عبيد الله، قال له: إنما طلبك أمير المؤمنين، لتكتب بين يديه، فإذا حضرت بلا دواة فلأي شيء تجيء؟ فقال له عبيد الله: وأي مدخل لك أنت في هذا؟ أنت حاجب أو وزير؟ فاغتاظ من ذلك، فأمر به فبطح، وضربه على رجليه عشرين مقرعة، وقال له: الآن علمت أن لي فيه مدخلاً؟ فلم يتأخر عبيد الله عن الخدمة، وعاد، فجعل يمشي ويعرج، فسأل المتوكل عن خبره، فعرف الصورة، فغلظ عليه ذلك، وقال: إنما قصده إيتاخ لمحبتي له.
وكان قد اجتمع في نفس المتوكل من إيتاخ العظائم، مما كان يعمل به في أيام الواثق، ولا يقدر له على نكبة، لتمكنه من الأتراك.
فأمر بأن يخلع على عبيد الله من الغد، وأن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين عليه شيئاً، وأن يدفعوا أعمالهم إليه ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم.
فندم إيتاخ على ما فعله، وجعل يداري عبيد الله، ويثاقفه.
وقوي أمر عبيد الله، حتى حذف نفسه، من غير أمر، اسم وصيف من التاريخ، وأثبت اسمه.
ثم أمر له المتوكل برزق الوزارة، ثم خوطب بالوزارة، بعد مديدة، وخلع عليه لها خلعاً آخر.
ثم قلده كتابة المعتز، وخلع عليه.
ثم قلده كتابة المؤيد، وخلع عليه.
وضم المتوكل إلى ابنيه، بضعة عشر ألف رجلاً، وجعل تدبيرهم إلى عبيد الله، فكان وزيراً أميراً.
فلما تمكن هذا التمكن بالجيش، والمحل، عارض إيتاخ، وبطأ حوائجه، وقصده، ووضع من كتابه، ولم يزل ذلك يقوى من فعله، إلى أن دبر على إيتاخ، فقتله على يد إسحاق بن إبراهيم الطاهري ببغداد، بعد عود إيتاخ من الحج.
الواثق ومحمد بن عبد الملك الزياتحدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن علي بن الحسن، الكاتب المعروف بابن الماشطة، وكان يتقلد قديماً العمالات، ثم صار من شيوخ الكتاب، وتقلد في أيام حامد بن العباس، ديوان بيت المال، قال: سمعت أبا الفضل، وهو يحكي عن أبيه، وهو ابن الفضل بن مروان، قال: كان في نفس الواثق، على محمد بن عبد الملك الزيات، العظائم، مما كان يعامله به في أيام أبيه.
فمن ذلك: أن المعلم شكا إلى المعتصم، أن الواثق لا يتعلم، فإذا طالبه بذلك، شتمه، ووثب عليه، فأمر المعتصم محمداً، بأن يضرب الواثق أربعة مقارع.
فخرج محمد، واستدعى الواثق، وضربه ثلاث عشرة مقرعة، حتى مرض.
فلما عرف أبوه الخبر، أنكر ذلك، وحلف للواثق، أنه ما أمر محمداً، إلا أن يضربه أربع مقارع، فأخفاها في نفسه، فكان يبغضه.
وعلم محمد بذلك، فكان يقصده في ضياعه وأملاكه، لما ترعرع وصار أميراً.
فوقع المعتصم يوماً، أن يقطع الواثق، ما ارتفاعه ألف ألف درهم، فمحاها محمد، وكتب: ما قيمته ألف ألف درهم.
فلما دخل إليه الخادم، وعرفه ما عمله محمد، وثب إلى أبيه، وعرفه ذلك، وعرض التوقيع عليه.
فقال له المعتصم: ما أغير ما وقعت به، وما أرى في التوقيع إصلاحاً، وكان محمد قد أجاد محوه.
وعلم المعتصم، أن رأي محمد في الاقتصاد، أصلح، فبطل ما كان يريده الواثق، وانصرف.
فقال للخادم: قد تم علي من هذا الكلب، كل مكروه، فإن أفضت الخلافة إلي، فقتلني الله إن لم أقتله.
ثم قال له: أنت خادمي، وثقتي، فإن أفضى هذا الأمر إلي فاقتله ساعة أخاطب بالخلافة، ولا تشاورني، وجئني برأسه.
قال: فمضت الأيام، وتقلد الواثق، فحضر الدار في أول يوم، محمد ابن عبد الملك " 5 " ، مع الكتاب.
فتقدم الواثق إلى الكتاب دونه، بأن يكتب كل منهم نسخة، بخبر وفاة المعتصم، وتقلده الخلافة، فكتبوا بأسرهم، وعرضوا ذلك عليه، فلم يرضه.
فقال لمحمد: اكتب أنت.
فكتب في الحال، بلا نسخة، كتاباً حسناً، وعرضه، فاستحسنه، وأمر بتحرير الكتب عليه.
ولم يبرح من حضرته، حتى أقره على الوزارة، وخرج من بين يديه، والناس كلهم خلفه.
قال الخادم: فعجبت من ذلك، وقلت: تراه أنسي ما كان أمرني به؟ لم لا أستأذنه في ذلك، وأذكره به؟ فتقدمت إليه لما خلا، وأذكرته الحديث، واستأذنته، فقال: ويحك، السلطان إلى محمد بن عبد الملك، أحوج من محمد إلى سلطان، دعه.
قال: فرقاه الواثق إلى ما لم يرقه إليه المعتصم.
قال الفضل بن مروان: ولا نعلم وزيراً، وزر وزارة واحدة، بلا صرف لثلاثة خلفاء متسقين، غير محمد بن عبد الملك.
أبو خازم القاضي
يطالب الخليفة المعتضد بما في ذمته للوقفحدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبي، قال: حدثني وكيع القاضي.
قال أبو الحسين: وقد رأيت محمد بن خلف، وكيع، وكتبت عنه أشياء كثيرة، ليس هذا منها.
قال: كنت أتقلد لأبي خازم، وقوفاً في أيام المعتضد، منها وقوف الحسن بن سهل.
فلما استكثر المعتضد من عمارة القصر المعروف بالحسني، أدخل إليه، بعض وقوف للحسن بن سهل، كانت في يدي، ومجاورة للقصر.
وبلغت السنة آخرها، وقد جبيت مالها، إلا ما أخذه المعتضد.
فجئت إلى أبي خازم، فعرفته اجتماع مال السنة، واستأذنته في قسمته في سبله، وعلى أهل الوقف.
فقال لي: فهل جبيت ما على أمير المؤمنين؟ فقلت: ومن يجسر على مطالبة الخليفة؟ فقال: والله، لا قسمت الارتفاع، أو تأخذ ما عليه، ووالله، لئن لم يزح العلة، لا وليت له عملاً.
ثم قال: امض إليه الساعة، وطالبه.
فقلت: من يوصلني؟ فقال: امض إلى صافي الحرمي، وقل: إنك رسولي، أنفذتك في مهم، فإذا وصلت، فعرفه ما قلته لك.
فجئت، وقلت لصافي ذلك، فأوصلني، وكان آخر النهار.
فلما مثلت بين يدي الخليفة، ظن أمراً عظيماً قد حدث، فقال لي: هي، قل، كأنه متشوق.
فقلت: أنا ألي لعبد الحميد، قاضي أمير المؤمنين، وقوف الحسن بن سهل، ومنها " 6 " ، ما قد أدخله أمير المؤمنين إلى قصره، ولما جبيت مال هذه السنة، امتنع من تفرقته، إلى أن أجبي ما على أمير المؤمنين، وأنفذني الساعة قاصداً لهذا السبب، فأمرني أن أقول: إني حضرت في مهم، لأصل.
قال: فسكت ساعة متفكراً، ثم قال: أصاب عبد الحميد، يا صافي، هات الصندوق.
قال: فأحضر صندوقاً لطيفاً.
فقال: كم يجب لك؟ فقلت: الذي جبيت عام أول من ارتفاع هذه العقارات، أربعمائة دينار.
قال: كيف حذقك بالنقد والوزن؟ فقلت: أعرفهما.
قال: هاتوا ميزاناً، فجاءوا بميزان حراني حسن، عليه حلية ذهب، فأخرج من الصندوق دنانير عيناً، فوزن منها أربعمائة دينار، وقبضتها، وانصرفت إلى أبي خازم بالخبر.
فقال: أضفها إلى ما اجتمع للوقف عندك، وفرقه في غد، في سبله، ولا تؤخر ذلك، ففعلت.
فكثر شكر الناس لأبي خازم، لهذا السبب، وإقدامه على الخليفة، بمثل ذلك، وشكرهم للمعتضد رضي الله عنه، في إنصافه.
لوزير ابن الفرات يحاسب عاملاً
حدثني أبو الحسين علي بن هشام أبي قيراط، الكاتب البغدادي، قال: سمعت أبا الحسن، علي بن محمد بن الفرات، يحدث.
قال: كان النهيكي العامل، قد لازم أبا القاسم عبيد الله بن سليمان في أيام نكبته، فلم يكن له - لما ولي الوزارة - هم، إلا الإحسان إليه.
فقلده بادوريا، وكان لا يتقلدها إلا جلة الناس.
ولقد سمعت أخي أبا العباس يقول: إن من صلح لتقلد بادوريا، صلح أن يتقلد ديوان الخراج، ومن صلح لديوان الخراج، صلح للوزارة.
قال: والسبب في هذا أن المعاملات ببادوريا، كثيرة مختلفة، وأنها عرصة المملكة، وعاملها يعامل أولاد الخلافة، والوزراء، والقواد، والكتاب، والأشراف، ووجوه الرعية، فإذا ضبط اختلاف تلك العادات، وقام بإرضاء هذه الطبقات، صلح للأمور الكبار.
قال أبو الحسن: فأقام النهيكي، يتولى بادوريا نحو سنتين، مدة تقلد عبد الرحمن بن محمد بن يزداد لديوان الخراج، في أيام عبيد الله، ثم مدة أيام أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي الأصبغ. " 7 " إلى أن أطلقت أنا وأخي، وتقلد أخي ديوان زمام الخراج، وزمام ديوان الضياع، وخلفته عليهما.
فكنا إذا كاتبنا النهيكي في رفع الحساب، لم يجبنا، إدلالاً لمحله من الوزارة، وتعففه، فإنه كان مشهوراً بالعفة، وإذا كاتبناه في شيء من أمور العمل، أقل الحفل بكتبنا.
فلما طالت المدة علينا، ألححنا عليه بالمطالبة برفع الحساب، وشكوناه إلى الوزير فوكل به من داره، مستحثاً له في رفع الحساب لعدة سنين.
فتشاغلت أنا لعمل مؤامرة له، فلم أجد عليه كثير تأول، وحضرنا بين يدي عبيد الله لمناظرته.
وقد كنت، صدرت أول باب من المؤامرة، بأنه فصل تفصيلاً، ثمن الغلة المبيعة، جملته على حسب ما يوجبه التفصيل، أكثر من الجملة التي أوردها بألف دينار.
فقال: أتتبع، فما زال يتتبع، إلى أن صح الباب عليه، وقال: وما هذا؟ غلط الكاتب في الجملة.

فبدأت أكلمه، فأسكتني أخي، وأقبل على عبيد الله، فقال: أيها الوزير، صدق، هذا غلط في الحساب، فالدنانير في كيس من حصلت؟ فقال: له عبيد الله: صدق أبو العباس، والله، لا وليت لي عملاً يا لص.
ثم أتبعت هذا الباب، بباب آخر، وهو ما رفعه ناقصاً عما كان قدم به كتابه في كيل غلة عند قسمتها.
فلما لاحت عليه الحجة، قال: أريد كتابي بعينه.
فبدأت أكلمه، فأسكتني أخي، ثم قال: أيها الوزير، يطعن في ديوانك، ونسخ الكتب الواردة، والنافذة، شاهداً عدل.
فقال: صدق، يا عدو الله، وأمر بسحبه، فسحب.
وما برحنا، حتى أخذ خطه بثلاثة عشر ألف دينار، وأهلكناه بهذا، وما عمل بعد هذا كثير عمل.
أبو العباس ابن الفراتيهدد عاملاً قد ألط بالمال
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبي، وأبو منصور عبد الله بن جبير النصراني، قالا: حضرنا مجلس ابن الفرات، وقد عملت مؤامرة لابن حبش العماني، وكان يتقلد الزاب ونهر سابس، في أيام وزارة عبيد الله بن سليمان.
فأخذ أبو العباس وأبو الحسن يناظرانه عليها، إلى أن ألزم خمسة وعشرين ألف درهم، من أبواب صحيحة، وطولب بأدائها، وأخذ خطه بتصحيحها.
فصحح خمسمائة وأربعين، طول المدة، وألط بالمال " 8 " ، فقيد فلم ينفع، وضرب سبع مقارع، فلم يؤد.
وكان إذا خرج بإنسان من العمال، إلى هذا القدر من المكروه، فعندهم أنه النهاية.
فأخرجه أبو العباس إلى حضرته، وطالبه بالمال، فأقام على أنه لا شيء معه، وأن ضيعته وقف.
فقال له: ويلك، لا أعرف أجهل منك، إذا كان هذا صبرك على المكروه، وإسلامك لنفسك، وبذلك لها، فلم لم تأخذ أصل الارتفاع؟ فإنا ما كنا نعمل بك أكثر من هذا.
ولكن إن شئت، فأنا أدع عليك هذا المال، وأصرفك إلى منزلك، ولكن بعد أن كشف للوزير صبرك على المكاره، فلا تتصرف - والله - في أيامه أبداً، ويذهب خبرك.
قال: فقلق من ذلك، وسأل أن يخفف عنه شيء من المال، ليؤدي الباقي.
فما برحنا حتى تقرر أمره على بعض المال، وأداه، وانصرف.
الوزير عبيد الله بن سليمانيحرم عاملاً من التصرف
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات، يقول: ناظرت الجهظ، أحد العمال، على مؤامرة قد عملناها له، وكنت أنا وأخي، وجعلنا نأخذ خطه بباب باب.
فلما كثر ذلك، قال لي سراً: ليس الشأن في الخط، الشأن في الأداء ستعلمون أنكم لا تحصلون على شيء.
فسمعه عبيد الله، لأنا كنا في مجلسه، فقال له: أعد علي ما قلت، فاضطرب.
فقال: لابد أن تعيده، فأعاد ذلك.
فقال: إذن، لا تلي لي - والله - بعدها عملاً أبداً، قم عافاك الله إلى منزلك، خرق يا غلام، المؤامرة.
قال: فخرقت في الحال، وانصرف الجهظ إلى منزله، فما صرفه عبيد الله بعد ذلك.
وشاع خبره، فتحامى الناس كلهم استخدامه، فهلك جوعاً في منزله، حتى بلغ أنه احتاج إلى الصدقة.
وزير ينفى لأنه طرب لغناء صوتحدثنا أبو الحسين، قال: حدثنا أبو عبد الله زنجي الكاتب، قال: حدثنا أبو العباس بن الفرات، قال: كتب صاحب الخبر، بمدينة السلام، إلى إسماعيل بن بلبل، في وزارته الأولى للمعتمد، بأن مغنية من جواري بدعة الكبرى، غنت عند الحسن بن مخلد، وهو إذ ذاك معطل، بهذا الصوت، فاستعاده، وطرب عليه " 9 " .
عادات طيء في بني أسد ... ري القنا وخضاب كل حسام
لهفي على قتلى النباج فإنهم ... كانوا الذرى ورواسي الأعلام
كانوا على الأعداء سيف محرق ... ولجارهم حرماً من الأحرام
لا تهلكي جزعاً فإني واثق ... برماحنا وعواقب الأيام
فأنهى إسماعيل ذلك إلى المعتمد، وقال: هذا يسعى عليك، ويتربص بك الدوائر، فأمر بنفيه إلى مصر، فكان مضيه إليها سبب تلفه.
أحمد بن طولون
يقتل الحسن بن مخلد بالسمحدثنا أبو الحسين، قال: سمعت أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد، قبل الوزارة، يتحدث، قال: حدثني أبو عبد الله حمد بن محمد القنائي الكاتب.

قال أبو الحسين: وكان ابن أخت الحسن بن مخلد، وكان قد خلفه دفعات، على ديوان الخراج، ومرة على ديوان الضياع، ثم ولي أعمالاً جليلةً، من العمالات، والدواوين، منها ديوان المغرب، ومات وهو يتقلد ديوان الخراج، والضياع العامة بالسواد، وما يجري فيه وقد رأيته، وتعلمت بين يديه، وسمعته يتحدث بأشياء، ولم أسمع هذا منه.
قال سليمان : قال لي حمد: سألت الخادم الذي تبع خالي الحسن بن مخلد، إلى ابن طولون، لما نفي إليه، عن السبب الذي دعا ابن طولون، إلى قتله، فقال: لما ورد عليه، تناهى في إكرامه، وبره وإعظامه، ثم أنس به، حتى نادمه وصار يشاركه في مهم أموره.
فشاوره مرات في خلع طاعة المعتمد، فعظم عليه أمر السلطان، وخوفه من العصيان، فقبل رأيه.
ثم طولب ابن طولون، بمال الوظيفة التي كانت عليه، فقال لابن مخلد: ما رأيت أعجب من جهل هذا المخذول - يعني الموفق - يطالبني بالوظيفة، وهو عاص على الخليفة، إلى من أحمل؟ فقال له: لا تفعل، فإن الأمور إليه، والجيش معه، وإن منعته المال، قصدك وحاربك.
فقام في نفس ابن طولون أنه دسيس للقوم عليه، وقال: لو كان هذا عدواً للقوم، ما أشار علي بهذه المشورة، وإنما هو دسيس على ملكي، ليأخذ البلدان مني لهم، ويرهبني، ويستخرج البلدان مني باللطف.
فتنكر له، ثم أمر بالقبض عليه، وحبسه، وكان جباناً، فلم يحب - مع إيحاشه له - أن يفلت، في وقت من الأوقات، فدس إليه في شربة، فقتله بها.
وجد الموفق، وأنفذ إليه المعتضد في الجيش " 10 " ، وأخرج أحمد بن طولون، خمارويه، ابنه، لمحاربة المعتضد، فتحاربا، فانهزم كل واحد منهما من صاحبه، وهو لا يعلم أن صاحبه قد انهزم.
فضرب الناس بهما المثل، وقالوا: صبي لقي صبياً، وهكذا تكون محاربة الصبيان.
قال: فلما جرت هذه الحال، تندم أحمد بن طولون، على قتل الحسن ابن مخلد، وقال: صدقني، فلم أقبل منه واتهمته.
جرأة وزير على أخذ أموال السلطانحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد، قال: قال لي نافذ، خادم أبي وثقته، وكان يتولى نفقته: إني ما رأيت أجسر من مولاي، على أخذ مال السلطان.
ومن ذلك، أني باكرته يوماً، وقد لبس سواده، ليمضي إلى دار المعتمد، وهو إذ ذاك يتولى دواوين الأزمة والتوقيع، وبيت المال.
فقلت له: قد صككت علي البارحة للمعاملين، بألف وستمائة دينار، وما عندي من ذلك حبة واحدة.
فقال لي: يا بغيض، تخاطبني في هذه الساعة؟ أين كنت عن خطابي البارحة لأوجه لها وجهاً؟ ولكن اتبعني إلى دار السلطان.
فتبعته.
ودخل إلى المعتمد، مع عبيد الله بن يحيى الوزير، ودخل معهما أحمد ابن صالح بن شيرزاد، صاحب ديوان الخراج، فلما خرج، قال لي: امض إلى صاحب بيت المال، فخذ منه ما يسلمه إليك.
فظننت أنه قد استسلف على رزقه شيئاً، فمضيت إلى صاحب المال، فسلم إلي ثلاثين ألف دينار.
فاستعظمت ذلك، وعلمت أنه ليس من الرزق، وحملتها إلى الدار، وعرفته خبرها.
فقال لي: أنفق منها ما وقعت به إليك، واحفظ الباقي، فليس في كل وقت يتفق لنا مثل هذا.
ومضى على الحديث أيام، ودعا دعوة، فيها صاعد بن مخلد، وإليه - إذ ذاك - عدة دواوين، وجماعة من الكتاب، وأكلوا، وناموا، وانتبهوا.
فإذا كاتب من كتاب أحمد بن صالح بن شيرزاد، يستأذن علي، فاستأذنت لدخوله على مولاي، وكانوا قد بدأوا بالشرب.
فترك مولاي المجلس، وخرج إلى بيت خلوة، واستدعى الرجل، فأدخله إليه.
فسمعته يقول: أخوك أبو بكر، يقرأ عليك السلام - يعني أحمد بن صالح - ويقول لك: أنت تعرف رسمي مع صاحب بيت المال، وأن محاسبته " 11 " في سائر الأموال إلي، وأنا إذا تمت ثلاثون يوماً، وجهت صاحبي إلى حساب بيت المال، فحمله مع صاحب بيت المال، لينظم دستور الختمة بحضرتي، وأصحح حكايتها.
ونحن منذ عشرة أيام في هذا، حتى انتظمت الحسبة، ولم يبقى إلا ثلاثون ألف دينار، ذكر صاحب بيت المال، أنك خرجت إليه، من حضرة أمير المؤمنين، فأمرته بحملها إلى خادمك نافذ، ولست أدري في أية جهة صرفت؟ ولا في أي باب أثبتها؟ ولا ما الحجة فيها؟

قال: فأجابه مولاي بلا توقف، وقال: أخي أبو بكر - والله - رقيع، أسأل أنا الخليفة، في أي شيء صرف ما أمر أن يحمل إلى حضرته؟ يجب أن يكتب في الختمة: وما حمل إلى حضرة أمير المؤمنين في يوم كذا وكذا، ثلاثون ألف دينار.
قال: فقام الكاتب خجلاً، ومر ذلك في الحساب على هذا، فما تنبه أحد عليه، وحصل له المال.
الوزير ابن الفرات
يستولي على أموال المصادراتقال أبو الحسين، فقال لي سليمان، بعقب هذه الحكاية: ما رأيت لهذه الفعلة شبيهاً، إلا ما عمله ابن الفرات، في وزارته الأولى، فإنه نصب يوسف بن فنحاس، وهارون بن عمران، الجهبذين، فلم يدع مالاً لابن المعتز، ولا للعباس بن الحسن، ومن نكب، وبل في الفتنة، وما صح من مال المصادرين، وغيرهم ممن يجري مجراهم، إلا أجراه على أيديهما، دون يدي صاحب بيت مال العامة والخاصة.
وأفرد لذلك ابن فرجويه، كاتبه، يحاسبهما، ولا يرفع لهما حساب إلى ديوان من الدواوين.
فلما كان في السنة التي قبض عليه فيها، كتب كتاباً عن نفسه إلى مؤنس الخادم صاحب بيت المال، ذكر فيه: أنه حوسب يوسف بن فنحاس، وهارون بن عمران، على ما حصل عندهما من كيت وكيت - حتى استغرق تلك الوجوه - فكان الباقي قبلهما - بعد الذي حمل إلى حضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وصرف في مهمات أمر بها هو، والسادة أيدهم الله - من الورق، ألف ألف، وأربعمائة وسبعين ألف درهم، وخمسمائة وستة وأربعين درهماً، وأمر بقبض ذلك منهما، وإيراده بيت مال الخاصة.
فقبض مؤنس منهما تلك البقية، ومضى الأصل " 12 " كله، لا يعرف في أي شيء صرف، وكان مبلغه، فيما ظنه الكتاب، وكانوا يتعاودونه، نحو ألف ألف دينار، فإن ابن الفرات فاز بجميعها، ولم تقم بها حجة عليه.
قال أبو الحسين: فحدثني أبي بعد ذلك، قال: لما قلدني علي بن عيسى، في وزارته الأولى، ديوان الدار، الجامع للدواوين، أمرني بإحضار هذين الجهبذين، ومطالبتهما بختماتهما، لما كان حصل في أيديهما، في وزارة ابن الفرات الأولى، من الجهات التي تقدم ذكرها.
فاستدعيتهما، وطالبتهما، فأحالا على أن ابن الفرات، أخذ حسابهما ولم يدع عندهما نسخة منه.
فأمرني بحبسهما، وتهديدهما، ففعلت ذلك.
فأحضراني حساباً مبتوراً، ذكروا أنهما وجداه، فرأيته غير منتظم.
فلم أزل أرفق بهما، إلى أن أقرا أنه قد وصل إليهما من فضل الصرف، فيما بين ما ورد عليهما، وبين ما أنفقاه، مائة ألف درهم، فجعلتها عشرة آلاف دينار، وقررت أمرهما عليها، وأخذت بها خطوطهما.
فلم يقنع علي بن عيسى بذلك، وأخذهما من يدي، وسلمهما إلى حمد ابن محمد وكان إليه ديوان المغرب، وأمره أن يتتبع أمرهما بنفسه، وكان حسن الكتابة، ولم يعرفه أني أخذت خطهما بشيء.
فتتبع حمد ذلك، فلم يجد في الحساب، إلا إحالات على " حمل إلى الخليفة، والسادة " وأشياء صرفت إلى خاص ابن الفرات.
فقال له حمد: هذا كله مزوق، والقوم معهم حجج بالإبراء، وما عليهم طريق، وابن الفرات كان أجلد من أن يدع هؤلاء يفوزون بحبة من المال.
فردهما إلي، وقال: اجتهد في أن تأخذ منهما مائتي ألف دينار.
فقلت: لا يمكن ذلك.
فقال: اعمل على أنك طالبتهم بمرفق لنفسك بتمام مائتي ألف درهم.
فقلت له: فإذا فعلت هذا، فأي شيء أعمل أنا لنفسي؟ فقال: خذ منها عشرين ألف درهم، وألزمهما مائة وثمانين.
قال: فخرجت، وجددت بهما، إلى أن ألزمتهما ذلك. وأخذت لنفسي منه ما قال.
فلما فرغنا من ذلك، أخذنا بها خطوطهما، وأخذنا لهما خطه بالبراءة من ذلك.
فقال لي علي بن عيسى: سأريك موضعي أنا من العمل " 13 " ، وأن للرئيس في كل أمر موضعاً لا يقوم فيه أحد مقامه.

فاستحضرهما إلى حضرته، وأنا في مجلسه، فقال لهما: تريدان مني أن أزيل عنكما تبعة، إن لم أزلها بقيت عليكما، وعلى ورثتكما، أبد الدهر؟ لست أفعل هذا إلا بشيء يقرب، لا ضرر عليكما فيه، وهو: أني أحتاج في كل هلال، إلى مال أدفعه في ستة أيام من ذلك الشهر، إلى الرجالة، ومبلغه ثلاثون ألف دينار، وربما لم يتجه في أول يوم من الشهر، ولا الثاني، وأريد أن تسلفاني في أول كل شهر، مائة وخمسين ألف درهم، ترتجعانها من مال الأهواز في مدة الشهر، فإن جهبذة الأهواز إليكما، فيكون هذا المال سلفاً لكما أبداً، واقفاً، وهي عشرون ألف دينار، فيكون ذلك بإزاء مال القسط الأول من النوبة، فيخف عني ثقل ثقيل.
فتأبيا ساعة، فلم يفارقهما حتى استجابا لذلك.
فقال لي علي بن عيسى: كيف رأيت؟ فقلت: ومن يفي بهذا إلا الوزير، أيده الله تعالى.
قال: وكان علي بن عيسى، إذا حل المال، وليس له وجه، استسلفه من التجار على سفاتج قد وردت من الأطراف، فلم تحل، عشرة آلاف دينار، بربح دانق ونصف فضة في كل دينار، وكان يلزمه في كل شهر ألفان وخمسمائة درهم أرباحاً.
فلم يزل هذا الرسم يجري على يوسف بن فنحاس، وهارون بن عمران، ومن قام مقامهما، مدة ست عشرة سنة، وبعد وفاتهما، لأنهما ما صرفا إلى أن ماتا، وكانا قد تقلدا في أيام عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان السلطان لا يرى صرفهما، ليبقى جاه الجهبذة مع التجار، فيقرض التجار بالجهبذة، إذا وقعت الضرورة، ومتى صرف الجهبذ، وقلد غيره، ولم يعامله التجار، وقف أمر الخليفة.
الصناعة نسبحدثنا أبو الحسين، قال: حدثني أبو بكر محمد بن جني الكاتب، وكان أبوه مغنياً، وهو من أعيان الكتاب، قال: حدثني ابن ثوابة الكاتب، قال: حدثني أبو الفرج عن نجاح بن سلمة، عن أبيه عن الفضل بن مروان، قال: كنت أتولى مجلس الحساب، من قبل صاحب ديوان الرشيد، وكان يجيئنا إلى الديوان، شيخ من بقايا كتاب " 14 " بني أمية، وكان صاحب الديوان يقول لنا: هذا أكتب أهل زمانه، وكان يلبس دراعة وقلنسوة كأكسية النصارى، وخفاً أحمر، وكان هذا زي المتعطلين من الكتاب إذ ذاك، وكان صاحب الديوان يكرمه جداً.
فصار إلي في يوم من الأيام لحاجة عرضت له، وأنا متشاغل بعمل مهم قد طلبه الرشيد، وأنا جالس حيال صاحب الديوان أعمله، فقصرت في حق الشيخ.
ولامني صاحب الديوان على تقصيري به، ووبخني، فاعتذرت إليه بشغل القلب.
فلما كان بعد أيام جاءني، فزدت في إكرامه، وقمت إليه، وجلست بين يديه.
فأقبل علي صاحب الديوان، فقال: أحسبك عاتبت فتانا على تقصيره أولاً.
ثم أقبل علي، وقال: يا فتى، كنا نعد الصناعة نسباً، والنعمة نسباً، واللغة نسباً، والنحلة نسباً.
كيف اتصل الفضل بن مروان
بالمأمون ووزر لهحدثنا أبو الحسن قال: حدثنا أبو عبد الله الباقطائي، قال: حدثني أبو الفضل عون بن هارون بن مخلد بن أبان، وكان كاتب المأمون، على ديوان الضياع، قال: قال ميمون: سمعت الفضل بن مروان يقول: لا ينبغي لأحد أن يحقر أحداً، ولا يأيس علوه، فإني كنت في حداثتي أتوكل لهرثمة بن أعين في مطبخه، أيام الرشيد، وكان بخيلاً، وكان له خادم يشرف على مطبخه، وأجرى علي خمسة عشر درهماً في الشهر ووظيفة خبز.
فلما كثر توفيري عليه، صيرها عشرين درهماً.
وكنت لا آكل من مطبخه شيئاً، فسأل الخادم عن أكلي، فعرفه أني لا آكل، فأمره أن يطعمني من المطبخ كل يوم، ويوفر الوظيفة على منزلي.
فدعا يوماً دعوة عظيمة، فوفرت عليه في الأسعار ألف درهم، وعرضت عليه بذلك عملاً، فسره، وحسن موقعه منه، وكان بخيلاً جداً.
فقال لي يوماً: قد استحققت الزيادة، فكم تحب أن أزيدك؟ فقلت: لا أقل من عشرة دراهم أخرى.
فقال: هذا كثير، ولكن أربعة دراهم.
فأيست من خيره، واتفق له بعد ذلك، خروج عن مدينة السلام، فتعاللت عليه، ولم أتبعه، ولزمت الديوان، وتعلمت، فصرت كاتب مجلس في ديوان الرشيد، وكان ذلك أول إقبالي " 15 " ، وتخرجت، وزادت حالي مع الأيام.
فلما ولي المأمون، وعظم من أمر المعتصم، كان المعتصم شديد المحبة للصيد، وكنت في فتنة محمد المخلوع، قد صرفت ما كنت جمعته في ضياع وبساتين بالبردان وصاهرت بعض تنائها، واجتمعت لي حال، فلما انجلت الفتنة، كنت من وجوه البردان.

فاجتاز بها المعتصم، منصرفاً من صيده، متسرعاً، وليس معه من أصحابه كبير أحد.
فاجتاز في الطريق، وأنا واقف على بابي، فتوسمت فيه الجلالة، وقدرته أحد وجوه القواد.
كان لي وعد على عامل البلد، أن يكون ذلك اليوم في دعوتي، وقد أعددت له طعاماً، وفيه جداء، وحلوى، وفاكهة كثيرة، وثلج استدعيته من بغداد، وكان قبل ذلك بساعة، قد جاءني خبر العامل، أنه عرض له مهم في السواد، فخرج لوقته.
فلما رأيت المعتصم، وتوسمت فيه الجلالة، قلت: لم لا أحلف على هذا القائد، وأضيفه عندي على هذا الطعام المعد؟ قال: فكلمته، وسألته الزول عندي.
فأجاب، ونزل، وأكل، وشرب، وأنفذت في الحال، فاستدعيت له قياناً، وجلس يشرب، وقد انبسطت بين يديه، وخدمته.
فنحن نشرب، انبث الجيش في طلبه، وعرفوا خبره، وأحاطوا بالدار، فعرفت حينئذ، أنه أخو الخليفة، فهبته.
فبسطني، وسألني عن شرح حالي، فعرفته، فقال: لا بد أن تجيء معي إلى بغداد.
وقلدني بعض أموره، ثم تزايدت حالي عنده، إلى أن جمع لي جميع أمره، ورياسة كتابه.
ثم خلطني بخدمة المأمون، وقلدني ديوان الخراج مضافاً إلى كتبة أخيه.
ثم رقيت إلى الوزارة، من تلك الحال التي كنت عليها مع هرثمة.
قال أبو الحسين: ما رؤي في الدولة العباسية، من الكتاب، من اتصل تصرفه منذ نشأ، إلى أن مات، وترددت ولايته الوزارة، وديوان الخراج، وديوان الضياع، من غير أن يتعطل، أحد، غير الفضل بن مروان.
وصادره المعتصم على أربعين ألف ألف درهم " 16 " ، فأداها بغير مكروه.
الخليفة المعتصم يصادر وزيرهوسمعت حامد بن العباس، يحكي: أنه سمع صاعداً، يقول: حدثني أحمد بن إسرائيل، قال: حدثني الفضل بن مروان، قال: ما في الأرض أجهل من وزير يطلب الخليفة منه مالاً، وهو في ولايته، فيعطيه إياه، فإنه يطمعه في نعمته، وإنما يدفع النكبة مدة، ثم تحدث، وقد ذهب المال.
فمن ذلك: أن المعتصم، لما خرج لغزو الروم، وأنا وزيره، استخلفني على سر من رأى، واستخلف لي بحضرته، محمد بن الفضل الجرجرائي.
فلما عاد، طمع في، فقال لي: قد وردت، والمال نزر، والجيش مستحق، فاحتل لي مائة ألف دينار، من مالك وجاهك، ففعلت.
فلما مضى شهر، طلب مني على هذا السبيل، خمسين ألف دينار، ففعلت.
فطلب مني في الدفعة الثالثة، بمثل هذا الوجه، ثلاثين ألف دينار، فوعدته بها، ودافعته أياماً، ثم جملتها إليه.
فبلغني عنه، أنه قال لابنه الواثق: هذا النبطي، ابن النبطية، أخذ مالي جملة، وهو ذا يتصدق به علي تفاريق.
ثم قبض عليه، بعد أيام، وأخذ منه أربعين ألف ألف درهم.
العمارة والتوفير
أولى واجبات الوزيرحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الملك التواريخي، وكان شيخاً قد عني بجمع التواريخ، فلقب بها، وكان يجلس في الجامع إلى جانب الزجاج، ويعظمه، قال: سمعت المبرد يقول: كنت أصحب الفضل بن مروان، فذكر بحضرته - في أيام الواثق - عظم بناء أحمد بن الخصيب بسر من رأى، وأنه استعمل في سقف دهليز داره سبعين قارية ساج، والقارية: ساجة عظيمة، تستعمل صحيحة، فقال الفضل: ما كانت لي في حياتي، لذة في بناء، ولا فرشٍ، ولا غلمان، ولا جوارٍ، ولا مفاخرة بمروءة، وإنما كانت لذتي في العمارة والتوفير، ولهذا اتصلت مدتي في صحبتهم.
ولعهدي، وقد وليت للمأمون ديوان الخراج، فوجدت الأهواز. قد اختلت ببثق سد أبطل العمارة، فأنفقت عليه، مائة ألف دينار، وجددت في عمارة النواحي، وكانت كور الأهواز " 17 " ، إذ ذاك، قد ارتفعت بأربعة وعشرين ألف ألف درهم للسلطان، فضمنتها له بثمانية وأربعين ألف ألف درهم، صالحة للحمل.
السبب في علو حال
عبيد الله بن يحيى بن خاقان مع المتوكلحدثنا أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الفرج محمد بن جعفر بن حفص الكاتب قال: حدثنا أبي، قال: سمعت نجاح بن سلمة، يقول: إن السبب في علو حال عبيد الله بن يحيى بن خاقان، مع المتوكل، أن أباه يحيى بن خاقان بن موسى، تقلد ديوان الخراج في أيام المتوكل، فقلد ابنه أبا محمد عبد الله، مجلساً من مجالس الديوان، ولم ير عبيد الله، أهلاً لمثل ذلك.
فغضب على أبيه، وصار إلى الفضل بن مروان، وهو يتقلد ديوان الضياع، فلزمه، وخط بين يديه.

وكانت أرمينية تجري في ديوان الضياع، وكان على أهلها مقاطعة فضلها مال جليل، فامتنع الفضل من إمضائها لهم، وعرض عليه مرفق مائة ألف درهم، فأبى قبولها، وطرحوا نفوسهم على أكثر الوجوه بسر من رأى، فلم يجب أحداً إلى ذلك، فلجأوا إلى عبيد الله بن يحيى، وسألوه مسألته، لما ظهر من اختصاصه به، ونفاقه عليه.
فخاطبه في أمرهم، فتذمم من رده، لأنه ما كان يعمل معه بالرزق، ولا له نفع، وكانت حاله قوية، وإنما أراد التصرف مراغمة لأبيه، وجعل ذلك كالمرفق له، والصلة، فأجابه، وأمضى المقاطعة.
فحمل إليه القوم خمسة آلاف دينار، فردها، وقال: ما كنت لآخذ على معروفي ثمناً.
فلما خرجوا إلى أرمينية، أحبوا مهاداته، ومكافأته، فاستعملوا له فرش بيت أرمني ببساطٍ عظيم، ومصليات، وأنخاخ، ومساور، ومخاد، ودست، وستور، وأذهبوا الجميع، وكتبوا عليه كنيته واسمه، ولم يكن رؤي قط مثله حسناً وجلالة، وحملوه إليه.
واتفق أنه وكل المتوكل، تلك السنة، بالطرق، وأمر أن لا يدخل شيء من الأمتعة، أو يعرض عليه، فعرض عليه البيت، في جملة ما جيء به من أرمينية، فاستهوله، وقال: من هذا " 18 " الرجل؟ فقالوا: هو عبيد الله بن خاقان.
قال: وأي شيء إليه، حتى يستعمل له هذا العمل؟ لعل هذا مرفق لأبيه؟ فقيل له: إن أرمينية تجري في ديوان الضياع، ولا معاملة بينه وبين أبيه.
فاستشرح الصورة، ونقر عليها، إلى أن حدث الحديث على صحته.
فاستحسن ذلك من فعل عبيد الله، وأمر بتسليم فرشه إليه، وقال: هذا فتى يدل فعله، على كبر همته.
فلما صرف محمد بن الفضل الجرجرائي، عن وزارته، قال: قد استغنيت عن وزير، لأن أصحاب الدواوين، يعرضون أعمالهم علي، والتاريخ يجعل باسم وصيف التركي، فأجرى الأمر على ذلك مدة.
ثم إنه احتاج إلى كاتب يكون بين يديه، في أبنيته، والتوقيعات في المهم الذي يأمر به من حضرته فيها، وفي غيرها، إلى أصحاب الدواوين، وغيرهم، فأمر أن يطلب له حدثٌ من أولاد الكتاب، ينصبه لذلك.
فسمي له جماعة، منهم: عيسى بن داود بن الجراح، وأبو الفضل بن مروان، وجماعة، وكان فيهم عبد الله وعبيد الله، ابنا يحيى بن خاقان.
فحين مر على سمعه ذكر عبيد الله، ذكر حديث الفرش، فاختاره، ولم يزل حاله يرقى معه، إلى أن استوزره.
ابن شيرزاد يتحدث
عن عمله في ديوان الضياع الخاصةحدثني أبو الحسن، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن زكريا بن شيرزاد الكاتب، قال: لما تقلد أبي ديوان الضياع المعروفة بغريب الخال، استخلف أخي أبا الحسين، زكريا بن يحيى على الديوان، وأجرى له عشرين ديناراً في الشهر، وأجرى علي عشرة دنانير برسم التحرير في هذا الديوان، فأنفت من ذلك. ولم أقبل الرزق، ولا العمل.
ومضيت إلى ديوان الضياع الخاصة، وكان يليه، إذ ذاك، أبو حامد محمد ابن الحسن، الملقب بسودانية، فلم ألقه، ولا توسلت إليه، بما كان بين أبي وبينه.
ولزمت الديوان بحضرة أبي يوسف عبد الرحمن بن محمد بن سهل المعروف بالمرمد، وإليه كان مجلس الحساب في هذا الديوان، مدة " 19 " شهر، وكنت أتعلم.
فبلغ أبا حامد خبري، ولم أكن - إذ ذاك - بلغت عشرين سنة، ولا قاربتها، فاستحضرني، فدخلت إليه، فعاتبني على تركي الدخول إليه، والتعرف إليه، وأمرني بملازمة حضرته، وأجرى لي درجين وثبتاً وقرطاساً في كل يوم، وقال: سود فيها، وتعلم الخط.
فلما كان بعد أيام، فرقت أرزاق الكتاب لشهر واحد، فوقع إلى خازنه، المتولي للتفرقة، أن يحمل إلي، بقيمة عشرين ديناراً، ثلثمائة درهم، وقال: قد أجري لك هذه في كل شهر.
فصرت إلى أبي، فأريته إياها، وقلت: قد فعل الله بي خيراً مما فعلت.
فقال: خذ الآن العشرة، والزم موضعك، ليصير لك ثلاثين ديناراً في الشهر.
فأخذتها، وكان هذا أول إقبالي.
البحتري وأبو معشر
يؤصلان عند المعتز أصلاً
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد، قال: لما أنفذ أبي إلى مصر، اجتذبت البحتري وأبا معشر، فكنت آنس بهما، لوحدتي، وملازمتي البيت، وكانا في أكثر الأوقات، يحدثاني ويعاشراني.
فحدثاني يوماً: أنهما أضاقا في وقت من الأوقات، إضافة شديدة، وكانا مصطحبين، فعرض لهما أن يلقيا المعتز، وهو محبوس، ويتوددان إليه، ويؤصلان عنده أصلاً، فتوصلا إليه، حتى لقياه في حبسه.

قال: فقال لي البحتري: فأنشدته أبياتاً، كنت قلتها في محمد بن يوسف الثغري، لما حبس، وجعلتها إليه، وهي:
جعلت فاك الدهر ليس بمنفك ... من الحادث المشكو والحدث المشكي
وقد هذبتك النائبات وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك
أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في الحبس برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
على أنه قد ضيم في حبسك العلى ... وأصبح عز الدين في قبضة الشرك
فأخذ الرقعة التي فيها الأبيات، ودفعها إلى خادم كان معه، وقال: غيبها واحتفظ بها، فإن فرج الله عني، فأذكرني بها، لأقضي حق هذا الرجل.
قال أبو معشر: وكنت قد أخذت مولده، وعرفت وقت عقد البيعة للمستعين، ووقت " 20 " البيعة بالعهد من المتوكل للمعتز، ونظرت فيه وقد صححت النظر، وحكمت له بالخلافة، بعد فتنة وحروب، وحكمت على المستعين بالخلع والقتل، فسلمت ذلك إليه، وانصرفنا.
قال وضربت الأيام ضربها، وصح الحكم بأسره، فدخلنا جميعاً، إلى المعتز، وهو خليفة، وقد خلع المستعين، وكان المجلس حافلاً.
قال أبو معشر: فقال لي المعتز: لم أنسك، وقد صح حكمك، وقد أجريت لك مائة دينار في كل شهر رزقاً، وثلاثين ديناراً نزلاً، وجعلتك رئيس المنجمين في دار الخلافة، وأمرت لك عاجلاً بألف دينار صلة.
قال: فقبضت ذلك عاجلاً كله في يومي.
قال البحتري: وأنشدته أنا في ذلك اليوم، قصيدتي التي مدحته بها، وهنأته، وهجوت المستعين، وأولها:
يجافينا في الحب من لا نجانبه ... ويبعد عنا في الهوى من نقاربه
حتى انتهيت إلى قولي:
وكيف رأيت الحق قر قراره ... وكيف رأيت الظلم آلت عواقبه
ولم يكن المغتر بالله إذ شرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعري من برد النبي مناكبه
وقد سرني أن قيل وجه مسرعاً ... إلى الشرق تحدى سفنه وركائبه
إلى واسطٍ نحو الدجاج ولم تكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه
فضحك، واستعاد هذه الأبيات مراراً، فأعدتها.
فدعى بالخادم، وطلب الرقعة التي فيها أبياتي التي أنشدته إياها في حبسه، فأحضره إياها، بعينها.
فقال: قد أمرت لك لكل بيت في الرقعة بألف دينار، وكانت ستة، فأعطيت ستة آلاف دينار.
وقال لي: كأني بك، وقد بادرت، فاشتريت غلاماً، وجارية، وفرساً، وفرشاً، وأتلفت المال، لا تفعل، فإن لك، فيما تستأنفه من أيامك معنا، ومع وزرائنا وأسبابنا، إذا علموا موقعك منا، غناء عن ذلك، فاشتر بهذا المال ضيعة ببلدك، تقوم في أدناها فترى أقصاها، ويبقى لك أصلها، وتنتفع بغلتها، كما فعل ابن قيس الرقيات، بالمال الذي وصله به عبد الله بن جعفر.
فقلت: السمع والطاعة، وخرجت، فعملت " 21 " بما قاله، واعتقدت بالمال ضيعة جليلة بمنبج، ثم تأثلت حالي معه، وأعطاني، وزاد وما قصر.
ضيعة البحتري
في حيازة حفيد ولدهحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الفتح بن جعفر بن محمد بن الفرات، بعد عوده من مصر والشام، في أيام الراضي، وتقلد الوزارة، قال: اجتزت في رجوعي هذا، إلى مدينة السلام، بمنبج، فرأيت ضياعاً في نهاية العمارة والحسن.
فسألت عنها، فقيل: هي أقطاع البحتري الشاعر وأملاكه.
فقلت: لمن هي اليوم.
فقيل لي: هي اليوم في يد ابن ابنة ابنه أبي الغوث.
فقلت: هذا نسب طويل، وأمرت الحسن بن ثوابة بقبضها.
فلما كان من الغد، جاءني رجل متكهل، في زي الجندي، وذكر أنه صاحب الضياع، وقال: يا سيدي، هذه الضياع التي قال جدي البحتري بسببها:
وما أنا والتقسيط إذ تكتبونه ... ويكتب قبلي جلة القوم أو بعدي
وأنشدني هذه الأبيات كلها، وقال: ذاك بكاء لأجل تقسيط يسير، فكيف يكون حالي، إذا قبضت هذه الضياع؟ قال: فتذممت أن أكون سبب ذهاب معيشته، فأطلقت له عنها.
عامل يصفع عند المطالبةحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الفتح، قبل تقلده الوزارة الأولى بمدة طويلة، قال: حدثني أبي، قال:

صرفت محمد بن يوسف العامل، عن بادوريا، وتقلدتها، فاستدركت عليه أشياء كثيرة، وطالبته بها، فلم يرد فيهاشيئاً.
فأخرجته يوماً إلي، وناظرته، فأقام على أمر واحد، فاغتظت عليه وأمرت بصفعه، فلم يتأوه، ولم يزل يصيح: واحدة، فإذا صفع أخرى قال: ثانية.
وعلى هذا، إلى أن صفع ثلاث عشرة صفعة.
فتعجبت من عده، وقلت: يا هذا، ويحك أي فائدة لك في العد؟ وأن لا تستعفي.
قال: أنا أعدد ذلك - أعزك الله - لأصفعك بعدده، بعد أيام، إذا صرفتك، وتقلدت مكانك، فلا أظلمك بالزيادة، ولا تفوز بالنقصان.
قال: فأخجلني، فقلت: قم، في غير حفظ الله إلى منزلك.
فأطلقته، وذهب المال.
حمال مستورحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا نفطويه، قال: حدثنا ثعلب، قال: كان عندنا في الحربية، حمال مستور " 22 " ، يوصف بالزهد وكان لا يحمل لأصحاب السلطان شيئاً، وكان إذا حمل على قدر قوته - على ضيق - لم يزدد عليه شيئاً، وأراح نفسه، ولا يحمل إلا كارة خفيفة، مثل لحم وفاكهة، وما يكون قدره خمسين رطلاً أو نحوه.
قال: فاتبعته يوماً، وهو لا يعلم أني خلفه، فرأيته يضع رجلاً، ويول: الحمد لله، ويرفعها، ويقول: أستغفر الله.
فقلت له: لم تفعل هذا؟ فقال: أنا بين نعم لله، وذنوب، فأنا أحمده - عز وجل - على نعمه، وأستغفره من ذنوبي.
فأردت امتحانه، فقلت: ما تقول في علي وأبي بكر؟ فقال: إذا نشرت الدواوين، ووضعت الموازين، أأسئل عن ذنوبي، أم عن تفضيل أبي بكر وعلي؟ فقلت: بل عن ذنوبك.
فقال: فلي في نفسي شغل عن معرفة الأفضل منهما.
حامد بن العباس
وبواب الوزير إسماعيل بن بلبلحدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبي، قال: سمعت حامد بن العباس يقول: ما في الدنيا أضر على الإنسان من مداجاة العدو، وينبغي أن تشهر ما بينك وبين عدوك، حتى لا يقبل قوله فيك.
قال، وسمعته يقول: ربما انتفع الإنسان في نكبته بالرجل الصغير، أكثر من منفعته بالكبير.
فمن ذلك: أن إسماعيل بن بلبل، لما حبسني، جعلني في يد بواب، كان يخدمه قديماً، قال: وكان رجلاً حراً، فأحسنت إليه، وبررته، وكنت أعتمد على عناية أبي العباس بن الفرات.
وكان البواب قديم الخدمة لإسماعيل، يدخل إلى مجلس الخاصة، ويقف بين يديه، فلا ينكر ذلك خدمه عليه، لسالف الصحبة.
فصار إلي في بعض الليالي، فقال: قد حرد الوزير على ابن الفرات، وقال له: ما يكسر المال على حامد غيرك، ولا بد من الحد في مطالبته بباقي مصادرته، وسيدعو بك الوزير في غدٍ إلى حضرته، ويهددك.
فشغل ذلك قلبي، فقلت له: فهل عندك من رأي؟ فقال: اكتب رقعة إلى رجل من معامليك، تعرف شحه، وضيق نفسه والتمس منه لعيالك ألف درهم يقرضك إياها، واسأله أن يجيبك على ظهر رقعتك، لترجع إليك، فتخرجها، فإنه لشحه وسقوطه، يردك بعذر، واحتفظ بالرقعة، فإذا طالبك الوزير، أخرجتها " 23 " إليه، وقلت: قد أفضت حالي إلى هذا، وأخرجتها على غير مواطأة، فلعل ذلك ينفعك.
ففعلت ما قاله، وجاءني جوابه بالرد، كما حسبنا، فشددت الرقعة معي.
فلما كان من غدٍ، أخرجني الوزير، وطالبني، فأخرجت الرقعة، وأقرأته إياها، ورققته، وتكلمت، فلان واستحيا، وكان ذلك سبب خفة أمري، وزوال محنتي.
فلما تقلدت في أيام عبيد الله بن سليمان، سألت عن البواب، واجتذبته إلى خدمتي، فكنت أجري عليه خمسين ديناراً كل سنة.
وهو باق معي إلى الآن.
عامل مصروف يختبئ في قدر هريسةحدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبي، عن جدي عبد الله بن هشام، قال: حدثني يحيى لن عبد الله الكسكري، قال: كنت أكتب لابن البختري الأصغر على مصر، فصرف بسليمان بن وهب، وخرج معه ابنه عبيد الله - وكان يخلفه عليها - .
فجلس العامل ابن البختري لرفع حسابه، وتخلوا لنظم الحساب، وكنت أغدو وأروح إلى سليمان، أعرض عليه ما أعمل.
وكان قد وكل بابن البختري، قائداً من قواد مصر، معه عدة من الفرسان، والرجالة، والغلمان، وكان ابن البختري يقيم لهم الطعام الواسع.
وحضر المهرجان، فتقدم بأن تحضر قدر النبيذ، وتعمل فيها الهريسة، في الدار التي كان فيها معتقلاً.
وكان قصيراً ضئيلاً، فجاءوا له بالقدر، وطبخ فيها الهريسة، في جملة الطعام، وأكل الموكلون، وشربوا، وسكروا.

وأعمل هو الحيلة، فجلس في القدر، وغطيت عليه، وأخرجت، ولم يعرفوا خبره، حتى طلبوه لما أفاقوا، فلم يجدوه.
قال يحيى بن عبد الله: ولم أكن أنا عرفت الخبر، فبكرت إلى سليمان، على رسمي، فوجدت عبيد الله جالساً، متشاغلاً بطلبه، وقد ضج، وهو يقول: أي شيء أقبح من أن يتصل بالخليفة، أنا عجزنا عن حفظ العامل المصروف، فيقال فينا: كيف يحفظ هؤلاء الأموال، والأعمال، مع عجزهم عن حفظ محبوس؟ وجعل يضرب الناس في التقرير عليه.
وأمر بالقبض عليّ، لما رآني، فقلت له: أعزك الله، لو كان عندي علم بالخبر ما جئتك، قال: فصدق قولي، وكان حضوري سبب " 24 " خلاصي.
قال: ووقع في يده وكيل نصراني لابن البختري، يتوكل في مطبخه، وكان نبطياً، وقيل له: إنه لا يجوز أن يخفى عليه خبره، فجعل يضربه.
وكان في المجلس سليمان بن وهب، وأصحاب البرد والأخبار، والناس بأجمعهم.
وكنت أحسن النبطية، ولم يكن عبيد الله يحسنها.
فلما حمي الضرب على الوكيل، كاد أن يقر على موضع ابن البختري، ففهم ذلك سليمان، ولم يحب أن يأمره بالإنكار، فيكتب بالخبر، وأراد أن يسلم المنكوب، سلوكاً لمذهب الناس قديماً، في طلب السلامة، بالإبقاء على أعدائهم.
قال: فقال للمضروب كلاماً بالنبطية، تفسيره: لا تقر، فإن الإقرار مثل القير لا ينقلع.
قال: فتصبر الرجل على الضرب، ثم قال سليمان لعبيد الله: إلى كم تضرب هذا البائس؟ لو كان يعرف شيئاً لقاله، اقطع عنه الضرب، لا يتلف، فتدخل في دمه.
قال: فرفع الضرب عنه، وأطلق من يومه، وأفلت المستتر.
من مكارم أخلاق المأمونحدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو بكر محمد بن عبد الملك التاريخي، قال: حدثنا المبرد، قال: حدثني الحسن بن سهل، لما أسن، وجلس في بيته، قال: دخلت يوماً إلى المأمون، وهو جالس، وبحضرته جماعة من خواصه، منهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وكان في يده كتاب يقرأه، فلم ينظر إلي، فوقفت قائماً.
فقال له إسحاق: يا أمير المؤمنين، أبو محمد، الحسن بن سهل.
فقال لي: اقعد، فقعدت.
فقال: أحضر دواتك، فأحضرت.
فقال: وقع بتقليد إسحاق بن إبراهيم، جميع أعمال المعاون بالسواد، جزاء له على ما نبه عليه من تكرمتك يا أبا محمد.
فشكرته، ودعوت له، ووقعت بذلك.
الشاعر الكوفي أبو الحسن البصيرأنشدني أبو الحسن محمد بن غسان بن عبد الجبار بن أحمد الداري، الصيدلاني، البصري، قال: أنشدني أبو الحسن عبد الله بن سليمان الكوفي، الضرير، المعروف بالبصير، لنفسه:
واحربا ما الذي لقيت أنا ... أحمل في كل بلدة شجنا
أدخلها وادعاً فتجلب لي ... رقة قلبي من أهلها سكنا " 25 "
الخارجي وصلاة الجمعةحدثني أبو الحسن محمد بن غسان بن عبد الجبار، قال: رأيت بعمان شيخاً من الخوارج، قد دخل في يوم الجمعة، من ناحية بلد الشراة، إلى السوق بعمان، وكانت طريق الناس إلى الجامع، والناس يتعادون إلى حضور الجمعة، خوفاً من فوتها، والخارجي ماشٍ الهوينا في حاجته، لا يراعي أمر الجمعة، فإذا بشيخ قد جاء من ناحية الجامع، فالتقيا.
فقال الشيخ للخارجي، وهو لا يعرفه، وقدر أنه يريد الجامع: إلى أين تمضي يا شيخ؟ وقد صلى الناس وفاتتك الصلاة؟ فقال الخارجي: يا أبله، إنما فاتت من أدركها.
يريد أن التجميع معهم، لا يسقط الفرض الذي هو الظهر، وهو إذا جمع معهم ترك الظهر، فتفوته الصلاة الواجبة، وهي الظهر، ويصلي ما لا يجزي عنه في مذهبه من تفكيرهم.
قال: ولم يفهم الشيخ ما سمعه.
وقلت أنا للخارجي: أظنك - أعزك الله - شارياً؟ قال: فقال: نعم، والحمد لله.
قال: وهم يستحبون أن يقال لهم شراة، ويأبون أن يقال لهم: خوارج، ويذهبون إلى قوله تعالى " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " .
أحد القائلين بالتناسخ
يدعي أن الهرة أمهحدثني أبو الحسن علي بن نظيف البغدادي، المعروف بابن سراج، المتكلم، المعروف بالبهشمي، قال:

كان يجتمع معنا في المجالس ببغداد، شيخ للإمامية يعرف بأبي بكر بن الفلاس، وكان طيباً، فحدثنا يوماً: أنه دخل على بعض من كان يعرفه بالتشيع، ثم صار يقول بمذهب أهل التناسخ، قال: فوجدته، وبين يديه سنور سوداء، وهو يمسحها، ويحك بين عينيها، ورأسها، وعينها تدمع، كما جرت العادة في السنانير بذلك، وهو يبكي بكاء شديداً.
فقلت له: لم تبكي؟ فقال: ويحك، ما ترى هذه السنور تبكي كلما مسحتها؟ هذه أمي لا شك، وإنما تبكي من رؤيتها لي حسرة.
قال: وأخذ يخاطبها خطاب من عنده أنها تفهم عنه، وجعلت السنور تصيح قليلاً قليلاً.
قال: فقلت له، وأنا معتقد الطنزبه : فهي تفهم ما تخاطبها به؟ فقال: نعم.
فقلت له: أفتفهم أنت عنها صياحها؟ فقال: لا.
فقلت له: " 26 " فأنت إذن الممسوخ، وهي الإنسان.
كتاب تعزيةكتب محمد بن عيسى، أحد كتاب زماننا، بتعزية إلى صديق له، قرأته بخطه، فاستحسنت منه صدره، ونسخته: من سره امتداد عمره، ساءته فجائع دهره، بفقد حميمن أو طارق هموم، عادة للزمان معروفة، وسنة للحدثان مألوفة، وأحق من سلم للأقضية والأقدار، من وهب الله تعالى له جميل الاصطبار، فإن أصابته مصيبة، تلقاها مسلماً، أو نابته نائبة، وجدته محتسباً.
شاعر يقتضي ثواب مديحكتب إلي عمرو بن محمد بن الأشعث، شاب ورد من عمان، مجتازاً بواسط - ذكر أنه كان من الجند فيها، فزالت نعمته، وهرب حين ملك الديلم عُمان - أبياتاً في آخر رقعة له، اقتضاني فيها، ثواب مديح، كان أسلفنيه، وهي:
مات الرجاء بغيظه فلك البقا ... ولربما أفضى النعيم إلى الشقا
فإن احترقت فمن تلهب حادث ... لأقل منه تلهباً أن يحرقا
إن كان عود الجود جف فإنه ... لم يسق ماء نداك حتى أورقا
وأريد منك إذا حرمت مطالبي ... تسعى معي فلعلني أن أرزقا
الانتقال في ليلة واحدة
من الحر إلى البردحدثني أبو علي المنتاب، قال: حدثني أبي، قال: كنا مع حامد بن العباس في ولايته، يوماً، جلوساً في الخيش، بواسط، في النصف الأخير من تشرين الثاني، لشدة الحر، فجاء البرد في ليلة، فأصبحنا من غد، وقد لبسنا الخزوز والمحشو، وعجبنا من التفاوت بين الحالين في شدة الحر، وفي شدة البرد، في ليلة واحدة.
في العافية طعم كل شيءحدثني أبو علي محمد بن محمد بن إسماعيل بن شانده الواسطي، قال: سمعتبعض شيوخنا، يحكي عن إبراهيم الحربي، أنه قال: في العافية طعم كل شيء، وفي الرزق نصر كل شيء.
القاضي أبو خازم والخليفة المعتضدحدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: سمعت القاضي أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي، الأنباري، يحدث أبي، وقد جئت إليه معه نهنيه بعيد أضحى، فحدث أحاديث، فقال: حدثني أبو خازم القاضي، قال: كان في حجري أيتام، ذكور وإناث، خلفهم بعض العمال، فرددت أمانتهم، إلى بعض الشهود، فصار إلي " 27 " الأمين يوماً، وعرفني أن عامل المستغلات، ببغداد، الذي يتولى مستغلات السلطان، وعامل بادوريا، قد أدخلا أيديهما، في أملاك الأيتام، وذكرا أن الوزير عبيد الله ابن سليمان، أمرهما بذلك، عن أمير المؤمنين المعتضد.
فصرت إلى المعتضد في يوم موكب، فلما انقضى الموكب، دنوت منه وشرحت له الصورة.
فقال لي: يا عبد الحميد، هذا عامل خانني في مالي، واقتطعه، ولي عليه مال جليل، من نواحي كان يتولاها من ضيعتي خاصة، وما لي عليه بضعف هذه الأملاك التي خلفها.
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما تدعيه عليه يحتاج إلى بينة، وقد صح عندي أن هذه الأملاك أملاكه يوم مات، ولا طريق إلى انتزاعها من يد وارثه إلا ببينة بالمال، هذا حكم الله في البالغين، فكيف في الأطفال؟ قال: فسكت ساعة مطرقاً، ثم دعا بدواة، ووقع بخطه إلى عبيد الله ابن سليمان، بالإفراج عن الضياع.
دهاء عبدون أخي صاعد بن مخلدحدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات، وكان يخلف أبا نوح بن إبراهيم، على ديوان الضياع، حدث أنه: كانت في يد صاعد بن مخلد، ضمانات كثيرة، وكانت إليه معاملة مع أبي نوح، وكان صاعد - إذ ذاك - من وجوه الناس، ولم يكن بلغ المبالغ الكبار.

فحضر عنده صاعد، أول خلافة المعتز، ونحن حضور، فطالبه أبو نوح بأموال وجبت عليه، وجرت بينهما مناظرات، أدت إلى أن تنقطع في الجواب.
فاغتاظ أبو نوح، فأعضه، فرد عليه صاعد، مثل ما قاله له.
فاستعظم الناس ذلك، فاستخفوا به، وقالوا: يا مجنون، يا جاهل، قتلت نفسك، قم، قم.
وخلصوه من أن يفتك به أبو نوح في الحال، وقالوا: هذا مجنون، ولم يدر ما خرج من فيه.
وانصرف صاعدا إلى منزله متحيراً، لا يدري ما يعمل فيما قد نزل به.
فحدث أخاه عبدوناً بما جرى، فقال له: إن لم تطعني، فأنت غداً مقبوض عليك، مطالب من المصادرة بما لا يفي به حالك، ولا حال من عرفك من أهلك، ومقتول بلا شك، تشفياً منك.
قال: وما الرأي؟ قال: كم عندك " 28 " من المال الصامت العتيد ؟ وأصدقني عن جميعه.
قال: خمسون ألف دينار.
قال: تسمح نفسك أن تتعرى منها، وترمي بها كأنها لم تكن، وتنقذ نفسك وتحرس بدنك، وما بقي من حالك، وضياعك، وعقارك، فتصير من أجلاء الناس؟ أو لا تسمح بذلك، فتؤخذ الدنانير منك تحت المقارع، وتذهب الضيعة والنعمة كلها، وتذهب النفس؟ قال: ففكر طويلاً، ثم قال: قد تعريت عنها في عز نفس.
قال: أعطني منها الساعة ثلاثين ألف درهم.
قال: خذ.
فأخذها، وجاء إلى حاجب موسى بن بغا، وقت عتمة، وقال له: هذه عشرة آلاف درهم، وأوصلني إلى فلان الخادم.
قال: وكان هذا الخادم، يتعشقه موسى جداً، ويطيعه في كل أمره، وموسى إذ ذاك هو الخليفة، وكتبته كالوزارة، والأمور في يديه، والخليفة في حجره.
قال: فأخذ الحاجب المال، وأوصله إلى الخادم، فأحضره العشرين الألف درهم الباقية، وقال: هذه هدية لك، وتوصلني الساعة إلى الأمير، وتعاونني في حاجة أريد أن أسأله إياها، ومشورة أريد أن أشير عليه بها.
فأوصله الخادم.
فلما مثل بين يديه، سعى إليه بكتابه، وقال: قد نهبوك، واقتطعوا مالك، وأخرجوا ضياعك، وأخي يجعل كتبتك أجل من الوزارة، ويتغلب لك على الأمور، ويوفر عليك كذا، ويفعل كذا، ويحمل إليك الليلة، من قبل أن ينتصف الليل، خمسين ألف دينار عيناً، هدية منه لك، لا يريد عليها مكافأة، ولا يرتجعها من مالك، وتستكتبه، وتخلع عليه غداً سحراً.
قال: فقال له موسى: أفكر.
فقال: ليس هذا موضع فكر، وألح عليه.
قال: وقال له الخادم: في الدنيا أحد جاءه هذا المال العظيم دفعة واحدة، فرده؟ وكاتب بكاتب، والمال ربح.
قال: فأجابه، وصافحه.
فقال له: فتنفذ الساعة بمن يحضرك أخي، وتشافهه بذلك.
وأنفذ من أحضره، وبات عبدون في الدار، وقلد موسى كتبته لصاعد، في الحال، وأمره بالبكور إليه ليخلع عليه، وتقدم إلى النقباء بأن يباكروا الرجل ليركبوا معه.
قال: وبكر صاعد، وليس عند أحد له خبر، فخلع عليه موسى بن " 29 " بغا لكتبته، وركب الجيش على بكرة أبيهم، وانقلبت سر من رأى، بظهور الخبر.
فبكر بعض المتصرفين، إلى الحسن بن مخلد، وكان صديقاً لأبي نوح، فقال له: قد خلع على صاعد.
فقال: لأي شيء؟ فقال: تقلد كتبة موسى بن بغا.
فاستعظم ذلك، وقال: ثيابي.
فأحضرت، فلبس، وركب إلى أبي نوح، فقال له: عرفت خبر صاعد؟ فقال: نعم، الكلب، وقد بلغك ما عاملني به؟ والله لأفعلن به ولأصنعن.
قال: أنت نائم؟ ليس هذا أردت، قد ولي الرجل كتبة الأمير موسى ابن بغا، وخلع عليه الساعة، وركب الجيش معه بأسرهم، إلى داره.
فقال له أبو نوح: هذا ما لم نظنه، بات خائفاً، وأصبحنا خائفين منه، فما الذي عندك؟ فقال: أنا أصلح بينكما الساعة.
قال: فركب الحسن بن مخلد، إلى صاعد، وهنأه، وأشار عليه أن يصالح أبا نوح، وقال له: وأنت بلا زوجة، وأنا أجعلك صهره، وتعتضد به، فإنك وإن كنت قد نصرت عليه، فهو من يعلم موضعه، ومحله، ويتجمل بمصاهرته، ومودته، وأنت حبيب على الرجل.
قال: ولم يدعه، حتى أجاب إلى الصلح والصهر.
فقال له: فتركب معي إليه، فإنه هو أبو الابنة، والزوج يقصد المرأة، ولولا ذاك لجاءك.
قال: فحمله من يومه إلى أبي نوح، واصطلحا، ووقع العقد في الحال بينهما.
وزوج أبو نوح، في مجلسه ذلك، ابنته الأخرى، بالعباس بن الحسن بن مخلد، فولدت له أبا عيسى المعروف بابن بنت أبي نوح، صاحب بيت مال الإعطاء، ثم تقلد ديوان زمام الجيش لعمه سليمان بن الحسن، وكان أصغر سناً من أبيه.

فكانت كتبة صاعد لموسى، ومصاهرته لأبي نوح، أول رتبه العظيمة التي بلغها، ثم تقلبت به الحال، حتى ولي الوزارة.
حدة طبع أبي العباس بن الفراتحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو القاسم سليمان بن الحسن، قال: كنت أخط بين يدي أبي العباس بن الفرات، في أول وزارة عبيد الله ابن سليمان، وأتحقق به، لأن أبي اصطنع أباه، وكنت أشرب معه.
فكنا ليلة على شراب، وقد جرت الأحاديث، فحدثنا بأخبار عدة من الكتاب والوزراء، كانت فيهم حدة.
وقال: كان أحمد بن الخصيب، يركل المتظلمين.
وكان أبو عباد ثابت بن يحيى، يضربهم بالمقرعة، إذا كان راكباً.
وكان أحمد بن أبي خالد، يشتمهم.
وعد جماعة " 30 " ، قال: وكان في أبي العباس، حدة، وسفه لسان، فسمعنا ذلك منه، ولم نقدم على موافقته.
فلما كان من غدٍ، ركب وأنا معه، في السحر، فلقيه في الطريق، أهل سمطيا، يتظلمون من عاملهم، في شيء ذكروه، فصاح عليهم، وشتمهم.
فتقدم إليه أحدهم، فألح عليه في الكلام، فرفسه برجله في الركاب، وقنعه بالمقرعة، وبصق عليه.
فذكرت الحديث الذي حدثنا به من ليلته، فضحكت.
فسمع قهقهتي، فالتفت مبتسماً، وقال: من أي شيء ضحكت يا عيار؟ فقلت: زدتنا نتفة يا سيدي في ذلك الحديث الذي جرى البارحة.
فقال: أو قد حفظته؟ قلت: نعم.
قال: فقال لي سليمان بن الحسن: سمعت دفعات لا أحصيها، أبا العباس ابن الفرات، وقد احتد طبعه على قوم غضب عليهم، وكان يقول للواحد منهم: يا ابن مائة ألف كر خردل مضروبة في مائة ألف مثلها زواني، تشاغل بحساب هذا فهو أنفع لك.
سفه لسان حامد بن العباسقال أبو الحسين: وما رأينا ولا سمعنا، برئيس أسفه لساناً، من حامد ابن العباس، فإنه كان لا يرد لسانه على أحد البتة، وكان إذا غضب شتم.
فمن ذلك: أن أبي حدثني، أنه كان بحضرته في مجلس حافل، فجاءت أم موسى القهرمانة، فقالت له: إن أمير المؤمنين أمرني أن أقول لك، في مجلس حفلك، أن ابن الفرات، كان يحمل إلي خريطة في كل يوم فيها ألف دينار، وإلى السيدة عشرة آلاف دينار في الشهر، وإلى الأمراء والقهارمة، خمسة آلاف دينار في الشهر، وأنك قد أخللت منذ أربعين يوماً.
فقال لها في جواب ذلك: الساعة قد جئت حادة محتدة، تطالبينني بهذا؟ اضرطي والتقطي، واحذري لا تغلطي.
قال: فقامت خجلة، وكان ذلك أحد أسباب سقوطه عندهم، وغلبة علي بن عيسى على الأمور.
ومن ذلك: أنه استحضر ابن عبد السلام العدل، يطالبه بوديعة، سعي بأنها عنده لابن الفرات، وأن يحيى بن عبد الله الدقيقي، أبا زكريا، قرابة أم كلثوم، قهرمانة ابن الفرات، أودعه ذلك " 31 " .
فجرى الخطاب بينهما في ذلك، وعلي بن عيسى حاضر، والخلق من القضاة والأشراف والأولياء، وكنت فيهم، وأنا حدث مع أبي.
فقال له: هذا الدقيقي ابن البظراء، قرابة أم كلثوم العفلاء، تعرفه؟ فقال العدل: الوزير أعزه الله، أعرف به مني.
ومن ذلك: أنه قال لابن الحواري، في دار الخليفة، وأم موسى حاضرة، ليلة قدم من واسط ليتقلد الوزارة، في حديث جرى بينهما: قد نكت أمه مرتين.
فقالت أم موسى: ويلي، أي شيء هذا؟ فاستحيا، وقال لابن الحواري: نحن في السواد، إذا غلبنا خصومنا، قلنا قد نكنا أمهاتهم.
ومنها: أنه استحضر الوليد بن أحمد، ابن أخت الراسبي، ليصادره بمصادرة قد وقف عليها، عشية عيدٍ أتى عليه في وزارته، ولم يشغله حضور الناس عنده للتهنئة بالعيد.
فأتي بالرجل بجبة صوف، فلما رآه علي بن عيسى، وكان حاضراً، قال: إن رأى الوزير أن يخليني وإياه لأخاطبه، وأقوده إلى امتثال أمره.
فقال: افعل.
واستدعاه إليه، وجعل يساره، وكان علي بن عيسى، قريب المجلس من حامد، يسمع عليه ما يخاطبه به.
فسمع الوليد يحلف قليلاً، قليلاً، ما بقيت لي حيلة.
فقال لعلي بن عيسى: يا أبا الحسن، تلومني الساعة، أن أنيك أم هذا؟ فقال علي بن عيسى: اللهم غفراً، أي والله، أي لوم.
قال: وكان ابن عبدوس الجهشياري، الذي ألف كتاب الوزراء، قائماً على رأس علي بن عيسى، لأنه كان يحجب أبا الحسن، وكان أبوه من قبله مضموماً إليه رئاسة الرجال، برسم علي بن عيسى الوزير، وكان يحجبه أيضاً.
قال: فتنحى ابن عبدوس من مكانه، وقال: لعن الله زماناً صرت أنت فيه وزيراً.

ومنها: أنني سمعته، وقد اجتاز على باب دار كنا ننزلها بشارع الكوفة، إذ ذاك، وأنا قائم على الباب، وقد اتفق أن كلمه في الموضع، قوم من أهالي بادوريا، في خراج النخل الشهريز، وأكثروا، وأنهم يبيعون المائة رطل منه - وهي حمل نخلة - بدرهمين، وخراجها ثلاثة دراهم، وأنهم يمنعون من قلعه، فإما أذن لهم في ذلك، وإما خفف عنهم من الخراج.
قال: فصاح عليهم، وقال: ليس لي في هذا نظر، قد صار النظر في هذا وشبهه، إلى علي بن عيسى، فامضوا إليه.
قال: فانصرف القوم؛ وسار خمس خطى أو نحوها، ثم وقف، وقال: ردوهم، فردهم " 32 " الرجالة.
فقال لهم: كأني بكم، تمضون إلى علي بن عيسى، وتقولون: قد أحالنا الوزير عليك، وأجابنا، وأمي إن كنت أجبتكم إلى هذا زانية، وأمكم إن قلتم هذا زانية، وأم علي بن عيسى إن أجابكم إلى هذا زانية.
ثم سار متوجهاً إلى بستانه المعروف بالناعورة ليتنزه.
ومن ذلك: أنه كان يجتمع مع علي بن عيسى، في دار الخليفة، لما ضمن حامد في وزارته السواد، وصار علي بن عيسى مستوفياً عليه، ومطالباً له، فيتناظران في أمر المال، فيحتفيه علي بن عيسى، بالحجة، فيعدل هو به إلى السبب والسفه، فيقول له علي بن عيسى: سلاماً، سلاماً.
يريد بذلك، قول الله تعالى: " وإذا خاطبهم الجاهلون، قالوا سلاماً " .
فلما كثر ذلك على حامد، قال له يوماً عقيب سفه جرى عليه منه: كم تذكر سلامه الذي ينيك أختك أسماء ؟ فقام علي بن عيسى، وقال: ما بعد هذا شيء، وتجنب مخاطبته بعد ذلك.
وقال لعلي بن عيسى مرة بحضرة المقتدر: أنا والله، نكت هذا مرتين، وهو أمرد.
من عجائب صنع اللهحدثني أبو الحسين، قال: رأيت ببغداد، في سنة ثلاث عشرة وثلثمائة، وأبي، وأنا، مستتران في الكرخ، طوافاً، يصيح ويقول: انظروا إلى قدرة الله، في رأس بقرة، برأسين وأربعة أعين، فرأيت ذلك كما وصف.
ورأيت معه فروجاً له ثلاثة أرجل، يمشي بهن، ولا يعرج.
الرياسة دين لا يقضىوحدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبي يقول: لما ولي أبو الحسن بن الفرات، الوزارة الأولى، لم يبدأ بتقليد أحد، قبل أبي العباس أحمد بن محمد بن بسطام، وكان مقيماً في مصر، على عطلة، فكاتبه بأجل مكاتبة، وقلده أعمال مصر، وزاده في الدعاء.
وقال: هذا رجل، قد جرت له علي رياسة، والرياسة دين لا يقضى.
ابن الفرات يتعصب لآل نوبختقال أبو الحسين: وسمعت أنا - في الوزارة الثالثة - أبا الحسن بن الفرات، يقول: - وقد دفع إليه صاحب الخبر، خبراً فقرأه، وخرقه - ثم قال: يتمعضني الناس، بتعطيلي مشايخ الكتاب، وتفريقي الأعمال على آل بسطام، وآل نوبخت، والله، لولا أنه لا يحسن تعطيل نفرٍ من العمال، وقد قلدتهم، لما استعملت في الدنيا، إلا آل " 33 " نوبخت، دون غيرهم.
قال أبو الحسين: وإنما كان يتعصب لآل بسطام لرياسة أبي العباس عليه وللمذهب، ويتعصب لآل نوبخت، للمذهب.
المعتضد والعمال المنكوبونحدثني أبو الحسين، قال: سمعت جماعة من مشايخ الكتاب، يقولون: كان المعتضد، إذا نكب رجلاً من جلة العمال ورؤسائهم، وكل به من يحفظه من قبله، ولم يكن عبيد الله من نفسه.
وربما أمر بصيانته، وشدد الوصية في أمره، من غير توكيل به من جهته، ولا أطماع في المال.
وكان إذا وكل به، يظهر أن التوكيل للمطالبة، وزيادتها، والتشدد فيها، لا لحفظ نفسه، فيطمع العامل.
قال: وكان يقول: هؤلاء من أكابر العمال الذين قد قامت هيبتهم في نفوس الرعية، وعرفوا أقطار البلاد، هم أركان الدولة، وأنداد الوزارة، والمرشحون لها، فإن لم تحفظ نفوسهم، وضع ذلك من الأمر، وأثر فيه.
لون من ألوان التعذيبحدثني أبو الحسين، علي بن هشام، قال: حدثني أبو منصور عبد الله ابن جبير النصراني، كاتب ابن الفرات، قال: لما نكبت، بنكبة أبي الحسن بن الفرات، بعد الوزارة الأولى، سلمت إلى أبي الحسن علي بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل، فحبسني عنده، وكان يطالبني بالمال، فأدفع عن نفسي.
إلى أن أحضرني يوماً، فخاطبني في المال، فلم أذعن بشيء، فدعا بمزين، وأمره أن ينتف بالمنقاش ربع شعر رأسي.
فلما نتف منه طاقات يسيرة، كدت أتلف، وقام هو، وقال: إذا نتفتم ربع رأسه، فعرفوني.

فلما قام، رشوت الموكلين، فحلقوا باقي الربع من رأسي، ولم ينتف، وأعلموه أنه قد نتف، فأمر أن يقير الموضع النظيف من رأسي، بقير حار.
فجاءوا بالقير، فوضعوه على رأسي، ولم يكن مفرط الحرارة، لأنه لا كان مفرطاً، لأتلفني لا محالة.
فحين أحسست بحمي القير، قامت قيامتي، وكدت أن أتلف، فأذعنت بالأداء، وأقررت بسبعين ألف دينار، ودائع لي " 34 " ، وكتبت ألتزم تسليمها إليهم، فأخذت في اليوم الثالث.
فلما كتبت خطي بتسليمها، أمر بالزيت فطلي به رأسي، وقلع به القير من رأسي، فقزع شعري إلى الآن.
من شعر نفطويهحدثني أبو الحسين قال: انصرفت من عند أبي عبد الله، نفطويه، وقد كتبت عنه أشياء، فجئت إلى أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، فقال لي: ما هذا الدفتر. فأريته إياه، وكان على ظهره مقطوعتان، قد أنشدنيهما نفطويه لنفسه.
فلما قرأهما الزجاج استحسنهما جداً، وكتبهما بخطه على ظهر كتاب (غريب الحديث)، وكان بحضرته.
والمقطوعتان:
تواصلنا على الأيام باقٍ ... ولكن هجرنا مطر الربيع
يروعك صوته لكن تراه ... على روعاته ذاني النزوع
كذا العشاق هجرهم دلال ... ومرجع وصلهم حسن الرجوع
معاذ الله أن نلفى غضاباً ... سوى دل المطاع على المطيع
والأخرى:
وقالوا شانه الجدري فانظر ... إلى وجهٍ به أثر الكلوم
فقلت ملاحة نثرت عليه ... وما حسن السماء بلا نجوم
رعونة عبيد الله بن سليمان
جرت النكبة عليه وعلى أبيهحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا جماعة من شيوخ الكتاب، منهم علي بن عيسى، والباقطائي، وغيرهما، قالوا: حدثنا عبيد الله بن سليمان، قال: لما أضاق المعتمد بسر من رأى، وأمره - إذ ذاك - نافذٌ، ومعه قطعة من الجيش، وكان سليمان بن وهب وزيره، والموفق بواسط، وعبيد الله ابن سليمان كاتبه، طلب المعتمد من سليمان، مالاً يحتاله، لداره، وحرمه، وخاص نفقته، لا يعلم به الجند، فدافعه بذلك، فقبض عليه، وقال له: قد تقلدت منذ أيام المعتز، إلى الآن، أعمالاً متوالية، منها الوزارة للمهتدي، ومرة الجبل، وغير ذلك، وما نكبت، ولا صودرت، وأريد منك خمسمائة ألف دينار.
قال: وورد عليّ الخبر، فلشدة محبتي لخلاص أبي، ما جنيت عليه جناية عظيمة، بأن صرت إلى الموفق، فقلت له: لم يقدم المعتمد على أبي إلا لبغضه لك، وليس يحقد علينا إلا تمشية أمرك، واجتذاب الجيش " 35 " إليك.
فوعدني بتخليص أبي، على مهل.
فقلت: إن أخرت الأمر، أسرع إلى مكروهه، وإزالة نعمته.
فقال: ما تريد؟ فقلت: تخرج بمن معك، فتنتزعه من يده قسراً.
فقال: هذا يحتاج إلى مال ورجال، وهو خليفة على كل حال، ولا أحسب الرجال يطاوعوني على حربه.
فقلت له: علي المال والرجال.
فقال: دعني، حتى أفكر.
قال: ودافعني، واعتقد في أقبح اعتقاد، ورآني بصورة من يملك طاعة الرجال، في قتال الخليفة، ويمكنه من المال، من عنده، ومن حيلته، ما يرضي به الجيش.
فلما عاودته، قال: يجب أن نقدم المراسلة بيننا وبينه، فإن أنجعت، وإلا كانت الحرب.
فاخترنا للرسال، صاعد بن مخلد، وهو إذ ذاك، من جلة أصحاب الدواوين.
فاستدعاه الموفق إلى حضرته من سر من رأى، فصار إليه، وحمله رسالة إلى المعتمد.
فمضى، وأداها، وأصلح الأمر مع المعتمد لنفسه، وأشار على المعتمد بإطلاق أبي عاجلاً، وضمن له إفساد رأي الموفق فيه، وفيّ، حتى يقبض علينا.
فأقام أبي عند الموفق، والوزارة إليه، فدبر أمر الموفق، ثم عاد صاعد فشرع مع الموفق في الأمر، وأنفذ المعتمد ثقاته سراً إلى الموفق، بما لقنه صاعد، ولم يزل ينسج الأمر، حتى تمت النكبة علينا.
ما في الأرض أشد جناية
على الوزراء والرؤساء من أصاغر أسبابهمحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو عيسى، أخو أبي صخرة، واسمه أحمد بن محمد بن خالد، قال: سمعت إسماعيل بن بلبل يقول: ما في الأرض أشد جناية على الوزراء، والرؤساء، من أصاغر أسبابهم، ولقد قال لي راشد، صاحب جيش الموفق: كنت قد بليت بالنظر في أمر إنزال الرجالة، ومن يجري مجراهم، وكنا نحتاج في كل يوم لذلك إلى ستة آلاف دينار، فما زالت تنقص بالإضافة، إلى أن اقتصر على ما لا بد منه، وكان ثلاثة آلاف دينار.

واعتمد الموفق عليّ في ذلك، لشدة اهتمامه به، لأقوم به - إذا لم يطلق المال - بمالي وجاهي، وحيلتي، فأفقرني ذاك.
وكان عبيد الله بن سليمان، وأبوه، وهما مقيمان " 36 " بالحضرة، يقصداني، ويريثان المال عليّ، فأحفظني ذلك عليهما، واقتصر لي، على ألفي دينار في كل يوم، عاجلة، وألف بحوالات لا تروج، فكنت أحتاج أن أرهن سيوفي، وسروجي، وأدخل كل كدخل، حتى أقيم الأنزال.
ووقعا لي في بعض الأيام، إلى جهبذهما ليث، بمالٍ من مال الأنزال، جعلاه من مال ضياعهما، فتوارى ليث، فبثثت الرسل في طلبه، فوجده بعض رجالتي، فأوصل إليه التوقيع.
فقال: ما عندي للوزير، ولا لابنه مال.
فقال له: فاحتل، ولو من مالك، فهذا مهم للأمير أبي أحمد.
فقال: وأيش لأبي أحمق عندي؟ فجاءني الرجل بالخبر، فحملني الغيظ عليهما، أن شكوت إلى الموفق هذه الحال، وقلت: قد قال كلاماً لا يجوز إعادة مثله - قبحاً - عليك.
فطالبني بإحضار الرسول، فأحضرته، فأمره أن يحكي الكلام، فخاف الرسول، فأرهبه، فأعاده عليه بعينه، من غير كناية.
فقال: صدق ليث، لو لم أكن أبو أحمق لما تركت عليه، وعلى أصحابه الأموال، حتى ننظر.
فكان ذلك سبب تعجيل النكبة لهما.
فقال لي الموفق: أريد أن تلزم أصحابك، طلب ليث، وتظهر أنه بسبب هذا التوقيع، وتبث الرجالة، حتى إذا حصل، قبضنا على أصحابه.
فأنفذت عدة، ولم أزل أجتهد حتى حصل.
وجاء سليمان وعبيد الله، من غدٍ، للخدمة على الرسم، فشوغلا في الدار، إلى أن حصل ليث، فلما حصل، قبض عليهما، وأنفذ إلى صاعد، من أحضره، فتقلد الأمر، وسلم إليه ليث.
قال راشد: صرت إلى صاعد مهنئاً له بالوزارة، فقال: قم بنا، لأريك العجب.
فقمنا، وخلونا، ودعا ليث، ورفق به، فلم ينفع الرفق، فقال: علي بجيش غلامه، فجيء به، فضربه مقارع يسيرة.
فقال: أنا أدلك على بئر المال.
فقال لليث: هذه البئر مالك، أو مال أصحابك؟ فقال: بل مالي، أنا رجل تاجر.
فأخرجوا من البئر ثمانين ألف دينار، واستخرج بعدها من ليث جملة أخرى كثيرة.
فكانت تلك أحد ما قوى طمع الموفق في آل وهب، واستئصالهم " 37 " .
الأمير الموفق يأمر وزيره الجديد
بتعذيب الوزير المصروفحدثني أبو الحسين، قال: كنا في مجلس حامد بن العباس، وهو وزير، وكان يتحدث في مجلس العمل كثيراً، فسمعته يحكي، قال: قال لي صاعد ابن مخلد: لما قلدني الموفق وزارته، شرطت عليه، أن لا أدخل في مكاره سليمان ابن وهب، وعبيد الله ابنه، ولا أطالبهما، ولا أنظر إليهما في مال، ولا وديعة.
وقلت للموفق: سليمان اصطنعني، ورفع حالي، وصرفني، وما دخل قط لي في مكروه، ولا دخلت لهما في مثله.
ولم أجب إلى التقليد، حتى صافحني أن لا يلزمني ذلك.
فلما تقلدت، وخلع علي، خاطبني في أمرهم بعد أيام، وذكر ضيق المال إلا من جهتهم، فقلت: الشرط أملك، وأنت قادر أن تنصب لهذا كاتباً، وتدبره بنفسك، وبمن ترى من حاشيتك.
فعاودني دفعات، وأنا ممتنع، حتى مضى شهر من تقلدي.
فلما رآني على هذه الحال، راسل سليمان، وقال له: إن صاعداً غرني من نفسه، وضمن لي القيام بالأمور، وقد بلح، وليس يذهب ولا يجيء، وهو عدوك وعدو ابنك، وهو سعى بكما، فاضمنه مني، واذكر لي ما عليه من الأموال، وما في جيبه، ومعايبه، والحجج، والتطرق عليه وعلى أملاكه.
وكان سليمان محنكاً، مجرباً، فأعاد الجواب على الرسالة، بأني إن كنت موثوقاً بي، فلا تحتاج إلى ضماني، لأني أنصح وأستقصي على كل من يجب عليه حق الأمير، إن أعادني إلى خدمته.
ودافع عن كتابة الرقعة، وعلم أنها حيلة عليه، لامتناعي عن مكروهه، حتى يجعل الرقعة حجة عليه عندي.
فأنفذ الموفق، إلى عبيد الله، مثل هذه الرسالة، واستكتمه ذلك عن أبيه، فكتب عبيد الله، رقعة طويلة، يسعى عليّ فيها، أقبح سعاية، ويضمنني بمال جليل، ويثلبني، وينكل بي.
فلما وصلت إلى الموفق، احتفظ بها، وغدوت عليه، فخاطبني في تسلمهم، ومطالبتهم، فاستعفيت، وأقمت على الامتناع.
فقال: اقرأ هذه الرقعة، فلما قرأتها، ولم يكن عندي - إذ ذاك - علم كيف جرت الصورة، وإنما " 38 " انكشفت لي بعد ذلك المجلس، قامت قيامتي، وخفت على نفسي، من معاجلة الموفق، متى لم أعاجلهم، ولم أشك أن ذلك القول صحيح من عبيد الله، وأن الموفق قد أنعم عليّ بإطلاعي عليه.

فاستجبت إلى تسلمهم، وناظرتهم، وألزمتهم الأموال العظيمة، واستمرت النكبة عليهم.
سبيل الإنسان في المحن
أن يطأطئ لهاحدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى، يقول: سمعت عبيد الله بن سليمان، يقول: لما دخل صاعد بن مخلد، علي وعلى أبي، ليناظرنا، ونحن في حبس الموفق، قمنا، وتلقيناه.
فخاطب أبي بجميل، وأكرمه، وتجهمني بقبيح، وجعل لا يخاطبني إلا باسمي، ويقول: يا عبيد الله.
فلما أكثر عليّ، آلمني ذلك، فقلت له: أنا عبيد الله بن سليمان بن وهب بن سعيد، نتصرف في خدمة السلطان، منذ خمسين ومائة سنة، ونتقلب في جلائل الأعمال، أنت صاعد بن مخلد، مخلد من أبوه؟ فكان هذا من أكبر ما أحفظه علي، حتى تناهى في مكارهي.
وكان أبي يلومني على ذلك، ويقول: سبيل الإنسان في المحن أن يتطأطأ لها، ويذل لوقوعها، ولا يغالبها.
ولم تكن نفسي، أنا، تطاوعني على ذلك، وكان من أضر الأمور عليّ، وكان الحزم مع أبي دوني.
حفلة تعذيب بمحضر الوزيرقال أبو الحسين: حدثني أبو الحسن محمد بن محمد بن حمدون الواسطي، صاحب حامد بن العباس، وخليفته، قال: قال لي حامد: كان صاعد بن مخلد، أول من قلدني العمالة، رياسة، فقال لي في بعض الأيام: احضر دار الأمير الموفق، فحضرتها معه.
فجلس في مجلسه منها، واستدعى على خلوة، سليمان بن وهب، وابنه عبيد الله، وهما منكوبان.
فرأيت سليمان، وقد خرج بطيلسانٍ، وخف، ومبطنةٍ، وابنه حافٍ مكشوف الرأس، على أذل صورة.
فأكرم الأب، وأسمع الابن المكروه، إلى أن دعا له بالمقارع، فأخذ سليمان يستعطفه كل الاستعطاف، وهو لا ينثني، ويقول له: إذا صنتك يا أبا أيوب عن مثل " 39 " هذه الحال، فلا أقل من أن تدعني أنتقم من هذا الجاهل، الفاعل، الصانع.
قال: وأقبلت المقارع تأخذ عبيد الله، وسليمان يستعطفه.
فلما زاد الأمر، قال له سليمان: يا كافر، يا فاجر، أما تستحي؟ إنا اصطنعناك، وأقعدناك هذا المقعد، تضربه بين يدي، سبة عليك.
قال: فاستحيا، وأمر بقطع الضرب، فما ضرب بعدها عبيد الله بحضرته، وواضع الموفق بعد ذلك، على أن يكون الضرب بحضرته، بأيدي غلمانه، في داره.
فحرض الموفق عليهما، حتى نهكهما عقوبة وضرباً.
وحفلة تعذيب بمحضر الأميرفحدثني أبو علي بن مقلة، في نكبته بعد الوزارة الثالثة، وهو في دار أبي بكر بن قرابة، لمال يؤديه، ضمنه عنه ابن قرابة، وشكا ما عامله به الخصيبي من المكروه، ثم قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات، يقول: سمعت أبا القاسم عبيد الله بن سليمان، يقول: أخرجت وأخرج أبي في نكبتنا، في بعض الأيام، بواسط، إلى حضرة الموفق، وقد نصبت له سبنية، فجلس وراءها، ونحن نعلم بذلك.
ودعا براغب، فأمره بضربنا، فضرب أبي نيفاً وعشرين مقرعة، ثم دعي بي، فنوظرت، ثم أمر بضربي.
فإلى أن يستدعى لي من يضربني، قال أبي لراغب: الذي نحن فيه يستطاب معه الموت، وما أقول ما أقوله دفعاً عن نفسي، ولا عن ولدي، وإنما أقوله شفقة على الأمير، فأعلمه: أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل، ذبح سخلة، بحضرة أمها فخبط من ساعته.
قال: فوالله، ما مضى راغب ليؤدي الكلام، حتى جاءت الرسل من عند الموفق، بأن يرفع الضرب عنا، وقد كان بحيث يسمع الكلام من وراء السبنية.
فما عاد بعدها علينا مروه.
أبو زكريا السوسي يرى مناماً
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي، المعروف بخلف، ومحله، في اليسار، والجلالة، والمكنة من السلطان، والاشتهار بالدين، والثقة، والصدق، والأمانة، وصحة الرأي، مشهور، وكان نصرانياً في حداثته، فأسلم، وحسن إسلامه، قال: رأيت في منامي - يعني بعد إسلامه - علياً عليه السلام، وكأنه جالس ومعه جماعة " 40 " من أصحابه، وبالقرب منه، أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ومعهما جماعة.
قال: فسألته، قلت: يا أمير المؤمنين، ما عندك في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيراً كثيراً.
قلت: فلم لم تجلس معهما؟ فقال: حياءً منهما لما يعمل بهما الرافضة.
حفيد يزيد بن هارون
يرى جده في المنام

حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي المعروف بنفطويه، في مسجد الرصافة، إملاء في سنة ثمان وثلثمائة، قال: حدثنا ابن بنت يزيد بن هارون، ولم يسمه، وكذا أملى علينا، قال: رأيت جدي يزيد في النوم، فقلت، ما فعل الله بك؟ ومنكر ونكير ما قالا لك؟ قال: قالا لي: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فقلت: ألي يقال هذا؟ وأنا أعمله الناس منذ ثمانين سنة؟ فقالا لي: نم نومة العروس، فلا بؤسى عليك.
وعاتبني ربي، على كتابي عن عثمان بن جرير، فقلت: يا رب، عبدك وما أعلم إلا خيراً.
قال: إنه كان يبغض علياً عليه السلام.
ابن الفرات وأحد طلاب الوزارةحدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو الحسن بن الفرات، قال: دخل عليّ المقتدر يوماً، وأنا في حبسه، في وزارة حامد، فقال لي: يا أبا الحسن، أتعرف الحسن بن محمد الكرخي الكاتب ؟ فقلت: نعم.
قال: أي شيء هو من الناس؟ قلت: عامل، له محل، ويفهم في الحساب شيئاً، وهو من صنائعي، ووجوه عمالي، وقد كان قبل، تقلد عمالات لعبيد الله بن سليمان، وهو أخو القاسم بن محمد الكرخي، وهو من أهل بيت.
قال: فقال لي: إنه قد كتب إلي يخطب الوزارة، ويتضمن بحامد، وبعلي بن عيسى.
قال: فقلت له: ولا كل هذا يا أمير المؤمنين، إن هذا، إنما طمع في الأمر لما رأى حامداً قد تقلد الوزارة، ولعمري إنها قد اتضعت بتقلده، وطمع فيها كل أحد، ولعمري أنه فوق حامد، أولا في العفافة، وحفظ اللسان، والحساب والخط، ولكن ليس لأنه فوق حامد، يجب أن يقلد الوزارة، ولا لأن الغلط جرى في أمر حامد، يجب أن يقلد هذا، على أنه غلط في ظنه أنه يصلح لصرف حامد، لأن حامداً رجل قديم في الرياسة في العمال، وله مروءة عظيمة، وضياع كثيرة، وغلمان كثيرو العدد، وله هيبة " 41 " ، وسطوة، وسن، ونشأ بعيداً عن الحضرة، فلم تستشف أخلاقه، وأفعاله، فانستر أمره عن أهلها، وله كرم يغطي كثيراً من معايبه، وترك الأمر في يده، ويد علي بن عيسى، وهو لا يلحق بعض كتابه، فضلاً عنه أولى، وإني لأقول الحق فيهما، على عداوتهما لي.
قال: فأضرب المقتدر عن تقليده.
قال هشام: ثم تم التدبير لأبي الحسن، في الوزارة، وصرف حامد، فحين جاءه الحسن بن محمد الكرخي، أبو أحمد، ذكر تلك الحال التي حدثه بها المقتدر، فهاب الحسن بن محمد، على الأمر، ورآه بعين رجل بعيد الهمة، وعرف تقلب رأي المقتدر، فرأى أن يحسن إلى الحسن بن محمد، ويبعده عن الأعمال، فقلده الموصل، وأخرجه إليها صارفاً لابن حماد.
فانتفع الكرخي بذلك الشروع.
الحسن بن محمد الكرخي
وكمال مروءتهقال أبو الحسين : فكنا في بعض الليالي بحضرة ابن الفرات، وهو يعمل، وأنا مع أبي، والمجلس حافل، حتى قرأ كتاباً من صاحب بريد الموصل، يذكر فيه، أن أبا أحمد، قد تبسط في الأعمال، وأظهر من المروءة أمراً عظيماً، وركب باللبود الطاهرية، وبعدة حجاب وغلمان، حتى أنه يسير معهم في موكب، وأنه ورد معه من الزواريق والجمال التي تحمل أثقاله، شيء كثير، وأن هذا ما لا يحتمله رزقه، وإنما هو من الأصل.
فرمى بالكتاب إلى أبي القاسم زنجي، الباقي إلى الآن - وكان إذ ذاك حدثاً يخط بحضرته - وقال له: وقع عليه، ليكتب إليه، ويعرف، أنه نفع الرجل من حيث تعمد ضره، لأنه إذا كان في مثل هذا الصقع، عامل وجيه، جليل، كثير التجمل، والهيبة، والمروءة، صلح أن يبادر به السلطان، إلى مصر، وأجناد الشام، متى أنكر على عمالها أمراً، لأن هذه النواحي، لا تصلح إلا لمن كان حسن التجمل، والمروءة، كثير النعمة.
راتب عامل فارس
ثلاثة آلاف دينار في الشهرثم أقبل على من في مجلسه، فقال: حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن سليمان: أن المعتضد، رفع إليه خبر، رفعه النوشجاني، صاحب يريده، يذكر فيه: أن الأخبار ذاعت ببغداد، بأن حامد بن العباس، لما دخل فارس، متقلداً لعمالتها، دخل ومعه عدد " 42 " كثير عظيم، من الغلمان والحاشية.
قال: فتحيرت، لما دفع الكتاب إلي، وخفت أن يكون قد أنكر ذلك، ويقع له، أن هذا اصطلام للمال، ودخلني فزع منه، فلم أدر بأي شيء أجيب.

فقال لي: يا أبا القاسم، وقد كان كناه أول ما استوزره، وكان يتكنى على الناس إلا على بدر، وصاحب خراسان، وكان هو وبدر يتكاتبان بالكاف، والدعاء بينهما سواء.
قال المعتضد: يا أبا القاسم، قرأت الكتاب؟ فقلت: نعم.
فقال: قد سرني ما ذاع من مروءة حامد، وهيبته بذلك في نفوس الرعية، فكم رزقه؟ فقلت: ألفان وخمسمائة دينار في الشهر.
فقال: اجعلها ثلاثة آلاف، ليستعين بها على مروءته.
المعتضد يعفي عاملاً من المطالبة
لما ظهر من مروءتهقال: ثم قال أبو الحسن بن الفرات، عقيب هذا: وقد فعل المعتضد، قريباً من هذا، مع أبي العباس أحمد بن بسطام، فإن المعتضد، طالبه، بعجز ضمانه واسط، وحبسه في دار ابن طاهر، وألزم سبعين ألف دينار يؤديها، فكان يصححها على جميل، وهو موكل به من قبل المعتضد في دار ابن طاهر، وأصحاب عبيد الله يطالبونه، ويقتضون المال.
فكتب النوشجاني، صاحب الخبر، فيه: أنه كان يفرق في أيام ولايته، في كل شهر، عشرين كراً، حنطة ودقيقاً، على حاشيته، وعلى المستورين والفقراء، وأنه فرق في هذا الشهر الأكرار على رسمه، ولم يقطعها، وهو مع ذلك يماطل بأداء ما عليه.
فلما دخل عبيد الله على المعتضد، أراه الرقعة، فسكت عبيد الله، فقال له المعتضد: قد سرني هذا، لأن ابن بسطام رجل مشهور بعظم المروءة، وكثرة المعروف، وقد جملنا بما قد فعله، حين لم يظهر أن ما قد ألزمناه أحوجه إلى الزوال عن عادته في المعروف، فكم بقي عليه؟ قال: بضعة عشر ألف دينار.
فقال: أسقطها عنه، ورده إلى عمله، وعرفه إحمادي ما قد فعله.
فامتثل عبيد الله ذلك.
علو نفس الحسن بن مخلدحدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا عبيد الله أحمد بن محمد بن بدر ابن أبي الأصبغ، يحدث أبي، قال: كنت أتصرف مع سليمان بن وهب، لقرابة كانت بيننا من جهة النساء، وكانت حالي بصحبته في نهاية السعة، حتى أنه كان يطحن الزعفران في داري، كما يطحن الناس الدقيق " 43 " ، لكثرة ما كان يجيئنا من الجبل، ونستعمله، ونهديه.
فولي سليمان ديوان الخراج، فكنت أحد عماله فيه، فوقعت بيني وبين ابنه عبيد الله، نفرة، فلزمت منزلي أياماً.
فما شعرت إلا برقعة الحسن بن مخلد، يستدعيني وهو يتولى ديوان الضياع، وكانت بينهما مماظة، فمضيت إليه، فقال لي: أنت معطل ولا تصير إلي؟ وقد انفصل ما بينك وبين أبي أيوب؟ فقلت: يا سيدي، كيف ينفصل ما بيننا، مع القرابة؟ ولكن بيننا عتب.
فقال: دع ذا، أنت معطل، وما تبرح حتى أقلدك عملاً.
قال: وأراد اجتذابي لناحيته، وكان الناس - إذ ذاك - يتغايرون على الكفاة.
فقلدني أعمال السيب الأسفل، وقسين، وجنبلا، وكانت تجري في ديوانه، فقبلتها.
وخرجت إليها، وكان الأرز قد قارب الإدراك، فقدرته، وعدت إلى سر من رأى، لأشرح له حال التقدير، وأستأمره في العمل.
فلما بصر بي قال: قد قدمت على فاقة مني إليك، قد تأذيت بالفلاحين، وأريد لهم عشرة آلاف دينار سلفاً لما يقيمونه في جبل باسورين من الثلج.
فقلت له: الأرز خافور، وما بلغ إلى أن يحرز.
فقال: لا بد من أن تستفرغ جهدك، وحيلتك، في هذا، حتى تخفف عني.
وكان، أول خدمة، فاحتجت أن أضطرب، لأصنع نفسي عنده، فخرجت مفكراً فيما أعمله.
فلإقبالي، لقيني رجل من وجوه التجار في الطريق، وكانت بيننا مودة، وكان موسراً، وكان جميع متجره غلات السلطان، فبدأني بالعتاب على تركي مبايعته شيئاً بالسلف من غلات عملي.
فاجتذبته إلى منزلي، وقلت: البيت لك، فاحتفل، ولو رأيتك ما عدلت عنك.
قال: فأقام عندي يومه، ولم أزل حتى بعته بحساب الكر الأرز المعدل، بسبعة دنانير، وكنت قد قدرت الحاصل فيه للسلطان، ثلاثة آلاف كر معدل، وسثنيت عليه في كل كر ديناراً، وأخذت خطه بضمانة تعجيل عشرة آلاف دينار، لمن يؤمر بأدائها إليه.
ورحت إلى دار الحسن بن مخلد، فوجدته نائماً، والناس " 44 " مطرحون في داره، ثم دخلت إليه، وشرحت له الصورة، فسر بها، وأمر بإحضار صاحب مجلس النفقات في الديوان، وسلم الرقعة إليه، وقال: أحل الفلاحين على هذا التاجر.
فلما خلا مجلسه، تقدمت إليه، وعرفته خبر الاستثناء، وأريته الخط، وقلت: إلى من أسلم المال، إذا قبض؟ فلم يجبني، فألححت عليه.

فقال لي: يا هذا، إنك صحبت قوماً، لا مروءة لهم، فتعودت منهم، أن تعطوا نفوسهم إلى مضايقة خدمهم في هذا القدر، وما هو أتفه منه، وإذا أخذت أنا هذا المرفق، فأنت لم تخدمني، وتتبعني؟ خذ هذا، وأصلح به حالك، ليبين عليك أثر خدمتك لي.
فقبلت يده، ورجله، وعدت إلى عملي، واستخرجت المال، ودبرت العمل.
وحضر بعد مديدة، النوروز، وقد كنت مذ خرجت من حضرته، سألت ثقات إخواني من التجار في الأسواق، أن يجمعوا لي كل علق، حسن، غريب، طريف، مثمن، من فرش ديباج مثقل، وأبي قلمون مذهب، ووشي، وديبقي مرتفع، وقصب.
قال: فجمع لي من ذلك، ما كان شراه خمسة آلاف دينار، وهو يساوي أكثر منها بكثير.
ثم كتبت إليه رقعة في معنى الهدية، وتضرعت في قبولها، وتشبثت بذلك، وكتبت ثبت الهدية، في أسفل الرقعة.
فكتب إلي فيها: لك أكرمك الله، بنات، وهن إلى هذا أحوج مني، وقد قبلت ما يصلح قبوله أنساً بك، وإسقاطاً للحشمة معك، ورددت إليك الباقي، ليكون لهن.
وكان الذي قبله، ثوب قصب، ومنديل ديبقي، وشستجة قصب.
الوزير علي بن عيسى يرفع التكملة
ويضع الخراج على الشجرحدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا عبد الله الباقطيء، يقول: وحكى لي أبي ذلك، قالا: إن السجزية لما غلبوا على فارس، أجلي قوم من أهل الخراج عنها، لسوء المعاملة، ففضوا خراجهم على الكوجودين، وسموا ذلك: التكملة، حتى يكمل به مال قانون فارس - كان - متقدماً.
ولم تزل الحال في ذلك، تزيد تارة، وتنقص أخرى، إلى افتتح أبو الحسن بن الفرات، في وزارته الأولى، فارس، على يد وصيف " 45 " .
ومحمد بن جعفر العبرتائي، ومن ضمه إليهما من القواد في سنة ثماني وتسعين ومائتين.
فأمر ابن الفرات، بإجراء الأمر في التكملة، على ما كان جارياً عليه.
وجرى الأمر على ذلك، في أيام محمد بن عبيد الله الخاقاني، وفعله علي بن عيسى، في صدر وزارته الأولى.
فلما مضت منها مديدة، صار إلى مدينة السلام، عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي، وطعن على محمد بن أحمد بن أبي البغل، وكان - إذ ذاك - يتقلد فارس، وذكر أنه إن ضمن العمل مكانه، وفر جملة من المال، فضمنه علي بن عيسى، وانصرف ابن أبي البغل عما كان يتقلده أمانة، وقلده أصبهان.
ثم أخر عبد الرحمن بن جعفر المال، واحتج بأن أهل فارس يتظلمون من التكملة، ولا يلتزمونها.
وكان أبو المنذر النعمان بن عبد الله، يتقلد ديوان كور الأهواز، مجموعة، فكتب إليه علي بن عيسى، أن يستخلف على أعماله، وينفذ إلى فارس، فيطالب عبد الرحمن بما حل عليه من المال، وينظر في هذه التكملة، ويشرح أمرها.
وكتب إلى أحمد بن محمد بن رستم بأن يصير من أصبهان إلى فارس ليضمنها.
وكتب إلى النعمان، بحل ضمان عبد الرحمن، وعقد البلد على ابن رستم.
فاستخرج النعمان التكملة، ووجد قطعة منها على عبد الرحمن، قد قدر أن يكسرها، فعسفه، وباع قطعة من أملاكه، حتى استوفى ذلك.
وكتب إليه علي بن عيسى يسأله عن التكملة، وأن يشرح له أمرها، وأنه قد صار يستضعف قوم فيلزمون منها أكثر مما يجب عليهم، ويرهب قوم، فيسامحون بها، أو بأكثرها.
فكتب إليه النعمان وابن رستم: إن من طرائف ما يجري بفارس، أن الناس يطالبون بالتكملة، وهي ظلم صراح، سنة الخوارج، ويترك عليهم ما قد أوجبه الفقهاء، وهو خراج الشجر، لأن فارس افتتحت عنوة، وليس على الشجر بها خراج، وأرباب الشجر يذكرون، أن المهدي أسقط عنهم خراج الشجر، وليس لهم حجة بذلك، إلا طول مدة الرسم، والأصل وجوب الخراج على الشجر.
فتسامع أهل البلد بالخبر، فتبادر أجلاؤهم إلى حضرة علي بن عيسى من فارس، فدخلوا مجلسه للمظالم " 46 " ، وفي أكمامهم حنطة محرقة.
فلما تظلموا، قالوا له: نمنع من إطلاق غلاتنا، وتعتقل علينا في الكناديج، إلى أن تعفن وتصير هكذا - ورموا بالحنطة المحرقة من أكمامهم - حتى نبيع شعورنا، ونؤدي التكملة الباطلة، حتى تطلق غلاتنا وقد احترقت هكذا.
ورمى قوم من أكمامهم بتين يابس، وخوخ مقدد، ولوز، وفستق، وبندق، وغبيراء، ونبق، وبلوط، وقالوا: هذا كله بغير خراج، لقوم آخرين، والبلد عنوة، فأما تساوينا في الإحسان أو الاستيفاء.

فخاطب علي بن عيسى، في ذلك، الخليفة، واستأذنه في جمع الفقهاء، والقضاة، ومشايخ الكتاب، ووجوه العمال، وجلة القواد، ومناظرة القوم بحضرته، وتقرير الأمر على ما يوجب الحق - عند الجماعة - والعدل، فأذن له في ذلك.
فجمع الناس في دار المخرم، التي كانت برسم الوزارة، وصيرها علي بن عيسى ديواناً، وطالت المناظرات، واحتج من حضر من أرباب الشجر، بفعل المهدي، وقالوا: قد استهلكت أموالنا، في أثمان هذه الأملاك التي لا خراج عليها، وإن ألزمت الخراج، بطلت القيم، وافتقرنا: فأفتى الفقهاء بوجوب الخراج، وبطلان التكملة.
وقال الكتاب: إن كان المهدي، شرط شرطاً، لمصلحة في الحال، أو عناء اعتناء أهل البلاد، في جدب أو غيره، ثم زالت المصلحة، زال الشرط.
فقال علي بن عيسى للقوم: أليس عندكم أنا ما فعله المهدي واجب؟ قالوا: بلى.
قال: لم؟ أليس لأنه إمام رأى رأياً ليس فيه مضرة؟ قالوا: بلى.
قال: فإن أمير المؤمنين، وهو الإمام الآن، قد رأى أن الأحواط للمسلمين، والأحفظ للكافة، إلزام الخراج الشجر، وإزالة التكملة.
فقام إليه الزجاج، ووكيع القاضي، فوصفاه، وقرضاه.
وقال الزجاج: لقد حكمت بحكم، لو كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حاضراً، ما تجاوزه.
وقال وكيع: لقد فعل الوزير في هذا، كفعل أبي بكر الصديق، رضوان الله عليه، في مطالبة أهل الردة بالزكاة.
وأنهى علي بن عيسى، والقضاة، ما جرى، إلى المقتدر، في يوم الموكب، واستأذنه في كتب كتاب بإسقاط التكملة عاجلاً، إلى أن يتقرر أمر الشجر.
فأمر بكتب ذلك " 47 " في الحال بحضرته، وأحضر قائداً من قواد الحضرة، كان يخلف بدراً الكبير، المعروف بالحمامي، عامل المعاون، بفارس وكرمان، ليسلم إليه الكتاب، ويطالب النعمان، وابن رستم بامتثاله.
وأمر الخليفة بإحضار دواة يكتب بها علي بن عيسى، وكان رسم الوزراء، إذا أمروا بكتب كتاب بحضرة الخليفة، أن تحضر لهم دواة لطيفة، بسلسلة، فيمسكها الوزير بيده اليسرى، ويكتب منها باليمنى.
فأحضرت تلك الدواة، لعلي بن عيسى، وبدأ يكتب منها الكتاب بغير نسخة.
فلما رآه المقتدر، وقد شق عليه ذلك، أمر بإحضار دواته، وأن يقف بعض الخدم، فيمسكها إلى أن يكتب.
فكان أول وزير أكرم بهذا، ثم صار ذلك رسماً جارياً للوزراء، بحضرته.
فكتب علي بن عيسى، في ذلك كتاباً إلى النعمان، وخرجت نسخته، إلى الديوان، وأثبت فيه.
قال أبو الحسين: فحفظناه ونحن أحداث، ونسخته : بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد الله جعفر، الإمام المقتدر بالله، أمير المؤمنين، إلى النعمان ابن عبد الله.
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين، يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن أفضل الأعمال قدراً، وأجملها ذكراً، وأكملها أجراً، ما كان للتقى جامعاً، وللهدى تابعاً، وللورى نافعاً، وللبلوى رافعاً.
قود جعل الله - عز وجل - أمير المؤمنين، فيما استرعاه من أمور المسلمين، مؤثراً لما يرضيه، صابراً على ما يزلفه عنده ويحظيه، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل، وبه يستعين.
وقد عرفت حال السجزية والخرمية، الذين تغلبوا على كور فارس وكرمان، وأحدثوا الجور والعدوان، وأظهروا العتو والطغيان، وانتهكوا المحارم، وارتكبوا المظالم، حتى أنفذ أمير المؤمنين جيوشه إليهم، وتورد بها عليهم، فأزالهم وبددهم، وشتتهم وأبادهم، بعد حروب تواصلت، ووقائع تتابعت، أحل الله بهم فيها سطوته " 48 " ، وعجل لهم نقمته، وجهلهم عبرة للمعتبرين، وعظة للمستمعين، " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد " .
ولما محق الله أمر هؤلاء الكفار، وفرق عدد أوباشهم الفجار، وجد أمير المؤمنين، أفظع ما اخترعوه، وأشنع ما ابتدعوه، في مدتهم التي طال أمدها، وعظم ضررها، تكملة اجتنبوها بكور فارس، في سني غوايتهم، لما طالبوا أهلها بالخراج على أوفر عبرتهم، من غير اقتصار به على الموجودين، حتى فضوا عليهم خراج ما خرب من ضياع المفقودين.
فأنكر أمير المؤمنين، ما استقر من هذا الرسم الذميم، وأكبر ما استمر به من الظلم العظيم، ورأى صيانة دولته، عن قبيح معرته، وحراسة رعيته، من عظيم مضرته، مع كثرته، ووفور جملته.

فرفع عن الرعية هذه التكملة رفعاً مشهوراً، وقد جعل الله تعالى من سنها مدحوراً، ونادى في المساجد الجامعة بإزالتها، وإبطال جبايتها، ليرتفع ذلك في الجمهور، ويتمكن السكون إليه في الصدور، وتحمد الله الكافة على ما أتاحه لها من تعطف أمير المؤمنين ورعايته، وجميل حياطته لهم وعنايته.
واكتب ما يكون منك في ذلك، فإن أمير المؤمنين يتوكفه، ويراعيه ويتشوفه، إن شاء الله.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب علي بن عيسى يوم النصف من رجب سنة ثلاث وثلثمائة.
الوزير علي بن عيسى
يأمر بالرفق في الجبايةوقد كان علي بن عيسى، قبل ذلك بسنة، نظر لأهل التكملة من جملتها في شيراز، بعشرة آلاف درهم، قبل أن يخرج في السنة المقبلة، خراج الشجر، ثم تقرر أمر الشجر على أن يؤخذ منه الخراج، ويقارب أهله فيه، على طسوق توضع لهم مخففة، وكان النعمان رفيقاً يقاربهم، حتى عاد بإزاء ما أسقط من مال الضمان في التكملة، أكثره على التدريج.
فكتب علي بن عيسى، في أمر الشجر، كتاباً كنا نتحفظه في الحداثة من الدار، نسخته إلى ابن رستم، لأن النعمان عاد إلى بغداد، واستخلف بفارس أبا مسلم، محمد بن بحر، وضمن البلد من ابن رستم، وجعل أبا مسلم، مستوفياً عليه للمال: بسم الله الرحمن الرحيم.
إلى أحمد بن محمد بن رستم " 49 " ، من عبد الله جعفر الإمام المقتدر بالله، أمير المؤمنين.
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن الله تعالى بعظيم آلائه، وقديم نعمائه، وجميل بلائه، وجزيل عطائه، جعل أموال الفيء للدين قواماً، وللحق نظاماً، وللعز تماماً، فأوجب للأئمة حمايتها، وحرم عليهم إضاعتها، إذ كان ما يجتبى منها، عائداً بصلاح العباد، وحراسة البلاد، وحماية البرية، وحياطة الحوزة والرعية، ولذلك، يعمل أمير المؤمنين، فكره ورويته، ويستفرغ وسعه وطاقته، في حراستها وحياطتها، وقبض كل يد عن تحيفها وتنقصها، والله ولي معونته، على جميل نيته، وحسن طويته، بمنه ورحمته.
ولما فتح الله عز وجل، كور فارس على المسلمين، وأزال عنها أيدي المتغلبين، وجد أمير المؤمنين أهلها، قد احتالوا في إسقاط خراج الشجر بأسره، مع كثرته وجلالة قدره، فأمر بإشخاص وجوههم إلى حضرته، واتصلت المناظرة لهم بمشهد من قضاته وخاصته، إلى أن اعترفوا به مذعنين، والتزموه طائعين، وضمنوا أداء ما أوجبه الله تعالى فيه من حقوقه، على ما تقرر معهم من وضائعه وطسوقه، فطالب بخراج الشجر، في سائر الكور، على استقبال سنة ثلاث وثلثمائة، فاستخرجه، واستوف جميعه واستنظفه، واكتب بما يرتفع من مساحته، ويتحصل من مبلغ جبايته، متحرياً للحق، متوخياً للرفق، إن شاء الله.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب علي بن عيسى، يوم الاثنين لعشر ليال خلون من شعبان سنة ثلاث وثلثمائة.
إذا تم أمر بدا نقصهحدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، وهو ابن بنت إبراهيم بن المدبر، قال: حدثني أبو الفضل صاعد ابن هارون بن مخلد بن أبان، قال: حدثني عدة من جلة الكتاب، عن كاتب كان يخلط بين يدي المورياني، وهو وزير المنصور، قال: كنت يوماً بحضرته على خلوة، فدخل عليه حاجبه، وقال: بالباب رجل يذكر أنه يريد أن يلقي إليك شيئاً مهماً.
قال: اسمع منه ما يقوله، وأده إليّ.
قال: قد سمته ذلك فأبى، وبذلت أن أخرج إليه كاتباً فامتنع من ذلك، وقال إما أن أصل إليه، أو أنصرف " 50 " .
قال: فما زيه؟ قال: زي التناء.
قال: هاته.
فأدخله، فلما وصل، استأذنه في السرار، فأذن له، فدنا إليه، فأطال سراره، ثم دعا بخازنه، فقال: خذ ما يدفعه إليك.
ثم قال لي: قم، فاكتب بكل ما يريده، على إملائه، وإن التمس توقيعي في شيء منه، فأنفذه إليّ مع غلامك.
قال: فقمت، فكتبت له بما أملاه، وعدت، فعرفته إزاحتي علته فيما طلبه، فجعل يبكي بكاء شديداً.
فسألت غلمانه: هل ورد بعدي شيء يكرهه.
فقالوا: لا.
فقلت: يا سيدي، ما هذا البكاء؟ وكنت آنساً به.

فقال: إن هذا الرجل لقيني منذ أكثر من سنة، وذكر أنه من بني البختكاني وذكر كبر نعمته - وأنا بهم عارف - ، ووصف أن العمال يتحيفونه، ويستضعفونه، وسألني أن أوقع اسمي على ضيعته، وأظهر أني قد استأجرتها منه، وأكاتب العمال، ووكلائي بذلك، وأن تقر يده فيها، إذ كنت قد وثقت به على ذلك، وبذل لي النصف من ارتفاعه، بعد المؤونة، حلالاً.
فوافقته على ذلك، وكتبت له بما أراد، ومضى.
ولم تبتغ نفسي الاستقصاء عليه، ولا الاستظهار، ولا مضايقته، وقلت لعله أراد الانتفاع بجاهي، فلا أحرمه إياه، فإن وفى، وإلا كان ذلك من زكاة الجاه.
ثم أنسيت أمره، فما ذكرته حتى رأيته الساعة، فأعلمني أنه يتردد منذ مدة إلى الباب، فلا يصل، وأعلمني أنه قد حصل لي من ذلك، مائتا ألف درهم، وأوقفني على حساب رفعه، واستأذنني في تسليم المال.
وسألني تجديد الكتب، بمثل ما كنت كتبت به إليهم في السنة الماضية، في أمر هذه الضياع.
فتقدمت إلى خازني، بقبض المال، وتقدمت إليك، فكتبت عني بذلك، فأنا أبكي لهذه الحال.
فقلت له: يا سيدي، فأي شيء في هذا مما يبكيك؟ فقال: ويحك، ويذهب هذا عليك، مع طول ملازمتي وخدمتي؟ قد كنت عندي، أنك تحنكت بخدمتي، أمر يكون هذا من إقباله، فكيف يكون إدباره؟ قال: فما بعد أن قبض عليه المنصور، ونكبه، واستصفى ماله، وأموال أهله، وقتله.
قال أبو الحسين عبد الواحد بن محمد: فحدثت بهذا الحديث، أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات، وأبا الحسن علي بن " 51 " عيسى، كل واحد على الانفراد، في وقت مفرد، فكل واحد منهما أفرط في استحسانه، حتى سأل أن أمليه عليه، فكتبه عني بخطه.
الجزاء من جنس العملحدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الكاتب، المعروف بابن أبي عمر، كاتب المحسن بن الفرات، وكان ممن تقلد بعد آل الفرات، عدة أعمال جليلة، ودواوين عظيمة، حتى تقلد الأزمة، صارفاً للخصيبي، في أيام ابن رائق، وقتل بديار مضر، قتله عمار القرمطي.
وقد كان أبو الحسن، متقلداً لديار مضر من قبل ابن رائق، فأغار عليها عمار، ليتملكها عاصياً، فطالبه بالمال لأصحابه.
فقال: ما معي شيء، ولو قتلتني، وصلبتني.
فقال: عليّ أن أفعل بك ذلك.
فقتله، وصلبه، في يوم عيد الفطر من سنة تسع وعشرين.
قلم يزل ابن رائق، يحتال على عمار، حتى حضر مجلسه، وتركه أياماً مع جيشه، ثم قبض عليه، وبحضرته وجوه الأتراك المستأمنة إلى ابن رائق بالشام، ومن أصحاب بجكم، فأمرهم بدقه بالأعمدة.
فلما كاد أن يموت، قال: أذيقوه حد السيف، فأخذ رأسه، وصلبه في المكان الذي صلب فيه عامله ابن أبي عمر.
الخليفة المهدي ووزيره أبو عبيد اللهقال أبو الحسين : فحدثني أبو الحسن بن أبي عمر هذا، قال: حدثنا أبو عبد الله حمد بن محمد القنائي، ابن أخت الحسن بن مخلد، قال: حدثني أبو محمد خالي، قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن العباس الصولي، يقول: حدثت عن المأمون، عن الرشيد، أنه سمع المهدي يقول: بعد زوال أمر أبي عبيد الله عن الوزارة، واقتصاره على ديوان الرسائل، وعلى الجلوس في منزله، وتفويض الأمر إلى يعقوب بن داود : ما رأيت أحزم، ولا أفهم، ولا أكفأ، ولا أعف، من أبي عبيد الله، ولقد كنت أحبه، مع إجرائي إياه مجرى الوالد، وكنت أجتهد به أن يدعوني إلى داره، فيمتنع، ويزعم أنه لا تتسع همته، ولا نعمته، لذلك.
إلى أن اعتل علة عظيمة، فتمادت الأيام به، ولم أعده، إلى أن كتب إلي باستقلاله، وأنه قد عمل على الركوب إليّ، بعد يوم أو يومين، فسابقته، وركبت إليه في خف من غلماني وخاصتي.
فلما دخلت إليه، قلت له: قد كنت أجتهد بك أن تدعوني " 52 " ، فتأبى، والآن، قد جئتك جامعاً للعيادة، والتهنئة بالعافية، والدعوة.
فقال: والله، يا أمير المؤمنين، ما لي طعام، ولا غلمان، ولا زي يصلح لدعوتك.
فقلت: قد فرغت لك من ذلك، وتقدمت إلى غلماني، بحمل الآلات، والطعام، والأشربة، وجميع ما يحتاج إليه، وإنما أردت تشريفك، والأنس بك.
قال: وجاء الغلمان، بآلات، وفرشٍ لي، وجلست، وهو معي، فأكلنا، وجعل يتحفني من منزله، بالفاخر من الفرش، والآنية، والآلات هدية لي، كما يفعل الناس، فأخذت كلما يحمله من أحسن شيء، وأجمله، وأرشقه، فازداد ابتهاجاً به.

ثم دعوت بالشراب، فلما شربت ثلاثة فقط، عملت على الانصراف.
فلما أحس بذلك، قال لي: أريد أن أبكي، وأنا أتطير أن أبكي بعد انصراف أمير المؤمنين، وأنا استأذنه في البكاء بحضرته.
قال: وتحدرت دموعه عقيب الكلام، فبكى بكاء شديداً.
فقلت له: يا هذا، أنا أعلم أن فيك شحاً، تسميه حسن التدبير، وما يحسن منك أن تبكي، فإن كان ندماً على ما أهديته، فهو مردود بلا شك.
قال: فحلف بأيمانٍ عظيمةٍ، وانزعج انزعاجاً شديداً، أنه ما بكى لذلك.
وقال: كيف أبكي على ما سبيلي أسر به، حيث جعلتني أهلاً لقبوله؟ قال: فقلت: فلم تبكي؟ قال: لم تبق مرتبة تنال، إلا وقد نلتها، وبلغتها، بفضل أمير المؤمنين، وتطوله، حتى انتهت بي الحال، إلى أن وصلت، من مال أمير المؤمنين، بأمره، وعن أمره، في ليلة واحدة، وهي ليلة ورد الخبر بوفاة أمير المؤمنين المنصور صلوات الله عليه، وأخذت بيعة ثانية لأمير المؤمنين على الناس، بعشرة آلاف ألف درهم، وفي هذه العلة، تصدقت بجميع ما في خزانتي من المال، وكان أربعة آلاف ألف، بعد أن استأذنت أمير المؤمنين، فأذن لي، ولم يكن بقي، إلا أن يعودني أمير المؤمنين في علة، أو يهنئني بحال متجددة، أو يصير إلى دعوتي، فلما كان اليوم، جمع أمير المؤمنين لي ذلك، فعلمت أني قد بلغت النهاية، وأنه ليس بعدها إلا الانحطاط، فبكيت لذلك " 53 " .
قال: فرققت له، وعلمت فضله، وقلت له: أما في أيامي، فأنت آمن ذلك، وإن أصابك شيء بعدي، فالحياة - على كل حال - خبر من الموت، ولك بي أسوة.
واعتقدت أن لا أنكبه.
فلما رأى الربيع عظم منزلته، حسده، فجد في السعاية إليّ به، والفساد بيننا، والحيلة عليه عندي، إلى أن جرى في أمر ابنه، وإقراره بالزندقة، ما بم يسع معه، أن لا يقتل، فقتلته، وخفت أن يكون قد استوحش لذلك فلم آمنه على نفسي، فاحتجت إلى صرفه، وحرست نفسه، وبقيت نعمته، واستحال الأمر عما عقدته له.
وكان الأمر على ما ظنه، من النقصان بعد التناهي.
معنى النهروان بالفارسيةحدثني أبو الحسين، قال: سمعت علي بن عيسى، يحدث، دفعات، عن أبيه، أنه سمع أباه، يحدث عن جده، عن مشايخ أهل العلم بأخبار الفرس، وأيامهم، قالوا: معنى النهروان بالفارسية: ثواب العمل.
قالوا: وإنما سمي نهر النهروان بذلك، لأن بعض ملوك الأكاسرة، كان قد غلب عليه بعض حاشيته، حتى دبر أكثر أمره، وترقت منزلته عنده، وكان قبل ذلك، من قبل صاحب المائدة، مرسوماً بإصلاح الألبان والكواميخ، ثم علت حاله، فكان صاحب المائدة يتحسر، كيف علت حال هذا، وقد كان تابعاً له، وغلب على الملك؟ وكان مع ذلك الرجل، يهوديٌ ساحر ممخرق، فقال له ما لي أراك مهموماً؟ فحدثني بأمرك، لعل فرجك على يدي.
قال: فحدثه.
فقال له اليهودي: إن رددتك إلى منزلتك، ما لي عندك؟ قال: أشاطرك حالي ونعمتي، وجميع مالي.
فتعاهدا على ذلك، فقال: أظهر وحشة تجري بيننا، وأنك قد صرفتني ظاهراً.
ففعل ذلك به.
فصار إلى الرجل الغالب على الملك، فحدثه، وتقرب إليه بما جرى عليه من الرجل الأول، ولم يزل يحدثه مدة طويلة، حتى أنس به ذلك الرجل.
فلقيه في بعض الأيام، ومع غلامه غضارة ذهب، فيها شيراز في نهاية الطيبة، يريد أن يقدمه إلى الملك.
فقال: أرني هذا الشيراز.
فقال الرجل لغلامه: أره إياه، فأراه، فخاتل الرجل والغلام، وأخذ بأعينهما بسحره، وطرح في الشيراز قرطاساً كان معه، فيه سم ساعة.
وغطى الغلام الغضارة " 54 " الكبيرة، ومضى ليقدمها، إذا قدمت المائدة.
فبادر اليهودي إلى صاحب المائدة الأول، وقال له: قد فرغت من القصة، وعرفه ما عمله، ووصف له الغضارة، وقال له: امض الساعة إلى الملك، فقل له: هذا أراد أن يسمك في هذه الغضارة، فلا تأكلها، وجربها، فإنه سيجربها على كلب، أو غيره، فيموت في الحال، فيقتل عدوك، ويشكر لك، فيردك إلى مرتبتك.
قال: فبادر الرجل، فوجد المائدة، تريد أن تقدم إلى الملك، فحين قدمت، تقدم إليه، وقال: أيها الملك، إن هذا يريد أن يسمك في هذه الغضارة، وهي مسمومة بسم ساعة، فلا تأكلها.
فراع الملك، وأمر بتجريب الشيراز على حيوان.
فقال الرجل: قد كذب هذا، وليس يحتاج إلى حيوان، أنا آكل من هذه الغضارة، ليعلم الملك كذبه.

قال: والرجل لا يعلم ما في الغضارة، فبادر فأكل منها لقمة، فتلف في الحال.
فقال صاحب المائدة الأول: إنما أكل أيها الملك من ذلك، ليتلف لما علم أنك تجرب ذلك، فتجده قاتلاً، فخاف أن تعذبه، فاستروح إلى هذا.
فلم يشك الملك، في صحة الأمر، ورد إلى صاحب المائدة الأول، ما كان إليه، وأكرمه وعظمه.
زمضت السنون على ذلك.
قال: وعرض للملك، علة، كان يسهر من أجلها في أكثر الليالي، فكان يخرج، وحاشيته غافلون، فيطوف في صحون داره، وحجرها، وبساتينها، ويقف على أبواب حجر نسائه، وغلمانه، فيتسمع عليهم، ويعلم ما يتحدثون به.
فانتهى في ليلة، في طوفه، لأجل السهر، إلى حجرة فيها ذلك اليهودي، وقد خلطه صاحب المطبخ بنفسه، وغلمانه، وهو جالس يحدث بعض أصحاب صاحب المطبخ، ويتشكى إليه، ويقول: إنه يقصر في حقي، ويعدد تقصيره في حقه.
ثم قال: أنا أصل نعمته وما هو فيه.
فقال له الذي يحدثه: وكيف صرت أصل نعمته؟ قال: وتكتم ذلك؟ قال: نعم.
فحدثه بحديث الشيراز والسم.
فلما سمع الملك ذلك، قامت قيامته، وأحضر الموبذ من غدٍ، وحدثه بالحديث، وشاوره فيما يعمله، مما يزيل عنه إثم ذلك الفعل في معاده، فأمر بقتل اليهودي وصاحب المائدة والإحسان إلى عقب - إن كان - لذي قتل نفسه.
وقال: ولا يزيل عنك إثم هذا، إلا أن تطوف في عملك، حتى تنتهي إلى بقعة " 55 " خراب، فتستحدث لها عمارة، ونهراً، وشرباً، فيعيش الناس بذلك، في باقي الدهر، بدلاً من موت ذلك الرجل، فيمحص عنك الإثم.
ففعل الملك ذلك، وطاف أعماله، حتى بلغ موضع النهروان، وهو خراب، فأجمع رأيه، على حفر النهر فيه، فحفر، وسماه: ثواب العمل، لأجل هذه القصة.
رقعة نفعت صاحبها وخلفهحدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو الحسن الأنباري الكاتب، صديق الكرخيين قال: دفع إلي أبو أحمد عبد الوهاب بن الحسن بن عبيد الله بن سليمان، رقعة أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة بن خالد، الكاتب، إلى جده عبيد الله.
وقال لي: كان إلى أبي - الحسن بن عبيد الله - ديوان الرسائل، وديوان المعاون، في جملة الدواوين التي كانت إليه في أيام أبيه.
فأمر الوزير عبيد الله، أبي، أن يستخلف أبا الحسين بن ثوابة، على ديوان الرسائل، والمعاون، وصار كالمتقلد له من قبل الوزير، لكثرة استخدامه له فيه، وكانت هذه الرقعة سبب ذلك.
ثم مات أبي، فأقره جدي على الديوان رياسة، وبقي عليهم، يتوارثونه، مرة رياسة، ومرة خلافة.
فما سمع برقعة أولى منها، وهي في غاية الحسن، ونسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فأنا أحاكم الأيام إلى عدلك، وأشكو صرفها إلى عطفك، وأستجير من لؤم غلبتها، بكرم قدرتك، فإنها تؤخرني إذا قدمت، وتحرمني إذا قسمت، فإن أعطت، أعطت يسيراً، وإن ارتجعت، ارتجعت كثيراً، ولم أشكها إلى أحد قبلك، ولا أعددت للإنصاف منها إلا فضلك، ودفع ذمام المسألة، وحق الظلامة، وحق التأميل، وقدم صدق الموالاة والمحبة، والذي يملأ يدي من النصفة، ويسبغ العدل عليّ، حتى تكون محسناً إليّ، وأكون بك للأيام معدياً، أن تخلطني بخواص خدمك الذين نقلتهم من حال الفراغ إلى الشغل، ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تعديني، فقد استعديت، وتجيرني فقد عذت بك، وتوسع عليّ كنفك، فقد أويت إليه، وتعمني بإحسانك، فقد عولت عليه، وتستعمل يدي ولساني، فيما يصلحان لخدمتك فيه، فقد درست كتب أسلافك، وهم الأئمة في البيان، واستضأت بآرائهم، واقتفيت آثارهم، اقتفاء حصلني بين وحشي الكلام وأنيسه " 56 " ، ووقفني منه على جادة متوسطة، يرجع إليها الغالي، ويسمو نحوها المقصر، فعلت، إن شاء الله.
أبو قوصرة المستخرج
والوزير المصروف الحسن بن مخلدحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن يحيى ابن أبي البغل، وهو إذ ذاك، عدل في جوارنا ببغداد، ويعاشرني.
قال: حدثني أبو قوصرة المستخرج.
قال أبو الحسين: وقد رأيت أنا أبا قوصرة، وأنا حدث، وهو شيخ مسن، من بقية القواد المتقدمين، وقد لزم منزله، وكان الرسم قديماً، إن يقلد بعض القواد الذين يفهمون المناظرة، الاستخراج.

قال ابن أبي البغل: قال لي أبو قوصرة: تقدم إلي سليمان بن وهب، في وزارته للمعتمد، لما قبض على الحسن بن مخلد، أن أدخل إليه، إلى الحبس، فأطالبه بما صودر عليه، فكنت أخشن عليه ظاهراً، وألين له باطناً، وأتخبر له على سليمان، وأشير عليه.
فوقفت على أن عبيد الله بن سليمان، قد عمل على أن يجتمع هو، وأبوه، وصاعد بن مخلد، وأبو صالح بن المدبر، وجماعة من الكتاب، في مجلس، ويخرجوا الحسن، فيباهتوه بكل محال لا أصل له، ويكابروه على المحالات، حتى يضطروه بذلك، إلى الأداء، ويرهبوه بأخذ خطه بزيادة على ما عليه، لأنه كان قد بلح، وقال: لم يبق لي ما أؤديه.
قال: فجئته إلى الحبس، فحدثته بأنهم في غدٍ، سيخرجونه لذلك.
قال: ففكر ساعة، فظننته يفكر فيما يدبر به أمره.
ثم أنشدني لنفسه:
من صادر الناس صادروه ... وكابر الناس كابروه
وباهتوه الحقوق بهتاً ... وبالأباطيل ناظروه
بمثل ما راح من قبيح ... أو حسن منه باكروه
من تواضع ارتفعحدثني أبو الحسين، قال: كان أبو الفضل عبيد الله بن عبد الله بن الحارث الكاتب، من وجوه العمال، ثم خلف أبا القاسم سليمان بن الحسن، في وزارته الأولى، على كثير من أمر الوزارة، فتكبر على الناس، ولم يوفهم الحق، فبحثوا عن معايبه، وأطلقوا الألسن بمثالبه.
وكان قد اشتهر أن أمه، تزوجت أزواجاً، بعد أبيه وقبله، وقيل إن عددهم بضعة عشر رجلاً، ومنهم رجل يعرف بسوشيخ، يبيع الأرز باللبن.
فقال فيه العصفري الشاعر يهجوه، وأنشدنيها لنفسه:
قالوا: أبو الفضل شمخ ... وازداد كبراً وبذخ " 57 "
فقلت أمه، قولوا له ... يا هرل سوشيخ الوسخ
ما كنت، لا كنت بذي ... سوشيخ يقرط لأمخ
وإنما أراد أن يتطايب بهذا الشعر، مع ذكر أمه، لأن أصله كان من قرية من أعمال واسط بالأسافل، يقال لها قلمايا.
وقد كان أبو الحسين بن عياش القاضي، أنشدني هذه الأبيات قديماً، وحكى مثل هذه القصة، فأنسيت الأبيات حتى أذكرنيها أبو الحسين بن هشام، وفي رواية ابن عياش:
ويلك ما كنت بذي
قال: ومعنى يقراط لأمخ: ينيك أمك.
الخليل بن أحمد والراهبحدثني أبو الحسين بن هشام، قال: حدثني أبو الحسن زكريا بن يحيى ابن محمد بن شاذان الجوهري، قال: حدثنا أبو العباس المبرد، قال: حدثت عن الخليل بن أحمد قال: اجتزت في بعض أسفاري، وأنا متوجه، براهب في صومعة، فدققت عليه، والمساء قد أزف جداً، وقد خفت من الصحراء، وسألته أن يدخلني.
قال: فقال: من أنت؟ فقلت: أنا الخليل بن أحمد.
فقال: أنت الذي يزعم الناس أنك وجه، وواحد في العلم بأمر العرب؟ فقلت: كذا يقولون، ولست كذلك.
قال: إن أجبتني عن ثلاث مسائل، جواباً مقنعاً، فتحت لك، وأحسنت ضيافتك، وإلا لم أفتح لك.
فقلت: وما هي؟ قال: ألسنا نستدل على الشاهد بالغائب؟ قلت: بلى.
قال: فأنت تقول: إن الله ليس بجسم ولا عرضٍ، ولم نر له مثلاً، فبأي شيء أثبته؟ وأنت تزعم: إن الناس في الجنة يأكلون، ويشربون، ولا يتغوطون، وانت لم تر آكلاً، شارباً، إلا متغوطاً.
وأنت تقول: أن نعيم أهل الجنة لا ينقضي، وأنت لم تر شيئاً إلا منقضياً.
قال: فقلت له: بالشاهد الحاضر، استدللت على ذلك كله.
أما الله تعالى، فإني استدللت عليه، بأفعال الدالة عليه، أنه لا مثل له، وفي الشاهد مثل ذلك، الروح التي فيك، وفي كل حيوان، نعلم أنه يحس بها تحت كل شعرة منا، ونحن لا ندري أين هي، ولا كيف هي؟ ولا ما صفتها، ولا جوهرها، ثم نرى الإنسان من الناس، يموت إذا خرجت، ولا يحس بشيء، وإنما استدللت عليها بأفعالها، وبحركاتها، وتصرفنا، بكونها فينا.
وأما قولك: إن أهل الجنة لا يتغوطون، مع الأكل، فالشاهد لا يمنع ذلك، ألا تعلم أن الجنين يغتذي في بطن أمه، ولا يتغوط.
وأما " 58 " قولك: إن نعيم أهل الجنة، لا ينقضي مع أن أوله موجود، فإنا نجد أنفسنا نبتدئ الحساب بالواحد، ثم لو أردنا أن لا ينقضي إلى ما لا نهاية له، لم نزل نكرره، وأعداده، وتضعيفه، إلى ما لا انقضاء له.
قال: ففتح لي الباب، وأحسن ضيافتي.
عافية القاضي يستقيل من القضاء

حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن سعد، مولى بني هاشم، وكان يكتب ليوسف القاضي قديماً، قال: حدثنا إسماعيل ابن إسحاق القاضي، عن أشياخه، قال: كان عافية القاضي، يتقلد للمهدي، القضاء، بأحد جانبي مدينة السلام، مكان ابن علاثة، وكان عافية عالماً زاهداً.
فصار إلى المهدي، في وقت الظهر، في يوم من الأيام، وهو خالٍ، فاستأذن عليه، فأدخله، وإذا معه قمطره، فاستعفاه من القضاء، واستأذنه في تسليم القمطر، إلى من يأمره بذلك.
فظن أن بعض الأولياء قد غض منه، أو ضعف يده في الحكم، فقال له في ذلك.
فقال: ما جرى من هذا شيء.
فقال: ما سبب استعفائك؟ فقال: كان تقدم إلي خصمان من شيراز وأصبهان، في قصة معضلة مشكلة، وكل يدعي بينة وشهوداً، ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت، فرددت الخصوم، رجاء أن يصطلحا، أو يتعين لي وجه فصل ما بينهما.
قال: فوقف أحدهما، من خبري، على أني أحب الرطب السكر، فعمد، في وقتنا، وهو أول أوقات الرطب، إلى أن جمع رطباً سكراً، لا يتهيأ في وقتنا جمع مثله إلا لأمير المؤمنين، وما رأيت أحسن منه، ورشا بوابي جملة دراهم، على أن يدخل الطبق إلي، ولا يبالي أن يرد، فلما أدخل إلي، أنكرت ذلك، وطردت بوابي، وأمرت برد الطبق، فرد.
فلما كان اليوم، تقدم إلي مع خصمه، فما تساويا في قلبي، ولا في عيني، وهذا يا أمير المؤمنين، ولم أقبل، فكيف لو قبلت، ولا آمن أن تقع علي حيلة في ديني، فأهلك، وقد فسد الناس، فأقلني، أقالك الله، واعفني.
فأعفاه.
لا تصلح الدنيا إلا بالعدلحدثني أبو الحسين، قال: سمعت حامد بن العباس، في وزارته، يتحدث، قال: كان صاعد بن مخلد، وصفني للناصر لدين الله، وعظم عنده من أمري، حتى اختصصت بخدمته.
فاستدعاني يوماً على خلوة، وقال: قد علمت ما لحقنا من هذا العدو، يعني " 59 " صاحب الزنج، حتى عدنا إلى هاهنا.
قال: وكان ذلك بعد انهزامه من بين يدي صاحب الزنج، وعوده من مقامه بواسط، ليستريح، ويتأهب للرجوع، ويستعد لقتاله.
قال: وقال لي الناصر: وأمري كما ترى مختل، وجميع ما في خزانتي ثلاثون ألف دينار عيناً، وهذا لا يقع مني، وأريد أن تصرف همتك إلى ما يثمر معه، ويضعف قدره.
قال: فقلت له: هاهنا وجه فيه مرفق عظيم.
فقال: ما هو؟ فقلت: هذه أسناية الخيزران، ومنها يشرب المبارك بأسره، وبعض الصلح، وكانت إقطاعاً لأم الرشيد، الخيزران، فحفرت لها هذه الاسناية، وكانت تغلها غلة عظيمة، وقد تعطلت الآن، وخرب الصلح، والمبارك، كله، فإن صرفت هذه الثلاثين الألف الدينار، في حفر الاسناية، وإطلاق البذر والبقر، لأهل هاتين الناحيتين، توليت لك تفرقة ذلك، ومشاهدة الحفر بنفسي، حتى لا يضيع منه دانق واحد، ولا يرتفق أحد بحبة منه، وتغل في سنة، ضعف هذا وأكثر.
قال: قد فعلت.
قال: فأنفقت على حفر الاسناية عشرين ألف دينار، بأتم احتياط، وأطلقت العشرة الآلاف الدينار، الباقية، للضعفاء من الأكرة، والتناء، والمزارعين، في أثمان بقر وبذور، واحتطت في جميع ذلك، وطالبت الأقوياء بالزراعة من أموالهم، وحرصوا هم أيضاً الحرص كله، لما رأوا الماء، وأن الضياع معطلة منذ سنين كثيرة، وطمعوا في كثرة الريع، ووفور الأسعار في النواحي.
فزرع الناس بالرغبة والرهبة، حتى استنفذوا جهدهم.
فلما أدركت، حصلت في بيدر واحد، من بيادر الصلح، وقد كان ارتفع أصل الكيل منه، ثلاثة آلاف كر وستمائة كر حنطة، بالنصف، فحصلت منه الثلث، والعشر، على المقاسمة مع الأجور، وفضل الكيل، ألف كر وستمائة كر للسلطان، وبعتها بحساب الكر بنيف وعشرين ديناراً، فحصل الثمن ستة وثلاثون ألف دينار عيناً من بيدرٍ واحد، وبقي البلد كله بأسره ربحاً.
فحصل له منه في أول سنة، أضعاف ما أنفق مضاعفاً.
فتقوى بذلك على الرجوع إلى الخائن " 60 " ، وكان ذلك من أكبر أسباب تقدمي عنده ورفعتي.
قال: وكان حامد يحدث بهذا، عقيب شيء جرى، قال حامد معه: لا تصلح الدنيا إلا بالعمارة، وقمع العمال عن السرقات.
ثم تحدث بهذا الحديث.
تنح عن القبيح ولا تردهحدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات، يقول: كان أبو الحسن محمد بن فراس الكاتب، سبب الوصلة بين القاسم بن عبيد الله، والعباس بن الحسن، حتى استكتبه له.

فلما علت حال عباس، حسده ابن فراس، وعاد يسعى عليه، ويثلبه عند القاسم.
إلى أن اعتل القاسم علة موته، فقال ابن فراس: إن العباس بن الحسن، يسعى في طلب الوزارة، مع الداية، وصافي الحرمي، وإنه قد قطع السواد.
فلم يتقبل ذلك القاسم، وكتب الرقعة المشهورة إلى المكتفي.
قال: فدخلنا عليه في الليلة التي ولي فيها الوزارة، إثر موت القاسم، ولم يكن خلع عليه، ودخل ابن فراس مهنئاً له، فجلس في أخريات الناس.
وتشاغل العباس، بتقليب ثياب السواد، وقد جاءوه بها، ليختار منها ما يقطع له، فيلبسه من غد، في دخوله إلى الخليفة، قبل الخلع، حتى يبركه هناك، ويلبس الخلع فوقه.
وكان الرسم إذ ذاك، أن لا يصل أحد إلى الخليفة، في يوم موكب إلا بسواد.
قال: فلما اختار العباس ما يريده من الثياب، أقبل علينا، وقال معرضاً بابن فراس: لعن الله أهل الحسد والشر، سعى قوم على دمي، عند ولي الدولة، وقالوا له إني قد سعيت في الوزارة، وإني قد قطعت السواد منذ أيام كثيرة، وهذا بحضرتكم، على غير تواطؤ، هو ذا أقلب ثياباً، ليقطع منها سواد لي.
فقام ابن فراس قائماً، وقال: قد حضرني، أطال الله بقاء الوزير، بيتان في هذا المعنى، فإن أذن الوزير - أيده الله - أنشدتهما.
فاستحيا العباس، وقال: بحياتي، اجلس، وأنشد.
فجلس، وقال:
تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسناً فزده
ستكفى من عدوك كل كيد ... إذا كاد العدو ولم تكده " 61 "
جور أبي عبد الله الكوفيحدثنا أبو الحسن، محمد بن محمد بن عثمان الأهوازي الكاتب، المعروف بابن المهندس، قال: حدثني ابن مروان الجامدي، قال: لما ظلم الناس بواسط، أبو عبد الله، أحمد بن علي بن سعيد الكوفي، وهو إذ ذاك يتقلدها لناصر الدولة، وقد تقلد الوزارة، وإمرة الأمراء ببغداد، كنت أحد من تظلم، فظلمني وأخذ من ضيعتي بالجامدة، نيفاً وأربعين كراً أرزاً بالنصف من حق رقبتي - سوى ما أخذه من حق بيت المال - بغير تأويل ولا شبهة، فتظلمت إليه، وكلمته، فلم ينصفني.
وكان الكر الأرز بالنصف، إذ ذاك، بثلاثين ديناراً.
فقلت له: قد أخذ سيدنا مني، ما أخذ، ووالله، ما أهتدي، أنا وعيالي، إلى شيء سواه، وما لي ما أقوتهم به، باقي سنتي، ولا ما أعمر به ضيعتي، وقد طابت نفسي أن تطلق لي من جملته عشرة أكرار، وأجعل الباقي لك حلالاً.
فقال: هذا ما لا سبيل إليه.
فقلت: فخمسة أكرار.
فقال: لا أفعل.
قال: فبكيت، وقبلت يده، ورققته، وقلت: فهب لي منه، وتصدق علي، بثلاثة أكرار، وأنت من الجميع في حل وسعة، بطيب من قلبي.
فقال: لا والله، ولا أرزة واحدة.
قال: فتحيرت، وقلت له: فإني أتظلم إلى الله عز وجل منك.
فقال لي: كن على الظلامة - يكررها دفعات - وبكسر الميم، بلغة الكوفيين.
قال: فانصرفت محترق القلب، فجمعت عيالي، وما زلت أدعو الله عليه، ليالي كثيرة.
فهرب من واسط في الليلة الحادية عشرة من أخذه الأرز، وجئت إلى البيدر، فأخذت أرزي، وحملته إلى منزلي.
وما عاد الكوفي بعدها إلى واسط، ولا أفلح.
أبو عبد الله الكوفييعاقب ملاحاً على سوء أدبه
حدثني أبو الحسن محمد بن محمد الأهوازي بن عثمان المعروف بابن المهندس، قال: كنت أتقلد الضريبة وغيرها، في أعمال واسط، في هذا الوقت، للكوفي.
فقدم ملاح، يقال له ابن شبيب، من بغداد، في زورق عظيم، وكان فيه حديد، وخواب، فطالبته على ضريبتهما بثمانية آلاف درهم وكسر.
فالتجأ إلى ثمل وهو غلام سيف الدولة، لأن سيف الدولة كان مقيماً بواسط حينئذ، أميراً عظيماً.
فكتب إلي ثمل، رقعة يلزمني تخفيف " 62 " الضريبة عن الملاح، ومقاربته، وأنفذ غلماناً من غلمانه.
فوضعت في نفسي المقاربة لأجله، فقلت للملاح، عليك ثمانية آلاف درهم، وكذا وكذا، فبكم تحب أن أسامحك، لجل كلام فلان أيده الله؟ قال: وكان مجلساً حافلاً بأهل الأسواق، والتجار، والمعاملين في الضريبة.
قال: فقال لي الملاح مستفهماً: كم علي؟ فقلت: ثمانية آلاف درهم وكسر.
قال: فضرط من فمه، لي، وقال: تأخذ مني بميزان قرع، وصنج بعر.

قال: فورد عليّ أمر عظيم، من استخفافه بي في مجلس العمل، وكرهت أن أوقع به، فتشرق الحال بيني وبين ثمل، مع تمكنه من سيف الدولة، وتصير منابذة بينه وبين صاحبي، ولا أدري كيف يكون حالي في ذلك.
فقلت له: أما أنت فأقل من أن تجاب عن هذا الكلام، ولكن سأريك أمرك، كونوا معه.
قال: فوكلت به جماعة من الرجالة، وعبرت في زبزبي، إلى الكوفي، فحدثته بالقصة.
فحين استتم حديثي، قال: وأي شيء عملت بالملاح؟ فقلت: لم أقدم أن أعمل به شيئاً، لأجل ثمل، وخشيت أن تنكر أنت ذلك.
فقال: نفاطين، نفاطين، وصاح، وتغيظ. فأحضروا.
وقال: ثلاثين راجلاً، الساعة، فأحضروا.
فقال: اعبروا إلى الزورق، فأحرقوه، بجميع ما فيه من الأمتعة، الساعة.
قال: فورد عليّ أمر عظيم، وندمت على الشكاية، فقلت: يكفي من هذا - أطال الله بقاء سيدنا - ضرب الملاح بالمقارع في السوق، وأن تضعف عليه الضريبة، وتستخرجها منه.
فقال: لا والله، إلا الإحراق.
قال: فاجتهدت به، فلم يكن في يدي منه شيء.
وتوجه النفاطون، والرجالة، إلى الزورق، فضربوه بالنار، وأقبل الملاح يلطم، ويصيح، ويقول: يا قوم، فيه أموال الناس، قد افتقروا، وافتقرت، ويستغيث بالمسلمين، ولا يقدم أحد على إغاثته.
وأحرقت قلوس الزورق، التي كانت تربطه، وتمسكه، وخرج منه الملاحون، وطرحوا أنفسهم إلى الماء.
فانحدر مع الماء لنفسه، والنار تشتعل فيه، فوقع على الجسر، فقطعه، وانحدر، حتى انتهى إلى موضع معسكر سيف الدولة، وكان نازلاً في المأصر بواسط.
والملاح " 63 " في بكائه وراءه، لا يجسر أن يطفئ النار، ولا يقدر على أكثر من أن يلطم ويصيح.
فلما رأى سيف الدولة الصورة، استهولها، مع صياح الملاح، وقوله فيه أموال، فاستدعاه، وقال: أيش فيه؟ فقال: فيه مال صاحب البريديين، أصدره إليهم صاحبهم من بغداد سراً، وجعله تحت الحديد.
قال: فأمر سيف الدولة بالزورق، فقدم إلى الشط، وأطفئت النار، وقد احترق جوانب الزورق، وظلاله، وأكثر آلته، إلا الأمتعة التي في أسفله، فإنها كالسالمة.
فرقي بها إلى الشط، فأخرج المال، فإذا هو ثمانية آلاف دينار عيناً، ونيف وستون سيفاً ومنطقةً، من فضة، وبعضها من ذهب، فأخذ ذلك.
وسلم الزورق إلى الملاح، وشد على يده، وعصمه من الكوفي، حتى نقض الملاح الزورق، وانتفع ببقية خشبه وحديده، ووصل التجار إلى ما سلم من المتاع.
هل جزاء الإحسان إلا الإحسانحدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا عيسى، أحمد بن محمد بن خالد، المعروف بأخي أبي صخرة، يحدث أبي، قال: ما رأيت أحسن رعاية من أبي القاسم، عبيد الله بن سليمان.
فمن ذلك: أن إسماعيل بن ثابت، المعروف بالرغل، كان يتقلد لأبي الصقر، إسماعيل بن بلبل، في وزارته، طساسيج بادوريا، وقطربل، ومسكن، ونهر بوق، والذنب، وكلواذى، ونهريين.
فلفق على عبيد الله بن سليمان - وهو إذ ذاك متعطل في منزله، يعقب تقضي النكبة عنه، ولزومه لبيته - ثلاثة آلاف درهم، وذكر أنها تجب عليه ببادوريا، في سنين، من مظالم باطلة، وبقايا غير لازمة، وأحضر وكيله، وطالبه بها.
فقال له: أمضي، وألتقي بصاحبي، وأواقفه على الأداء.
فوكل به عدة من رجالته، وانصرف، فصار إلى عبيد الله، فقال له: أغرم للرجالة جعلاً، ودافع بلقائه يومين، إلى أن أطرح عليه، من يسأله ترك المطالبة، بأن يقررها معه.
فخرج الوكيل، وبذل للرجالة أوفر الأجعال، فذكروا أنهم لا يقدمون على الإفراج عنه خوفاً من الزغل.
وتكرر الكلام بينهم، إلى أن وثب حاجب عبيد الله بهم، وحال بينهم وبين الوكيل، وأدخله الدار.
وانصرفوا، فشكوا " 64 " ذلك إلى الزغل، وأسرفوا، خوفاً منه، ليقوم عذرهم.
فجاء الزغل، فأسرف إسرافهم، وأضاف كل قبيح إلى عبيد الله، وشكاه إلى الوزير إسماعيل، وقال له: إنه لا يقدر على استخراج مال عليه، إلا بالمبالغة في مكروه عبيد الله، والإنكار عليه، وحبسه بنفسه في الديوان، حتى يؤدي، ولا يقتدي به المتعذر.
وكان إسماعيل، من العداوة لعبيد الله، والبغض له، والخوف منه على محله، بمنزلة عظيمة، وفيه - مع ذلك - تشدد في نصرة العمل، وجبرية في نفسه، فاغتاظ جداً.
فأحضرني، وأنا - إذ ذاك - أتولى له ديوان ضياعه، وتقدمته، وتدبير الجيش برسمه، ومنزلتي في الاختصاص به قوية.

فقال: أحضر هذا الجاهل عبيد الله بن سليمان، وعرفه ما شكا منه إسماعيل بن ثابت، وأن جزاءه عليه الإبعاد إلى طنجة، وقبض نعمته، وضياعه، وأني أعرفه بالعجب والجهل، ولولا أن الزمان، قد كفاني، بإسقاط أبيه، وأنه صار إلى منزلة، إن عاقبنه بما يستحقه، جعلت له سوقاً، لما أخرت عقوبته، ولكن قل له: والله لولا تذممي، لأمرت بالآخر أن يصفع من داره إلى ديوان إسماعيل بن ثابت، ويقام على رجله، حتى يؤدي ما عليه، ولا تدعه من الديوان، أو يحضر وكيله وحاجبه، فيسلمهما إلى إسماعيل بن ثابت، وتصرفه حينئذ، ليطالبهما إسماعيل، بما عليه.
قال: فخرجت، وكتبت إليه رقعة، أستدعيه فيها إلى الديوان، دعوت له فيها، كما يدعى من الديوان لمثله، وهي سطران دعاء، وترجمتها في ظاهرها: " لأبي فلان، من فلان " .
وكان الكاتب كتبها عني، فلما عرضها عليّ، زدت فوق الدعاء، بخطي، يا سيدي، وكتبت في داخل الرقعة، عبدك، وإنما أردت توفيته الحق بذلك، وستر الأمر عن كاتبي، لئلا يسمع أني خاطبته بتعظيم، فأقع في مكروه، مع إسماعيل.
وزدت في آخر الرقعة بخطي: أنه لا يجب أن يستوحش من شيء أتوسطه، فإني أحوطه بجهدي، وأن سبيله أن يحضر عشياً، ليكون مجلسي خالياً، فأوفيه الحق، ولا يجيء " 65 " غدوة، فإن وفيته الحق لحقني من الوزير إنكار، وإن قصرت تذممت إليه، وراعيت العواقب فيه.
فجاءني في جواب الرقعة، عشياً، فقمت إليه، وكان هذا عظيماً، محظوراً على مثلي، وخاصة في الديوان، وصدرته، وجلست بين يديه وعرفته ما جرى من الزغل، وأعدت من كلام الوزير، من الإنكار، والإيعاد، ما جمل لفظه.
وقلت: قال أشياء أخرى كثيرة، قبيحة، هائلة، لا أستحسن تلقيك بها، وأجل سمعك عن إيرادها عليك، هذا أقلها وأحسنها، ومع ذلك فإنه أمرني، أن لا تبرح، أو تحضر الوكيل والحاجب، ثم أستأذنه في انصرافك، فأجاب، إن فعلت هذا، وأن يصير لك اعتقال إن خالفت، ثم لا أدري أي شيء ينجر عليك، وأكون سببه، ولكن اجعلني على ثقة من إنفاذك الرجلين إليه، وانصرف، لأعرفه ما جرى، فإن أنكر علي انصرافك بغير إذن، جحدته أني سمعت ذلك منه، وكن على تحرز، من غير أن يشيع ذلك، إلى أن يجيئك ثقتي بجلية الصورة، فتعمل بها، وبحسبها، إما في الأمن، أو الهرب.
فشكرني، وقال: ما أطمع أن أكافيك على هذا.
وقام، وقمت بقيامه، وودعته، وقلت: يا غلمان، بأسركم، بين يديه، فخرج، وأنفذ الرجلين، وتوقى توقياً ضعيفاً، ودخلت، فعرقت الوزير الصورة، وجملت القصة، وأمرني بترك التعرض له، وتسليم الرجلين إلى الزغل.
فأحضرت الزغل، وسلمت الرجلين إليه، وقلت له: تقبل رأيي؟ فقال: قل.
فقلت: قد بلغت ما تريد، فأحسن في الأمر ما قدرت.
فقال: يا سيدي، هذا إبطال للعمل، ولا بد من تقويمهما.
فجهدت به في الإحسان، فلم يفعل، وأنفذ الرجلين، إلى باب عبيد الله، فضربهما عليه، كل واحد منهما، عشرين مقرعة، وصفع الوكيل، بعد الضرب، خمسين صفعة، واستخرج الدراهم.
ومضت السنون على هذا، وفرج الله عن عبيد الله " 66 " ، وتقلد الوزارة، فاستترت، لأجل اختصاصي بإسماعيل الوزير، وما ألتزم من جهته.
وقبض عبيد الله، على الزغل، وكان أول من صودر، من أسباب إسماعيل، وعومل من المكاره، بما لم يسمع بأعظم منه، ولم يتصرف في أيام عبيد الله، إلى أن مات وهو يتصدق.
واستترت أنا، أياماً، فلم يعرض عبيد الله لطلبي، ولا لشيء من داري، وضيعتي، ولا لأهلي، ولا معاملي، فأنست بذلك، وكتبت إليه بعد ذلك، أسأل الأمان، فأمنني.
فحضرت مجلسه، وهو حافل بالناس، وبين يديه الخلق، من أصحاب الدواوين والقواد.
فحين رآني، قام إلي قياماً تاماً.
فقبلت رجليه، وقلت: يقيلني الوزير أطال بقاءه، وليس هذا محلي.
فقال: ولم؟ ما يفي قيامي لك، بقيامك لي، لأنك قمت لي في وقت عرضت - بقيامك لي - نفسك، ودمك، ونعمتك، وحالك، لذلك العدو لله، وعاملتني، بما لا يفي به شكري، ولك عندي كلما تحبه، ولن يلحقك سوء في مالك ولا غيره.
قال: ولج به المعتضد، في مصادرتي، وهو يدفعه عني، ويقول له أشياء يدفع بها عني، لا أصل لها، منها: أنه قال له: هذا قد صادره إسماعيل، في أيام تصرفه معه، دفعات، وأفقر على سبيل القرض، وكانت له نفقات عظيمة، ومروءة، وهو مع هذا عفيف، لا يرتفق بشيء، ولا يجاوز رزقه، ولا حال له، فيصادر، ولا طريق عليه.

قال: والمعتضد يلح.
فقال لي عبيد الله: ليس لك، إلا أن تبتعد عن المعتضد حتى ينساك.
فقلت: المر للوزير.
فقلدني الخراج والضياع بقم، وكتب إلى صاحب المعونة، بخدمتي، وأخرجني على أمر يعظم.
وطالبه المعتضد، بالتزام مصادرتي، فأعاد عليه القول، وقال: احتجت إلى الاستعانة بكفايته، فأنفذته إلى قم.
فقال: لا بد من إلزامه شيئاً هناك.
فكتب بالصورة إليّ، وألزمني عشرين ألف دينار، وعدني بإخلافها عليّ، فالتزمتها، ولم يكن القول بها مؤثراً في حالي.
فلما أديت منها عشرة آلاف، أسقط الباقي، وسأل المعتضد فيه، فحطه " 67 " عني، وما عطلني، إلى أن مات.
فسلمت ونعمتي عليه، وكسبت معه نعمة ثانية، أنا فيها إلى الآن، بثمرة ذلك الإحسان.
وهلك الزغل، وبلغ إلى الصدقة، ومات في الفقر، بثمرة ذلك الشر.
آثار قديمة في سواد واسطومن عجائب الدنيا، وآياتها، أشياء في سواد واسط.
حدثني جماعة، منهم رجل يعرف بابن السراج، وغيره، ومنهم محمد ابن عبد الله بن محمد بن سهل بن حامد الواسطي، وجده أبو بكر محمد بن سهل، كان وجهاً من وجوه الشهود بواسط، ثم تقلد القضاء بها سنين، دفعات، فأثبت ذلك بخط محمد بن عبد الله، عقيب هذا الكلام: شاهدت على نحو من فرسخ وكسر من رصافة الميمون، قرية من قرى النبط، أو الأكاسرة، وتعرف بجيبذا، وقالوا فيها آثار قديمة، من بناء آجر وجص، وفيها قبة قائمة، كالهيكل كانت قديماً، ومثال رجل من حجر أسود أملس، عظيم الخلق، يعرف عند أهل ذلك الصقع بأبي إسحاق، لأنه يتعاطى قوم من أهل القوة شيله فيسحقهم، ويكسر عظامهم، وقد قتل وأزمن خلقاً، فيذكر أهل الموضع، أنهم سمعوا أشياخهم، يدعونه بذلك، على قديم الأيام.
وهذه القرية خراب، لا يذكر فيها عمارة.
وقد كان احتمل هذا الحجر، رجلٌ يعرف بالجلندي، كان على حماية المأمون، فعمد إليه، وشد فيه الحبال، وجره بالبقر، إلى أن بلغ موضعاً من الصحراء، فأمسى، فتركه في موضعه، فلما أصبح عاد فوجده ناحية عن الموضع الذي تركه فيه، وأن ذلك الحجر صار بالقرب من موضعه الأول، فتركه وانصرف.
ثم احتمله بعد ذلك، رجلٌ آخر، من أهل الرصافة، على خلق من الحمالين، يتناوبون عليه، حتى أدخله الرصافة، فحضر أهل ذلك الصقع الذي كان فيه، يضجون، ويقولون: إن هذا نأنس به في ذلك المكان، وإنا نأوي إليه في الليل، فنأنس به، ويمنع عنا الوحش، إذ كنا بقربه، فلا يقربون ما يأوي إليه، فحملوه ثانية، حتى ردوه إلى موضعه الأول، بعد أن بذل لهم الرجال، حمله من الرصافة.
وكان على صدره، وعلى ظهره، وكتفيه، كتابة محفورة، قديمة لا يدري بأي قلم هي " 68 " .
وفي هذه البلاد، قرية، تعرف بقصبة نهر الفضل، وهي تلهوار، وعلى نحو فرسخين منها تل يعرف بتل ريحا، من البلاد القديمة، فيها آثار، وفيه حجر عظيم مربع، له سمك كثير، وهو كالسرير، طول تسعة أذرع، في أذرع، قد غاب في الأرض أكثره، وعليه تماثيل، ونقش.
وكان صاحب تلهوار، أحمد بن خاقان، أراد إقلاب هذا الحجر، لينظر ما تحته، فاحتفر حوله، واجتهد أن يقدر على قلبه، فلم يقدر على ذلك، لأنهم كانوا كلما احتفروا تحته، ليتمكنوا من قلبه، هوى إلى الحفرة، فاستغرق فيها، فلما أعياه ذلك، تركه على حاله.
وفي موضع من ... الذي في ظهر البطائح، بين واسط والبصرة، مما يلي الطفوف، من القبة العتيقة، فيه خزانة يقال لها: القارة، يقال إنها من خزائن قارون، طولها أربعون ذراعاً، والعرض مثله، وارتفاعها أكثر من ذلك، مبنية بالقار، والحصى، والنوى، وهي مجموعة ليس لها باب ولا نقف لها على مدخل.
وكان رجل من ساكني تلهوار، يعرف بعمر النجار، أضاف رجلاً من المجتازين، وأكرمه، فأحب أن يكافيه، فأعلمه كيفية الوصول إلى هذه القارة، وكتب له بذلك كتاباً، أوقفه عليه.
وقال له: نريد أن نستعين برجل كبير، وأومأ إلى خاقان، وأبي القاسم بن حوط العبدسي، وكانا رئيسي البلد، فأعلمهما ذلك.

فأعدوا له آلة لما يحتاج إليه من الفتح، من مرور، وآلات حديد، وخشب وزبل، وسلاليم، وأجرة سفن، وحبال، وغير ذلك، ولومهما عليها - مع مؤن الرجال - ألوف دراهم كثيرة، وأثبتا رجالاً كثيرة للحماية، لأن الموضع تطرقه القرامطه والبوادي، ثم أخرجاه، ومن معه من الرجال، في سفن في البطيحة، لأن الماء إذا زاد في البطيحة يصير فيما بينه وبين هذه القارة دون الفرسخين، فمضوا إليها.
فحدثنا ابن لهذا الرجل، المعروف بعمر النجار، أنه كان مع أبيه، في الموضع، فوافى، فمسح مما يلي مطلع الشمس، من هذه القبة، أربعين ذراعاً، ثم احتفر الموضع، فظهر له حجر عظيم " 69 " لا يقله إلا الجماعة الكثيرة، فلم يزل يحلحل حوله، حتى أخرجه، وإذا أزج عظيم، كان ذلك الحجر عليه على بابه، ولحقه المساء، فعمل على المباكرة لدخول الأزج، والوصول إلى باب القبة، فبات ليلته، ومن معه، فلما كان في وجه الصباح، حين يبدو الفجر، سمعت الجماعة، تكبيراً وضجة، ونظروا إلى السيوف والخيل تبين من خلال الظلمة، فناذروها، ولم يشكوا أنها خيل القرامطة، وتوجهوا نحو البطيحة، والسفن التي لهم هناك، فلم يزالوا كذلك يتعاودون إلى أن أصبحوا، وبان ما في الصحراء، مما يحتاجون أن يروه، فلم يروا خيلاً، فظنوا أنها قد انصرفت عنهم، فعادوا راجعين إلى مواضعهم، فوجدوا عمر النجار مذبوحاً في بعض الطريق، ووافوا إلى مواضعهم، فوجدوا أمتعتهم كما هي، ما فقدوا منها شيئاً، فاحتملوها، واحتملوا عمر النجار، وانصرفوا.
وقيل لي: إنه لم يوجد الحجر، ولا أثر الموضع الذي احتفروا.
وقد يجد الناس، ممن يجتازون بذلك الموضع، أو يقصده، دراهم، وجواهر، حول تلك الخربات، والقبة.
وقد يأوي إلى تلك الخربات، النعام، وتبيض فيها، لخلوها، وانقطاع الناس، عن الاجتياز بها، إلا في الحين بعد الحين.
سيدوك الشاعررأيت بواسط شيخاً، ذكر لي، في شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وستين وثلثمائة، أنه قد تجاوز الستين سنة، وأن مولده ومنشأه بالدحب، قرية من سواد واسط، وأن أباه كان رجلاً من أهل البصرة، من بني تميم، وفد قديماً إلة واسط، ثم استوطن " 70 " السواد، فولد هو فيه، ونشأ إلى أن بلغ، فأحب العلم، فرجع إلى البصرة، وأقام بها، وتأدب، ثم دخل البادية، فأقام بها نحو عشر سنين، ولقي الناس، ووجدته يفهم من اللغة والنحو طرفاً، وهو شاعر من شعراء واسط المشهورين، ويلقب بسيدوك.
وأخبرني هو، قال: قال لي أبو محمد المهلبي، وقد امتدحته لما وزر، لم تسميت بسيدوك؟ فقلت: لأنه اسم رئيس الجن، وأنا رئيس الشعراء.
فقال: أفتدري لم سمي سيدوك رئيس الجن بهذا الاسم؟ قلت: لا.
قال: بلغني أنه إنما سمي بذلك، لأن في الجن قبيلة يقال لها، هلوك، وهو سيدها، فاستثقلوا أن يقولوا: سيد هلوك، فخففوها، فقالوا: سيدوك.
والرجل كان يكنى أبا طاهر، واسمه عبد العزيز بن حامد بن الخضر، على ما أخبرني.
من شعر سيدوكوحدثني، قال: كنت يوماً بحضرة بعض الرؤساء في مجلس شراب، فرماني بنارنجة نضفها أصفر، ونصفها أخضر.
وقال لي: قل في هذه شيئاً.
فقلت في الحال:
وطيبة النشر مسكية ... مرصعة بالتحايا العذاب
فأصفر في لون شمس المساء ... وأخضر في لون قوس السحاب
فلون لوجنة مرعوبة ... ولون لأثر نصول الخضاب
فهذا كمصة نحر الحبيب ... وذاك كما عل صرف الشراب
وأنشدني لنفسه أيضاً:
شربت حلاوة عيش الصبا ... وذقت مرارة فقد الشباب
فلا طعم أمره مما اغتدى ... خضابك مستهتراً من خضابي
ولا شيء أعجب مما التقى ... نصول الخضابين يوم العتاب
أشارت إلى أصص محدقات ... بألوان نيلوفرات طياب
وأنشدني لنفسه " 71 " :
أرى قسمة الأرزاق أعجب قسمة ... فذو دعةٍ مثر مكد به الكد
فأحمق ذو مال، وأحمق معدوم ... وعقل بلا حظ وعقل له جد
يعم الغنى والفقر ذا الجهل والحجى ... ولله من قبل الأمور ومن بعد
وأنشدني لنفسه:
أظن بلية دهمت فؤادي ... وأحسبها غزال بني سليم
وإلا لم يغيب فيعتريني ... تدله ضائم من غير ضيم

ولم عيني إذا فقدته كانت ... كعين الشمس إذ غطت بغيم
محنة القرامطةحدثني أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبيد الله، قال: كنت مع إبراهيم بن نافع العقيلي، المعروف بابن البارد الطوق، وبعض العرب تسميه بباري الطوق، وكانت العامة تسميه: ابن البارد الطوق، وخبروني أنه سمي بذلك أبوه، لأنه ضرب رجلاً في عنقه طوق، فبراها بالضربة.
قال: وكان أبو إسحاق بن البارد هذا، إذ ذاك، أمير نهر الأيسر الذي بين رستاق البصرة والأهواز، وهو إذ ذاك يليها من قبل معز الدولة. فورد عليه رجل، قد هرب من القرامطة، من بني عقيل، يعرف بمختار بن فرناس، وكان من حي إبراهيم، من بني معاوية بن حزن.
وكان في عنق المختار هذا، طوق فضة.
وكان سبب هربه، على ما سمعت خلقاً من بني عقيل، يخبرون بذلك، إذ ذاك، أنه قتل أخاه، وابن عمه، لأجل ضيف أضافه.
وذلك، أنه كان مع الضيف، مالٌ صامت، فأعمل أخوه، على الغدر بالضيف، وأخذ المال منه، وعلم المختار بذلك فمنعه، واقتتلا بالسيوف، فقتل أخاه، فجاء ابن عمه يلومه، وتخاطبا، إلى أن تجاذبا السيوف، وتخابطا بها، فقتل ابن عمه أيضاً، وسكن من نفس الضيف، حتى لا يذعر، ولم يكن له ما يطعمه تلك الليلة، فعرقب فرسه، وذبحه، واشتوى من لحمه، وأوقد حتى اصطلى به الضيف.
فلما أصبح، وارتحل الضيف، خاف أن يبلغ القرامطة خبره، فيأمر العريف بأخذه وإسلامه إلى المحنة، فهرب إلى إبراهيم.
فرأيت رسول القرامطة، قد جاء إلى إبراهيم، فأخذه على صلح وأمان، ورجع إلى حيه، ثم بلغنا أنهم محنوه بعد ذلك، تأديباً له، فما سمع برجل في زماننا من أهل البادية، أشجع، ولا أكرم، ولا آدب منه.
والمحنة عند القرامطة، أنهم إذا نقموا على رجل، استدعوه من حيه، إلى الأحساء بلدهم، فطرحوه، إما مقيداً يكدى في البلد، أو سائساً للخيل، أو راعياً للغنم والإبل أو ضربوه، وجددوا عليه في كل يوم لوناً من العقاب، ولا يزال عندهم حولاً، وأكثر.
وبما عاقبوه " 72 " بألوان أخر.
فجميع ما يعملونه من التأديب، يسمونه محنة.
من شعر أبي القاسم الصرويأنشدني أبو القاسم لنفسه:
أصدع صدر الرمح في صدر فارس ... وأوقد ما يبقى من الرمح للضيف
وأقطع سيفي في الطلى ثم أنثني ... فأذبح عيري بالبقية من سيفي
وإني لصيفٌ في الشتاء إذا أتى ... وإني شتاء بارد الظل في الصيف
وما زلت صدر العلم صدر كتابه ... وقلب الوغى نابٍ عن الضيم والحيف
عدة جند الخلافة في أيام المقتدرحدثني أبو الحسين علي بن هشامُ، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن يحيى بن زكريا بن شيراز، قال: لما أخرج المقتدر هارون بن غريب الخال، مع مؤنس، ونصر، والقواد، لمحاربة القرمطي، حين وافى من زبارا، عرضنا الجيش، لأنه كان ديوان العرض إلى صاحبي ابن الخال، وكنت أكتب عليه، وعلى أمره كله، فأمره المقتدر، بعرض الجيش بزبارا، لئلا يكون قد أخل ممن جرد إلى الحرب أحد، فتقدم إليّ ابن الخال بذلك، فعرضتهم، فكانت العدة من سائر الفرسان، والرجالة، مع من جرد من الحجرية، وخدم الدار، اثنين وخمسين ألف رجل مرتزق، أو واحداً وخمسين - الشك من ابن شيراز - وهذا سوى من يتبعهم، ممن لا رزق له على السلطان، وإنما رزقه على صاحبه.
قال أبو جعفر: وكان قد تخلف ببغداد، نازوك وعسكرٌ برسمه، ورسم الشرطة، سبعة آلاف فارس، وراجل، وبقي في دار الخليفة، ممن لم يخرج، ألف غلام من الحجرية، وألف خادم - أقل أو أكثر - ممن ترك لحراسة الدار، وهذه العدة، سوى من كان في النواحي من الشحن، إلا من استدعي، ممن كان في السواد، لمعاون بغداد، مثل طريق خراسان، وطريق دجلة، وسقي الفرات، وهذه النواحي القريبة.
الشاعر البدوي عساف النميريحدثني أبو القاسم عبيد الله بن محمد الصروي، قال: كنت قد ركبت مع نفر من بني قشير، بالموصل، فحملوني إلى حي لهم بالبادية، على أيام منها، فأقمت في الحي شهوراً.
فكنت يوماً جالساً، فرأيت فتى بدوياً يسمى بعساف، حدث السن، " 73 " حسن الوجه، راكباً.
فقال لي صاحب البيت: هذا رجل من بني نمير، وهو جار لنا، وهو شاعر، فنحب أن تسمع من شعره.
فقلت: نعم.

فسأله النزول، فنزل، وذاكرته بالشعر، فوجدته كثير الرواية لأشعار البادية، في زمانه، فما أنشدني بيتاً أعرفه، ولا نسب شيئاً مما أنشدنيه إلى شاعرٍ أعرفه، متأخر أو متقدم، ووجدته لا يلحن البتة.
وأنشدني شيئاً كثيراً، فعلق بحفظي من ذلك، قصيدة، استعدته إياها دفعات، حتى حفظتها، وقد شذ عني منها أبيات.
قال: وكان هذا، في سنة ست وثلاثين وثلثمائة، واسم الشاعر عساف النميري، قال: ولا أعرف اسم أبيه، ولا نسبه.
والقصيدة:
نظرت وأعلام السرية دوننا ... بعيني فتى صب يرى الهجر مغرما
وأشرف ركب يهلك الطرف دونه ... تظن به الحبشية الحو جثما
وأكرهت طرف العين حتى كأنما ... أرى بفضاء الأرض ستراً منمنما
إذا القوم قالوا صح شيئاً حسبته ... أصم وعن رد المشورة أعجما
دعاهن من نجد لحوران بعدما ... رمين بسهم الحب قلباً متيما
تعرضن لي يوم اللوى عن مشورةٍ ... وأودعن في ذات الوشاحين مرتما
وقلنا اقتليه يا مليح فإنه ... متى ما رمى كانت مراميه حذما
دماء الغواني عند ذا مستحلة ... فإن يرم رشقاً نلق سهماً مسمما
فأبدت على اللبات وحفاً كأنه ... عناقيد عناب تفرعن سلما
وجيداً كجمار الفسيلة بزه ... من الليف جانيه وكان مكرما
وعيني غضيض الطرف من جدل المها ... محيل المآفي، قرنه حين كمما
وأبيض براق الغروب كأنما ... حصى بردٍ ضمت به إن تبسما
وقالت: أبا سعدى تبدلت بيننا ... صدوداً ومحمود العشيرة ضيغما
فقلت: هنياً ذاك شيء يسرني ... غناها وأن تلقى من العيش أنعما
ولكني سليني عن حراجيج ضمرٍ ... سواهم يحذين السريح المخدما
وحرف كأن البق يلدغ دفها ... إذا المعجب الساري عليها ترنما
وعين فتية شعث اللمام رمى بهم ... هوى المطايا مخرماً ثم مخرما
سروا لسنا نارٍ هوياً وكلهم ... من البرد ما يبدي البنان المكمما " 74 "
فلما أتونا جانب الحي عرسوا ... غراثى وما ذاقوا من الأمس مطعما
فحييتهم قبل القرى وقريتهم ... قرى لم يكن نزراً ولم يأت مغنما
وماء قديم قد مضى دون عهده ... لوارده عشرون حولاً متمما
وعن شزب شعث النواصي كأنها ... سراحين يحملن الوشيج المقوما
عليهن منا كل أروع ماجدٍ ... كريمٍ إذا ما عارض الموت أوسما
أخو حملات يعلم القوم أنه ... ضروب بنصل السيف ضرباً غشمشما
لحقت بهم جميع القطامي بعدما ... دنا من بشير الصبح أن يتكلما
غداة التقينا لا سفيرة بيننا ... سوى مخلصات تترك الهام أقعما
تكر عليهم مخطفات كأنها ... صقور المضري كان للصيد مطعما
كأن على المشوي منها ومنهم ... عمائم تسقى حالك اللون عندما
سلوا قرن مدفوع فقد كان شاهداً ... غداة التقينا أينا كان أكرما
مناظرة بين عالمين
في مجلس القاضي أبو عمرحدثني أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن البختري، القاضي الداودي، وهو شيخ من خلفاء قضاة القضاة، مشهور بمدينة السلام بالعمل، والتصرف في الحكم، قال: حدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد ابن محمد بن المغلس الداودي، قال: كان أبو بكر محمد بن داود، وأبو العباس بن سريج، إذا حضرا مجلس القاضي أبي عمر، لم يجر بين اثنين، فيما يتفاوضانه، أحسن مما يجري بينهما.

وكان ابن سريج - رضي الله عنه - كثيراً ما يتقدم أبا بكر في الحضور إلى المجلس، فتقدمه في الحضور، أبو بكر، يوماً، فسأله حدثٌ من الشافعية عن العود الموجب للكفارة ما هو؟ قال: إنه إعادة القول ثانياً، وهو مذهبه.
وحضر ابن سريج، فاستشرحهم ما جرى، فشرحوه.
فقال ابن سريج، لابن داود: يا أبا بكر، أعزك الله، هذا قول من المسلمين تقدمكم؟ فاستشاط أبو بكر من ذلك، وقال: أتقدر أن من اعتقدت أن قولهم إجماع في هذه المسألة، إجماع عندي؟ أحسن أحوالهم أن أعده خلافاً، وهيهات أن يكون كذلك.
فغضب ابن سريج، وقال له: أنت يا أبا بكر، بكتاب الزهرة أمهر منك في هذه الطريقة.
فقال أبو بكر " 75 " : بكتاب الزهرة تعيرني؟ والله ما تحسن تستتم قراءته، قراءة من يفهم، وإنه لمن إحدى المناقب، إذ كنت أقول فيه:
أكرر في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
وينطق سري عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي رده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فما إن أرى حباً صحيحاً مسلما
فقال القاضي أبو العباس بن سريج: أعلي تفتخر بهذا القول، وأنا الذي أقول:
ومسامر بالغنج من لحظاته ... قد بت أمنعه لذيذ سناته
حباً بحسن حديثه وعتابه ... وأكرر اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولى بخاتم ربه وبراته
فقال ابن داود، لأبي عمر: أيد الله القاضي، قد أقر بالمبيت على الحال التي ذكرها، وادعى البراءة مما يوجبه، فعليه إقامة البينة.
فقال ابن سريج: من مذهبي، أن المقر، إذا أقر إقراراً، وناطه بصفة، كان إقراره موكولاً إلى صفته.
فقال ابن داود: للشافعي في هذه المسألة قولان.
قال ابن سريج: فهذا القول، اختياري الساعة.
إخوانياتحدثني مبشر - مولى أبي - قال: قدمنا سوق الأهواز، من غيبة كان مولاي غابها، فكتب من المشرعة، إلى أبي أيوب داود بن علي بن أبي الجعد الكاتب، وكان بينهما أنسة ومودة، وعرفه قدومه، فالتمس منه، أن ينفذ إليه مركوباً ليركبه من المشرعة إلى داره.
فأنفذ إليه أيوب المركب، وكتب إليه:
عبدك داود به علة ... تمنعه أن يتلقاكا
والبغلة الشهباء قد أسرجت ... فاركب فديناك فديناكا
عيني إلى الباب وأذني إلى ... مبشري قد جاء مولاكا
إن كان قد أخذ طالعي
فقد أخذت غاربهحدثني أبو علي محمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حامد، صاحب بيت المال، وكان أبوه المكنى بأبي حامد، قد تقلد القضاء، وأبو علي هذا قد خلف عدة قضاة على غير بلد، قال: حدثنا ابن جحا الأصبهاني، قال: قيل لأبي مسلم، محمد بن بحر، لما دخل أصبهان، واليها، وصارفاً لابن رستم: إن ابن رستم، قد أخذ طالعاً في دخولك، وهو يذكر " 76 " ، أنه غير جيد، فقال: إن كان قد أخذ طالعي، فقد أخذت غاربه.
الحق يوفي على الجرمحدثني أبو الحسين، علي بن هشام، قال: كان أبو الحسن بن الفرات، لما ولي الوزارة الأولى، وجد سليمان بن الحسن، يتقلد مجلس المقابلة، في ديوان الخاصة، من قبل علي بن عيسى، وإليه - إذ ذاك - الديوان، فقلد أبو الحسن، سليمان، الديوان بأسره، فأقام يتقلده نحو سنتين.
فقام يصلي المغرب، فسقطت من كمه رقعة، بخطه، نسخة سعاية بابن الفرات، وأسبابه، وسعي لابن عبد الحميد، كاتب السيدة، بالوزارة، وأخذها بعض أسبابه، وتقرب بها إلى ابن الفرات، فقبض عليه للوقت، فأنفذه إلى واسط، في زورق مطبق، وصودر، وعذب بواسط.
ثم رجع له ابن الفرات، لما وقف من كتاب صاحب الخبر، على أن أم سليمان، ماتت ببغداد، ولم يحضرها، ولا رأته قبل موتها، فاغتم لذلك، وبدأ، فكتب إليه، بخطه، كتاباً أقرأنيه سليمان، بعد ذلك، فحفظته، ونسخته: ميزت - أكرمك الله - بين حقك وجرمك، فوجدت الحق، يوفي على الجرم.
وتفكرت في سالف خدمتك في المنازل التي فيها ربيت، وبين أهلها غذيت، فثناني إليك، وعطفني عليك، وأعادني إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت.
فثق - أكرمك الله - بذلك، وأسكن إليه، وعول في صلاح ما اختل من أمرك عليه.

واعلم أنني أراعي فيك، حقوق أبيك، التي تقوم بتوكيد السبب، مقام اللحمة والنسب، وتسهل ما عظم من جنايتك، وتقلل ما كثر من إساءتك، ولن أدع مراعاتها، والحافظة عليها، إن شاء الله.
وقد قلدتك أعمال دستميسان لسنة ثمان وتسعين ومائتين، وبقايا ما قبلها، وكتبت إلى أحمد بن حبش، بحمل عشرة آلاف درهم، إليك.
فتقلد هذه الأعمال، وأظهر فيها أثراً حميداً، ينبئ عن كفايتك، ويؤدي إلى ما أحبه من زيادتك، إن شاء الله.
يحيى بن خالد البرمكي
والفضل بن الربيعحدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا عمي عن اليزيدي الأكبر، مؤدب المأمون، قال: دخل أبو العباس، الفضل بن الربيع، على أبي علي، يحيى بن خالد البرمكي، وهو جالس للحوائج، وابنه جعفر، يوقع بين يديه.
فعرض عليه رقعة، فقال: هذا لا يمكن " 77 " .
وأخرى، فقال: هذا مما قد حظره أمير المؤمنين.
وأخرى، فقال: هذا يفسد به الأولياء.
وأخرى، فقال: هذا يثلم الارتفاع.
إلى أن عرض عليه عشر رقاع، واعتل فيها لعلل مختلفة، ولم يوقع له بشيء.
فجمعها الفضل، وقال: ارجعن خائبات، ونهض وهو يقول: عسى وعسى يثني الزمان عنانه بتصريف حال والزمان عثور فتقضي لبانات وتشفى حسائك وتحدث من بعد الأمور أمور.
فسمعها يحيى، فقال: عزمت عليك يا أبا العباس، لما رجعت.
فرجع، فوقع له في الرقاع كلها.
ثمن هديتين
وثمن نفط وحب قطنحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الحسن، علي بن عيسى، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبي، داود بن الجراح، قال: قال لي الفضل ابن مروان : كنت أعمل، في ديوان ضياع الرشيد، مجلس الحساب، فنظرت في حساب السنة التي نكب فيها البرامكة، ووجدت، قد أثبت فيه، ثمن هدية، دفعتين من مال ضياع الرشيد، أهداهما إلى جعفر بن يحيى، بضعة عشر ألف دينار.
وفيه بعد شهور من هذه الهدية، قد أثبت في الحساب لثمن نفط، وحب قطن، ابتيع، وحرق بها جثة جعفر بن يحيى، بضعة عشر قيراطاُ ذهباً.
من يشناك كان وزيراً
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو عبد الله نفطويه، قال: حدثنا أبو العباس بن الفرات، قال: قال لي أبو القاسم عبيد الله بن سليمان، قال: قال لي أبي : سمعت أبا الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، قال: سمعت أبا جعفر أحمد بن يوسف يقول، وهو إذ ذاك، وزير المأمون، لما قال الشاعر، بعد قتل أبي سلمة، وزير السفاح :
إن الوزير وزير آل محمدٍ ... أودى فمن يشناك كان وزيراً
كذبت، كل الوزراء من يشناك، فلا يدخل في هذا الأمر إلا منحوس.
المتنبي يعارض القرآنحدثني أبو علي بن أبي حامد، قال: سمعت خلقاً بحلب، يحكون: أن أبا الطيب، أحمد بن الحسين، المتنبئ بها إذ ذاك، كان في بادية السماوة، ونواحيها.
إلى أن أخرج إليه لؤلؤ من حمص، من قبل الإخشيدية، فقاتله، وأسره، وشرد من كان اجتمع إليه من كلب وكلاب، وغيرهما من قبائل العرب.
وحبسه في السجن دهراً طويلاً، فاعتل، وكاد أن يتلف، حتى سئل في " 87 " أمره، فاستتابه، وكتب عليه وثيقة، أشهد عليه فيها، ببطلان ما ادعاه، ورجوعه إلى الإسلام، وأنه تائب منه، ولا يعاود مثله، وأطلقه.
قال: وكان قد تلا على البوادي، كلاماً، ذكر أنه قرآن نزل عليه، وكانوا يحكون له سوراً كثيرة، نسخت منها سورة، فضاعت، وبقي أولها في حفظي، وهو: " والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار " " امض على سبيلك، وأقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامعٌ بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله " .
قال: وهي طويلة، ولم يبق في حفظي منها غير هذا.
قال: وكان المتنبئ إذا استوعب في مجلس سيف الدولة، ونحن إذ ذاك، بحلب، يذكر له هذا القرآن، وأمثاله، مما كان يحكى عنه، فينكره، ويجحده.
قال: وقال له ابن خالويه النحوي، يوماً، في مجلس سيف الدولة، لولا أن الآخر جاهل، لما رضي أن يدعى بالمتنبئ، لأن متنبئ، معناه كاذب، ومن رضي لنفسه أن يدعى بالكذب، فهو جاهل.
فقال: لست أرضى أن أدعى بذلك، وإنما يدعوني به، من يريد الغض مني، ولست أقدر على الامتناع.

فأما أنا، فإنني سألته بالأهواز، في سنة أربع وخمسين وثلثمائة، عند اجتيازه بها، إلى فارس، في حديث طويل، حدث بيننا، عن معنى المتنبئ، لأني أردت أن أسمع منه، هل تنبأ أم لا؟ فأجابني بجواب مغالط لي، وهو أن قال: هذا شيء، كان في الحداثة، أوجبته الصبوة، فاستحيت أن أستقصي عليه، وأمسكت.
وقال لي أبو علي بن أبي حامد: قال لي أبي، ونحن بحلب، وقد سمع قوماً يحكون عن أبي الطيب المتنبئ، هذه السورة التي قدمنا ذكرها: لولا جهله، أين قوله: امض على سبيلك، إلى آخر الكلام، من قول الله عز وجل " فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين " إلى آخر السورة، وهل تتقارب الفصاحة بينهما، أو يشتبه الكلامان.
معقود العسل ودهن اللوزحدثنا أبو الحسن محمد بن شجاع المتكلم البغدادي، قال " 79 " : حدثنا أبو سلمة العسكري، أحد غلمان أبي علي الجبائي، قال: كنت بحضرته يوماً، وهو يصلي، ونحن جلوس نتحدث، فقال رجل منا: اليوم كنت عند صديق لي، فأطعمني معقود العسل ودهن اللوز.
فقالوا: إن جبى ليس بها من يكون هذا عنده، إلا العامل، ولست ممن يأكل طعام العمال.
فمر الرجل يشوش الكلام.
وسلم أبو علي من صلاته، فقال: لا يهوسكم الرجل، لعله كان اليوم عند الصيدلاني وتناول لطريفك ؟ فقال الرجل: هكذا كان.
أندلسي تتلمذ للجاحظوحدثنا أبو الحسين أيضاً، قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن عمرو، قال: كنت بالأندلس، فقيل لي: إن بها تلميذاً لأبي عثمان الجاحظ، يعرف بسلام بن زيد، ويكنى أبا خلف.
فأتيته، فرأيت شيخاً هماً، فسألته عن سبب اجتماعه مع أبي عثمان، ولم يقع أبو عثمان إلى الأندلس؟ فقال: كان طالب العلم بالمشرق يشرف عند ملوكنا بلقاء أبي عثمان، فوقع إلينا كتاب التربيع والتدوير، فأشاروا إليه، ثم أردفه عندنا كتاب البيان والتبيين، فبلغ الرجل الصكاك بكتابة هذين الكتابين.
قال: فخرجت، لا أعرج على شيء، حتى قصدت بغداد، فسألت عنه، فقيل لي: هو بسر من رأى.
فأصعدت إليها، فقيل: قد انحدر إلى البصرة.
فانحدرت إليه، وسألت عن منزله، فأرشدت، فدخلت إليه، وإذا هو جالس وحواليه عشرون صبياًن ليس فيهم ذو لحية غيره.
قال: فدهشت، فقلت: أيكم أبو عثمان؟ فرفع يده، وحركها في وجهي، وقال: من أين؟ فقلت: من الأندلس.
قال: طينة حمقاء، فما الاسم؟ قلت: سلام.
قال: اسم كلب القرد، ابن من؟ قلت: ابن زيد.
قال: بحق ما صرف، أبو من؟ قلت: أبو خلف.
قال: كنية قرد زبيدة، ما جئت تطلب.
قلت: العلم.
قال: ارجع بوقت، فإنك لا تفلح.
قلت له: ما أنصفتني، فقد اشتملت على خصالٍ أربع، جفاء البلدية، وبعد الشقة، وغرة الحداثة، ودهشة الداخل.
قال: فترى حولي عشرين صبياً، ليس فيهم ذو لحية غيري، ما كان يجب أن تعرفني بها؟ قال: فأقمت عليه عشرين " 80 " سنة.
قال: وكان سلام هذا يحسن العلم.
الناس أربعةقال : وبلغني عن أبي بكر بن مجاهد، أنه قال: الناس أربعة: مليح يتبغض لملاحته فيحتمل، وبغيض يتملح، فذاك الحمى، والداء الذي لا دواء له، وبغيض يتبغض، فيعذر لأنه طبيعة، ومليح يتملح، فتلك الحياة الطيبة.
كيفية صيد الفيل واستئناسهحدثنا أبو الحسين، قال: كنت بتانة من بلاد الهند، فسمعتهم يتحدثون: أن ملوك الهند، يغالون في الأفيلة الحربية، على قدر عظم بطشها، فربما بلغ الفيل الفاره، المنقطع النظير، مائة ألف دينار، ودائماً يبلغ الفيل الواحد منها عشرة آلاف دينار.
قال: فإذا بلغ الملك، أن فيلاً قد تغرب، وله بطش عظيم، وأنه يصلح للحرب، أمر بصيده.
قالوا: وليس له حيلة في صيده، إلا بأن يخرج قوم من الفيالين، ومعهم فيلة أنثى، أهلية معلمة، فيها فضل خنثٍ وتأنيث، والأفيال، فيها من الفطنة أمر عظيم.
قال: فيخرج الفيالون، وهي معهم، إلى حيث قد بلغهم موضعاً يتغرب الفيل فيه، فيقاربون الموضع، ويلجأون إلى موضع يختبئون فيه، في شجرة عظيمة، لا تمكن الفيل فيها حيلة، أو شيء يحفرونه ويغطونه، ويدعون الفيلة الأنثى ترعى.
فحين يشم الفيل رائحتها، يقصدها، وتقصده، فتلاعبه، وتطاعمه بخرطومها، وتؤانسه، ولا تبرح من حيث هي، ويرعيان في موضع فيالها، والفيالون مختبئون شهراً، لا يفرقون بينهما.

فإذا كان بعد شهر - أقل أو أكثر - على حسب علمهم باستحكام الألفة، استدعوا الفيلة، في وقت تشاغل الفيل عنهم فيه، فتجيئهم فيركبونها..
فحين يراهم الفيل، ويراها، يتبعهم، فيروم أن يؤذي الفيالين، فتضع هي خرطومها عليه وتلاعبه، وتسرع، ويسرع خلفها.
فإذا رأوه قد ولى، ردوها إليه، فتلاعبه، فيرجع معها.
فلا يزالون يمشون خلفها، يومين أو ثلاثة، إلى أن يروا منه ضجراً، أو شدة في أذيتهم، فيقفون ليلة في موضع، ويتهاربون عن ظهرها إلى موضع يختبئون فيه.
فلا يقصدهم الفيل لتشاغله بها، ويحرزون أنفسهم في المختبأ، ويدعونه معها دون تلك المدة.
ثم يسيرون بها " 81 " على ذلك الوجه، فيتبعها الفيل.
فيسيرون بها يومين أو ثلاثة، أو حسب ما يمكن، إلى أن يبدو ضجره، فينزلون على رسمهم.
فلا يزالون كذلك، حتى يقربونه من البلد، في مدة على حسب بعد المسافة أو قربها.
فإذا بلغوا المدينة، أخرج ملكها جميع أهل البلد، أو أكثرهم، وجمعهم، وصعد عامتهم على السطوح، النساء، والصبيان، مزينين.
فحين يرى الفيل اجتماعهم، يستوحش، وينفر، ويولي، ويطلب الصحراء، فترجع الفيلة إليه فترده.
فإذا رأى الناس، نفر، فترجع إليه فترده، فلا تزال كذلك معه، حتى تدخله بين الناس، وتقربه منهم.
ويقيمونه الفيالون أياماً، كذلك، حتى يألف الناس، فإذا ألفهم أمر الملك بجمع أصحاب الدبادب، والطبول والصنوج.
فحين يسمع، ينفر نفوراً شديداً، أشد من ذلك، ويهرب، فتمضي الفيلة خلفه، فحين يراها، وقد بعد عن الصوت قليلاً، يقف لها، فتداعبه، وترده، وتداريه.
فحين يقرب من الصوت يهرب، ثم يرجع معها، هذا دأبه معها، تفعل به ذلك أياماً متتابعات، إلى أن يألف الصوت.
فإذا ألف المناظر والأصوات، أدخل الفيالون الفيلة إلى البلد، ويتبعهم الفيل.
فيجيئون إلى ساحة كبيرة، معدة له، فيها أربعة أوتاد ساج، أثقل ما يكون، وأعظمه، متقاربة، منصوبة على أساسات شديدة.
فتدخل الفيلة ما بين تلك الأوتاد، وتقف، فيدخل وراءها، ويقف معها، فينزل الفيالون، وفي أوصل تلك الأوتاد حلقٌ عظامٌ وثيقةٌ، في كل دقل حلقة، وفيه قيد عظيم ثقيل، فيضعون القيد في قائمة من قوائم الفيل، فيحصل مقيداً مضبوطاً بين تلك الأوتاد، لا يمكنه قلعها، ولا أن يطرح ثقله على شيء، لتساوي أجزائه في التقييد إليها.
فلا يزال على ذلك أياماً، والفيلة إلى جانبه، فإذا مسه الجوع، جاءه الفيالون بالأرز والسمن المطبوخ، فأطعموه إياه، بأن يرمون إليه من بعد، فللجوع يأكله.
ولا يزالون يدارونه، ويتقربون منه " 82 " ، على تدريج، حتى يأكله من أيديهم بعد مدة، فإذا أكل من أيديهم، فهي العلامة في استئناسه.
فحين يأكل من أيديهم مراراً كثيرةً، ويستمر على هذا، يركبونه، ويضعون الحديد في رأسه، أياماً، ويمرونها عليه، حتى يألفها، ويعلمونه، ويكلمونه.
فإذا مضت أيام على هذا، حلوا قيوده، وهم فوقه، فيمشي، ويصرفونه بحسب ما يصرفونه عليه، ويصير في حكم الأهلي.
ملك الصنف يملك ألفي فيلقال: وسمعت أن ملك الصنف، وهو البلد الذي يجيء منه العود الصنفي، له ألفا فيل، إذا خرجت تمتد نحو فرسخ.
الفيل يقوم بعمل الجلادقال: وسمعت أن الملك، إذا أراد قتل إنسان، سلمه إلى الفيل، فيكلمه الفيال في أن يقتله.
قال: فيقتله بألوان من القتل، منها: أنه ربما لف خرطومه على رجل الرجل، ويضع إحدى يديه على ساق الرجل الأخرى، ثم يعتمد عليه، فإذا هو قد خرق الرجل بنصفين، من أوله إلى آخره.
وربما ترك الرجل، واستعرضه بالعرض، ثم وضع يده على بطنه، فيسحقه.
صاحب عمان يهدي فيلاً لمعز الدولة
قلت: أنا رأيت بالبصرة، في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة، فيلاً، لطيفاً، حمله صاحب عمان، إلى معز الدولة، فاجتاز بالبصرة، وحمل إلى دارنا، فأدخل إلى صحنها، فرأيناه.
وسمعت عدداً كبيراً من أهل البصرة، يخبرون - غذ ذاك - أن هذا الفيل اجتاز في سوق الجامع، فقرب منه صبي دون البالغ، فصاح فيه الفيالون ليتنحى عن طريق الفيل، فدهش الصبي، وأدركه الفيل، فلف خرطومه عليه، وشاله، فرفعه إلى الفيالين، فأخذوه منه، فصاح الصبي، وطار عقله، فما أنزلوه إلا بدراهم.
====================ج8888888888888888800----------==========
ج88888888888..


كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

وأنهم اجتازوا، بعد ذلك بأيام، فأدركت الفيل ضجرة، فقبض على صبي، فشاله بخرطومه، ورقاه في الهواء، ثم استقبله بنابه، فأدخله في جسمه، فقتله.
وما قتل الأحرار كالعفو عنهمحدثني أبو الحسين، قال: حدثنا الفضل بن باهماد السيرافي، بها، وكان مشهوراً بسلوك أقاصي بلدان البحر، قال: قال لي رجل من بعض بياسرة بلاد الهند، والبيسر: هو المولود على ملة الإسلام في بلاد الهند، أنه كان في بلدٍ من بلاد " 83 " الهند، وكان فيه الملك حسن السيرة، وكان لا يأخذ مواجهة، ولا يعطي مواجهة، وإنما يقلب بيده إلى وراء ظهره، فيأخذ ويعطي بها، إعظاماً للملك، وسنة لهم هناك، وأنه توفي، فوثب رجل على ملكه، فاحتوى عليه، وهرب ابن كان له، يصلح للملك، خوفاً على نفسه من المتغلب.
ورسوم ملوك الهند، أن الرجل إذا قام من مجلسه، لأي حاجة عرضت له، كانت عليه صدرة، قد جمع فيها كل نفيس فاخر، من اليواقيت والجواهر، مضرباً بالإبريسم، في الصدرة، ويكون قيمة ذلك ما إن لو أراد أن يقيم به ملكاً أقامه.
قال: ويقولون، ليس بملكٍ، من قام من مجلسه، وليس معه ما إن حدثت عليه حادثة فهرب به، أمكنه إقامة ملك عظيم منه.
فلما حدثت على الملك، تلك الحادثة، أخذ ابنه صدرته، وهرب بها.
فحكى عن نفسه، أنه مشى ثلاثة أيام، قال: ولم أطعم طعاماً، ولم يكن معي فضة ولا ذهب، فأبتاع به مأكولاً، وأنفت أن استطعم، ولم أقدر على إظهار ما معي.
قال: فجلست على قارعة الطريق، وإذا برجل هندي، مقبل، على كتفه كارة، فحطها، وجلس حذائي.
فقلت: أين تريد؟ فقال: الجدام الفلاني.
ومعنى الجدام: الرستاق.
فقلت له: هذا الجدام الفلاني أريد، فنصطحب.
قال: نعم.
فطمعت أن يعرض علي شيئاً من مأكوله، قال: فحل الكارة، وأكل، وأنا أراه، ولم يعرض علي، وأنفت أن أبتدئه بالسؤال.
وقام يمشي وقد شدها، فمشيت معه، وتبعته، طمعاً في أن تحمله الإنسانية والمؤانسة على العرض، فعمل بالليل، كما عمل معي بالنهار.
قال: وأصبحنا من غدٍ، ومشينا، فعاملني بمثل ذلك، وظل على هذا سبعة أيام، لم أذق شيئاً.
فأصبحت في اليوم الثامن، ضعيفاً، لا قدرة لي على الحركة، فرأيت جداماً في حاشية الطريق، وقوماً يبنون، وقيماً عليهم، يأمرهم.
قال: ففارقت الرجل، وعدلت إلى الوكيل، فقلت: استعملني بأجرة تعطنيها عشياً، مثل هؤلاء.
فقال: نعم، ناولهم الطين.
قال: فكنت آخذ الطين، فلعادة الملك، أقلب يدي إلى ظهري " 84 " ، وأعطيهم الطين، فكما أذكر أن ذلك خطأ علي يسبب سفك دمي، أبادر بتلافي ذلك، فأرد يدي بسرعة، قبل أن يفطنوا بي.
قال: فلمحتني امرأة قائمة، فأخبرت سيدها بخبري، وقالت: لا بد أن يكون هذا من أولاد الملوك.
قال: فتقدم إليها، بحبسي عن المضي مع الصناع، فاحتبستني، وانصرف الصناع.
فجاءني بالدهن العروق، لأغتسل بهما، وهذه مقدمة إكرامهم، وسنة لإعظامهم، فتغسلت بذلك.
فجاءوني بالأرز والسمك، فطعمت.
فعرضت المرأة نفسها علي للتزويج، فعقدت عليها، ودخلت بها من ليلتي، وأقمت معها أربع سنين، أرب حالها، وكانت لها نعمة.
فأنا يوماً، جالس على باب دارها، فإذا أنا برجلٍ من بلدي، فاستدعيته، فجاءني.
فقلت له: من أين أنت؟ قال: أنا من يلد كذا وكذا، وذكر بلدي.
فقلت: ما تصنع هاهنا؟ فقال: كان فينا ملكٌ حسن السيرة، فمات، ووثب على ملكه رجل ليس من أهل بيت الملك، وكان للملك الأول ابن يصلح للملك، فخاف على نفسه، فهرب، وإن المتغلب أساء عشرة رعيته، فوثبوا عليه، فقتلوه، وانبثثنا في البلدان نطلب ابن ذلك المتوفي، لنجلسه مكان أبيه، فما نعرف له خبراً.
قال: فقلت له: تعرفني؟ قال: لا.
فقلت: أنا طلبتكم.
قال: وأعطيته العلامات، فعلم صحة ما قلت له، فكفر لي.
قلت: اكتم أمرنا، إلى أن ندخل إلى الناحية.
فقال: أفعل.
قال: فدخلت إلى الامرأة، وأخبرتها الخبر، وحدثتها بالصورة، وبأمري كله.
وأعطيتها الصدرة، وقلت: فيها كذا، ومن حالها كذا، وأنا ماضٍ مع الرجل، فإن كان ما ذكره صحيحاً، فالعلامة أن يجيئك رسولي، ويذكر لك الصدرة، فانهضي معه، وإن كانت مكيدة، كانت الصدرة لك.
قال: ومضى مع الرجل، وكان الأمر صحيحاً، فلما قرب من البلد، استقبلوه بالتكفير، وأجلسوه في الملك، وأنفذ إلى الزوجة من حملها، وجاءت إليه.

فحين اجتمع شمله، واستقام ملكه، أمر فبنيت له دار " 85 " عظيمة، وأمر أن لا يجتاز في عمله مجتاز، إلا حمل إليها، ويضاف ثلاثة أيام، ويزود لثلاثة أيام أخر.
وكان يفعل ذلك، وهو يراعي الرجل الذي استصحبه في سفره، ويقدر أن يقع في يده.
وأراد أن يبني الدار شكراً لله تعالى، على الخلاص مما كان فيه، وأن يكفي الناس المؤونة التي كانت لحقته.
فلما كان بعد حولٍ، استعرض الناس، قال: وقد كان يستعرضهم في كل شهر، فلا يرى الرجل، فيصرفهم.
فلما كان ذلك اليوم، رأى الرجل بينهم، فحين وقعت عليه عينه، أعطاه ورقة تنبول، وهذه علامة غاية الإكرام، ونهاية رتبة الإعظام، إذا فعله الملك بإنسان من رعيته.
قال: فحين فعل الملك بالرجل ذلك، كفر له، وقبل الأرض، فأمره الملك بالنهوض، ونظر إليه، فإذا هو ليس يعرف الملك، فأمر بتغيير حاله، وإحسان ضيافته، ففعل، ثم استدعاه.
فقال له: أتعرفني؟ قال: وكيف لا أعرف الملك، وهو من حاله، وعظم شأنه، وعلو سلطانه.
قال: لم أرد هذا، أتعرفني، من قبل هذه الحال؟ قال: لا.
قال: فأذكره الملك الحديث والقصة، في منعه الطعام سبعة أيام في السفر.
قال: فبهت الرجل.
وقال: ردوه إلى الدار، وونسوه، وزاد في إكرامه، وحضر الطعام، فأطعم الرجل، فلما أراد النوم، قال الملك، لامرأته: امضي فغمزيه، حتى ينام.
قال: فجاءت المرأة، ولم تزل تغمزه، إلى أن نام، فجاءت إلى الملك، وقالت: قد نام.
فقال: ليس هذا نوماً، حركوه، فحركوه فإذا هو ميت.
قال: فقالت له المرأة: أيش هذا؟ قال: فساق إليها حديثه معه، وقال: وقع في يدي، فتناهيت في إكرامه، والهند لهم كبود عظام، وتوهمهم هو المعروف المتعالم عنهم، فدخلت عليه حسرة عظيمة، إذ لم يحسن إلي ذلك الوقت، فقتلته الحسرة.
وقد كنت أتوقع موته قبل هذا، مما توهمه واستشعره من العلة في نفسه، والحسرة والأسف، فقتلته.
الجبارية في الهندحدثنا أبو الحسين، قال: حدثني أبي، قال: رأيت بالهند قوماً، يقال لهم: الجبارية، يأكلون الميتة، ويقذرهم جميع أهل الهند، عندهم أنهم إذا ماسوهم نجسوا.
قال: فهم يمشون، وفي أعناقهم طبولٌ يطبلون بها، لتسمع أصواتها، فيتنحون عن طريقهم، فإذا لم يتنح الرجل عند سماع الطبل، فلا شيء على الجباري " 86 " ، وإن لم يضرب الجباري الطبل، حتى يلاصق جسده، جسد غيره، قتله الذي يلتصق جسده به، ولا يعدى عليه، لأن هذا من شرطهم، وسنتهم.
قال: ولا يشرب أحد من ماء هؤلاء الجبارية، ولا يأكل من طعامهم، ولا يخالطهم، فهم ينزلون في ظاهر البلد ناحية.
قال: وهم أرمى الناس، ومعاشهم من الصيد.
البابوانية في الهندقال: وهناك قوم يقال لهم البابوانية، يجرون مجرى المستقفين هاهنا، والسلطان يطلبهم، فإذا وقعوا في يده، وظفر بهم، فعل بهم، كما يفعل باللصوص والعيارين.
قال: وهم يصطادون الناس، ولا يعرضون لغير ذلك.
قال: والواحد منهم، يتبع التجار الذين يطرأون إليهم من المسلمين والذمة، فإذا رأى الواحد من التجار، في طريق خال، قبض عليه، فحين يقبض عليه، وقد علم التاجر بأمره، فيسكت، لأنه إن استغاث، أو نطق قتله الهندي، وقتل نفسه في الحال، لا يتألم لذلك، لاعتقادهم المشهور في القتل.
قال: ويراهم الناس، وقد اصطادوا الرجل، فلا يعرضون لخلاصه، لئلا يقتله، ويقول لهم الرجل: الله، الله، إن عارضتموه، فلا يمكن لسلطان ولا غيره، انتزاعه من يده، في تلك الحال، لئلا يعجل بقتله.
قال: فأخبرني رجل من الهند، أن رجلاً من البابوانية، قبض في طريق سفر على رجل لقيه منفرداً من التجار.
فقال له: اشتر نفسك.
فتوافقا على أن يشتري نفسه منه بألف درهم.
فقال له التاجر: تعلم أني خرجت ولا شيء معي، ومالي في البلد، فتصير معي إلى داري في البلد، لأؤدي ذلك إليك.
قال: فأجابه، وقبض على يده، ولم يزل يمشي معه، حتى اجتازا في طريقهما، بقرية الجبارية وكان طريقهما في سكة منها، فسلكاها.
فحين حصلا فيها، فطن التاجر للحيلة في الخلاص، وقد كان عرف مذهب الهندي في الجبارية، فلم يزل يمشي معه، حتى رأى باباً مفتوحاً، من دور الجبارية، فجذب يده بحمية شديدة، من يد البابواني، وسعى فدخل دار الجباري.
فقال له: ما لك؟ قال: أنا مستجير بك، من يد بابواني اصطادني، وتعريت منه.

قال: لا بأس عليك " 87 " ، فاجلس.
فصاح البابواني: يا جباري، يا جباري، اخرج إلي.
قال: وهم لا يدخلون دور الجبارية، لاستقذارهم إياهم.
قال: فخرج، ووقف، بينهما عرض الطريق، لأنه لا يجوز لأحدهما أن يدنو من صاحبه.
فقال له البابواني: أعطني صاحبي.
قال: قد استجار بي، فهبه لي.
قال: لا أفعل، هذا رزقي، فإن لم تعطنيه، لم ندع جبارياً إلا قتلناه.
قال: فطال الكلام بينهما، إلى أن قال الجباري، أسلمه إليك في الصحراء فامض براً، تسبقه إلى الموضع الفلاني.
قال: فمضى.
ودخل الرجل على التاجر، وقال له : اخرج لا بأس عليك.
فخرج معه، وأخذ الجباري قوسه، وخمسين نشابة، قال: ونشابهم من القصب.
قال: فعلق المسلم بكم الجباري، ولصق به، علماً منه بأن البابواني لا يدنو منه.
فلما صارا إلى الصحراء، قال له الجباري: تهبه لي؟ واجتهد به، فلم يفعل.
قال: فإني لا أسلمه، أو لا يبقى معي سلاح.
قال: شأنك.
قال: وهم لا يخطئون البتة في الرمي، ففوق سهمه نحوه، فحين أطلقه تلقاه البابواني بشيء كان معه، فاعترض السهم بالشيء، فقطعه باثنين، وسلم منه.
فتحير الجباري.
قال: فلم يزل يرميه بنشابة نشابة، ويفعل بها البابواني، مثل ذلك، إلى أن ذهب النشاب، ولم يبق منه إلا نشابتان.
فضعفت نفس التاجر، وأيقن بالهلاك، وقال للجباري: الله، الله، في دمي.
قال: فقال له البابواني: لا يقع لك أنك قد أفلت، ثم أخذ سهماً.
فقال له الجباري: لا تقدر على ذلك، وسأريك من رميتي، ما تتحدث به أبداً، انظر إلى هذا الطائر الذي يطير في السماء، فإني أرميه، فأصرعه على رأسك، ثم أرميك فلا أخطيك.
قال: فشال البابواني رأسه، ينظر إلى الطير، فرماه الجباري، فأصاب فؤاده، فخر صريعاً يضطرب، ومات.
وقال للتاجر: ارجع الآن آمناً.
فرجع إلى داره، وأقام عندهم، إلى أن اجتازت بهم صحبة،رحل معها التاجر، إلى مأمنه.
سرق ماله بالبصرة، واستعاده بواسطحدثنا أبو الحسين، قال: حدثني رجل من أهل دار الزبير بالبصرة، دقاق، قال: أورد علي رجل غريب، سفتجة بأجل، فكان يتردد إلى أن حلت، ثم قال: دعها عندك، وآخذها متفرقة.
فكان يجيء في كل يوم، فيأخذ بقدر نفقته، إلى أن نفذت.
وصارت بيننا معرفة، وألف الجلوس عندي، وأنست به، وكان يراني أخرج كيسي من صندق لي، فأعطي منه النقدات التي تحل علي.
فقال لي يوماً: إن قفل الرجل، صاحبه في سفره، وأمينه في حضره، وخليفته على حفظ ماله، والذي ينفي الظنة عنده عن عياله، فإن لم يكن وثيقاً، تطرقت الحيلة عليه، وأرى قفلك هذا وثيقاً، فقل لي ممن ابتعته، لأبتاع مثله.
فقلت: من فلان القفال، في جوبات الصفارين.
قال: فما شعرت، إلا وقد جئت " 88 " ، وطلبت صندوقي، لأخرج منه شيئاً من الدراهم، فحمل إلي، ففتحته، فإذا ليس فيه شيء من الدراهم.
فقلت لغلامي - وكان غير متهم عندي - : هل أنكرت من الدرابات شيئاً؟ فقال: لا.
فقلت: ففتش، هل ترى في الدكان نقباً؟ ففتش، فقال: لا.
فقلت: فمن السقف حيلة؟ فقال: لا.
فقلت: اعلم أن دراهمي قد ذهبت؟ فقلق الغلام، فسكنته، وأقمت في دكاني، لا أدري ما أعمل، فتأخر عني الرجل، فلما تأخر، اتهمته، وتذكرت مسألته لي عن القفل.
فقلت للغلام: أخبرني كيف تفتح الدكان وتغلقه؟ فقال: رسمي، إذا أغلقت الدكان، أغلقه درابتين، درابتين، والدرابات في المسجد، أحملها دفعات، اثنتين وثلاثاً، في كل دفعة، فأشرجها، ثم أقفل، وكذا أفتحها.
فقلت: البارحة، واليوم كذا فعلت؟ فقال: نعم.
فقلت: فإذا مضيت لترد الدرابات، أو تحضرها، على من تدع الدكان؟ قال: خالياً.
فقلت: فمن هاهنا وقع الشر.
وذهبت ومضيت إلى الصانع الذي ابتعت منه القفل، فقلت له: جاءك إنسان منذ أيام، اشترى منك مثل هذا القفل؟ قال: نعم، وحكى من صفته كيت وكيت، فأعطاني صفة صاحبي.
فعلمت أنه جاء، واختبأ للغلام وقت المساء، حتى إذا انصرفت أنا، ومضى وهو يحمل الدرابات، دخل الدكان فاختبأ فيه، ومعه مفتاح القفل الذي اشتراه، الذي يقع على قفلي، وأنه أخذ الدراهم، وجلس طول ليلته، خلف الدرابات، فلما جاء الغلام، وفتح درابتين أو ثلاثاً، وحملها ليرفعها، خرج هو، وأنه ما فعل ذلك، إلا وقد خرج إلى بغداد.

قال: فسلمت الدكان إلى الغلام، وقلت له، من سأل عني، فعرفه أني خرجت إلى ضيعتي.
قال: وخرجت، ومعي قفلي ومفتاحه.
فقلت: أبتدئ بطلب الرجل بواسط، فلما صعدت من السميرية، طلبت خاناً في الجسر، أنزله، فأرشدت إليه، فصعدت، وإذا بقفل مقل قفلي، سواء، على بيت.
فقلت لقيم الخان: هذا البيت من ينزله؟ فقال: رجل قدم من البصرة، أول أمس.
فقلت: أي شيء صفته؟ فوصف صفة صاحبي " 89 " ، فلم أشك أنه هو، وأن الدراهم في بيته.
فاكتريت بيتاً إلى جنبه، ورصدت البيت حتى انصرف القيم، وقمت، ففتحت القفل بمفتاحي.
فحين دخلت البيت، وجدت كيسي بعينه، ملقى فيه، فأخذته، وخرجت وقفلت البيت، وتركته.
ونزلت إلى السفينة التي جئت فيها، وأرغبت الملاح في زيادة أجره، حتى حملني، وانحدرت في الحال، وما أقمت بواسط إلا ساعتين من النهار.
ورجعت إلى البصرة بمالي.
صيرفي بغدادي متحصن من اللصوصحدثنا أبو الحسين، قال: حدثني رجل من أهل بغداد، أن بعض من تاب من اللصوصية، حدثه، قال: كان في الناحية الفلانية، صيرفي، كثير المال، يطلبه اللصوص، فلا تتم عليه حيلة، ولا يقدرون عليه.
قال: فتواطأ عليه جماعة لصوص، كنت أحدهم، فقالوا: كيف نعمل في دخول داره؟ فقلت: أما الدخول، فعلي لكم، وأما ما بعد ذلك فلا أضمنه.
قالوا: فما نريد إلا الدخول.
قال: فجئت، وهم معي، عشاءً، فقلت لواحدٍ منهم: تصدق، فإذا خرجت الجارية إليك بشيء، فتباعد، وتعام عليها، لتجيء إليك تعطيك الصدقة، وكن على خطىً من الباب، لأدخل أنا، وهي متشاغلة معك، قد بعدت عن الباب، فلا تراني إلى أن أدخل، فأختبئ.
قال: ففعل ذلك، وحصلت مختبئاً في مستراح الدهليز.
فلما عادت الجارية، قال لها مولاها: قد احتبست.
قالت: حتى أعطيت السائل الصدقة.
قال: ليس هذا قدر دفعك إليه.
قالت: لم يكن على الباب، فلحقته في الطريق، وأعطيته.
فقال: وكم خطوة مشيت من الباب.
قالت: خطىً كثيرة.
قال: لعنك الله، أخطأت عليّ، قد حصل معي في الدار لص، لا أشك فيه.
قال: فحين سمعت هذا، قامت قيامتي، وتحيرت.
فقال لها: هات القفل.
فجاءته به، فجاء إلى باب دهليز الدار، والصحن بعد باب الدار، فقفله من عنده، ثم قال لها: دعي اللص الآن يعمل ما يشاء.
قال: فلما انتصف الليل، جاء أصحابي، فصفروا على الباب، ففتحت لهم باب الدار، فدخلوا الدهليز " 90 " ، وأخبرتهم بالخبر.
فقالوا: ننقب العتبة، ونخرج إلى الصحن.
ونقبوا، فلما فرغوا، قالوا: ادخل معنا.
فقلت: إن نفسي قد نبت عن هذا الرجل، وأحسست بشر، وما أدخل البتة.
فاجتهدوا بي، وقالوا: لا نعطيك شيئاً.
فقلت: قد رضيت.
فدخلوا، فحين حصلوا في الصحن، وأنا في الدهليز، أتسمع عليهم، مشوا فيه، فإذا للمولى زبية، في أكثر الصحن، محيطة به، يعرفها هو وعياله، فيتقون المشي عليها ليلاً ونهاراً، وهي منصوبة للحفظ من هذا وشبهه، وعليها بارية، من فوق خشب رقيق جداً.
فحين حصلوا عليها، سقطوا إليها، فإذا هي عميقة جداً، لا يمكن الصعود منها.
فسمع المولى صوت سقوطهم، فصاح: وقع هؤلاء، وقام هو وجاريته يصفقون ويرقصون.
وتناولوا حجارة معدة لهم، فما زالوا يشدخون رؤوسهم وأبدانهم بها، وأصحابي يصيحون، وأنا أحمد الله على السلامة، إلى أن أتلفهم.
وهربت أنا من الدهليز، ولم أعرف لأصحابي خبراً، كيف دفنوا، أو كيف أخرجوا.
فكان ذلك سبب توبتي من اللصوصية.
البراءة المزورةحدثني أبو الحسين، قال: حدثني رجل من البغداديين، قال: كنت وأنا حدثٌ، حسن الوجه، فلما اتصلت لحيتي، وهي طرية بعد، طلبت التصرف، فكتب لي إلى أبي أحمد النعمان بن عبيد الله، فلقيته في عمله، فأكرمني، وبالغ في بري، وأمرني بالجلوس، فجلست، وكلما أردت القيام احتبسني إلى أن لم يبق عنده أحد إلا خواصه.
ثم أحضر المائدة فأكلنا، فلما فرغنا، قمت لأغسل يدي، فحلف، أن لا أغسلها إلا بحضرته، فغسلتها، وقمت.
فقال: إلى أين؟ فقلت: إلى منزلي.
فقال: أنت هاهنا غريب، ولعلك في خان.
فقلت: هو كذلك.
فقال: وموضعنا أطيب، وهو خير، وخيشنا بارد، فأقم عندنا.
فقلت: السمع والطاعة.

ولم أعرف ما في نفسه، فدخلت الخيش، فلما حصلت عنده فيه، جعل يستدنيني، ولا أعلم غرضه، إلى أن صرت بقربه، فضرب بيده، يولع " 91 " بي، فعلمت أن شرطه في اللواط، أصحاب اللحى الطرية.
فصعب علي ما تم من ذلك، وقلت: كيف أصنع؟ ليس إلا التطايب.
قال: فقلت له، يا سيدي أي شيء تريد؟ قال: أريد أن أفعل كذا وكذا.
فقلت: يا سيدي، براءتي معي، وقبضت على لحيتي.
قال: لا تفعل، هذه براءة مزورة.
قلت: كيف؟ قال: لأني ما وقعت فيها بقلمي.
من شعر سيدوك الواسطيأنشدني أبو طاهر المعروف بسيدوك الواسطي لنفسه:
هات اسقنيها كلمح البرق ما مزجت ... إلا لتسيير سقلاطونها فينا
إذا لواعب آذريونها عبثت ... بجلنار سناها هز نسرينا
أدير في الكأس ذر الشمس إذ رقصت ... والماء نغرف من نار كماشينا
وأنشدني لنفسه من أبيات:
ما أكثر الشعراء مذ قتل الندى ... والشعر أعوز من دموع الأرقم
وأنشدني لنفسه قصيدة يمدح بها أبا الحسن عمران بن شاهين، أمير البطيحة وفيها ذكر الهدري الذي يقاتل به، هو وأصحابه، وهو شبيه الحراب، يقول:
تسبي النفوس حراب ما أدرت بها ... كأس المنية إلا رحت ذا طرب
تظل من فضة حتى إذا وردت ... أصدرتها من دم الأبطال من ذهب
من كل مقلية الجنبين ماضية ... قدت من الشمس أو قدت من اللهب
من شعر أبي إسحاق الصابيأنشدني أبو الحسن محمد بن غسان بن عبد الجبار، قال: أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن هليل الصابي الكاتب لنفسه:
تورد دمعي فاستوى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فوالله ما أدري أبا لخمر أسلبت ... جفوني أم من دمع عيني أشرب
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
ما زلت في سكري ألمع كفها ... وذراعها بالقرص والآثار
حتى تركت أديمها وكأنما ... غرس البنفسج منه في الجمار
قال: وأنشدني لنفسه:
فديت من سارقني لحظها ... من خيفة الناس بتسليمته
لما رأت بدر الدجى زاهياً ... وغاظها ذلك من شيمته
سلت له البرقع عن وجهها ... فردت البدر إلى قيمته " 92 "
وأنشدني، قال: قرأت على ظهر دفتر:
كنا نزوركم والدار دانية ... في كل وقت فلما شطت الدار
صرنا نقدر وقتاً في زيارتكم ... وليس للشوق في الأحشاء مقدار
الحسن بن عون الموسوسحدثني أبو الحسن محمد بن غسان الطبيب، قال: كان عندنا بالبصرة في البيمارستان، رجلٌ موسوس، يعرف بالحسن ابن عون، من أولاد الكتاب، حبس في البيمارستان للعلاج، في سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة.
وطال حبسه سنين، ثم صلح، فاستخدم في البيمارستان، إلى أن تكامل صلاحه.
وكنت أختلف إلى البيمارستان، لتعلم الطب، فكنت أشاهده كثيراً، فأول يوم علمت أنه يقول الشعر، سمعته وهو يقول:
أدافع همي بالتعلل والصبر ... وأمنع نفسي بالحديث عن الفكر
وأرجو غداً حتى إذا ما غدٌ أتى ... تزايد بي همي فأسلمني صبري
فلا الهم يغنيني ولا العمر ينقضي ... ولا فرج يأتي سوى أدمع تجري
إلى الله أشكو ما أقاسي فإنه ... عليم بأني قد تحيرت في أمري
وعرفت حاله في أدبه، بإنشاده إياي كل يوم قطعة من شعره، يعملها بحضرتي.
وشاهد عمل الجلنجبين بالورد في البيمارستان، فقال: وأنشدنيه لنفسه:
أنظر إلى الورد في أكفهم ... يطبع للقاطفين من ورقه
كالقلب نار الهوى تحرقه ... والقلب يهوى الهوى على حرقه
وحملت إليه شيئاً من المأكول، اشتهاه عليّ، فكتب إلى جانب حائط:
حصرت من ظرف ما بعثت به ... وقلت: يا سيدي ومولاي
لو أن أعضاء شاكرٍ نطقت ... بالشكر أثنت عليك أعضاي
ما نفت للكرام كلهم ... ويا صباحي كمثل ممساي
لو أن ما بي ببعض أعداي ... بكيت مما أرى بأعداي
حكاية ديوثحدثنا القاضي أبو القاسم عمر بن حسان بن الحسين:

أنه بلغه عن رجل قليل الغيرة، رديء الدين، كان يجمع بين زوجته، وبين أهل الفساد في منزله.
قال: عشق امرأته، رجلٌ، وكان ينفق عليها في منزله، وأحلفها بحضرته " 93 " ، أنها لا تطاوع زوجها على الجماع.
قال: وكانا ليلة على شأنهما، في أسفل الدار التي للزوج، فصعدت المرأة إلى السطح هناك، واحتبست، فلما جاءت، خاصمها العشيق، وقال: لعله فعل بك زوجك كذا.
فقالت: وحلفت، أنه ما جرى من ذلك شيء.
وسمع الزوج الكلام، فقام يصلي في السطح، ويصيح: الله أكبر، ليسمع العشيق، ويعلمه، أنه لم يكن ليصلي، وهو جنب، حتى يصلح بينه وبين المرأة، بذلك.
حجاب شديدوهذا ضد ما حدثني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن البهلول التنوخي : أن امرأة من أهلهم بالأنبار، كانت قد جاوزت الأربعين سنة، وخرجت من بيتها إلى بغداد، في محنة عرضت لها، فلما حصلت في الطريق رأت جملاً يدير دولاباً.
فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: دولاب الجمل.
فحلفت بالله، أنها ما رأت جملاً قط.
كتاب المافروخي عامل البصرةحدثنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن طريف، المعروف بأحمد الطويل، قال: كتب إليّ أبو محمد عبد العزيز المافروخي، وأنا أتقلد حصن مهدي، والفرض، والأعمال التي كنت أتقلدها مع ذلك، وهو يتقلد البصرة، يسألني إطلاق تمر له، اجتاز عليّ، ويعرض بأن مكافأة ذلك، لا تذهب عليه.
فأطلقت له التمر، بلا ضريبة، ولا مؤونة، وكتبت إليه أعاتبه على هذه اللفظة.
فكتب إليّ كتاباً، يعتذر، حفظت منه قوله: وصل كتابك الذي أبان الله به فضلك، وسهل إلى سبل المكارم سبقك، وفهمته فهم معجب به، ومتعجب منه، وسرني صدوره، لا لقدر الحاجة في نفسي، ولا في نفسك، ولكن لما أنفذه من بصيرتي فيك، وقواه من معرفتي بك.
ووجدتك، وقد اضطربت من لفظة ذكرت أني ضمنتها كتابي، وهي الإلماح والتلويح، بالمكافأة والتعويض.
ومعاذ الله أن ينطلق بذلك لساني، أو تجري به يدي، لأن مثله لا يجري إلا عن ذي عطن ضيق، إلى ذي باع في المحامد قصير، ولا هذه صورتك، ولا صورتي.
وإذا كانت " 94 " الأنفس واحدة، والأموال مشتركة، فأي فائدة لي في أن أتناولك ببعض مالك، أو أرد إليك ما هو لك.
فإن تكن الصورة كما يخيل لي، فأنت أيدك الله، المليم دوني، وإن كنت - بحمد الله ومنه - من كل ما يقع عليه اللوم بعيداً.
وإن تكن الأخرى، وهبت زلتي لمعذرتي، فإني بشر غير معصوم، والخطأ والنسيان جاريان عليّ.
للوزير المهلبي
في كلة قصب حركتها الريحأنشدني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان الكاتب الشيرازي، قال: أنشدنا أبو محمد المهلبي في وزارته، وعمله بين أيدينا، وقد نصبت له في داره بالأهواز كلة قصب، وحركتها الريح.
فاستحسن ذلك، وقال:
رأيت مر الهوا عليها ... ..............
فشمت منها اختلاس لحظ ... وخلت فيها وجيب قلب
زور مناماً فجاء مطابقاً للحقيقة
وحدثني أبو الفضل، قال: حدثني رجل من شيوخ المتصرفين ببلدنا، يقال له: عباد بن الحريش، قال: لما كتب علي بن المرزبان، عم أبيك، لعمرو بن الليث، ورقت حاله عنده، حتى قلده عمالة شيراز، صادر المتصرفين على أموال ألزمهم إياها، وكنت ممن أخذ خطه عن العمل الذي كان يليه بثمانين ألف درهم.
قال: فأديت منها أربعين ألف درهم، ونفذت حيلتي وحالي، ولم يبق لي في الدنيا إلا داري التي أسكنها، ولا قدر لثمنها، فيما بقي عليّ، فلم أدر ما أعمل.
وفكرت فوجدت علي بن المرزبان، رجلاً سليم الصدر، فعملت رؤيا، وأجمعت رأيي على أن ألقاه بها، وأجعلها سبباً لشكوى حالي، والتوصل إلى الخلاص.
قال: فجلست، وعملت الرؤيا، وحفظتها، واختلت خمسين درهماً، وبكرت من الغد، قبل طلوع الفجر، فدققت بابه.
فصاح بي خادم كان له يجري مجرى حاجب، من خلف الباب: من أنت؟ قلت: عباد بن الحريش.
قال: في هذا الوقت؟ قلت: نعم.
ففتح لي، فدخلت، وشكوت حالي، وقلت: هذه خمسون درهماً، لا أملك غيرها، فخذها، وأدخلني إليه قبل تكاثر الناس عليه، فإن فرج الله عني، فعلت بك وصنعت.
قال: فدخل، واستأذن لي، وتلطف حتى أدخلني إليه، وهو يستاك.
فقال: ما جاء بك في هذا الوقت؟ فدعوت له " 95 " ، وقلت: بشارة رأيتها في النوم البارحة.
فقال: وما هي؟

فقلت: رأيتك كأنك تجيء إلى شيراز، من حضرة الأمير، وتحتك فرس أشهب عظيم، لم يرقط أحسن منه، وعليك السواد، وقلنسوة الأمير على رأسك، وفي يدك خاتمه، وحواليك مائة ألف إنسان من فارسٍ وراجلٍ، وقد تلقاك أمير البلد، فترجل لك، وأنت تجتاز، وطريقك كله أخضر منور مزهر، والناس يقولون: إن الأمير قد استخلفه على جميع أمره.
قال: وقصصت الرؤيا، وهذا معناها.
فقال: خيراً رأيت، وخيراً يكون إن شاء الله، فما تريد؟ قال: فشكوت حالي، وذكرت أمري.
فقال: أنظر لك بعشرين ألف درهم، وتؤدي عشرين ألف درهم.
قال: فحلفت بالطلاق، أنه لم يبق لي إلا مسكني، وبكيت، وقبلت يده، واضطربت بحضرته، فرحمني، وكتب لي إلى الديوان، بإسقاط ذلك عني، وانصرفت.
ولم تمض، إلا شهور، حتى كتب عمرو بن الليث، إلى علي بن المرزبان، يستدعيه، ويأمره بحمل ما اجتمع له من الأموال، وكان قد جمع له، ما لم يسمع قط باجتماع مثله في وقت واحد، من أموال فارس، فإنه جمع له ستين ألف ألف درهم.
قال: فحملها إلى سابور، وخرج، وتلقاه عمرو بن الليث، بجميع قواده، وأهل عسكره.
وهاله عظم ذلك المال، فاستخلفه على فارس، وأعمالها، حرباً وخراجاً، وفوض إليه الأمور كلها، وأذن إليه في الحل والعقد بغير استئمار، وخلع عليه سواداً له، وحمله على فرس أشهب عظيم الخلقة، كان يعظمه عمرو، ويكثر ركوبه، ودفع إليه خاتمه، ورده إلى فارس.
قال: فوافاها في زمن الربيع، ولم يحل الحول على قصتي معه.
فخرج أمير البلد - وقد صار من قبله - ليستقبله، وخرج الناس، فتلقوه على ثلاثين فرسخاً، وأكثر، وخرجت فتلقيته على العطفة التي في طريق خراسان، وبينها وبين البلد، نصف فرسخ.
قال: فوافى وهو على الصفة التي ذكرتها له في المنام الموضوع، والدنيا على الحقيقة خضراء بآثار الربيع وزهره، وحوله أكثر من مائة ألف إنسان " 96 " ، وعليه قلنسوة عمرو بن الليث، وفي يده خاتمه، وعليه السواد، وتحته الفرس الأشهب، وقد تلقاه أمير البلد، فترجل له.
قال: فحين رأيته، ترجلت، ودعوت له، فلما رآني تبسم، وأخذ بيدي، وأحفى السؤال بي، ثم تفرق الجيش بين يديه، فلحقته إلى البلد، فلم أستطع القرب منه، لازدحام الدواب، فانصرفت.
وباكرته من غدٍ، في مثل ذلك الوقت، الذي جئته ليلة الرؤيا.
فقال لي الحاجب: من أنت؟ فقلت: عباد.
فقال: ادخل، واستأذن.
فدخلت وهو يستاك، فضحك إلي، وقال: قد صحت رؤياك يا عباد.
فقلت: الحمد لله.
فقال: لا تبرح من الدار، حتى أنظر في أمرك.
قال: وكان بأهله باراً، ورسمه إذا ولي عملاً، أن لا ينظر في شيء من أمر نفسه، حتى ينظر في أمر أهله، فيصرف من يصلح منهم للتصرف، أو يبره، وإذا فرغ منهم، عدل إلى الأخص، فالأخص، من حاشيته، فإذا فرغ من ذلك، نظر في أمر نفسه.
قال: فجلست في الدار إلى قرب العصر، وهو ينظر في أمر أهله، والتوقيعات تخرج، بالصلات، والأرزاق، وكتب التقليدات، إلى أن صاح الحاجب: عباد بن الحريش، فقمت إليه.
فقال: إني ما نظرت في أمر أحد، غير أمر أهلي، فلما فرغت منهم، بدأت بك قبل الناس كلهم، فاحتكم، ما تريد؟ فقلت: ترد علي المال الذي أديته، وتقلدني العمل الذي صرفتني عنه.
قال: فوقع لي برد المال، وتقليد العمل، وقال: امض، فقد أوغرت لك العمل، فخذ ارتفاعه كله.
قال: وكان يستدعيني في كل مديدة، ويحاسبني، ولا يأخذ مني شيئاً، وإنما يكتب لي روزات من مال العمل، ويصلح حسبانات، ويقبلها، ويخلدها الديوان، وأرجع إلى العمل.
وكنت كذلك إلى أن زالت أيامه، فرجعت إلى شيراز، وقد اجتمع لي مال عظيم، صودرت منه على شيء يسير، وجلست في بيتي " 97 " ، وعقدت نعمة بالمال، ولم أطلب تصرفاً إلى الآن.
من مكارم البرامكةحدثني أبو الفضل، قال: حدثني أبو الحسن، ثابت بن سنان الحراني الطبيب : أنه رأى رقعة يتواردونها، بخط جبريل بن بختيشوع المتطبب، فيها ثبت ما وصل إليه، من يحيى بن خالد البرمكي، وبنيه، وجواريه، وأولاده، من ضيعة، وعقار، ومال، وغير ذلك، يحتوي على سبعين ألف ألف درهم، وتفصيل ذلك، شيئاً شيئاً، وأنهم يحفظونها للعجب والاعتبار.
قال: فاستهولت ذلك، وانصرفت، فحدثت بذلك، بعض الرؤساء ببغداد، وكان بحضرته أبو الحسن علي بن هارون المنجم، فقال: وأي شيء تتعجب من هذا؟

حدثني أبي، عن أبيه، قال: كنت بحضرة المتوكل، في يوم مهرجان، أو نيروز، وهو جالس، والهدايا تحمل إليه، من كل شيء عظيم، ظريف مليح، إلى أن ضربت دبادب الظهر، وهم بالقيام، فدخل بختيشوع الطبيب، وهو ابن جبريل بن بختيشوع الأكبر، فحين رآه المتوكل استدناه جيداً، حتى صار مع سريره، وأخذ يمازحه، ويلاعبه، ويقول: أين هدية اليوم؟ فقال له بختيشوع: يا أمير المؤمنين، أنا رجل نصراني، لا أعرف هذا اليوم، فأهدي فيه.
فقال: دع هذا عنك، ما تأخرت إلى الآن، إلا أنك أردت أن تكون هديتك خير الهدايا، فيرى فضلها على الهدايا.
فقال: ما فكرت في هذا، ولا حملت شيئاً.
فقال له: بحياتي عليك.
فضرب بيده إلى كمه، فأخرج منه، مثل الدواة، معمولاً من عود هندي، لم ير قط مثله، كالأبنوس سواداً، وعليه حلية ذهب محرق، لم ير قط أحسن منها عملاً، ولا من الدواة.
قال: فقدر المتوكل، أن الهدية هي الدواة، فاستحسنها.
فقال: لا تعجل يا مولاي، حتى ترى ما فيها.
ففتحها، وأخرج من داخلها، ملعقة كبيرة محرقة، من ياقوت أحمر.
قال: فخطفت أبصارنا، ودهشنا، وتحيرنا.
فبهت المتوكل، وأبلس، وسكت ساعة متعجباً، مفكراً، ثم قال: يا بختيشوع، والله، ما رأيت لنفسي، ولا في خزانتي، ولا في خزائن آبائي، ولا سمعت، ولا بلغني أنه كان للملوك من بني أمية، ولا لملوك العجم مثلها، فمن أين لك هذه؟ " 98 " .
فقال: الناس لا يطالبون بمثل هذا، وقد أهديت إليك، ما قد اعترفت بأنك لم تر، ولم تسمع، بمثله حسناً، فليس لم مسألتي عن غيره.
قال: بحياتي أخبرني.
فامتنع، إلى أن كرر عليه إحلافه بحياته، دفعات، وهو يمتنع.
فقال: ويحك، أحلفك بحياتي، دفعات، أن تحدثني حديثاً، فتمتنع، وقد بذلت لي ما هو أجل من كل شيء.
قال: فقال له: نعم يا مولاي، كنت حدثاً، أصحب أبي جبريل ابن بختيشوع إلى دور البرامكة، وهو إذا ذاك طبيبهم، لا يعرفون خدمة طبيب غيره، ولا يثقون برأي غيره، ويدخل إلى حرمهم، ولا يستتر أكثرهم عنه.
قال: فصحبته يوماً، وقد دخل إلى يحيى بن خالد، فلما خرج من عنده، عدل به الخادم، إلى حجرة دنانير جاريته، فدخلت معه، وأفضينا إلى ستارة منصوبة، في صدر مجلس عظيم، وخلفها الجارية، فشكت إليه شيئاً وجدته، فأشار عليها بالفصد، وكان لا يفصد بيده، وإنما يحمل معه من يفصد من تلامذته، ورسم الفصد عليهم خمسمائة دينار.
قال: فندبني ذلك اليوم للفصد، وأخرجت يدها من وراء الستارة، ففصدتها، وحملت إليّ في الحال خمسمائة دينار عيناً، وأخذتها، وجلس أبي إلى أن يحمل إليها شراب تشربه بحضرته، ورمانٌ أشار عليها باستعماله.
قال: فحمل ذلك في صينية عظيمة مغطاة، وتناولت منه ما أرادت، وخرج الظرف مكشوفاً، فرآه أبي، فقال للخادم: قدمه إليّ، فقدمه إليه، فكان في جملته جامة فيها رمان، وفيها هذه الملعقة، فحين رآها أبي قال: والله ما رأيت مثل هذه الملعقة، ولا الجامة.
قال: فقالت له دنانير: بحياتي عليك، يا جبريل، خذها.
قال: ففعل، وقام ينصرف.فقالت له: تمضي، ففي أي شيء تدع هذه الملعقة؟ قال: لا أدري.
قالت: أهدي إليك غلافها.
فقال: إن تفضلت.
فقالت: هاتم تلك الدواة.
فجاءوا بهذه الدواة، فوضع أبي فيها الملعقة، وحملها، والجامة في كمه، وانصرفنا.
فقال له المتوكل: جامة تكون هذه ملعقتها، يجب أن تكون عظيمة القدر، فبحياتي، ما كان من أمر الجامة؟ فاضطرب " 99 " ، وامتنع امتناعاً عظيماً، إلى أن أحلفه مراراً بحياته.
فقال: أعلم، إذا قلت أي شيء كانت، طالبتني بها، فدعني أمضي، وأجيء بها، وأتخلص منك دفعة واحدة.
فقال: افعل.
قال: ومضى، فلم يهن المتوكل الجلوس، ولم يأخذه القرار، حتى جاء بختيشوع، وأخرج من كمه جامة، على قدر الزبدية، أو الجامة اللطيفة، من ياقوت أصفر، فوضعها بين يديه.
يوسف بن وجيه صاحب عمانوحدثني أبو الفضل، قال: كنت مقيماً بسيراف، أتصرف، واجتاز بها يوسف بن وجيه، يريد البصرة، ومحاربة البريدي، وضامنها - إذ ذاك - ابن مكتوم الشرازي، وهو مدبرها حرباً وخراجاً من قبل الأمير علي بن بويه، فتلقاه، وخدمه خدمة ارتضاها، ونزل بظاهر البلد، فحمل إليه ابن مكتوم، كل شيء من الألطاف والهدايا.

قال: فقال له يوماً: والله، ما وردت هذا البلد، إلا وفي نفسي الاجتراء عليه، وتخليف جيش به، ثم الخروج إلى البصرة، ولقد كاتبني جميع وجوه البلد في ذلك، وأشاروا علي بهذا، ولكني قد استحيت منك أن أفعل، فإنك بدأتني بالخدمة، وأنا في أطراف عملي، وليس بكثير أن أهب لك هذا البلد.
قال: وقد كان بلغنا أن أهل البلد كاتبوه بذلك، ولم نتحقق هذا، ولما قرب، أشار أهل البلد، على ابن مكتوم، بالانصراف، وأن لا يحضر، وخوفوه أن يقبض عليه، وأرادوا بذلك أن يتم التدبير لهم، في تملك يوسف ابن وجيه البلد.
فلم يجسر ابن مكتوم على ذلك، وقال: لأن يقبض عليّ، وليس لي إليه ذنب يقتلني به، أحب إليّ من أن أصير لنفسي ذنباً عند علي بن بويه، فيقتلني به، فإنه يظن أني واطأت على خروج البلد من يده لأكسر مال الضمان، ويقول لي: كان يجب الصبر، إلى أن يدخل، فيقبض عليك، أو تجيئني بعد واقعة يخدش فيها رجلٌ، ولم يبرح، وأخلد إلى خدمته الخدمة العظيمة، فنفعه ذلك، وتخلص.
قال: فلما كشف له يوسف، ما كان في نفسه، دعا له، وشكره، وتذلل.
فقال له يوسف: وقد كنت عملت أن لا أشرب، إلى أن أفتح هذا البلد الذي أقصده، ولكن قد اشتقت إلى الشرب، شهوة لأن أشرب " 100 " معك، لما رأيته من ظرفك وفتوتك، فتعود العشية إلى الشراب، ومعك من تأنس به من أصحابك.
قال: فانصرف، واختار جماعة من وجوه البلد، ووجوه المتصرفين، كنت واحداً منهم.
وجاءنا رسول يوسف بعد الظهر، فركب، ونحن معه، حتى أوصلنا إلى حضرته، فأجلسنا في فازة بهنسي لم أر قبلها مثلها حسناً، في صدرها سدة أبنوس مضببة بالذهب، ومساميرها ذهب، وعليها دست ديباج فاخر جداً، وبين يديها بساط جهرمي فوقه حصير واسع، كبير، عظيم، طبراني، ومخاد، وصدر منه.
وخرج يوسف، فجلس، وجلسنا معه، وأحضرت مائدة فضة بزرافين، تسع عشرين نفساً، فجلسنا عليها، ونقل علينا من الطعام، ما لم أر مثله حسناً، في أواني كلها صيني.
قال: وتأملت، فإذا خلف كل واحد منا، غلام صغير، مليح، قائم بشرابي ذهب، وكوز بلور فيه ماء، فأكلنا.
فلما تم أكلنا، نهض يوسف، فخرج من وراء الفازة، إلى موضع، وجاءنا فراشون بعددنا، بطساس وأباريق فضة، ومجامع فضة، فغسلنا أيدينا دفعة واحدة.
ومضى أولئك الغلمان الأصاغر، وجاء غيرهم بعددنا، ومعهم المرايا المحلاة الثقيلة، والمضارب البلور، والمداخن المحلاة الحسنة، فتبخرنا دفعة واحدة.
وتركنا ساعة في موضعنا، ثم استدعينا، فأدخلنا إلى فازة ألطف من تلك، ديباج، وفيها سدة صندل محلاة بفضة، فيها دست ديباج، وحصر طبرية، مثل تلك الحصر، وفيها نحو ثلاثين مطاولة، مسبكة، ذهب كلها، عليها تماثيل العنبر، على هيأة الأتراج والبطيخ، والدستنبو، وغير ذلك.
قال: فدهشنا، وتحيرنا، وإذا في أربع جوانب تلك المطاولات، أربع أجاجين بيض، كبار، عظام، كل واحدة كالقدس الكبير، والجميع مملوءة ماء ورد، وفيه أمر عظيم من تماثيل الكافور، وغلمان قيام بعددنا، يروحون، وغلمان أخر بعددنا، بأيديهم مناديل الشراب، وبين يدي كل واحد، صينية ذهب، ومغسل، ومركن ذهب " 101 " ، وخرداذي بلور، وقدح بلور، وكوز بلور، والجميع فارغ.
قال: فأمر يوسف، بإخراج الأنبذة، في مدافات بلور، تسمى بالفارسية: جاشنكير، فأخرجت عدة أنبذة من العنب، مما يعمل في جبل عمان، لم نظن أنه يكون في تلك النواحي بحسنها وطيبها.
فاختار ابن مكتوم، نبيذاً منها، فملئت الظروف منه، وقام على رأس كل واحد منا، غلام يسقيه، ويتفقد نقله، ويتفرد بخدمته، إلى أن شربنا أقداحاً.
ثم أجرى يوسف، حديث علي بن بويه، فقال لابن مكتوم، وقد خرج من حديث إلى حديث: أحب أن تخبرني عن أخي أبي الحسن علي بن بويه، أي شيء اعتقد في إمارته هذه؟ قال: إن له ألفي غلام أتراك، وأربعة آلاف بغل، وألفي جمل.
قال: وأخذ يكثر عليه من هذا.
فقال له: ويحك، هؤلاء عيال، وسبب خرج، لم أسأل عن هذا، إنما سألت أي شيء أدخر، مما يتنافس فيه الملوك.
قال: فقال له: وصل من الكنوز العتيقة، والأموال التي استخرجها إلى تسعين ألف ألف درهم.
قال: فقال: ولا هذا أردت، إنما أردت الذخائر والجواهر، وما يخف، وما يحمله الملوك معهم، محملاً لطيفاً، إذا حزبهم أمر.
قال: فقال ابن مكتوم: لا أعلم، إلا أني سمعت، أن الجبل الذي كان للمقتدر، قد وصل إليه.

فقال: وما الجبل؟ قال: فص ياقوت أحمر، فيه خمسة مثاقيل، إلا أني ابتعت له جوهرتين، بمائة وعشرين ألف درهم.
فقال: قد أنست بك، واقتضى أن أريك، ما صحبني في هذه السفرة، من هذا الجنس، إن نشطت لذلك.
قال: فشكره، ودعا له، وقال: إي والله، أنشط لذلك، وأتشرف به.
قال: فدعا بغلام، وقال: امض، فهات الربعة الفلانية.
قال: فجاءه بربعة كبيرة.
قال: وكانت بين يديه خرائط خراسانية، مطروحة في المجلس، فاستخرج من واحدة منهن، مفتاح ذهب، وتأمل أولاً، ختم الربعة، ثم فتحها بالمفتاح، وأخرج إلينا قضيباً عليه خواتيم، نحو خمسمائة خاتم، يواقيت، وفيروزج، وعقيق، لم نر مثله، فأرانا إياه، وقال: " 102 " ليس هذا بشيء، فدعوه.
قال: فتركناه، ثم أخرج إلينا عقداً، فيه ثلاث وتسعون حبة جوهر، كل واحد منها، على قدر بيض الحية والعصفور، فدهشنا من عظمها.
فقال: إن هذا العقد، في خزانة خالي أحمد بن هلال وخزانتي من بعده، منذ كذا وكذا سنة، والجوهر إلينا يصل أولاً، ثم يتفرق من عندنا إلى البلاد، ونحن مجتهدون، في أن نجد سبع حبات تشابه هذا، فيحصل في العقد مائة حبة، فما نقدر على ذلك، منذ كذا وكذا سنة.
قال: ثم أخرج إلينا فصاً من الماس، فلبسه في الحال، وأدناه من فص عقيق كان في يد ابن مكتوم، فجذبه كما يجذب المغناطيس الحديد، حتى تكسر فص ابن مكتوم.
قال: ثم استخرج منديلاً لطيفاً، فحله، وأخرج قطناً، ففرقه بيده، واستخرج منه شيئاً خطف أبصارنا، وأضاء المجلس له، حتى دهشنا، وسلمه إلى ابن مكتوم، وقال: تأمله.
قال: فتأملناه، فإذا هو ياقوت أحمر، على كبر الكف، وقدها من الطول والعرض.
قال: فدهشنا.
فقال يوسف بن وجيه: أي هذا، يا ابن مكتوم، من الذي وصفته؟ قال: فانكسر ابن مكتوم.
وما زلنا نقلب تلك الكف، ونشرب عليها ساعة.
قال: ثم أخرج إلينا من الربعة، حشائش، ذكر أنها سموم قاتلة في الحال، وحشائش، ذكر أنها تبرئ من تلك السموم في الحال.
قال: وأخرج أشياء، هائلة، طريفة، لم يعلق بحفظي منها، إلا ما ذكرته، لدهشتي بما رأيت.
قال: فلما جاء المساء، جاءنا بشموع عنبر، فوضعت تتقد.
قال: وشربنا إلى نصف الليل، وانصرفنا.
وشخص يوسف إلى البصرة، وحاربه البريدي، فهزمه، وأفلت مركب، وأحرقت باقي مراكبه، فلم يحب الاجتياز بسيراف، فتوه في البحر، وسلك وسطه، يريد عمان.
قال: وبلغنا الخبر، وأنفذ ابن مكتوم، صاحباً له، إلى عمان، يتوجع له، ويتعرف خبره، وكاتبه على يده.
قال: فدخل صاحبنا إلى عمان، قبله بأيام، ثم وردها يوسف، فلما وقف على الكتب تذكر عهد ابن مكتوم، وذكره بالجميل، ووهب لصاحبه خمسة آلاف درهم، وأنفذ إلى ابن مكتوم هدية قيمتها مائة ألف درهم " 103 " تجتمع على طرائف البحار، وأنفذ إلى كل واحد من الجماعة الذين كانوا حضوراً دعوته مع ابن مكتوم، عدة أثواب من صنوف الثياب، وأفخرها، وأحسنها، وكنت ممن وصل إليه ذلك.
وصيف كامه يحسن إلى أهل قمحدثني أبو الفضل، قال: حدثنا شيخ كان لنا بفارس، من أهل قم، قال: ورد إلينا وصيف كامه، أمير على بلدنا، فتلقيناه، فرأيناه من فضله، وعقله، وجلالة قدره، كل عظيم.
قال: فأقبل علينا بخطاب جميل، ووعدنا، ومنانا، وعرفنا رأي السلطان في العدل والإحسان، ثم أقبل يسأل عن أمور بلدنا، مسألة عالم به، ويسأل عن شيوخه، إلى أن انتهى في السؤال، إلى رجل، لم يكن جليلاً، ولا مشهوراً، ولا عرفه منا إلا واحد كان في المجلس.
قال: فأقبل يعظم من أمره، ويسأل عن معيشته، وأولاده.
قال: فاسترقعناه.
قال: ثم قال لنا: أحضروني إياه إحضاراً جميلاً، فإني أكره أن أنفذ إليه من يستدعيه، فأروعه.
قال: فأحضرناه، فحين وقعت عينه عليه، قام إليه قياماً تاماً، وأجلسه في الدست معه.
قال: فسقط من أعيننا، وقلنا جاهل لا محالة.
قال: ثم أقبلعليه، يسأله، عن زوجته، وبناته، وبنيه، والشيخ يجيب جواب ضجر، باهت، معظم لما عمله.
فقال له: أحسبك قد نسيتني؟ وأنكرت معرفتي.
فقال: كيف أنكر الأمير - أيده الله - مع عظمه وجلالته؟ فقال له: دع هذا، أتعرفني جيداً؟ قال: لا.
قال: أنا مملوك وصيف.

ثم أقبل علينا فقال: يا مشايخ قم، أنا رجل من الديلم، كنت سبيت في وقت كذا وكذا، في الغزاة التي غزاهم فيها فلان الأمير، وكان سني إذ ذاك عشر سنين أو نحوها.
فحملت إلى قزوين، فاتفق أن هذا الشيخ كان بها، فاشتراني، وحملني إلى قم، وأسلمني مع ابنه في الكتاب، وأجراني مجراه، في حسن التربية، وفعل بي وصنع، وجعل يعدد له ما يذكره، وأنه أحسن ملكته، حتى إنه ما تأذى منه قط، ولا ضربوه، ولا شتموه، وإنهم كانوا يكسونه، كما يكسون ابنهم، ويطعمونه كما يطعمونه.
ولم أزل معهم في أحسن عشرة، إلى أن بلغت، وكانوا يهبون لي الدراهم لشهواتي " 104 " ، ويعطوني أكثر مما أحتاج إليه.
وكنت - مذ كنت صبياً - كلما وقع بيدي شيء، جمعته عند بقال في المحلة، يعرف بفلان.
قال: ثم سأل عنه، فقيل: هو باقٍ.
فلما بلغت واشتددت، طلبت السلاح، وعملت به، ومولاي - مع هذا - يشتري لي كل ما أريده، ويمكنني من شهواتي، ويحسن إليّ، ولا يعترض في شيء أريده علي.
قال: واتفق، أن بعض الجند رآني، فقال: هل لك في أن تخرج معي إلى خراسان، فأركبك الدواب، وأفعل بك، وأصنع.
فقلت: أصحبك، على شرط أن لا أكون مملوك، ولا تتملكني، ولكن أشتري لنفسي دابة، وسلاحاً، وأتبعك غلاماً لك، مالكاً لنفسي، فمتى رأيت منك ما أكره، فارقتك، ولم يكن لك الاعتراض عليّ.
فقال: افعل.
قال: فجئت إلى البقال، فحاسبته، وكان قد اجتمع لي عنده شيء كثير، فأخذته، واشتريت منه دابة وسلاحاً، وأخذت اليك، ومعي دراهم، وصحبت الجندي، وأبقت من مولاي هذا.
ومضيت إلى خراسان بأسرها، وتقلبت بي الأمور، وترقت حالي مع الأيام، حتى بلغت هذا المبلغ، وأنا في رق هذا الشيخ، وأنا أسألكم الآن، مسألته أن يبيعني نفسي.
قال: فأكبر الرجل ذلك، وقال: أنا عبد الأمير، والأمير حر لوجه الله، وأتجمل بولائه، وأفتخر أنا وعقبي بذلك.
قال: فقال: يا غلام، هات ثلاث بدر.
وأحضرت، وصب المال، وسلمه إلى الشيخ، ثم استدعى له من الثياب، والدواب، والبغال، والطيب، والآلات، ما تزيد قيمته على قدر المال.
ثم استدعى ابنه، فأحضر، وأكرمه، وتطاول له، ووهب له عشرة آلاف درهم، وثياباً كثيرة، ودواب، وبغالاً.
واستدعى البقال، ووهب له خمسمائة دينار، وثياباً كثيرة.
قال: ثم أنفذ هدايا، إلى بنات الشيخ، وزوجته، وعيال البقال.
قال: ثم قال للشيخ: يا فلان، انبسط في هذا السلطان الذي قد رزقك الله إياه، انبساط من يعلم أن الأمير مولاه، واعلم بأنك لا تحل شيئاً فأعقده، ولا تعقد شيئاً فأحله.
قال: ثم التفت إلينا، وقال: يا مشايخ قم، أنتم سادتي، وشيوخي، وما على الأرض، أهل بلد، أحب إليّ منكم، ولا أوجب حقاً " 105 " منكم، فانبسطوا في حوائجكم، انبساط الشريك الذي لا فرق بيني وبينه، إلا فيما حظرته الديانة، وليس بيني وبينكم فرق، إلا في ثلاث: طاعة السلطان، وصيانة الحرم، ومخالفتكم في الرفض، فإني قد طوفت الآفاق، وسلكت الجبال والبحار، وبلغت أقاصي المشرق والمغرب، فما رأيت على دينكم أحد غيركم، ومحال أن يجتمع الناس كلهم على ضلالة، وتكونوا أنتم من بين أهل الآفاق على حق.
قال: ثم سأل كل واحد منا، عن حوائجه، ونظر إليه فيها بطرف، ونظر للشيخ بضعف ما نظر به لأجلنا.
قال: فخرجنا من عنده، وقد نبل في عيوننا نبلاً شديداً، وانقلبت المواكب إلى باب الشيخ، فأقبل الناس إليه في الحوائج، وإلى ابنه، فصارا رئيسي البلد، ولم يكن وصيف يردهما في شيء يسألانه من قليل ولا كثير، إلى أن خرج عن قم.
وصيف كامه يعين عاملاً على فارس
قال: وحدثني أبو الهذيل، أن وصيفاً لما ولي فارس، أقام بشيراز، وكان يتواضع للناس، تواضعاً شديداً، ويحسن السيرة، ويتحبب إلى العامة جداً، حتى كان يعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم.
قالوا: وما رأينا أميراً أعقل منه، ولقد رأيته يوماً، قد حضر جنازة رجل من السوق، راكباً دابة، وعليه دراعة بيضاء وعمامة، وليس بين يديه، إلا ثلاثة من الشاكرية، فوقف في جملة الناس، يصلي على الرجل.
قال: وكان عندنا حائك، يعرف بفلان، يظهر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال: فرأيته، وقصد أن جاء فوقف إلى جنبه في الصلاة، وزاحمه، حتى وضع مرفقه في صدر وصيف، وزحمه به.

فجاء بعض من كان معه، ينكر ذلك، وينحي الرجل، فنظر إليه نظراً شزراً، جزع معه الغلام، وتنحى، وتركه والحائك.
قال: فرأيته، وقد تجمع في مكانه، ووسع للحائك، حتى أتموا الصلاة.
الوزير يتيم في حجر كل كافبلغني مكن جهة وثقت بها، عن أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، قال: حضرت مجلس أبي القاسم عبيد الله بن سليمان، وأبو زنبور الكاتب، يعذله في إفضائه إلى أبي العباس بن الفرات، وتفويضه الأمور إليه، ويخاطبه بكل عظيم في ذلك.
إلى أن قال له: الناس يقولون، أيها الوزير: إنك يتيم في حجر ابن الفرات.
فقال عبيد الله: أنا يتيم في حجر كل كافٍ.
أبو أحمد الشيرازي والصفراءحدثني بعض إخواني الثقات عندي " 106 " ، قال: حدثني أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب، قال: لما صحبت أبا علي بن مقلة إلى بغداد، واستكتبني، كان يتعمد نفعي بكل شيء، ويوصل إليّ أموالاً جليلة، فلم أكن أحفظها، وكانت كلها تخرج عن يدي، في القيان، والشراب، وأتلفها.
قال: فهويت جارية من القيان صفراء، واشتهر أمري معها، وأتلفت كل كسبي عليها، حتى بلغ أبا علي، وكان يعذلني، ويوبخني، ويمنعني من مفارقة حضرته، وأن أخل بها.
قال: فأفلت يوماً من حضرته، ومضيت إلى بيتي، وقد حصلها غلامي، وأعد لي مجلساً بالفاكهة الكثيرة، والتحايا الظراف، والشراب الفاخر.
قال: فشربت ليلتي معها، وخفت أن أخل بالوزير، فحملتني الشهوة للجلوس مع المغنية، على أن كتبت إلى الوزير رقعة، أعتذر فيها من التأخر، وأقول:: إن الصفراء تحركت عليّ، واضطرب جسمي، فلم أقدر على المجيء، وأباكر الخدمة في غد، وأسأل قبول عذري.
قال: فعاد إليّ الجواب، بخط أبي علي بن مقلة، في أضعاف السطور، بأجل خطاب، وألطف مداعبة.
وقال فيه: يا هذا، ظلمت الصفراء، أنت تحركت على الصفراء، ليس هي تحركت عليك، وقد علمت مغزاك في التأخر، وبحسب ذلك أجبتك، وقد بعثت إليك منديلاً مختوماً فاستعن بما فيه.
قال: ففتحت المنديل، وإذا فيه، رطل ند، وشيء كثير من الكافور، والمسك، ومائتا دينار عيناً.
وأنشدني أبو الحسن علي بن هارون بن المنجم، لنفسه في معنى الصفراء، بيتين ما سمعت أظرف منهما في معناهما، وهما يقاربان قول ابن مقلة، وهما:
قال الطبيب وقد تأمل سحنتي ... هذا الفتى أودت به الصفراء
فعجبت منه إذ أصاب وما درى ... قولاً ومعنى ما أراد خطاء
لا يمكن التجلد على عذاب اللهحدثني بعض البغداديين، قال: ضرب عندنا رجل من أهل العصبية، خمسمائة سوط، في وقت واحد، فلم يتأوه، ولم ينطق.
فلما كان بعد أيام، حم حمى صعبة، وضرب عليه معها رأسه، فأقبل يصيح، كما يصيح البعير، ويقول: العفو، العفو، يكررها.
فلما كان من غد، اجتمع إليه قوم من أهل الحبس، فقالوا: فضحتنا، أنت تضرب بالأمس خمسمائة سوط، فلا تصيح، تحم ساعة من ليلة، فتصيح؟ فقال: عذاب الله عز وجل، أشد العذاب، وما كنت لأتجلد عليه.
الغلط الذي لا يتلافىقال: وأتي " 107 " بعض الولاة، برجلين، أحدهما قد ثبت عليه الزندقة، والآخر قد وجب عليه الحد.
فسلم الوالي الرجلين، إلى بعض أصحابه، وقال: اضرب عنق هذا، - وأومأ إلى الزنديق - واجلد هذا، كذا وكذا.قال: فتسلمهما وخرج.
فوقف المحدود: وقال: أيها الأمير، سلمني إلى غيره، فإن هذا الأمر، لا آمن فيه الغلط، والغلط فيه لا يتلافى.
قال: فضحك منه الأمير، واستطابه، وأمر بإطلاقه، فأطلق، وضربت عنق الزنديق.
المهدي والمتهم بالزندقةقال: وأتي المهدي بن المنصور، برجل قد رمي بالزندقة، فسأله عن ذلك.
فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، رسوله، وأن الإسلام ديني، عليه أحيا، وعليه أموت، وعليه أبعث.
فقال له المهدي:: يا عدو الله، إنما تقول هذا مدافعة عن نفسك، هاتم السياط، فأحضرت، وأمر بضربه، فضرب، وهو يقرره.

فلما أوجعه الضرب، قال له: يا أمير المؤمنين، اتق الله، فقد حكمت عليّ، بخلاف حكم الله تعالى، وخلاف حكم رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا دماءهم، وأموالهم، إلا بحقهما، وحسابهم على الله، وأنت قد جلست تطالبني، وتضربني، حتى أكفر، فتقتلني.
قال: فخجل المهدي، وعلم أنه قد أخطأ.
فأمر بإطلاقه.
شر السلطان يدفع بالساعاتحدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي علان الأهوازي، قال: حدثني جدي أبو القاسم بن أبي علان، وقد جرى حديث السلطان، وأن شره يدفع بالساعات، قال: ورد علينا أبو يوسف البريدي، كاتب السيدة، يطالبني، وأبا يحيى الرامهرمزي، أن نضمن منه ضياع السيدة، وتشدد علينا ونحن ممتنعون.
إلى أن أخلى لنا مجلسه، في يوم خميس، وناظرنا مناظرة طويلة، وشدد علينا أمراً عظيماً، فكدنا معه أن نجيبه، وكان علينا في ذلك ضرر عظيم.
فقلت لأبي يحيى: يجب أن نجتهد في رفع المجلس اليوم، لنتفكر إذا انصرفنا، كيف نعمل.
قال: وكان أبو يوسف محدثاً طيباً.
قال: فجره أبو يحيى، إلى المحادثة، واستلب هو الحديث، وسكت أبو يحيى.
قال: وكانت عادة أبي يوسف، في كلامه، أن يقول كل قطعة من حديثه: أفهمت؟ قال: وكان كلما قال أبو يوسف، لأبي يحيى، أفهمت؟ يقول أبو يحيى: لا، فيعيد الحديث، ويخرج منه إلى حديث آخر.
قال: فلم يزل " 108 " كذلك، حتى حمي النهار، وقربت الشمس من موضعنا.
فرجع أبو يوسف إلى حديث الضمان، ومطالبتنا بالعقد.
فقلت له: إنه قد حمي النهار، وهذا لا يتقرر في ساعة، ولكن نعود غداً، ورفقنا به، فقال: انصرفوا، فانصرفنا، واستدعانا من غد، فكتبنا إليه رقعة، إنه يوم الجمعة، وهو يوم ضيق، ونحتاج إلى الحمام والصلاة، وقل أمر يبتدأ به يوم الجمعة، قبل الصلاة، فيتم، ولكنا نبارك يوم السبت، فاندفع.
واستدعانا يوم السبت، فصرنا إليه، وقد وضعنا في نفوسنا، الإجابة، لما أيسنا من الفرج.
فحين دخولنا إليه، ورد إليه كتاب، فقرأه، وشغل قلبه، وقال: انصرفوا اليوم، فانصرفنا، ورحل بعد ساعة، لأن الكتاب كان يتضمن ذكر صرفه.
فبادر قبل ورود الصارف، وكفينا أمره.
كيفية إغراء العمال بأخذ المرافققال : وورد إلينا، في وقت من الأوقات، بعض العمال، متقلداً للأهواز، من قبل السلطان، وقد أسماه، ونسيه الذي حدثني.
قال: فتتبع رسومنا، ورام نقض شيء منها، وكنت أنا وجماعة من التناء في تلك المطالبة، وكان فيها ذهاب غلاتنا في تلك السنة، لو تم علينا، وذهاب أكثر قيم ضياعنا.
قال: فقالت لي الجماعة: ليس لنا غيرك، تخلو بهذا الرجل، وتبذل له مرفقاً، وتكفينا إياه.
قال: فجئته، وخلوت به، وبذلت له مرفقاً جليلاً، فلم يقبله، ودخلت عليه بالكلام في غير وجه، فما لان، ولا أجاب.
قال: فأيست منه، وكدت أن أقوم خائباً.
قال: فقلت له في عرض الكلام: يا هذا الرجل، أنت مصمم في هذا الأمر على خطأ شديد، لأنك تظلمنا، وتزيل رسومنا، من حيث لا يحمدك السلطان، ولا تنتفع أنت بذلك.
ومع هذا، فأخبرني، هل تأمن أن تكون قد صرفت، وكتاب صرفك، في الطريق، يرد عليك بعد يومين أو ثلاثة، فتكون قد أهلكتنا، وأثمت في أمرنا، وفاتك هذا المرفق الجليل.
ولعلنا نحن نكفى، ويجيء غيرك فلا يطالبنا، أو يطالبنا فنبذل له هذا المرفق، فيقبله، ويكون الضرر، إنما يدخل عليك وحدك.
قال: فحين سمع هذا، اعتقد أن لي ببغداد، من يكاتبني بالأخبار، وأنني قد أحسست باختلال أمره، وأخذ يخاطبني من أين وقع لي أنه قد وقع هذا.
قال: فقويته، وثبته في نفسه، فأجاب إلى أخذ المرفق، وإزالة المطالبة.
فسلمت " 109 " إليه رقاع الصيارف بالمال، وأخذت منه حجة بإزالة المطالبة، وانصرفت، وقد بلغت ما أردت.
قال: فسلمت، فلما كان بعد خمسة أيام، لا تزيد يوماً، ورد عليه الكتاب بالصرف.
قال: فدخلت عليه، فأخذ يشكرني، ويخبرني بما جرى، وبما ورد عليه، فأوهمته أني كنت قد قلت له ذلك، على أصل.
وكفيت تلك المطالبة.
يحتال على القواد الأتراك
بسر من رأى

حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد بن عبد المؤمن، الوكيل على أبواب القضاة بالأهواز، قال: قال لي بعض المدين ببغداد، عن شيخ لهم أيسر، وعظمت حالته، حتى استغنى عن الشحذ، فكان يعلمهم ما يعملون، فسألناه عن سبب نعمته، فقال: كنت تعلمت السريانية، حتى كنت أقرأ كتبهم التي يصلون بها.
ثم لبست زي راهب، وخرجت إلى سر من رأى، وبها قواد الأتراك، فاستأذنت على أحدهم، فأدخلت.
فقلت له: أنا فلان الراهب، صاحب العمر الفلاني، وذكرت عمراً بعيداً بالشام، وأنا راهب فيه منذ ثلاثين سنة.
وكنت نائماً، فرأيت النبي صلى الله وسلم، وكأنه قد دخل إلى عمري، فدعاني إلى الإسلام، فأجبته، فقال لي: امض إلى فلان القائد، حتى يأخذ عليك الإسلام، فإنه من أهل الجنة، فجئت لأسلم على يديك.
قال: ففرح التركي فرحاً عظيماً شديداً، ولم يحسن أن يأخذ عليّ الإسلام، فتعتع في كلامه، وقطعت الزنار وأسلمت بحضرته.
قال: فوصلني ما قيمته خمسة آلاف درهم، من الدراهم، والثياب، وغيرها وعدت إلى منزلي.
فلما كان من غد، بكرت إلى قائد منهم، بزي الرهبان، وقلت له، كما قلت للأول، وأعطاني أكثر من ذلك، حتى طفت على جماعة منهم، فحصل لي من جهتهم أكثر من خمسين ألف درهم.
فلما كان في بعض تلك الأيام، صرت إلى أحدهم، واتفق أنه كانت عنده دعوة، فيها وجوههم، فلما دخلت، وقصصت الرؤيا، وتأملتهم، وإذا في الجماعة واحد ممن كنت لقيته بالرؤيا.
قال: فقامت عليّ القيامة، فلما فرغت من حديث الرؤيا، وأظهرت الإسلام على يد التركي، وأمر لي بالجائزة، وخرجت، أتبعني ذلك القائد بغلامه.
فلما بعدت عن الدار، قبض عليّ " 110 " ، وحملني إلى منزل التركي الأول، فقامت قيامتي، وأحسست بالمكروه، وبذلت للغلام جميع ما كان معي، ليدعني أنصرف، فلم يفعل.
وجاء التركي، وهو منتش، فقال: " يا با، حصلت تسخر بالأتراك واحد واحد، وتأخذ دراهمهم " ؟ قال: فقلقت فزعاً، وقلت: يا سيدي، أنا رجل صفعان، فقير، مكد، وأنا فعلت هذا لآخذ شيئاً.
قال: فقال لي: أظننت أنني أفضحك في بلدك؟ ما كنت بالذي أفعل، وقد جازت السخرية عليّ، حتى تجوز على الجماعة، كما جازت عليّ، ولكن أليس أنت؟ قال: فطايبته، وتصفعت له، فضحك مني، واستدعى بالنبيذ، وشرب، ولاعبته، فاستخف روحي، وحبسني عنده، وخلع علي، وأعطاني دراهم، ودعا جماعة من قواد الأتراك وخرجت عليهم في زي الصفاعنة، فعطعطوا عليّ، وضحكوا.
فحدثهم التركي، بالحديث، فضحكوا.
قال: فأخذت منهم، على تلك الحال، مالاً ثانياً جليلاً، وانصرفت إلى بغداد وابتعت به عقاراً، منه أعيش إلى الآن.
تم الجزو الثامن ويتلوه التاسع والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين " 111 "

الحقوق متاحة لجميع المسلمين


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق